للْمَيت خَاصَّة، قَالَه الْكرْمَانِي وَتَبعهُ بَعضهم على هَذَا. وَفِي (الصِّحَاح) بالحنوط ذريرة، وَهُوَ طيب الْمَيِّت. قلت: الحنوط: عطر مركب من أَنْوَاع الطّيب يَجْعَل على رَأس الْمَيِّت ولحيته ولبقيه جسده إِن تيَسّر،. وَفِي الحَدِيث: (أَن ثمودا لما استيقنوا بِالْعَذَابِ تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بِالصبرِ لِئَلَّا يجيفوا وينتنوا) . وَفِي (الْمُحِيط) : لَا بَأْس بِسَائِر الطّيب فِي الحنوط غير الزَّعْفَرَان والورس فِي حق الرِّجَال، وَلَا بَأْس بهما فِي حق النِّسَاء، فَيدْخل فِيهِ الْمسك، وَأَجَازَهُ أَكثر الْعلمَاء، وَأمر بِهِ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَاسْتَعْملهُ أنس وَابْن عمر وَابْن الْمسيب، وَبِه قَالَ: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَكَرِهَهُ: عَطاء وَالْحسن وَمُجاهد، وَقَالُوا: إِنَّه ميتَة واستعماله فِي الحنوط على الْجَبْهَة والراحتين والركبتين والقدمين. وَفِي (الرَّوْضَة) : وَلَا بَأْس بِجعْل الْمسك فِي الحنوط وَقَالَ النَّخعِيّ: يوضع الحنوط على الْجَبْهَة والراحتين والركبتين والقدمين، وَفِي (الْمُفِيد) : وَإِن لم يفعل فَلَا يضر، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والقرافي: يسْتَحبّ فِي الْمرة الثَّالِثَة شَيْء من الكافور. قَالَا: وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يسْتَحبّ. قلت: نقلهما ذَلِك عَنهُ خطأ.
قَوْله: (ابْنا لسَعِيد) وَاسم الابْن: عبد الرَّحْمَن، روى عَن اللَّيْث عَن نَافِع أَنه رأى عبد الله بن عمر حنط عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن زيد، وَسَعِيد بن زيد هَذَا أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، أسلم قَدِيما وَمَات بالعقيق، وَنقل إِلَى الْمَدِينَة فَدفن بهَا سنة إِحْدَى وَخمسين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا المُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيَّا وَلاَ مَيِّتا
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا فِي أثر ابْن عمر الَّذِي مضى، وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُؤمن لَيْسَ بِنَجس حَيا وَلَا مَيتا) . قَوْله: (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم) أَي: لَا تَقولُوا إِنَّهُم نجس، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن سُفْيَان نَحوه، وَرَوَاهُ الْحَاكِم مَرْفُوعا، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم ابْن عصمَة بن إِبْرَاهِيم الْعدْل حَدثنَا أَبُو مُسلم الْمسيب بن زُهَيْر الْبَغْدَادِيّ حَدثنَا أَبُو بكر وَعُثْمَان ابْنا ابْن أبي شيبَة، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
وقَالَ سَعدٌ لَوْ كانَ نَجِسا مَا مَسِستُهُ
وَجه الْمُطَابقَة مَا ذَكرْنَاهُ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت سعيد بِالْيَاءِ وَالْأول أشهر وَأَصَح، وَهُوَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن الْجَعْد عَن عَائِشَة قَالَت: أُوذِنَ سعد بِجنَازَة سعيد بن زيد وَهُوَ بِالبَقِيعِ فَجَاءَهُ فَغسله وكفنه وحنطه، ثمَّ أَتَى دَاره فصلى عَلَيْهِ، ثمَّ دَعَا بِمَاء فاغتسل، ثمَّ قَالَ: لم أَغْتَسِل من غسله وَلَو كَانَ نجسا مَا غسلته أَو مَا مَسسْته، وَلَكِنِّي أَغْتَسِل من الْحر.
وَفِي هَذَا الْأَثر فَائِدَة حَسَنَة وَهِي: أَن الْعَالم إِذا عمل عملا يخْشَى أَن يلتبس على من رَآهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن يعلمهُمْ بِحَقِيقَة الْأَمر لِئَلَّا يحملوه على غير محمله.
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ
هَذَا طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة ذكره البُخَارِيّ مُسْندًا فِي: بَاب الْجنب يمشي، فِي كتاب الْغسْل: حَدثنَا عَيَّاش، قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى، قَالَ: حَدثنَا حميد عَن أبي رَافع (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: لَقِيَنِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا جنب. .) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ حميع مَا يتَعَلَّق بِهِ مستقصىً.
3521 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سيرِينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ علَيْنَا رسولُ الله حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاثا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ أنْ رَأيْتُنَّ ذالِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كافُورا أوْ شَيْئا مِنْ كافُورٍ فَإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي فلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فأعْطَانا حِقْوَهُ فَقَالَ(8/38)
أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ تَعْنِي إزَارَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون، بنت كَعْب، وَيُقَال: بنت الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة، وَقد شهِدت غسل ابْنة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وحكت ذَلِك فأتقنت، وحديثها أصل فِي غسل الْمَيِّت، ومدار حَدِيثهَا على مُحَمَّد وَحَفْصَة ابْني سِيرِين، حفظت مِنْهَا حَفْصَة مَا لم يحفظ مُحَمَّد، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي أَحَادِيث غسل الْمَيِّت أَعلَى من حَدِيث أم عَطِيَّة، وَعَلِيهِ عول الْأَئِمَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مدنيان، وَأَيوب وَابْن سِيرِين بصريان. وَفِيه: عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: عَن أَيُّوب سَمِعت ابْن سِيرِين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث من أحد عشر طَرِيقا. الأول: أخرجه فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء وَالْغسْل، عَن مُسَدّد وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه غَيره. الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب. الثَّالِث: عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ أَن يغسل وترا. الرَّابِع: عَن عَليّ بن عبد الله فِي: بَاب مَا يبْدَأ بميامن الْمَيِّت. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن أَيُّوب وَابْن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل وَعَن إِسْمَاعِيل بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي كَامِل الجحدري عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن أَحْمد بن جنبل عَن إِسْمَاعِيل بِهِ. الْخَامِس: عَن يحيى بن مُوسَى فِي: بَاب مَوَاضِع الْوضُوء من الْمَيِّت. السَّادِس: عَن عبد الرَّحْمَن بن حَمَّاد فِي: بَاب هَل تكفن الْمَرْأَة فِي إِزَار الرجل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن شُعَيْب بن يُوسُف. السَّابِع: عَن حَامِد بن عمر فِي: بَاب يَجْعَل الكافور فِي آخِرَة. الثَّامِن: عَن أَحْمد عَن ابْن وهب فِي: بَاب ينْقض شعر الْمَرْأَة. التَّاسِع: عَن أَحْمد عَن ابْن وهب أَيْضا فِي: بَاب كَيفَ الْإِشْعَار للْمَيت. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن يحيى بن أَيُّوب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعَن مُسَدّد وَمُحَمّد بن عبيد، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَحَمَّاد بن زيد فرقهما بِهِ، وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن يُوسُف بن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابْن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ بِهِ. الْعَاشِر: عَن قبيصَة عَن سُفْيَان فِي: بَاب هَل يَجْعَل شعر الْمَرْأَة ثَلَاثَة قُرُون. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. الْحَادِي عشر: عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي: بَاب يلقى شعر الْمَرْأَة خلفهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن عَليّ عَن يحيى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حِين توفيت ابْنة) هِيَ زَيْنَب زوج أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَالِدَة أُمَامَة هِيَ الَّتِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحملهَا فِي الصَّلَاة، فَإِذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ حملهَا، وَزَيْنَب أكبر بَنَات رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتزَوج بِزَيْنَب: أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع فَولدت مِنْهُ عليا وأمامة، وَتوفيت زَيْنَب فِي سنة ثَمَان. قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ قَتَادَة عَن ابْن حزم: فِي أول سنة ثَمَان، وَلم يَقع فِي رِوَايَات البُخَارِيّ ابْنَته هَذِه مُسَمَّاة، وَهُوَ مُصَرح بِهِ فِي لفظ مُسلم (عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: لما مَاتَت زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اغسلنها. .) الحَدِيث، هَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ الْأَكْثَر وَذكر بعض أهل السّير أَنَّهَا أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد ذكره أَبُو دَاوُد أَيْضا، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أبي عَن أبي إِسْحَاق حَدثنِي نوح بن حَكِيم الثَّقَفِيّ وَكَانَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ عَن رجل من بني عُرْوَة بن مَسْعُود يُقَال لَهُ دَاوُد، وَقد وَلدته أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ليلى بنت قانف الثقفية، قَالَت: كنت فِيمَن غسل أم كُلْثُوم ابْنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد وفاتها، فَكَانَ أول مَا أَعْطَانَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحقا ثمَّ الدرْع ثمَّ الْخمار ثمَّ الملحفة، ثمَّ أدرجت بعد فِي الثَّوْب الآخر. قَالَت: وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس عِنْد الْبَاب مَعَه(8/39)
كفنها يناولنا ثوبا ثوبا. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِيهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَفِيه من لَيْسَ بِمَشْهُور، وَالصَّحِيح أَن هَذِه الْقِصَّة فِي زَيْنَب، لِأَن أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِب ببدر، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه: ونوح بن حَكِيم رجل مَجْهُول لم تثبت عَدَالَته، وَقد غلطوا الْمُنْذِرِيّ فِي قَوْله: أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِب ببدر، لِأَن الَّتِي توفيت حِينَئِذٍ رقية. فَإِن قلت: حكى ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ الشَّارِح بِأَنَّهُ جزم بِأَن الْبِنْت الْمَذْكُورَة أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان. وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) : بِأَن التِّرْمِذِيّ زعم أَنَّهَا أم كُلْثُوم قلت: أما الدَّاودِيّ فَإِنَّهُ لم يذكر مُسْتَنده، وَأما التِّرْمِذِيّ فَلم يذكر شَيْئا من ذَلِك. فَإِن قلت: ذكر الدولابي من طَرِيق أبي الرِّجَال عَن عمْرَة أَن أم عَطِيَّة كَانَت مِمَّن غسل أم كُلْثُوم بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن تكون الْبِنْت فِي حَدِيث الْبَاب أم كُلْثُوم، لِأَن أم عَطِيَّة كَانَت غاسلة الميتات فَيمكن أَن تكون حضرت لَهما جَمِيعًا.
قَوْله: (ثَلَاثًا أَو خمْسا) وَفِي رِوَايَة هِشَام بن حسان عَن حَفْصَة: (إغسلنها وترا ثَلَاثًا أَو خمْسا) . وَكلمَة: أَو. هُنَا للتنويع، وَالنَّص على الثَّلَاث أَو الْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحبّ، الإيتار، أَلا يُرى أَنه نقلهن من الثَّلَاث إِلَى الْخمس دون الْأَرْبَع، وَقَالَ بَعضهم: أَو، هُنَا للتَّرْتِيب لَا للتَّخْيِير. قلت: لم ينْقل عَن أحد أَن: أَو، تَجِيء للتَّرْتِيب، وَقد ذكر النُّحَاة أَن: أَو، تَأتي لاثني عشر معنى، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على أَنَّهَا تَجِيء للتَّرْتِيب، وَالظَّاهِر أَنه أَخذه من الطَّيِّبِيّ فَإِنَّهُ نقل من الْمظهر شرح المصابيح) : أَن فِيهِ للتَّرْتِيب دون التَّخْيِير، إِذْ لَو حصل الِاكْتِفَاء بالغسلة الأولى اسْتحبَّ التَّثْلِيث، وَكره التجاوز عَنهُ فَإِن حصلت بِالثَّانِيَةِ أَو بالثالثة اسْتحبَّ التخميس، وَإِلَّا فالتسبيع، وَالْمَنْع بَاقٍ فِيهِ. وَفِي الطَّيِّبِيّ فِي نَقله، وَفِي صَاحب الْمظهر شَارِح (المصابيح) . قَوْله: (أَو أَكثر من ذَلِك) أَي: من الْخمس يَنْتَهِي إِلَى السَّبع، كَمَا فِي رِوَايَة أَيُّوب عَن حَفْصَة: ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو سبعا، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات أَكثر من السَّبع إلاَّ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أم عَطِيَّة بِمَعْنى حَدِيث مَالك، زَاد فِي حَدِيث حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة نَحْو هَذَا، وزادت فِيهِ: أَو سبعا أَو أَكثر، من ذَلِك إِن رَأَيْته. وَيُسْتَفَاد من هَذَا اسْتِحْبَاب الإيتار بِالزِّيَادَةِ على السَّبْعَة لِأَن ذَلِك أبلغ فِي التَّنْظِيف، وَكره أَحْمد مُجَاوزَة السَّبع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا قَالَ بمجاوزة السَّبع، وسَاق من طَرِيق قَتَادَة أَن ابْن سِيرِين كَانَ يَأْخُذ الْغسْل عَن أم عَطِيَّة ثَلَاثًا وإلاَّ فخمسا وإلاَّ فسبعا. قَالَ: فَرَأَيْنَا أَن الْأَكْثَر من ذَلِك سبع. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الزِّيَادَة على السَّبع سرف، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي أَن جَسَد الْمَيِّت يسترخي بِالْمَاءِ، فَلَا أحب الزِّيَادَة على ذَلِك. قَوْله: (إِن رأيتن ذَلِك) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: بِكَسْر الْكَاف خطاب لأم عَطِيَّة وَرَأَيْت بِمَعْنى الرَّأْي يَعْنِي أَن احتجتن إِلَى أَكثر من ثَلَاث أَو خمس للانقاء لَا للتشهي فلتفعلن قلت: كسر الْكَاف فِي ذَلِك الثَّانِي لَا فِي الأول، فَإِن بَعضهم نقل ذَلِك عَن الطَّيِّبِيّ. وَلكنه غلط فِيهِ، وَذكره فِي ذَلِك الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا يخفى، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: إِنَّمَا فوض الرَّأْي إلَيْهِنَّ بِالشّرطِ الْمَذْكُور وَهُوَ الإيتار. وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم، قَالَ: يحْتَمل قَوْله: (إِن رأيتن) أَن يرجع إِلَى الْأَعْدَاد الْمَذْكُورَة، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: إِن رأيتن أَن تفعلن ذَلِك وإلاَّ فالاتقاء يَكْفِي. قَوْله: (بِمَاء وَسدر) ، الْبَاء تتَعَلَّق بقوله: (اغسلنها) قَالَ الطَّيِّبِيّ نَاقِلا عَن المطهر: قَوْله: (بِمَاء وَسدر) لَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَال السدر فِي جَمِيع الغسلات، وَالْمُسْتَحب اسْتِعْمَاله فِي الكرة الأولى ليزيل الأقذار، وَيمْنَع من تسارع الْفساد. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَوْله: (بِمَاء وَسدر) أصل فِي جَوَاز التطهر بِالْمَاءِ الْمُضَاف إِذا لم يسلب الْإِطْلَاق. وَقَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (بِمَاء وَسدر) هُوَ السّنة فِي ذَلِك، والخطمي مثله، فَإِن عدم فَمَا يقوم مقَامه كالأشنان والنطرون، وَلَا معنى لطرح ورق السدر فِي المَاء، كَمَا تفعل الْعَامَّة، وأنكرها أَحْمد وَلم يُعجبهُ، وَمثله من قَالَ: يحك الْمَيِّت بالسدر وَيصب عَلَيْهِ المَاء فَتحصل طَهَارَته بِالْمَاءِ، وَعَن ابْن سِيرِين، أَنه كَانَ يَأْخُذ الْغسْل عَن أم عَطِيَّة فَيغسل بِالْمَاءِ والسدر مرَّتَيْنِ وَالثَّالِثَة بِالْمَاءِ والكافور. وَمِنْهُم من ذهب إِلَى أَن الغسلات كلهَا بِالْمَاءِ والسدر، وَهُوَ قَول أَحْمد: وَلما غسلوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غسلوه بِمَاء وَسدر ثَلَاث مَرَّات، فِي كُلهنَّ ذكره أَبُو عمر. قَوْله: (واجعلن فِي الْآخِرَة) أَي فِي الْمرة الْآخِرَة ويروى (الْأَخِيرَة) قَوْله: (كافورا) وَالْحكمَة فِيهِ أَن الْجِسْم يتصلب بِهِ وتنفر الْهَوَام من رَائِحَته، وَفِيه إكرام الْمَلَائِكَة. وَخَصه صَاحب (الْمَذْهَب) بالثالثة، والجرجاني بِالثَّانِيَةِ، وهما غَرِيبَانِ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا يسْتَحبّ الكافور(8/40)
وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. قلت: لم يقل أَبُو حنيفَة هَذَا أصلا، وَقد بَينا فِيمَا مضى مذْهبه، وَقَالَ أَيْضا: يسْتَحبّ عندنَا أَن يَجْعَل فِي كل غسلة قَلِيل كافور. قَوْله: (أَو شَيْئا من كافور) شكّ من الرَّاوِي أَي اللَّفْظَيْنِ قَالَ. وَقَوله: (شَيْئا) نكرَة فِي سِيَاق الْإِثْبَات فَيصدق بِكُل شَيْء مِنْهُ، وَهل يقوم الْمسك مقَام الكافور، قَالَ بَعضهم: إِن نظر إِلَى مُجَرّد التَّطَيُّب، نعم وَإِلَّا فَلَا. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل ينظر إِن كَانَ يُوجد فِيهِ مَا ذكره من الْأُمُور فِي الكافور يَنْبَغِي أَن يقوم وإلاَّ فَلَا إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة، فَيقوم غَيره مقَامه. قَوْله: (آذنني) ، بتَشْديد النُّون الأولى، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلم يبين وَجهه. قلت: هَذَا أَمر لجَماعَة الْإِنَاث، من: آذن يُؤذن إِيذَانًا إِذا علم. . قَوْله: (فَلَمَّا فَرغْنَا) هَكَذَا هُوَ بِصِيغَة الْمَاضِي لجَماعَة الْمُتَكَلِّمين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَلَمَّا فرغن) بِصِيغَة الْمَاضِي للْجمع الْمُؤَنَّث. وَقَالَ بَعضهم: (فَلَمَّا فَرغْنَا) للْأَكْثَر بِصِيغَة الْخطاب من الْحَاضِر، وللأصيلي: (فَلَمَّا فرغن) بِصِيغَة الْغَائِب قلت: هَذَا الْقَائِل لم يمس شَيْئا من علم التصريف وَلَا يخفى فَسَاد تصرفه. قَوْله: (حقوه) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفِي (الْمُحكم) الحقو، والحقو يَعْنِي بِالْفَتْح وَالْكَسْر، والحقوة والحقا: كُله الْإِزَار، كَأَنَّهُ سمي بِمَا يلاث عَلَيْهِ، وَالْجمع: أَحَق وأحقاء وحقي وحقاء، وَقد فسره فِي الْمَتْن بقوله: تَعْنِي إزَاره، يَعْنِي إِزَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: الحقو فِي الأَصْل معقد الْإِزَار واطلق على الْإِزَار مجَازًا (وَفِي رِوَايَة ابْن عَوْف عَن مُحَمَّد بن سِيرِين بِلَفْظ فَنزع من حقوه إزَاره) والحقو فِي هَذَا على حَقِيقَته. قلت: إِن كَانَ أخذا من مَوضِع كَانَ يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَن يبين مأخذه، وَإِن كَانَ هَذَا تَصرفا من عِنْده فَهُوَ غير صَحِيح، وَلم يقل أحد إِن الحقو فِي مَوضِع مجَاز وَفِي مَوضِع حَقِيقَة، بل هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَة لِأَنَّهُ مُشْتَرك بَين الْمَعْنيين، والمشترك حَقِيقَة فِي الْمَعْنيين وَالثَّلَاثَة وَأكْثر وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْجَوْهَرِي قَالَ: الحقو: الْإِزَار وَثَلَاثَة أَحَق. ثمَّ قَالَ: والحقو أَيْضا الخصر ومشد الْإِزَار. قَوْله: (أشعرنها إِيَّاه) أَمر من الْإِشْعَار وَهُوَ إلباس الثَّوْب الَّذِي يَلِي بشرة الْإِنْسَان أَي: إجعلن هَذَا الْإِزَار شعارها، وَسمي: شعارا لِأَنَّهُ يَلِي شعر الْجَسَد، والدثار مَا فَوق الْجَسَد، وَالْحكمَة فِيهِ التَّبَرُّك بآثاره الشَّرِيفَة، وَإِنَّمَا أَخّرهُ إِلَى فراغهن من الْغسْل وَلم يناولهن إِيَّاه أَولا ليَكُون قريب الْعَهْد من جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الشريف حَتَّى لَا يكون بَين انْتِقَاله من جسده إِلَى جَسدهَا فاصل، وَهُوَ أصل فِي التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين، وَاخْتلف فِي صفة إشعارها إِيَّاه فَقيل يَجْعَل لَهَا مئزرا، وَقيل: تلفُّ فِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب اسْتِعْمَال السدر والكافور فِي حق الْمَيِّت. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمسك وكل مَا شابهه من الطّيب، وَأَجَازَ الْمسك أَكثر الْعلمَاء، وَأمر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهِ فِي حنوطه. وَقَالَ: هُوَ من فضل حنوط النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْتَعْملهُ أنس وَابْن عمر وَسَعِيد بن الْمسيب، وَكَرِهَهُ عمر وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد. وَقَالَ عَطاء وَالْحسن: أَنه ميتَة، وَفِي اسْتِعْمَال الشَّارِع لَهُ فِي حنوطه حجَّة عَلَيْهِم. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال للرِّجَال وَالنِّسَاء. وَفِيه: مَا يدل على أَن النِّسَاء أَحَق بِغسْل الْمَرْأَة من الزَّوْج، وَبِه قَالَ الْحسن وَالثَّوْري وَالشعْبِيّ وَأَبُو حنيفَة، وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَهُوَ قَول الثَّلَاثَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد وصت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زَوجهَا عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بذلك، وَكَانَ بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلم يُنكر أحد، فَصَارَ إِجْمَاعًا. قلت: وَفِيه: نظر لِأَن صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) و (الْبَدَائِع) وَآخَرُونَ قَالُوا: إِن ابْن مَسْعُود سُئِلَ عَن فعل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّهَا زَوجته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وعنى بذلك أَن الزَّوْجِيَّة بَاقِيَة بَينهمَا لم تَنْقَطِع، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَو بقيت الزَّوْجِيَّة بَينهمَا لما تزوج أُمَامَة بنت زَيْنَب بعد موت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مَاتَ عَن أَربع حرائر، وَوَصِيَّة فَاطِمَة عليا بغسلها رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن نَافِع، قَالَ يحيى: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك، وَالْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ فِي (سنَنه الْكَبِير) وَسكت، وَظن أَنه يخفى، وَأما الْمَرْأَة إِذا غسلت زَوجهَا وَهِي مُعْتَدَّة فَهُوَ جَائِز لَهُ لِأَنَّهَا فِي الْعدة. وَفِيه: جَوَاز تكفين الْمَرْأَة فِي ثوب الرجل.
9 - (بابُ مَا يُسْتَحَبُّ أنْ يُغْسَلَ وِتْرا)
كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَكَذَا كلمة: أَن، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب غسل الْمَيِّت وترا. قيل: يحْتَمل أَن تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة(8/41)
أَو مَوْصُولَة وَالثَّانِي أظهر. قلت: الأول أظهر، بل الْمَعْنى لَا يَصح إلاَّ على هَذَا. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد ذَلِك أوقع التَّعْبِير: بِمن، الَّتِي لمن يعقل قلت: هَذَا نظر يسْتَحق الْعَمى لِأَن المُرَاد من التَّرْجَمَة بَيَان اسْتِحْبَاب غسل الْمَيِّت وترا لَا بَيَان من يسْتَحبّ ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْبَاب بطريقيه فِي بَيَان الِاسْتِحْبَاب لَا فِي بَيَان الْمُسْتَحبّ وَغَيره.
4521 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِي عنْ أيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عنْ أمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاثا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كافُورا فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فألْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ فَقَالَ أيُّوبُ وَحَدَّثَتنِي حَفْصَةُ بِمِثلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ وكانَ فِي حدِيث حَفْصَةَ اغْسِلْنَهَا وِتْرا وكانَ فِيهِ ثَلاثا أوْ خَمْسا أوْ سَبْعا وكانَ فِيهِ أنَّهُ قَالَ ابْدَأوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا وكانِ فِيهِ أنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قالَتْ وَمَشَطْنَاهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقَالَ بَعضهم أورد المُصَنّف فِيهِ حَدِيث أم عَطِيَّة أَيْضا من رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد وَلَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بالوتر، وَمن رِوَايَة أَيُّوب، قَالَ: حَدَّثتنِي حَفْصَة، وَفِيه ذَلِك. قلت: مُرَاده من قَوْله: وترا، فِي التَّرْجَمَة أَن يكون خلاف الشفع، وَهُوَ مَوْجُود فِي حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: (ثَلَاثًا أَو خمْسا) وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ لفظ الْوتر حَتَّى إِذا ذكر حَدِيثا لَيْسَ فِيهِ لفظ الْوتر لَا يكون مطابقا للتَّرْجَمَة، وَإِن كَانَ مُرَاد هَذَا الْقَائِل لفظ الْوتر فَلَيْسَ بموجود هَذَا أَيْضا فِي حَدِيث حَفْصَة، وَالْحَدِيثَانِ سَوَاء فِي الدّلَالَة على الْوتر، فَكيف يفرق بَينهمَا؟ وَلَفظ الْوتر لم يَقع فِي حَدِيث أم عَطِيَّة إلاَّ فِي رِوَايَة هِشَام بن حسان عَن حَفْصَة عَنْهَا، على مَا يَجِيء فِي: بَاب يلقى شعر الْمَرْأَة خلفهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، ذكر بِلَا نِسْبَة فِي أَكثر الرِّوَايَات، قَالَ ابْن السكن: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد. وَهُوَ التسترِي، ولقبه حمدَان وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ أَيْضا. الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، يكنى أَبَا مُحَمَّد. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. ولنتكلم فِي الزِّيَادَات الَّتِي فِيهِ.
قَوْله: (فَقَالَ أَيُّوب) يَعْنِي السّخْتِيَانِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بِالْوَاو، وَرُبمَا يظنّ أَنه مُعَلّق وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بالإسنادين مَوْصُولا. قَوْله: (وابدأوا) ويروى: (وابدأن) ، بِلَفْظ خطاب جمع الْمُؤَنَّث، وَهُوَ ظَاهر وَأما رِوَايَة: (ابدأوا) بِجمع الْمُذكر فوجهها أَن يكون تَغْلِيبًا للذكور لِأَنَّهُنَّ كن محتاجات إِلَى معاونة الرِّجَال من حمل المَاء إلَيْهِنَّ وَنَحْوه، أَو الْخطاب بِاعْتِبَار الْأَشْخَاص أَو النَّاس. قَوْله: (بميامنها) جمع ميمنة. قَوْله: (ومشطناها) من: مشطت الماشطة تمشطهَا مشطا: إِذا سرحت شعرهَا. قَوْله: (ثَلَاثَة قُرُون) انتصاب ثَلَاثَة يجوز أَن يكون بِنَزْع الْخَافِض أَي: بِثَلَاثَة قُرُون، أَو على الظَّرْفِيَّة أَي: فِي ثَلَاثَة قُرُون، والقرون جمع: الْقرن، وَهُوَ الْخصْلَة من الشّعْر، وَحَاصِل الْمَعْنى: جعلن شعرهَا ثَلَاث ضفائر بعد أَن حللوها بالمشط.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْغسْل بِالْمَاءِ والسدر وَجعل الشّعْر ثَلَاثَة قُرُون، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: فِي حَدِيث حَفْصَة التَّنْصِيص على لفظ الْوتر بِالثلَاثِ أَو بالخمس أَو بالسبع، وَفِي حَدِيث غَيرهَا التَّنْصِيص على عدد الثَّلَاث وَالْخمس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ أَيْضا. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: وترا ثَلَاثًا أَو خمْسا، اسْتدلَّ بِهِ على أَن أقل الْوتر ثَلَاث، وَلَا دلَالَة فِيهِ لِأَنَّهُ سيق مساق الْبَيَان للمراد إِذْ لَو أطلق لتناول الْوَاحِدَة فَمَا فَوْقهَا؟ قلت: المُرَاد بِالْغسْلِ الإنقاء، والتنصيص على الْوتر بِالْعدَدِ الْمَذْكُور لأجل اسْتِحْبَاب الْوتر فِي الغسلات لِأَن الله وتر يحب الْوتر، حَتَّى لَو حصل الإنقاء بالمرة الْوَاحِدَة لقام بِالْوَاجِبِ كَمَا فِي الِاسْتِنْجَاء، وَفِيه: الْبدَاءَة بالميامن لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَمُّن فِي شَأْنه كُله، أَي: فِي التنظيفات. وَفِيه: الِابْتِدَاء بمواضع الْوضُوء مِنْهَا. قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : مَعْنَاهُ عِنْد مَالك أَن يبْدَأ بهَا عِنْد الْغسْل الَّذِي هُوَ مَحْض الْعِبَادَة فِي غسل الْجَسَد من أَذَى، وَهُوَ الْمُسْتَحبّ.(8/42)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يوضأ الْمَيِّت. قلت: لم يقل أَبُو حنيفَة بِهَذَا، بل مذْهبه أَنه يوضأ من غير مضمضة واستنشاق، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. وَفِيه: مشط شعرهَا بِثَلَاث ضفائر. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَعِنْدنَا يَجْعَل ضفيرتين على صدرها فَوق الدرْع، وَقَالَ الشَّافِعِي: يسرح شعرهَا وَيجْعَل ثَلَاث ضفائر وَيجْعَل خلف ظهرهَا، وَبِه قَالَه أَحْمد وَإِسْحَاق. قُلْنَا: لَيْسَ فِي الحَدِيث إِشَارَة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور فِيهِ الْإِخْبَار من أم عَطِيَّة أَنَّهَا مشطت شعرهَا ثَلَاثَة قُرُون، وَكَونهَا فعلت ذَلِك بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال، وَالْحكم لَا يثبت بِهِ، وَلِأَن مَا ذكره زِينَة وَالْمَيِّت مستغن عَنْهَا. فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث ابْن حبَان: (واجعلن لَهَا ثَلَاثَة قُرُون) . قلت: هَذَا أَمر بالتضفير، وَنحن لَا ننكر التضفير حَتَّى يكون الحَدِيث حجَّة علينا، وَإِنَّمَا ننكر جعلهَا خلف ظهرهَا، لِأَن هَذَا التصنيع زِينَة، وَالْمَيِّت مَمْنُوع مِنْهَا، ألاَ ترى أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (علام تنصون ميتكم؟) أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن سُفْيَان عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَنْهَا، وتنصون: فِي نصوت الرجل أنصوه نصوا إذات مددت ناصيه، وأرادت عَائِشَة مِنْهُ أَن الْمَيِّت لَا يحْتَاج إِلَى التسريح وَنَحْوه، لِأَنَّهُ للبلى وَالتُّرَاب.
01 - (بابٌ يُبْدَأ بِمَيَامِنِ المَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْغَاسِل يبْدَأ بميامن الْمَيِّت.
5521 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ االوُضُوءِ منْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وخَالِد هُوَ الْحذاء. قَوْله: (حَدثنَا خَالِد. .) إِلَى آخِره، وَقَالَ مُسلم: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: أخبرنَا هشيم عَن خَالِد عَن حَفْصَة بنت سِيرِين عَن أم عَطِيَّة أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أمرهَا أَن تغسل ابْنَته فَقَالَ لَهَا: إبدأن بميامنها. قَوْله: (إبدأن) أَمر لجمع الْمُؤَنَّث من بَدَأَ يبْدَأ، والبداءة بالميامن فِي الغسلات الَّتِي لَا وضوء فِيهَا. قَوْله: (ومواضع الْوضُوء) أَي: فِي الغسلات الْمُتَّصِلَة بِالْوضُوءِ. قَوْله: (مِنْهَا) أَي: من الِابْنَة، وَفِي هَذَا رد على أبي قلَابَة يَقُول: يبْدَأ أَولا بِالرَّأْسِ ثمَّ باللحية، وَالْحكمَة فِي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوضُوءِ تَجْدِيد أثر سيماء الْمُؤمنِينَ فِي ظُهُور أثر الْغرَّة والتحجيل.
11 - (بابُ مَوَاضِع الوُضُوءِ مِنَ المَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبدَاءَة بمواضع الْوضُوء من الْمَيِّت، أَشَارَ بِهِ إِلَى استحبابها.
6521 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسى اقال حدَّثنا وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ عنْ خالِدِ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَنا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا ابْدَأُوا بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ومواضع الْوضُوء مِنْهَا) ، وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، وَيُقَال لَهُ: خت، مَاتَ فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على اسْتِحْبَاب الْمَضْمَضَة والاستنشق فِي غسل الْمَيِّت، خلافًا للجنفية، بل قَالُوا: لَا يسْتَحبّ وضوؤه أصلا. قلت: هَذَا تَقول على الْحَنَفِيَّة، وَمذهب أبي حنيفَة: أَن الْمَيِّت يوضأ لَكِن لَا يمضمض وَلَا يستنشق لتعذر إِخْرَاج المَاء من الْأنف والفم، وَقد ذَكرْنَاهُ مرّة.
قَوْله: (ابدأوا) بِصِيغَة الْخطاب للْجمع الْمُذكر، وَهَذِه فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ابدأن) ، بِصِيغَة الْخطاب للْجمع الْمُؤَنَّث، وَقد ذكرنَا وَجه: إبدأوا، عَن قريب.(8/43)
21 - (بابٌ هَلْ تُكَفَّنُ المَرْأةُ فِي إزَارِ الرَّجُل)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل تكفن الْمَرْأَة فِي إِزَار الرجل؟ وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام مَحْذُوف، تَقْدِيره: نعم، تكفن. ولاعتماده على مَا فِي الحَدِيث اقْتصر على الِاسْتِفْهَام بِدُونِ الْجَواب.
7521 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ حَمَّادٍ قَالَ أخبرَنَا ابنُ عَوْنٍ عنْ محَمَّدٍ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ تُوُفِّيَتْ بِنْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَنَا اغْسِلْنَهَا ثَلاثا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ إنْ رَأيْتُنَّ فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَنَزَعَ مِنْ حَقْوِهِ إزَارَهُ فأعْطَانَا وَقَالَ أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأعطانا) ، وَهَذَا يدل على جَوَاز تكفين الْمَرْأَة فِي إِزَار الرجل، وَعبد الرَّحْمَن بن حَمَّاد أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ الْعَنْبَري، مَاتَ سنة إثنتي عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَابْن عون هُوَ: عبد الله بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنه يجوز تكفين الْمَرْأَة فِي ثوب الرجل وَعَكسه، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنَّهَا تكفن فِي خَمْسَة أَثوَاب. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: الْوتر أحب إِلَى مَالك فِي الْكَفَن، وَإِن لم يُوجد إلاَّ ثَوْبَان تلف فيهمَا. وَقَالَ أَشهب: لَا بَأْس بتكفين الْمَرْأَة فِي ثوب الرجل. وَقَالَ ابْن شعْبَان: الْمَرْأَة فِي عدد الأكفان أَكثر من الرِّجَال، وَأقله لَهَا خَمْسَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: درع وخمار ولفافتان: لفافة تَحت الدرْع تلف بهَا، وَأُخْرَى فَوْقه، وثوب لطيف يشد على وَسطهَا يجمع ثِيَابهَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: تكفن الْمَرْأَة فِي خَمْسَة أَثوَاب: درع وَإِزَار وخمار ولفافة وخرقة ترْبط فَوق ثدييها، تلبس الدرْع وَهُوَ الْقَمِيص أَولا، ثمَّ يوضع الْخمار على رَأسهَا كالمقنعة منشورا فَوق الدرْع تَحت اللفافة والإزار، ثمَّ الْخمار فَوق ذَلِك تَحت الْإِزَار، ثمَّ الْإِزَار تَحت اللفافة، وتربط الْخِرْقَة فَوق اللفافة عِنْد الصَّدْر. وَقَالَ إِبْنِ الْمُنْذر: كل من يحفظ عَنهُ يرى أَن تكفن الْمَرْأَة فِي خَمْسَة أَثوَاب: كالشعبي وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَعَن ابْن سِيرِين: تكفن الْمَرْأَة فِي خَمْسَة أَثوَاب: درع وخمار ولفافتين وخرقة، وَعَن النَّخعِيّ: تكفن فِي خَمْسَة: درع وخمار ولفافة ومبطن ورداء. وَعَن الْحسن: فِي خَمْسَة: درع وخمار وَثَلَاث لفائف وَعَن عَطاء: تكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب: درع وثوب تَحْتَهُ تلف بِهِ، وثوب فَوْقه. وَقَالَ الشَّافِعِي: تكفن فِي خَمْسَة: ثَلَاث لفائف وَإِزَار وخمار. وَفِي الْقَدِيم: قَمِيص ولفافتان، وَهُوَ الْأَصَح، وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ. وَقَالَ أَحْمد: تكفن فِي قَمِيص ومئزر ولفافة ومقنعة وخامسة تشد بهَا فخذاها.
31 - (بابٌ يَجْعَلُ الكافُورَ فِي آخِرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه يَجْعَل الكافور فِي آخر الْغسْل، وَفِي بعض النّسخ الْأَخِيرَة أَي: فِي الغسلة الْأَخِيرَة.
8521 - حدَّثنا حامِدُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ تُوُفِّيَتْ إحْدَى بَنَاتِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَرَجَ فَقَالَ اغْسهلْنَهَا ثَلاثَا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ إنْ رَأيْتُنَّ بِمَاءٍ وِسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كافُورا أوْ شَيْئا منْ كافُورٍ فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي قالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فألْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ فقالَ أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واجعلن فِي الْآخِرَة كافورا) . وحامد عمر بن حَفْص الثَّقَفِيّ البكراوي الْبَصْرِيّ، قَاضِي كرمان، سكن نيسابور وَمَات بهَا أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
9521 - وعنْ أيُّوبَ عنْ حَفْصَةَ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بِنَحْوِهِ. وقالَتْ إنَّهُ قَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاثَا أوْ خَمْسا أوْ سَبْعا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ إنْ رَأيْتُنَّ قالَتْ حَفْصَةُ قالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَجَعَلْنَا(8/44)
رَأْسَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ..
هُوَ عطف على الْإِسْنَاد الأول تَقْدِيره: وَحدثنَا حَامِد بن عمر حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن حَفْصَة بنت سِيرِين. قَوْله: (بِنَحْوِهِ) أَي: بِنَحْوِ الحَدِيث الأول. قَوْله: (وَجَعَلنَا رَأسهَا) أَي: شعر رَأسهَا (ثَلَاث قُرُون) أَي: ثَلَاث ضفائر.
41 - (بابُ نَقْضِ شَعْرِ المَرْأةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نقض شعر الْمَرْأَة الْميتَة عِنْد الْغسْل، وَذكر الْمَرْأَة خرج مخرج الْغَالِب، لِأَن حكم الرجل الْمَيِّت كَذَلِك إِذا كَانَ شعره مضفورا ليصل المَاء إِلَى أصُول الشّعْر لأجل التَّنْظِيف، وَفِي بعض النّسخ: بَاب، بِالْقطعِ. وينقض، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَشعر الْمَرْأَة كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. فَافْهَم.
وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ لاَ بَأسَ أنْ يُنْقَضَ شَعْرُ المَرْأَةِ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَا بَأْس بِنَقْض شعر الْمَرْأَة، ويروى: بِنَقْض شعر الْمَيِّت، وَهُوَ أَعم لتنَاوله الرجل وَالْمَرْأَة، من حَيْثُ الحكم. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور، عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن حَفْصَة حَدثنَا أَشْعَث عَن مُحَمَّد أَنه كَانَ يَقُول إِذا غسلت الْمَرْأَة ذوب شعرهَا ثَلَاث ذوائب ثمَّ جعل خلفهَا.
0621 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ وَهَبٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أيُّوبُ وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قالَتْ حدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأسَ بِنْتِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاَثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاثَةَ قُرُونٍ..
مطابقته ظَاهِرَة، وَأحمد، كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَنسبه ابْن السكن. وَقَالَ: أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ، وَقَالَ: الجياني، وَقيل: أَحْمد بن عِيسَى التسترِي، وَقَالَ ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب، فَهُوَ: ابْن صَالح الْمصْرِيّ، وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى ذكره بنسبته، وَابْن وهب هُوَ: عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
قَوْله: (قَالَ أَيُّوب: وَسمعت حَفْصَة) الْوَاو، فِيهِ مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره: سَمِعت كَذَا وَسمعت حَفْصَة. قَوْله: (أَنَّهُنَّ) أَي: أَن النِّسَاء اللَّاتِي باشرن غسل بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل: مِنْهُنَّ أَسمَاء بنت عُمَيْس وَصفِيَّة بنت عبد الْمطلب وليلى بنت قانف، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وقانف، بِالْقَافِ وَالنُّون. قَوْله: (جعلن رَأس بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: جعلن شعر رَأسهَا. قَوْله: (ثَلَاثَة قُرُون) أَي: ثَلَاث ضفائر. قَوْله: (نقضنه) لأجل إِيصَال المَاء إِلَى أُصُوله. قَوْله: (ثمَّ جعلنه ثَلَاثَة قُرُون) ، يَعْنِي بعد الْغسْل لينجمع وينضم وَلَا ينتشر، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أَيُّوب عَن حَفْصَة (عَن أم عَطِيَّة: مشطناها ثَلَاثَة قُرُون) . قَالَ بَعضهم: أَي سرحناها بالمشط.
وَفِيه: حجَّة للشَّافِعِيّ وَمن وَافقه على اسْتِحْبَاب تَسْرِيح الشّعْر. قلت: لَيْت شعري كَيفَ يَقُول: وَفِيه حجَّة للشَّافِعِيّ، وَهُوَ لَا يرى قَول الصَّحَابِيّ وَلَا فعله حجَّة، وَأم عَطِيَّة أخْبرت ذَلِك عَن فعلهن وَلَا يخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
51 - (بابٌ كَيْفَ الإشْعَارُ لِلْمَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ الْإِشْعَار للْمَيت فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أشعرنها إِيَّاه) ، وَإِنَّمَا أورد هَذِه التَّرْجَمَة مُخْتَصًّا بقوله: كَيفَ الْإِشْعَار؟ مَعَ أَن هَذِه اللَّفْظَة قد ذكرت فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة غير مرّة تَنْبِيها على أَن الْإِشْعَار مَعْنَاهُ فِي هَذَا الطَّرِيق: الإلفاف، وَهُوَ قَوْله: وَزعم الْإِشْعَار ألففنها فِيهِ، على مَا يَجِيء الْآن.
وَقَالَ الحسَنُ الخِرْقَةُ الخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الفَخِذَيْنِ وَالوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن شدّ الفخذين والوركين بالخرقة الْخَامِسَة هُوَ لفها، وَقد فسر الْإِشْعَار فِي آخر حَدِيث(8/45)
الْبَاب باللف، وَبِهَذَا الْمِقْدَار يسْتَأْنس بِهِ فِي وَجه الْمُطَابقَة. وَالْحسن: هُوَ الْبَصْرِيّ، وَأَشَارَ بقوله: (الْخِرْقَة الْخَامِسَة) إِلَى أَن الْمَيِّت يُكفن بِخَمْسَة أَثوَاب، لَكِن هَذَا فِي حق النِّسَاء، وَفِي حق الرِّجَال بِثَلَاثَة، وَهُوَ كفن السّنة فِي حَقّهمَا على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
قَوْله: (الفخذين والوركين) منصوبان على المفعولية، وَالْفَاعِل هُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: يشد، الرَّاجِع إِلَى الْغَاسِل بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّة عَلَيْهِ، ويروى: (الفخذان والوركان) ، مرفوعين لِأَنَّهُمَا مفعولان نابا عَن الْفَاعِل، فَفِي الأولى: يشد، على بِنَاء الْمَعْلُوم، وَفِي الثَّانِيَة على بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (تَحت الدرْع) ، بِكَسْر الدَّال وَهُوَ الْقَمِيص هُنَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ وأخلى بعده بَيَاضًا. وَقَالَ بَعضهم: وَقد وَصله ابْن أبي شيبَة نَحوه. قلت: لم يبين وَصله بِمن وَفِي أَي مَوضِع وَصله، وَالظَّاهِر أَنه غير صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وروى الجوزقي من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن حبيب بن الشَّهِيد عَن هِشَام بن حسان عَن حَفْصَة (عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: فكفناها فِي خَمْسَة أَثوَاب وخمرناها بِمَا يخمر بِهِ الْحَيّ) ، وَهَذَا يصلح مُسْتَندا لكَون كفن الْمَرْأَة خَمْسَة أَثوَاب، لِأَن قَوْله: (الْخِرْقَة الْخَامِسَة تستدعي الْأَرْبَعَة قبْلَة) وَهَذَا عين مَذْهَب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
1621 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ وَهَبٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ أنَّ أيُّوبَ أخْبَرَهُ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ سِيرِينَ يقُولُ جاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا امْرَأةٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنَ الَّلاتِي بايَعْنَ قَدِمَتِ البَصْرَةَ تبَادِرُ ابْنا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ فَحَدَّثَتْنعا قالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلاثا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذالِكَ بِمَاءٍ وَسِدْر وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورا فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي قالَتْ فَلَمَّا فَرَغْنَا ألْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذالِكَ وَلاَ أدْرِي أيُّ بَنَاتِهِ وَزَعَمَ الإْشْعَارَ الْفُفْنَهَا فيهِ وكَذالِكَ كانَ ابنُ سِيرِينَ يَأمُرُ بِالمَرْأةِ أنْ تُشْعَرَ وَلاَ تُؤْزَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَزعم الْإِشْعَار ألففنها فِيهِ) ، وَفِيه بَيَان كَيْفيَّة الْإِشْعَار، وَهُوَ: اللف. وَصدر السَّنَد مثل صدر سَنَد الحَدِيث فِي الْبَاب السَّابِق، لِأَن فِي كل مِنْهُمَا: حَدثنَا أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أخبرنَا ابْن جريج، إِلَى هُنَا كِلَاهُمَا سَوَاء عَن أَحْمد بن صَالح على الْخلاف عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَهُنَاكَ قَالَ: أَيُّوب وَسمعت حَفْصَة بنت سِيرِين، قَالَ: حَدثنَا أم عَطِيَّة، وَهنا أَن أَيُّوب أخبرهُ قَالَ: سَمِعت ابْن سِيرِين يَقُول جَاءَت أم عَطِيَّة امْرَأَة ... الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (امْرَأَة من الْأَنْصَار) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ عطف بَيَان، وَلَا يلْزم فِي عطف الْبَيَان أَن يكون من الْأَعْلَام والكنى، وَكلمَة: من، فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَيَانِيَّة، وَيجوز أَن تكون الثَّانِيَة للتَّبْعِيض. قَوْله: (قدمت الْبَصْرَة) بَيَان لقَوْله: (جَاءَت) أَو بدل مِنْهُ، قَوْله: (تبادر ابْنا لَهَا) جملَة حَالية، و: تبادر، من الْمُبَادرَة وَهِي الْإِسْرَاع، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا أسرعت فِي الْمَجِيء إِلَى بصرة لأجل إبنها الَّذِي كَانَ فِيهَا وَلم تُدْرِكهُ لِأَنَّهُ إِمَّا مَاتَ قبل مجيئها، وَإِمَّا خرج إِلَى مَوضِع آخر. قَوْله: (فحدثتنا) أَي: أم عَطِيَّة، وَالْقَائِل بِهَذَا ابْن سِيرِين. قَوْله: (ذَلِك) ، بِكَسْر الْكَاف، خطابا لأم عَطِيَّة لِأَنَّهَا كَانَت الغاسلة. قَوْله: (فِي الْآخِرَة) أَي: فِي الغسلة الْآخِرَة. قَوْله: (حقوه) أَي: إزَاره. قَوْله: (وَلم يزدْ على ذَلِك) أَي: قَالَ أَيُّوب: لم يزدْ ابْن سِيرِين على الْمَذْكُور، بِخِلَاف حَفْصَة بنت سِيرِين فَإِنَّهَا زَادَت أَشْيَاء مِنْهَا أَنَّهَا قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إبدأوا بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا) . قَوْله: (وَلَا أَدْرِي أَي بَنَاته) أَي: قَالَ أَيُّوب: وَلَا أَدْرِي أَي بَنَاته كَانَت المغسولة، فَأَي، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: أَي بَنَاته كَانَت، وَنَحْوه وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَه آخَرُونَ: أَنَّهَا زَيْنَب، إِذْ عدم علمه لَا يُنَافِي علم الْغَيْر، وَقد صرح عَاصِم فِي رِوَايَته عَن حَفْصَة أَنَّهَا زَيْنَب، وَهِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد جَمِيعًا عَن أبي مُعَاوِيَة. قَالَ عَمْرو: حَدثنَا مُحَمَّد بن حَازِم أَبُو مُعَاوِيَة. قَالَ: حَدثنَا عَاصِم الْأَحول عَن حَفْصَة بنت سِيرِين عَن أم عَطِيَّة. قَالَت: لما مَاتَت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إغسلنها وترا) الحَدِيث. قَوْله: (وَزعم) أَي: أَيُّوب. قَوْله: (الْإِشْعَار) ، مَنْصُوب بقوله: (زعم) . أَي: قَالَ أَيُّوب: إِن معنى أشعرنها فِي الحَدِيث أَي ألففنها(8/46)
فِيهِ من الإلفاف، وَذكر فِيهِ لَفْظَة الْإِشْعَار مَعَ أَنه لَيْسَ فِيهِ صِيغَة الْأَمر، ثمَّ فسره بِصِيغَة الْأَمر. بقوله: (ألففنها فِيهِ) ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ طلب الِاخْتِصَار، وَتَقْدِيره: أَن الْإِشْعَار هُوَ اللف، فَمَعْنَى: أشعرنها إِيَّاه، ألففنها فِيهِ. وَلَا التباس فِيهِ للقرينة الدَّالَّة على ذَلِك. قَوْله: (وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن سِيرِين) أَي: قَالَ أَيُّوب: وَكَذَلِكَ كَانَ مُحَمَّد بن سِيرِين يَأْمر بِالْمَرْأَةِ أَن تشعر، أَي: تلف، وتشعر على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَلَا تؤزر) أَي: وَلَا تجْعَل الشعار عَلَيْهَا مثل الْإِزَار، لِأَن الْإِزَار لَا يعم الْبدن بِخِلَاف الشعار. وَكَانَ ابْن سِيرِين أعلم التَّابِعين بِعَمَل الْمَوْتَى، وَأَيوب بعده. قَوْله: (لَا تؤزر) ، بِضَم التَّاء وَسُكُون الْهمزَة وَفتح الزَّاي، وَيجوز بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الزَّاي من: التأزير.
61 - (بابٌ هَلْ يُجْعَلُ شَعرُ المَرْأةِ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَجْعَل شعر الْمَرْأَة ثَلَاثَة قُرُون؟ أَي: ضفائر؟ وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام مَحْذُوف تَقْدِيره يَجْعَل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي غَالب النّسخ: بَاب يَجْعَل. . إِلَى آخِره، بِدُونِ كلمة: هَل.
2621 - حدَّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَامٍ عنْ أمِّ الهُذَيْلِ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْنِي ثَلاَثَةَ قُرُونٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة العامري. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: هِشَام بن حسان الفردوسي الْأَزْدِيّ. الرَّابِع: أم الْهُذيْل، بِضَم الْهَاء وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره لَام، وَاسْمهَا: حَفْصَة بنت سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه كوفيان وَهِشَام بَصرِي وَأم الْهُذيْل مصريان. وَفِيه: ثَلَاثَة ذكرُوا من غير نِسْبَة. وَفِيه: اثْنَتَانِ مذكورتان بالكنية، وَلم تذكر أم حَفْصَة بكنيتها إلاَّ فِي هَذَا الطَّرِيق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ضفرنا) ، بالضاد وَتَخْفِيف الْفَاء، من الضفر وَهُوَ نسج الشّعْر عريضا، وَكَذَلِكَ التضفير. قَوْله: (تَعْنِي) أَي: أم عَطِيَّة. قَوْله: (ثَلَاثَة قُرُون) أَي: ضفائر.
وَقَالَ وَكِيعٌ قَالَ سفْيَانُ ناصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا
أَي: قَالَ وَكِيع بن جراح عَن سُفْيَان الثَّوْريّ بِهَذَا الْإِسْنَاد: ناصيتها وقرنيها، أَي: جَانِبي رَأسهَا، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مُحَمَّد بن علوِيَّة: حَدثنَا عَمْرو بن عبد الله حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن حَارِث الْمحَاربي عَن سُفْيَان، وَمن حَدِيث عبد الله بن صَالح حَدثنَا هَارُون بن عبد الله حَدثنَا قبيصَة حَدثنَا سُفْيَان عَن هِشَام، وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان. وَمعنى: ناصيتها وقرنيها، أَنَّهَا جعلت ناصيتها ضفيرة وقرناها ضفيرتين، وَلَا تنَافِي بَين قَوْلهَا: قرنيها، هَهُنَا وَفِيمَا قبله ثَلَاثَة قُرُون، لِأَن المُرَاد بالقرنين جانبا الرَّأْس، كَمَا ذكرنَا، وبالقرون: الذوائب.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: اسْتِحْبَاب تضفير الشّعْر خلافًا للكوفيين. قلت: لَيْت شعري كَيفَ ينْقل هَؤُلَاءِ مَذَاهِب النَّاس على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ، والكوفيون مَا أَنْكَرُوا التضفير، وَإِنَّمَا مَذْهَبهم أَن شعرهَا يَجْعَل ضفيرتين على صدرها فَوق الدرْع، وَعند الشَّافِعِي وَمن تبعه: يَجْعَل ثَلَاثَة ضفائر خلف ظهرهَا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْحَنَفِيَّة ترسل شعر الْمَرْأَة خلفهَا وعَلى وَجههَا مُتَفَرقًا. قلت: هَذَا أبعد من الصَّوَاب من ذَاك، وَلم ينْقل أحد مِنْهُم بِهَذَا الْوَجْه إلاَّ مِمَّن لَا يقبل قَوْله، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ أَن يغسل وترا.
71 - (بَاب يُلْقَى شَعَرُ المَرْأةِ خَلْفَهَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: يلقى شعر الْمَرْأَة خلفهَا بعد الْفَرَاغ من الْغسْل، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت: يَجْعَل شعر الْمَرْأَة خلفهَا، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: يلقى شعر الْمَرْأَة خلفهَا ثَلَاثَة قُرُون.
3621 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ سَعِيدٍ عنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانٍ قَالَ حدَّثَتْنَا(8/47)
حَفْصَةُ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ تُوُفِّيَتْ إحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرا ثَلاَثا أوْ خَمْسا أوْ أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذالِكَ وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كافُورا أوْ شَيْئا مِنْ كافُورٍ فَإذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فألْقَى إلَيْنَا حِقْوَهُ فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ وَألْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فألقيناها خلفهَا) ، وَهَذِه التَّرْجَمَة هِيَ الْعَاشِرَة الَّتِي ذكرهَا هَهُنَا، والحادية عشرَة ذكرهَا فِي كتاب الْوضُوء. قَوْله: (فضفرنا شعرهَا) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بِلَفْظ: (ومشطناها) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من طَرِيق أَيُّوب عَن حَفْصَة: (ضفرنا رَأسهَا ثَلَاثَة قُرُون: ناصيتها وقرنيها) . وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على عدم وجوب الْغسْل على غاسل الْمَيِّت لِأَنَّهُ مَوضِع تَعْلِيم، وَلم يَأْمر بِهِ، وردَّ بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون شرع ذَلِك بعد هَذِه الْقَضِيَّة. وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة خلاف، فَعَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة أَنَّهُمَا قَالَا: (من غسل مَيتا فليغتسل) ، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالزهْرِيّ. وَقَالَ النَّخعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يتَوَضَّأ. وَقَالَ مَالك: أحب لَهُ الْغسْل، واستحبه الشَّافِعِي، وَقَالَ الْبُوَيْطِيّ: إِن صَحَّ الحَدِيث قلت بِوُجُوبِهِ، وَعند عَامَّة أهل الْعلم: لَا غسل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَائِشَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ.
وَاسْتدلَّ الْفَرِيق الأول بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) : (عَن عَائِشَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يغْتَسل من أَربع: من الْجَنَابَة، وَيَوْم الْجُمُعَة، وَمن الْحجامَة، وَغسل الْمَيِّت) . وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من غسل الْمَيِّت فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: (أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما غسل أَبَاهُ أمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل) . وَعَن مَكْحُول قَالَ: سَأَلَ رجل حُذَيْفَة عَن غسل الْمَيِّت فَعلمه، وَقَالَ: إِذا فرغت فاغتسل، وَعَن أبي قلَابَة بِسَنَد صَحِيح أَنه كَانَ إِذا غسل مَيتا اغْتسل. وأجابت الْفرْقَة الثَّانِيَة بِمَا قَالَ الْحَاكِم: عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: لَا نعلم فِيمَن غسل مَيتا فليغتسل حَدِيثا ثَابتا، وَلَو ثَبت للزمني اسْتِعْمَاله، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رُوِيَ مَوْقُوفا، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: إِن رَفعه خطأ، إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف لَا يرفعهُ الثِّقَات. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيث مَنْسُوخ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَت جمَاعَة أهل الحَدِيث: هُوَ حَدِيث ضَعِيف، وروى الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثا عَن ابْن عمر؛ فمنا من اغْتسل وَمنا من لم يغْتَسل، وَالله أعلم.
81 - (بابُ الثِّيَابِ البِيضِ لِلْكَفَنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الثِّيَاب الْبيض لأجل الْكَفَن، وَالْبيض بِكَسْر الْبَاء جمع أَبيض، وَلما فرغ عَن بَيَان أَحْكَام غسل الْمَوْتَى شرع فِي بَيَان الْكَفَن على التَّرْتِيب.
91 - (بابُ الكفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الثَّلَاثَة لَيْسَ بِوَاجِب. بل هُوَ كفن السّنة فَإِن اقْتصر على الْإِثْنَيْنِ من غير ضَرُورَة يكون ترك السّنة، وَأما الْوَاحِد فَلَا بُد مِنْهُ.
5621 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إذْ وَقَعَ عنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أوْ قالَ فأوْقَصَتْهُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وسِدْر وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأسَهُ فإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان: اسْمه مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، يعرف بعارم. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: شَيْخه وَحَمَّاد وَأَيوب بصريون وَسَعِيد بن جُبَير كُوفِي. وَفِيه: شَيْخه بكنيته وَاثْنَانِ بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: حَمَّاد عَن أَيُّوب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب.
ذكر تعدد(8/48)
مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا، فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة ومسدد، وَفِي الْحَج عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَأخرجه مُسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ عَن سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن عبيد ومسدد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. عَن حَفْص وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. (ذكر الِاخْتِلَاف فِي عدد كَفنه وَفِي صفته) فَفِي البُخَارِيّ مَا ذكر وَفِي مُسلم " عَن عَائِشَة قَالَت أدرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حلَّة يَمَانِية كَانَت لعبد الله بن أبي بكر ثمَّ نزعت عَنهُ وكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب سحُولِيَّة يَمَانِية لَيْسَ فِيهَا عِمَامَة وَلَا قَمِيص " الحَدِيث وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَنْهَا " أدرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثوب وَاحِد حبرَة ثمَّ أخرج عَنهُ " وَفِيه أَيْضا مثل رِوَايَة البُخَارِيّ وَفِيه عَن ابْن عَبَّاس " فِي ثَلَاثَة أَثوَاب نجرانية الْحلَّة ثَوْبَان وقميصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ " قَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة " فِي ثَلَاثَة أَثوَاب حلَّة حَمْرَاء وقميصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ " وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْهَا " كفن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض يَمَانِية وَلَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة " قَالَ فَذكرُوا لعَائِشَة قَوْلهم فِي ثَوْبَيْنِ وَبرد حبرَة فَقَالَت قد أُتِي بالبرد وَلَكنهُمْ ردُّوهُ وَلم يكفنوه فِيهِ وَفِي النَّسَائِيّ عَنْهَا كَذَلِك وَفِي سنَن ابْن ماجة كَذَلِك وَفِي رِوَايَة لَهُ " عَن ابْن عمر قَالَ كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَة رياط بيض سحُولِيَّة " وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب قَمِيصه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وحلة نجرانية " وَفِي مُسْند أَحْمد عَنْهَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاث رياط بيض يَمَانِية " وَفِيه أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس " كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَوْبَيْنِ أَبيض وَبرد أَحْمَر " وَانْفَرَدَ أَحْمد بِالْحَدِيثين وَعند أبي سعيد بن الْأَعرَابِي " عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ريطتين وَبرد نجراني " وَعند ابْن عَسَاكِر " كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا قبَاء وَلَا عِمَامَة " وَعند ابْن أبي شيبَة " عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب " وَفِي إِسْنَاده سُوَيْد بن عَمْرو وَثَّقَهُ ابْن معِين وَالْعجلِي وَغَيرهمَا وَضَعفه ابْن حبَان وَفِيه عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل اخْتلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ وَعند الْبَزَّار " كفن فِي سَبْعَة ثَلَاثَة سحُولِيَّة وقميصه وعمامة وَسَرَاويل والقطيفة الَّتِي جعلت تَحْتَهُ " وَعند ابْن سعد " عَن الشّعبِيّ كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب برد يَمَانِية غِلَاظ إِزَار ورداء ولفافة " وَعَن مرّة بن شُرَحْبِيل " عَن ابْن مَسْعُود أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما ثقل قُلْنَا فيمَ نكفنك قَالَ فِي ثِيَابِي هَذِه إِن شِئْتُم أَو فِي يَمَانِية أَو فِي ثِيَاب مصر " وَعَن مُحَمَّد بن سِيرِين " عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زر عَلَيْهِ قَمِيصه الَّذِي كفن فِيهِ " قَالَ ابْن سِيرِين وَأَنا زررت على أبي هُرَيْرَة وَعند أبي بشر الدولابي عَن سَالم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب ثَوْبَيْنِ صحارين وثوب حبرَة " وَعند ابْن عدي " عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كفن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَوْبَيْنِ أبيضين سحولتين " وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَقد رُوِيَ فِي كفن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِوَايَات مُخْتَلفَة حَدِيث عَائِشَة أصح الرِّوَايَات الَّتِي رويت فِي كفن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْعَمَل على حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيرهم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يَمَانِية " بتَخْفِيف الْيَاء منسوبة إِلَى الْيمن وَإِنَّمَا خففوا الْيَاء وَإِن كَانَ الْقيَاس تَشْدِيد يَاء النّسَب لأَنهم حذفوا يَاء النّسَب لزِيَادَة الْألف وَكَانَ الأَصْل يمنية قَالَ الْأَزْهَرِي فِي التَّهْذِيب قَوْلهم رجل يمَان مَنْسُوب إِلَى الْيمن وَكَانَ فِي الأَصْل يمني فزادوا الْفَا قبل النُّون وحذفوا يَاء النِّسْبَة قَالَ وَكَذَلِكَ قَالُوا رجل شآم كَانَ فِي الأَصْل شَامي فزادوا الْفَا وحذفوا يَاء النِّسْبَة قَالَ وَهَذَا قَول الْخَلِيل وسيبويه وَقَالَ الْهَرَوِيّ فِي الغريبين يُقَال رجل يمَان وَالْأَصْل يماني فخففوا يَاء النِّسْبَة وَحكى الْجَوْهَرِي فِيهِ التَّشْدِيد مَعَ إِثْبَات الْألف فَيُقَال يماني وَهِي لُغَة حَكَاهَا سِيبَوَيْهٍ أَيْضا وَالتَّخْفِيف أصح قَوْله " سحُولِيَّة " قَالَ الْأَزْهَرِي بِالْفَتْح نَاحيَة بِالْيمن تعْمل فِيهَا الثِّيَاب وبالضم الثِّيَاب الْبيض وَقيل بِالْفَتْح نِسْبَة إِلَى قَرْيَة بِالْيمن وبالضم ثِيَاب الْقطن وَفِي التَّلْخِيص لأبي هِلَال العسكري وَفِي الحَدِيث " كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَوْبَيْنِ سحولين " بِفَتْح السِّين فسحول قَبيلَة بِالْيمن تنْسب إِلَيْهَا هَذِه الثِّيَاب والسحل ثوب أَبيض وَجمعه سحول وسحل وَذكر ابْن سَيّده والقزاز أَن السحل ثوب لَا يبرم غزله طاقين والسحل ثوب أَبيض رَقِيق وَخص بِهِ بَعضهم الْقطن وَجمعه أسحال وَسحُول مَوضِع بِالْيمن تعْمل فِيهِ هَذِه الثِّيَاب وَفِي الْمغرب للمطرزي منسوبة إِلَى سحول قَرْيَة بِالْيمن بِالْفَتْح وَالضَّم(8/49)
قَوْله " من كُرْسُف " بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء وَضم السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره فَاء وَهُوَ الْقطن وَتَفْسِير بَقِيَّة الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي أَحَادِيث غير الْبَاب قَوْله " حبرَة " بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء برد هُوَ يمَان يُقَال برد حبير وَبرد حبرَة على الْوَصْف وَالْإِضَافَة وَالْجمع حبر وحبرات وَقيل الْحبرَة مَا كَانَ من البرود مخططا موشيا وَفِي التَّهْذِيب لَيْسَ حبرَة موضعا أَو شَيْئا مَعْلُوما إِنَّمَا هُوَ وشى كَقَوْلِك ثوب قرمز والقرمز صبغه قَوْله " نجرانية " بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم نِسْبَة إِلَى نَجْرَان بليدَة فِي الْيمن قَوْله " حلَّة " بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام وَهِي إِزَار ورداء وَلَا تكون الْحلَّة إِلَّا من اثْنَيْنِ قَوْله " رياط " بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف جمع ريطة وَهِي كل ملاءة لَيست بلفقين وكل ثوب رَقِيق لين وَيجمع على ريط أَيْضا والقطيفة بِفَتْح الْقَاف وَكسر الطَّاء كسَاء لَهُ خمل (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) بِهِ احْتج أَصْحَابنَا فِي أَن كفن السّنة فِي حق الرجل ثَلَاثَة أَثوَاب وَلَكِن قَوْلهم فِي الْكتب إِزَار وقميص ولفافة يمْنَع الِاسْتِدْلَال بِهِ فَيكون حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْقَمِيص وَالشَّافِعِيّ أَخذ بِظَاهِرِهِ وَاحْتج بِهِ على أَن الْمَيِّت يُكفن فِي ثَلَاثَة لفائف وَبِه قَالَ أَحْمد وَلَكِن الَّذِي يتم بِهِ اسْتِدْلَال أَصْحَابنَا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيث جَابر بن سَمُرَة فَإِنَّهُ قَالَ " كفن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَة أَثوَاب قَمِيص وَإِزَار ولفافة " رَوَاهُ ابْن عدي فِي الْكَامِل وَفِيه ترك الْعِمَامَة وَفِي الْمَبْسُوط وَكره بعض مَشَايِخنَا الْعِمَامَة لِأَنَّهُ يصير شفعا وَاسْتَحْسنهُ بعض الْمَشَايِخ لما رُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه كفن ابْنه واقدا فِي خَمْسَة أَثوَاب قَمِيص وعمامة وَثَلَاث لفائف وأدار الْعِمَامَة إِلَى تَحت حنكه رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور
(بَاب الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الثَّلَاثَة لَيْسَ بِوَاجِب بل هُوَ كفن السّنة فَإِن اقْتصر على الِاثْنَيْنِ من غير ضَرُورَة يكون ترك السّنة وَأما الْوَاحِد فَلَا بُد مِنْهُ
27 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم. قَالَ بَيْنَمَا رجل وَاقِف بِعَرَفَة إِذْ وَقع عَن رَاحِلَته فوقصته أَو قَالَ فأوقصته قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تحنطوه وَلَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أَبُو النُّعْمَان اسْمه مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي يعرف بعارم. الثَّانِي حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع سعيد بن جُبَير. الْخَامِس عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه شَيْخه وَحَمَّاد وَأَيوب بصريون وَسَعِيد بن جُبَير كُوفِي وَفِيه شَيْخه بكنيته وَاثْنَانِ بِلَا نِسْبَة وَفِيه حَمَّاد عَن أَيُّوب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة ومسدد وَفِي الْحَج عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأخرجه مُسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأخرجه أَبُو دَاوُد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِيهِ عَن سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن عبيد ومسدد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة -
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، أَصله: بَين، فزيدت فِيهِ الْألف وَالْمِيم، وَهُوَ من الظروف الزمانية يُضَاف إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه هُنَا قَوْله: (إِذْ وَقع) أَي: وَقع رجل وَاقِف. قَوْله: (فوقصته) (أَو قَالَ: فأوقصته) شكّ من الرَّاوِي: الأول: من الوقص وَهُوَ كسر الْعُنُق، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة. وَالثَّانِي: من الإيقاص وَهُوَ شَاذ، لِأَن الْأَصَح هُوَ الثلاثي. وَفِي (فصيح ثَعْلَب) : وقص الرجل إِذا سقط عَن دَابَّته فاندقت عُنُقه فَهُوَ موقوص، وَعَن(8/50)
الْكسَائي: وقصا، وَلَا يكون: وقصت الْعُنُق نَفسهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا صرعته فَكسرت عُنُقه، وَقَالَ: أقصعته بِتَقْدِيم الصَّاد الْمُهْملَة على الْعين الْمُهْملَة، لَيْسَ بِشَيْء، والقصع هُوَ كسر الْعَطش، وَيحْتَمل أَن يستعار لكسر الرَّقَبَة وَأما الإقعاص، أَي: بِتَقْدِيم الْعين فَهُوَ إعجال الْهَلَاك أَي: لم يلبث أَن مَاتَ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال ضربه فأقعصه، أَي: قَتله مَكَانَهُ وَيُقَال: قصع القملة أَي قَتلهَا، وقصع المَاء عطشه أَي: أذهبه وسكنه، وَاعْلَم أَن الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي (فوقصته) ، للراحلة، والمنصوب يرجع إِلَى الرجل. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون فَاعل: وقصته، الْوَقْعَة أَو الرَّاحِلَة، بِأَن تكون أَصَابَته بعد أَن وَقع قلت: الْفَاعِل هُوَ الرَّاحِلَة، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهر التَّرْكِيب، وَكَون الْفَاعِل هُوَ الْوَقْعَة بعيد) وَخلاف الظَّاهِر، وَقَالَ أَيْضا: وَقَالَ الْكرْمَانِي: فوقصته أَي رَاحِلَته. قلت: لم يقل الْكرْمَانِي هَذَا، وَإِنَّمَا نقل عَن الْخطابِيّ مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا، والعنق، بِضَمَّتَيْنِ وبسكون النُّون، وَصله مَا بَين الرَّأْس والجسد، وَيذكر وَيُؤَنث، فَمن قَالَ: عنق بِإِسْكَان النُّون ذكر، وَمن قَالَ بِضَم النُّون أنث، وَعند ابْن خالويه: التصغير فِي لُغَة من ذكَّر: عنيق، وَفِي لُغَة من أنث، عنيقة. وَالْجمع أَعْنَاق. قَوْله: (وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ) إِنَّمَا لم يزده ثَالِثا إِكْرَاما لَهُ، كَمَا فِي الشَّهِيد لم يزدْ على ثِيَابه. قَوْله: (وَلَا تحنطوه) بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: لَا تمسوه حنوطا. قَوْله: (وَلَا تخمروا رَأسه) أَي: وَلَا تغطوها. وَفِي (أَفْرَاد مُسلم) : (وَلَا تخمروا رَأسه وَلَا وَجهه) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَذكر الْوَجْه وهم من بعض رُوَاته فِي الْإِسْنَاد والمتن، وَالصَّحِيح: (لَا تغطوا رَأسه) . قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن هَذَا الرجل. قَوْله: (ملبيا) ، نصب على الْحَال، أَي: حَال كَونه قَائِلا لبيْك، وَالْمعْنَى أَنه يحْشر يَوْم الْقِيَامَة على هَيئته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا ليَكُون ذَلِك عَلامَة لحجه، كالشهيد يَأْتِي وأوداجه تشخب دَمًا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِي رِوَايَة (ملبدا) أَي: على هَيْئَة ملبدا شعره بصمغ وَنَحْوه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر فِي أَن الْمحرم على إِحْرَامه بعد الْمَوْت، وَلِهَذَا يحرم ستر رَأسه وتطييبه، وَهُوَ قَول عُثْمَان وَعلي وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالثَّوْري. وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى أَنه يصنع بِهِ مَا يصنع بالحلال، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَائِشَة وَابْن عمر وَطَاوُس لِأَنَّهَا عبَادَة شرعت فبطلت بِالْمَوْتِ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إلاَّ من ثَلَاث. .) وإحرامه من عمله، وَلِأَن الْإِحْرَام لَو بَقِي لطيف بِهِ وكملت مَنَاسِكه، وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَن ذَلِك ورد على خلاف الأَصْل، فَيقْتَصر بِهِ على مورد النَّص، وَلَا سِيمَا قد وضح أَن الْحِكْمَة فِي ذَلِك اسْتِبْقَاء شعار الْإِحْرَام كاستبقاء دم الشُّهَدَاء قلت: لَا نسلم أَنه ورد على خلاف الأَصْل، وَكَيف ورد على خلاف الأَصْل وَقد أَمر بِغسْلِهِ بِالْمَاءِ والسدر، وَهُوَ الأَصْل فِي الْمَوْتَى؟ وَأما قَوْله: لَا تحنطوه. . إِلَى آخِره فَهُوَ مَخْصُوص بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله: الْحِكْمَة فِي ذَلِك. . إِلَى آخِره. وَفِيه: الرَّد على كَلَامه، بَيَان ذَلِك أَن اسْتِبْقَاء دم الشَّهِيد مَخْصُوص بِهِ، فَكَذَلِك اسْتِبْقَاء شعار الْإِحْرَام مَخْصُوص بالموقوص. وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ لَيْسَ عَاما بِلَفْظِهِ، لِأَنَّهُ فِي شخص معِين، وَلِأَنَّهُ لم يقل يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا لِأَنَّهُ محرم، فَلَا يتَعَدَّى حكمه إِلَى غَيره إلاَّ بِدَلِيل. وَقَالَ: اغسلوه بسدر، وَالْمحرم لَا يجوز غسله بسدر، وَذكر الطرطوشي فِي (كتاب الْحَج) أَن أَبَا الشعْثَاء جَابر بن زيد روى عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا تخمروا رَأسه وخمروا وَجهه. وَقد روى عبد الرَّزَّاق ابْن جريج عَن عَطاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (خمروا وُجُوههم وَلَا تتشبهوا باليهود وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ وَحكم ابْن الْقطَّان بِصِحَّتِهِ وَلَفظه (خمروا وُجُوه مَوْتَاكُم) . وَفِي (الْمُوَطَّأ) أَن عبد الله بن عمر لما مَاتَ ابْنه وَاقد وَهُوَ محرم كَفنه وخمر وَجهه وَرَأسه، وَقَالَ: لَوْلَا أَنا محرمون لحنطناك يَا وَاقد. وَفِي (المُصَنّف) بأسانيد جِيَاد: عَن عَطاء، قَالَ: وَسُئِلَ عَن الْمحرم يغطى رَأسه إِذا مَاتَ؟ قيل: غطى ابْن عمر وكشف غَيره. وَقَالَ طَاوُوس: يغيب رَأس الْمحرم إِذا مَاتَ. وَقَالَ الْحسن: إِذا مَاتَ الْمحرم فَهُوَ حَلَال، وَمن حَدِيث مجَالد عَن عَامر: (إِذا مَاتَ الْمحرم ذهب إِحْرَامه) . وَمن حَدِيث إِبْرَاهِيم عَن عَائِشَة: إِذا مَاتَ الْمحرم ذهب إِحْرَام صَاحبكُم، وَقَالَهُ عِكْرِمَة بِسَنَد جيد، وَحكى ابْن حزم أَنه صَحَّ عَن عَائِشَة تحنيط الْمَيِّت الْمحرم إِذا مَاتَ، وتطييبه وتخمير رَأسه، وَعَن جَابر عَن أبي جَعْفَر، قَالَ: الْمحرم يُغطي رَأسه وَلَا يكْشف. وَفِيه: جَوَاز الْكَفَن فِي ثَوْبَيْنِ، وَهُوَ كفن الْكِفَايَة، وكفن الضَّرُورَة وَاحِد. وَفِيه: فِي قَوْله: (فِي ثَوْبَيْنِ) اسْتِدْلَال بَعضهم على إِبْدَال ثِيَاب الْمحرم. وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الْحَج بِلَفْظ: فِي ثَوْبه) ، وللنسائي من طَرِيق يُونُس بن نَافِع عَن عَمْرو بن دِينَار: (فِي ثوبيه الَّذين أحرم فيهمَا) . قلت: ظَاهر متن الحَدِيث هُنَا يدل على صِحَة اسْتِدْلَال بَعضهم على إِبْدَال ثِيَاب الْمحرم، وَهَذَا يدل على أَنه خرج من(8/51)
الْإِحْرَام، وَلَا يضرنا رِوَايَة: ثوبيه، وَلَا رِوَايَة النَّسَائِيّ، لِأَن رِوَايَة: ثَوْبَيْنِ، أقوى لكَون البُخَارِيّ أخرجه من ثَلَاث طرق. وَفِيه: غسله بالسدر، وَهَذَا يدل على أَنه خرج من الْإِحْرَام، وَعكس صَاحب التَّوْضِيح فَقَالَ: غسله بالسدر يدل على أَنه جَائِز للْمحرمِ. وَفِيه: رد على مَالك وَأبي حنيفَة وَآخَرين حَيْثُ منعُوهُ. قلت: ظَاهر الحَدِيث يرد عَلَيْهِ كَلَامه، لِأَن الأَصْل عدم جَوَاز غسل الْمحرم بالسدر، فلولا أَنه خرج عَن لإحرام مَا أَمر بِغسْلِهِ بالسدر. وَفِيه: إِطْلَاق الْوَاقِف على الرَّاكِب، وَالرجل لم يُوقف على اسْمه، وَكَانَ وُقُوعه عَن رَاحِلَته عِنْد الصخرات موقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن حزم وَفِيه: أَن الْكَفَن من رَأس المَال. وَفِيه: أَن الْمحرم إِذا مَاتَ لَا يكمل عَلَيْهِ غَيره كَالصَّلَاةِ، وَقد وَقع أجره على الله، وَمِنْه أَخذ بَعضهم أَن النِّيَابَة فِي الْحَج لَا تجوز لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر أحدا أَن يكمل عَن هَذَا الموقوص أَفعَال الْحَج، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من النّظر. وَفِيه: أَن إِحْرَام الرجل فِي الرَّأْس دون الْوَجْه. وَفِيه: أَن من شرع فِي طَاعَة ثمَّ حَال بَينه وَبَين إِتْمَامهَا الْمَوْت يُرْجَى لَهُ أَن الله تَعَالَى يَكْتُبهُ فِي الْآخِرَة من أهل ذَلِك الْعَمَل، ويقبله مِنْهُ إِذا صحت النِّيَّة، وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله} (النِّسَاء: 001) . الْآيَة.
02 - (بابُ الحُنُوطِ لِلْمَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الحنوط للْمَيت، وَقد مر تَفْسِير الحنوط.
6621 - حدَّثنا قتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عَنْ أيُّوبَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ واقِفٌ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَةَ إذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فأقْصَعَتْهُ أوْ قَالَ فأفعَصتْهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تُحَنِّطُوهِ وَلاَ تخَمِّرُوا رأْسَهُ فإنَّ الله يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تحنطوه) ، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه هُوَ الحَدِيث السَّابِق سندا ومتنا، غير أَن شَيْخه هُنَا: قُتَيْبَة ابْن سعد، وَهُنَاكَ: أَبُو النُّعْمَان.
قَوْله: (فأقصعته أَو قَالَ: فأفعصته) شكّ من الرَّاوِي من ابْن عَبَّاس، فَالْأول: بِتَقْدِيم الْقَاف على الصَّاد الْمُهْملَة، وَالثَّانِي: بِتَقْدِيم الْعين على الصَّاد، من قعاص الْغنم.
12 - (بابٌ كيْفَ يُكَفَّنُ المحْرِمُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ يُكفن الْمحرم إِذا مَاتَ، وَلَيْسَت هَذِه التَّرْجَمَة بموجودة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، قيل: ضمن هَذِه التَّرْجَمَة الِاسْتِفْهَام عَن الْكَيْفِيَّة، مَعَ أَنَّهَا مبينَة، لَكِنَّهَا لما كَانَت يحْتَمل أَن تكون خَاصَّة بذلك الرجل وَأَن تكون عَامَّة لكل محرم آثر المُصَنّف الِاسْتِفْهَام، وَقَالَ بَعضهم: يظْهر أَن المُرَاد بقوله: كَيفَ يُكفن؟ أَي: كَيْفيَّة التَّكْفِين؟ وَلم يرد الإستفهام. وَكَيف يظنّ بِهِ أَنه مُتَرَدّد فِيهِ وَقد جزم قبل ذَلِك بِأَنَّهُ عَام فِي حق كل أحد حَيْثُ ترْجم بِجَوَاز التَّكْفِين فِي ثَوْبَيْنِ؟ قلت: قَوْله لم يرد بِهِ الِاسْتِفْهَام، غير صَحِيح، لِأَن: كَيفَ، للاستفهام الْحَقِيقِيّ فِي الْغَالِب، وَمَعْنَاهُ السُّؤَال عَن الْحَال، وَعدم تردد البُخَارِيّ فِي: بَاب التَّكْفِين فِي ثَوْبَيْنِ، لَا يسْتَلْزم عدم تردده فِي هَذَا الْبَاب.
29 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان قَالَ أخبرنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رجلا وقصه بعيره وَنحن مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ محرم فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تمسوه طيبا وَلَا تخمروا رَأسه فَإِن الله يَبْعَثهُ يَوْم الْقِيَامَة ملبدا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَلَا تخمروا رَأسه " وَهُوَ مثل الحَدِيث الأول غير أَن سَنَده عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل عَن ابْن عوَانَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي وَيُقَال الْكِنْدِيّ الوَاسِطِيّ عَن أبي بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جَعْفَر بن أبي(8/52)
وحشية قَوْله " وَنحن " الْوَاو فِيهِ للْحَال وَكَذَلِكَ الْوَاو فِي " وَهُوَ محرم " قَوْله " وَلَا تمسوه " بِضَم التَّاء وَكسر الْمِيم من الإمساس قَوْله " ملبدا " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " ملبيا " كَمَا فِي الرِّوَايَة الأولى وَالثَّانيَِة وَهُوَ من التلبيد وَهُوَ أَن يَجْعَل الْمحرم فِي رَأسه شَيْئا من الصمغ ليلتصق شعره فَلَا يشعث فِي الْإِحْرَام وَأنكر عِيَاض رِوَايَة التلبيد وَقَالَ لَيْسَ لَهُ معنى (قلت) لَهُ معنى وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يَبْعَثهُ على هَيئته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا
30 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو وَأَيوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رجل وَاقِف مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَة فَوَقع عَن رَاحِلَته. قَالَ أَيُّوب فوقصته وَقَالَ عَمْرو فأقعصته فَمَاتَ فَقَالَ اغسلوه بِمَاء وَسدر وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تحنطوه وَلَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ أَيُّوب يُلَبِّي. وَقَالَ عَمْرو ملبيا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَلَا تخمروا وَجهه " وَهَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن عَبَّاس عَن مُسَدّد إِلَى آخِره وَعَمْرو بِفَتْح الْعين هُوَ ابْن دِينَار وَحَمَّاد بن زيد يرويهِ عَن عَمْرو وَعَن أَيُّوب جَمِيعًا وَكِلَاهُمَا يرويان عَن سعيد بن جُبَير قَوْله " كَانَ رجل وَاقِف " بِالرَّفْع لِأَن كَانَ تَامَّة ويروى " وَاقِفًا " بِالنّصب على أَنَّهَا نَاقِصَة قَوْله " قَالَ أَيُّوب فوقصته " أَي قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فِي رِوَايَته " فوقصته " بِالْقَافِ بعْدهَا الصَّاد من الوقص وَهُوَ كسر الْعُنُق كَمَا ذكرنَا قَوْله " وَقَالَ عَمْرو " أَي قَالَ عَمْرو بن دِينَار فِي رِوَايَة " فأقعصته " بِالْقَافِ بعْدهَا الْعين ثمَّ الصَّاد المهملتان من الإقعاص وَهُوَ إعجال الْهَلَاك كَمَا قُلْنَا فِيمَا مضى مستقصى قَوْله " قَالَ أَيُّوب " أَي قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ فِي رِوَايَته " يُلَبِّي " بِصِيغَة الْمُضَارع الْمَبْنِيّ للْفَاعِل وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار فِي رِوَايَته " ملبيا " على صِيغَة اسْم الْفَاعِل الْمَنْصُوب على الْحَال وَالْفرق بَينهمَا أَن يُلَبِّي يدل على تجدّد التَّلْبِيَة مستمرا وملبيا يدل على ثُبُوتهَا -
22 - (بابُ الكَفَنِ فِي القَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أوْ لاَ يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كفن الْمَيِّت حَال كَونه فِي الْقَمِيص الَّذِي يكف، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْكَاف وَتَشْديد الْفَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي فِي الْقَمِيص الَّذِي خيطت حَاشِيَته أَولا، يكف على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا أَي: أَو لَمْ تخط حَاشِيَته. وكف الثَّوَاب هُوَ خياطَة حَاشِيَته، وكففت الثَّوْب أَي: خطت حَاشِيَته. وَقَالَ ابْن التِّين: ضَبطه بَعضهم: بِضَم الْيَاء وَفتح الْكَاف وَتَشْديد الْفَاء، وَضَبطه بَعضهم: بِفَتْح الْيَاء وَضم الْكَاف وَتَشْديد الْفَاء، وَقيل: بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْكَاف وَكسر الْفَاء من الْكِفَايَة، وَأَصلهَا يَكْفِي أَو لَا يَكْفِي. وَقيل: هَذَا لحن، إِذْ لَا مُوجب لحذف الْيَاء، وَقد جزم الْمُهلب بِأَنَّهُ الصَّوَاب، وَأَن الْيَاء سَقَطت من الْكَاتِب غَلطا. قلت: لَا ينْسب هَذَا إِلَى غلط من الْكَاتِب، وَإِنَّمَا سُقُوط الْيَاء من مثل هَذَا من غير مُوجب اكْتِفَاء بالكسرة جَاءَ من بعض الْعَرَب، وَفِي نُسْخَة صَاحب (التَّلْوِيح) : بَاب الْكَفَن فِي الْقَمِيص، وَمن كفن بِغَيْر قَمِيص. وَقَالَ: كَذَا فِي نُسْخَة سَمَاعنَا، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْكَفَن فِي الْقَمِيص الَّذِي يكف أَو لَا يكف. وَقَالَ ابْن بطال: صَوَابه يَكْفِي أَو لَا يَكْفِي بِإِثْبَات الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: طَويلا كَانَ الثَّوْب أَو قَصِيرا، فَإِنَّهُ يجوز الْكَفَن فِيهِ.
9621 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافَعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ عَبْدَ الله بنِ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُهُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ يَا رسولَ الله أعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ وَصَلِّ علَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ فأعْطَاهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصَهُ فَقَالَ آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْه فآذَنَهُ فَلَمَّا أرَادَ أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ ألَيْسَ الله نهَاكَ أنْ تُصَلِّيَ عَلَى المُنَافِقِينَ فَقَالَ أَنا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ قَالَ الله تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُم فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَدا.
.(8/53)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ اشتماله على الْكَفَن فِي الْقَمِيص، وَذَلِكَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْطى قَمِيصه لعبد الله ابْن أبي وكفن فِيهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس وَفِي التَّوْبَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأبي قدامَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بشر بكر بن خلف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن عبد الله بن أبي) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن سلول رَأس الْمُنَافِقين، وَأبي هُوَ: أَبُو مَالك بن الْحَارِث بن عبيد، وسلول امْرَأَة من خُزَاعَة، وَهِي أم أبي مَالك بن الْحَارِث وَأم عبد الله ابْن أبي: خَوْلَة بنت الْمُنْذر بن حرَام من بني النجار، وَكَانَ عبد الله سيد الْخَزْرَج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ عبد الله هَذَا هُوَ الَّذِي تولى كبره فِي قصَّة الصديقة، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. وَقَالَ: لَا تنفقوا عَليّ من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا، وَرجع يَوْم أحد بِثلث الْعَسْكَر إِلَى الْمَدِينَة بعد أَن خَرجُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (لما توفّي) قَالَ الْوَاقِدِيّ: مرض عبد الله بن أبي فِي لَيَال بَقينَ من شَوَّال، وَمَات فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع منصرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تَبُوك، وَكَانَ مَرضه عشْرين لَيْلَة، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ دخل عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، فَقَالَ: قد نهيتك عَن حب الْيَهُود، فَقَالَ: قد أبْغضهُم أسعد بن زُرَارَة فَمَا نَفعه، ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله لَيْسَ هَذَا بِحِين عتاب هُوَ الْمَوْت فَإِن مت فَاحْضُرْ غسْلي وَأَعْطِنِي قَمِيصك الَّذِي يَلِي جسدك فَكَفِّنِّي فِيهِ وصل عَليّ واستغفر لي، فَفعل ذَلِك بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْحَاكِم: كَانَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصَانِ، فَقَالَ عبد الله: وَأَعْطِنِي قَمِيصك الَّذِي يَلِي جسدك فَأعْطَاهُ إِيَّاه. وَفِي حَدِيث الْبَاب أَن ابْنه هُوَ الَّذِي أعطَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه على مَا يَجِيء الْآن. قَوْله: (جَاءَ ابْنه) أَي: ابْن عبد الله بن أبي، وَكَانَ اسْمه: الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره بَاء أَيْضا، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَبْد الله كاسم أَبِيه، وَهُوَ من فضلاء الصَّحَابَة وخيارهم، شهد الْمشَاهد وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ أَشد النَّاس على أَبِيه، وَلَو أذن لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ لضرب عُنُقه. قَوْله: (فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصك) ، الْقَائِل هُوَ عبد الله بن عبد الله بن أبي. قَوْله: (أكَفنهُ فِيهِ) أَي: أكفن عبد الله بن أبي فِيهِ. قَوْله: (فَأعْطَاهُ قَمِيصه) أَي: أعطي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عبد الله قَمِيصه، وَهَذَا صَرِيح فِي أَن ابْنه هُوَ الَّذِي أعْطى لَهُ رَسُول الله قَمِيصه، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَنه أخرج بَعْدَمَا أَدخل حفرته فَوَضعه على ركبته وَنَفث فِيهِ من رِيقه وَألبسهُ قَمِيصه، وَكَانَ أهل عبد الله بن أبي خَشوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَشَقَّة فِي حُضُوره، فبادروا إِلَى تَجْهِيزه قبل وُصُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا وصل وجدهم قد دلوه فِي حفرته، فَأَمرهمْ بِإِخْرَاجِهِ إنجازا لوعده فِي تكفينه فِي الْقَمِيص وَالصَّلَاة عَلَيْهِ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ: إِن عبد الله بن أبي هُوَ الَّذِي أعطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَمِيص، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَن ابْنه هُوَ الَّذِي أعطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة جَابر أَنه ألبسهُ قَمِيصه بَعْدَمَا أخرجه من حفرته؟ قلت: رِوَايَة الْوَاقِدِيّ وَغَيره لَا تقاوم رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأما التَّوْفِيق بَين رواتي ابْن عمر وَجَابِر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَقيل: إِن معنى قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر: فَأعْطَاهُ، أَي: أنعم لَهُ بذلك، فَأطلق على الْوَعْد اسْم الْعَطِيَّة مجَازًا لتحَقّق وُقُوعهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ، يجوز أَن يكون أعطَاهُ قميصين قَمِيصًا للكفن ثمَّ أخرجه فألبسه غَيره، وَالله أعلم. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي دفع قَمِيصه لَهُ وَهُوَ كَانَ رَأس الْمُنَافِقين؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة. فَقيل: كَانَ ذَلِك إِكْرَاما لوَلَده. وَقيل: لِأَنَّهُ مَا سُئِلَ شَيْئا فَقَالَ: لَا. وَقيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن قَمِيصِي لن يُغني عَنهُ شَيْئا من الله، إِنِّي أُؤَمِّل من أَبِيه أَن يدْخل فِي الأسلام بِهَذَا السَّبَب، فروى أَنه أسلم من الْخَزْرَج ألف مَا رَأَوْهُ يطْلب الِاسْتِشْفَاء بِثَوْب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، وَقَالَ أَكْثَرهم: إِنَّمَا ألبسهُ قَمِيصه مُكَافَأَة لما صنع فِي إلباس الْعَبَّاس عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه يَوْم بدر، وَكَانَ الْعَبَّاس طَويلا فَلم يَأْتِ عَلَيْهِ إلاَّ قَمِيص ابْن أبي، وروى عبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يخدع إنْسَانا قطّ، غير أَن ابْن أبي قَالَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة كلمة حَسَنَة، وَهِي: أَن الْكفَّار قَالُوا: لَو طفت أَنْت بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَا، لي فِي رَسُول الله إسوة حَسَنَة، فَلم يطف. قَوْله: (فَقَالَ: آذني) أَي: أعلمني، وَهُوَ أَمر من: آذن وَيُؤذن إِيذَانًا. قَوْله: (أصلِّ عَلَيْهِ) يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: الْجَزْم جَوَابا لِلْأَمْرِ، وَعدم الْجَزْم استئنافا.(8/54)
قَوْله: (فَقَالَ: أَلَيْسَ الله نهاك؟) أَي: فَقَالَ عمر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلَيْسَ الله نهاك أَن تصلي على الْمُنَافِقين؟ وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره نهاك من الصَّلَاة عَلَيْهِم، أَخذ ذَلِك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . وَبِهَذَا يدْفع من يسْتَشْكل فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا فَإِن قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} (التَّوْبَة: 48) . نزل بعد ذَلِك كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاق حَدِيث الْبَاب. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاة؟ قلت: لما كَانَت الصَّلَاة تَتَضَمَّن الاسْتِغْفَار وَغَيره أَولهَا على ذَلِك، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الإستغفار وَالدُّعَاء يُسمى صَلَاة. قَوْله: (أَنا بَين خيرتين) ، تَثْنِيَة خيرة على وزن: عنبة إسم من قَوْلك: إختاره الله، أَي: أَنا مُخَيّر بَين أَمريْن وهما الاسْتِغْفَار وَعَدَمه، فإيهما أردْت إختاره. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا اللَّفْظ أَعنِي قَوْله: (أَنا بَين خيرتين) ، غير مَحْفُوظ لِأَنَّهُ خلاف مَا رَوَاهُ أنس، وَأرى رِوَايَة أنس هِيَ المحفوظة، لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: (أَلَيْسَ قد نهاك الله تَعَالَى أَن تصلي على الْمُنَافِقين) ؟ ثمَّ قَالَ: فَنزلت: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} (التَّوْبَة: 48) . جعل النَّهْي بعد قَوْله: (أَلَيْسَ قد نهاك) ، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) بل هُوَ أَي: قَوْله: (أَنا بَين خيرتين) مَحْفُوظ، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فهم النَّهْي من الاسْتِغْفَار لاشتمالها عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الصَّحِيح مَا رَوَاهُ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك رَجَاء التَّخْفِيف. قَوْله: {قَالَ اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة} (التَّوْبَة: 48) . ذكر السّبْعين على التكثير. وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لأَسْتَغْفِرَن لَهُم أَكثر من سبعين فَنزلت: {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم} (المُنَافِقُونَ: 6) . الْآيَة، فَتَركه. واستغفار الشَّارِع لسعة حمله عَمَّن يُؤْذِيه أَو لِرَحْمَتِهِ عِنْد جَرَيَان الْقَضَاء عَلَيْهِم، أَو إِكْرَاما لوَلَده. وَقيل: معنى الْآيَة الشَّرْط، أَي: إِن شِئْت فَاسْتَغْفر وَإِن شِئْت فَلَا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {قل انفقوا طَوْعًا أَو كرها لن يتَقَبَّل مِنْكُم} (التَّوْبَة: 35) . وَقيل: مَعْنَاهُ هما سَوَاء، وَقيل: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي الْيَأْس. وَقَالَ الْفراء: لَيْسَ بِأَمْر، إِنَّمَا هُوَ على تَأْوِيل الْجَزَاء. وَقَالَ ابْن النّحاس: مِنْهُم من قَالَ: {اسْتغْفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . مَنْسُوخ بقوله: {وَلَا تصل} (التَّوْبَة: 48) . وَمِنْهُم من قَالَ: لَا، بل هِيَ على التهديد، وتوهم بَعضهم أَن قَوْله: {لَا تصل} (التَّوْبَة: 48) . نَاسخ لَهُ لقَوْله: {وصل عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . وَهُوَ غلط، فَإِن تِلْكَ نزلت فِي أبي لبَابَة وَجَمَاعَة مَعَه لما ربطوا أنفسهم لتخلفهم عَن تَبُوك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على الْكَفَن فِي الْقَمِيص، وَسَوَاء كَانَ الْقَمِيص مكفوف الْأَطْرَاف أَو غير مكفوف. وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الْقَمِيص لَا يسوغ إلاَّ إِذا كَانَت أَطْرَافه غير مَكْفُوفَة. أَو كَانَ غير مزرر ليشبه الرِّدَاء، ورد البُخَارِيّ ذَلِك بالترجمة الْمَذْكُورَة وَفِي (الخلافيات) للبيهقي، من طَرِيق ابْن عون، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد بن سِيرِين يسْتَحبّ أَن يكون قَمِيص الْمَيِّت كقميص الْحَيّ مكففا مزررا. وَفِيه: النَّهْي عَن الصَّلَاة على الْكَافِر الْمَيِّت، وَهل يجوز غسله وتكفينه وَدَفنه أم لَا؟ فَقَالَ ابْن التِّين: من مَاتَ لَهُ وَالِد كَافِر لَا يغسلهُ وَلَده الْمُسلم وَلَا يدْخلهُ قَبره إلاَّ أَن يخَاف أَن يضيع فيواريه، نَص عَلَيْهِ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وروى أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ أَن أَبَاهُ مَاتَ، فَقَالَ: إذهب فواره، وَلم يَأْمُرهُ بِغسْلِهِ، وروى أَنه أمره بِغسْلِهِ، وَلَا أصل لَهُ، كَمَا قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يجوز أَن يقوم على قبر وَالِده الْكَافِر لإصلاحه وَدَفنه، قَالَ: وَبِذَلِك صَحَّ الْخَبَر، وَعمل بِهِ أهل الْعلم. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا بَأْس أَن يحضرهُ ويلي أَمر تكفينه، فَإِذا كفن دَفنه. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَإِن مَاتَ الْكَافِر وَله ابْن مُسلم يغسلهُ ويكفنه ويدفنه، بذلك أُمر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي حق أَبِيه أبي طَالب، وَهَذَا أخرجه ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ، حَدثنِي مُعَاوِيَة بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رَافع عَن أَبِيه عَن جده عَن عَليّ، قَالَ: لما أخْبرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَوْت أبي طَالب، بَكَى ثمَّ قَالَ لي: إذهب فاغسله وكفنه، وواره. قَالَ: فَفعلت ثمَّ أَتَيْته، فَقَالَ لي: إذهب فاغتسل. قَالَ: وَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَغْفر لَهُ أَيَّامًا، وَلَا يخرج من بَيته حَتَّى نزل جِبْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِهَذِهِ الْآيَة: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : لَكِن يغسل غسل الثَّوْب النَّجس ويلف فِي خرقَة من غير مُرَاعَاة سنة التَّكْفِين من اعْتِبَار عدد وَغير حنوط، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك وَأحمد: لَيْسَ لوَلِيّ الْكَافِر غسله وَلَا دَفنه، وَلَكِن قَالَ مَالك: لَهُ مواراته. وَفِيه: فَضِيلَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَلَيْسَ الله نهاك أَن تصلي على الْمُنَافِقين؟ جَوَاز الشَّهَادَة على الأنسان بِمَا فِيهِ فِي الْحَيَاة وَالْمَوْت عِنْد الْحَاجة، وَإِن كَانَت مَكْرُوهَة. وَفِيه: جَوَاز الْمَسْأَلَة لمن عِنْده جدة تبركا.(8/55)
0721 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرٍ وسَمِعَ جابِرا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ أتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا دُفِنَ فأخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَألْبَسَهُ قَمِيصَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (وَألبسهُ قَمِيصه) وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد النَّهْرِي الْكُوفِي، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز: عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي اللبَاس: عَن عبد الله بن عُثْمَان، وَفِي الْجِهَاد: عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأحمد بن عَبدة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعبد الْجَبَّار بن عَلَاء وَعبد الله بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ فرقهم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل و (عبد الله) بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (بَعْدَمَا دفن) ، وَهَذَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا جَاءَهُ إلاَّ بعد أَن دفنوه، فَلذَلِك قَالَ: فَأخْرجهُ، أَي: من قَبره، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن أهل عبد الله بن أبي خَشوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَشَقَّة فِي حُضُوره فبادروا إِلَى تَجْهِيزه قبل وُصُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فنفث فِيهِ من رِيقه) . وَفِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) : لما مَاتَ عبد الله بن أبي انْطلق ابْنه ليؤذن بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمك؟ قَالَ: الْحباب. قَالَ: أَنْت عبد الله، والحباب شَيْطَان، ثمَّ شهده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَفث فِي جلده وَدَلاهُ فِي قَبره، فَمَا لبث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ يَسِيرا حَتَّى نزلت عَلَيْهِ: {وَلَا تصلِّ على أحد مِنْهُم} (التَّوْبَة: 48) . الْآيَة، وَفِي (تَفْسِير أبي بكر بن مرْدَوَيْه) من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن عمر: جَاءَ عبد الله بن عبد الله فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن عبد الله قد وضع مَوضِع الْجَنَائِز، فَانْطَلق فصلى عَلَيْهِ. قَوْله: (وَألبسهُ قَمِيصه) ، قد مر فِي حَدِيث ابْن عمر أَن ابْن عبد الله بن أبي جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ قَمِيصه فَأعْطَاهُ، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ وَجه التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يجوز أَن يكون جَابر شَاهد من ذَلِك مَا لم يُشَاهِدهُ ابْن عمر، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَانَ البُخَارِيّ فهم من قَول جَابر: أخرج بعد دَفنه فِيهِ وَألبسهُ قَمِيصه أَنه كَانَ دفن بِغَيْر قَمِيص، فَلهَذَا بوب: وَمن دفن بِغَيْر قَمِيص قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا يتمشى على التَّرْجَمَة الَّتِي فِي نسخته الَّتِي ادّعى أَنَّهَا كَذَلِك فِي نُسْخَة سَمَاعه، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَذكرنَا أَيْضا أَنه يجوز أَن يكون أعطَاهُ قميصين، وَيجوز أَن يكون خلع عَنهُ الْقَمِيص الَّذِي كفن فِيهِ وَألبسهُ قَمِيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز إِخْرَاج الْمَيِّت من قَبره لحَاجَة أَو لمصْلحَة وَنَفث الرِّيق فِيهِ، قَالَه الْكرْمَانِي. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهُوَ دَلِيل لِابْنِ الْقَاسِم الَّذِي يَقُول بِإِخْرَاجِهِ إِذا لم يصل عَلَيْهِ للصَّلَاة مَا لم يخْش التَّغَيُّر. وَقَالَ ابْن وهب: إِذا سوى عَلَيْهِ التُّرَاب فَاتَ إِخْرَاجه. وَقَالَهُ يحيى بن يحيى: وَقَالَ أَشهب: إِذا أهيل عَلَيْهِ التُّرَاب فَاتَ إِخْرَاجه وَيصلى عَلَيْهِ فِي قَبره. وَفِي (الْمَبْسُوط) و (الْبَدَائِع) : لَو وضع الْمَيِّت فِي قَبره لغير الْقبْلَة أَو على شقَّه الْأَيْسَر أَو جعل رَأسه فِي مَوضِع رجلَيْهِ وأهيل عَلَيْهِ التُّرَاب لَا ينبش قَبره لِخُرُوجِهِ من أَيْديهم، فَإِن وضع اللَّبن وَلم يهل التُّرَاب عَلَيْهِ ينْزع اللَّبن وتراعى السّنة فِي وَضعه، وَيغسل إِن لم يكن غسل. وَهُوَ قَول أَشهب، وَرِوَايَة ابْن نَافِع عَن مَالك، وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز نبشه إِذا وضع لغير الْقبْلَة.
وَأما نقل الْمَيِّت من مَوضِع إِلَى مَوضِع فكرهه جمَاعَة وَجوزهُ آخَرُونَ، فَقيل: إِن نقل ميلًا أَو ميلين فَلَا بَأْس بِهِ. وَقيل: مَا دون السّفر. وَقيل: لَا يكره السّفر أَيْضا. وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أَمر بقبور كَانَت عِنْد الْمَسْجِد أَن تحول إِلَى البقيع، وَقَالَ: توسعوا فِي مَسْجِدكُمْ. وَعَن مُحَمَّد أَنه إِثْم ومعصية. وَقَالَ الْمَازرِيّ: ظَاهر مَذْهَبنَا جَوَاز نقل الْمَيِّت من بلد إِلَى بلد. وَقد مَاتَ سعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد بالعقيق ودفنا بِالْمَدِينَةِ. وَفِي (الْحَاوِي) قَالَ الشَّافِعِي: لَا أحب نَقله إلاَّ أَن يكون بِقرب مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو بَيت الْمُقَدّس، فَاخْتَارَ إِن ينْقل إِلَيْهَا لفضل الدّفن فِيهَا. وَقَالَ الْبَغَوِيّ والبندنيجي: يكره نَقله. وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن والدارمي وَالْبَغوِيّ: يحرم نَقله. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الْأَصَح، وَلم ير أَحْمد بَأْسا أَن يحول الْمَيِّت من قَبره إِلَى غَيره، وَقَالَ: قد نبش معَاذ امْرَأَته، وحول طَلْحَة وَخَالف الْجَمَاعَة فِي ذَلِك.
32 - (بَاب الكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْكَفَن بِغَيْر قَمِيص، وَهَذِه التَّرْجَمَة مَوْجُودَة عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند الْمُسْتَمْلِي سَاقِطَة.(8/56)
1721 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كُفِّنَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَلاثَةِ أثْوَابٍ سَحُولٍ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَميصٌ وَلاَ عَمَامةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة) ، هَذِه التَّرْجَمَة تَتَضَمَّن التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا الَّتِي صورتهَا: وَمن كفن بِغَيْر قَمِيص، كَمَا هِيَ فِي بعض النّسخ. وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
قَوْله: (سحول) ، بِضَم السِّين والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَفِي آخِره لَام: جمع سحل، وَهُوَ الثَّوْب الْأَبْيَض النقي وَهِي صفة لأثواب. قَوْله: (كُرْسُف) ، بِضَم الْكَاف: هُوَ الْقطن، وَهُوَ بَيَان لسحول، وَالْمعْنَى: ثَلَاثَة أَثوَاب بيض نقية من قطن، وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: لِمَ لَا تَجْعَلهُ اسْم الْقرْيَة؟ قلت: لِأَن تَقْدِيره حِينَئِذٍ من سحول وَحذف حرف الْجَرّ من الِاسْم الصَّرِيح غير فصيح، وَلَو صحت الرِّوَايَة بِالْإِضَافَة فَهُوَ ظَاهر. انْتهى. قلت: هَذَا السُّؤَال مَعَ جَوَابه غير موجهين، لِأَن المُرَاد من السحول الثِّيَاب الْبيض كَمَا قُلْنَا، وَقد تقدم فِي: بَاب الثِّيَاب الْبيض للكفن، بِلَفْظ: كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب يَمَانِية بيض سحُولِيَّة من كُرْسُف، فالسحولية هَهُنَا، بِفَتْح السِّين نِسْبَة إِلَى سحول قَرْيَة بِالْيمن، والسحول هَهُنَا، بِضَم السِّين، وَقَالَ الْأَزْهَرِي، بِفَتْح السِّين: الْمَدِينَة، وبالضم: الثِّيَاب الْبيض، وَقد تعسف الْكرْمَانِي فِيهِ لعدم إمعانه فِي الِاطِّلَاع عَلَيْهِ.
42 - (بابُ الكَفَنِ بِلاَ عِمَامَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْكَفَن بِلَا عِمَامَة، هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَعند الْمُسْتَمْلِي: بَاب الْكَفَن فِي الثِّيَاب الْبيض، فَالْأول أولى وأرجح لِئَلَّا تَتَكَرَّر التَّرْجَمَة بِلَا فَائِدَة، وَفِي بعض النّسخ لَا تُوجد هَذِه التَّرْجَمَة أصلا.
3721 - حدَّثنا أسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ..
قد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الثِّيَاب الْبيض للكفن، أخرجه عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن هِشَام. . إِلَى آخِره. وَفِيه زِيَادَة وَهِي: يَمَانِية، بعد قَوْله: (أَثوَاب) ، وَلَفظ: (كُرْسُف) بعد قَوْله: (سحُولِيَّة) . وَهَذَا أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
52 - (بابُ الكَفَنِ مِنْ جَمِيعِ المَالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن كفن الْمَيِّت من جَمِيع المَال، يَعْنِي لَا من الثُّلُث كَمَا ذهب إِلَيْهِ خلاس بن عمر، وَذكر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، أَنه أحد قولي سعيد بن الْمسيب، وَقَول طَاوُوس فَإِنَّهُمَا قَالَا: الْكَفَن من الثُّلُث، وَعَن طَاوُوس: من الثُّلُث إِن كَانَ قَلِيلا.
وَبِهِ قالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بنُ دِينَارٍ وقَتَادَةُ
أَي: يكون الْكَفَن من جَمِيع المَال. قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح، وَوَصله الدَّارمِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج عَنهُ،(8/57)
قَالَ: الحنوط والكفن من رَأس المَال. قَوْله: (وَالزهْرِيّ) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَوصل قَوْله عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة قَالَا: الْكَفَن من جَمِيع المَال. قَوْله: (وَعَمْرو بن دِينَار) ، عطف على قَوْله: (وَالزهْرِيّ) وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن ابْن جريج عَن عَطاء: الْكَفَن والحنوط من رَأس المَال. قَالَ: وَقَالَهُ عمر بن دِينَار. قَوْله: (وَقَتَادَة) هُوَ ابْن دعامة السدُوسِي، وَهُوَ أَيْضا قَالَ مثل مَا قَالَ عَطاء وَالزهْرِيّ، وَقد مر الْآن.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ الحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ المَالِ
ذكر عبد الرَّزَّاق عَنهُ هَكَذَا، وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يُبْدَأُ بِالكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالوَصِيَّةِ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَوصل قَوْله الدَّارمِيّ، وَإِنَّمَا يبْدَأ بالكفن أَولا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يستفسر فِي حَدِيث حَمْزَة وَمصْعَب بن عمر بِأَنَّهُ عَلَيْهِمَا دين، وَلَو لم يكن مقدما على الدّين لاستفسر لِأَنَّهُ مَوضِع الْحَاجة إِلَى الْبَيَان، وسكوت الشَّارِع فِي مَوضِع الْحَاجة إِلَى الْبَيَان بَيَان. فَإِن قلت: يرد عَلَيْهِ العَبْد الْجَانِي والمرهون وَالْمُسْتَأْجر فِي بعض الرِّوَايَات، وَالْمُشْتَرِي قبل الْقَبْض إِذا مَاتَ المُشْتَرِي قبل أَدَاء الثّمن، فَإِن ولي الْجِنَايَة وَالْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَالْبَائِع أَحَق بِالْعينِ من تجهيز الْمَيِّت وتكفينه، فَإِن فضل شَيْء من ذَلِك يصرف إِلَى التَّجْهِيز والتكفين. قلت: هَذَا كُله لَيْسَ بتركة لِأَن التَّرِكَة مَا يتْركهُ الْمَيِّت من الْأَمْوَال صافيا عَن تعلق حق الْغَيْر بِعَيْنِه، وَهَهُنَا تعلق بِعَيْنِه حق الْغَيْر قبل أَن يكون تَرِكَة.
وَقَالَ سُفْيَانُ أجْرُ القَبْرِ والغَسْلِ هُوَ مِنَ الكَفَنِ
سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ قَوْله: (أجر الْقَبْر) أَي: أجر حفر الْقَبْر، وَأجر الْغسْل من جنس الْكَفَن، أَو: من بعض الْكَفَن، وَالْغَرَض: أَن حكمه حكم الْكَفَن فِي أَنه من رَأس المَال لَا من الثُّلُث.
4721 - حدَّثنا حْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ. قَالَ أُتِيَ عَبْدُ الرَّحمانِ بنُ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَوْما بِطَعَامِهِ فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وكانَ خَيْرا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلاَّ بُرْدَةٌ وَقُتِلَ حَمْزَةُ أوْ رَجلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إلاَّ بُرْدَةٌ لَقَدْ خَشِيتُ أنْ تَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم يُوجد لَهُ مَا يُكفن فِيهِ إلاَّ بردة) وكفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر فِي بردته، وَحَمْزَة ابْن عبد الْمطلب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بردته، وَلم يلْتَفت إِلَى غَرِيم وَلَا إِلَى وَصِيَّة وَلَا إِلَى وَارِث، وَبَدَأَ بالتكفين على ذَلِك كُله، فَعلم أَن التَّكْفِين مقدم وَأَنه من جَمِيع المَال لِأَن جَمِيع مَا لَهما كَانَ لكل مِنْهُمَا بردة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ الْأَزْرَقِيّ أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال الزرقي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، مر فِي: بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الثَّالِث: أَبوهُ سعد بن إِبْرَاهِيم، كَانَ قَاضِي الْمَدِينَة، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة،. الرَّابِع: أَبُو سعد إِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أحد الْعشْرَة المبشرة، أسلم قَدِيما على يَد الصّديق وَهَاجَر الهجرتين وَشهد الْمشَاهد وَثَبت يَوْم أحد وجرح عشْرين جِرَاحَة وَأكْثر، وَصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلفه يَوْم تَبُوك، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدفن فِي البقيع.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: الثَّلَاثَة الْبَقِيَّة مدنيون. وَفِيه: إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه عَن جده عَن جد أَبِيه، تَوْضِيحه إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه سعد، وَسعد يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم، وَإِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه عبد الرَّحْمَن. فإبراهيم يروي عَن أَبِيه عَن جده إِبْرَاهِيم. ويروي عَن جد أَبِيه عبد الرَّحْمَن. فَافْهَم.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَفِي الْمَغَازِي عَن عَبْدَانِ، كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم بِهِ.(8/58)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُتِي) ، بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَعبد الرَّحْمَن بِالرَّفْع لِأَنَّهُ نَائِب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (قتل) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا، وَمصْعَب بن عُمَيْر مَرْفُوع كَذَلِك، وَهُوَ بِضَم الْمِيم، وَسُكُون الصَّاد وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَعُمَيْر: بِضَم الْعين مصغر عَمْرو: الْقرشِي الْعَبدَرِي، كَانَ من أجلة الصَّحَابَة، بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن ويفقههم فِي الدّين، وَهُوَ أول من جمع الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ قبل الْهِجْرَة، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة من أنعم النَّاس عَيْشًا وألينهم لباسا وَأَحْسَنهمْ جمالاً. فَلَمَّا أسلم زهد فِي الدُّنْيَا وتقشف وتحشف، وَفِيه نزل: {رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 32) . قتل يَوْم أحد شَهِيدا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَكَانَ خيرا مني) ، يَعْنِي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: كَانَ مُصعب خيرا مني، إِنَّمَا قَالَ هَذَا القَوْل تواضعا وهضما لنَفسِهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تفضلُونِي على يُونُس ابْن مَتى) . وإلاَّ فعبد الرَّحْمَن من الْعشْرَة المبشرة. قَوْله: (إِلَّا بردة) وَاحِدَة البرود، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (إلاَّ بردَهُ) ، بالضمير الْعَائِد عَلَيْهِ، والبردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: النمرة كالمئزر، وَرُبمَا اتزر بِهِ، وَرُبمَا ارتدى، وَرُبمَا كَانَ لأَحَدهم بردتان يترز بِأَحَدِهِمَا ويرتدي بِالْأُخْرَى، وَرُبمَا كَانَت كَبِيرَة. وَقيل: النمرة: كل شملة مخططة من ميازر الْعَرَب، وَقَالَ القتبي: هِيَ بردة تلبسها الْإِمَاء. وَقَالَ ثَعْلَب: هِيَ ثوب مخططة تلبسها الْعَجُوز. وَقيل: كسَاء ملون، وَقَالَ الْفراء: هِيَ دراعة تلبس أَو تجْعَل على الرَّأْس، فِيهَا لونان سَواد وَبَيَاض. قَوْله: (وَقتل حَمْزَة) ، وَهُوَ حَمْزَة بن عبد الْمطلب عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَخُوهُ من الرضَاعَة، يُقَال لَهُ: أَسد الله، وَحين أسلم اعتز الْإِسْلَام بِإِسْلَامِهِ، اسْتشْهد يَوْم أحد، وَهُوَ سيد الشُّهَدَاء، وفضائله كَثِيرَة جدا. قَوْله: (أَو رجل آخر) ، لم يعرف هَذَا الرجل وَلم يَقع هَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات وَلم يذكر إلاَّ حَمْزَة وَمصْعَب، وَكَذَا أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق مَنْصُور بن أبي مُزَاحم عَن إِبْرَاهِيم بن سعد. قَوْله: (لقد خشيت) إِلَى آخِره، من كَلَام عبد الرَّحْمَن، وَكَانَ خَوفه وبكاؤه، وَإِن كَانَ أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة من الإشفاق وَالْخَوْف من التَّأَخُّر عَن اللحاق بالدرجات العلى وَطول الْحساب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا ترْجم البُخَارِيّ من أَن الْكَفَن من جَمِيع المَال، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفن حَمْزَة ومصعبا فِي برديهما، وَهُوَ يدل على جَوَاز التَّكْفِين فِي ثوب وَاحِد عِنْد عدم غَيره، وَالْأَصْل ستر الْعَوْرَة، وَإِنَّمَا اسْتحبَّ لَهما صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّكْفِين فِي تِلْكَ الثِّيَاب الَّتِي لَيست بسابغة لِأَنَّهُمَا فِيهَا قتلا وَفِيهِمَا يبعثان إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن الْعَالم يذكر سيرة الصَّالِحين وتقللهم من الدُّنْيَا لتقل رغبته فِيهَا، ويبكي خوفًا من تَأَخّر لحاقه بالأخيار، ويشفق من ذَلِك. وَفِيه: أَنه يَنْبَغِي للمرء أَن يتَذَكَّر نعم الله عِنْده ويعترف بالتقصير عَن أَدَاء شكرها، ويتخوف أَن يقاص بهَا فِي الْآخِرَة وَيذْهب سَعْيه فِيهَا.
62 - (بابٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ، إِذا لم يُوجب للميث إلاَّ ثوب وَاحِد، فَالْحكم فِيهِ أَن يقْتَصر عَلَيْهِ، وَلَا ينْتَظر شَيْء آخر.
5721 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِيهِ إبْراهِيمَ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وكانَ صَائِما فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ ابنُ عُمَيْرٍ وَهْوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهْوَ خَيرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أنْ تَكُون حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جعل يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كفن فِي بردة) ، وَهُوَ ثوب وَاحِد، وَقد كفن حَمْزَة فِي بردة وَمصْعَب فِي أُخْرَى وَلم يكن غَيرهَا، وَهُوَ مُطَابق للتَّرْجَمَة وَفِي قَوْله: (إِذا لم يُوجد إلاَّ ثوب وَاحِد) ، والْحَدِيث بِعَيْنِه مضى فِي الْبَاب السَّابِق، غير أَنه روى ذَاك: عَن أَحْمد الْمَكِّيّ عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد، وَهَذَا: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم. وَفِيه زِيَادَة، وَهِي قَوْله: (وَكَانَ صَائِما) ، أَي: كَانَ عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ صَائِما. وَقَوله أَيْضا: (إِن غطى رَأسه بَدَت رِجْلَاهُ(8/59)
وَإِن غطى رِجْلَاهُ بدا رَأسه) أَي: ظهر. وَقَوله: (وَأرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ. وَقَوله: (حَتَّى ترك الطَّعَام) ، أَي: فِي وَقت الْإِفْطَار. والتكفين فِي الثَّوْب الْوَاحِد كفن الضَّرُورَة، وَحَالَة الضَّرُورَة مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَلَو كفنوه فِي ثوب وَاحِد فقد أساءوا لِأَن فِي حَيَاته تجوز صلَاته فِي إِزَار وَاحِد مَعَ الْكَرَاهَة، فَكَذَا بعد الْمَوْت إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة بِأَن لم يُوجد غَيره، وَمَسْأَلَة حَمْزَة وَمصْعَب من بَاب الضَّرُورَة.
72 - (بابٌ إذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنا إلاَّ مَا يُوَارِى رَأْسَهُ أوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى بِهِ رَأْسَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد ... إِلَى آخِره، أَي: إِذا لم يجد من يتَوَلَّى أَمر الْمَيِّت كفنا إلاَّ مَا يواري، أَي: إلاَّ مَا يستر رَأسه أَو يستر قَدَمَيْهِ غطي بِهِ، أَي: بذلك الْكَفَن رَأسه، وَالْمعْنَى: لَا يجد كفنا إلاَّ مَا يواري رَأسه مَعَ بَقِيَّة جسده أَو مَا يواري قَدَمَيْهِ مَعَ بَقِيَّة جسده، وَمعنى حَدِيث الْبَاب يُفَسر كَذَلِك لِأَنَّهُ إِذا لم يوارِ إلاَّ رَأسه أَو إلاَّ قَدَمَيْهِ فَقَط كَانَ لتغطية عَوْرَته أَحَق.
6721 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا شَقِيقٌ قَالَ حدَّثنا خَبَّابٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ هاجَرْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ الله فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى الله فَمِنَّا منْ ماتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أجْرِهِ شَيْئا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إلاَّ بُرْدَةً إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فأمَرنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأنْ نَجْعَلَ علَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإْذْخَرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمر بن حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة أَبُو حَفْص النَّخعِيّ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: شَقِيق، بِفَتْح الشين وبالقافين ابْن سَلمَة الْأَسدي أَبُو وَائِل. الْخَامِس: خباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره بَاء أُخْرَى ابْن الْأَرَت، بِفَتْح الْهمزَة والراي وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَبُو يحيى، وَيُقَال: أَبُو عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وَهَذَا السَّنَد كُله بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة وَفِي الرقَاق عَن الْحميدِي وَعَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْهِجْرَة أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ من المغاوي عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَأبي كريب، أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن منْجَاب بن الْحَارِث وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى بن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ مُخْتَصرا، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن هناد بن السّري، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عبيد الله بن سعيد وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
ذكر مَعْنَاهُ: قولهنلتمس وَجه الله) أَي: ذَات الله تَعَالَى، أَي: جِهَة الله تَعَالَى لَا جِهَة الدُّنْيَا، وَهَذِه الْجُمْلَة محلهَا النصب على الْحَال. قَوْله (فَوَقع أجرنا على الله) أَي حق شرعا لَا وجوبا عقلياً وَفِي رِوَايَة وَجب أجرنا على الله أَي بِمَا وعد بقوله الصدْق لِأَنَّهُ لَا يجب على الله شَيْء وَله: (لم يَأْكُل من أجره شَيْئا) يَعْنِي: لم يكْسب من الدُّنْيَا شَيْئا وَلَا اقتناه، وَقصر نَفسه عَن شهواتها لينالها موفرة فِي الْآخِرَة. قَوْله: (أينعت لَهُ ثَمَرَته) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: يُقَال، ينع الثَّمر ينع وينع ينعا وينعا وينوعا، فَهُوَ يَانِع. مَعْنَاهُ: أدْرك، وَكَذَلِكَ: أينع، مَعْنَاهُ: أدْرك ونضج، وتمر ينيع. وَقَالَ الْفراء: أينع أَكثر من ينع. وَقَالَ الْقَزاز: يونع إيناعا فَهُوَ مونع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمع اليانع ينع، مثل: صَاحب وَصَحب. قَوْله: (يهدبها) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْهَاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا أَي: يجتنيها، وَقَالَ ابْن سَيّده: هدب الثَّمَرَة يهدبها هدبا: اجتناها. قَوْله: (قتل يَوْم أحد) ، أَي: قتل مُصعب بن عُمَيْر يَوْم أحد، وَالَّذِي قَتله عبد الله بن قميئة، عَن نَيف وَأَرْبَعين سنة، وَهَذِه(8/60)
الْجُمْلَة استئنافية. قَوْله: (مَا نكفنه) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (مَا نكفنه بِهِ) . قَوْله: (من الاذخر) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، قيل: هُوَ نبت بِمَكَّة. قلت: لَيْسَ بمخصوص بِمَكَّة وَيكون بِأَرْض الْحجاز طيب الرَّائِحَة ينْبت فِي السهول والحزون، وَإِذا جف ابيض، وَذكر أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : أَن لَهُ أصلا مندفنا وَله قضبان دقاق ذفر الرّيح وَهُوَ مثل الأسل، أسل الكولان، يَعْنِي الَّذِي يعْمل مِنْهُ الْحصْر إلاَّ أَنه أعرض وأصغر كعوبا، وَله ثَمَرَة كَأَنَّهَا مكاسع الْقصب إِلَّا أَنه أرق وأصغر وَله كعوب كَثِيرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الثَّوْب إِذا ضَاقَ فتغطية رَأس الْمَيِّت أولى من رجلَيْهِ لِأَنَّهُ أفضل. وَفِيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ صدر هَذِه الْأمة. وَفِيه: أَن الصَّبْر على مكابدة الْفقر وصعوبته من منَازِل الْأَبْرَار ودرجات الأخيار. وَفِيه: أَن الثَّوْب إِذا ضَاقَ عَن تَغْطِيَة رَأسه وعورته غطيت بذلك عَوْرَته وَجعل على سائره من الْإِذْخر، لِأَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب فِي حَال الْحَيَاة وَالْمَوْت، وَالنَّظَر إِلَيْهَا ومباشرتها بِالْيَدِ محرم إلاَّ من حل لَهُ من الزَّوْجَيْنِ، كَذَا قَالَه الْمُهلب قلت: هَذَا عِنْد من يَقُول: إِن الْكَفَن يكون ساترا لجَمِيع الْبدن، وَإِن الْمَيِّت يصير كُله عَورَة، ومذهبنا أَن الآدم كُله مُحْتَرم حَيا وَمَيتًا، فَلَا يحل للرِّجَال غسل النِّسَاء وَلَا للنِّسَاء غسل الرِّجَال الْأَجَانِب بعد الْوَفَاة، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن الْمَيِّت يؤزر بإزار سابغ، كَمَا يَفْعَله فِي حَال حَيَاته إِذا أَرَادَ الِاغْتِسَال، وَفِي ظَاهر الرِّوَايَة: يشق عَلَيْهِم غسل مَا تَحت الْإِزَار فيكتفي بستر الْعَوْرَة الغليظة بِخرقَة. وَفِي (الْبَدَائِع) تغسل عَوْرَته تَحت الْخِرْقَة بعد أَن يلف على يَدَيْهِ خرقَة وينجي عِنْد أبي حنيفَة، كَمَا كَانَ يَفْعَله فِي حَيَاته، وَعِنْدَهُمَا: لَا يُنجى. وَفِي (الْمُحِيط) و (الرَّوْضَة) : لَا يُنجى عِنْد أبي يُوسُف، وَفهم من هَذَا كُله أَن الْمَيِّت لَا يصير كُله عَورَة، وَإِنَّمَا يعْتَبر حَاله بِحَال حَيَاته، وَفِي حَال حَيَاته عَوْرَته من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة، وَالركبَة عَورَة عندنَا، وَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي الْمَيِّت أَيْضا، وَلَكِن يَكْتَفِي بستر الْعَوْرَة الغليظة وَهِي الْقبل والدبر تَخْفِيفًا، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَبِه قَالَ مَالك ذكره فِي (الْمُدَوَّنَة) .
82 - (بابُ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ فِي زَمَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استعد الْكَفَن أَي: أعده وَلَيْسَت السِّين للطلب. قَوْله: (فَلم يُنكر عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول ويروى على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَيكون الْفَاعِل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: يرْوى: (فَلم يُنكره بهَا) ، أَي: فَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجل الَّذِي طلب الْبردَة الَّتِي أهديت إِلَيْهِ، وَكَانَ طلبه إِيَّاهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أَن يُكفن فِيهَا. وَكَانَت الصَّحَابَة أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّمَا طلبتها لأكفن فِيهَا أعذروه فَلم ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ. وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تِلْكَ الْقَضِيَّة. واستفيد من ذَلِك جَوَاز تَحْصِيل مَا لَا بُد للْمَيت مِنْهُ من كفن وَنَحْوه فِي حَال حَيَاته، لِأَن أفضل مَا ينظر فِيهِ الرجل فِي الْوَقْت المهمل وفسحة الْأَجَل الِاعْتِدَاد للمعاد. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أَكْثَرهم للْمَوْت ذكرا وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا) . وَقَالَ الضميري لَا يسْتَحبّ الْإِنْسَان أَن يعد لنَفسِهِ كفنا لِئَلَّا يُحَاسب عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيح إلاَّ إِذا كَانَ من جِهَة يقطع بحلها أَو من أثر أهل الْخَيْر والصلحاء، فَإِنَّهُ حسن، وَهل يلْحق بذلك حفر الْقَبْر فِي حَيَاته؟ فَقَالَ ابْن بطال: قد حفر جمَاعَة من الصَّالِحين قُبُورهم قبل الْمَوْت بِأَيْدِيهِم ليتمثلوا حُلُول الْمَوْت فِيهِ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن ذَلِك لم يَقع من أحد من الصَّحَابَة، وَلَو كَانَ مُسْتَحبا لكثر فيهم. قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه من أحد من الصَّحَابَة عدم جَوَازه، لِأَن مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَلَا سِيمَا إِذا فعله قوم من الصلحاء الأخيار.
7721 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي حازِمٍ عنْ أبِيِهِ عنْ سَهْلِهٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ النبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حاشِيَتُهَا أتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ قالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأِكْسُوكَهَا فأخَذَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إلَيْهَا فَخَرَجَ إلَيْنَا وَإنَّهَا إزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلانٌ فقالَ اكْسُنِيهَا مَا أحْسَنَهَا قَالَ القَوْمُ مَا أحْسَنْتَ لَبِسَهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إلَيْهَا ثُمَّ(8/61)
سَألْتُهُ وَعَلِمْتَ أنَّهُ لاَ يَرُدُّ. قَالَ إنِّي وَالله مَا سألْتُهُ لأِلْبِسَهَا إنَّمَا سَألْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ فكانَتْ كفَنَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الرجل الَّذِي سَأَلَ تِلْكَ الْبردَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أنْكرت الصَّحَابَة عَلَيْهِ سُؤَاله قَالَ: سَأَلته لتَكون تِلْكَ الْبردَة كفني، فَأعْطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا، واستعدها ليكفن فِيهَا، فَكفن فِيهَا. وَأخْبر بذلك سهل حَيْثُ قَالَ: فَكَانَت كَفنه.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج القَاضِي من عباد أهل الْمَدِينَة وزهادهم. الرَّابِع: سهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون، غير أَن عبد الله بن مسلمة سكن الْبَصْرَة وَهُوَ من رباعيات البُخَارِيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي اللبَاس عَن هِشَام بن عمار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن امْرَأَة) ، لم يعرف اسْمهَا. قَوْله: (بِبُرْدَةٍ) ، هِيَ: كسَاء كَانَت الْعَرَب تلتحف بِهِ فِيهِ خطوط، وَيجمع على: برد، كغرفة وغرف. وَقَالَ ابْن قرقول: هِيَ النمرة. قَوْله: (حاشيتها) ، مَرْفُوع بقوله: (منسوجة) وَاسم الْمَفْعُول يعْمل عمل فعله كاسم الْفَاعِل، قَالَه الدَّاودِيّ: يَعْنِي أَنَّهَا لم تقطع من ثوب فَتكون بِلَا حَاشِيَة، وَقيل: حَاشِيَة الثَّوْب هدبه، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا جَدِيدَة لم تقطع هدبها، وَلم تلبس بعد. وَقَالَ الْقَزاز: حاشيتا الثَّوْب ناحيتاه اللَّتَان فِي طرفيهما الهدب قَالَ. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَاشِيَة وَاحِدَة حَوَاشِي الثَّوْب، وَهِي جوانبه. قَوْله: (تَدْرُونَ) ، ويروى: (أَتَدْرُونَ؟) ، بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. ويروى: (هَل تَدْرُونَ؟) ، وعَلى كل حَال هَذِه الْجُمْلَة قَول سُهَيْل بن سعد، بَينه أَبُو غَسَّان عَن أبي حَازِم، كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب. وَلَفظه: (فَقَالَ سهل للْقَوْم: أَتَدْرُونَ مَا الْبردَة؟ قَالُوا: الشملة) . انْتهى. والشملة، كسَاء يشْتَمل بِهِ، وَهِي أَعم لَكِن لما كَانَ أَكثر اشتمالهم بهَا اطلقوا عَلَيْهَا اسْمهَا. قَوْله: (تَدْرُونَ) إِلَى قَوْله: (قَالَت: نسجتها) جمل مُعْتَرضَة فِي كَلَام الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (فَأَخذهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إِلَيْهَا) أَي: حَال كَونه مُحْتَاجا إِلَى تِلْكَ الْبردَة. ويروى: (مُحْتَاج إِلَيْهَا) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ، مَحْذُوف أَي: أَخذهَا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا وَإِن شِئْت تَقول: وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا، وَقد علم أَن الْجُمْلَة الإسمية إِذا وَقعت حَالا يجوز فِيهَا الْأَمْرَانِ: الْوَاو وَتركهَا. فَإِن قلت: من أَيْن عرفُوا احْتِيَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك؟ قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك بِصَرِيح القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بِقَرِينَة حَالية دلّت على ذَلِك قَوْله: (فَخرج إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَاره) أَي: فَخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْنَا وَإِن الْبردَة الْمَذْكُورَة إزَاره: يَعْنِي متزرا بهَا، يدل على ذَلِك رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن هِشَام بن سعد عَن أبي حَازِم: (فاتزر بهَا ثمَّ خرج) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عَن هِشَام بن عمار عَن عبد الْعَزِيز: (فَخرج إِلَيْنَا فِيهَا) . قَوْله: (فحسنها فلَان) أَي: نَسَبهَا إِلَى الْحسن، وَهُوَ ماضٍ من التحسين فِي الرِّوَايَات كلهَا. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي اللبَاس من طَرِيق يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم: (فجسها) بِالْجِيم وَتَشْديد السِّين بِغَيْر نون، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن ابْن أبي حَازِم، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: فلَان، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفِي الطَّبَرَانِيّ: عَن قُتَيْبَة هُوَ سعد بن أبي وَقاص. وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي اللبَاس وَالنَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن قُتَيْبَة، وَلم يذكرَا ذَلِك عَنهُ. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (فجَاء فلَان ابْن فلَان، رجل سَمَّاهُ يَوْمئِذٍ) وَهَذَا يدل على أَن الرَّاوِي سَمَّاهُ وَنسبه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للطبراني أَن السَّائِل الْمَذْكُور أَعْرَابِي، وَلَكِن فِي سَنَده: زَمعَة بن صَالح، وَهُوَ ضَعِيف. قَوْله: (مَا أحْسنهَا!) كلمة مَا هُنَا للتعجب، وَهُوَ بِنصب النُّون، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا أحسن هَذِه الْبردَة أكسنيها. قَالَ: نعم، فَلَمَّا دخل طواها وَأرْسل بهَا إِلَيْهِ) . قَوْله: (مَا أَحْسَنت) كلمة: مَا، هُنَا نَافِيَة. قَوْله: (لبسهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إِلَيْهَا) أَي: لبس الْبردَة الْمَذْكُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه مُحْتَاجا إِلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (وَالله مَا أَحْسَنت كساها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاج إِلَيْهَا) . أَي: وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا. قَوْله: (أَنه لَا يرد) أَي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرد سَائِلًا، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه بتصريح الْمَفْعُول، وَنَحْوه وَقع فِي رِوَايَة يَعْقُوب فِي الْبيُوع، وَفِي رِوَايَة أبي غَسَّان فِي الْأَدَب: (لَا يسْأَل شَيْء(8/62)
فيمنعه) ، أَي: يُعْطي، كل من طلب مَا يَطْلُبهُ. قَوْله: (مَا سَأَلته لألبسها) أَي: مَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أَن ألبسها، وَأَن الْمقدرَة مَصْدَرِيَّة. وَفِي رِوَايَة أبي غَسَّان: (فَقَالَ: رَجَوْت بركتها حِين لبسهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة للطبراني عَن زَمعَة بن صَالح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يصنع لَهُ غَيرهَا، فَمَاتَ قبل أَن تفرغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حسن خلق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسعة جوده وقبوله الْهَدِيَّة. قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: جَوَاز ترك مُكَافَأَة الْفَقِير على هديته. وَفِيه نظر، لِأَن الْمُكَافَأَة كَانَت عَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستمرة، فَلَا يلْزم من السُّكُوت عَنْهَا هُنَا أَن لَا يكون فعلهَا، على أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث الْجَزْم يكون ذَلِك هَدِيَّة لاحْتِمَال عرضهَا إِيَّاهَا عَلَيْهِ لأجل الشِّرَاء، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا كَانَت هَدِيَّة فَلَا يلْزم أَن تكون الْمُكَافَأَة على الْفَوْر. قَالَ: وَفِيه: جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْقَرَائِن، وَلَو تجردت لقَولهم: (فَأَخذهَا مُحْتَاجا إِلَيْهَا) وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال سبق القَوْل مِنْهُ بذلك كَمَا ذَكرْنَاهُ قَالَ وَفِيه التَّرْغِيب فِي الْمَصْنُوع بِالنِّسْبَةِ إِلَى صانعة إِذا كَانَ ماهراً وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال إرادتها بنسبتها إِلَيْهِ إِزَالَة مَا يخْشَى من التَّدْلِيس. وَفِيه: جَوَاز اسْتِحْسَان الْإِنْسَان مَا يرَاهُ على غَيره من الملابس، إِمَّا ليعرفه قدرهَا، وَإِمَّا ليعرض لَهُ بِطَلَبِهِ مِنْهُ حَيْثُ يسوغ لَهُ ذَلِك. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الْإِنْكَار عِنْد مُخَالفَة الْأَدَب ظَاهرا، وَإِن لم يبلغ الْمُنكر دَرَجَة التَّحْرِيم. وَفِيه: التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. وَفِيه: جَوَاز إعداد الشَّيْء قبل وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا قد ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز الْمَسْأَلَة بِالْمَعْرُوفِ. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يرد سَائِلًا. وَفِيه: بركَة مَا لبسه مِمَّا يَلِي جسده. وَفِيه: قبُول السُّلْطَان الْهَدِيَّة من الْفَقِير. وَفِيه: جَوَاز السُّؤَال من السُّلْطَان. وَفِيه: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُعْطي حَتَّى لَا يجد شَيْئا فَيدْخل بذلك فِي جملَة المؤثرين على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة.
92 - (بابُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَلم يبين كَيْفيَّة الحكم: هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز أَو مَكْرُوه؟ لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، لِأَن قَول أم عَطِيَّة يحْتَمل أَن يكون نهي تَحْرِيم، وَيحْتَمل أَن يكون نهي تَنْزِيه، على أَن ظَاهر قَول أم عَطِيَّة: وَلم يعزم علينا، يَقْتَضِي أَن يكون النَّهْي نهي تَنْزِيه، وَقد ورد فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث تدل على الْجَوَاز، فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف أطلق البُخَارِيّ التَّرْجَمَة وَلم يقيدها بِحكم. وَفِي بعض النّسخ: بَاب اتِّبَاع النِّسَاء الْجِنَازَة.
8721 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ خالِدٍ عنْ أُمِّ الهُذَيْلِ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نُهِينَا عنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَين مَا أبهمه البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة فِي إِطْلَاق الحكم بِأَنَّهُ مَنْهِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأم الْهُذيْل هِيَ: حَفْصَة بنت سِيرِين، وَأم عَطِيَّة هِيَ نسيبة. وَقد تقدم كل الروَاة. وَتقدم الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، فِي كتاب الْحيض، من طَرِيق أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة مطولا، وَفِيه: (وَكُنَّا ننهى عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز) . وَرَوَاهُ هِشَام بن حسان أَيْضا عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة يزِيد ابْن أبي حَكِيم عَن الثَّوْريّ بِإِسْنَاد هَذَا الْبَاب، وَلَفظه: (نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يسم الناهي فِيهِ؟ قلت: الَّذِي أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ يرد مَا قيل فِيهِ من ذَلِك، وَهَذَا الْبَاب مُخْتَلف فِيهِ، فالجمهور على أَن كل مَا ورد بِهَذِهِ الصِّيغَة حكمه حكم الْمَرْفُوع، وروى الطَّبَرَانِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة عَن جدته أم عَطِيَّة، قَالَت: (لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة جمع النِّسَاء فِي بَيت ثمَّ بعث إِلَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَيْكُنَّ، بَعَثَنِي لأبايعكن على أَن لَا تسرقن. .) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (وأمرنا أَن نخرج فِي الْعِيد الْعَوَاتِق، ونهانا أَن نخرج فِي جَنَازَة) . وَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبَاب مُرْسل. قَوْله: (وَلم يعزم علينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لم يُوجب وَلم يفْرض أَو لم يشدد وَلم يُؤَكد علينا فِي الْمَنْع، كَمَا أكد علينا فِي غَيره من المنهيات، فَكَانَ الْمَعْنى: أَنَّهَا قَالَت: كره لنا اتِّبَاع الْجَنَائِز من غير تَحْرِيم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي أَن النَّهْي للتنزيه، وَبِه قَالَ جُمْهُور أهل الْعلم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر(8/63)
وَعَائِشَة وَأبي أُمَامَة أَنهم كَرهُوا ذَلِك للنِّسَاء، وَكَرِهَهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم وَالْحسن ومسروق وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الثَّوْريّ: اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز بِدعَة، وَعَن أبي حنيفَة: لَا يَنْبَغِي ذَلِك للنِّسَاء، وروى إجَازَة ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَسَالم وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَأبي الزِّنَاد، وَرخّص فِيهِ مَالك، وَكَرِهَهُ للشابة، وَعند الشَّافِعِي مَكْرُوه، وَلَيْسَ بِحرَام، وَنقل الْعَبدَرِي عَن مَالك: يكره إلاَّ أَن يكون الْمَيِّت وَلَدهَا أَو والدها أَو زَوجهَا، وَكَانَت مِمَّن يخرج مثلهَا لمثله. وَقَالَ ابْن حزم: لَا يمنعن من اتباعها، وآثار النَّهْي عَن ذَلِك لَا تصح لِأَنَّهَا إِمَّا عَن مَجْهُول أَو مُرْسلَة أَو عَمَّن لَا يحْتَج بِهِ، وأشبه شَيْء فِيهِ حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ غير مُسْند لأَنا لَا نَدْرِي من هُوَ الناهي، وَلَعَلَّه بعض الصَّحَابَة، ثمَّ لَو صَحَّ مُسْندًا لم يكن فِيهِ حجَّة، بل كَانَ يكون على كَرَاهَة فَقَط، وَقد صَحَّ خِلَافه. روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي جَنَازَة فَرَأى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، امْرَأَة فصاح بهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دعها يَا عمر فَإِن الْعين دامعة وَالنَّفس مصابة والعهد قريب) . قلت: أخرج الْحَاكِم هَذَا، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَفِيه نظر لِأَن الْبَيْهَقِيّ نَص على انْقِطَاعه، وَفِي سَنَده سَلمَة بن الْأَزْرَق، قَالَ ابْن الْقطَّان: سَلمَة هَذَا لَا يعرف حَاله وَلَا أعرف أحدا من مصنفي الرِّجَال ذكره، وروى الْحَاكِم قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم أخبرنَا نَافِع بن يزِيد أَخْبرنِي ربيعَة ابْن سيف حَدثنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن الحبلي (عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قبرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا، فَلَمَّا رَجعْنَا وحاذينا بَابه إِذا هُوَ بِامْرَأَة لَا نظنه عرفهَا فَقَالَ: يَا فَاطِمَة! من أَيْن جِئْت؟ قَالَت: جِئْت من أهل الْمَيِّت، رحمت إِلَيْهِم ميتهم وعزيتهم، قَالَ: فلعلك بلغت مَعَهم الكدي؟ قَالَت: معَاذ الله أَن أبلغ مَعَهم الكدى، وَقد سَمِعتك تذكر فِيهِ مَا تذكر. قَالَ: لَو بلغت مَعَهم الكدى مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يرى جد أَبِيك) . والكدى: الْمَقَابِر. قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قلت: كَيفَ يَقُول على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَرَبِيعَة بن سيف لم يخرج لَهُ أحد مِنْهُمَا؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْلهَا: (نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز، أَي: إِلَى أَن نصل إِلَى الْقُبُور) وَقَوْلها: (وَلم يعزم علينا) أَي: لَا نأتي أهل الْمَيِّت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أَن نتبع جنَازَته، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي أَخذ هَذَا التَّفْصِيل من هَذَا السِّيَاق نظر. قلت: وَفِي نظره نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم عَن عبد الله بن عَمْرو الْمَذْكُور يساعده. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقولِهَا: (وَلم يعزم علينا) أَي: كَمَا عزم على الرِّجَال بترغيبهم فِي اتباعها بِحُصُول القيراط، وَنَحْو ذَلِك. انْتهى. وَأحسن حالات الْمَرْأَة مَعَ الْجِنَازَة أَنَّهَا لَا تُوجد فِي حُضُورهَا، وَقَالَ الْحَازِمِي: أما بِاتِّبَاع الْجِنَازَة فَلَا رخصَة لَهُنَّ فِيهِ، وَقد رُوِيَ عَن يزِيد بن أبن حبيب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جَنَازَة رجل فَلَمَّا وضعت ليصلى عَلَيْهَا أبْصر امْرَأَة فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقيل: هِيَ أُخْت الْمَيِّت. فَقَالَ لَهَا: إرجعي فَلم يصل عَلَيْهَا حَتَّى تَوَارَتْ. وَقَالَ لامْرَأَة أُخْرَى: إرجعي وإلاَّ رجعت.
03 - (بابْ حَدِّ المَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إحداد الْمَرْأَة على غير زَوجهَا، والإحداد، بِكَسْر الْهمزَة من: أحدت الْمَرْأَة على زَوجهَا تحد فَهِيَ محدة، إِذا حزنت عَلَيْهِ ولبست ثِيَاب الْحزن وَتركت الزِّينَة، وَكَذَلِكَ حدت الْمَرْأَة من الثلاثي تحد من بَاب: نصر ينصر، وتحد، بِكَسْر الْحَاء من بَاب: ضرب يضْرب، فَهِيَ: حادة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أحدت الْمَرْأَة، أَي: امْتنعت من الزِّينَة والخضاب بعد وَفَاة زَوجهَا، وَكَذَلِكَ حدت حدادا، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي إلاَّ: أحدت، فَهِيَ محدة. وَفِي بعض النّسخ: بَاب حداد الْمَرْأَة، بِغَيْر همزَة على لُغَة الثلاثي. وَفِي بَعْضهَا: بَاب حد الْمَرْأَة، من مصدر الثلاثي، وأبيح للْمَرْأَة الْحداد لغير الزَّوْج ثَلَاثَة أَيَّام وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن من مَاتَ أَبوهَا أَو ابْنهَا وَكَانَت ذَات زوج وطالبها زَوجهَا بِالْجِمَاعِ فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي أُبِيح لَهَا الْإِحْدَاد فِيهَا أَنه يقْضِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْجِمَاعِ فِيهَا، وَقَوله: (على غير زَوجهَا) يَشْمَل كل ميت غير الزَّوْج سَوَاء كَانَ قَرِيبا أَو أَجْنَبِيّا، وَأما الْحداد لمَوْت الزَّوْج فَوَاجِب عندنَا، سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة، وَكَذَلِكَ يجب على الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا مُطلقًا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجب، وَلَا يجب على ذِمِّيَّة وَلَا صَغِيرَة عندنَا، خلافًا لَهُم. فَإِن قلت: لم يُقيد فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: لم يُقَيِّدهُ فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ عرفا، وَظَاهر التَّرْجَمَة يُنَافِي مَا قَالَه، فَكَانَ البُخَارِيّ لَا يرى أَنه مُخْتَصّ بِهِ عِنْده، فَترك التَّقْيِيد بِهِ.(8/64)
9721 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حَدثنَا سَلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ تُوُفِّيَ ابنٌ لأِمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فلَمَّا كانَ اليَوْمُ الثالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وقالَتْ نُهِينَا أنْ نُحِدَّ أكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إلاَّ بِزَوْجٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ أَن أم عَطِيَّة أحدث لابنها، فَقَوله فِي التَّرْجَمَة: على غير زَوجهَا، يصدق عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد تكَرر ذكره. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل بن لَاحق أَبُو إِسْمَاعِيل، مر فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مبلغ. الثَّالِث: سَلمَة بن عَلْقَمَة التَّمِيمِي، مر فِي: بَاب من لم يتَشَهَّد فِي سَجْدَتي السَّهْو. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين، تكَرر ذكره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم الثَّالِث) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (فِي الْيَوْم الثَّالِث) على الأَصْل. قَوْله: (بصفرة) الصُّفْرَة فِي الأَصْل لون الْأَصْفَر، وَالْمرَاد هَهُنَا نوع من الطّيب فِيهِ صفرَة. قَوْله: (نهينَا) ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: (أمرنَا أَن لَا نحد على هَالك فَوق ثَلَاثَة) . وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن ابْن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة. قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ... فَذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (أَن نحد) ، بِضَم النُّون من الْإِحْدَاد، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (إلاَّ بِزَوْج) ، أَي: بِسَبَب زوج، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ لزوج) بِاللَّامِ، وَوَقع فِي الْعدَد: (إلاَّ على زوج) ، وَالْكل بِمَعْنى التَّسَبُّب.
0821 - حدَّثنا الحمَيْدِي قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ بنُ مُوسى اقالَ أَخْبرنِي حُمَيْدُ بنُ نافِعٍ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبِي سَلَمَةَ قالَتْ لَمَّا جاءَ نَعْيُ أبي سُفْيَانَ مِنَ الشامِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وقالَتْ إنِّي كُنْتُ عنْ هاذَا لَغَنِيَّةً لَوْلاَ أنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ فإنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِحْدَاد على غير الزَّوْج.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى القريشي الْأَسدي أَبُو بكر. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَيُّوب بن مُوسَى بن عَمْرو ابْن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي، أحد الْفُقَهَاء، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِمَكَّة. الرَّابِع: حميد الطَّوِيل، بِضَم الْحَاء: بن نَافِع أَبُو أَفْلح، بِالْفَاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. الْخَامِس: زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، وأسمه: عبد الله بن عبد الْأسد، المخزومية ربيبة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أُخْت عمر بن أبي سَلمَة، أمهما أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مرت فِي: بَاب الخباء فِي الْعلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مكيون وَالرَّابِع مدنِي. وَفِيه: شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى أحد أجداده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله (نعى أَبُو سُفْيَان) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْعين وَتَخْفِيف الْيَاء، وَهُوَ الْخَبَر بِمَوْت الشَّخْص، ويروى بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الْيَاء، وَأَبُو سُفْيَان: هُوَ ابْن حَرْب والدمعاوية. قَوْله: (من الشَّام) قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَن أَبَا سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف بَين أهل الْعلم بالأخبار، وَالْجُمْهُور على أَنه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَعلل على ذَلِك بقوله: لَيْسَ فِي طرق هَذَا الحَدِيث التَّقْيِيد بذلك إلاَّ فِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وأظنها وهما، وأظن أَنه حذف مِنْهُ لفظ: ابْن، لِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه من الشَّام وَأم حَبِيبَة فِي الْحَيَاة هُوَ أَخُوهَا يزِيد بن أبي سُفْيَان الَّذِي كَانَ أَمِيرا على الشَّام. قلت: يزِيل هَذَا الظَّن أَن(8/65)
البُخَارِيّ روى الحَدِيث فِي (الْعدَد) من طَرِيق مَالك وَمن طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن حميد بن نَافِع بِلَفْظ: (حِين توفّي أَبوهَا أَبُو سُفْيَان) ، وَفِيه تَصْرِيح بِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه هُوَ أَبُو سُفْيَان لَا نعي ابْن سُفْيَان. فَإِن قلت: هما لم يذكرَا فِي روايتهما من الشَّام؟ قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهمَا من الشَّام أَن يكون ذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الشَّام وهما، وَهُوَ إِمَام فِي الحَدِيث حجَّة ثَبت، وَعَن الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة لذهب علم الْحجاز، وَفِي قَول هَذَا الْقَائِل: أَبُو سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف، نظر لِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى فَافْهَم. قَوْله: (أم حَبِيبَة) هِيَ بنت أبي سُفْيَان الْمَذْكُور، وَاسْمهَا: رَملَة، أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (بصفرة) ، قد ذكرنَا مَعْنَاهَا عَن قريب، وَفِي رِوَايَة مَالك: (بِطيب فِيهِ صفرَة خلوق) ، وَزَاد فِيهِ: (فدهنت مِنْهُ جَارِيَة ثمَّ مست بعارضيها) . قَوْله: (وَعشرا) ، هَل المُرَاد مِنْهُ الْأَيَّام أَو اللَّيَالِي؟ فَفِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: أَن المُرَاد الْأَيَّام بلياليها. وَالْآخر: أَن المُرَاد اللَّيَالِي، وَأَنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَهُوَ قَول يحيى بن أبي كثير وَالْأَوْزَاعِيّ، وَذكرنَا الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْحَدِيثِ وَالْخلاف فِيهَا فِي: بَاب الطّيب عِنْد الْغسْل من الْمَحِيض.
1821 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عمْرِو بنِ حَزْمٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ نافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ أخْبرَتْهُ قالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِرِ تحِدُّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا. ثمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قالَتْ مَال بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
(2821 طرفه فِي: 5335) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس ابْن أُخْت مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين، وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَعَن هناد وَعَن وَكِيع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ دخلت عَليّ زَيْنَب بنت جحش) ، فَاعل: دخلت، هُوَ زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (ثمَّ دخلت) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (فَدخلت) ، بِالْفَاءِ، وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وَدخلت) ، بِالْوَاو، قلت: مَا وجدت فِي نسخ أبي دَاوُد إلاَّ بِالْفَاءِ، مثل رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَالْفرق بَين هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث على تَقْدِير كَون رِوَايَة أبي دَاوُد بِالْوَاو، أَن كلمة: ثمَّ، للْعَطْف على التَّرَاخِي والمهلة والتشريك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب، وَكلمَة: الْفَاء، للْعَطْف على التعقيب، وَكلمَة: الْوَاو، الْعَطف على الْجمع.
فَإِن قلت: على مَا ذكرت معنى: ثمَّ، يَقْتَضِي أَن تكون قصَّة زَيْنَب هَذِه بعد قصَّة أم حَبِيبَة، وَلَا يَصح ذَلِك، لِأَن زَيْنَب مَاتَت قبل أبي سُفْيَان بِأَكْثَرَ من عشر سِنِين على الصَّحِيح. قلت: فِي دلَالَة: ثمَّ، على التَّرْتِيب خلاف، وَلَئِن سلمنَا ضعف الْخلاف فَإِن: ثمَّ، هَهُنَا لترتيب الْإِخْبَار لَا لترتيب الحكم، وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب. وَأما: الْفَاء، فَإِن الْفراء قَالَ: لَا تفِيد التَّرْتِيب مُطلقًا، وَلَئِن سلمنَا، فَنَقُول: التَّرْتِيب ذكري لَا معنوي، وَأما: الْوَاو، فَإِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب أصلا، فَإِن صحت رِوَايَة: الْوَاو، فَلَا إِشْكَال أصلا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد من الشُّرَّاح. قَوْله: (حِين توفّي أَخُوهَا) ، قَالَ شَيخنَا زين الدّين، فِيهِ إِشْكَال، لِأَن لِزَيْنَب ابْنة جحش ثَلَاثَة إخْوَة: عبد الله وَعبيد الله مُصَغرًا وَأَبُو أَحْمد، مَشْهُور بكنيته، واسْمه عبد على الصَّحِيح، وَقيل: عبد الله، وَلَا جَائِز أَن يكون عبد الله مكبرا(8/66)
لِأَنَّهُ قتل بِأحد قبل أَن يتَزَوَّج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش، وَلَا جَائِز أَن يكون عبيد الله فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّا، أما فِي سنة خمس أَو فِي سنة سِتّ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بعده فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْهَا بِأَرْض الْحَبَشَة، وَكَانَ تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا إِمَّا فِي سنة سِتّ أَو سبع على الْخلاف الْمَعْرُوف فِيهِ، وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة كَانَت حِينَئِذٍ صَغِيرَة، وَإِن أمكن أَن تعقل ذَلِك وَهِي صَغِيرَة على بعد فِيهِ، وَلَا جَائِز أَيْضا أَن يكون أَبَا أَحْمد، فَإِنَّهَا توفيت قبله وَتَأَخر بعْدهَا، كَمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَأقرب الِاحْتِمَالَات أَن يكون: عبيد الله، الَّذِي مَاتَ نَصْرَانِيّا على بعد فِيهِ. فَإِن قلت: مثلهَا لَا يحزن على من مَاتَ كَافِرًا فِي بَيت النُّبُوَّة قلت: ذَاك الْحزن بالجبلة والطبع فَتعذر فِيهِ وَلَا تلام بِهِ، وَقد بَكَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى قبر أمه توجعا لَهَا. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أَخا لِزَيْنَب بنت جحش من أمهَا أَو من الرَّضَاع. قَوْله: (فمست بِهِ) أَي: شَيْئا من جَسدهَا، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْعدَد: (فمست مِنْهُ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على وجوب إحداد الْمَرْأَة على الزَّوْج، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات للمنفي، وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْحل على غير الزَّوْج بعد الثَّلَاث، فَيكون الِاسْتِثْنَاء إِثْبَاتًا لحل الْإِحْدَاد لَا لوُجُوبه قلت: أُجِيب بِأَن ظَاهر اللَّفْظ، وَإِن كَانَ هَكَذَا، وَلَكِن حمل على الْوُجُوب لإِجْمَاع الْعلمَاء عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْحسن الْبَصْرِيّ لَا يرى وجوب الْإِحْدَاد؟ قلت: لَا يَصح هَذَا عَن الْحسن، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس، قَالَت: (دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَوْم الثَّالِث من قتل جَعْفَر فَقَالَ: لَا تحدي بعد يَوْمك هَذَا. وَفِيه: لَا يجب الْإِحْدَاد بعد الْيَوْم الثَّالِث بل فِيهِ أَنه لَا يجوز لظَاهِر النَّهْي (قلت) هَذَا الحَدِيث مُخَالف الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الأحداد فَهُوَ شَاذ لَا عمل عَلَيْهِ للْإِجْمَاع إِلَى خِلَافه، وَأَيْضًا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب كَانَ قتل شَهِيدا، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فَلذَلِك نهى زَوجته عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِ بعد الثَّلَاث، وَهَذَا الْجَواب فِيهِ نظر لَا يخفى، وَهُوَ أَن الشَّهِيد حَيّ فِي حق الْآخِرَة لَا فِي حق الدُّنْيَا، إِذْ لَو كَانَ حَيا فِي حق الدُّنْيَا لما كَانَ يجوز تزوج نِسَائِهِ، وَلَا كَانَ تقسم تركته. فَإِن قلت: جَعْفَر مَقْطُوع لَهُ بِالشَّهَادَةِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه رَآهُ يطير فِي الْجنَّة بجناحين، فقطعنا بِأَنَّهُ حَيّ بِخِلَاف عُمُوم من قتل فِي حَرْب الْكفَّار، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا: فلَان مَاتَ شَهِيدا، قلت: قد أخبر عَن جمَاعَة بِأَنَّهُم شُهَدَاء وَلم ينْه نِسَاءَهُ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم: كَعبد الله بن حرَام وَالِد جَابر بن عبد الله، وَقَالَ فِي حمزه: إِنَّه سيد الشُّهَدَاء، وَمَعَ هَذَا فَلم ينْقل أَنه نهى نِسَاءَهُمْ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة لأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الزَّوْجَة الذِّمِّيَّة، لِأَنَّهُ قيد ذَلِك بقوله: (لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه) . وَفِيه: دلَالَة على أَن الْإِحْدَاد لَا يجب على الصبية لِأَنَّهُ لَا تسمى امْرَأَة إلاَّ بعد الْبلُوغ.
13 - (بابُ زِيَارَةِ القُبُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم زِيَارَة الْقُبُور، وَلم يُصَرح بالحكم لما فِيهِ من الْخلاف بَين الْعلمَاء، وَيَأْتِي بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
3821 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مرَّ النبيُّ بامْرَأةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فقالَ اتَّقِي الله واصْبِرِي قالَتْ إلَيْكَ عَنِّي فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إنَّهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتَتْ بابَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فقَالَتْ لَمْ أعْرِفْكَ فَقَالَ إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأوُلَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة عَن زيارتها قبر ميتها، وَإِنَّمَا أمرهَا بِالصبرِ، فَدلَّ على الْجَوَاز من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فلعدم التَّصْرِيح بِهِ لم يُصَرح البُخَارِيّ أَيْضا بالحكم. وَقد مر هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي: بَاب قَول الرجل للْمَرْأَة عِنْد الْقَبْر: (اصْبِرِي) ، غير أَن هُنَا زِيَادَة من قَوْله: (قَالَت إِلَيْك عني. .) إِلَى آخِره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.(8/67)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَعَن أبي مُوسَى وَعَن عقبَة بن مكرم وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن غنْدر بِهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِامْرَأَة) ، لم يُوقف على اسْمهَا. قَوْله: (عِنْد قبر) ، وَلَفظ مُسلم: (أَتَى على امْرَأَة تبْكي على صبي لَهَا فَقَالَ لَهَا: اتقِي الله واصبري، فَقَالَت: وَمَا تبالي؟ مصيبتي. فَلَمَّا ذهب قيل لَهَا: إِنَّه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَخذهَا مثل الْمَوْت فَأَتَت بَابه فَلم تَجِد على بَابه بوابين، فَقَالَت: يَا رَسُول الله لم أعرفك، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد أول صدمة. أَو قَالَ: عِنْد أول الصدمة) . وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (قد أُصِيبَت بِوَلَدِهَا) . قَوْله: اتقِي الله) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الظَّاهِر أَنَّهَا كَانَت تنوح وَهِي تبْكي، فَلهَذَا أمرهَا بالتقوى، وَهُوَ الْخَوْف من الله تَعَالَى، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (اتقِي الله) تَوْطِئَة لقَوْله: (واصبري) كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: خافي غضب الله إِن لم تصبري وَلَا تجزعي ليحصل لَك الثَّوَاب، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : (فَقَالَ: يَا أمة الله اتقِي الله) . قَوْله: (إِلَيْك) من أَسمَاء الْأَفْعَال وَمَعْنَاهَا: تَنَح عني وَأبْعد. قَوْله: (فَإنَّك لم تصب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن شُعْبَة: (فَإنَّك خلو من مصيبتي) ، والخلو بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام. وَفِي لفظ لمُسلم: (مَا تبالي مصيبتي) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى الْموصِلِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا قَالَت: (يَا عبد الله أَنا الحراء الثكلاء، وَلَو كنت مصابا عذرتني) ، وَفِي بعض النّسخ بعد قَوْله: (فَإنَّك لم تصب بمصيبتي، وَلم تعرفه) . الْوَاو فِيهِ للْحَال أَي: قَالَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل وَالْحَال أَنَّهَا لم تعرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لَو عَرفته لما خاطبته بِهَذَا الْخطاب. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: للْمَرْأَة الْمَذْكُورَة، فَكَأَن الْقَائِل لَهَا وَاحِد مِمَّن كَانَ هُنَاكَ، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (فَمر بهَا رجل فَقَالَ لَهَا: إِنَّه رَسُول الله) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى: (قَالَ: فَهَل تعرفينه؟ قَالَت: لَا) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق عَطِيَّة عَن أنس أَن الَّذِي سَأَلَهَا هُوَ الْفضل بن عَبَّاس، وَقد مر فِي رِوَايَة مُسلم: (فَأَخذهَا مثل الْمَوْت) أَي: من شدَّة الكرب الَّذِي أَصَابَهَا لما عرفت أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خجلاً مِنْهُ ومهابة. قَوْله: (فَلم تَجِد عِنْده) أَي: لم تَجِد هَذِه الْمَرْأَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بوابين) يمْنَعُونَ النَّاس، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (بوابا) بِالْإِفْرَادِ. قَالَ الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة أَنه لما قيل لَهَا: إِنَّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استشعرت خوفًا وهيبة فِي نَفسهَا، فتصورت أَنه مثل الْمُلُوك لَهُ صَاحب أَو بواب يمْنَع النَّاس من الْوُصُول إِلَيْهِ، فَوجدت الْأَمر بِخِلَاف مَا تصورته. قَوْله: (فَقَالَت: لم أعرفك) ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة (فَقَالَت: وَالله مَا عرفتك) . قَوْله: (إِنَّمَا الصَّبْر) أَي: إِنَّمَا الصَّبْر الْكَامِل، ليَصِح معنى الْحصْر على الصدمة الأولى، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (عِنْد أول صدمة) . وأصل الصدم لُغَة: الضَّرْب فِي الشَّيْء الصلب، ثمَّ استعير لكل أَمر مَكْرُوه، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الصَّبْر الَّذِي يكون عِنْد الصدمة الأولى هُوَ الَّذِي يكون صبرا على الْحَقِيقَة، وَأما السّكُون بعد فَوَات الْمُصِيبَة رُبمَا لَا يكون صبرا، بل قد يكون سلواه، كَمَا يَقع لكثير من أهل المصائب، بِخِلَاف أول وُقُوع الْمُصِيبَة، فَإِنَّهُ يصدم الْقلب بَغْتَة فَلَا يكون السّكُون عِنْد ذَلِك، والرضى بالمقدور إلاَّ صبرا على الْحَقِيقَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الصَّبْر الَّذِي يحمد عَلَيْهِ صَاحبه مَا كَانَ عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة، بِخِلَاف مَا بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ على الْأَيَّام يسلو. وَقيل: إِن الْمَرْء لَا يُؤجر على الْمُصِيبَة لِأَنَّهَا لَيست من صنعه، وَإِنَّمَا يُؤجر على حسن نِيَّته وَجَمِيل صبره، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ أَن لَا يجْتَمع عَلَيْهَا مُصِيبَة الْهَلَاك وفقد الْأجر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من التَّوَاضُع والرفق بالجاهل، وَترك مُؤَاخذَة الْمُصَاب وَقبُول اعتذاره. وَفِيه: إِن الْحَاكِم لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَّخذ من يَحْجُبهُ عَن حوائج النَّاس. وَفِيه: أَن من أَمر بِمَعْرُوف يَنْبَغِي لَهُ أَن يقبل وَإِن لم يعرف الْآمِر. وَفِيه: أَن الْجزع من المنهيات لأَمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا بالتقوى مَقْرُونا بِالصبرِ. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْأَذَى عِنْد بذل النَّصِيحَة وَنشر الموعظة. وَفِيه: أَن المواجهة بِالْخِطَابِ إِذا لم تصادف الْمَنوِي لَا أثر لَهَا. وَبنى عَلَيْهِ بَعضهم مَا إِذا قَالَ: يَا هِنْد أَنْت طَالِق، فصادف عمْرَة أَن عمْرَة لَا تطلق. وَفِيه: جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الزائر رجلا أَو امْرَأَة، وَسَوَاء كَانَ المزور مُسلما أَو كَافِرًا لعدم الْفَصْل فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وبالجواز قطع الْجُمْهُور، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يجوز زِيَارَة قبر الْكَافِر، مستدلاً بقوله تَعَالَى: وَلَا تقم على قَبره} (التَّوْبَة: 48) . وَهَذَا غلط. وَفِي الِاسْتِدْلَال(8/68)
بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة نظر لَا يخفى.
وَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَقَالَ الْحَازِمِي: أهل الْعلم قاطبة على الْإِذْن فِي ذَلِك للرِّجَال. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور إِبَاحَة عُمُوم، كَمَا كَانَ النَّهْي عَن زيارتها نهي عُمُوم، ثمَّ ورد النّسخ فِي الْإِبَاحَة على الْعُمُوم، فَجَائِز للرِّجَال وَالنِّسَاء زِيَارَة الْقُبُور، وروى فِي الْإِبَاحَة أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها. .) الحَدِيث، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه: (قد كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها فَإِنَّهَا تذكر بِالآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروا الْقُبُور، فَإِنَّهَا تذكر فِي الدُّنْيَا وتذكر الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن زِيَارَة الْقُبُور، ثمَّ قَالَ: زوروها وَلَا تَقولُوا هجرا) يَعْنِي سوأً. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: (زار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبر أمه فَبكى وأبكى من حوله، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي أَن اسْتغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي واستأذنته فِي أَن أزورها فَأذن لي، فزوروا الْقُبُور فَإِنَّهَا تذكر الْمَوْت) . وَرَوَاهُ أَيْضا مُخْتَصرا. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص فِي زِيَارَة الْقُبُور) . وَمِنْهَا: حَدِيث حَيَّان الْأنْصَارِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر. .) الحَدِيث، وَفِيه: (وَأحل لَهُم ثَلَاثَة أَشْيَاء كَانَ ينهاهم عَنْهَا: أحل لَهُم لُحُوم الْأَضَاحِي وزيارة الْقُبُور والأوعية) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي ذَر، أخرجه الْحَاكِم عَنهُ قَالَ: (قَالَ لي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زر الْقُبُور تذكر بهَا الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَحْمد عَنهُ: (مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقبور فَأقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم) . وَمِنْهَا: حَدِيث مجمع بن جَارِيَة، أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى إِلَى الْمقْبرَة، فَقَالَ: السَّلَام على أهل الْقُبُور. .) الحَدِيث، وَفِيه: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش.
وَعَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَنه أَتَى الْمقْبرَة فَسلم عَلَيْهِم، وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسلم عَلَيْهِم) وَعند ابْن عبد الْبر، بِسَنَد صَحِيح: (مَا من أحد يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَيسلم عَلَيْهِ إلاَّ عرفه ورد عَلَيْهِ السَّلَام) . وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث بُرَيْدَة، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم: لَا يرَوْنَ بزيارة الْقُبُور بَأْسا. وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَلما روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لعن الله زوارات الْقُبُور) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَقد رأى بعض أهل الْعلم أَن هَذَا كَانَ قبل أَن يرخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَلَمَّا رخص دخل فِي رخصته الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا تكره زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء لقلَّة صبرهن وَكَثْرَة جزعهن. وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زائرات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج) ، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث قوم، فَقَالُوا: إِنَّمَا اقْتَضَت الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور للرِّجَال دون النِّسَاء، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يُمكن أَن يكون هَذَا قبل الْإِبَاحَة. قَالَ: وتوقي ذَلِك للنِّسَاء المتجملات أحب إِلَيّ، وَإِمَّا الشواب فَلَا يُؤمن من الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ وبهن حَيْثُ خرجن، وَلَا شَيْء للْمَرْأَة أحسن من لُزُوم قَعْر بَيتهَا. وَلَقَد كره أَكثر الْعلمَاء خروجهن إِلَى الصَّلَوَات فَكيف إِلَى الْمَقَابِر؟ وَمَا أَظن سُقُوط فرض الْجُمُعَة عَلَيْهِنَّ إلاَّ دَلِيلا على إمساكهن عَن الْخُرُوج فِيمَا عَداهَا. قَالَ: وَاحْتج من أَبَاحَ زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء، بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ فِي (التَّمْهِيد) من رِوَايَة بسطَام بن مُسلم عَن أبي التياح (عَن عبد الله بن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَقبلت ذَات يَوْم من الْمَقَابِر، فَقلت لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، من أَيْن أَقبلت؟ قَالَت: من قبر أخي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقلت لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينْهَى عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ قَالَت: نعم، كَانَ ينْهَى عَن زيارتها ثمَّ أَمر بزيارتها) ، وَفرق قوم بَين قَوَاعِد النِّسَاء وَبَين شبابهن، وَبَين أَن ينفردن بالزيارة أَو يخالطن الرِّجَال، فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما الشواب فَحَرَام عَلَيْهِنَّ الْخُرُوج، وَأما الْقَوَاعِد فمباح لَهُنَّ ذَلِك، قَالَ: وَجَائِز ذَلِك لجميعهن إِذا انفردن بِالْخرُوجِ عَن الرِّجَال. قَالَ: وَلَا يخْتَلف فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا: حمل بَعضهم حَدِيث التِّرْمِذِيّ فِي الْمَنْع على من يكثر(8/69)
الزِّيَارَة لِأَن زوارات للْمُبَالَغَة، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن النِّسَاء إِنَّمَا يمنعن من إكثار الزِّيَارَة لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْإِكْثَار من تَضْييع حُقُوق الزَّوْج والتبرج والشهرة والتشبه بِمن يلازم الْقُبُور لتعظيمها، وَلما يخَاف عَلَيْهَا من الصُّرَاخ وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد، وعَلى هَذَا يفرق بَين الزائرات والزوارات.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحَدِيث بُرَيْدَة صَرِيح فِي نسخ نهي زِيَارَة الْقُبُور، وَالظَّاهِر أَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ لم يبلغهما أَحَادِيث الْإِبَاحَة.
وَكَانَ الشَّارِع يَأْتِي قُبُور الشُّهَدَاء عِنْد رَأس الْحول فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنعم عُقبى الدَّار، وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يَفْعَلُونَ ذَلِك، وزار الشَّارِع قبر أمه، يَوْم الْفَتْح فِي ألف مقنع ذكره ابْن أبي الدُّنْيَا، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إجَازَة الزِّيَارَة، وَكَانَت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كل جُمُعَة. وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يزور قبر أَبِيه فيقف عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن وقبره بِمَكَّة، ذكره أجمع عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا بَأْس بزيارة الْقُبُور وَالْجُلُوس إِلَيْهَا وَالسَّلَام عَلَيْهَا عِنْد الْمُرُور بهَا، وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسُئِلَ مَالك عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ فَقَالَ: قد كَانَ نهى عَنهُ ثمَّ أذن فِيهِ، فَلَو فعل ذَلِك إِنْسَان وَلم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بَأْسا. وَفِي (التَّوْضِيح) أَيْضا: وَالْأمة مجمعة على زِيَارَة قبر نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَكَانَ ابْن عمر إِذا قدم من سفر أُتِي قَبره المكرم فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه. وَمعنى النَّهْي عَن زِيَارَة الْقُبُور إِنَّمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام عِنْد قربهم بِعبَادة الْأَوْثَان واتخاذ الْقُبُور مَسَاجِد، فَلَمَّا استحكم الْإِسْلَام وَقَوي فِي قُلُوب النَّاس وَأمنت عبَادَة الْقُبُور وَالصَّلَاة إِلَيْهَا نسخ النَّهْي عَن زيارتها لِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة وتزهد فِي الدُّنْيَا وَعَن طَاوُوس: كَانُوا يستحبون أَن لَا يتفرقوا عَن الْمَيِّت سَبْعَة أَيَّام لأَنهم يفتنون ويحاسبون فِي قُبُورهم سَبْعَة أَيَّام، وَحَاصِل الْكَلَام من هَذَا كُله أَن زِيَارَة الْقُبُور مَكْرُوهَة للنِّسَاء، بل حرَام فِي هَذَا الزَّمَان، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر لِأَن خروجهن على وَجه فِيهِ الْفساد والفتنة، وَإِنَّمَا رخصت الزِّيَارَة لتذكر أَمر الْآخِرَة وللاعتبار بِمن مضى وللتزهد فِي الدُّنْيَا.
23 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ إذَا كانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ لِقَوْلِ الله تعَالَى: {قُوا أنُفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَارا} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . إِلَى آخِره، هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا لفظ حَدِيث نذكرهُ عَن قريب مُسْندًا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَقْيِيد من المُصَنّف لمُطلق الحَدِيث، وَحمل مِنْهُ لرِوَايَة ابْن عَبَّاس الْمقيدَة بالبعضية على رِوَايَة ابْن عمر الْمُطلقَة. قلت: لَا نسلم أَن التَّقْيِيد من المُصَنّف، بل هما حديثان أَحدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد، فترجم بِلَفْظ الحَدِيث الْمُقَيد تَنْبِيها على أَن الحَدِيث الْمُطلق مَحْمُول عَلَيْهِ، لِأَن الدَّلَائِل دلّت على تَخْصِيص الْعَذَاب بِبَعْض الْبكاء لَا بكله، لِأَن الْبكاء بِغَيْر نوح مُبَاح، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: (إِذا كَانَ النوج) إِلَى آخِره، لَيْسَ من الحَدِيث الْمَرْفُوع، بل هُوَ من كَلَام البُخَارِيّ، قَالَه استنباطا. قَوْله: (من سنته) ، بِضَم السِّين وَتَشْديد النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، أَي: من عَادَته وطريقته، وَهَكَذَا هُوَ للأكثرين. وَقَالَ ابْن قرقول: أَي: مِمَّا سنه واعتاده، إِذْ كَانَ من الْعَرَب من يَأْمر بذلك أَهله، وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَه البُخَارِيّ، وَهُوَ أحد التأويلات فِي الحَدِيث. وَضَبطه بَعضهم: بِالْبَاء، الْمُوَحدَة المكررة أَي: من أَجله، وَذكر عَن مُحَمَّد بن نَاصِر أَن الأول تَصْحِيف وَالصَّوَاب الثَّانِي، وَأي سنة للْمَيت؟ وَفِي بعض النّسخ: بَاب إِذا كَانَ النوح من سنَنه، وَضَبطه بالنُّون. قَوْله: (لقَوْل الله تَعَالَى) إِلَى آخِره، وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أَن الشَّخْص إِذا كَانَ نائحا وَأَهله يقتدون بِهِ فَهُوَ صَار سَببا لنوح أَهله، فَمَا وقى أَهله من النَّار فَخَالف الْأَمر، ويعذب بذلك قَوْله: (قوا) ، أَمر للْجَمَاعَة من: وقى يقي، وَأَصله أوقيوا، لِأَن الْأَمر من يقي: ق، وَأَصله أوقَ، فحذفت الْوَاو تبعا ليقي، وَأَصله: يوقي حذفت الْوَاو، ولوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، فَصَارَ: يقي على وزن: يعي، وَالْأَمر مِنْهُ: ق، وعَلى الأَصْل: أوق، فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا للمضارع اسْتغنى عَن الْهمزَة، فحذفت فَصَارَ: قِ، على وزن: ع. تَقول: ق، قيا قوا. وَمعنى: قوا إحفظوا لِأَنَّهُ من الْوِقَايَة، وَهُوَ الْحِفْظ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ(8/70)
هَذَا حَدِيث ابْن عمر أخرجه فِي: بَاب الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن مَوْصُولا مطولا وَجه إِيرَاد هَذِه الْآيَة فِي معرض الِاسْتِدْلَال هُوَ أَن الْأَمر فِيهَا يَشْمَل سَائِر جِهَات الْوِقَايَة، فالرجل إِذا كَانَ رَاعيا لأَهله وَجَاء مِنْهُ شَرّ وَتَبعهُ أَهله على ذَلِك أَو هُوَ رَآهُمْ يَفْعَلُونَ الشَّرّ وَلم ينههم عَن ذَلِك فَإِنَّهُ يسْأَل عَنهُ لِأَن ذَلِك كَانَ من سنته.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْآيَة والْحَدِيث وَهُوَ مُقَيّد وَالْآيَة مُطلقَة؟ قلت: الْآيَة بظاهرها، وَإِن دلّت على الْعُمُوم، وَلَكِن خص مِنْهَا من لم يكن لَهُ علم بِمَا يَفْعَله أَهله من الشَّرّ، وَمن نَهَاهُم عَنهُ فَلم ينْتَهوا فَلَا مُؤَاخذَة هَهُنَا، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: إِذا كَانَ ينهاهم فِي حَيَاته فَفَعَلُوا شَيْئا من ذَلِك بعد وَفَاته لم يكن عَلَيْهِ شَيْء.
فإذَا لَمْ يَكُنْ منْ سُنَّتِهِ فَهْوَ كمَا قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا: {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) .
هَذَا قسيم قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته، يَعْنِي: فَإِذا لم يكن النوح مَعَ الْبكاء من سنته أَي: من عَادَته وطريقته. قَوْله: (كَمَا قَالَت) ، جَوَاب إِذا المتضمن معنى الشَّرْط، فحاصل الْمَعْنى إِذا لم يكن من سنته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، كَقَوْل عَائِشَة: فالكاف للتشبيه، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: كَقَوْل عَائِشَة مستدلة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461. الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) . أَي: وَلَا تحمل نفس حاملة ذَنبا ذَنْب نفس أُخْرَى، حَاصله: لَا تؤاخذ نفس بِغَيْر ذنبها، وأصل: لَا تزر، لَا توزر، لِأَنَّهُ من الْوزر، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء الَّتِي للْغَائِب والكسرة، وحملت عَلَيْهِ بَقِيَّة الْأَمْثِلَة.
وَهْوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ذُنُوبا إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلُ مِنْهُ شَيءٌ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده، أَي: مَا استدلت عَائِشَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7) . كَقَوْلِه تَعَالَى: {وان تدع مثقلة} (فاطر: 81) . أَي: وَإِن تدع نفس مثقلة بذنوبها غيرا إِلَى حمل أَوزَارهَا: {لَا يحمل مِنْهُ شَيْء} (فاطر: 81) . وَهَذَا يدل على أَنه لَا غياث يَوْمئِذٍ لمن اسْتَغَاثَ من الْكفَّار، حَتَّى إِن نفسا قد أثقلتها الأوزار لَو دعت إِلَى أَن يخف بعض حملهَا لم تجب وَلم تغث {وَلَو كَانَ ذَا قربى} (فاطر: 81) . أَي: وَإِن كَانَ الْمَدْعُو بعض قرابتها من أَب أَو أم أَو ولد أَو أَخ، والمدعو وَإِن لم يكن لَهُ ذكر يدل عَلَيْهِ. {وَإِن تدع مثقلة} (فاطر: 81) . وَإِنَّمَا لم يذكر الْمَدْعُو ليعم ويشمل كل مدعُو، واستقام إِضْمَار الْعَام وَإِن لم يَصح أَن يكون الْعَام ذَا قربى للمثقلة لِأَنَّهُ من الْعُمُوم الْكَائِن على الْبَدَل.
وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ البُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ
هَذَا عطف على أول التَّرْجَمَة، تَقْدِيره: بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعذب الْمَيِّت ... إِلَى آخِره، وَفِي بَيَان مَا يرخص من الْبكاء بِغَيْر نياحة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ عطف على: كَمَا قَالَت، أَي: فَهُوَ كَمَا يرخص فِي عدم الْعَذَاب، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة، والترخيص من الْبكاء فِي غير نوح جَاءَ فِي حَدِيث أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا ابْن الْأَصْبَهَانِيّ حَدثنَا شريك عَن عَامر بن سعد، قَالَ: دخلت عرسا وَفِيه قرظة بن كَعْب وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ قَالَ: فَذكر حَدِيثا لَهما قَالَا فِيهِ: إِنَّه قد رخص لنا فِي الْبكاء عِنْد الْمُصِيبَة من غير نوح، وَصَححهُ الْحَاكِم وَلَكِن لَيْسَ إِسْنَاده على شَرط البُخَارِيّ، فَلذَلِك لم يذكرهُ، وَلكنه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَمَا يرخص. . إِلَى آخِره، وقرظه، بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء والظاء المشالة، أَنْصَارِي خزرجي، كَانَ أحد من وَجهه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْكُوفَة ليفقه النَّاس، وَكَانَ على يَدَيْهِ فتح الرّيّ، واستخلفه عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْكُوفَة. وَقَالَ ابْن سعيد وَغَيره: مَاتَ فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْما إِلَّا كانَ عَلَى ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا وَذالِكَ لأِنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ
هَذَا أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَوْصُولا فِي خلق آدم: حَدثنَا عمر بن حَفْص بن غياث حَدثنَا أبي حَدثنَا الْأَعْمَش. قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث وَأخرجه(8/71)
أَيْضا فِي الدِّيات فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَمن أَحْيَاهَا} (الْمَائِدَة: 22) . عَن قبيصَة عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق إِلَى آخِره، وَفِي الِاعْتِصَام أَيْضا عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن جمَاعَة، وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن خشرم، وَفِي الْمُحَاربَة عَن عَمْرو بن عَليّ، وَابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن هِشَام ابْن عمار ثمَّ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث أَن الْقَاتِل الْمَذْكُور يُشَارك من فعل مثله لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فتح هَذَا الْبَاب وَسوى هَذَا الطَّرِيق، فَكَذَلِك من كَانَ طَرِيقَته النوح على الْمَيِّت يكون قد فتح لأَهله هَذَا الطَّرِيق فَيُؤْخَذ على فعله، ومدار مُرَاد البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة على أَن الشَّخْص لَا يعذب بِفعل غَيره إلاَّ إِذا كَانَ لَهُ فِيهِ تسبب، فَمن قَالَ بِجَوَاز تَعْذِيب شخص يفعل غَيره فمراده هَذَا، وَمن نَفَاهُ فمراده مَا إِذا لم يكن فِيهِ تسبب أصلا.
قَوْله: (لَا تقتل نفس) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ظلما) نصب على التَّمْيِيز، أَي: من حَيْثُ الظُّلم. قَوْله: (ابْن آدم الأول) ، المُرَاد بِهِ قابيل الَّذِي قتل أَخَاهُ شقيقه هابيل ظلما وحسدا. قَوْله: (كفل) ، بِكَسْر الْكَاف: وَهُوَ النَّصِيب والحظ. وَقَالَ الْخَلِيل: الضَّعِيف، وَهَذَا الحَدِيث من قَوَاعِد الْإِسْلَام مُوَافق لحَدِيث (من سنّ سنة حَسَنَة. .) الحَدِيث، وَغَيره فِي الْخَيْر وَالشَّر. قَوْله: (وَذَلِكَ) أَي: كَون الكفل على ابْن آدم الأول. قَوْله: (بِأَنَّهُ) أَي: بِسَبَب أَن ابْن آدم الأول هُوَ الَّذِي سنّ سنة قتل النَّفس ظلما وحسدا.
4821 - حدَّثنا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالَا أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عاصِمُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ أبِي عُثْمَانَ قَالَ حدَّثني أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أرْسَلَتِ ابْنَةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَيْهِ إنَّ ابْنا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا فأرْسَلَ يُقْرِىءُ السَّلاَمَ ويَقُولُ إنَّ لِلاهِ مَا أخَذَ ولَهُ مَا أعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأجَلٍ مُسَمَّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ تُقْسِمُ عَليهِ لَيَأتِيَنَّهَا فقامَ ومَعَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ وَابَيُّ بنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بنُ ثَابِت وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أنَّهُ قَالَ كأنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ الله مَا هاذَا فَقَالَ هاذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلهَا الله فِي قُلوبِ عِبَادِهِ وَإنَّمَا يَرْحَمُ الله منْ عِبادِهِ الرُّحَمَاءَ..
هَذَا الحَدِيث مُطَابق لقَوْله: (وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح) فَإِن قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، بكاء من غير نوح فَيدل على أَن الْبكاء الَّذِي يكون من غير نوح جَائِز، فَلَا يُؤَاخذ بِهِ الباكي وَلَا الْمَيِّت.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عبد الله بن عُثْمَان أَبُو عبد الرَّحْمَن. الثَّانِي: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّالِث: عبد الله ابْن الْمُبَارك. الرَّابِع: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الْخَامِس: أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مل، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، مر فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة. السَّادِس: أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاه، وَأمه أم أَيمن، وأسمها بركَة حاضنة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مروزيون وَعَاصِم وَأَبُو عُثْمَان بصريان. وَفِيه: عَاصِم عَن أبي عُثْمَان، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة فِي أَوَاخِر الطِّبّ عَن عَاصِم: سَمِعت أَبَا عُثْمَان. وَفِيه: عَن أبي عُثْمَان بِلَا نِسْبَة. وَفِي التَّوْحِيد من طَرِيق حَمَّاد عَن عَاصِم: عَن أبي عُثْمَان هُوَ النَّهْدِيّ. وَفِيه: أَن رِوَايَته عَن شيخين أَحدهمَا بلقبه، لِأَن عَبْدَانِ لقب عبد الله، وَالْآخر بِلَا نِسْبَة، وَكَذَلِكَ عبد الله بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: أَبُو عُثْمَان مَذْكُور بكنيته.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن حجاج بن منهال، وَفِي النذور عَن حَفْص بن عمر، وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد ابْن الْفضل وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي كَامِل الجحدري وَعَن ابْن نمير وَعَن أبي بكر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْوَلِيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك، سبعتهم عَن عَاصِم الْأَحول عَن أبي عُثْمَان بِهِ، فَافْهَم.(8/72)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرْسلت بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هِيَ: زَيْنَب، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة أبيَّة مُعَاوِيَة عَن عَاصِم الْمَذْكُور فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) وَكَذَا ذكره ابْن بشكوال. قَوْله: (إِن ابْنا لَهَا) أَي: لبِنْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كتب الدمياطي بِخَطِّهِ فِي الْحَاشِيَة: إِن اسْمه عَليّ بن أبي الْعَاصِ بن الرّبيع، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم يَقع مُسَمّى فِي شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث. قلت: فِي نظره نظر لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على أَن ابْنهَا هُوَ عَليّ فِي طرق هَذَا الحَدِيث أَن لَا يطلع عَلَيْهِ غَيره فِي طَرِيق من الطّرق الَّتِي لم يطلع هُوَ عَلَيْهَا، وَمن أَيْن لَهُ إحاطة جَمِيع طرق هَذَا الحَدِيث أَو غَيره؟ والدمياطي حَافظ متقن وَلَيْسَ ذكر هَذَا من عِنْده لِأَن مثل هَذَا توقيفي فَلَا دخل لِلْعَقْلِ فِيهِ، فَلَو لم يطلع عَلَيْهِ. لم يُصَرح بِهِ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: إِن الزبير بن بكار وَغَيره من أهل الْعلم بالأخبار ذكرُوا أَن عليا الْمَذْكُور عَاشَ حَتَّى ناهز الْحلم، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أردفه على رَاحِلَته يَوْم فتح مَكَّة، وَمثل هَذَا لَا يُقَال فِي حَقه: صبي، عرفا. قلت: بلَى، يُقَال: صبي إِلَى أَن يقرب من الْبلُوغ عرفا، وَأما الصَّبِي فِي اللُّغَة فقد قَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) : الصَّبِي من لدن يُولد إِلَى أَن يعظم، وَالْجمع أصبية وصبية وصبوان وصبوات وصبيان، قلبوا الْوَاو فِيهَا يَاء للكسرة الَّتِي قبلهَا وَلم يعتدوا بالساكن حاجزا حصينا لضَعْفه بِالسُّكُونِ. قَوْله: (قبض) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: قرب من أَن يقبض، وَيدل على ذَلِك أَن فِي رِوَايَة حَمَّاد: (أرْسلت تَدعُوهُ إِلَى ابْنهَا فِي الْمَوْت) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (إِن ابْنَتي قد حضرت) . وروى أَبُو دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا شُعْبَة عَن عَاصِم الْأَحول سَمِعت أَبَا عُثْمَان (عَن أُسَامَة بن زيد أَن ابْنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسلت إِلَيْهِ وَإِنَّا مَعَه وَسعد، أَحسب وَأبي أَن ابْني أَو ابْنَتي قد حضر فاشهدنا) الحَدِيث. وَقَوله (أَو ابْنَتي) ، شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْنَتي، لَا، ابْني، كَمَا ثَبت فِي (مُسْند أَحْمد) : وَلَفظه: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمامة بنت زَيْنَب وَهِي لأبي الْعَاصِ بن الرّبيع ونفسها تتقعقع كَأَنَّهَا فِي شن) ، وَفِي رِوَايَة بَعضهم: أُمَيْمَة، بِالتَّصْغِيرِ، وَهِي أُمَامَة الْمَذْكُورَة. قلت: أهل الْعلم بالأخبار اتَّفقُوا على أَن أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ من زَيْنَب بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عاشت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تزَوجهَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد وَفَاة فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ثمَّ عاشت عِنْد عَليّ حَتَّى قتل عَنْهَا، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل أيد مَا ادَّعَاهُ من أَن الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْنَتي، لَا: ابْني، بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (اسْتعزَّ بأمامة بنت أبي الْعَاصِ فَبعثت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ تَقول لَهُ) فَذكر نَحْو حَدِيث أُسَامَة. وَقَوله: (اسْتعزَّ) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الزَّاي، أَي: اشْتَدَّ بهَا الْمَرَض وأشرفت على الْمَوْت. قلت: اتّفق أهل الْعلم بِالنّسَبِ أَن زَيْنَب لم تَلد لأبي الْعَاصِ إلاَّ عليا وأمامة فَقَط، وَاتَّفَقُوا أَيْضا أَن أُمَامَة تَأَخَّرت وفاتها إِلَى التَّارِيخ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، فَدلَّ أَن الصَّوَاب قَول من قَالَ: ابْني، لَا: ابْنَتي، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ. قَوْله: (يقريء السَّلَام) بِضَم الْيَاء، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَا وَجه لَهُ إلاَّ أَن يُرِيد: يقْرَأ عَلَيْك، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ عَن الْفراء، يُقَال: قَرَأت عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَقْرَأْته السَّلَام. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: لَا يُقَال: أَقرَأته السَّلَام، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: والعامة تَقول: قريت السَّلَام، بِغَيْر همز وَهُوَ خطأ. قَوْله: (إِن لله مَا أَخذ وَله مَا أعْطى) ، أَي: لَهُ الْخلق كُله وَبِيَدِهِ الْأَمر كُله وكل شَيْء عِنْده بِأَجل مُسَمّى، لِأَنَّهُ لما خلق الدواة واللوح والقلم أَمر الْقَلَم أَن يكْتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا معقب لحكمه، قيل: قدم ذكر الْأَخْذ على الْإِعْطَاء، وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْوَاقِع لما يَقْتَضِيهِ الْمقَام، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَرَادَ الله أَن يَأْخُذهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أعطَاهُ، فَإِن أَخذه أَخذ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجزع، لِأَن مستودع الْأَمَانَة لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يجزع إِذا استعيدت مِنْهُ. وَكلمَة: مَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَوْصُولَة، ومفعول: أَخذ وَأعْطى، مَحْذُوف لِأَن الْمَوْصُول لَا بُد لَهُ من صلَة وعائد، ونكتة حذف الْمَفْعُول فيهمَا الدّلَالَة على الْعُمُوم، فَيدْخل فِيهِ أَخذ الْوَلَد وإعطاؤه وَغَيرهمَا، وَيجوز أَن تكون كلمة: مَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: إِن لله الْأَخْذ والإعطاء وَهُوَ أَيْضا أَعم من إِعْطَاء الْوَلَد وَأَخذه. قَوْله: (وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى) أَي: كل وَاحِد من الْأَخْذ والإعطاء عِنْد الله مُقَدّر بِأَجل مُسَمّى، أَي: مَعْلُوم، وَالْأَجَل يُطلق على الْحَد الْأَخير وعَلى مَجْمُوع الْعُمر، وَمعنى: عِنْده، فِي علمه وإحاطته. قَوْله فلتبصر أَمر للْغَائِب الْمُؤَنَّث ولتحتسب أَي تنوي بصبرها طلب الثَّوَاب من رَبهَا ليحسب لَهَا ذَلِك من عَملهَا الصَّالح قَوْله: (فَأرْسلت إِلَيْهِ تقسم) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، و: تقسم، جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَوَقع فِي حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنَّهَا راجعته مرَّتَيْنِ(8/73)
وَأَنه إِنَّمَا قَامَ فِي ثَالِث مرّة، أما ترك إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَولا فَيحْتَمل أَنه كَانَ فِي شغل فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو كَانَ امْتِنَاعه مُبَالغَة فِي إِظْهَار التَّسْلِيم لرَبه، أَو كَانَ لبَيَان الْجَوَاز فِي أَن من دعِي لمثل ذَلِك لم تجب عَلَيْهِ الْإِجَابَة، بِخِلَاف الْوَلِيمَة مثلا، وَأما إجَابَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد إلحاحها عَلَيْهِ فَكَانَت دفعا لما يَظُنّهُ بعض الجهلة أَنَّهَا نَاقِصَة الْمَكَان عِنْده، أَو أَنه لما رَآهَا عزمت عَلَيْهِ بالقسم حن عَلَيْهَا بإجابته. قَوْله: (فَقَامَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِي: وَمَعَهُ، للْحَال، وَهُوَ خبر لقَوْله: (سعد بن عبَادَة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة: الخزرجي، كَانَ سيدا جوادا ذَا رياسة غيورا، مَاتَ بِالشَّام، وَيُقَال: إِنَّه قَتله الْجِنّ. وَقَالُوا.
(قد قتلنَا سيد الْخَزْرَج سعد بن عبَادَة ... رميناه بِسَهْم فَلم يخط فُؤَاده)
(ومعاذ بن جبل) مر فِي أول كتاب الْإِيمَان، (وَأبي بن كَعْب) مر فِي: بَاب مَا ذكر من ذهَاب مُوسَى، فِي كتاب الْعلم، (وَزيد بن ثَابت) مر فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ، فِي كتاب الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: (فَقَامَ وَقَامَ مَعَه رجال) . وَقد سمى مِنْهُم غير من سمي فِي هَذِه الرِّوَايَة: عبَادَة بن الصَّامِت، وَهُوَ فِي رِوَايَة: عبد الْوَاحِد فِي أَوَائِل التَّوْحِيد، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة أَن أُسَامَة رَاوِي الحَدِيث كَانَ مَعَهم، وَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنه كَانَ مَعَهم، وَوَقع فِي رِوَايَة شُعْبَة فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور (وَأبي أَو أبي) بِالشَّكِّ، فَالْأول: بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء، فعلى هَذَا كَانَ زيد بن حَارِثَة مَعَهم، وَالثَّانِي: بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء، وَهُوَ أبي بن كَعْب، وَرِوَايَة البُخَارِيّ ترجح الثَّانِي لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ بِلَفْظ: وَأبي بن كَعْب، وَكَانَ الشَّك من شُعْبَة، لِأَن ذَلِك لم يَقع فِي رِوَايَة غَيره، وَالله أعلم. قَوْله: (فَرفع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي) ، بالراء: من الرّفْع، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: (فَدفع) ، بِالدَّال، وَبَين فِي رِوَايَة شُعْبَة أَنه وضع فِي حجره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَهُنَا حذف كثير، وَالتَّقْدِير: فَذَهَبُوا إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى بَيتهَا فَاسْتَأْذنُوا فَأذن لَهُم فَدَخَلُوا، فَرفع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي، وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد: (فَلَمَّا دَخَلنَا ناولوا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّبِي) قَوْله: (وَنَفسه تتقعقع) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، أَي: تضطرب وتتحرك، وَفِي بعض النّسخ: (تقَعْقع) ، فَالْأول من التقعقع من: بَاب التفعلل، وَالثَّانِي: من القعقعة، وَهِي حِكَايَة حَرَكَة يسمع مِنْهَا صَوت، قَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال للجلد الْيَابِس إِذا تخشخش فَحكى صَوت حركاته: قعقع قعقعة، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: القعقعة والعقعقة، والشخشخة والخشخشة، والخفخفة والفخفخة، والشنشنة والنشنشة: كلهَا حَرَكَة القرطاس وَالثَّوْب الْجَدِيد. وَفِي (الصِّحَاح) : القعقعة حِكَايَة صَوت السِّلَاح، وَفِي (نَوَادِر أبي مسحل) أَخَذته الْحمى بقعقعة أَي: برعدة. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: القعقعة صَوت الْحِجَارَة والخطاف والبكرة والمحور. وَفِي (الْمُحكم) : قعقعته، حركته. وَقَالَ شمر: قَالَ خَالِد بن جنبه: معنى قَوْله: (نَفسه تتقعقع) أَي: كلما صَارَت إِلَى حَال لم تلبث أَن تصير إِلَى حَال أُخْرَى تقرب من الْمَوْت لَا تثبت على حَالَة وَاحِدَة. قَوْله: (كَأَنَّهَا شن) ، وَفِي رِوَايَة: (كَأَنَّهَا فِي شن) ، والشن، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: السقاء الْبَالِي، وَالْجمع: شنان. وَقَالَ ابْن التِّين: وَضَبطه بَعضهم بِكَسْر الشين وَلَيْسَ بِشَيْء، وَجه الرِّوَايَة الأولى: أَنه شبه النَّفس بِنَفس الْجلد، وَهُوَ أبلغ فِي الْإِشَارَة إِلَى شدَّة الضعْف، وَوجه الثَّانِيَة: أَنه شبه الْبدن بِالْجلدِ الْيَابِس الْخلق، وحركة الرّوح فِيهِ كَمَا يطْرَح فِي الْجلد من حَصَاة وَنَحْوهَا. قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) أَي: عينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي نزل مِنْهُمَا الدمع. قَوْله: (فَقَالَ سعد) أَي: سعد بن عبَادَة الْمَذْكُور، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الْوَاحِد: (فَقَالَ عبَادَة بن الصَّامِت) ، وَالصَّوَاب مَا فِي الصَّحِيح. قَوْله: (مَا هَذَا؟) أَي: فيضان الْعين، كَأَنَّهُ اسْتغْرب ذَلِك مِنْهُ لِأَنَّهُ يُخَالف مَا عَهده مِنْهُ من مقاومة الْمُصِيبَة بِالصبرِ. قَوْله: (قَالَ: هَذِه) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذِه، أَي الدمعة رَحْمَة، أَي أثر رَحْمَة جعلهَا الله فِي قُلُوب عباده، أَي: رَحْمَة على الْمَقْبُوض تبْعَث على التَّأَمُّل فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا توهمت من الْجزع وَقلة الصَّبْر. وَفِي بعض النّسخ: (قَالَ: إِنَّه رَحْمَة) أَي: إِن فيضان الدمع أثر رَحْمَة. وَفِي لفظ (فِي قُلُوب من شَاءَ من عباده) وَقد صَحَّ أَن الله خلق مائَة رَحْمَة فَأمْسك عِنْده تسعا وَتِسْعين وَجعل فِي عباده رَحْمَة فبها يتراحمون ويتعاطفون وتحن الْأُم على وَلَدهَا، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع تِلْكَ الرَّحْمَة إِلَى التِّسْعَة وَالتسْعين فأظل بهَا الْخلق حَتَّى إِن إِبْلِيس رَأس الْكفْر يطْمع، لما يرى من رَحْمَة الله عز وَجل، قَوْله: (فَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة فِي أَوَاخِر الطِّبّ: (وَلَا يرحم الله من عباده إِلَّا الرُّحَمَاء) . والرحماء جمع: رَحِيم، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة والرحماء بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: (يرحم الله) ، و: (من عباده) فِي مَحل النصب على الْحَال من: الرُّحَمَاء.(8/74)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز استحضار ذَوي الْفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم. وَفِيه: جَوَاز الْقسم عَلَيْهِم لذَلِك. وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي إِلَى التَّعْزِيَة والعيادة بِغَيْر إذْنهمْ بِخِلَاف الْوَلِيمَة. وَفِيه: اسْتِحْبَاب إبرار الْقسم. وَفِيه: أَمر صَاحب الْمُصِيبَة بِالصبرِ قبل وُقُوع الْمَوْت ليَقَع وَهُوَ مستشعر بالرضى مقاوما للحزن بِالصبرِ. وَفِيه: تَقْدِيم السَّلَام على الْكَلَام. وَفِيه: عِيَادَة المرضى، وَلَو كَانَ مفضولاً أَو صَبيا صَغِيرا. وَفِيه: أَن أهل الْفضل لَا يَنْبَغِي أَن يقطع الْيَأْس من فَضلهمْ وَلَو ردوا أول مرّة. وَفِيه: اسْتِفْهَام التَّابِع من إِمَامه عَمَّا يشكل عَلَيْهِ مِمَّا يتعارض ظَاهره. وَفِيه: حسن الْأَدَب فِي السُّؤَال. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى وَالرَّحْمَة لَهُم. وَفِيه: التَّرْهِيب من قساوة الْقلب وجمود الْعين. وَفِيه: جَوَاز الْبكاء من غير نوح وَنَحْوه، وروى التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص كِلَاهُمَا عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (لما حضرت بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَغِيرَة فَأَخذهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضمّهَا إِلَى صَدره، ثمَّ وضع يَده عَلَيْهَا وَهِي تَئِنُّ، فَبكى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَكَتْ أم أَيمن فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتبكين يَا أم أَيمن، وَرَسُول الله عنْدك؟ فَقَالَ: مَا لي لَا أبْكِي وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يبكي؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لست أبْكِي، وَلكنهَا رَحْمَة. ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤمن بِخَير على كل حَال تنْزع نَفسه من بَين جَنْبَيْهِ وَهُوَ يحمد الله تَعَالَى) . وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ رَوَاهُ عَنهُ قَالَ: (بَكت النِّسَاء على رقية فَجعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ينهاهن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَه يَا عمر! ثمَّ قَالَ: إيَّاكُمْ ونعيق الشَّيْطَان فَإِنَّهُ مهما يكون من الْعين وَمن الْقلب فَمن الرَّحْمَة، وَمَا يكون من اللِّسَان وَالْيَد فَمن الشَّيْطَان قَالَ: وَجعلت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تبْكي على شَفير قبر رقية، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمسح الدُّمُوع عَن وَجههَا بِالْيَدِ أَو بالثياب) . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) ثمَّ قَالَ: وَهَذَا وَإِن كَانَ غير قوي، فَقَوله فِي الحَدِيث الثَّابِت: (إِن الله لَا يعذب بدمع الْعين) يدل على مَعْنَاهُ، وَيشْهد لَهُ بِالصِّحَّةِ. وروى الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة شريك عَن أبي إِسْحَاق (عَن عَامر ابْن سعد، قَالَ: شهِدت صنيعا فِيهِ أَبُو مَسْعُود وقرظة بن كَعْب وجَوارٍ يغنين، فَقلت: سُبْحَانَ الله هَذَا وَأَنْتُم أَصْحَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأهل بدر؟ فَقَالُوا: رخص لنا فِي الْغناء فِي الْعرس، والبكاء فِي غير نياحة) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: (مَاتَ ميت من آل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاجْتمع النِّسَاء يبْكين عَلَيْهِ، فَقَامَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ينهاهن ويطردهن، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعْهُنَّ يَا عمر، فَإِن الْعين دامعة وَالْقلب مصاب والعهد قريب) . وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد، قَالَت: (لما توفّي ابْن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِبْرَاهِيم بَكَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ المعزي إِمَّا أَبُو بكر وَإِمَّا عمر أَنْت أَحَق من عظم الله حَقه؟ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَدْمَع الْعين ويحزن الْقلب وَلَا نقُول مَا يسْخط الرب، لَوْلَا أَنه وعد صَادِق وموعود جَامع وَإِن الآخر تَابع للْأولِ لوجدنا عَلَيْك يَا إِبْرَاهِيم أفضل مِمَّا وجدنَا وَإِنَّا بك لَمَحْزُونُونَ) .
5821 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا أبُو عامِرٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ ابنُ سُلَيْمَانَ عنْ هلاَلِ ابنِ عَلِيٍّ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ شَهِدْنَا بِنْتا لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ علَى القَبْرِ فَرَأيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعانِ قَالَ فَقَالَ هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ أَنا. قَالَ فانْزِلْ قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِها.
(5821 طرفه فِي: 2431) .
مطابقته للتَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: (وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح) فِي قَوْله: (فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تدمعان) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد المسندي. الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو الْعَقدي. الثالثت: فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، قَالَ الْوَاقِدِيّ: اسْمه عبد الْملك وفليح لقب غلب عَلَيْهِ. الرَّابِع: هِلَال بن عَليّ بن أُسَامَة العامري. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي(8/75)
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن هِلَال، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان الْآتِيَة عَن قريب: حَدثنَا هِلَال. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَنه من أَفْرَاده وَأَبُو عَامر بَصرِي وفليح وهلال مدنيان. وَفِيه: إثنان أَحدهمَا مَذْكُور بكنيته وَالْآخر بلقبه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن سِنَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِنْتا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هِيَ: أم كُلْثُوم، زوج عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن فليح بن سُلَيْمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد. أخرجه ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فِي تَرْجَمَة أم كُلْثُوم، وَكَذَا ذكره الدولابي والطبري والطَّحَاوِي، وَكَانَت وفاتها سنة تسع، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس فسماها: رقية. أخرجه البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْأَوْسَط) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) قَالَ البُخَارِيّ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ فَإِن رقية مَاتَت وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدر لم يشهدها. قيل: حَمَّاد وهم فِي تَسْمِيَتهَا فَقَط، وَأغْرب الْخطابِيّ، فَقَالَ: هَذِه الْبِنْت كَانَت لبَعض بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنسبت إِلَيْهِ. قَوْله: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (على الْقَبْر) ، أَي: على جَانب الْقَبْر وَهُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (تدمعان) ، بِفَتْح الْمِيم، قَالَ ابْن التِّين: الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَن ماضيه: دمع، بِفَتْح الْمِيم، فَيجوز فِي مستقبله تثليث الْمِيم، وَذكر أَبُو عبيد لُغَة أُخْرَى أَن ماضيه مكسور الْعين فَتعين الْفَتْح فِي الْمُسْتَقْبل. قَوْله: (لم يقارف) ، من المقارفة بِالْقَافِ وَالْفَاء، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ لم يُذنب، وَقيل: لم يُجَامع أَهله، وَحكي عَن الطَّحَاوِيّ أَنه قَالَ: لم يقارف تَصْحِيف، وَالصَّوَاب: لم يقاول، أَي: لم يُنَازع غَيره الْكَلَام، لأَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الحَدِيث بعد الْعشَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِيهِ إِذا فسرت المقارفة بالمجامعة؟ قلت: لَعَلَّهَا هِيَ أَنه لما كَانَ النُّزُول فِي الْقَبْر لمعالجة أَمر النِّسَاء لم يرد أَن يكون النَّازِل فِيهِ قريب الْعَهْد بمخالطة النِّسَاء لتَكون نَفسه مطمئنة سَاكِنة كالناسية للشهوة، وَيُقَال: إِن عُثْمَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بَاشر جَارِيَة لَهُ، فَعلم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك، فَلم يُعجبهُ حَيْثُ شغل عَن الْمَرِيضَة المحتضرة بهَا. وَهِي أم كُلْثُوم زَوجته بنت الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَرَادَ أَنه لَا ينزل فِي قبرها معاتبة عَلَيْهِ، فكنى بِهِ عَنهُ. قَوْله: (قَالَ أَبُو طَلْحَة) ، واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْمشَاهد وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لصوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من مائَة رجل) ، وَقتل يَوْم حنين عشْرين رجلا، وَأخذ أسلابهم وَكَانَ يحثو بَين يَدي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْحَرْب، وَيَقُول: نَفسِي لنَفسك الْفِدَاء، ووجهي لوجهك اللِّقَاء، ثمَّ ينثر كِنَانَته بَين يَدَيْهِ، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرفع رَأسه من خَلفه ليرى مواقع النبل، فَكَانَ يَتَطَاوَل بصدره ليقي بِهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر فِي: بَاب مَا يذكر فِي الفخد. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأبي طَلْحَة: (فَانْزِل) قيل: إِنَّمَا عينه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن ذَلِك كَانَ صَنعته. قَالَ بَعضهم، فِيهِ نظر، فَإِن ظَاهر السِّيَاق أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اخْتَارَهُ لذَلِك لكَونه لم يَقع مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة جماع. قلت: فِي نظره نظر لِأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ جمَاعَة، بِدَلِيل قَول أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: شَهِدنَا بِنْتا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعدم وُقُوع الْجِمَاع من أبي طَلْحَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة لَا يسْتَلْزم أَن يكون مُخْتَصًّا بِهِ حَتَّى يخْتَار لذَلِك، بل الظَّاهِر إِنَّمَا اخْتَارَهُ لمباشرته بذلك وخبرته بِهِ، وَفِي (الِاسْتِيعَاب) فِي تَرْجَمته، أم كُلْثُوم: اسْتَأْذن أَبُو طَلْحَة أَن ينزل فِي قبرها فَأذن لَهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْبكاء، كَمَا ترْجم بِهِ بقوله: وَمَا يرخص من الْبكاء فِي غير نوح. وَفِيه: إِدْخَال الرِّجَال الْمَرْأَة فِي قبرها لكَوْنهم أقوى على ذَلِك من النِّسَاء. وَفِيه: إِيثَار الْبعيد الْعَهْد عَن الملاذ فِي مواراة الْمَيِّت، وَلَو كَانَ امْرَأَة، على الْأَب وَالزَّوْج. وَفِيه: جَوَاز الْجُلُوس على جَانب الْقَبْر، وَاسْتدلَّ ابْن التِّين بقوله: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالس على الْقَبْر) ، وَهُوَ قَول مَالك وَزيد بن ثَابت، وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَعَطَاء: لَا يجلس عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثِيَابه فتخلص إِلَى جلده خير لَهُ من أَن يجلس على قبر) ، أخرجه مُسلم، وَظَاهر إراد الْمحَامِلِي وَغَيره أَنه حرَام، وَنَقله النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الْأَصْحَاب، وَتَأَول مَالك وخارجة بن زيد على الْجُلُوس لقَضَاء الْحَاجة، وَهُوَ بعيد. وَفِي (التَّوْضِيح) : لَا يُوطأ أحدكُم إِلَّا الضَّرُورَة، وَيكرهُ أَيْضا الِاسْتِنَاد إِلَيْهِ احتراما. وَقَالَ: لَو تولى النِّسَاء شَأْنهَا فِي الْقَبْر فَحسن، نَص عَلَيْهِ فِي (الْأُم) .(8/76)
6821 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَبْدُ الله بنُ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي مُلَيْكَةَ. قَالَ تُوُفِّيَتِ ابنةٌ لِعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ وَإنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أوْ قَالَ جَلَسْتُ إلَى أحَدهِمَا ثُمَّ جاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَعَمْرِو بنِ عُثْمَانَ ألاَ تَنْهى عنِ البُكاءِ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَليهِ. فقالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَدْ كانَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقولُ بَعْضَ ذالِكَ ثمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِنْ مكَّةَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالبَيْدَاءِ إذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ فانْظُرْ مَنْ هَؤُلاَءِ الرَّكْبُ قَالَ فنَظَرْتُ فإذَا صُهَيْبٌ فأخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِي فَرَجَعْتُ إلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فالْحَقْ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَا أخاهْ وَا صَاحِبَاهْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَا صُهَيْبُ أتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أهْلِهِ عليْهِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَلَمَّا ماتَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ذَكَرْتُ ذالِكَ لِعَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقالَتْ رَحِمَ الله عُمَرَ وَالله مَا حَدَّثَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله لَيُعَذِّبُ المُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عليهِ وَلاكِنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الله لَيَزِيدُ الكافِرَ عذَابا بِبُكَاءِ أهْلِهِ عليهِ وقالَتْ حَسْبُكُمُ القُرْآن وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْدَ ذالِكَ وِالله هُوَ أضْحَكُ وَأبْكَى. قَالَ ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ وَالله مَا قالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا شَيْئا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن الْمَيِّت يعذب بِبَعْض بكاء أَهله) ، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وَقد مر عَن قريب، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعبد الله بن عبيد الله بِالتَّكْبِيرِ فِي الإبن والتصغير فِي الْأَب، وَأَبُو مليكَة اسْمه زُهَيْر وَقد مر غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد وَعَن دَاوُد بن رشيد وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (توفيت بنت لعُثْمَان) ، هِيَ: أم أبان، وَقد صرح بهَا مُسلم، قَالَ: حَدثنَا دَاوُد بن رشيد، قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن علية، قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب (عَن عبد الله بن أبي مليكَة، قَالَ: كنت جَالِسا فِي جنب ابْن عمر وَنحن نَنْظُر جَنَازَة أم أبان بنت عُثْمَان وَعِنْده عَمْرو بن عُثْمَان، فجَاء ابْن عَبَّاس يَقُودهُ قَائِد، فَأرَاهُ أخبرهُ بمَكَان ابْن عمر، فجَاء حَتَّى جلس إِلَى جَنْبي، فَكنت بَينهمَا، فَإِذا صَوت من الدَّار، فَقَالَ ابْن عمر: كَأَنَّهُ يعرض على عَمْرو أَن يقوم فينهاهم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله، قَالَ: فأرسلها عبد الله مُرْسلَة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كُنَّا مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى إِذا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذا هُوَ بِرَجُل نَازل فِي ظلّ شَجَرَة، فَقَالَ لي: اذْهَبْ فَاعْلَم لي من ذَلِك الرجل؟ فَذَهَبت فَإِذا هُوَ صُهَيْب، فَرَجَعت إِلَيْهِ فَقلت: إِنَّك أَمرتنِي بِأَن أعلم لَك من ذَلِك، وَإنَّهُ صُهَيْب. قَالَ: مره فليلحق بِنَا. قَالَ: فَقلت إِن مَعَه أَهله. قَالَ: وَإِن كَانَ مَعَه أَهله، وَرُبمَا قَالَ أَيُّوب مرّة: فليلحق بِنَا، فَلَمَّا قدمنَا لم يلبث أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أُصِيب، فجَاء صُهَيْب يَقُول: وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاه؟ فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ألم تعلم، أَو لم تسمع. أَيُّوب أَو قَالَ: أَو لم تعلم أَو لم تسمع أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله؟ قَالَ: فَأَما عبد الله فأرسلها مُرْسلَة، وَأما عمر فَقَالَ: بِبَعْض، فَقُمْت فَدخلت على عَائِشَة فحدثتها بِمَا قَالَ ابْن عمر، فَقَالَت: لَا وَالله مَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطّ: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أحد، وَلكنه قَالَ: إِن(8/77)
الْكَافِر يزِيدهُ الله ببكاء أَهله عذَابا، وَإِن الله هُوَ أضْحك وأبكى، وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى) . قَالَ ابْن أبي مليكَة: حَدثنِي الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: لما بلغ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَول عمر وَابْن عمر، قَالَت: إِنَّكُم لتحدثون عَن غير كاذبين وَلَا مكذبين، وَلَكِن السّمع يخطىء، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: ذكر عِنْد عَائِشَة قَول ابْن عمر: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ، فَقَالَت: رحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن، سمع شَيْئا فَلم يحفظ، إِنَّمَا مرت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَنَازَة يَهُودِيّ وهم يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكُم تَبْكُونَ وَإنَّهُ ليعذب) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: (ذكر عِنْد عَائِشَة أَن ابْن عمر يرفع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْمَيِّت يعذب فِي قَبره ببكاء أَهله، فَقَالَت: وَهَل، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون الْآن) . وَذَلِكَ مثل قَوْله: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَامَ على القليب يَوْم بدر، وَفِيه قَتْلَى بدر من الْمُشْركين، فَقَالَ لَهُم مَا قَالَ: إِنَّهُم ليستمعون مَا أَقُول، وَقد وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُم ليعلمون أَن مَا كنت أَقُول لَهُم حق، ثمَّ قَرَأت: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} (فاطر: 22) . يَقُول: حِين تبوأوا مَقَاعِدهمْ من النَّار، وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا (عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن أَنَّهَا سَمِعت عَائِشَة، ذكر لَهَا أَن عبد الله بن عمر يَقُول: إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ، فَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما أَنه لم يكذب وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على يَهُودِيَّة تبْكي عَلَيْهَا، فَقَالَ: إِنَّهُم ليبكون وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها) .
فنتكلم أَولا فِي وُجُوه الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة وَالِاخْتِلَاف فِي هَذَا الْبَاب ثمَّ نفسر بَقِيَّة أَلْفَاظ الحَدِيث، وَلم أر أحدا من شرَّاح هَذَا الْكتاب بيَّن تَحْقِيق مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب، بل أَكْثَرهم سَاق كَلَامه بِلَا تَرْتِيب وَلَا اتِّبَاع متن الحَدِيث، حَتَّى إِن النَّاظر فِيهِ لَا يقدر أَن يقف فِيهِ على كَلَام يشفي عليله، فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: الْكَلَام فِيهِ على أَقسَام:
الأول: قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: (أَن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ) وَالْآخر: أَن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ) ، واللفظان مرفوعان، فَهَل يُقَال: يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد وَيكون عَذَابه ببكاء أَهله عَلَيْهِ فَقَط؟ أَو يكون الحكم للرواية الْعَامَّة وَأَنه يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من أَهله أم لَا؟ وَأجِيب: بِأَن الظَّاهِر جَرَيَان حكم الْعُمُوم، وَأَنه لَا يخْتَص ذَلِك بأَهْله، هَذَا كُله بِنَاء على قَول من ذهب إِلَى أَن الْمَيِّت يعذب بالبكاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جعلنَا الحكم أَعم من ذَلِك، وَلم نحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَنَّهُ لَا فرق فِي الحكم عِنْد الْقَائِلين بِعَذَاب الْمَيِّت بالبكاء أَن يكون الباكي عَلَيْهِ من أَهله أَو من غَيرهم، بِدَلِيل النائحة الَّتِي لَيست من أهل الْمَيِّت، وَمَا ورد فِي عُمُوم النائحة من الْعَذَاب، بل أَهله أعذر فِي الْبكاء عَلَيْهِ لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: (مَاتَ ميت فِي آل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاجْتمع النِّسَاء يبْكين عَلَيْهِ، فَقَامَ عمر ينهاهن ويطردهن، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دَعْهُنَّ يَا عمر، فَإِن الْعين دامعة وَالْقلب مصاب والعهد قريب) . وَهَذَا التَّعْلِيل الَّذِي رخص لأَجله فِي الْبكاء خَاص بِأَهْل الْمَيِّت وَقَوله: (ببكاء أَهله عَلَيْهِ) خرج مخرج الْغَالِب الشَّائِع، إِذْ الْمَعْرُوف أَنه إِنَّمَا يبكي على الْمَيِّت أَهله.
الثَّانِي: هَل لقَوْله: الْحَيّ، مَفْهُوم حَتَّى أَنه لَا يعذب ببكاء غير الْحَيّ؟ وَهل يتَصَوَّر الْبكاء من غير الْحَيّ وَيكون احْتِرَازًا بالحي عَن الجمادات، لقَوْله عز وَجل: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} (الدُّخان: 92) . فمفهومه أَن السَّمَاء وَالْأَرْض يَقع مِنْهُمَا الْبكاء على غَيرهم، وعَلى هَذَا فَيكون هَذَا بكاء على الْمَيِّت وَلَا عَذَاب عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ إِجْمَاعًا. وَقد روى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من رِوَايَة يزِيد الرقاشِي، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من مُؤمن إلاَّ وَله بَابَانِ فِي السَّمَاء: بَاب يخرج مِنْهُ رزقه، وَبَاب يدْخل فِيهِ كَلَامه وَعَمله، فَإِذا مَاتَ فقداه وبكيا عَلَيْهِ، وتلا هَذِه الْآيَة: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا كَانُوا منظرين} (الدُّخان: 92) . وَأما تصور الْبكاء من الْمَيِّت فقد ورد فِي حَدِيث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أحدكُم إِذا بَكَى استعبر لَهُ صويحبة، وَالْمرَاد بصويحبة الْمَيِّت، وَمعنى استعبر إِمَّا على بَابه للطلب بِمَعْنى طلب نزُول العبرات، وَإِمَّا بِمَعْنى نزلت العبرات) . وَبَاب الاستفعال يرد على غير بَابه أَيْضا.
الثَّالِث: جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر: (الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ) وَفِي بعض طرق حَدِيثه فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : (من نيح عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) ، فَالرِّوَايَة الأولى عَامَّة فِي الْبكاء، وَهَذِه الرِّوَايَة خَاصَّة فِي النِّيَاحَة، فههنا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، فَتكون الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا مُطلق الْبكاء مَحْمُولَة على الْبكاء بِنوح، وَيُؤَيّد ذَلِك إِجْمَاع الْعلمَاء على حمل ذَلِك على الْبكاء بِنوح، وَلَيْسَ المُرَاد مُجَرّد دمع الْعين، وَمِمَّا يدل على أَنه لَيْسَ المُرَاد عُمُوم الْبكاء. قَوْله: (إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ) ، فقيده بِبَعْض الْبكاء، فَحمل على مَا فِيهِ نياحة، جمعا بَين(8/78)
الْأَحَادِيث، وَيدل على عدم إِرَادَة الْعُمُوم من الْبكاء بكاء عمر بن الْخطاب وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ بكاء ابْنه عبد الله بن عمر وهما رَاوِيا الحَدِيث، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: حَضَره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر يَعْنِي: سعد بن معَاذ فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنِّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وَإِنِّي لفي حُجْرَتي، وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان، قَالَ: أتيت بنعي النُّعْمَان بن مقرن فَوضع يَده على رَأسه وَجعل يبكي، وروى أَيْضا عَن ابْن علية عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابْن عمر فِي السُّوق فنعى إِلَيْهِ حجر، فَأطلق حبوته وَقَامَ وَعَلِيهِ النحيب.
الرَّابِع: نِسْبَة عَائِشَة عمر وَابْنه عبد الْملك إِلَى الْوَهم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقد اخْتلف فِي محمل الْحَدِيثين، فَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون الْأَمر فِي هَذَا على مَا ذهبت إِلَيْهِ عَائِشَة، لِأَنَّهَا قد رَوَت أَن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ فِي شَأْن يَهُودِيّ، وَالْخَبَر الْمُفَسّر أولى من الْمُجْمل، ثمَّ احتجت بِالْآيَةِ. قَالَ: وَقد يحْتَمل أَن يكون مَا رَوَاهُ ابْن عمر صَحِيحا من غير أَن يكون فِيهِ خلاف لِلْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يوصون أَهْليهمْ بالبكاء وَالنوح عَلَيْهِم، وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا من مذاهبهم، وَهُوَ مَوْجُود فِي أشعارهم كَقَوْل طرفَة بن العَبْد:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا أم معبد)
وَمثل هَذَا كثير فِي أشعارهم، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالميت إِنَّمَا تلْزمهُ الْعقُوبَة فِي ذَلِك بِمَا تقدم فِي ذَلِك من أمره إيَّاهُم بذلك وَقت حَيَاته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا) . وَقد مَال إِلَى قَول عَائِشَة الشَّافِعِي فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) عَنهُ، فَقَالَ: وَمَا رَوَت عَائِشَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أشبه أَن يكون مَحْفُوظًا عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِدلَالَة الْكتاب ثمَّ السّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 07) . وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} (النَّجْم: 93) . وَقَوله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} (الزلزلة: 7 و 8) . وَقَوله تَعَالَى: {لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} (طه: 51) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل: هَذَا إبنك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما إِنَّه لَا يجني عَلَيْك وَلَا تجني عَلَيْهِ، فَأعْلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا أعلم الله من أَن جِنَايَة كل امرىء عَلَيْهِ كَمَا عمله لَا لغيره. وَأما قَول من حمل ذَلِك على الْوَصِيَّة بذلك فقد نَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الْمُزنِيّ، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور أَنهم تأولوا ذَلِك على من وصّى أَن يبكى عَلَيْهِ ويناح بعد مَوته، فنفذت وَصيته. ثمَّ حكى النَّوَوِيّ عَن طَائِفَة أَنه: مَحْمُول على من أوصى بالبكاء وَالنوح، أَو لم يوص بتركهما، قَالَ: وَحَاصِل هَذَا القَوْل إِيجَاب الْوَصِيَّة بتركهما، وَمن أهملهما عذب بتركهما، وَحكى عَن طَائِفَة أَن معنى الْأَحَادِيث أَنهم كَانُوا ينوحون على الْمَيِّت ويندبونه بأَشْيَاء هِيَ محَاسِن فِي زعمهم، وَهِي فِي الشَّرْع قبائح، كَقَوْلِهِم: يَا مرمل النسوان، وموتم الْولدَان، ومخرب الْعمرَان، ومفرق الأخدان. ويروى ذَلِك شجاعة وفخرا. وَحكى عَن طَائِفَة أَن مَعْنَاهُ أَنه يعذب بِسَمَاع بكاء أَهله ويرق لَهُم. قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ أولى الْأَقْوَال، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث فِيهِ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر امْرَأَة عَن الْبكاء على ابْنهَا، وَقَالَ: إِن أحدكُم إِذا بَكَى استعبر لَهُ صويحبه، فيا عباد الله لَا تعذبوا إخْوَانكُمْ) . وَحكى الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم: ذهب إِلَى أَنه مَخْصُوص بِبَعْض الْأَمْوَات الَّذين وَجب عَلَيْهِم الْعَذَاب بذنوب اقترفوها، وَجرى من قَضَاء الله سُبْحَانَهُ فيهم أَن يكون عَذَابه وَقت الْبكاء عَلَيْهِم، وَيكون كَقَوْلِهِم: مُطِرْنَا بنوءِ كَذَا، أَي: عِنْد نوء كَذَا. قَالَ: كَذَلِك قَوْله: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) أَي: عِنْد بكائهم عَلَيْهِ لاستحقاقه ذَلِك بِذَنبِهِ، وَيكون ذَلِك حَالا لَا سَببا، لأَنا لَو جَعَلْنَاهُ سَببا كَانَ مُخَالفا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 7) . وَحكى النَّوَوِيّ هَذَا الْمَعْنى عَن عَائِشَة، قيل: وَيدل لذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عُرْوَة، قَالَ: ذكر عِنْد عَائِشَة أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يرفع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت ليعذب فِي قَبره ببكاء أَهله، فَقَالَت: وَهَلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه ليعذب بخطيئته أَو بِذَنبِهِ، وَإِن أَهله ليبكون عَلَيْهِ الْآن) . وروى ان ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن ابْن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة بعد قَوْلهَا: وَهَلَ أَبُو عبد الرَّحْمَن إِنَّمَا قَالَ: إِن أهل الْمَيِّت ليبكون عَلَيْهِ وَإنَّهُ ليعذب بجرمه.
وَالْحَاصِل أَن الْعلمَاء ذكرُوا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله) ثَمَانِيَة أَقْوَال، أَصَحهَا وَهُوَ تَأْوِيل الْجُمْهُور على أَنه مَحْمُول على من أوصى بِهِ، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِذا كَانَ النوح من سنته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز التعذيب فِي الدُّنْيَا(8/79)
بِفعل الْغَيْر لقَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} (الْأَنْفَال: 52) . وَكَذَا فِي البرزخ، وَأما آيَة الوازرة فَإِنَّمَا هِيَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَط، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أحسن الْوُجُوه الثَّمَانِية فِي تَوْجِيهه، إِذْ فِي الْبَوَاقِي تكلّف: إِمَّا فِي لفظ الْمَيِّت بِأَن يخصص بِمن كَانَت النِّيَاحَة من سنَنه، أَو بالموصي، أَو بالراضي بهَا، وَإِمَّا فِي: يعذب، بِأَن يُفَسر: بيحزن، وَأما فِي الْبَاء: بِأَن تجْعَل للظرفية الَّتِي هِيَ خلاف الْمُتَبَادر إِلَى الذَّهَب، وَإِمَّا فِي الْبكاء بِأَن يَجْعَل مجَازًا عَن الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فِيهَا.
قَوْله: (وَإِنِّي لجالس بَينهمَا أَو قَالَ: جَلَست إِلَى أَحدهمَا) ، هَذَا شكّ من ابْن جريج. قَوْله: (ثمَّ حدث) أَي ابْن عَبَّاس. قَوْله: (بِالْبَيْدَاءِ) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي: الْمَفَازَة، وَلَكِن المُرَاد بهَا هَهُنَا مفازة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (إِذا هُوَ بركب) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، والركب: أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر، وَهُوَ للعشرة فَمَا فَوْقهَا. قَوْله: (سَمُرَة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم: وَهِي شَجَرَة عَظِيمَة من شجر الْعضَاة. قَوْله: (فَإِذا صُهَيْب) ، بِضَم الصَّاد: ابْن سِنَان، بالنونين: كَانَ من النمر، بِفَتْح النُّون: ابْن قاسط، بِالْقَافِ: كَانُوا بِأَرْض الْموصل فأغارت الرّوم على تِلْكَ النَّاحِيَة فسبيته وَهُوَ غُلَام صَغِير، فَنَشَأَ بالروم فَاشْتَرَاهُ عبد الله بن جدعَان، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: التَّمِيمِي فَأعْتقهُ، ثمَّ أسلم بِمَكَّة وَهُوَ من السَّابِقين الْأَوَّلين الْمُعَذَّبين فِي الله تَعَالَى، وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (فَالْحق) بِلَفْظ الْأَمر من اللحوق. قَوْله: (فَلَمَّا أُصِيب عمر) يَعْنِي بالجراحة الَّتِي جرح بهَا وَالَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب: أَن ذَلِك كَانَ عقيب الْحجَّة الْمَذْكُورَة، وَلَفظه: (فَلَمَّا قدمنَا لم يلبث عمر أَن أُصِيب) ، وَفِي رِوَايَة عمر بن دِينَار: (لم يلبث أَن طعن) . قَوْله: (يبكي) ، جملَة وَقعت حَالا من صُهَيْب، وَكَذَلِكَ يَقُول: حَال، وَيجوز أَن يكون من الْأَحْوَال المترادفة، وَأَن يكون من المتداخلة. قَوْله: (واأخاه) كلمة: وَا، من: واخاه، للندبة وَالْألف فِي آخِره لَيْسَ مِمَّا يلْحق الْأَسْمَاء السِّتَّة لبَيَان الْإِعْرَاب، بل هُوَ مِمَّا يُزَاد فِي آخر الْمَنْدُوب لتطويل مد الصَّوْت، وَالْهَاء لَيست بضمير بل هُوَ هَاء السكت، وَشرط الْمَنْدُوب أَن يكون مَعْرُوفا، فَلَا بُد من القَوْل بِأَن الْأُخوة والصاحبية لَهُ كَانَا معلومين معروفين حَتَّى يَصح وقوعهما للندبة. قَوْله: (أَتَبْكِي عَليّ؟) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس: فَلَمَّا مَاتَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، هَذَا صَرِيح فِي أَن حَدِيث عَائِشَة من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَنْهَا، وَرِوَايَة مُسلم توهم أَنه من رِوَايَة ابْن أبي مليكَة عَنْهَا. قَوْله: (يرحم الله عمر) ، من الْآدَاب الْحَسَنَة على منوال قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} (التَّوْبَة: 34) . فاستغربت من عمر ذَلِك القَوْل، فَجعلت قَوْلهَا: يرحم الله عمر تمهيدا ودفعا لما يوحش من نسبته إِلَى الْخَطَأ. قَوْله: (وَالله مَا حدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَجه جزم عَائِشَة بذلك أَنَّهَا لَعَلَّهَا سَمِعت صَرِيحًا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتِصَاص الْعَذَاب بالكافر، أَو فهمت الِاخْتِصَاص بالقرائن. قَوْله: (وَلَكِن رَسُول الله) ، يجوز فِيهِ تسكين النُّون وتشديدها. قَوْله: (حسبكم) أَي: كافيكم من الْقُرْآن أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ هَذِه الْآيَة {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، وَالزمر: 7) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْآيَة عَامَّة لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر، ثمَّ إِن زِيَادَة الْعَذَاب عَذَاب، فَكَمَا أَن أصل الْعَذَاب لَا يكون بِفعل غَيره فَكَذَا زيادتها، فَلَا يتم استدلالها بِالْآيَةِ. فَإِن قلت: الْعَادة فارقة بَين الْكَافِر وَالْمُؤمن، فَإِنَّهُم كَانُوا يوصون بالنياحة بِخِلَاف الْمُؤمنِينَ، فَلفظ الْمَيِّت وَإِن كَانَ مُطلقًا مُقَيّد بالموصي وَهُوَ الْكَافِر عرفا وَعَادَة. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس عِنْد ذَلِك) أَي: عِنْد انْتِهَاء حَدِيثه عَن عَائِشَة قَالَ: (وَالله أضْحك وأبكى) أَي: إِن الْعبْرَة لَا يملكهَا ابْن آدم وَلَا تسبب لَهُ فِيهَا، فضلا عَن الْمَيِّت، فَكيف يُعَاقب عَلَيْهَا؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ إِن أذن الله فِي الْجَمِيل من الْبكاء فَلَا يعذب على مَا أذن فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ غَرَضه من هَذَا الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام أَن الْكل يخلق الله وإرادته فَالْأولى فِيهِ أَن يُقَال بِظَاهِر الحَدِيث، وَأَن لَهُ أَن يعذبه بِلَا ذَنْب وَيكون الْبكاء عَلَيْهِ عَلامَة لذَلِك، أَو يعذبه بذنب غَيره، سِيمَا وَهُوَ السَّبَب فِي وُقُوع الْغَيْر فِيهِ، وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل، وتخصص آيَة الوازرة بِيَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: غَرَضه تَقْرِير قَول عَائِشَة: أَي: إِن بكاء الْإِنْسَان وضحكه من الله يظهره فِيهِ، فَلَا أثر لَهُ فِي ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سكت ابْن عمر وأذعن قيل: سُكُوته لَا يدل على الإذعان، فَلَعَلَّهُ كره المجادلة فِي ذَلِك الْمقَام. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيْسَ سُكُوته لشك طَرَأَ لَهُ بَعْدَمَا صرح بِرَفْع الحَدِيث، وَلَكِن احْتمل عِنْده أَن يكون الحَدِيث قَابلا للتأويل وَلم يتَعَيَّن لَهُ محمل يحملهُ عَلَيْهِ إِذْ ذَاك، أَو كَانَ الْمجْلس لَا يقبل المماراة، وَلم تتَعَيَّن الْحَاجة إِلَى ذَلِك حِينَئِذٍ. قَوْله: (مَا قَالَ ابْن عمر شَيْئا) أَي: بعد ذَلِك، يَعْنِي مَا ردَّ كَلَامه. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرِّوَايَة إِذا ثبتَتْ لم يكن إِلَى دَفعهَا سَبِيل بِالظَّنِّ، وَقد رَوَاهُ عمر وَابْنه، وَلَيْسَ فِيمَا حكت عَائِشَة(8/80)
من الْمُرُور على يَهُودِيَّة مَا يرفع روايتهما، لجَوَاز أَن يكون الخبران صَحِيحَيْنِ مَعًا، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا. وَأما احتجاجها بِالْآيَةِ فَإِنَّهُم كَانُوا يوصون أَهْليهمْ بالنياحة، وَكَانَ ذَلِك مَشْهُورا مِنْهُم، فالميت إِنَّمَا يلْزمه الْعقُوبَة بِمَا تقدم من وَصيته إِلَيْهِم بِهِ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أنْكرت عَائِشَة روايتهما ونسبتهما إِلَى النسْيَان والاشتباه، وأولت الحَدِيث بِأَن مَعْنَاهُ يعذب فِي حَال بكاء أَهله لَا بِسَبَبِهِ، كَحَدِيث الْيَهُودِيَّة.
0921 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ خَلِيلٍ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْهَرٍ قَالَ حدَّثنا أبُو إسْحَاقَ وَهْوَ الشَّيْبَانِيُّ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يقُولُ وَاأخاهْ فَقَالَ عُمَرُ أمَا عَلِمْتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحيِّ.
(أنظر الحَدِيث 7821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ التّبعِيَّة للْحَدِيث السَّابِق فَإِن فِيهِ: خَاطب عمر صهيبا بقوله: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْمَيِّت ليعذب بِبَعْض بكاء أَهله عَلَيْهِ) ، وَهنا خاطبه بقوله: (أما علمت؟) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد الله الخراز، قَالَ البُخَارِيّ: جَاءَنَا نعيه سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر أَبُو الْحسن الْقرشِي. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، وَاسم أبي سُلَيْمَان: فَيْرُوز. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: اسْمه الْحَارِث، وَيُقَال: عَامر. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بِالْكِنَايَةِ مُفَسّر بِالنِّسْبَةِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن عَليّ بن حجر عَن عَليّ بن مسْهر وَعَن عَليّ ابْن حجر عَن شُعَيْب بن صَفْوَان عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن أبي بردة بِهِ.
قَوْله: (أما علمت؟) صَرِيح فِي أَن الحكم لَيْسَ خَاصّا بالكافر. قَوْله: (ببكاء الْحَيّ) المُرَاد من الْحَيّ من يُقَابل الْمَيِّت، قيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة، وَتَكون اللَّام فِيهِ بدل الضَّمِير، وَالتَّقْدِير: يعذب ببكاء حيه أَي: قبيلته، فيوافق الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (ببكاء أَهله) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم (عَن أبي مُوسَى، قَالَ: لما أُصِيب عمر أقبل صُهَيْب من منزله حَتَّى دخل على عمر، فَقَامَ بحياله يبكي، فَقَالَ لَهُ عمر: على م تبْكي؟ أعلي تبْكي؟ قَالَ: إِنِّي وَالله لعليك أبْكِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: وَالله لقد علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من يبكي عَلَيْهِ يعذب، قَالَ: ذكرت ذَلِك لمُوسَى بن طَلْحَة، فَقَالَ: كَانَت عَائِشَة تَقول: إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُود) . انْتهى.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن صهيبا أحد من سمع هَذَا الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَأَنَّهُ نَسيَه حَتَّى ذكره بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: إِنَّمَا أنكر عمر على صُهَيْب بكاءه لرفع صَوته بقوله: واأخاه، ففهم مِنْهُ أَن إِظْهَاره لذَلِك قبل موت عمر يشْعر باستصحابه ذَلِك بعد وَفَاته أَو زِيَادَته عَلَيْهِ، فَابْتَدَرَهُ بالإنكار لذَلِك، وَقَالَ ابْن بطال: إِن قيل: كَيفَ نهى صهيبا عَن الْبكاء وَأقر نسَاء بني الْمُغيرَة على الْبكاء على خَالِد؟ كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب. فَالْجَوَاب: أَنه خشِي أَن يكون رَفعه لصوته من بَاب مَا نهى عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قصَّة خَالِد: مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة. قلت: قَوْله: (يعذب ببكاء الْحَيّ) ، لم يرد دمع الْعين لجوازه على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث، وَإِنَّمَا المُرَاد الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب وَالنوح، فَإِن ذَلِك إِذا اجْتمع سمي بكاء، لِأَن النّدب على الْمَيِّت كالبكاء عَلَيْهِ. قَالَ الْخَلِيل: من قصر الْبكاء ذهب بِهِ إِلَى معنى الْحزن، وَمن مده ذهب بِهِ إِلَى معنى الصَّوْت. قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا مددت أردْت الصَّوْت الَّذِي يكون مَعَ الْبكاء، وَإِذا قصرت أردْت الدُّمُوع. قَالَ أَبُو مَنْصُور الجواليقي: يُقَال للبكاء إِذا تبعه الصَّوْت وَالنَّدْب، بكاء، وَلَا يُقَال للنَّدْب إِذا خلا عَن بكاء: بكاء، فَيكون المُرَاد فِي الحَدِيث الْبكاء الَّذِي يتبعهُ الصَّوْت، لَا مُجَرّد الدمع. وَالله أعلم.
9821 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهَا سَمِعَتْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(8/81)
قالَتْ إنَّمَا مَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْها أهْلُهَا فَقَالَ إنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا.
(أنظر الحَدِيث 8821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُطَابق للْحَدِيث السَّابِق الَّذِي فِيهِ إِنْكَار عَائِشَة على مَا قَالَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حِين سَأَلَهَا ابْن عَبَّاس عَن ذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي الْوَاقِع نفي لما قَالَه عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، (إِن الله ليعذب الْمُؤمن ببكاء أَهله عَلَيْهِ) ، فالتقدير: مَا قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك وَإِنَّمَا مر على يَهُودِيَّة ... إِلَى آخِره. وَالدَّلِيل على مَا ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا مِمَّا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) بِلَفْظ: (ذكر لَهَا يَعْنِي: لعَائِشَة أَن عبد الله بن عمر يَقُول: إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ، فَقَالَت عَائِشَة: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما أَنه لم يكذب، وَلكنه نُسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على يَهُودِيَّة. .) الحَدِيث. وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، مر غير مرّة، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة كَذَلِك. .
والْحَدِيث أخرجه مُسلم كَذَلِك عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو عوَانَة من رِوَايَة سُفْيَان (عَن عبد الله بن أبي بكر كَذَلِك، وَزَاد: أَن ابْن عمر، لما مَاتَ رَافع، قَالَ لَهُم: لَا تبكوا عَلَيْهِ فَإِن بكاء الْحَيّ على الْمَيِّت عَذَاب على الْمَيِّت، قَالَت عمْرَة: فَسَأَلت عَائِشَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَت: يرحمه الله إِنَّمَا مر) فَذكر الحَدِيث، وَرَافِع هُوَ ابْن خديج بن رَافع بن عدي الأوسي الْحَارِثِيّ أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو صَالح، استصغر يَوْم بدر وَشهد أحدا وأصابه يَوْمئِذٍ سهم.
33 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من النِّيَاحَة: أَي: كَرَاهَة التَّحْرِيم، وَكلمَة: مَا يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير على الأول: بَاب فِي بَيَان الَّذِي يكره، وعَلى الثَّانِي: بَاب فِي بَيَان الْكَرَاهَة من النِّيَاحَة، وعَلى الْوَجْهَيْنِ كلمة: من، بَيَانِيَّة. قيل: يحْتَمل أَن تكون تبعيضية، وَالتَّقْدِير: كَرَاهَة بعض النِّيَاحَة، وَكَأن قَائِل هَذَا لمح مَا نَقله ابْن قدامَة عَن أَحْمد فِي رِوَايَته: إِن بعض النِّيَاحَة لَا يحرم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه عمَّة جَابر لما ناحت، فَدلَّ على أَن النِّيَاحَة إِنَّمَا تحرم إِذا انضاف إِلَيْهَا فعل من ضرب خد أَو شقّ جيب، ورد بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا نهى عَن النِّيَاحَة بعد هَذِه الْقِصَّة، لِأَنَّهَا كَانَت بِأحد. وَقد قَالَ فِي أحد: لَكِن حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا بواكي لَهُ، ثمَّ نهى عَن ذَلِك، وتوعد عَلَيْهِ، وبيَّن ذَلِك ابْن مَاجَه: حَدثنَا هَارُون ابْن سعيد الْمصْرِيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: أخبرنَا أُسَامَة بن زيد عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بنساء عبد الْأَشْهَل يبْكين هلكاهن يَوْم أحد، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَكِن حَمْزَة لَا بواكي لَهُ، فَجَاءَت نسَاء الْأَنْصَار يبْكين حَمْزَة، فَاسْتَيْقَظَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ويحهن مَا انقلبن بعد، مروهن فلينقلبن وَلَا يبْكين على هَالك بعد الْيَوْم) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا وَالْحَاكِم وَصَححهُ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنَّ نَقْعٌ أوْ لَقْلَقَةٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ عَن عبد الله بن يُوسُف الْأَصْفَهَانِي: أخبرنَا أَبُو سعيد بن الْأَعرَابِي حَدثنَا سَعْدَان بن نصر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق، قَالَ: لما مَاتَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اجْتمع نسْوَة بني الْمُغيرَة يبْكين عَلَيْهِ، فَقيل لعمر: أرسل إلَيْهِنَّ فإنههن، فَقَالَ عمر: مَا عَلَيْهِنَّ أَن يُهْرِقَن دُمُوعهنَّ على أبي سُلَيْمَان، مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة، وَأَبُو سُلَيْمَان كنية خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ بَعضهم: اتنبيه: كَانَت وَفَاة خَالِد بن الْوَلِيد بِالشَّام سنة إِحْدَى وَعشْرين. قلت: لم يُنَبه أحدا، فَإِن الشَّام اسْم لهَذِهِ الأقاليم الْمَشْهُورَة وحدَّها من الغرب بَحر الرّوم من طرسوس إِلَى رفح الَّتِي فِي أول الجفار بَين مصر وَالشَّام، وَمن الْجنُوب من رفح إِلَى حُدُود تيه بني إِسْرَائِيل إِلَى مَا بَين الشوبك وأيلة إِلَى البلقاء، وَمن الشرق إِلَى مَشَارِق صرخد إِلَى مشارف حلب إِلَى بالس، وَمن الشمَال من بالس مَعَ الْفُرَات إِلَى قلعة نجم إِلَى البئيرة إِلَى قلعة الرّوم إِلَى سمياط إِلَى حصن الرّوم إِلَى بهنسا إِلَى مرعش إِلَى طرسوس إِلَى بَحر الرّوم من حَيْثُ ابتدأنا، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَيفَ يُنَبه النَّاظر؟ وَكَيف يعلم وَفَاة خَالِد فِي أَي صقع من بِلَاد الشَّام كَانَت؟ فَنَقُول: قد اخْتلف أهل السّير وَالْأَخْبَار(8/82)
فِي مَكَان وَفَاته، قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بعض قرى حمص على ميل من حمص فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين، قَالَ صَاحب (الْمرْآة) : هَذَا قَول عَامَّة المؤرخين، وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التلقيح) : قَالَ: لما عزل عمر خَالِدا لم يزل مرابطا بحمص حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ إِسْحَاق بن بشر: قَالَ مُحَمَّد: مَاتَ خَالِد بن الْوَلِيد بِالْمَدِينَةِ، فَخرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي جنَازَته وَإِذا أمه تندب وَتقول أبياتا أَولهَا هُوَ قَوْلهَا:
(أَنْت خير من ألف ألف من الْقَوْم ... إِذا مَا كنت وُجُوه الرِّجَال)
فَقَالَ عمر: صدثت إِن كَانَ كَذَلِك، وَجَمَاعَة عَن أَنه مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ سيف بن عمر عَن مُبشر عَن سَالم قَالَ: حج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واشتكى خَالِد بعده وَهُوَ خَارج الْمَدِينَة زَائِرًا لأمه، فَقَالَ لَهَا: قدموني إِلَى مُهَاجِرِي، فَقدمت بِهِ الْمَدِينَة ومرضته، فَلَمَّا ثقل وأظل قدوم عمر لقِيه لاقٍ على مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَقد صدر عمر عَن الْحَج، فَقَالَ لَهُ عمر: مَهيم؟ فَقَالَ: خَالِد بن الْوَلِيد ثقل لما بِهِ، فطوى ثَلَاثًا فِي لَيْلَة فأدركه حِين قضى، فرقَّ عَلَيْهِ فَاسْتَرْجع وَجلسَ بِبَابِهِ حَتَّى جهز وبكته البواكي، فَقيل لعمر: أَلا تسمع لهَذِهِ؟ فَقَالَ: وَمَا على نسَاء آل الْوَلِيد أَن يسفحن على خَالِد من دُمُوعهنَّ مَا لم يكن نقع أَو لقلقَة؟ وَقَالَ الْمُوفق فِي الْأَنْسَاب: عَن مُحَمَّد بن سَلام، قَالَ: لم تبْق امْرَأَة من نسَاء بني الْمُغيرَة إلاَّ وضعت لمتها على قبر خَالِد، أَي: حلقن رَأسهَا وشققن الْجُيُوب ولطمن الخدود وأطعمن الطَّعَام، مَا نهاهن عمر. قَالُوا: فَهَذَا كُله يَقْتَضِي مَوته بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ ذهب دُحَيْم أَيْضا. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء، مِنْهُم: الْوَاقِدِيّ وَأَبُو عبيد وإبرهيم بن الْمُنْذر وَمُحَمّد بن عبد الله وَأَبُو عمر والعصفري ومُوسَى بن أَيُّوب وَأَبُو سُلَيْمَان بن أبي مُحَمَّد، وَآخَرُونَ: إِنَّه مَاتَ بحمص سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَزَاد الْوَاقِدِيّ: وَأوصى إِلَى عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلى الرَّأسِ، واللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ
فسر البُخَارِيّ النَّقْع: بِالتُّرَابِ، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْقَاف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَفسّر اللَّقْلَقَة، باللامين والقافين: بالصوت. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: النَّقْع هَهُنَا الصَّوْت العالي، وَاللَّقْلَقَة حِكَايَة صَوت ترديد النواحة. وَقَالَ ابْن قرقول: النَّقْع الصَّوْت بالبكاء. قَالَ: وَبِهَذَا فسره البُخَارِيّ، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت مَا فسر البُخَارِيّ النَّقْع إلاَّ بِالتُّرَابِ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي رَأَيْت فِي سَائِر نسخ البُخَارِيّ، الَّذِي رَأَيْته، يَعْنِي: فسر النَّقْع بِالتُّرَابِ، وروى سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: النَّقْع الشق أَي: شقّ الْجُيُوب. وَكَذَا قَالَ وَكِيع فِيمَا رَوَاهُ ابْن سعد عَنهُ. وَقَالَ الْكسَائي: هُوَ صَنْعَة الطَّعَام فِي المأتم، وَقَالَ أَبُو عبيد النقيعة: طَعَام الْقدوم من السّفر، وَفِي (الْمُجْمل) : النَّقْع الصُّرَاخ. وَيُقَال: هُوَ النقيع. وَفِي (الصِّحَاح) : النقيع الصُّرَاخ، ونقع الصَّوْت واستنقع أَي: ارْتَفع. وَفِي (الموعب) : نقع الصَّارِخ بِصَوْتِهِ وانقع إِذا تَابعه. وَفِي (الْجَامِع) و (الجمهرة) : الصَّوْت واختلاطه فِي حَرْب أَو غَيرهَا. وَقَالَ الْقَزاز: اللَّقْلَقَة تتَابع ذَلِك، كَمَا تفعل النِّسَاء فِي المأتم وَهُوَ شدَّة الصَّوْت. وَقَالَ ابْن سَيّده عَن ابْن الْأَعرَابِي: تقطيع الصَّوْت، وَقيل: الجلبة.
1921 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ رَبِيعَةَ عنِ المُغِيرَةِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ كَذِبا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سعيد ابْن عبيد الطَّائِي أَبُو الْهُذيْل. الثَّالِث: عَليّ بن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: الْوَالِبِي، بِكَسْر اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة، يكنى أَبَا الْمُغيرَة. الرَّابِع: الْمُغيرَة بن شُعْبَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: أَن عَليّ بن ربيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَنه من الرباعيات. وَفِيه: سعيد عَن عَليّ، قَالَ بَعضهم: وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم بِسَمَاع سعيد عَن عَليّ وَلَفظه: حَدثنَا. قلت: لم نر فِي مُسلم ذَلِك إلاَّ فِي مقدمته، وَفِي غَيرهَا إِنَّمَا هُوَ بالعنعنة كَمَا هُوَ هَهُنَا.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي(8/83)
الْجَنَائِز أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن ابْن أبي عمر، وَفِي مُقَدّمَة كِتَابه: عَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن أَحْمد بن منيع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن كذبا) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسر الذَّال، وبكسر الْكَاف وَسُكُون الذَّال، وَكِلَاهُمَا مصدر: كذب يكذب فَهُوَ كَاذِب وَكَذَّاب وكذوب وكيذوبان ومكذبان ومكذبان ومكذبانة وكذبة، مثل: همزَة، وكذبذب مخفف، وَقد يشدد. وَالْكذب خلاف الصدْق، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (على أحد) أَي: غَيْرِي، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْكَذِب على غَيره أَيْضا مَعْصِيّة: {وَمن يعَض الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} (النِّسَاء: 41) . قلت الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة لِأَنَّهَا على الصَّحِيح مَا توعد الشَّارِع عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، وَهَذَا كَذَلِك، بِخِلَاف الْكَذِب على غَيره فَإِنَّهُ صَغِيرَة، مَعَ أَن الْفرق ظَاهر بَين دُخُول النَّار فِي الْجُمْلَة وَبَين جعل النَّار مسكنا ومثوىً، سِيمَا وَبَاب التفعيل يدل على الْمُبَالغَة، وَلَفظ الْأَمر على الْإِيجَاب، أَو المُرَاد بالمعصية فِي الْآيَة: الْكَبِيرَة أَو الْكفْر بِقَرِينَة الخلود. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ) أَي: فليتخذ لَهُ مسكنا فِي النَّار. قَوْله: (من ينح عَلَيْهِ) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: من النوح، وَأَصله يناح سَقَطت الْألف عَلامَة الْجَزْم لِأَن: من، شَرْطِيَّة. وَقَوله: (يعذب) على صِيغَة الْمَجْهُول بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير: فَهُوَ يعذب، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين. ويروى: (من نيح عَلَيْهِ) بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْيَاء وَفتح الْحَاء: على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من يناح) ، ووجهها أَن تكون: من، مَوْصُولَة. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن عَليّ ابْن عبد الْعَزِيز عَن أبي نعيم بِلَفْظ: (إِذا نيح على الْمَيِّت عذب بالنياحة عَلَيْهِ) . قَوْله: (بِمَا نيح عَلَيْهِ) الْبَاء للسَّبَبِيَّة، و: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: بِسَبَب النوح عَلَيْهِ، وَهُوَ بِكَسْر النُّون عِنْد الْجَمِيع، ويروى: (مَا نيح) ، بِغَيْر الْبَاء. قَالَ بَعضهم: على أَن: مَا، ظرفية. قلت: فِي هَذِه الرِّوَايَة تكون: مَا، للمدة أَي: يعذب مُدَّة النوح عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: مَا، ظرفية، وَيجوز أَن يكون (بِمَا نيح) حَالا، وَمَا، مَوْصُولَة أَي: يعذب ملتبسا بِمَا ندب عَلَيْهِ من الْأَلْفَاظ: يَا جبلاه، يَا كهفاه، وَنَحْوهمَا على سَبِيل التهكم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن النوح حرَام بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ جاهلي، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يشْتَرط على النِّسَاء فِي مبايعتهن على الْإِسْلَام أَن لَا يَنحن، وَالْبَاب دَال على أَن النَّهْي عَن الْبكاء على الْمَيِّت إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ فِيهِ نوح، وَأَنه جَائِز بِدُونِهِ، فقد أَبَاحَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَهُنَّ الْبكاء بِدُونِهِ، وَشرط الشَّارِع فِي حَدِيث الْمُغيرَة أَنه: (يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) يدل على أَن الْبكاء بِدُونِهِ لَا عَذَاب فِيهِ.
ذكر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذ الْبَاب: وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِي الْبَاب عَن خَمْسَة عشر صحابيا فِي لعن فَاعله، والوعيد والتبري، ابْن مَسْعُود، وَأَبُو مُوسَى، وَمَعْقِل بن مقرن، وَأَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَمُعَاوِيَة، وَأَبُو سعيد، وَأَبُو أُمَامَة وَعلي، وَجَابِر، وَقيس بن عَاصِم، وجنادة بن مَالك، وَأم عَطِيَّة، وَأم سَلمَة. وَذكرهمْ بالعد دون بَيَان من استخرج أَحَادِيثهم، فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: أما حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث أبي مُوسَى عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا على مَا يَأْتِي. وَحَدِيث معقل بن مقرون عِنْد الْكَجِّي فِي (السّنَن الْكَبِير) بِسَنَد صَحِيح عَن عبد الله بن معقل بن مقرن: (لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المرنة والشاقة جيبها واللاطمة وَجههَا) . وَحَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عِنْد مُسلم من رِوَايَة أبي سَلام: أَن أَبَا مَالك الْأَشْعَرِيّ حَدثهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَربع فِي أمتِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة لَا يتركونهن: الْفَخر فِي الأحساب، والطعن فِي الْأَنْسَاب، وَالِاسْتِسْقَاء بالأنواء، والنياحة. وَقَالَ: النائحة إِذا لم تتب قبل مَوتهَا تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وَدرع من جرب) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَلَفظه: (النِّيَاحَة من أَمر الْجَاهِلِيَّة، وَأَن النائحة إِذا لم تتب قطع الله لَهَا ثيابًا من قطران وَدِرْعًا من لَهب النَّار) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَربع فِي أمتِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة لَيْسَ يدعهن النَّاس: النِّيَاحَة. .) الحَدِيث، وَتفرد بِهِ التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَادِهِ عَنهُ. {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 21) . قَالَ (مَنعهنَّ أَن يَنحن، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يُمَزِّقْنَ الثِّيَاب، وَيَخْدِشْنَ الْوُجُوه، وَيَقْطَعْنَ الشُّعُور، وَيدعونَ بالثبور وَالثُّبُور الويل. وَحَدِيث مُعَاوِيَة أخرجه ابْن مَاجَه: خطب مُعَاوِيَة بحمص، فَذكر فِي خطبَته أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نهى عَن النوح) .(8/84)
وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه أَبُو دَاوُد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعن الله النائحة والمستمعة) . وَحَدِيث أبي أُمَامَة أخرجه ابْن مَاجَه: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعن الخامشة وَجههَا والشاقة جيبها والداعية بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور) . وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه (نهى عَن النوح) . وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِنَّمَا نهيت عَن النوح) . وَحَدِيث قيس بن عَاصِم أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: (لَا تنوحوا عَليّ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينح عَلَيْهِ) . وَحَدِيث جُنَادَة بن مَالك أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث من فعل الْجَاهِلِيَّة لَا يدعهن أهل الْإِسْلَام: استسقاء بالكواكب، وَطعن فِي النّسَب، والنياحة على الْمَيِّت) . وَحَدِيث أم عَطِيَّة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أم سَلمَة أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} (الممتحنة: 21) . قَالَ: النوح.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن امْرَأَة من المبايعات، وَعَن عمر، وَعَن أنس، وَعَن عَمْرو بن عَوْف، وَابْن عمر، وَعمْرَان ابْن حُصَيْن، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وسلمان، وَسمرَة وَامْرَأَة أبي مُوسَى. فَحَدِيث امْرَأَة من المبايعات أخرجه أَبُو دَاوُد عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ فِيمَا أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَعْرُوف الَّذِي أَخذ علينا أَن لَا نعصيه فِيهِ: أَن لَا نخمش وَجها وَلَا نَدْعُو ويلاً وَلَا نشق جيبا وَأَن لَا ننشر شعرًا) . وَحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث أنس أخرجه النَّسَائِيّ: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَخذ على النِّسَاء حِين بايعهن أَن لَا يَنحن) الحَدِيث. وَحَدِيث عَمْرو بن عَوْف أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : عَن كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث من أَعمال الْجَاهِلِيَّة لَا يتركهن النَّاس: الطعْن فِي الْأَنْسَاب، والنياحة، وَقَوْلهمْ: مُطِرْنَا بِنَجْم كَذَا وَكَذَا) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الْبَيْهَقِيّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن النائحة والمستمعة والحالقة والواشمة والمتوشمة، وَقَالَ: لَيْسَ للنِّسَاء فِي اتِّبَاع الْجَنَائِز أجر) . وَحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بنياحة أَهله عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رجل: أَرَأَيْت رجلا مَاتَ بخراسان وناح أَهله عَلَيْهِ هَهُنَا أَكَانَ يعذب بنياحة أَهله عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكذبت أَنْت وَحَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَنهُ قَالَ أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي، فَقَالَ: يَا عَبَّاس، ثَلَاث لَا يدعهن قَوْمك: الطعْن فِي النّسَب، والنياحة، والاستمطار بالأنواء) . وَحَدِيث سلمَان أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاثَة من الْجَاهِلِيَّة: الْفَخر فِي الأحساب، والطعن فِي الْأَنْسَاب والنياحة) . وَحَدِيث سَمُرَة أخرجه الْبَزَّار عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) . وَحَدِيث امْرَأَة أبي مُوسَى عِنْد أبي دَاوُد، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ منا من حلق وَمن سلق وَمن خرق) . قلت: امْرَأَة أبي مُوسَى أم عبد الله، بنت أبي دومة. قَوْله: (من حلق) أَي: شعره عِنْد الْمُصِيبَة إِذا حلت بِهِ. قَوْله: (وَمن سلق) ، أَي: رفع صَوته عِنْد الْمُصِيبَة، وَقيل: أَن تصك الْمَرْأَة وَجههَا، وَأَن تخدشه وَيُقَال: صلق بالصَّاد. قَوْله: (وَمن خرق) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: شقّ ثِيَابه عِنْد الْمُصِيبَة.
2921 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
(أنظر الحَدِيث 7821 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان، وَأَبُو عُثْمَان ابْن جبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحتين: ابْن أبي رواد ابْن أخي عبد الْعَزِيز بن أبي رواد الْبَصْرِيّ، وَأَبُو رواد اسْمه: ثَابت. قَوْله: (عَن سعيد بن الْمسيب) ويروى: (حَدثنَا سعيد بن الْمسيب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، أَي:، فِي الْجَنَائِز عَن ابْن الْمثنى، وَعَن ابْن بشار، وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن بنْدَار وَمُحَمّد بن الْوَلِيد وَعَن نصر بن عَليّ.
تابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ. وَقَالَ آدَمُ(8/85)
عنْ شُعْبَةَ المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ
أَي: تَابع عَبْدَانِ عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: حَدثنَا يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، مصغر زرع، قَالَ: حَدثنَا سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة، قَالَ: حَدثنَا قَتَادَة يَعْنِي: عَن سعيد بن الْمسيب، وَقد وَصله أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد كَذَلِك. قَوْله: (وَقَالَ آدم) ، هُوَ ابْن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة، يَعْنِي بِإِسْنَاد حَدِيث الْبَاب، لَكِن بِغَيْر لفظ الْمَتْن وَهُوَ قَوْله: (يعذب ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ) وَتفرد آدم بِهَذَا اللَّفْظ، وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر غنْدر وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وحجاج بن مُحَمَّد، كلهم عَن شُعْبَة كَالْأولِ، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (الْمَيِّت يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ) .
43 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لفظ بَاب وَحده كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَلَيْسَ بمذكور فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة.
3921 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدثنَا ابنُ المُنْكَدِرِ. قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ جِيءَ بِأبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أنْ أكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أكْشفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صائِحَةٍ فَقَالَ مَنْ هاذِهِ فقَالُوا ابْنَةُ عَمْرٍ وأوْ أخْتُ عَمْرٍ وَقَالَ فَلِمَ تَبْكي أوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتِ المَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ.
لما كَانَ حَدِيث هَذَا الْبَاب الْمُجَرّد على تَقْدِير وجود الْبَاب دَاخِلا فِي الْبَاب الَّذِي قبله، المترجم بِمَا يكره من النِّيَاحَة على الْمَيِّت، طابق ذكره هَهُنَا لدُخُوله فِي تَرْجَمَة ذَلِك الْبَاب، فَإِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من هَذِه؟) لما سمع صَوت صائحة، إِنْكَار فِي نفس الْأَمر، وَإِن لم يُصَرح بِهِ. وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي أَوَائِل بَاب الْجِنَازَة فِي: بَاب الدُّخُول على الْمَيِّت، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله ... إِلَى آخِره. وَهنا أخرجه عَن عَليّ ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: سَمِعت جَابِرا.
قَوْله: (قد مثل بِهِ) ، جملَة وَقعت حَالا، وَمثل، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد التَّاء الْمُثَلَّثَة: من التَّمْثِيل، يُقَال: مثل بالقتيل إِذا جدع أَنفه وَأذنه أَو مذاكيره أَو شَيْء من أَطْرَافه، والإسم: الْمثلَة، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء، وَيجوز: مثل، بتَخْفِيف الثَّاء، يُقَال: مثلت بِالْحَيَوَانِ أمثله بِهِ مثلا. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَأما مثل، بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ للْمُبَالَغَة. قَوْله: (وَقد سُجِّي) أَي: غطي من، سجى يسجى تسجية، وانتصاب ثوبا بِنَزْع الْخَافِض أَي: بِثَوْب. قَوْله: (أُرِيد) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (ذهبت) ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (اكشف عَنهُ) ، حَال. قَوْله: (فَرفع) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله: (صائحة) أَي: امْرَأَة صائحة. قَوْله: (بنت عَمْرو) ، هِيَ عمَّة الْمَقْتُول، وَاسْمهَا: فَاطِمَة بنت عَمْرو، وَعَمْرو جد جَابر لِأَنَّهُ ابْن عبد الله بن عَمْرو بن حرَام ضد حَلَال وَقد صرح فِي: بَاب الدُّخُول على الْمَيِّت، بقوله: (فَجعلت عَمَّتي فَاطِمَة تبْكي) ، وَوَقع فِي (الإكليل) للْحَاكِم: أَنَّهَا هِنْد بنت عَمْرو، وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّ لَهَا إسمين أَو أَحدهمَا أسمها وَالْآخر لقبها. قلت: لَا يلقب بالأسماء الْمَوْضُوعَة للمسميات، فَإِن صَحَّ مَا فِي الإكليل فَيحمل على أَنَّهُمَا كَانَتَا أُخْتَيْنِ وهما عمتا جَابر: إِحْدَاهمَا تسمى فَاطِمَة، وَالْأُخْرَى: تسمى هندا. قَوْله: (أَو أُخْت عَمْرو) شكّ من الرَّاوِي، فَإِن كَانَت بنت عَمْرو تكون أُخْت الْمَقْتُول عمَّة جَابر، وَإِن كَانَت أُخْت عَمْرو تكون عمَّة الْمَقْتُول، وَهُوَ عبد الله. قَوْله: (فلِمَ تبْكي) بِكَسْر اللَّام وَفتح الْمِيم، اسْتِفْهَام عَن الغائبة؟ قَوْله: (أَو لَا تبْكي) ، شكّ من الرَّاوِي، وَلَيْسَ باستفهام، بل هُوَ نهي الغائبة، وَحَاصِل الْمَعْنى: تبْكي(8/86)
هَذِه الْمَرْأَة عَلَيْهِ، أَو لَا تبْكي فَإِن الْمَلَائِكَة قد أظلته بأجنحتها، فَلَا يَنْبَغِي الْبكاء لأَجله لحُصُول هَذِه الْمنزلَة بل يَنْبَغِي أَن يفرح بذلك.
53 - (بابٌ لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، وَإِنَّمَا ذكر شقّ الْجُيُوب فِي التَّرْجَمَة خَاصَّة مَعَ أَن الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب ثَلَاثَة أَشْيَاء تَنْبِيها على أَن النَّفْي الَّذِي حَاصله التبري يَقع بِكُل وَاحِد من الثَّلَاثَة، وَلَا يشْتَرط وُقُوع الْمَجْمُوع. فَإِن قلت: الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مَذْكُورَة بِالْوَاو، وَهُوَ لمُطلق الْجمع. قلت: الْوَاو بِمَعْنى: أَو، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث مَسْرُوق عَن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ منا من ضرب الخدود أَو شقّ الْجُيُوب أَو دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) . وَله فِي رِوَايَة: بِالْوَاو، فَإِذا كَانَت رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا بِأَو، وَالْأُخْرَى: بِالْوَاو، تحمل الْوَاو على أَو فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص شقّ الْجُيُوب من بَين الثَّلَاثَة؟ قلت: هُوَ أَشد الثَّلَاثَة قبحا وأبشعها، مَعَ أَن فِيهِ خسارة المَال فِي غير وَجه.
4921 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ قَالَ حدثَنا زُبَيْدٌ اليَامِيُّ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: زبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف مِيم مَكْسُورَة: من بني يام بن رَافع بن مَالك من هَمدَان، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الأيامي، بِهَمْزَة فِي أَوله، مر فِي: بَاب خوف الْمُؤمن، فِي كتاب الْإِيمَان. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَإِبْرَاهِيم رأى عَائِشَة وَسمع الْمُغيرَة، قَالَه ابْن حبَان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي (مَنَاقِب قُرَيْش) عَن ثَابت بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان. وَأخرجه فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن بنْدَار، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَعَن عُثْمَان بن جرير، وَعَن إِسْحَاق وَعلي بن خشرم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن بشار وَبُنْدَار عَن يحيى بن سعيد وَعَن إِسْحَاق بن مَسْعُود عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى وَابْن مهْدي، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْسَ منا) ، أَي: لَيْسَ من أهل سنتنا وَلَا من المهتدين بهدينا، وَلَيْسَ المُرَاد الْخُرُوج بِهِ من الدّين جملَة، إِذْ الْمعاصِي لَا يكفر بهَا عِنْد أهل السّنة، أللهم إلاَّ أَن يعْتَقد حل ذَلِك، وسُفْيَان الثَّوْريّ أجراه على ظَاهره من غير تَأْوِيل لِأَن إجراءه كَذَلِك أبلغ فِي الإنزجار مِمَّا يذكر فِي الْأَحَادِيث الَّتِي صيغها: لَيْسَ منا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا للتغليظ، أللهم إلاَّ أَن يُفَسر دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة بِمَا يُوجب الْكفْر، نَحْو تَحْلِيل الْحَرَام وَعدم التَّسْلِيم لقَضَاء الله تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يكون النَّفْي حَقِيقَة. وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ: لَيْسَ مقتديا بِنَا وَلَا مستنا بسنتنا. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ على سيرتنا الْكَامِلَة وهدينا. وَقيل: مَعْنَاهُ مَحْمُول على المستحل لذَلِك. قَوْله: (من لطم الخدود) ، ويروى: (من ضرب الخدود) ، وَهُوَ جمع: خد، وَخص بذلك لكَون اللَّطْم أَو الضَّرْب غَالِبا يكون فِي الخد، وإلاَّ فَضرب بَقِيَّة الْوُجُوه دَاخل فِي ذَلِك. قَوْله: (وشق الْجُيُوب) ، بِضَم الْجِيم: جمع: جيب وَهُوَ مَا يفتح من الثَّوْب ليدْخل فِيهِ الرَّأْس، وَهُوَ الطوق فِي لُغَة الْعَامَّة. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بشقه إِكْمَال فَتحه إِلَى آخِره، وَهِي من عَلَامَات التسخط،(8/87)
قلت: الشق أَعم من ذَلِك، فَمن أَيْن أَخذ أَن المُرَاد مَا ذكره؟ فَإِذا شقّ جيبه من وَرَائه أَو من يَمِينه أَو من يسَاره لَا يكون دَاخِلا فِيهِ. قَوْله: (ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (بِدَعْوَى أهل الْجَاهِلِيَّة) ، وَهِي زمَان الفترة قبل الْإِسْلَام، وَالْمرَاد أَنه قَالَ فِي الْبكاء مِمَّا يَقُوله أهل الْجَاهِلِيَّة مِمَّا لَا يجوز فِي الشَّرِيعَة، كَقَوْلِهِم: واجبلاه واعضداه، وَنَحْو ذَلِك.
63 - (بابٌ رَثَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَعْدَ بنَ خَوْلَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رثاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الرثاء، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة ممدودا: من رثيت الْمَيِّت مرثية إِذا عددت محاسنه، ورثأت، بِالْهَمْزَةِ: لُغَة فِيهِ. ويروى: بَاب رثى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن خَوْلَة، بِلَفْظ الْمَاضِي، فعلى هَذَا لفظ: بَاب، منون مَقْطُوع عَن الْإِضَافَة، ويروى: بَاب رثى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْقصرِ، و: سعد بن خَوْلَة مَنْصُوب على كل حَال على المفعولية، وَفِي الْوَجْهَيْنِ: الْمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَهُوَ لفظ النَّبِي مجرور بِالْإِضَافَة. وَفِي الْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ كَونه مَاضِيا، يكون لفظ النَّبِي مَرْفُوعا على الفاعلية، وَذكر الْكرْمَانِي وَجها آخر: وَهُوَ أَن تكون الرَّاء مَفْتُوحَة والثاء سَاكِنة وَفِي آخِره يَاء، مصدر من رثى يرثي رثيا. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المراثي) ، وَصَححهُ الْحَاكِم فَإِذا نهي عَنهُ كَيفَ يَفْعَله؟ قلت: لَيْسَ مُرَاده من هَذِه التَّرْجَمَة أَنه من بَاب المراثي وَإِنَّمَا هُوَ إشفاق من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من موت سعد بن خَوْلَة بِمَكَّة بعد هجرته مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ توجع عَلَيْهِ وتحزن من ذَلِك، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل للحي: أَنا أرثي لَك مِمَّا يجْرِي عَلَيْك كَأَنَّهُ يتحزن لَهُ، وَأَيْضًا فقد ذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الَّذِي قَالَ يرثى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا ظَاهره، وَقيل: هُوَ من قَول سعد بن أبي وَقاص: جَاءَ ذَلِك فِي بعض طرقه، وَأكْثر النَّاس أَن ذَلِك من قَول الزُّهْرِيّ، وَسعد بن خَوْلَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو: من بني عَامر بن لؤَي، وَقيل: حَلِيف لَهُم، وَقيل: مولى ابْن أبي رهم العامري من السَّابِقين، بَدْرِي توفّي عَن سبيعة الأسْلَمِيَّة سنة عشر بِمَكَّة.
5921 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُنِي عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ إنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأنا ذُو مَال وَلاَ يَرِثُنِي إلاَّ ابْنَةٌ أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قالَ لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ فَقالَ لاَ ثُمَّ قَالَ الثُّلُثُ وَالثّلُثُ كَبِيرٌ أوْ كَثِيرٌ إنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقةً تَبْتَغِي وَجْهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ بِهَاحَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأتِكَ فَقُلْتُ يَا رَسولَ الله أُخَلَّفُ بَعْدَ أصْحَابِي. قالَ إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صالِحا إلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أمْضِ لأِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدُّهُمْ عَلَى أعْقَابِهِم لاكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ مَات بِمَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة. .) إِلَى آخِره، هَذَا التطابق إِنَّمَا يُوجد إِذا كَانَ الَّذِي يرثي سعد ابْن خَوْلَة هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِمَّا إِذا كَانَ غَيره، كَمَا ذكرنَا، فَلَا تطابق إلاَّ إِذا قُلْنَا: إِنَّه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن الْمَعْنى: هُوَ الاشفاق والتوجع وَإِظْهَار التحزن كَمَا ذكرنَا.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وعامد وَسعد تقدما فِي بَاب إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع: فِي الْمَغَازِي عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان،(8/88)
وَفِي الْوَصَايَا عَن أبي نعيم، وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم عَن زَكَرِيَّا بن عدي، وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مكي بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن يحيى بن يحيى وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن هِشَام بن عمار وَالْحسن بن أبي الْحسن الْمروزِي وَسَهل بن أبي سهل الرَّازِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يعودنِي) من العيادة وَهِي الزِّيَارَة. وَلَا يُقَال ذَلِك إلاَّ لزيارة الْمَرِيض. قَوْله: (عَام حجَّة الْوَدَاع) ، نصب على الظّرْف، وَهِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة، وَسميت حجَّة الْوَدَاع لِأَنَّهُ ودعهم فِيهَا. وَسمي أَيْضا الْبَلَاغ، لِأَنَّهُ قَالَ: هَل بلغت؟ وَحجَّة الْإِسْلَام: لِأَنَّهَا الْحجَّة الَّتِي فِيهَا حج الْإِسْلَام لَيْسَ فِيهَا مُشْرك، هَذَا قَول الزُّهْرِيّ. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ ذَلِك يَوْم فتح مَكَّة حِين عَاد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَعْدا. وَهُوَ من أَفْرَاده. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: خَالف سُفْيَان الْجَمَاعَة، فَقَالَ: عَام الْفَتْح، وَالصَّحِيح فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (من وجع) ، الوجع اسْم لكل مرض. قَالَ الْجَوْهَرِي: الوجع الْمَرَض، وَالْجمع: أوجاع ووجاع، مثل جبل وأجبال وجبال، ووجع فلَان يوجع وييجع ويأجع فَهُوَ وجع، وَقوم وجعون ووجعى، مثل: مرضى ووجاعى، وَنسَاء وجاعى أَيْضا ووجعات، وَبَنُو أَسد يَقُولُونَ: ييجع، بِكَسْر الْيَاء. قَوْله: (اشْتَدَّ بِي) أَي: قوي عَليّ. قَوْله: (قد بلغ بِي) أَي: بلغ أثر الوجع فِي، وَوصل غَايَته وَفِي رِوَايَة: (أشفيت مِنْهُ على الْمَوْت) أَي: قاربت، وَلَا يُقَال: أشفى، إلاَّ فِي الشَّرّ، بِخِلَاف أشرف، وقارب. قَوْله: (وَلَا ترثني إلاَّ ابْنة) اسْمهَا: عَائِشَة، كَذَا ذكرهَا الْخَطِيب وَغَيره، وَلَيْسَت بِالَّتِي روى عَنْهَا مَالك، تيك أُخْت هَذِه، وَهِي تابعية وَعَائِشَة لَهَا صُحْبَة، وَكَانَ قد زعم بعض من لَا علم عِنْده أَن مَالِكًا تَابِعِيّ بروايته عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَقَوله: (إلاَّ ابْنة لي) أَي: من الْوَلَد وخواص الْوَرَثَة، وإلاَّ فقد كَانَ لَهُ عصبَة. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يَرِثنِي من أَصْحَاب الْفُرُوض سواهَا. وَقيل: من النِّسَاء، وَهَذَا قَالَه قبل أَن يُولد لَهُ الذُّكُور. قَوْله: (أفأتصدق بِثُلثي مَالِي؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ مُنجزا أَو مُعَلّقا، بِمَا بعد الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ تَأتي (أفأوصى) يدل: (أفأتصدق؟) . قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَتَصَدَّق بالثلثين. قَوْله: (فَقلت: بالشطر؟) أَي: اتصدق بالشطر. أَي: بِالنِّصْفِ؟ بِدَلِيل رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ تَأتي: (فأوصي بِالنِّصْفِ) ويروى: (فَالشَّطْر؟) بِالْفَاءِ وَرفع الشّطْر. فَإِن قلت: بِمَاذَا ارْتِفَاع: فَالشَّطْر؟ قلت: مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف، تَقْدِيره: فَالشَّطْر أَتصدق بِهِ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: الثُّلُث، وَالثلث) يجوز فِي الثُّلُث الأول النصب وَالرَّفْع، فالنصب على الإغراء أَو على تَقْدِير: أعْط الثُّلُث وَالرَّفْع، على أَنه فَاعل، أَي: يَكْفِيك الثُّلُث، أَو على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَو عَكسه. وَالثلث الثَّانِي: مُبْتَدأ، و: كثير، خَبره، وَهُوَ: بالثاء الْمُثَلَّثَة وَقَوله: كَبِير، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (إِنَّك إِن تذر) أَي: إِن تتْرك، وَهَذَا من الَّذِي أميت ماضيه. قَالَ عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: سمعناه من رُوَاة الحَدِيث بِكَسْر: إِن، وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ بِفَتْح الْألف، وَلَا يجوز الْكسر، لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: روايتنا بِفَتْح الْهمزَة، وَقد وهم من كسرهَا بَين أَن جعلهَا شرطا لَا جَوَاب لَهُ، أَو يبْقى خَبرا إِلَّا رَافع لَهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يَصح كسرهَا لِأَنَّهَا تكون شَرْطِيَّة، وَالشّرط لما يسْتَقْبل وَهُوَ فقد كَانَ فَاتَ. انْتهى. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه ابْن مَالك: إِن الأَصْل: إِن تركت وَرثتك أَغْنِيَاء فَهُوَ خير لَك، فَحذف الْفَاء، والمبتدأ وَنَظِيره قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بن كَعْب: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع بهَا) . وَقَوله: لهِلَال بن أُميَّة: (الْبَيِّنَة وإلاَّ حدٌّ فِي ظهرك) ، وَذَلِكَ مِمَّا زعم النحويون أَنه مَخْصُوص بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بهَا، بل يكثر اسْتِعْمَاله فِي الشّعْر ويقل فِي غَيره. وَمن خص هَذَا الْحَذف بالشعر حاد عَن الطَّرِيق وضيق حَيْثُ لَا تضييق. قَوْله: (عَالَة) أَي: فُقَرَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: العالة، جمع عائل، وَقيل: العائل الْكثير الْعِيَال، حَكَاهُ الْكسَائي وَلَيْسَ بِمَعْرُوف، بل العائل الْفَقِير. وَقيل: العيل والعالة الْفقر. قَوْله: (يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) أَي: يطْلبُونَ الصَّدَقَة من أكف النَّاس وَقيل: يَسْأَلُونَهُمْ بأكفهم. قَوْله: (وَإنَّك لن تنْفق) عطف على قَوْله: (إِنَّك إِن تذر) ، وَهُوَ عِلّة للنَّهْي عَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، كَأَنَّهُ قيل: لَا تفعل لِأَنَّك إِن مت وَتَذَر وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تذرهم فُقَرَاء فَإِن عِشْت تَصَدَّقت بِمَا بَقِي من الثُّلُث وأنفقت على عِيَالك يكن خير لَك. قَوْله: (إلاَّ أجرت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بِتِلْكَ النَّفَقَة. قَوْله: (حَتَّى مَا تجْعَل)(8/89)
أَي: الَّذِي تَجْعَلهُ. قَالَ ابْن بطال: تجْعَل، بِرَفْع اللَّام، و: مَا، كَافَّة كفت: حَتَّى عَن عَملهَا. قَوْله: (فِي فِي امْرَأَتك) أَي: فِي فَم امْرَأَتك، وأصل فَم: فوه، لِأَن الْجمع: أَفْوَاه، وَعند الْإِفْرَاد لَا يحْتَمل الْوَاو التَّنْوِين فحذفوها وعوضوا من الْهَاء ميما، وَقَالُوا: هَذَا فَم وفمان وفموان، وَلَو كَانَ الْمِيم عوضا من الْوَاو لما اجْتمعَا. قَوْله: (أخلف) على صِيغَة الْمَجْهُول، يَعْنِي أخلف فِي مَكَّة بعد أَصْحَابِي الْمُهَاجِرين المنصرفين مَعَك؟ قَالَ أَبُو عمر: يحْتَمل أَن يكون لما سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة، وتنفق فعل مُسْتَقْبل، أَيقَن أَنه لَا يَمُوت من مَرضه ذَلِك. أَو أَظن ذَلِك فاستفهمه: هَل يبْقى بعد أَصْحَابه؟ فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب من قَوْله: (لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله) . وَهُوَ قَوْله: (إِنَّك لن تخلف فتعمل عملا صَالحا إلاَّ ازددت بِهِ رفْعَة ودرجة) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الِاسْتِفْهَام إِنَّمَا صدر من سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَخَافَة الْمقَام بِمَكَّة إِلَى الْوَفَاة، فَيكون قادحا فِي هجرته، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي بعض الرِّوَايَات، إِذْ قَالَ: (خشيت أَن أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرت مِنْهَا) . فَأَجَابَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك لَا يكون وَإنَّهُ يطول عمره وَقَالَ عِيَاض كَانَ حكم الْهِجْرَة بَاقِيا بعد الْفَتْح بِهَذَا الحَدِيث وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمن هَاجر قبل الْفَتْح، فَأَما من هَاجر بعده فَلَا. قَوْله: (إلاَّ ازددت بِهِ) أَي: بِالْعَمَلِ الصَّالح. قَوْله: (ثمَّ لَعَلَّك أَن تخلف) المُرَاد بتخلفه طول عمره، وَكَانَ كَذَلِك عَاشَ زِيَادَة على أَرْبَعِينَ سنة، فَانْتَفع بِهِ قوم وتضرر بِهِ آخَرُونَ. وَقَالَ ابْن بطال: لما أَمر سعد على الْعرَاق أَتَى بِقوم ارْتَدُّوا فاستتابهم فَتَابَ بَعضهم وأصر بَعضهم فَقَتلهُمْ، فَانْتَفع بِهِ من تَابَ وتضرر بِهِ الْآخرُونَ، وَحكى الطَّحَاوِيّ هَذَا عَن بكير بن الْأَشَج عَن أَبِيه عَن عَامر أَنه سَأَلَهُ عَن معنى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك القَوْل، وَأَن الْمُرْتَدين كَانُوا يسجعون سجعة مُسَيْلمَة، قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَمثل هَذَا لم يقلهُ عَامر استنباطا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيف إِمَّا أَن يكون سَمعه من أَبِيه أَو مِمَّن يصلح لَهُ أَخذ ذَلِك عَنهُ، وَاعْلَم أَن كلمة: لَعَلَّ، مَعْنَاهَا للترجي إلاَّ إِذا وَردت عَن الله أَو رَسُوله أَو أوليائه، فَإِن مَعْنَاهَا التَّحْقِيق. قَوْله: (اللَّهُمَّ أمض) بِقطع الْهمزَة، يُقَال: أمضيت الْأَمر أَي أنفذته أَي: تممها لَهُم وَلَا تنقصها عَلَيْهِم فيرجعون إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (وَلَا تردهم على أَعْقَابهم) أَي: بترك هجرتهم ورجوعهم عَن مُسْتَقِيم حالم المرضية، فيخيب قصدهم ويسوء حَالهم. وَيُقَال لكل من رَجَعَ إِلَى حَال دون مَا كَانَ عَلَيْهِ: رَجَعَ على عقبه، وحار. وَمِنْه الحَدِيث: (أعوذ بك من الْحور بعد الكور) ، أَي من النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة. قَوْله: (لَكِن البائس) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أثر الْبُؤْس. أَي: الْفقر والعيلة، وَقَالَ الْأصيلِيّ: البائس الَّذِي ناله الْبُؤْس، وَقد يكون بِمَعْنى مفعول، كَقَوْلِه: {عيشة راضية} (الحاقة: 12، القارعة: 7) . أَي: مرضية. قَوْله: (سعد بن خَوْلَة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْله: (البائس) ، وَعَامة المؤرخين يَقُولُونَ: ابْن خَوْلَة، إلاَّ أَبَا معشر، فَإِنَّهُ يَقُول: ابْن خولى، وَقَالَ ابْن التِّين: خَوْلَة، سَاكِنة الْوَاو عِنْد أهل اللُّغَة والعربية، وَكَذَا رَوَاهُ بَعضهم. وَقل الشَّيْخ أَبُو الْحسن: مَا سمعنَا قطّ أحدا قَرَأَهُ إِلَّا بِفَتْحِهَا، والمحدثون على ذَلِك، قيل: إِنَّه أسلم وَلم يُهَاجر من مَكَّة حَتَّى مَاتَ بهَا، وَذكره البُخَارِيّ فِيمَن هَاجر وَشهد بَدْرًا وَغَيرهَا، وَتُوفِّي بِمَكَّة فِي حجَّة الْوَدَاع كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (يرثي لَهُ) أَي: يرق لَهُ ويترحم عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن مَاتَ) ، بِفَتْح الْهمزَة أَي: لِأَنَّهُ مَاتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجر مِنْهَا، وَهَذَا كَلَام سعد ابْن أبي وَقاص، صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الدَّعْوَات. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما: (يرثي لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَهُوَ من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَهُوَ تَفْسِير لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَكِن البائس سعد بن خَوْلَة) ، أَي: رثي لَهُ حِين مَاتَ بِمَكَّة، وَكَانَ يهوى أَن يَمُوت بغَيْرهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث اتّفق أهل الْعلم على صِحَة سَنَده، وَجعله جُمْهُور الْفُقَهَاء أصلا فِي مِقْدَار الْوَصِيَّة وَأَنه لَا يتَجَاوَز بهَا الثُّلُث، إلاَّ أَن فِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلَافا عِنْد نقلته، فَمن ذَلِك ابْن عُيَيْنَة، قَالَ فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: عَام الْفَتْح، انْفَرد بذلك عَن ابْن شهَاب فِيمَا علمت، وَقد روينَا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق معمر وَيُونُس بن يزِيد وَعبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة وَيحيى ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَابْن أبي عَتيق وَإِبْرَاهِيم بن سعد، فكلهم قَالَ: عَن ابْن شهَاب: عَام حجَّة الْوَدَاع، كَمَا قَالَ مَالك، وَكَذَلِكَ قَالَ شُعَيْب، قَالَ ابْن الْمُنْذر: الَّذين قَالُوا: حجَّة الْوَدَاع، أصوب. قَالَ أَبُو عمر: وَكَذَا رَوَاهُ عَفَّان بن مُسلم عَن وهيب بن خَالِد عَن عبد الله بن عُثْمَان عَن عمرٍ وبن القاريء (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة عَام الْفَتْح فخلف سَعْدا مَرِيضا حَتَّى خرج إِلَى جَنِين، فَلَمَّا قدم من الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دخل عَلَيْهِ وَهُوَ وجع مغلوب، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله إِن لي مَالا ... .) الحَدِيث، وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث أَن أهل الْعلم لَا يرَوْنَ أَن يُوصي الرجل بِأَكْثَرَ من الثُّلُث، ويستحبون أَن ينقص من الثُّلُث. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يستحبون فِي الْوَصِيَّة الْخمس بعد الرّبع، وَالرّبع دون الثُّلُث، فَمن أوصى بِالثُّلثِ فَلم يتْرك شَيْئا، فَلَا يجوز لَهُ إلاَّ الثُّلُث، وَأجْمع عُلَمَاء الْمُسلمين(8/90)
على أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا ترك وَرَثَة من بَنِينَ وعصبة، وَاخْتلفُوا إِذا لم يتركهما وَلَا وَارِثا بِنسَب أَو نِكَاح، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ لَهُ أَن يُوصي بِمَالِه كُله، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَقَالَ بقولهمَا قوم، مِنْهُم: مَسْرُوق وَعبيدَة وَإِسْحَاق، وَاخْتلف فِي ذَلِك قَول أَحْمد، وَذهب إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا يَقُول بقول زيد بن ثَابت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَعَن عُبَيْدَة: إِذا مَاتَ الرجل وَلَيْسَ عَلَيْهِ عقد لأحد وَلَا عصبَة تَرثه فَإِنَّهُ يُوصي بِمَالِه كُله حَيْثُ شَاءَ. وَعَن مَسْرُوق وَشريك، مثله. وَعَن الْحسن وَأبي الْعَالِيَة مثله، ذكره فِي (المُصَنّف) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد وَإِسْحَاق وَمَالك فِي أحد قوليهما. وَقَالَ زيد بن ثَابت: لَا يجوز لأحد إِن يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلثه إِذا كَانَ لَهُ بنُون أَو وَرَثَة كَلَالَة أَو ورث جمَاعَة الْمُسلمين، لِأَن بَيت مَا لَهُم عصبَة من لَا عصبَة لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة. وَأجْمع فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْوَصِيَّة بِأَكْثَرَ من الثُّلُث إِذا أجازها الْوَرَثَة جَازَت، وَإِن لم تجزها الْوَرَثَة لم يجز مِنْهَا إلاَّ الثُّلُث. وأبى ذَلِك أهل الظَّاهِر فمنعوها وَإِن أجازتها الْوَرَثَة، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز، وَإِن أجازها الْوَرَثَة لحَدِيث: (لَا وَصِيَّة لوَارث) ، وَسَائِر الْفُقَهَاء يجيزون ذَلِك إِذا أجازها الْوَرَثَة، ويجعلونها هبة. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الثُّلُث هُوَ الْغَايَة تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْوَصِيَّة، وَإِن التَّقْصِير عَنهُ أفضل.
وَكره جمَاعَة من أهل الْعلم الْوَصِيَّة بِجَمِيعِ الثُّلُث. قَالَ طَاوُوس: إِذا كَانَت ورثته قَلِيلا وَمَاله كثيرا فَلَا بَأْس إِن يبلغ الثُّلُث، وَاسْتحبَّ طَائِفَة الْوَصِيَّة بِالربعِ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ إِسْحَاق: السّنة الرّبع، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الثُّلُث كثير) إلاَّ أَن يكون رجل يعرف فِي مَاله شُبْهَة، فَيجوز لَهُ الثُّلُث. قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم لإسحاق حجَّة فِي قَوْله: السّنة الرّبع، وَقَالَ ابْن بطال: أوصى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالربعِ. وَاخْتَارَ آخَرُونَ السُّدس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يوصوا بِمثل نصيب أحد الْوَرَثَة حَتَّى يكون أقل، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَكَانَ السُّدس أحب إِلَيْهِ من الثُّلُث. وَأوصى أنس، فِيمَا ذكره فِي (المُصَنّف) من حَدِيث عبَادَة الصيدلاني عَن ثَابت عَنهُ، بِمثل نصيب أحد وَلَده، وَأَجَازَ آخَرُونَ الْعشْر، وَعَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه يفضل الْوَصِيَّة بالخمس، وَبِذَلِك أوصى، وَقَالَ: رضيت لنَفْسي مَا رَضِي الله لنَفسِهِ: يَعْنِي خمس الْغَنِيمَة.
وَاسْتحبَّ جمَاعَة الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ محتجين بِحَدِيث الْبَاب، وَبِحَدِيث ضَعِيف رَوَاهُ ابْن وهب عَن طَلْحَة بن عَمْرو، وَتفرد بِذكرِهِ مَعَ ضعفه عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جعل الله لكم فِي الْوَصِيَّة ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) . وَفِيه جَوَاز ذكر الْمَرِيض مَا يجده لغَرَض صَحِيح من مداواة أَو دُعَاء أَو وَصِيَّة أَو نَحْو ذَلِك، وَإِنَّمَا يكره من ذَلِك مَا كَانَ على سَبِيل التسخط وَنَحْوه، فَإِنَّهُ قَادِح فِي أجر مَرضه.
وَفِيه: فِي قَوْله: (أفأتصدق مَالِي كُله؟) فِي رِوَايَة إِن صحت حجَّة قَاطِعَة لما ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور أهل الْعلم فِي هبات الْمَرِيض وصدقته وعتقه، أَن ذَلِك من ثلثه لَا من جَمِيع مَاله، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعَامة أهل الحَدِيث والرأي، محتجين بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فِي الَّذِي اعْتِقْ سِتَّة أعبد، فِي مَرضه وَلَا مَال لَهُ غَيرهم، ثمَّ توفّي فَأعتق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة، وَقَالَت فرقة من أهل النّظر وَأهل الظَّاهِر، فِي هبة الْمَرِيض؛ إِنَّهَا من جَمِيع المَال، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَا نعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَ بِهِ، وَقَالَ أَبُو عمر: قد قَالَ بعض أهل الْعلم إِن عَامر بن سعد هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيث سعد: (أفأتصدق) وَأما مُصعب بن سعد فَإِنَّمَا قَالَ: أفأوصي، وَلم يقل: أفأتصدق، قَالَ أَبُو عَمْرو: الَّذِي أقوله أَن ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن سعد، فَقَالَ: أفأوصي؟ كَمَا قَالَ مُصعب وَهُوَ الصَّحِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد روى شُعْبَة وَالثَّوْري عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَامر عَن سعد: أفأوصي بِمَالي كُله؟ وَكَذَا روى عبد الْملك بن عُمَيْر عَن مُصعب.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض للْإِمَام وَغَيره. إِبَاحَة جمع المَال وَأَنه لَا عيب فِي ذَلِك كَمَا يَدعِيهِ بعض المتصوفة. وَفِيه: الْحَث على صلَة الرَّحِم وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب واستحباب الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر، وَأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَأَن الْمُبَاح إِذا قصد بِهِ وَجه الله صَار طَاعَة، ويثاب بِهِ، وَقد نبه عَلَيْهِ بِأَحْسَن الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة الَّتِي تكون فِي الْعَادة عِنْد المداعبة، وَهُوَ وضع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، فَإِذا قصد بأبعد الْأَشْيَاء عَن الطَّاعَة وَجه الله تَعَالَى فَيحصل بِهِ الْأجر، فَغَيره بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص ذكر الزَّوْجَة دون غَيرهَا؟ قلت: لِأَن زَوْجَة الْإِنْسَان من أخص حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وشهواته. وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أطلعه الله تَعَالَى: أَن سَعْدا لَا يَمُوت حَتَّى يخلف جمَاعَة، كَمَا أطلعه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى ينْتَفع بِهِ قوم ويتضرر بِهِ آخَرُونَ، على مَا ذَكرْنَاهُ، حَتَّى إِنَّه عَاشَ وَفتح الْعرَاق(8/91)
وَغَيره. وَفِيه: أَن الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل فِيهِ الْأجر إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله، وَالنَّفقَة على الْعِيَال تحْتَمل وَجْهَيْن. الأول: أَن يكون الْمَعْنى يكْتب لَهُ بذلك أجر الصَّدَقَة. الثَّانِي: أَنه لما أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِمَالِه أخبرهُ أَن مَا يَنَالهُ الْعِيَال فِيهِ أجر كَمَا فِي الصَّدَقَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُفِيد منطوقه أَن الْأجر فِي النَّفَقَات لَا يحصل إلاَّ بِقصد الْقرْبَة، وَإِن كَانَت وَاجِبَة، وَمَفْهُومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم يُؤجر على شَيْء مِنْهَا، والمعنيان صَحِيحَانِ، وَهل إِذا أنْفق نَفَقَة وَاجِبَة على الزَّوْجَة أَو الْوَلَد الْفَقِير، وَلم يقْصد التَّقَرُّب هَل تَبرأ ذمَّته أم لَا؟ فَالْجَوَاب أَنَّهَا تَبرأ ذمَّته من الْمُطَالبَة، لِأَن وجوب النَّفَقَة من الْعِبَادَات المعقولة الْمَعْنى، فتجزىء بِغَيْر نِيَّة: كالديون وَأَدَاء الْأَمَانَات وَغَيرهَا من الْعِبَادَات، لَكِن إِذا لم ينْو لم يحصل لَهُ أجر. وَفِيه: فَضِيلَة طول الْعُمر، للازدياد من الْخَيْر. وَفِيه: وجوب اسْتِدَامَة حكم الْهِجْرَة، وَلكنه ارْتَفع يَوْم الْفَتْح، واستبعد القَاضِي عِيَاض ارْتِفَاع حكم الْهِجْرَة بعد الْفَتْح، قَالَ: وَحكمه بَاقٍ بعد الْفَتْح لهَذَا الحَدِيث. وَقيل: إِنَّمَا لزم الْمُهَاجِرين الْمقَام بِالْمَدِينَةِ بعد الْهِجْرَة لنصرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخذ الشَّرِيعَة عَنهُ وَشبه ذَلِك، فَلَمَّا مَاتَ ارتحل أَكْثَرهم مِنْهَا. وَقَالَ عِيَاض: قيل لَا يحبط أجر هِجْرَة المُهَاجر بَقَاؤُهُ بِمَكَّة وَمَوته بهَا إِذا كَانَ لضَرُورَة، وَإِنَّمَا يحبطه مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ، وَقَالَ قوم: المُهَاجر بِمَكَّة تحبط هجرته كَيفَ مَا كَانَ، وَقيل: لم تفرض الْهِجْرَة إلاَّ على أهل مَكَّة خَاصَّة. وَفِيه: أَن طلب الْغَنِيّ للْوَرَثَة أرجح على تَركهم عَالَة، وَمن هُنَا أَخذ تَرْجِيح الْغَنِيّ على الْفَقِير. وَفِيه: جَوَاز تَخْصِيص عُمُوم الْوَصِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن بِالسِّنِّ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَالله أعلم.
73 - (بابُ مَا يُنْهى مِنَ الحَلْقِ عِنْدَ المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى من الْحلق، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة.
6921 - قالَ الحَكَمُ بنُ مُوسى احدَّثنا يَحْيى بنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ جابِرٍ أنَّ القَاسِمَ بنَ مخَيْمِرَةَ حدَّثَهُ. قَالَ حدَّثني أبُو بُرْدَةَ بنُ مُوسى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ وَجِعَ أبُو مُوسى وَجَعا فَغُشِيَ عليهِ وَرَأسُهُ فِي حجْرِ امْرَأةٍ مِنْ أهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئا فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ أَنا بَرِىءٌ مِمَّنْ بَرِيءٌ مِنْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيءٌ مِنَ الصَّالِقةِ وَالحالِقَةِ والشَّاقَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والحالقة) ، وَإِنَّمَا خص الْحلق بِالذكر، وَإِن كَانَ حَدِيث الْبَاب مُشْتَمِلًا على ثَلَاثَة أَشْيَاء لكَونه أبشعها فِي حق النِّسَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن مُوسَى أَبُو صَالح الْقَنْطَرِي، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون النُّون الزَّاهِد، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن حَمْزَة أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي دمشق، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن جَابر هُوَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر الْأَزْدِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مخيمرة، بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: أَبُو عُرْوَة. الْخَامِس: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه: عَامر. وَقيل: الْحَارِث. السَّادِس: أَبوهُ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: أَنه صدر الحَدِيث بقوله: قَالَ الحكم، بِدُونِ التحديث أَو الْإِخْبَار، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: حَدثنَا الحكم، قَالَ بَعضهم: هُوَ وهم فَإِن الَّذين جمعُوا رجال البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) أطبقوا على ترك ذكره فِي شُيُوخه، فَدلَّ على أَن الصَّوَاب رِوَايَة الْجَمَاعَة بِصِيغَة التَّعْلِيق. قلت: قيل: روى عَنهُ وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي الْوَقْت وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا ذكر الحكم وَالقَاسِم ابْن مخيمرة فِيمَن خرج لَهما البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا لم يسْندهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَا يخرج للقاسم بن مخيمرة، وَزعم بَعضهم أَنه لَا يخرج للْحكم أَيْضا إلاَّ هَكَذَا غير مُحْتَج بهما. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع لِأَن فِي بعض النّسخ: قَالَ، وَقَالَ الحكم: أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ الحكم. وَفِيه: أَن الحكم بغدادي وَيحيى بن حَمْزَة شَامي بيتلهي من أهل بَيت لهيا، قَرْيَة بِالْقربِ من دمشق، كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق، وَعبد الرَّحْمَن أَيْضا شَامي، وَالقَاسِم كُوفِي سكن الشَّام وَأَبُو بردة كُوفِي. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب، وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور باسم جده. وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور بكنيته، مُخْتَلف فِي اسْمه.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي كتاب الْإِيمَان فَقَالَ:(8/92)
حَدثنَا الحكم بن مُوسَى الْقَنْطَرِي، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حَمْزَة عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر أَن الْقَاسِم بن مخيمرة حَدِيثه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بردة بن أبي مُوسَى الحَدِيث، وَكَذَا وَصله ابْن حبَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا الحكم. . إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وجع أَبُو مُوسَى) ، بِكَسْر الْجِيم، أَي: مرض. قَوْله: (وجعا) ، بِفَتْح الْجِيم أَيْضا مصدر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، ويروى: (وجعا شَدِيدا) . قَوْله: (فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ) ، ويروى (فَغشيَ عَلَيْهِ) . قَوْله: (وَرَأسه فِي حجر امْرَأَة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَالْحجر، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمعه حجور. وَفِي (الْمُحكم) : حجره وحجره: حضنه، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (أُغمي على أبي مُوسَى وَأَقْبَلت امْرَأَته أم عبد الله تصيح برنة. .) وَذكر فِي كتاب النَّسَائِيّ إمرأة أبي مُوسَى هِيَ: أم عبد الله بنت أبي دومة، وَذكر عمر بن شبة فِي (تَارِيخ الْبَصْرَة) أَن اسْمهَا: صَفِيَّة بنت دمون، وَأَنَّهَا وَالِدَة أبي بردة بن مُوسَى، وَأَن ذَلِك وَقع حَيْثُ كَانَ أَبُو مُوسَى أَمِيرا على الْبَصْرَة من قبل عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (إِنِّي بَرِيء) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَنا بَرِيء) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (مِمَّن بَرِيء مِنْهُ مُحَمَّد) ، ويروى: (مِمَّن بَرِيء مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وأصل الْبَرَاءَة: الِانْفِصَال، وَهُوَ يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ ظَاهره، وَهُوَ الْبَرَاءَة من فَاعل ذَلِك الْفِعْل، وَقَالَ الْمُهلب بَرِيء مِنْهُ، أَي: أَنه لم يرض بِفِعْلِهِ فَهُوَ مِنْهُ بَرِيء فِي وَقت ذَلِك الْفِعْل، لَا أَنه بَرِيء من الْإِسْلَام. قَوْله: (من الصالقة) ، الصالقة والسالقة لُغَتَانِ هِيَ الَّتِي ترفع صَوتهَا عِنْد الْمُصِيبَة. وَفِي (الْمُحكم) : الصلقة والصلق والصلق: الصياح، والولولة، وَقد صلقوا وأصلقوا، وَصَوت صلاق ومصلاق شَدِيد. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الصلق ضرب الْوَجْه. قَوْله: (والحالقة) الَّتِي: تحلق شعرهَا. قَوْله: (والشاقة) الَّتِي: تشق ثِيَابهَا عِنْد الْمُصِيبَة. وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق أبي صَخْرَة: (أَنا بَرِيء مِمَّن حلق وسلق وخرق) . أَي: حلق شعره، وسلق صَوته، أَي: رَفعه، وخرق ثَوْبه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: النّدب والنياحة وَلَطم الخد وشق الجيب وخمش الْوَجْه وَنشر الشّعْر وَالدُّعَاء بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، كلهَا محرم بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب، وَوَقع فِي كَلَام بَعضهم لفظ الْكَرَاهَة؟ قلت: هَذِه كلهَا حرَام عندنَا، وَالَّذِي يذكرهُ بِالْكَرَاهَةِ فمراده كَرَاهَة التَّحْرِيم.
83 - (بابٌ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ منا من ضرب الخدود.
7921 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ضرب الخدود) ، وَحَدِيث الْبَاب مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَترْجم هُنَا بالجزء الأول، كَمَا ترْجم فِي الْبَاب الَّذِي قبله ببابين بالجزء الثَّانِي من هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ وَجهه. وَقد أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
93 - (بابُ مَا يُنْهى مِنَ الوَيْلِ وَدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي من الويل، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَالْوَيْل أَن يَقُول عِنْد الْمُصِيبَة: وَا ويلاه، هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ حَدِيثهَا لَيست بموجوده عِنْد الْكشميهني، وَثبتت عِنْد البَاقِينَ.
8921 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ مِنَّا منْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوى الجَاهِلِيَّةِ.(8/93)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أخرج هَذَا الحَدِيث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَترْجم فِي كل مَوضِع بِجُزْء من أَجزَاء الحَدِيث الْمَذْكُور الثَّلَاثَة مَعَ مُغَايرَة فِي السَّنَد، لِأَن شَيْخه فِي الأول: أَبُو نعيم، وَفِي الثَّانِي: مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الثَّالِث: عمر بن حَفْص، وَالْكل عَن عبد الله بن مَسْعُود. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر النَّهْي من الويل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة مستلزمة للويل، وَلَفظ: لَيْسَ منا، للنَّهْي. وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه، فَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن مَاجَه، وَصَححهُ ابْن حبَان: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الخامشة وَجههَا والشاقة جيبها والداعية بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور) . انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْأَوْجه لِأَن ذكر التَّرْجَمَة لحَدِيث لَيْسَ بمذكور فِي كِتَابه وَلَا يعرف أَيْضا هَل هُوَ اطلع عَلَيْهِ أم لَا بعيد عَن السداد.
04 - (بابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من جلس. كلمة: من، مَوْصُولَة، أَي: الَّذِي جلس عِنْد حُلُول الْمُصِيبَة. قَوْله: (يعرف) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى قَوْله: (الْحزن) ، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (جلس) ، وَالضَّمِير الَّذِي فِي: (فِيهِ) يرجع إِلَى قَوْله: (من) وَلم يُصَرح البُخَارِيّ بِحكم هَذِه الْمَسْأَلَة، وَلَكِن يفهم من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن إِظْهَار الْحزن يدل على إِبَاحَته وَلَا يمْنَع من ذَلِك إلاَّ إِذا كَانَ مَعَه شَيْء من اللِّسَان أَو الْيَد.
9921 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى. قَالَ أخبرَتْنِي عَمْرَةُ قالَتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا جاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتْلُ ابنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ وَأنَا أنْظُرُ مِنْ صائِرِ البَابِ شَقِّ البَابِ فأتَاهُ رَجُلٌ فقالَ إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فأمَرَهُ أنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ فأتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَالله غَلَبْنَنَا يَا رسولَ الله فَزَعمَتْ أنَّهُ قَالَ فاحْثُ فِي أفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ أرْغَمَ الله أنْفَكَ لَمْ تَفْعَلْ مَا أمَرَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ تَترُكْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ العَنَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جلس يعرف فِيهِ الْحزن) ، والترجمة قِطْعَة من الحَدِيث، غير أَنه زَاد فِيهِ: (عِنْد الْمُصِيبَة) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عَمْرو وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي الطَّاهِر عَن ابْن وهب وَعَن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما جَاءَ النَّبِي) انتصاب: النَّبِي، بِأَنَّهُ مفعول. وَقَوله: (قتل ابْن حَارِثَة) بِالرَّفْع فَاعله، وَابْن حَارِثَة: هُوَ زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعزي بن امرىء الْقَيْس الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي، مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ أَن أمه ذهبت تزور أَهلهَا فَأَغَارَ عَلَيْهِم خيل من بني الْقَيْس، فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة بنت خويلد فَوَهَبته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ وُجد أَبوهُ فَاخْتَارَ الْمقَام عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهُ وتبناه فَكَانَ يُقَال: زيد بن مُحَمَّد، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبهُ حبا شَدِيدا. وَقَالَ السُّهيْلي: باعوا زيدا بسوق حُبَاشَة، وَهُوَ من أسواق الْعَرَب، وَزيد يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِيَة أَعْوَام وَأعْتقهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزوجه مولاته أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة بن زيد، وَعَن عَائِشَة كَانَت تَقول: مَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيد بن حَارِثَة فِي سَرِيَّة إلاَّ أمره عَلَيْهِم، وَلَو بَقِي بعده لاستخلفه. رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَابْن أبي شيبَة: جيد قوي على شَرط الصَّحِيح وَهُوَ غَرِيب جدا. قَوْله: (وجعفر) ، هُوَ ابْن أبي طَالب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أكبر من أَخِيه عَليّ بِعشر سِنِين، أسلم جَعْفَر قَدِيما وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة وَقد أخبر عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ شَهِيد، فَهُوَ مِمَّن(8/94)
يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ. قَوْله: (وَابْن رَوَاحَة) ، هُوَ عبد الله بن رَوَاحَة بن ثَعْلَبَة بن امريء الْقَيْس بن عمر، وَأَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال أَبُو رَوَاحَة، أسلم قَدِيما وَشهد الْعقبَة وبدرا وأحدا وَالْخَنْدَق وَالْحُدَيْبِيَة وخيبر، وَقد شهد لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ مِمَّن يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ، وقصة قَتلهمْ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أرسلهم فِي نَحْو من ثَلَاثَة آلَاف إِلَى أَرض البلقاء من أَطْرَاف الشَّام فِي جماد الأولى من سنة ثَمَان، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم زيدا وَقَالَ: إِن أُصِيب زيد فجعفر على النَّاس، فَإِن أُصِيب جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة على النَّاس، فَخَرجُوا وَخرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يشيعهم فَمَضَوْا حَتَّى نزلُوا معَان من أَرض البلقاء، فَبَلغهُمْ أَن هِرقل قد نزل مآب من أَرض البلقاء فِي مائَة ألف من الرّوم، وانضم إِلَيْهِم من لخم وجذام والقين وبهراء ويلي مائَة ألف، وانحاز الْمُسلمُونَ إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: مُؤْتَة، بِضَم الْمِيم وبالهمز، وَقيل: بِلَا همز، ثمَّ تلاقوا فَاقْتَتلُوا، فقاتل زيد براية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قتل، فَأَخذهَا جَعْفَر فقاتل حَتَّى قتل، وَأَخذهَا عبد الله بن رَوَاحَة. قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعي الثَّلَاثَة وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ، ثمَّ قَالَ: أَخذ الرَّايَة سيف من سيوف الله تَعَالَى حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم، وَهُوَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن خَالِد: لقد انْقَطَعت فِي يَدي يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياق فَمَا بَقِي فِي يَدي إلاَّ صفيحة يَمَانِية، وَسَيَجِيءُ ذَلِك كُله فِي الْكتاب، وَجَمِيع من قتل من الْمُسلمين يَوْمئِذٍ اثْنَي عشر رجلا، وَهَذَا أَمر عَظِيم جدا أَن يُقَاتل جيشان متعاديان فِي الدّين أَحدهمَا الفئة الَّتِي تقَاتل فِي سَبِيل الله تَعَالَى عدتهَا ثَلَاثَة آلَاف، وَأُخْرَى كَافِرَة عدتهَا مِائَتَا ألف مائَة ألف من الرّوم وَمِائَة ألف من نَصَارَى الْعَرَب. قَوْله: (جلس) جَوَاب: لما، وَزَاد أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته: (جلس فِي الْمَسْجِد) . قَوْله: (يعرف فِيهِ الْحزن) جملَة حَالية. قَالَ الطَّيِّبِيّ: كَأَنَّهُ كظم الْحزن كظما فَظهر مِنْهُ مَا لَا بُد لجبلة البشرية مِنْهُ. قَوْله: (وَأَنا أنظر) ، جملَة حَالية أَيْضا، وقائلها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (من صائر الْبَاب) ، بالصَّاد الْمُهْملَة والهمزة بعد الْألف وَفِي آخِره رَاء، وَقد فسره فِي الحَدِيث بقوله: (شقّ الْبَاب) ، وَهُوَ بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة أَي: الْموضع الَّذِي ينظر مِنْهُ، وَلم يرد بِكَسْر الشين أَي: النَّاحِيَة لِأَنَّهَا لَيست بمرادة هُنَا، قَالَه ابْن التِّين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِفَتْح الشين وَكسرهَا. وَقَالَ الْمَازِني: كَذَا وَقع فِي (الصَّحِيحَيْنِ) هُنَا: صائر الْبَاب، وَالصَّوَاب: صيراي، بِكَسْر الصَّاد وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الشق. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والخطابي: صائر وصير بِمَعْنى وَاحِد. فَإِن قلت: هَذَا التَّفْسِير مِمَّن؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون من عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون مِمَّن بعْدهَا، وَلَكِن الظَّاهِر هُوَ الأول. قَوْله: (فَأَتَاهُ رجل) أَي: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل، وَلم يُوقف على اسْمه، وَيحْتَمل أَن عَائِشَة لم تصرح باسمه لانحرافها عَلَيْهِ. قَوْله: (إِن نسَاء جَعْفَر) أَي: امْرَأَته أَسمَاء بنت عُمَيْس الخثعمية وَمن حضر عِنْدهَا من أقاربها وأقارب جَعْفَر، وَخبر: إِن، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن نسَاء جَعْفَر يبْكين، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَقد حذفت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا خبر: إِن، من القَوْل المحكي عَن جَعْفَر بِدلَالَة الْحَال، يَعْنِي قَالَ ذَلِك الرجل: إِن نسَاء جَعْفَر فعلن كَذَا وَكَذَا، مِمَّا حظره الشَّرْع من الْبكاء الشنيع والنياحة الفظيعة إِلَى غير ذَلِك. قَوْله: (وَذكر بكاءهن) ، حَال من الْمُسْتَتر فِي: قَالَ. قَوْله: (لم يطعنه) حِكَايَة لِمَعْنى قَول الرجل أَي: فَذهب ونهاهن ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: نَهَيْتُهُنَّ فَلم يطعنني، يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الْمرة الثَّالِثَة: (وَالله غلبننا) ، قَوْله: (ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة لم يطعنه) أَي: أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمرة الثَّانِيَة فَقَالَ: إنَّهُنَّ لم يطعنه. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة: فَذكر أَنَّهُنَّ لم يطعنه. قَوْله: (الثَّالِثَة) أَي: الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (وَالله غلبننا) بِلَفْظ جمع الْمُؤَنَّث الغائبة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (غلبتنا) ، بِلَفْظ الْمُفْرد الْمُؤَنَّث الغائبة. قَوْله: (فَزَعَمت) أَي: عَائِشَة، وَهُوَ مقول عمْرَة، وَمعنى: زعمت: قَالَت. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي ظَنَنْت قلت: الزَّعْم يُطلق على القَوْل الْمُحَقق وعَلى الْكَذِب والمشكوك فِيهِ، وَينزل فِي كل مَوضِع على مَا يَلِيق بِهِ قَوْله: (فأحث) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، أَمر من: حثا يحثو، وبكسرها أَيْضا من حثى يحثي. قَوْله: (التُّرَاب) مفعول: (أحث) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى تَأتي: (من التُّرَاب) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا يدل على أَنَّهُنَّ رفعن أصواتهن بالبكاء، فَلَمَّا لم ينتهين أمره أَن يسد أفواههن بِالتُّرَابِ، وَخص الأفواه بذلك لِأَنَّهَا مَحل النوح. انْتهى. وَقَالَ عِيَاض: هُوَ بِمَعْنى التَّعْجِيز، أَي: أَنَّهُنَّ لَا يسكتن إلاَّ بسد أفواههن، وَلَا تسدها إلاَّ بِأَن تملأ بِالتُّرَابِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَنَّهُنَّ لم يطعن الناهي لكَونه لم يُصَرح لَهُنَّ بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهاهن، فحملن ذَلِك على أَنه مرشد إِلَى الْمصلحَة من قبل نَفسه، أَو علِمْنَ لَكِن غلب عَلَيْهِنَّ شدَّة الْحزن لحرارة الْمُصِيبَة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه حسن، وَهُوَ اللَّائِق فِي حق الصحابيات، لِأَنَّهُ يبعد أَن يتمادين بعد تكْرَار نهيهن على محرم، وَيُقَال(8/95)
إِن كَانَ بكاؤهن مُجَردا يكون النَّهْي عَنهُ للتنزيه خشيَة أَن يسترسلن فِيهِ فيفضي بِهن إِلَى الْأَمر الْمحرم لضعف صبرهن، وَلَا يكون النَّهْي للتَّحْرِيم، فَلِذَا أصررن عَلَيْهِ متأولات. وَقيل: كَانَ بكاؤهن بنياح وَلذَا تَأَكد النَّهْي، وَلَو كَانَ مُجَرّد دمع الْعين لم ينْه عَنهُ لِأَنَّهُ رَحْمَة وَلَيْسَ بِحرَام. قلت: إِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكر يحمل حالهن على أَن الرجل لم يسند النَّهْي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلهَذَا لم يطعنه. قَوْله: (فَقلت) ، مقول عَائِشَة. قَوْله: (أرْغم الله أَنْفك) بالراء والغين الْمُعْجَمَة أَي: ألصق الله أَنْفك بالرغام، بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ التُّرَاب. دعت عَلَيْهِ حَيْثُ لم يفعل مَا أمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ، وَهُوَ أَن ينهاهن وَحَيْثُ لم يتْركهُ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحزن بإخبارك ببكائهن وإصررهن عَلَيْهِ وتكرارك ذَلِك. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هُوَ فعل مَا أمره بِهِ ولكنهن لم يطعنه؟ قلت: حَيْثُ لم يَتَرَتَّب على فعله الِامْتِثَال، فَكَأَنَّهُ لم يَفْعَله، أَو هُوَ لم يفعل الحثو. وَقَالَ بَعضهم: لَفْظَة: لم يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَقَوْلها ذَلِك وَقع قبل أَن يتَوَجَّه، فَمن أَيْن علمت أَنه لم يفعل؟ فَالظَّاهِر أَنَّهَا قَامَت عِنْدهَا قرينَة بِأَنَّهُ لَا يفعل، فعبرت عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي مُبَالغَة فِي نفي ذَلِك عَنهُ. انْتهى. قلت: لَا يُقَال: لَفْظَة: لم، يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَإِنَّمَا يُقَال: حرف: لم، حرف جزم لنفي الْمُضَارع، وَقَلبه مَاضِيا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَه أهل الْعَرَبيَّة. وَقَوله: فعبرت عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ غير مَاض بل هُوَ مضارع وَلَكِن صَار مَعْنَاهُ معنى الْمَاضِي بِدُخُول: لم، عَلَيْهِ. قَوْله: (من العناء) ، بِفَتْح الْعين المهمة بعْدهَا النُّون وبالمد وَهُوَ: الْمَشَقَّة والتعب. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (من العي) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قيل: وَقع فِي رِوَايَة العذري من الغي، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة: ضد الرشد. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا وَجه لَهُ هُنَا، ورد عَلَيْهِ بِأَن لَهُ وَجها، وَلَكِن الأول أليق لموافقته لرِوَايَة العناء الَّتِي هِيَ رِوَايَة الْأَكْثَرين {وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك قَاصِر لَا تقوم بِمَا أمرت بِهِ، من الْإِنْكَار لنقصك وتقصيرك وَلَا تخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقصورك عَن ذَلِك حَتَّى يُرْسل غَيْرك فيستريح من العناء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْجُلُوس للعزاء بسكينة ووقار. وَفِيه: الْحَث على الصَّبْر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِن قَالَ الْقَائِل: إِن أَحْوَال النَّاس فِي الصَّبْر مُتَفَاوِتَة فَمنهمْ من يظْهر حزنه على الْمُصِيبَة فِي وَجهه بالتغيير لَهُ، وَفِي عَيْنَيْهِ بانحدار الدُّمُوع وَلَا ينْطق بِشَيْء من القَوْل، وَمِنْهُم من يجمع ذَلِك كُله، وَيزِيد عَلَيْهِ إِظْهَاره فِي مطعمه وملبسه، وَمِنْهُم من يكون حَاله فِي الْمُصِيبَة وَقبلهَا سَوَاء فَأَيهمْ الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر، قد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بَعضهم: الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر هُوَ الَّذِي يكون فِي حَاله مثلهَا قبلهَا، وَلَا يظْهر عَلَيْهِ حزن فِي جارحة وَلَا لِسَان، كَمَا زعمت الصُّوفِيَّة، أَن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِالْقدرِ، وَلَا يحزن على شَيْء، وَالنَّاس فِي هَذَا الْحَال مُخْتَلفُونَ، فَمنهمْ من فِي قلبه الْجلد وَقلة المبالاة بالمصائب، وَمِنْهُم من هُوَ بِخِلَاف ذَلِك، فَالَّذِي يكون طبعه الْجزع وَيملك نَفسه ويستشعر الصَّبْر أعظم أجرا من الَّذِي يتجلد طباعه. قَالَ الطَّبَرِيّ: كَمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه نعى أَخُوهُ عتبَة. قَالَ: لقد كَانَ من أعز النَّاس عَليّ وَمَا يسرني أَنه بَين أظْهركُم الْيَوْم حَيا. قَالُوا: وَكَيف هُوَ من أعز النَّاس عَلَيْك؟ قَالَ: إِنِّي لأوجر فِيهِ أحب إِلَيّ من أَن يُؤجر فِي. وَقَالَ ثَابت: إِن الصَّلْت بن أَشْيَم مَاتَ أَخُوهُ، فجَاء رجل وَهُوَ يطعم، فَقَالَ: يَا أَبَا الصَّهْبَاء إِن أَخَاك مَاتَ} قَالَ: هَلُمَّ فَكل قد نعي إِلَيْنَا، فَكل. قَالَ: وَالله مَا سبقني إِلَيْك أحد مِمَّن نعاه، قَالَ: يَقُول الله عز وَجل: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} (الزمر: 03) . وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ شُرَيْح، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدْفن جنائزه لَيْلًا، فيغتنم ذَلِك فيأتيه الرجل حِين يصبح فيسأله عَن الْمَرِيض، فَيَقُول: هَذَا لله الشُّكْر وَأَرْجُو أَن يكون مستريحا. وَكَانَ ابْن سِيرِين يكون عِنْد الْمُصِيبَة كَمَا هُوَ قبلهَا يتحدث ويضحك إلاَّ يَوْم مَاتَت حَفْصَة فَإِنَّهُ جعل يكشر، وإنت تعرف فِي وَجهه، وَسُئِلَ ربيعَة: مَا مُنْتَهى الصَّبْر؟ قَالَ: أَن تكون يَوْم تصيبه الْمُصِيبَة مثله قبل أَن تصيبه وَأما جزع الْقلب وحزن النَّفس ودمع الْعين فَإِن ذَلِك لَا يخرج العَبْد من مَعَاني الصابرين إِذا لم يتجاوزه إِلَى مَا لَا يجوز لَهُ فعل، لِأَن نفوس بني آدم مجبولة على الْجزع من المصائب، وَقد مدح الله تَعَالَى الصابرين وَوَعدهمْ جزيل الثَّوَاب عَلَيْهِ، وتغيير الأجساد عَن هيآتها ونقلها عَن طبعها الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الَّذِي أَنْشَأَهَا. وروى المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، قَالَ: (قَالَ الله تَعَالَى: إِذا ابْتليت عَبدِي الْمُؤمن فَلم يشكني إِلَى عواده أنشطه من عقاله وبدلته لَحْمًا خيرا من لَحْمه ودما خيرا من دَمه، ويستأنف الْعَمَل) . وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمنْهِي عَن الْمُنكر إِن لم ينْتَه عُوقِبَ وأدب إِن أمكن. وَفِيه: جَوَاز نظر النِّسَاء المحتجبات إِلَى الرِّجَال الْأَجَانِب. وَفِيه: جَوَاز التميين لتأكيد الْخَبَر.(8/96)
0031 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ قَالَ حدَّثنا عاصِمٌ الأَحْوَلُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ فَمَا رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَزِنَ حُزْنا قَطُّ أشَدَّ مِنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ الفلاس الصَّيْرَفِي، والْحَدِيث تقدم فِي أَبْوَاب الْوتر فِي: بَاب الْقُنُوت قبل الرُّكُوع وَبعده، أخرجه عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن عَاصِم قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْقُنُوت ... الحَدِيث، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
14 - (بابُ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ المُصِيبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم يظْهر حزنه عِنْد حُلُول الْمُصِيبَة، وَهَذَا الْبَاب عكس الْبَاب السَّابِق، لِأَن فِيهِ من أظهر حزنه، وَفِي هَذَا من لم يظْهر، وَفِي كل مِنْهُمَا لم يُصَرح بالحكم، أما ذَاك فقد بَينا وَجهه، وَأما هَذَا فَفِيهِ ترك مَا أُبِيح لَهُ من إطهار الْحزن الَّذِي لَا إسخاط فِيهِ لله تَعَالَى، وَفِيه قهر النَّفس بِالصبرِ الَّذِي هُوَ خير، لقَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} (النَّحْل: 621) .
وَقَالَ محَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ الجَزَعُ القَوْلُ السَّيِّءُ والظَّنُّ السَّيِّءُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمُقَابلَة، وَهِي ذكر الشَّيْء وَمَا يضاده مَعَه، وَذَلِكَ أَن ترك إِظْهَار الْحزن من القَوْل الْحسن وَالظَّن الْحسن، وإظهاره مَعَ الْجزع الَّذِي يُؤَدِّيه إِلَى مَا حظره الشَّرْع قَول سيىء وَظن سيء، وَمُحَمّد بن كَعْب بن سليم الْقرظِيّ، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء بعْدهَا ظاء مُعْجمَة الْمَدِينِيّ، حَلِيف الْأَوْس، سمع زيد بن أَرقم وَغَيره. قَالَ قُتَيْبَة: بَلغنِي أَنه ولد فِي حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة سبع عشرَة وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثَمَان وَتِسْعين سنة، وَمعنى القَوْل السيء مَا يبْعَث الْحزن غَالِبا، وَالظَّن السيء الاستبعاد لحُصُول مَا وعد بِهِ من الثَّوَاب على الصَّبْر، أَو الْيَأْس من تَفْوِيض مَا هُوَ خير لَهُ من الْفَائِت.
وَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّمَا أشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى الله
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله، عَلَيْهِم الصَّلَاة وأزكى السَّلَام، لما ابْتُلِيَ صَبر وَلم يشك إِلَى أحد وَلَا بَث حزنه إلاَّ إِلَى الله، فطابق التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، والبث: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة شدَّة الْحزن.
1031 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ الحَكَمِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ قَالَ أخبرنَا إسْحَاقُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ اشْتَكَى ابْنٌ لأِبي طَلْحَةَ قَالَ فَماتَ وَأبُو طَلْحَةَ خارِجٌ فَلَمَّا رَأتْ امْرَأتُهُ أنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأتْ شَيْئا وَنَحَّتْهُ فِي جانِبِ البَيْتِ فَلَمَّا جاءَ أبُو طَلْحَةَ قَالَ كَيْفَ الغُلاَمُ قالَتْ قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأرْجُو أنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ وظَنَّ أبُو طَلْحَةَ أنَّهَا صادِقَةٌ قَالَ فباتَ فَلَمَّا أصْبَحَ اغْتَسَلَ فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ أعْلَمَتْهُ أنَّهُ قَدْ مَاتَ فَصَلَّى مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أخْبَرَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا كانَ مِنْهُمَا فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّ الله أنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلتِكُمَا. قَالَ سُفْيَانُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَرَأيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أوْلاَدٍ كُلَّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ.
(الحَدِيث 1031 طرفه فِي: 0745) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن امْرَأَة أبي طَلْحَة لما مَاتَ ابْنهَا لم تظهر الْحزن بل أظهرت الْفَرح وَالسُّرُور،(8/97)
حَتَّى جَامعهَا أَبُو طَلْحَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، فَلَمَّا أصبح واغتسل وَأَرَادَ الْخُرُوج من عِنْدهَا أعلمته بذلك.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: الْعَبْدي، مر فِي: بَاب التَّهَجُّد. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موض وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، قَالَ أَبُو نعيم: هَذَا الحَدِيث مِمَّا تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن بشر بن الحكم، وَأخرجه مُسلم من طرق عَن ثَابت عَن أنس. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا من طَرِيق أنس بن سِيرِين وَمُحَمّد بن سعد من طَرِيق حميد الطَّوِيل، كِلَاهُمَا عَن أنس. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ أَخُو إِسْحَاق الْمَذْكُور عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله (اشْتَكَى ابْن لأبي طَلْحَة) أَي مرض وَلَيْسَ المُرَاد أَنه صدرت مِنْهُ الشكوى لَكِن لما كَانَ الإصل أَن الْمَرِيض يحصل مِنْهُ ذَلِك اسْتعْمل فِي كل مرض لكل مَرِيض وَالِابْن الْمَذْكُور وَهُوَ أَبُو عُمَيْر صَاحب النغير قَالَه ابْن حبَان والخطيب فِي آخَرين وَأَبُو طَلْحَة زيد بن سهل الإنصاري وَامْرَأَته هِيَ أم أنس بن مَالك قَوْله (خَارج) أَي خَارج الْبَيْت وَكَانَ يكون عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَوَاخِر النَّهَار وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ كَانَ لأبي طَلْحَة ولد فَتوفي فَأرْسلت أم سليم أنسا يَدْعُو أَبَا طَلْحَة وأمرته أَن لَا يُخبرهُ بوفاة ابْنه وَكَانَ أَبُو طَلْحَة صَائِما قَوْله (هيأت شَيْئا) أَي أعدت طَعَاما وأصلحته وَقيل هيأت شَيْئا من حَالهَا وتزينت لزَوجهَا تعرضا للجماع وَقيل هيأت أَمر الصَّبِي بأنغسلته وكفنته على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُود الطَّيَالِسِيّ عَن مشايخه عَن صَالح (فهيأت الصَّبِي) وَفِي رِوَايَة حميد عِنْد ابْن سعد (فَتوفي الْغُلَام فهيأت أم سعيد أمره) وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن زَاذَان عَن ثَابت (فَهَلَك الصَّبِي فَقَامَتْ أم سليم فغسلته وكفنته وحنطته وسجت عَلَيْهِ ثوبا قَوْله: (ونحته) ، بِفَتْح النُّون والحاء الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة: أَي جعلته فِي جَانب الْبَيْت. وَقيل: بعدته، وَفِي رِوَايَة جَعْفَر عَن ثَابت: (فَجَعَلته فِي مخدعها) . قَوْله: (قد هدأت نَفسه) بِالْهَمْز أَي: سكنت نَفسه بِسُكُون الْفَاء، وَالْمعْنَى: أَن نَفسه كَانَت قلقة منزعجة بِعَارِض الْمَرَض، فسكنت بِالْمَوْتِ، وَظن أَبُو طَلْحَة أَن مرادها: سكنت بِالنَّوْمِ لوُجُود الْعَافِيَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (هدأ نَفسه) ، بِفَتْح الْفَاء أَي: سكن لِأَن الْمَرِيض يكون نَفسه عَالِيا فَإِذا زَالَ مَرضه سكن، وَكَذَا إِذا مَاتَ. وَوَقع فِي رِوَايَة أنس بن سِيرِين: (هُوَ أسكن مَا كَانَ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة جَعْفَر عَن ثَابت، وَفِي رِوَايَة معمر عَن ثَابت: (أَمْسَى هادئا) . وَفِي رِوَايَة حميد: (بِخَير مَا كَانَ) ، وَالْكل مُتَقَارب الْمعَانِي. قَوْلهَا: (وَأَرْجُو أَن يكون قد استراح) ، من حسن المعاريض، وَهُوَ مَا احْتمل لَهُ مَعْنيانِ: فَإِنَّهَا أخْبرت بِكَلَام لم تكذب فِيهِ، وَلَكِن ورت بِهِ عَن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ يحزنها، أَلا يرى أَن نَفسه قد هدأ، كَمَا قَالَت بِالْمَوْتِ وَانْقِطَاع النَّفس، وأوهمته أَنه استراح من قلقه، وَإِنَّمَا استراح من نصب الدُّنْيَا وهمها. وَقَالَ ابْن بطال، رَحمَه الله تَعَالَى: هدأ نَفسه من معاريض الْكَلَام، وأرادت بِسُكُون النَّفس: الْمَوْت، وَظن أَبُو طَلْحَة، رَحمَه الله تَعَالَى، أَنَّهَا تُرِيدُ بِهِ سُكُون نَفسه من الْمَرَض وَزَوَال الْعلَّة وتبدلها بالعافية، وَإِنَّهَا صَادِقَة فِيمَا خيل إِلَيْهِ فِي ظَاهر قَوْلهَا، وَبَارك الله لَهَا بدعائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرزقا تِسْعَة أَوْلَاد من الْقُرَّاء الصلحاء، وَذَلِكَ بصبرهما فِيمَا نالها ومراعاتها زَوجهَا. قَوْله: (وَظن أَبُو طَلْحَة أَنَّهَا صَادِقَة) أَي: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فهمه من كَلَامهَا، وإلاَّ فَهِيَ صَادِقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَرَادَت. قَوْله: (فَبَاتَ) ، أَي: بَات أَبُو طَلْحَة مَعَ امْرَأَته الْمَذْكُورَة، وَهَذِه كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَلِهَذَا لما أصبح اغْتسل لِأَن الْغسْل غَالِبا لَا يكون إلاَّ من الْجِمَاع، وَقد وَقع التَّصْرِيح بذلك فِي رِوَايَة أنس بن سِيرِين: (فقربت إِلَيْهِ الْعشَاء فتعشى ثمَّ أصَاب مِنْهَا) . وَفِي رِوَايَة حَمَّاد عَن ثَابت: (ثمَّ تطيبت) ، زَاد جَعْفَر عَن ثَابت: (فتعرضت لَهُ حَتَّى وَقع بهَا) ، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان عَن ثَابت: (ثمَّ تصنعت لَهُ أحسن مَا كَانَت تتصنع قبل ذَلِك، فَوَقع بهَا) . وَفِي رِوَايَة عبد الله بن عبد الله: (ثمَّ تعرضت لَهُ فَأصَاب مِنْهَا) . قَوْله: (فَلَمَّا أَرَادَ أَن يخرج) أَي: فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو طَلْحَة أَن يخرج من الْبَيْت (أعلمته) أَي: أعلمت أَبَا طَلْحَة بِأَنَّهُ: أَي بِأَن الصَّبِي قد مَاتَ، وَفِيه زِيَادَة لمُسلم قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن حَاتِم بن مَيْمُون حَدثنَا بهز حَدثنَا سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت (عَن(8/98)
أنس قَالَ: مَاتَ ابْن لأبي طَلْحَة من أم سليم، فَقَالَت لأَهْلهَا: لَا تحدثُوا أَبَا طَلْحَة بِابْنِهِ حَتَّى أكون أَنا أحدثه. قَالَ: فجَاء فقربت إِلَيْهِ عشَاء فَأكل وَشرب، قَالَ: ثمَّ تصنعت لَهُ أحسن مَا كَانَت تصنع قبل ذَلِك، فَوَقع بهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنه قد شبع وَأصَاب مِنْهَا قَالَت: يَا أَبَا طَلْحَة! أَرَأَيْت أَن قومآ أعاروا عاريتهم أهل بَيت فطلبوا عاريتهم ألهم أَن يمنعوهم؟ قَالَ: لَا، قَالَت: احتسب ابْنك. قَالَ: فَغَضب، وَقَالَ: تركتيني ثمَّ تلطخت ثمَّ اخبرتيني بِابْني؟ فَانْطَلق حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَارك الله لَكمَا فِي غابر ليلتكما، قَالَ: فَحملت) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَفِي رِوَايَة عبد الله؛ (فَقَالَت: يَا أَبَا طَلْحَة أَرَأَيْت قوما أعاروا مَتَاعهمْ ثمَّ بدا لَهُم فِيهِ فَأَخَذُوهُ فكأنهم وجدوا فِي أنفسهم) زَاد حَمَّاد فِي رِوَايَته عَن ثَابت: (فَأَبَوا أَن يردوها، فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: لَيْسَ لَهُم ذَلِك، إِن الْعَارِية مُؤَدَّاة إِلَى أَهلهَا. ثمَّ اتفقَا، فَقَالَت: إِن الله أعارنا فلَانا ثمَّ أَخذه منا) . زَاد حَمَّاد: (فَاسْتَرْجع) . قَوْله: (لَعَلَّ الله أَن يُبَارك لَهما فِي ليلتهما) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره (يُبَارك لَكمَا فِي ليلتكما) وَفِي رِوَايَة عبد الله بن عبد الله: (فَجَاءَت بِعَبْد الله بن أبي طَلْحَة) . قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله: (فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار) هُوَ عَبَايَة بن رِفَاعَة، وَهُوَ فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) وَغَيره من طَرِيق سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة قَالَ: (كَانَت أم أنس تحب أَبَا طَلْحَة) ، فَذكر الْقِصَّة شَبيهَة بسياق ثَابت عَن أنس، وَقَالَ فِي آخِره: (فَولدت لَهُ غُلَاما، قَالَ عَبَايَة: فَلَقَد رَأَيْت لذَلِك الْغُلَام سبع بَنِينَ كلهم قد ختم الْقُرْآن) ، قَالَ بَعضهم: أفادت هَذِه الرِّوَايَة أَن فِي رِوَايَة سُفْيَان تجوزا فِي قَوْله لَهما، لِأَن ظَاهره أَنه من ولدهما بِغَيْر وَاسِطَة، وَإِنَّمَا المُرَاد من أَوْلَاد ولدهما الْمَدْعُو لَهُ بِالْبركَةِ، وَهُوَ عبد الله بن أبي طَلْحَة. قلت: لَا نسلم التَّجَوُّز فِي رِوَايَة سُفْيَان لِأَنَّهُ مَا صرح فِي قَوْله: قَالَ رجل من الْأَنْصَار: فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قرأوا الْقُرْآن، وَلم يقل: رَأَيْت مِنْهُمَا، أَو لَهما تِسْعَة أَوْلَاد. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُبَارك لَهما) لَا يسْتَلْزم أَن يكون التِّسْعَة مِنْهُمَا. فَإِن قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة عَبَايَة: (سبع بَنِينَ) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: (تِسْعَة أَوْلَاد) ؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد بالسبعة من ختم الْقُرْآن كُله، وبالتسعة من قَرَأَ معظمه. فَإِن قلت: ذكر ابْن سعد وَغَيره من أهل الْعلم بالأنساب أَن لَهُ من الْوَلَد: إِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل وَعبد الله وَيَعْقُوب وَعمر وَالقَاسِم وَعمارَة وَإِبْرَاهِيم وَعُمَيْر وَزيد وَمُحَمّد، وَأَرْبع من الْبَنَات؟ قلت: قَول عَبَايَة: رَأَيْت سَبْعَة، أَو تِسْعَة فِي رِوَايَة سُفْيَان، لَا يُنَافِي الزِّيَادَة لِأَنَّهُ مَا أخبر إلاَّ عَمَّن رَآهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عدم إِظْهَار الْحزن عِنْد الْمُصِيبَة، وَهُوَ فقه الْبَاب، كَمَا فعلت أم سليم فَإِنَّهَا اخْتَارَتْ الصَّبْر وقهرت نَفسهَا. وَفِيه: منقبة عَظِيمَة لأم سليم بصبرها ورضائها بِقَضَاء الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالشدة وَترك الرُّخْصَة لمن قدر عَلَيْهَا، وَأَن ذَلِك مِمَّا ينَال بِهِ العَبْد رفيع الدَّرَجَات وجزيل الْأجر. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة تتزين لزَوجهَا تعرضا للجماع. وَفِيه: أَن من ترك شَيْئا لله تَعَالَى وآثر مَا ندب إِلَيْهِ وحض عَلَيْهِ من جميل الصَّبْر أَنه يعوض خيرا مِمَّا فَاتَهُ، أَلا ترى قَوْله: (فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قرأوا الْقُرْآن) ؟ وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة المعاريض الموهمة إِذا دعت الضَّرُورَة إِلَيْهَا، وَشرط جَوَازهَا أَن لَا تبطل حَقًا لمُسلم. وَفِيه: إِجَابَة دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
24 - (بابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)
يجوز فِي: بَاب، التَّنْوِين، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الصَّبْر، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ ارْتِفَاع بَاب على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب، وَلَفظ الصَّبْر عِنْد إِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ يكون مجرورا بِالْإِضَافَة، وَعند كَون الْبَاب منونا يكون لفظ الصَّبْر مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله: عِنْد الصدمة الأولى.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نِعْمَ العِدْلاَنِ ونِعْمَ العِلاَوَةُ الَّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ (الْبَقَرَة: 651، 751) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى أخبر عَن الصابرين الَّذين يَقُولُونَ عِنْد الْمُصِيبَة: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651، 751) . وَأخْبر(8/99)
أَنهم هم الَّذين {عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . وَأخْبر أَنهم: {هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَإِنَّمَا استحقوا هَذِه الْفَضَائِل الجزيلة بصبرهم المبشر عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْبشَارَة، وَهُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى، وَهُوَ الصَّبْر الْمَحْمُود الَّذِي يكون عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة فَإِنَّهُ إِذا طَالَتْ الْأَيَّام عَلَيْهَا وَقع السلو وَصَارَ الصَّبْر حِينَئِذٍ طبعا. قَوْله: (نعم العدلان) بِكَسْر الْعين أَي المثلان، وَقَالَ الْمُهلب: العدلان الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة والعلاوة: {أُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَقيل: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651) . والعلاوة الَّتِي يُثَاب عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ أَبُو الْحسن: الْعدْل الْوَاحِد قَول الْمُصَاب: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة: 651) . وَالْعدْل الثَّانِي الصَّلَوَات الَّتِي هِيَ عَلَيْهِنَّ من الله تَعَالَى، والعلاوة {وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَهُوَ ثَنَاء من الله تَعَالَى عَلَيْهِم. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا هُوَ مثل ضربه للجزاء، فالعدلان عدلا الْبَعِير أَو الدَّابَّة، والعلاوة الغرارة الَّتِي تُوضَع فِي وسط العدلين مَمْلُوءَة، يَقُول: وكما حملت هَذِه الرَّاحِلَة وسقاءها فَإِنَّهَا لم يبْق مَوضِع يحمل عَلَيْهِ، فَكَذَلِك أعْطى هَذَا الْأجر وافرا، وعَلى قَول الدَّاودِيّ يكون العدلان والعلاوة. {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات} (الْبَقَرَة: 751) . إِلَى {المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . وَقَالَ ابْن قرقول: الْعدْل هُنَا نصف الْحمل على أحد شقي الدَّابَّة، وَالْحمل عَدْلَانِ، والعلاوة مَا جعل بَينهمَا. وَقيل: مَا علق على الْبَعِير، ضرب ذَلِك مثلا بقوله: {صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . قَالَ: فالصلوات عدل، وَالرَّحْمَة عدل. {وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . العلاوة. وَقَالَ الْفراء: الْعدْل، بِالْفَتْح: مَا عدل الشَّيْء من غير جنسه، وبالكسر: الْمثل، والعلاوة، بِالْكَسْرِ، مَا علقت على الْبَعِير بعد تَمام الوقر. نَحْو السقاء وَغَيره. قَوْله: (نعم) ، كلمة مدح، والعدلان فَاعله، (وَنعم العلاوة) عطف عَلَيْهِ. وَقَوله: (الَّذين) هُوَ الْمَخْصُوص بالمدح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالعدلين القَوْل وجزاؤه، أَي قَوْله الْكَلِمَتَيْنِ وَنَوع الثَّوَاب، وهما متلازمان فِي أَن الْعدْل الأول مركب من كَلِمَتَيْنِ، وَالثَّانِي من النَّوْعَيْنِ من الثَّوَاب، وَمعنى الصَّلَاة من الله الْمَغْفِرَة، ثمَّ هَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن سعيد بن الْمسيب عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. كَمَا سَاقه البُخَارِيّ، وَزَاد {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة} (الْبَقَرَة: 751) . نعم العدلان. {وَأُولَئِكَ هم المهتدون} (الْبَقَرَة: 751) . نعم العلاوة. وَهَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن الْحَاكِم.
وقَوْلُهُ تَعَالى: {واسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ علَى الخَاشِعِينَ} (الْبَقَرَة: 54) .
وَقَوله، مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: بَاب الصَّبْر، وَالتَّقْدِير: وَبَاب قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا ... } (الْبَقَرَة: 54) . الْآيَة، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا عطفا على قَوْله: (الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى) ، على تَقْدِير قطع الْإِضَافَة فِي لفظ: بَاب، كَمَا ذكرنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَجه ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا هُوَ أَنه: لما كَانَ الْمعبر من الصَّبْر هُوَ الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى الَّذِي ذكرنَا مَعْنَاهُ أَتَى الصابر بصبر مقرون بِالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حزبه أَمر صلَّى) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه نعى إِلَيْهِ أَخُوهُ قثم، وَهُوَ فِي سفر، فَاسْتَرْجع ثمَّ تنحى عَن الطَّرِيق فَأَنَاخَ فصلى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فيهمَا الْجُلُوس، ثمَّ قَامَ وَهُوَ يَقُول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة ... } (الْبَقَرَة: 54) . الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى الْآيَة: اسْتَعِينُوا على مَا يستقبلكم من أَنْوَاع البلايا بِالصبرِ وَالصَّلَاة، وَقيل: فِي أَمر الْآخِرَة، وَقيل: فِي ترك الرياسة. وَالصَّبْر الْحَبْس، لِأَن الصابر حَابِس نَفسه على مَا تكرههُ، وسمى الصَّوْم صبرا لحبس النَّفس فِيهِ عَن الطَّعَام وَغَيره، وَنهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل شَيْء من الدَّوَابّ صبرا وَهُوَ أَن يحبس حَيا. وَقيل: المُرَاد بِالصبرِ فِي هَذِه الْآيَة الصَّوْم، قَالَه مُجَاهِد. قَوْله: {وَإِنَّهَا} أَي: وَإِن الصَّلَاة، وَلم يقل: وإنهما، مَعَ أَن الْمَذْكُور: الصَّبْر وَالصَّلَاة، فَقيل: لِأَنَّهُ رد الضَّمِير إِلَى مَا هُوَ الأهم والأغلب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 43) . رد الضَّمِير إِلَى الْفضة لِأَنَّهَا أَعم وأغلب. فَإِن قلت: مَا وَجه الِاسْتِعَانَة بِالصَّلَاةِ؟ قلت: لما كَانَ فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن وَالدُّعَاء والخضوع لله تَعَالَى كَانَ ذَلِك مَعُونَة على مَا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس من حب الرياسة والأنفة من الانقياد إِلَى الطَّاعَة. قَوْله: {لكبيرة} أَي: شَدِيدَة ثَقيلَة على الْكَافرين إلاَّ على الخاشعين لَيست بكبيرة، والخاشع الَّذِي يرى أثر الذل والخضوع عَلَيْهِ، والخشوع فِي اللُّغَة: السّكُون. قَالَ: خَشَعت الْأَصْوَات للرحمن، وَقيل: الْخُشُوع فِي الصَّوْت وَالْبَصَر، والخضوع فِي الْبدن. فَإِن قلت: قد علمت أَن العَبْد مَنْهِيّ عَن الهجر وتسخط قَضَاء الرب فِي كل حَال، فَمَا وَجه خُصُوص نزُول النائبة بِالصبرِ فِي حَال حدوثها؟ قلت: لِأَن النَّفس عِنْد هجوم الْحَادِثَة تتحرك على الْخُشُوع لَيْسَ فِي غَيرهَا مثله، وَذَلِكَ يضعف على ضبط النَّفس فِيهَا لكثير من النَّاس، بل يصير كل جازع بعد ذَلِك إِلَى السلو ونسيان الْمُصِيبَة وَالْأَخْذ بقهر الصابر النَّفس،(8/100)
وغلبته هَواهَا عِنْد صدمته يكون إيثارا لأمر الله تَعَالَى على هوى نَفسه، ومنجزا لوعده، بل السالي عَن مصائبه لَا يسْتَحق الصَّبْر على الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ آثر السلو على الْجزع وَاخْتَارَهُ، وَإِنَّمَا الصَّبْر على الْحَقِيقَة من صَبر نَفسه وحبسها عَن شهواتها وقهرها عَن الْحزن والجزع والبكاء الَّذِي فِيهِ رَاحَة النَّفس وإطفاء لنار الْحزن، فَإِذا قَابل سُورَة الْحزن وهجومه بِالصبرِ الْجَمِيل، وَتحقّق أَنه لَا خُرُوج لَهُ عَن قَضَائِهِ وَأَنه يرجع إِلَيْهِ بعد الْمَوْت، اسْتحق حِينَئِذٍ جزيل الْأجر وعد من الصابرين الَّذين وعدهم الله بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة.
2031 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ ثَابِتٍ. قَالَ سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولى.
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَقد مر الحَدِيث مطولا فِي: بَاب زِيَارَة الْقُبُور، أخرجه عَن آدم عَن شُعْبَة. . إِلَى آخِره، وَلَفظه هُنَاكَ: (إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى) ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره.
34 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِم تقع هَذِه التَّرْجَمَة وَلَا التَّعْلِيق الْمَذْكُور بعْدهَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَإِنَّمَا ذكرا فِي رِوَايَة البَاقِينَ.
وقالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَدْمَعُ العَيْنُ ويَحْزَنُ القَلْبُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُصَاب إِذا كَانَ مَحْزُونا تَدْمَع عينه، فَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَخذ من بعض معنى الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب، وَلَفظه: (إِن الله لَا يعذب بدمع الْعين وَلَا يحزن الْقلب) ، وَذَلِكَ لِأَن عدم تَعْذِيب الله بدمع الْعين وحزن الْقلب يسْتَلْزم أَنَّهُمَا إِذا وجدا لَا يعذب بهما، وباللفظ الْمَذْكُور روى مُسلم من حَدِيث أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ولد لي اللَّيْلَة غُلَام فسميته إِبْرَاهِيم. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَدْمَع الْعين ويحزن الْقلب) ، وَوَقع كَذَلِك فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أَسمَاء بنت يزِيد، قَالَت: (لما توفّي ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: (تَدْمَع الْعين ويحزن الْقلب) . وَكَذَا وَقع فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (توفّي ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِبْرَاهِيم بَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: (تَدْمَع الْعين ويحزن الْقلب) . وَكَذَا وَقع فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان عَن (أبي هُرَيْرَة، قَالَ: توفّي ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث، وَفِيه: ((الْقلب يحزن وَالْعين تَدْمَع) . وَوَقع أَيْضا فِي حَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (عَن أبي أُمَامَة، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين توفّي إِبْرَاهِيم. .) الحَدِيث، وَفِيه: (يحزن الْقلب وتدمع الْعين وَلَا نقُول مَا يسْخط الرب وَإِنَّا على إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ) . وَأخرج الطَّبَرَانِيّ أَيْضا: (عَن السَّائِب بن يزِيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هلك ابْنه طَاهِر) الحَدِيث، وَفِيه: (إِن الْعين تذرف، وَإِن الدمع يغلب، وَإِن الْقلب يحزن وَلَا نعصى الله عز وَجل) .
3031 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ حَسَّانَ قَالَ حدَّثنا قُرَيْشٌ هُوَ ابنُ حَيَّانَ عنْ ثَابِتٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أبِي سَيْفٍ القَيْنِ وكانَ ظِئْرا لإِبْرَاهِيمَ عليهِ السَّلامُ فأخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عليْهِ بَعْدَ ذالِكَ وَإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَذْرِفانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحمانِ بنِ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وأنْتَ يَا رَسُول الله فَقَالَ يَا ابنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ والقَلْبَ يَحْزَنُ وَلاَ نَقُولُ إلاَّ مَا يَرْضى ربُّنَا وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.(8/101)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن عبد الْعَزِيز ابْن الْوَزير الجروي، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء: الجذامي، مَاتَ بالعراق سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن حسان، منصرفا وَغير منصرف، أَبُو زَكَرِيَّاء الإِمَام الرئيس. الثَّالِث: قُرَيْش، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة. ابْن حَيَّان من الْحَيَاة أَبُو بكر الْعجلِيّ، بِكَسْر الْعين. الرَّابِع: ثَابت بن أسلم الْبنانِيّ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه جروي وَهِي قَرْيَة من قرى تنيس، وَيُقَال لَهُ التنيسِي أَيْضا، وَهُوَ من طبقَة البُخَارِيّ، وَمَات بعده بِسنة وَلَيْسَ عِنْده سوى هَذَا الحَدِيث، وحديثين آخَرين فِي التَّفْسِير، وَشَيْخه هَذَا من أَفْرَاده وَيحيى بن حسان أَيْضا تنيسي، أدْركهُ البُخَارِيّ وَلم يلقه لِأَنَّهُ مَاتَ قبل أَن يدْخل مصر، وقريش وثابت بصريان.
وَالْبُخَارِيّ تفرد بِهِ بِهَذَا السَّنَد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على أبي سيف الْقَيْن) سيف، بِفَتْح السِّين، و: الْقَيْن، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون. وَهُوَ صفة لَهُ واسْمه: الْبَراء بن أَوْس الْأنْصَارِيّ، والقين: الْحداد، قَالَ ابْن سَيّده: قيل: كل صانع قين، وَالْجمع: أقيان وقيون، وَيُقَال: قان يَقِين قيانة، صَار قينا. وقان الحديدة عَملهَا، وقان الْإِنَاء يقينه قينا: أصلحه، والمقين المزين. وَفِي (الطَّبَقَات الْكَبِير) لمُحَمد بن سعد عَن مُحَمَّد بن عمر: ولد إِبْرَاهِيم فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة، وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة: لما ولد تنافست فِيهِ نسَاء الْأَنْصَار أيتهن ترْضِعه، فَدفعهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى أم بردة بنت الْمُنْذر بن زيد بن لبيد بن خِدَاش بن عَامر بن تَمِيم بن عدي بن النجار، وَزوجهَا الْبَراء بن أَوْس بن الْجَعْد بن عَوْف بن مبذول بن عَمْرو بن غنم بن عدي بن النجار، فَكَانَت ترْضِعه، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِيهِ فِي بني النجار. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إسم أم بردة: خَوْلَة بنت الْمُنْذر، زَوْجَة أبي سيف الْبَراء بن أَوْس. قَوْله: (وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم) ، أَي: كَانَ أَبُو سيف الْبَراء ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الظِّئْر: زوج الْمُرضعَة، وَتسَمى الْمُرضعَة أَيْضا ظِئْرًا، قَالَه ابْن قرقول. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الظِّئْر الْمُرضعَة، وَلما كَانَ زَوجهَا تكفله سمي ظِئْرًا، وَأَصله عطف على النَّاقة على غير وَلَدهَا ترْضِعه، وَالِاسْم: الظأر. وَفِي (الْجَامِع) : ظئرت النَّاقة فَهِيَ مظئورة، وظأرت فُلَانَة إِذا أخذت ولدا غير وَلَدهَا لترضعه، وأظأرت أَنا وَلَدي ظِئْرًا إِذا اتخذته لَهُ. وَفِي (الْمُحكم) : الظِّئْر العاطفة على ولد غَيرهَا، الْمُرضعَة من النَّاس وَالْإِبِل الذّكر والانثى فِي ذَلِك سَوَاء، وَالْجمع: أظؤر وأظآر وظئور وظئورة وظؤار، الْأَخير من الْجمع الْعَزِيز، وظئورة. وَهُوَ عِنْد سِيبَوَيْهٍ: اسْم للْجمع، وَقيل: الْجمع من الْإِبِل ظؤار، وَمن النِّسَاء ظئورة. وَفِي (الصِّحَاح) : وَالْجمع ظآر على وزن فعال بِالضَّمِّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: لَا يجمع على فعلة إلاَّ ثَلَاثَة أحرف: ظئر وظئورة، وَصَاحب وصحبة، وفاره وفرهة. قَوْله: (لإِبْرَاهِيم) أَي: ابْن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه عِنْد مُسلم فِي أَوله: (ولد لي اللَّيْلَة غُلَام فسميته باسم أبي إِبْرَاهِيم، ثمَّ دَفعه إِلَى أم سيف امْرَأَة قين بِالْمَدِينَةِ يُقَال لَهُ أَبُو سيف، فَانْطَلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاتبعته، فَانْتهى إِلَى أبي سيف وَهُوَ ينْفخ بكيره وَقد امْتَلَأَ الْبَيْت دخانا، فتسرعت الْمَشْي بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقلت: يَا أَبَا سيف أمسك، جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَوله: (وَإِبْرَاهِيم يجود بِنَفسِهِ) أَي: يُخرجهَا ويدفعها كَمَا يجود الْإِنْسَان بِإِخْرَاج مَاله، وَفِي بعض طرقه: يكيد بِنَفسِهِ. قَالَ صَاحب (الْعين) : أَي: يَسُوق بهَا، من كَاد يكيد أَي: قَارب الْمَوْت. قَوْله: (تَذْرِفَانِ) ، بذال مُعْجمَة وَفَاء: من ذرفت الْعين تذرف، بِالْكَسْرِ: إِذا جرى دمعها. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) أَي: لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَأَنت يَا رَسُول الله؟) مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره، النَّاس لَا يصبرون عِنْد المصائب وَأَنت يَا رَسُول الله تفعل كفعلهم، كَأَنَّهُ تعجب واستغرب ذَلِك مِنْهُ لمقاومته الْمُصِيبَة، ولعهده أَنه يحث على الصَّبْر وَينْهى عَن الْجزع. قَوْله: (فَقَالَ: يَا ابْن عَوْف) ، هَذَا جَوَاب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، فَقَالَ: يَا ابْن عَوْف إِنَّهَا رَحْمَة أَي: إِن الْحَالة الَّتِي شاهدتها مني هِيَ رقة وشفقة على الْوَلَد، وَلَيْسَت بجزع كَمَا توهمت أَنْت، وَوَقع فِي حَدِيث عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف نَفسه، (فَقلت: يَا رَسُول الله تبْكي؟ أَو لم تنه عَن الْبكاء؟) وَزَاد فِيهِ: (إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين: صَوت عِنْد نَغمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان، وَصَوت عِنْد مُصِيبَة وخمش وَجه وشق جُيُوب وَرَنَّة شَيْطَان، وَإِنَّمَا هَذَا رَحْمَة، وَمن لَا يرحم(8/102)
لَا يُرحم) . وَفِي رِوَايَة مَحْمُود بن لبيد: (فَقَالَ: إِنَّمَا أَنا بشر) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من مُرْسل مَكْحُول (إِنَّمَا أنهى النَّاس عَن النِّيَاحَة أَن ينْدب الرجل بِمَا لَيْسَ فِيهِ) . قَوْله: (ثمَّ أتبعهَا بِأُخْرَى) أَي: ثمَّ أتبع الدمعة الأولى بِالْأُخْرَى، وَيجوز أَن يُقَال: ثمَّ أتبع الْكَلِمَة الْمَذْكُورَة، وَهِي: إِنَّهَا رَحْمَة، بِكَلِمَة أُخْرَى، وَهِي: (إِن الْعين تَدْمَع وَالْقلب يحزن. .) إِلَى آخِره، فَكَأَن هَذِه الْكَلِمَة الْأُخْرَى صَارَت مفسرة للكلمة الأولى. قَوْله: (وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ) ، وَقد مر أَن فِي حَدِيث أبي أُمَامَة: (وَإِنَّا على إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: ذكر إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَوته ومجموع أَوْلَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة: الْقَاسِم وَبِه كَانَ يكنى، والطاهر وَالطّيب، وَيُقَال أَن الطَّاهِر هُوَ الطّيب، وَإِبْرَاهِيم وَزَيْنَب زَوْجَة ابْن أبي الْعَاصِ، ورقية وَأم كُلْثُوم زوجا عُثْمَان، وَفَاطِمَة زَوْجَة عَليّ بن أبي طَالب، وَجَمِيع أَوْلَاده من خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إلاَّ ابراهيم فَإِنَّهُ من مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو عَاشَ إِبْرَاهِيم لوضعت الْجِزْيَة على كل قبْطِي) ، وَعَن مَكْحُول أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي إِبْرَاهِيم: (لَو عَاشَ مَا رق لَهُ خَال) ، وَاتَّفَقُوا على أَن مولده كَانَ فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان، وَاخْتلفُوا فِي وَقت وَفَاته، فالواقدي جزم بِأَنَّهُ مَاتَ يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر لَيَال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وَقَالَ ابْن حزم: مَاتَ قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثَلَاثَة، وَقيل: بلغ سِتَّة عشر شهرا وَثَمَانِية أَيَّام، وَقيل: سَبْعَة عشر شهرا، وَقيل: سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : توفّي وَله سَبْعُونَ يَوْمًا. وَعَن مَحْمُود بن لبيد: توفّي وَله ثَمَانِيَة عشر شهرا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) : قَالَ عَمْرو: فَلَمَّا توفّي إِبْرَاهِيم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم ابْني وَإنَّهُ مَاتَ فِي الثدي وَإِن لَهُ لظئرين يكملان إرضاعه فِي الْجنَّة) . وَعند ابْن سعد بِسَنَد صَحِيح عَن الْبَراء بن عَازِب يرفعهُ: (أما أَن لَهُ مُرْضعًا فِي الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة جَابر عَن عَامر عَن الْبَراء: (إِنَّه صديق شَهِيد) ، وَعَن مُحَمَّد ابْن عمر بن عَليّ بن أبي طَالب: أول من دفن بِالبَقِيعِ ابْن مَظْعُون، ثمَّ اتبعهُ إِبْرَاهِيم، وَعَن رجل من آل عَليّ بن أبي طَالب: لما دفن إِبْرَاهِيم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل من أحد يَأْتِي بقربة؟ فَأتى رجل من الْأَنْصَار بقربة مَاء، فَقَالَ: رشها على قبر إِبْرَاهِيم.
وَاخْتلف فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فصححه ابْن حزم، وَقَالَ أَحْمد: مُنكر جدا. وَقَالَ السّديّ: سَأَلت أنسا: أصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْنه إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، وروى عَطاء عَن ابْن عجلَان عَن أنس أَنه كبر عَلَيْهِ أَرْبعا، وَهُوَ أفقه، أَعنِي: عَطاء. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَنه: مَا صلى، وَهِي مُرْسلَة، فَيجوز أَن يكون اشْتغل بالكسوف عَن الصَّلَاة. وَحكى الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس الْعِرَاقِيّ السبتي: أَن مَعْنَاهُ: لم يصل عَلَيْهِ بِنَفسِهِ، وَصلى عَلَيْهِ غَيره. وَقيل: لِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي على نَبِي، وَقد جَاءَ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لَو عَاشَ كَانَ نَبيا. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: كل هَذِه ضَعِيفَة، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ أثبت.
وَفِيه: جَوَاز تَقْبِيل من قَارب الْمَوْت وَذَلِكَ قبل الْوَدَاع والتشفي مِنْهُ. وَفِيه: جَوَاز الْبكاء الْمُجَرّد والحزن، وَقد مر هَذَا فِيمَا مضى. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر وحَدثني أبي عَن عَلْقَمَة (عَن عَائِشَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا تَدْمَع عينه على أحد، قَالَ عَلْقَمَة: أَي أمه! كَيفَ كَانَ يصنع؟ قَالَت: كَانَ إِذا وجد فَإِنَّمَا هُوَ أَخذ بلحيته) . قلت: يحْتَمل أَن عَائِشَة مَا شاهدت مَا شَاهده غَيرهَا، أَو يكون مرادها: لَا تَدْمَع عينه بفيض.
رَوَاهُ مُوسى عنْ سُلَيْمَانَ بنِ المُغِيرَةِ عنْ ثَابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الحَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي الْمنْقري عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة: عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَصله الْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق تمْتَام الْحَافِظ عَنهُ، و: تمْتَام، بتائين مثناتين من فَوق: لقب مُحَمَّد بن غَالب الْبَغْدَادِيّ.
وَأخرجه مُسلم: حَدثنَا شَيبَان بن فروخ وهدبة بن خَالِد، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس فَذكره.
44 - (بابُ البُكَاءِ عِنْدَ المَرِيضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبكاء عِنْد الْمَرِيض، وَفِي بعض النّسخ: الْبكاء على الْمَرِيض، وَلَفظ: بَاب، سَاقِط فِي رِوَايَة أبي ذَر.(8/103)
62 - (حَدثنَا أصبغ عَن ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي عَمْرو عَن سعيد بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا. قَالَ اشْتَكَى سعد بن عبَادَة شكوى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعودهُ مَعَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غاشية أَهله فَقَالَ قد قضى قَالُوا لَا يَا رَسُول الله فَبكى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا رأى الْقَوْم بكاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكوا فَقَالَ أَلا تَسْمَعُونَ إِن الله لَا يعذب بدمع الْعين وَلَا بحزن الْقلب وَلَكِن يعذب بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه أَو برحم وَإِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يضْرب فِيهِ بالعصا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ ويحثي بِالتُّرَابِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي بكائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد سعد بن عبَادَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أصبغ بن الْفرج أَبُو عبد الله مَاتَ يَوْم الْأَحَد لأَرْبَع بَقينَ من شَوَّال سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي عبد الله بن وهب. الثَّالِث عَمْرو بن الْحَارِث. الرَّابِع سعد بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة. الْخَامِس عبد الله بن عمر (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ وَابْن وهب وَعَمْرو بن الْحَارِث مصريون وَسَعِيد بن الْحَارِث مدنِي والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَمْرو بن سَواد كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن سعيد بن الْحَارِث بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " اشْتَكَى " أَي ضعف قَالَه بَعضهم وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ على هَذَا التَّفْسِير لَا يلائمه قَوْله " شكوى " لِأَن معنى الشكوى الْمَرَض وَالتَّفْسِير الصَّحِيح أَن اشتكي من الشكاية وشكوى بِلَا تَنْوِين لِأَنَّهُ مثل حُبْلَى أَي اشْتَكَى سعد عَن مزاجه لمَرض لَهُ قَوْله " يعودهُ " جملَة حَالية قَوْله " فِي غاشية أَهله " بالغين والشين المعجمتين وَقَالَ الْخطابِيّ هَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَن يُرَاد بِهِ الْقَوْم الْحُضُور عِنْده الَّذين هم غاشيته أَي يغشونه للْخدمَة وَأَن يُرَاد يتغشاه من كرب الوجع الَّذِي بِهِ (قلت) لفظ أَهله يَأْبَى الْمَعْنى الثَّانِي فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا على رِوَايَة الْعَامَّة بِإِسْقَاط أَهله ويروى فِي غَشيته قَالَ الْكرْمَانِي أَي فِي إغمائه وَقَالَ التوريشتي فِي شرح المصابيح الغاشية الداهية من شَرّ أَو مرض أَو مَكْرُوه وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا مَا كَانَ يتغشاه من كرب الوجع الَّذِي فِيهِ لَا الْمَوْت لِأَنَّهُ بَرِيء من ذَلِك الْمَرَض وعاش بعده زَمَانا قَوْله " فَقَالَ " أَي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " قد قضى " فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام أَي أقد خرج من الدُّنْيَا ظن أَنه قد مَاتَ فَسَأَلَ عَن ذَلِك قَوْله " أَلا تَسْمَعُونَ " لَا يَقْتَضِي مَفْعُولا لِأَنَّهُ جعل كالفعل اللَّازِم أَي أَلا تَجِدُونَ السماع قَوْله " إِن الله " بِكَسْر الْهمزَة لِأَنَّهُ ابْتِدَاء كَلَام هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَاعْتمد عَلَيْهِ بَعضهم حَتَّى نَقله عَنهُ من غير أَن ينْسب إِلَيْهِ وَلَكِنِّي أَقُول مَا الْمَانِع أَن يكون أَن الْفَتْح فِي مَحل الْمَفْعُول لتسمعون وَهُوَ الملائم لِمَعْنى الْكَلَام قَوْله " وَلَكِن يعذب بِهَذَا " يَعْنِي إِذا قَالُوا سوأ من القَوْل وهجرا قَوْله " أَو يرحم الله " قَالَ ابْن بطال يحْتَمل مَعْنيين أَو يرحم إِن لم ينفذ الْوَعيد فِيهِ أَو يرحم من قَالَ خيرا أَو استسلم لقَضَاء الله تَعَالَى وَقَالَ الْكرْمَانِي إِن صحت الرِّوَايَة بِالنّصب أَو بِمَعْنى إِلَى أَنه يَعْنِي يعذب إِلَى أَن يرحمه الله لِأَن الْمُؤمن لَا بُد أَن يدْخل الْجنَّة آخرا قَوْله " وَكَانَ عمر " عطف على لفظ اشْتَكَى فَيكون مَوْصُولا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَى ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يضْرب بعد الْمَوْت لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذا وَجب فَلَا تبكين باكية " فِي حَدِيث الْمُوَطَّأ عَن جَابر بن عتِيك وَكَانَ عمر يضربهن أدبا لَهُنَّ لِأَنَّهُ كَانَ الإِمَام قَالَه الدَّاودِيّ وَقَالَ غَيره إِنَّمَا كَانَ يضْرب فِي بكاء مَخْصُوص وَقبل الْمَوْت وَبعده سَوَاء وَذَلِكَ إِذا نَحن وَنَحْوه قَوْله " ويحثي بِالتُّرَابِ " كَانَ يتأسى بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نسَاء جَعْفَر " أحث فِي أفواههن التُّرَاب " (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ اسْتِحْبَاب عِيَادَة الْفَاضِل الْمَفْضُول واستحباب عِيَادَة الْمَرِيض. وَفِيه النَّهْي عَن الْمُنكر وَبَيَان الْوَعيد عَلَيْهِ. وَفِيه جَوَاز الْبكاء عِنْد الْمَرِيض والترجمة معقودة لذَلِك. وَفِيه جَوَاز اتِّبَاع الْقَوْم للباكي فِي بكائه. وَفِيه أَن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي -(8/104)
54 - (بابُ مَا يُنْهَى عنِ النَّوْحِ والبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عنْ ذالِك)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى ... إِلَى آخِره، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: بَاب النَّهْي، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة وَالْفرق بَين الْبكاء وَالنوح أَن الْبكاء إِذا كَانَ بِالْمدِّ يكون بِمَعْنى النوح، وَإِذا كَانَ مَقْصُورا يكون بِمَعْنى الْحزن، والزجر: الردع.
5031 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ سَعيد. قَالَ أخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ لَمَّا جاءَ قَتْلُ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وعَبْدِ الله بنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْرَفُ فِيهِ الحزْنُ وأنَا أطَّلِعُ مِنْ شَقِّ البَابِ فأتاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فأمَرَهُ بِأنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أتَى فَقَالَ قَدْ نَهَيْتُهُنَّ وذَكَرَ أنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ فَأمَرَهُ الثَّانِيَةَ أنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أتَى فَقَالَ وَالله لَقَدْ غَلَبْنَنِي أوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ حَوْشَبٍ فَزَعَمَتْ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فاحْثُ فِي أفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ فَقُلْتُ أرْغَمَ الله أنْفَكَ فَوَالله مَا أنْتَ بِفَاعِلٍ وَما تَرَكْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ العَنَاءِ.
(أنظر الحَدِيث 9921 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمره بِأَن ينهاهن) . وَفِي قَوْله: (فاحث فِي أفواههن من التُّرَاب) فَإِن فِيهِ زجرا عَن ذَلِك، وَقد مر الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب بأَرْبعَة أَبْوَاب فِي: بَاب من جلس عِنْد الْمُصِيبَة يعرف فِيهِ الْحزن.
وَأخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. وحوشب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة على وزن جَعْفَر، وَمُحَمّد هَذَا طائفي، نزل الْكُوفَة. قَالَ بَعضهم: ذكر الْأصيلِيّ أَنه لم يرو عَنهُ غير البُخَارِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل روى عَنهُ أَيْضا مُحَمَّد بن مُسلم بن واره كَمَا ذكره الْمزي فِي (التَّهْذِيب) قلت: مُرَاد الْأصيلِيّ أَنه لم يرو عَنهُ غَيره من أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة. قَوْله: (أَي رَسُول الله) يَعْنِي: يَا رَسُول الله. قَوْله: (إِن نسَاء جَعْفَر) ، خبر: إِن، مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فَذكر بكاءهن) . قَوْله: (الشَّك من مُحَمَّد بن حَوْشَب) ، من كَلَام البُخَارِيّ وَنسبه هُنَا إِلَى جده. قَوْله: (مَا أَنْت بفاعل) أَي: لما أَمرك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّهْي الْوَاجِب. قَوْله: (من العناء) أَي: من جِهَة العناء وَهُوَ التَّعَب أَو خَالِيا مِنْهُ.
6031 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أمِّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ أخذَ عَلَيْنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ البَيْعَةِ أنْ لاَ نَنُوحَ فَما وفتْ مِنَّا امْرَأةٌ غَيْرُ خَمْسِ نِسْوَةٍ أُمُ سُلَيْمٍ وَأُمُ العَلاَءِ وَابْنَةُ أبِي سَبْرَةَ امْرَأةُ مُعَاذ وَامْرَأتَيْنِ أوْ ابْنَةُ أبِي سَبْرَةَ وَامْرَأةُ مُعَاذٍ وِامْرَأةٌ أُخْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخذ علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا ننوح) ، وَالنوح لَو لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ لما أَخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِنَّ فِي الْبيعَة ترك النوح، وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب هُوَ الحَجبي، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة، وَالْكل تقدمُوا وَكلهمْ بصريون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة عَن الْحسن بن أَحْمد.
قَوْله: (عِنْد الْبيعَة) ، بِفَتْح الْبَاء وَهِي المعاهدة لما بايعهن على الْإِسْلَام. قَوْله: (أَن لَا ننوح) أَي: بِأَن لَا ننوح، و: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (فَمَا وفت) أَي: بترك النوح. قَوْله: (أم سليم) ، بِضَم السِّين: هِيَ ابْنة ملْحَان وَالِدَة أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْمهَا: سهلة، على اخْتِلَاف فِيهِ. قَوْله: (وَأم الْعَلَاء) ، بِالْمدِّ، الْأَنْصَارِيَّة تقدم ذكرهَا فِي الْبَاب الثَّالِث من أول الْجَنَائِز. قَوْله: (وَابْنَة أبي سُبْرَة) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي امْرَأَة معَاذ بن جبل(8/105)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي: بَاب زَوْجَة فلَان: زَوْجَة معَاذ، قَالَت أم عَطِيَّة: أَخذ علينا فِي الْبيعَة أَن لَا ننوح، فَمَا وفت منا غير خمس، فَسَمت هَذِه. قَوْله: (وَامْرَأَتَانِ) ، ويروى: (وَامْرَأَتَيْنِ) ، وَذَلِكَ بِحَسب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَهُوَ أَن قَوْله: (أم سليم) يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَنه خبر مُبْتَدأ الرّفْع على مَحْذُوف تَقْدِيره: أَحدهَا أم سليم، وَالْآخر الْجَرّ على أَنه بدل من خمس نسْوَة، وَكَذَلِكَ الْوَجْهَانِ فِي أم الْعَلَاء وَابْنَة أبي سُبْرَة. وَقَوله: (وَامْرَأَتَيْنِ) تَكْمِلَة الْخمس النسْوَة، وَهِي: أم سليم وَأم الْعَلَاء وَابْنَة أبي سُبْرَة وَامْرَأَتَانِ. قَوْله: (أَو ابْنة أبي سُبْرَة) إِلَى آخِره، شكّ من الرَّاوِي، فعلى القَوْل الأول تكون بنت أبي سُبْرَة امْرَأَة معَاذ بن جبل، وعَلى القَوْل الثَّانِي تكون غَيرهَا، لِأَنَّهُ عطف على ابْنة أبي سُبْرَة، بقوله: (وَامْرَأَة معَاذ) ، وعَلى هَذَا الْخمس هِيَ: أم سليم وَأم الْعَلَاء وَابْنَة أبي سُبْرَة وَامْرَأَة معَاذ وَامْرَأَة أُخْرَى. وَلَقَد خلط بَعضهم فِي هَذَا الْمَكَان بِالنَّقْلِ من مَوَاضِع كَثِيرَة غير الصِّحَاح وَتكلم بالتخمين والحسبان، وَالصَّحِيح مَا فِي الصَّحِيح وَالله أعلم، وَقَالَ النَّوَوِيّ قَوْلهَا: (فَمَا وفت منا امْرَأَة) إلاَّ خمس، مَعْنَاهُ: لم يَفِ مِمَّن بَايع مَعَ أم عَطِيَّة فِي الْوَقْت الَّذِي بَايَعت فِيهِ من النسْوَة، لَا أَنه لم يتْرك النِّيَاحَة من المسلمات غير خمس.
وَقَالَ: فِيهِ: تَحْرِيم النوح وَعظم قبحه والاهتمام بإنكاره والزجر عَنهُ لِأَنَّهُ مهيج للحزن ودافع للصبر. وَفِيه: مُخَالفَة للتسليم للْقَضَاء والإذعان لأمر الله تَعَالَى.
64 - (بابُ القِيَامِ لِلْجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقيام للجنازة إِذا مرت بِهِ وَلم يكن مَعهَا، وَإِنَّمَا لم يشر إِلَى الحكم لِأَن فِيهِ اخْتِلَافا على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
7031 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ سَالِمٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَامِرِ بنِ أبِي رَبِيعَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا رَأيْتُمْ الجِنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ عنْ أبِيهِ. قَالَ أخبرنَا عامِرُ بنُ رَبِيعَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَادَ الحُمَيْدِيُّ حَتَّى تخَلِّفَكُمْ أوْ تُوضَعَ.
(الحَدِيث 7031 طرفه فِي: 8031) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر. السَّادِس: عَامر بن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: صَاحب الهجرتين، مر فِي كتاب تَقْصِير الصَّلَاة. السَّابِع: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم: واسْمه عبد الله بن الزبير الْقرشِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُفْيَان والْحميدِي مكيان وَالزهْرِيّ وَسَالم مدنيان. وَفِيه: أَن الْحميدِي أَيْضا من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وَرِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن ابْن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَابْن نمير، جَمِيعهم عَن سُفْيَان إِلَى آخِره، وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن لَيْث وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب وَعَن أبي كَامِل الجحدري عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن يَعْقُوب بن أبراهيم عَن ابْن علية وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن أبي عدي وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عَامر بن ربيعَة وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن عَامر بن ربيعَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عَامر بن ربيعَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمج عَن اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع إِلَى آخِره. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من خمس طرق صِحَاح.(8/106)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَتَّى تخلفكم) بِضَم التَّاء وَتَشْديد اللَّام أَي: تتجاوزكم وتجعلكم خلفهَا، وَلَيْسَ المُرَاد التَّخْصِيص بِكَوْن الْجِنَازَة تتقدم، بل المُرَاد مفارقتها سَوَاء تخلف الْقَائِم لَهَا وَرَاءَهَا أَو خلفهَا الْقَائِم وَرَاءه وَتقدم، وَهُوَ من قَوْلك: خلفت فلَانا ورائي فَتخلف عني أَي: تَأَخّر، وَهُوَ بتَشْديد اللَّام. وَأما خلفت بتَخْفِيف اللَّام فَمَعْنَاه: صرت خَليفَة عَنهُ، تَقول: خلفت الرجل فِي أَهله إِذا أَقمت بعده فيهم وَقمت عَنهُ بِمَا كَانَ يَفْعَله، وَخلف الله لَك بِخَير وأخلف عَلَيْك خيرا أَي: أبدلك بِمَا ذهب مِنْك وعوضك عَنهُ، وَالْخلف، بتحريك اللَّام والسكون: كل من يَجِيء بعد من مضى، إلاَّ أَن بِالتَّحْرِيكِ فِي الْخَيْر، وبالتسكين فِي الشَّرّ. يُقَال: خلف صدق وَخلف سوء. قَالَ الله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة} (مَرْيَم: 95) . ثمَّ إِسْنَاد التخليف إِلَى الْجِنَازَة على سَبِيل الْمجَاز لِأَن المُرَاد حاملها: قَوْله: (زَاد الْحميدِي) ، يَعْنِي: عَن سُفْيَان بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقد رَوَاهُ الْحميدِي مَوْصُولا فِي (مُسْنده) . قَوْله: (أَو تُوضَع) ، هَذَا رُوِيَ بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة. فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (حَتَّى تخلفكم أَو تُوضَع) أَي: أَو تُوضَع الْجِنَازَة من أَعْنَاق الرِّجَال على الأَرْض، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (حَتَّى تخلفه أَو تُوضَع) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (حَتَّى تخلفكم) ، فَقَط وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (حَتَّى تُوضَع أَو تخلفكم) ، وَقَالَ عِيَاض: وَفِي لفظ: (حَتَّى تخلف أَو تُوضَع) . ثمَّ هَل المُرَاد بِالْوَضْعِ الْوَضع على الأَرْض أَو وَضعهَا فِي اللَّحْد؟ اخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَات، فَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عقيب حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا، فَمن تبعها فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع) . روى هَذَا الحَدِيث الثَّوْريّ عَن سهل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ فِيهِ: (حَتَّى تُوضَع بِالْأَرْضِ) . وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن سُهَيْل، قَالَ: (حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد) . قَالَ أَبُو دَاوُد: وسُفْيَان أحفظ من أبي مُعَاوِيَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله من حَدِيث عُثْمَان. أخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبان بن عُثْمَان أَنه: مرت بِهِ جَنَازَة فَقَامَ لَهَا، وَقَالَ: إِن عُثْمَان مرت بِهِ جَنَازَة فَقَامَ لَهَا: وَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرت بِهِ جَنَازَة فَقَامَ لَهَا. وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار أَيْضا. وَمن حَدِيث أبي سعيد الْمَذْكُور آنِفا، وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم على جَنَازَة وَلم يمش مَعهَا فَليقمْ حَتَّى تغيب عَنهُ، فَإِن مَشى مَعهَا فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع) . أخرجه الطَّحَاوِيّ، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجنَازَة فَقَامَ، وَقَالَ: قومُوا فَإِن للْمَوْت فَزعًا) . وَمن حَدِيث يزِيد بن ثَابت: (أَنهم كَانُوا جُلُوسًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطلعت جَنَازَة، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَامَ من مَعَه، فَلم يزَالُوا قيَاما حَتَّى بَعدت) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَمن حَدِيث عبد الله بن سَخْبَرَة: (أَن أَبَا مُوسَى أخْبرهُم أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا مرت بِهِ جَنَازَة قَامَ حَتَّى تجاوزه) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة. وَقوم على أَن الْجِنَازَة إِذا مرت بِأحد يقوم لَهَا وهم: الْمسور ابْن مخرمَة وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَمْرو بن مَيْمُون. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : جَاءَت آثَار صِحَاح ثَابِتَة توجب الْقيام للجنازة، وَقَالَ بهَا جمَاعَة من السّلف وَالْخلف، ورأوها غير مَنْسُوخَة، وَقَالُوا: لَا يجلس من اتبع الْجِنَازَة حَتَّى تُوضَع عَن أَعْنَاق الرِّجَال، مِنْهُم إِسْحَاق وَالْحسن بن عَليّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن الزبير وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَذهب إِلَى ذَلِك الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَبِه قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: لَيْسَ على من مرت بِهِ جَنَازَة أَن يقوم لَهَا، وَلمن تبعها أَن يجلس وَإِن لم تُوضَع. قلت: أَرَادَ بالآخرين عُرْوَة ابْن الزبير وَسَعِيد بن الْمسيب وعلقمة وَالْأسود وَنَافِع وَابْن جُبَير وَأَبا حنيفَة ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأَبا يُوسُف ومحمدا، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَمُجاهد وَأبي إِسْحَاق،. ويروى ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْنه الْحسن وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، قَالَه الْحَازِمِي، وَقَالَ عِيَاض: وَمِنْهُم من ذهب إِلَى التَّوسعَة والتخيير وَلَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَابْن حبيب وَابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة.
وذهبوا إِلَى أَن الْأَمر بِالْقيامِ مَنْسُوخ، وتمسكوا فِي ذَلِك بِأَحَادِيث مِنْهَا: مَا أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) : عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقوم فِي الْجِنَازَة ثمَّ جلس بعد) ، وَعند ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) (كَانَ يَأْمُرنَا بِالْقيامِ فِي الْجَنَائِز ثمَّ جلس بعد ذَلِك وَأمر بِالْجُلُوسِ) . قَالَ الْحَازِمِي: قَالَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن: حَدثنَا أَبُو بكر الطَّبَرِيّ حَدثنَا يحيى بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ حَدثنَا أَبُو حُذَيْفَة عَن سُفْيَان عَن لَيْث عَن مُجَاهِد عَن أبي معمر قَالَ: مرت بِنَا جَنَازَة فَقُمْت، فَقَالَ عَليّ: من أَفْتَاك هَذَا؟ قلت: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، فَقَالَ عَليّ: مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ مرّة(8/107)
فَلَمَّا نسخ ذَلِك وَنهى عَنهُ) .
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْأَمر الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، فَقيل: للْوُجُوب، وَإِن الْقيام للجنازة إِذا مرت وَاجِب وَقيل للنَّدْب والاستحباب، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن حزم. وَقيل: كَانَ وَاجِبا ثمَّ نسخ على مَا ذكرنَا، وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ على أَنه للاستحباب، وَإِلَيْهِ ذهب الْمُتَوَلِي من الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: والْحَدِيث لَيْسَ بمنسوخ وَلَا تصح دَعْوَى النّسخ فِي مثل هَذَا، لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون إِذا تعذر الْجمع بَين الْأَحَادِيث وَلم يتَعَذَّر. قلت: ورد التَّصْرِيح بالنسخ فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَذْكُور، وَتكلم الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على حَدِيث عَامر بن ربيعَة باحتمالات حَكَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ والحازمي، فَقَالَ: وَهَذَا لَا يعدو أَن يكون مَنْسُوخا. وَأَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ لَهَا لعِلَّة، وَقد رَوَاهَا بعض الْمُحدثين أَنَّهَا كَانَت جَنَازَة يَهُودِيّ، فَقَامَ لَهَا كَرَاهَة أَن تطوله. قَالَ: وَأيهمَا كَانَ فقد جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركه بعد فعله، قَالَ: وَالْحجّة فِي ذَلِك فِي الْآخِرَة من أمره إِن كَانَ الأول وَاجِبا فالآخر من أمره نَاسخ، وَإِن كَانَ الأول اسْتِحْبَابا فالآخر من أمره هُوَ الِاسْتِحْبَاب، وَإِن كَانَ مُبَاحا فَلَا بَأْس بِالْقيامِ وَالْقعُود. قَالَ: وَالْقعُود أحب إِلَيّ لِأَنَّهُ الآخر من فعله، ثمَّ الْأَمر بِالْقيامِ للجنازة فِي حَدِيث الْبَاب وَغَيره عَام فِي جَنَازَة الْمُسلم وَغَيره من أهل الْكتاب، وَقد ورد فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ التَّصْرِيح بذلك فِيمَا رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي (زياداته على الْمسند) والطَّحَاوِي من رِوَايَة لَيْث عَن أبي بردة بن أبي مُوسَى عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا مرت بكم جَنَازَة فَإِن كَانَ مُسلما أَو يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا فَقومُوا لَهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ يقوم لَهَا وَلَكِن يقوم لمن مَعهَا من الْمَلَائِكَة) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: فِي حَدِيث أبي مُوسَى هَذَا التَّخْصِيص بِجنَازَة الْمُسلم وَأهل الْكتاب، وَالْعلَّة الْمَذْكُورَة فِيهِ تَقْتَضِي عدم تَخْصِيصه بهم، بل بِجَمِيعِ بني آدم، وَإِن كَانُوا كفَّارًا غير أهل كتاب، لِأَن الْمَلَائِكَة مَعَ كل نفس.
وَاخْتلفت الْأَحَادِيث فِي تَعْلِيل الْقيام بِجنَازَة الْيَهُودِيّ أَو الْيَهُودِيَّة، فَفِي حَدِيث جَابر: التَّعْلِيل، بقوله: (إِن الْمَوْت فزع) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَفِي حَدِيث سهل بن حنيف وَقيس التَّعْلِيل بِكَوْنِهَا نفسا، وحديثهما أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ على مَا يَأْتِي. وَفِي حَدِيث أنس: (إِنَّمَا قمنا للْمَلَائكَة) ، أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن جَنَازَة مرت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ، فَقيل: إِنَّهَا جَنَازَة يَهُودِيّ ... فَقَالَ: إِنَّمَا قمنا للْمَلَائكَة) ، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح. وَفِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: (إِنَّمَا يقومُونَ إعظاما للَّذي يقبض الْأَرْوَاح) أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة ربيعَة بن سيف المغافري عَن أبي عبد الرَّحْمَن الْجبلي (عَن عبد الله ابْن عَمْرو، قَالَ: سَأَلَ رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، تمر بِنَا جَنَازَة الْكَافِر أفنقوم لَهَا؟ قَالَ: نعم، فَقومُوا لَهَا فَإِنَّكُم لَسْتُم تقومون لَهَا، إِنَّمَا تقومون إعظاما للَّذي يقبض الْأَرْوَاح) . وَفِي حَدِيث الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كره أَن تعلو رَأسه، أخرجه النَّسَائِيّ (فَقَالَ الْحسن: مر بِجنَازَة يَهُودِيّ وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على طريقها جَالِسا، فكره أَن تعلو رَأسه جَنَازَة يَهُودِيّ فَقَامَ) . وَفِي حَدِيث رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن وَابْن عَبَّاس، أَو عَن أَحدهمَا. (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرت بِهِ جَنَازَة يَهُودِيّ فَقَامَ) وَقَالَ: آذَانِي (نتنها) ويروي آذَانِي (رِيحهَا) .
(بَاب مَتى يقْعد إِذا قَامَ للجنازة) 2.
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَتى يقْعد الرجل إِذا قَامَ لجنازة مرت بِهِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي ذكر هَذَا الْبَاب وَلَا التَّرْجَمَة وَثبتت التَّرْجَمَة دون ذكر الْبَاب فِي رِوَايَة غَيره.
حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن عَامر بن ربيعَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا رأى أحدكُم جَنَازَة فَإِن لم يكن مَاشِيا مَعهَا فَليقمْ حَتَّى يخلفها أَو تخلفه أَو تُوضَع من قبل أَن تخلفه.
مطابقته للتَّرْجَمَة على تَقْدِير وجودهَا تَأْخُذ من قَوْله (أَو تُوضَع) فَإِنَّهَا إِذا وضعت يقْعد وَهَذَا زمَان الْقعُود وعَلى تَقْدِير عدم التَّرْجَمَة يكون الحَدِيث دَاخِلا فِي حكم الْبَاب السَّابِق، لِأَن الْمَذْكُور فيهمَا عَن عَامر بن ربيعَة. قَوْله: (حَتَّى يخلفها(8/108)
أَو تخلفه) شكّ من أحد الروَاة، أَي: حَتَّى يخلف الرجل الْجِنَازَة أَو تخلف الْجِنَازَة الرجل، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة وَمُسلم عَنهُ وَعَن مُحَمَّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث فَقَالَا: (حَتَّى تخلفه) من غير شكّ. قَوْله: (أَو تُوضَع) كلمة: أَو، هُنَا للتنويع لَا للشَّكّ أَي: تُوضَع الْجِنَازَة على الأَرْض من أَعْنَاق الرِّجَال.
0131 - حدَّثنا مُسْلِمٌ يَعْنِي ابنَ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ إذَا رَأيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ.
(أنظر الحَدِيث 9031) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع) ، فَإِنَّهُ يدل على أَن زمن الْقعُود لمن مرت بِهِ جَنَازَة حِين وَضعهَا على الأَرْض إِذا تبعها، وَأما إِذا يتبعهَا فَإِنَّهُ يقوم إِلَى أَن تغيب عَنهُ الْجِنَازَة لما روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من طَرِيق سعيد ابْن مرْجَانَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من صلى على جَنَازَة وَلم يمش مَعهَا، فَليقمْ حَتَّى تغيب عَنهُ، وَإِن مَشى مَعهَا فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع) . وَشَيخ البُخَارِيّ هُوَ مُسلم بن أبراهيم، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة. قَوْله: (فَقومُوا) أَمر بِالْقيامِ، وَلَا يُؤمر بِالْقيامِ إلاَّ للقاعد، فَإِن كَانَ رَاكِبًا يقف لِأَن الْوُقُوف فِي حَقه كالقيام فِي حق الْقَاعِد.
84 - (بابُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلاَ يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فانْ قَعَدَ أُمِرَ بِالقِيامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من اتبع جَنَازَة، وَالْحكم هُوَ أَن لَا يقْعد حَتَّى تُوضَع الْجِنَازَة عَن مناكب الرِّجَال، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي المُرَاد بِالْوَضْعِ: هَل هُوَ وَضعهَا على الأَرْض أَو فِي اللَّحْد؟ فَكَأَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنه اخْتَار رِوَايَة من روى حَتَّى تُوضَع فِي الأَرْض. قَوْله: (أَمر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، مَعْنَاهُ: أَن الَّذِي مرت بِهِ جَنَازَة إِن كَانَ قَائِما ثمَّ قعد فَإِنَّهُ يُؤمر بِالْقيامِ إِلَى أَن تُوضَع، وَقد مر الْكَلَام فِي الْأَمر بِالْقيامِ: هَل كل وَاجِبا أَو سنة أَو مُسْتَحبا؟
9031 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ. قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فأخَذَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أنْ تُوضَعَ فَجَاءَ أبُو سعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فأخَذَ بِيَدَ مَرْوَانَ فَقَالَ قُمْ فَوَالله لَقَدْ عَلِمَ هاذَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا عنْ ذالِكَ فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ صَدَقَ.
(الْحَدث 9031 طرفه فِي: 0131) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا سعيد أَمر بِالْقيامِ للجنازة بعد أَن جلس هُوَ وَأَبُو هُرَيْرَة فَإِن قلت: سلمنَا أَنه أَمر مَرْوَان بِالْقيامِ، وَلَكِن قِيَامه لَا يفهم من صَرِيح الحَدِيث؟ قلت: روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق الشّعبِيّ عَن أبي سعيد، قَالَ: مر على مَرْوَان بِجنَازَة فَلم يقم، فَقَالَ لَهُ أَبُو سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرت عَلَيْهِ جَنَازَة فَقَامَ، فَقَامَ مَرْوَان، وأصل الحَدِيث وَاحِد.
ذكر رِجَاله: وهم أَحْمد بن يُونُس وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، وَسَعِيد المَقْبُري، بِفَتْح الْمِيم وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتحهَا وَقيل بِكَسْرِهَا أَيْضا: سمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يحفظ مَقْبرَة بني دِينَار، وَأَبوهُ كيسَان، ومروان هُوَ ابْن الحكم بن أبي الْعَاصِ أَبُو عبد الْملك الْأمَوِي، وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ واسْمه سعد بن مَالك، وَالْكل تقدمُوا. والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (لقد علم هَذَا) أَي: أَبُو هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا عَن الْجُلُوس قبل وضع الْجِنَازَة. قَوْله: (صدق) ، أَي: أَبُو سعيد، وَفِي (التَّوْضِيح) : قعُود أبي هُرَيْرَة ومروان دَلِيل على أَنَّهُمَا علما أَن الْقيام لَيْسَ بِوَاجِب، وَأَنه أَمر مَتْرُوك لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَل، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الْعَمَل على الْقيام عِنْدهم، ويجلسان، وَلَو كَانَ مَعْمُولا بِهِ لما خَفِي على مَرْوَان لتكرر مثل هَذَا الْأَمر وَكَثْرَة شهودهم الْجَنَائِز. فَإِن قلت: مَا وَجه تَصْدِيق أبي هُرَيْرَة أَبَا سعيد على مَا ذكر؟ قلت: تَصْدِيقه إِيَّاه لأجل مَا علم من(8/109)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى أَولا عَن الْقعُود عِنْد مُرُور الْجِنَازَة، وَعلم بعد ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قعد، فَصدقهُ على مَا كَانَ أَولا وَجلسَ هُوَ ومروان على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر الْعَمَل.
94 - (بابُ منْ قامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَامَ لأجل جَنَازَة يَهُودِيّ، وَلَيْسَ ذكر الْيَهُودِيّ قيدا، بل النَّصْرَانِي وَغَيرهمَا من الْكفَّار سَوَاء، وَقد ذكرنَا وَجه ذَلِك عَن قريب.
1131 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عنْ عُبَيدِ الله بنِ مِقْسَمٍ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ مرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فقامَ لَهَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقُمْنَا بِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ قَالَ إذَا رَأيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْقيامِ عِنْد رُؤْيَة الْجِنَازَة، وَلَو كَانَت جَنَازَة غير مُسلم.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ بن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء: أَبُو زيد الزهْرَانِي. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير ضد الْقَلِيل. الرَّابِع: عبد الله بن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح السِّين الْمُهْملَة: مولى ابْن أبي نمر الْقرشِي. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه بَصرِي وَهِشَام أَيْضا بَصرِي وَلكنه اشْتهر بنسبته إِلَى دستوا قَرْيَة من قرى الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا، وَيحيى يمامي وَعبيد الله مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن شُرَيْح بن يُونُس وَعلي بن حجر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُؤَمل بن الْفضل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَلَفظ مُسلم: (مرت جَنَازَة فَقَامَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقمنا مَعَه، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله إِنَّهَا يَهُودِيَّة؟ فَقَالَ: إِن الْمَوْت فزع، فَإِذا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا) . وَلَفظ أبي دَاوُد، قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ مرت جَنَازَة، فَقَامَ لَهَا، فَلَمَّا ذَهَبْنَا لنحمل أذا هِيَ جَنَازَة يَهُودِيّ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله إِنَّمَا هِيَ جَنَازَة يَهُودِيّ؟ فَقَالَ: إِن الْمَوْت فزع، فَإِذا رَأَيْتُمْ جَنَازَة فَقومُوا) . وَلَفظ النَّسَائِيّ كَلَفْظِ مُسلم، وَعلل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقيام للجنازة بِالرُّؤْيَةِ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره بِكَوْن الْمَوْت فَزعًا، فَيكون الْقيام لأجل الْفَزع من الْمَوْت وعظمته، والجنازة تذكر ذَلِك فتستوي فِيهِ جَنَازَة الْمُسلم وَالْكَافِر. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
قَوْله: (مر بِنَا) ، بِضَم الْمِيم على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مرت) ، بِفَتْح الْمِيم. قَوْله: (فَقَامَ لَهَا) ، وَسقط: لَهَا، فِي رِوَايَة كَرِيمَة. قَوْله: (وقمنا) ، بِالْوَاو رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فقمنا) بِالْفَاءِ، وَزَاد الْأصيلِيّ وكريمة: (بِهِ) ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْقيام الدَّال عَلَيْهِ. قَوْله: (قَامَ) أَي: قمنا لأجل قِيَامه. قَوْله: (فزع) من قبيل قَوْلهم: رجل عدل للْمُبَالَغَة، لِأَنَّهُ جعل نفس الْمَوْت فَزعًا، أَو التَّقْدِير: ذُو فزع، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (إِن للْمَوْت فَزعًا) ، وَمثله عَن ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَزَّار.
2131 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ: قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى. قَالَ كانَ سَحْلُ بنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بنُ سَعْدٍ قاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا إنَّهَا مِنْ أهْلِ الأرْضِ أيْ مِنْ أهْلِ الذِّمَّةِ فقالاَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فقَامَ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ ألَيْسَتْ نَفْسا؟
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: آدم بن أبي إِيَاس خراساني، سكن عسقلان، وَشعْبَة بن الْحجَّاج واسطي، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: ابْن عبد الله الْمرَادِي الْأَعْمَى الْكُوفِي، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، بِفَتْح الّلامين، وَاسم أبي ليلى يسَار الْكُوفِي، وَسَهل بن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء وَفِي آخِره فَاء: الأوسي الْأنْصَارِيّ،(8/110)
رُوِيَ لَهُ أَرْبَعُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا أَرْبَعَة، مَاتَ بِالْكُوفَةِ وَصلى عَلَيْهِ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيس بن سعد بن عبَادَة، بِضَم الْمُهْملَة: الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ الْجواد ابْن الْجواد، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة ودهاة الْعَرَب شرِيف قومه لم يكن فِي وَجهه لحية وَلَا شَعْرَة، وَكَانَت الْأَنْصَار تَقول: وَدِدْنَا أَن نشتري لحية الْقَيْس بِأَمْوَالِنَا، وَكَانَ جميلاً، مَاتَ سنة سِتِّينَ.
واالحديث أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَاعِدين) ، تَثْنِيَة قَاعد مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ. قَوْله: (بالقادسية) ، بِالْقَافِ وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالسين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مَدِينَة صَغِيرَة ذَات نخيل ومياه. قَالَ الْكرْمَانِي: بَينهَا وَبَين الْكُوفَة مرحلتان، وَفِي (الْمُشْتَرك) بَينهَا وَبَين الْكُوفَة خَمْسَة عشر فرسخا فِي طَرِيق الْحَاج، وَبهَا كَانَت وقْعَة الْقَادِسِيَّة فِي أَيَّام عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والقادسية قَرْيَة كَبِيرَة بِالْقربِ من سامراء يعْمل فِيهَا الزّجاج، وَإِنَّمَا سميت بِهَذَا الإسم لنزول أهل قادس بهَا، وقادس قَرْيَة بمرو الروذ، وَذكر ياقوت خمس بِلَاد يُقَال لكل وَاحِد مِنْهَا: قادسية. قَوْله: (عَلَيْهِمَا) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (عَلَيْهِم) ، أَي: على سهل وَقيس وَمن كَانَ مَعهَا. قَوْله: (أَي من أهل الذِّمَّة) ، هَذَا تَفْسِير لقَوْله: (من أهل الأَرْض) ، كَذَا فِي رِوَايَات (الصَّحيحين) وَغَيرهمَا، وَقَالَ ابْن التِّين نَاقِلا عَن الدَّاودِيّ: إِنَّه شَرحه بِلَفْظ: أَو، الَّتِي للشَّكّ. وَقَالَ: لم أر لغيره، وَقيل: لأهل الذِّمَّة: أهل الأَرْض، لِأَن الْمُسلمين لما فتحُوا الْبِلَاد أقروهم على عمل الأَرْض وَحمل الْخراج. قَوْله: (أليست نفسا؟) قَالَ ابْن بطال: أليست نفسا فَمَاتَتْ؟ فالقيام لَهَا لأجل صعوبة الْمَوْت وتذكره، فَكَأَنَّهُ إِذا قَامَ كَانَ أَشد لتذكره، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الْقيام للجنازة، اخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِي تَعْلِيل الْقيام لَهَا، فتراها أحسن وأوجه من الَّذِي ذكره بَعضهم فِي هَذَا الْموضع.
3131 - وَقَالَ أبُو حمْزَةُ عَن الأَعْمَشِ عنْ عَمْرٍ وعنِ ابنِ أبي لَيْلَى. قَالَ كنْتُ مَعَ قَيْسٍ وسَهْلٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فقَالاَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة: واسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، مر فِي: بَاب نقض الْيَدَيْنِ من الْغسْل، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَعَمْرو بِالْوَاو هُوَ عَمْرو بن مرّة الْمَذْكُور، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة وَلَفظه نَحْو حَدِيث شُعْبَة إلاَّ أَنه قَالَ فِي رِوَايَته: (فمرت عَلَيْهِمَا جَنَازَة فقاما) ، وَلم يقل فِيهِ: بالقادسية، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّعْلِيق بَيَان سَماع عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى لهَذَا الحَدِيث من سهل وَقيس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَرَادَ بِهَذَا التقوية حَيْثُ قَالَ بِلَفْظ: كُنَّا، بِخِلَاف الطَّرِيق الأول فَإِنَّهُ يحْتَمل الْإِرْسَال.
وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ أبِي لَيْلَى كانَ أبُو مَسْعُودٍ وقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجَنَازَةِ
زَكَرِيَّا هُوَ: ابْن أبي زَائِدَة، من الزِّيَادَة، وَالشعْبِيّ هُوَ: عَامر بن شرَاحِيل، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة عَن زَكَرِيَّا، وَأَبُو مَسْعُود اسْمه: عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، وَلم يشْهد بَدْرًا، وَإِنَّمَا قيل لَهُ البدري لِأَنَّهُ من مَاء بدر، سكن الْكُوفَة، مر فِي: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَقيس هُوَ الْمَذْكُور ابْن سعد، وغرضه من ذكر أبي مَسْعُود هُوَ الْإِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ يقوم للجنازة مثل قيس.
05 - (بابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حمل الرِّجَال الْجِنَازَة دون حمل النِّسَاء إِيَّاهَا، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أخرجه أَبُو يعلى (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة، فَرَأى نسْوَة فَقَالَ: أتحملنه؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: أتدفنه؟ قُلْنَ: لَا. قَالَ: فارجعن مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات) . لِأَن الرِّجَال أقوى لذَلِك وَالنِّسَاء ضعيفات ومظنة للانكشاف غَالِبا، خُصُوصا إِذا باشرن الْحمل، ولأنهن إِذا حملنها مَعَ وجود الرِّجَال لوقع اختلاطهن بِالرِّجَالِ، وَهُوَ مَحل الْفِتْنَة ومظنة الْفساد. فَإِن قلت: إِذا لم يُوجد رجال؟ قلت: الضرورات مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع.(8/111)
4131 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا الليْثُ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجالُ عَلَى أعْناقِهِمْ فإنْ كانَتْ صالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي وَإنْ كانَتْ غَيْرَ صالِحَةٍ قالَتْ يَا وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كْلُّ شَيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ ولَوْ سَمِعَهُ لَصَعِقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واحتملها الرِّجَال) فَإِن قلت: هَذَا إِخْبَار، فَكيف يكون حجَّة فِي منع النِّسَاء؟ قلت: كَلَام الشَّارِع مهما أمكن يحمل على التشريع لَا مُجَرّد الْإِخْبَار عَن الْوَاقِع.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَاسم أبي سعيد: كيسَان، وَاسم أبي سعيد الْخُدْرِيّ: سعد بن مَالك، والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا وضعت الْجِنَازَة) ، أَي: الْمَيِّت على النعش، وَقد ذكرنَا أَن هَذَا اللَّفْظ يُطلق على الْمَيِّت وعَلى السرير الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْمَيِّت، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا النعش، وَلَفظ: احتملها، يؤكده وَيكون إِسْنَاد القَوْل إِلَيْهِ مجَازًا. قَوْله: (يَا وَيْلَهَا) ، مَعْنَاهُ: يَا حزني إحضر فَهَذَا أوانك، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: يَا ويلي، لكنه أضيف إِلَى الْغَائِب حملا على الْمَعْنى، كَأَنَّهُ لما أبْصر نَفسه غير صَالِحَة نفر عَنْهَا وَجعلهَا كَأَنَّهَا غَيره، وَكره أَن يضيف الويل إِلَى نَفسه. قَوْله: (لصعق) الصَّعق: أَن يغشى على الْإِنْسَان من صَوت شَدِيد يسمعهُ، وَرُبمَا مَاتَ مِنْهُ، وَقَالَ ابْن بطال: (قدموني) أَي: إِلَى الْعَمَل الصَّالح الَّذِي عملته، يَعْنِي إِلَى ثَوَابه. وَفِي لفظ: (يسمع) ، دلَالَة أَن القَوْل هَهُنَا حَقِيقَة لَا مجَاز، وَأَنه تَعَالَى يحدث النُّطْق فِي الْمَيِّت إِذا شَاءَ. وَقَالَ: يَا وَيْلَهَا، لِأَنَّهَا تعلم أَنَّهَا لم تقدم خيرا، وَأَنَّهَا تقدم على مَا يسوؤها فتكره الْقدوم عَلَيْهَا، وَالضَّمِير فِي قَوْله: (لَو سَمعه) رَاجع إِلَى دُعَائِهِ بِالْوَيْلِ على نَفسهَا، أَي: تصيح بِصَوْت مُنكر لَو سَمعه الْإِنْسَان لأغشي عَلَيْهِ.
15 - (بابُ السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِسْرَاع بالجنازة بعد الْحمل.
وَقَالَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنْتُمْ مُشَيِّعُونَ فَامْشُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وعَنْ يَمِينِهَا وعَنْ شِمَالِهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السرعة بالجنازة لَا تكون غَالِبا إلاَّ فِي وجهات مُخْتَلفَة، وَلَا تكون فِي جِهَة مُعينَة لتَفَاوت النَّاس فِي الْمَشْي، وَتحصل الْمَشَقَّة من بَعضهم على بعض فِي تعْيين جِهَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تكون السرعة من جوانبها الْأَرْبَع، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن حميد عَن أنس فِي الْجِنَازَة: أَنْتُم مشيعون لَهَا تمشون أمامها وَخَلفهَا وَعَن يَمِينهَا وَعَن شمالها. وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن حميد بِهِ. قَوْله: (فامشوا) بِصِيغَة الْجمع، رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فامش) ، بِالْإِفْرَادِ وَالْأول أنسب.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبا مِنْهَا
أَي: قَالَ غير أنس: إمشِ قَرِيبا من الْجِنَازَة، وَالْمَقْصُود أَن يكون قَرِيبا من الْجِنَازَة من أَي جِهَة كَانَ، لاحْتِمَال أَن يحْتَاج حاملوها إِلَى المعاونة، فَإِن بعد مِنْهَا لم يكن مشيعا، فَإِن كَانَت الْمُتَابَعَة بعده لِكَثْرَة الْجَمَاعَة حصل لَهُ فضل الْمُتَابَعَة، وَقَالَ بَعضهم: والغير الْمَذْكُور أَظُنهُ عبد الرَّحْمَن بن قرط، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا طاء مُهْملَة. قَالَ سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا مِسْكين بن مَيْمُون حَدثنِي عُرْوَة بن رُوَيْم، قَالَ: (شهد عبد الرَّحْمَن بن قرط جَنَازَة فَرَأى نَاسا تقدمُوا، وَآخَرين استأخروا، فَأمر بالجنازة فَوضعت، ثمَّ رماهم بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، ثمَّ أَمر بهَا فَحملت، ثمَّ قَالَ: بَين يَديهَا وَخَلفهَا وَعَن يسارها وَعَن يَمِينهَا) . انْتهى. قلت: هَذَا تخمين وحسبان، وَلَئِن سلمنَا إِنَّه هُوَ ذَاك الْغَيْر، فَلَا نسلم أَن هَذَا مُنَاسِب لما ذكره الْغَيْر، بل هُوَ بِعَيْنِه مثل مَا قَالَه أنس، وَلَا يخفى ذَلِك على المتأمل، وَعبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور صَحَابِيّ ذكر البُخَارِيّ وَغَيره أَنه كَانَ من أهل الصّفة، وَكَانَ واليا على حمص فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.(8/112)
5131 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ عَن الزهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ فإنْ تَكُ صالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإنْ تَكُ سِوَى ذالِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عنْ رِقَابِكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد يبلغ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابْن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار، كلهم عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حفظناه) ، ويروى: (حفظته) . قَوْله: (عَن الزُّهْرِيّ) ، هُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِكَلِمَة: عَن، وَفِي رِوَايَة غَيره: من، بدل: عَن. قَوْله: (أَسْرعُوا) ، أَمر من الْإِسْرَاع وَلَيْسَ المُرَاد بالإسراع شدَّة الْإِسْرَاع، بل المُرَاد الْمُتَوَسّط بَين شدَّة السَّعْي وَبَين الْمَشْي الْمُعْتَاد، بِدَلِيل قَوْله فِي حَدِيث أبي بكرَة: (وَإِنَّا لنكاد أَن نرمل) ، ومقاربة الرمل لَيْسَ بالسعي الشَّديد، قَالَه شَيخنَا زين الدّين. قلت: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد (عَن عُيَيْنَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه: أَنه كَانَ فِي جَنَازَة عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ، وَكُنَّا نمشي مشيا خَفِيفا. فلحقنا أَبُو بكرَة، فَرفع صَوته فَقَالَ: لقد رَأَيْتنَا وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نرمل رملاً) . قَوْله: (نرمل) ، من رمل رملاً ورملانا: إِذا أسْرع فِي الْمَشْي، وهز مَنْكِبه. قلت: مُرَاده الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، فِي (مُصَنفه) من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: (إِن أَبَاهُ أوصاه قَالَ: إِذا أَنْت حَملتنِي على السرير فامشِ مشيا بَين المشيين، وَكن خلف الْجِنَازَة، فَإِن مقدمها للْمَلَائكَة وَخَلفهَا لبني آدم) . قَوْله: (بالجنازة) أَي: يحملهَا إِلَى قبرها. وَقيل: المُرَاد الْإِسْرَاع بتجهيزها وتعجيل الدّفن بعد تَيَقّن مَوته، لحَدِيث حُصَيْن بن وحوح (إِن طَلْحَة بن الْبَراء مرض، فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أرى طَلْحَة إلاَّ وَقد حدث بِهِ الْمَوْت، فآذنوني بِهِ وعجلوا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لجيفة مُسلم أَن تحبس بَين ظهراني أَهله) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. قلت: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَابْن وحوح بواوين مفتوحتين، وحائين مهملتين أولاهما سَاكِنة، وَهُوَ أَنْصَارِي لَهُ صُحْبَة. قيل: إِنَّه مَاتَ بالعذيب، روى لَهُ أَبُو دَاوُد، وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث ابْن عمر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِذا مَاتَ أحدكُم فَلَا تَحْبِسُوهُ، وأسرعوا بِهِ إِلَى قَبره) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الأول: أظهر، وَقَالَ النَّوَوِيّ الثَّانِي: بَاطِل مَرْدُود، بقوله فِي الحَدِيث: (تضعونة عَن رِقَابكُمْ) ، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْحمل على الرّقاب قد يعبر بِهِ عَن الْمعَانِي، كَمَا تَقول: حمل فلَان على رقبته ذنوبا، فَيكون الْمَعْنى: استريحوا من نظر من لَا خير فِيهِ، وَيدل عَلَيْهِ أَن الْكل لَا يحملونه. قلت: وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَإِن تَكُ) ، أَصله: فَإِن تكن، حذفت النُّون للتَّخْفِيف، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْجِنَازَة الَّتِي هِيَ عبارَة عَن الْمَيِّت. قَوْله: (صَالِحَة) ، نصب على الخبرية. قَوْله: (فَخير) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فَهُوَ (وَخير، تقدمونها إِلَيْهِ) يَوْم الْقِيَامَة، أَو: هُوَ، مُبْتَدأ أَي: فثمة خير تقدمون الْجِنَازَة إِلَيْهِ، يَعْنِي حَاله فِي الْقَبْر حسن طيب فَأَسْرعُوا بهَا حَتَّى تصل إِلَى تِلْكَ الْحَالة قَرِيبا. قَوْله: (إِلَيْهِ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْخَيْر بِاعْتِبَار الثَّوَاب. وَقَالَ ابْن مَالك: رُوِيَ: (تقدمونه إِلَيْهَا) أَي: تقدمون الْمَيِّت إِلَيْهَا أَي: إِلَى الْخَيْر، وَأَنت الضَّمِير على تَأْوِيل الْخَيْر بِالرَّحْمَةِ أَو الْحسنى، قَوْله: (فشر) إعرابه مثل إِعْرَاب: (فَخير) . قَوْله: (تضعونه) أَي: إِنَّهَا بعيدَة من الرَّحْمَة فَلَا مصلحَة لكم فِي مصاحبتها.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بالإسراع وَنقل ابْن قدامَة أَن الْأَمر فِيهِ للاستحباب بِلَا خلاف بَين الْعلمَاء. وَقَالَ ابْن حزم: وُجُوبه، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : جَاءَ عَن بعض السّلف كَرَاهَة الْإِسْرَاع بالجنازة، وَلَعَلَّه يكون مَحْمُولا على الْإِسْرَاع المفرط الَّذِي يخَاف مِنْهُ انفجار الْمَيِّت، وَخُرُوج شَيْء مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد بالإسراع شدَّة الْمَشْي، وعَلى ذَلِك حمله بعض السّلف، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ويمشون بهَا مُسْرِعين دون الخبب. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَيْسَ فِيهِ شَيْء موقت، غير إِن العجلة أحب إِلَى أبي حنيفَة. قلت: قَوْله: وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، غير صَحِيح، وَلم يقل أحد مِنْهُم بِشدَّة الْمَشْي، وعذا احب (الْهِدَايَة) الَّذِي لَا يذكر إلاَّ مَا هُوَ الْعُمْدَة عِنْد أبي حنيفَة، يَقُول: ويمشون بهَا مُسْرِعين دون الخبب، وَقَوله: دون الخبب، يدل على أَن المُرَاد(8/113)
من الْإِسْرَاع: الْإِسْرَاع الْمُتَوَسّط لَا شدَّة الْإِسْرَاع الَّتِي هِيَ الخبب، وَهُوَ الْعَدو. وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَول صَاحب (الْمَبْسُوط) : العجلة أحب هِيَ العجلة المتوسطة لَا الشَّدِيدَة، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل يَقُول شدَّة الْمَشْي قَول الْحَنَفِيَّة، ثمَّ يذكر عَن كتابين معتبرين فِي الْمَذْهَب مَا يدل على نفي شدَّة الْمَشْي، لِأَن قَوْله: دون الخبب، هُوَ شدَّة الْمَشْي وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) قَالَ الشَّافِعِي: الْإِسْرَاع بالجنازة هُوَ فَوق سجية الْمَشْي الْمُعْتَاد، وَيكرهُ الْإِسْرَاع الشَّديد. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ وَمُسلم من رِوَايَة عَطاء قَالَ: حَضَرنَا مَعَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَنَازَة مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بسرف، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه مَيْمُونَة إِذا رفعتم نعشها فَلَا تزعزعوه وَلَا تزلزلوه وارفقوا. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن بنت أبي بردة (عَن أبي مُوسَى، قَالَ: مر على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِجنَازَة وَهِي تمحض كَمَا يمحض الزق، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِالْقَصْدِ فِي جنائزكم) وَهَذَا يدل على اسْتِحْبَاب الرِّفْق بالجنازة وَترك الْإِسْرَاع قلت: أما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أَرَادَ الرِّفْق فِي كَيْفيَّة الْحمل لَا فِي كَيْفيَّة الْمَشْي بهَا، وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَإِنَّهُ مُنْقَطع بَين بنت أبي بردة وَبَين أبي مُوسَى، وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ ظَاهر فِي أَنه كَانَ يفرط فِي الْإِسْرَاع بهَا، وَلَعَلَّه خشِي انفجارها أَو خُرُوج شَيْء مِنْهُ، وَكَذَا الحكم عِنْد ذَلِك فِي كل مَوضِع. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْمُبَادرَة إِلَى دفن الْمَيِّت، لَكِن بعد تحقق مَوته، فَإِن من المرضى من يخفى مَوته وَلَا يظْهر إلاَّ بعد مُضِيّ زمَان، كالمسبوت وَنَحْوه، وَعَن ابْن بزيزة: يَنْبَغِي أَن لَا يسْرع بتجهيزهم حَتَّى يمْضِي يَوْم وَلَيْلَة ليتَحَقَّق مَوْتهمْ. وَفِيه: مجانبة صُحْبَة أهل البطالة وصحبة غير الصَّالِحين.
25 - (بابُ قَوْلِ المَيِّتِ وَهْوَ عَلَى الجِنَازَةِ قَدِّمُونِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمَيِّت وَهُوَ على النعش: قدموني، وَهَذَا القَوْل إِذا كَانَ صَالحا.
6131 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعْنَاقِهِمْ فإنْ كانَتْ صَالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي وَإنْ كانَتْ غَيْرَ صالِحَةٍ قالَتْ لأِهْلِهَا يَا وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ ولَوْ سَمِعَ الإنْسَانُ لَصَعِقَ.
(أنظر الحَدِيث 4131 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول الْجِنَازَة (قدموني) . وَرِجَاله مضوا غير مرّة، وَسَعِيد المَقْبُري يروي عَن أَبِيه كيسَان عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث مر فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِذا وضعت الْجِنَازَة) فِيهِ احْتِمَالَانِ. الأول: أَن يكون المُرَاد من الْجِنَازَة نفس الْمَيِّت، وبوضعه جعله على السرير. وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد النعش، ووضعها على الْأَعْنَاق، وَالظَّاهِر هُوَ الأول، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة عبد الرَّحْمَن ابْن مولى أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أوصى أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا أَنا مت فَلَا تضربوا عَليّ فسطاطا وَلَا تتبعوني بِنَار، وأسرعوا بِي، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِن الْمُؤمن إِذا وضع على سَرِيره قَالَ: قدموني قدموني، فَإِن الْكَافِر إِذا وضع على سَرِيره قَالَ: يَا ويله أَيْن تذهبون بِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا يَقُول ذَلِك الرّوح، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مَانع أَن يرد الله الرّوح إِلَى الْجَسَد فِي تِلْكَ الْحَال ليَكُون ذَلِك زِيَادَة فِي بشرى الْمُؤمن وبؤسا للْكَافِرِ. وَأجِيب: بِأَن دَعْوَى إِعَادَة الرّوح إِلَى الْجَسَد قبل الدّفن يحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَالله عز وَجل قَادر على أَن يحدث نطقا فِي الْمَيِّت إِذا شَاءَ. وَقَالَ ابْن بزيزة: فِي قَوْله: (يسمع صَوتهَا كل شَيْء) . هُوَ بِلِسَان الْمقَال لَا بِلِسَان الْحَال، وَكَذَا قَالَ فِي قَوْله: (لصعق) أَنه مُخْتَصّ بِالْمَيتِ الَّذِي هُوَ غير صَالح، وَأما الصَّالح فَمن شَأْنه اللطف والرفق فِي كَلَامه، فَلَا يُنَاسب الصَّعق من سَماع كَلَامه. قَوْله: (وَإِن كَانَت غير ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَإِن كَانَت غير صَالِحَة) ، وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على أَن كَلَام الْمَيِّت يسمعهُ كل حَيَوَان غير الْإِنْسَان، وَقَالَ ابْن بطال:(8/114)
الْمَعْنى يسْمعهَا من لَهُ عقل كالملائكة وَالْجِنّ لِأَن الْمُتَكَلّم روح إِنَّمَا يسمع الرّوح من هُوَ مثله، ورد بِأَنَّهُ لَا مَانع من إنطاق الله تَعَالَى الْجَسَد بِغَيْر روح، وَهُوَ على كل شَيْء قدير.
35 - (بابُ مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أوْ ثَلاَثَةً عَلَى الجَنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من صف النَّاس صفّين أَو ثَلَاثَة صُفُوف على الْجِنَازَة خلف الإِمَام، وَاعْترض على هَذِه التَّرْجَمَة من وَجْهَيْن: الأول: أَن فِي حَدِيث الْبَاب قَول جَابر: كنت فِي الصَّفّ الثَّانِي وَالثَّالِث، لَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون مُنْتَهى الصُّفُوف، وَالثَّانِي: لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على كَون الصُّفُوف خلف الإِمَام. وَأجِيب: عَن الأول: بِأَن فِي حَدِيث مُسلم عَن جَابر: فقمنا فصففنا صفّين، فَدلَّ هَذَا أَن قَوْله: وَالثَّالِث، شكّ هَل كَانَ هُنَاكَ صف ثَالِث أم لَا. وَعَن الثَّانِي: بِأَن البُخَارِيّ روى فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن قَتَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد بِزِيَادَة: (فصفنا وَرَاءه) وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: فصفوا خَلفه، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمخْرج وَاحِدًا وَالْأَصْل متحدا.
7131 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ أبِي عَوَانَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ عَطَاءٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أوِ الثَّالِثِ..
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث قد ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَأَبُو عوَانَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة بِهِ.
قَوْله: (النَّجَاشِيّ) ملك الْحَبَشَة بتَخْفِيف الْيَاء، قَالَ صَاحب (الْمغرب) : سَمَاعا من الثِّقَات، وَهُوَ اخْتِيَار الفارابي، وَعَن صَاحب (التكملة) بِالتَّشْدِيدِ وَعَن الْهَرَوِيّ كلتا اللغتين، وَأما تَشْدِيد الْجِيم فخطأ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبَاب صف أَو صفّين وَرَاء الإِمَام فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت.
45 - (بابُ الصُّفُوفِ عَلَى الجِنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصُّفُوف فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة.
8131 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عَن سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ نَعى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى أصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّر أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفوا خَلفه) ، لِأَنَّهُ يدل على الصُّفُوف، إِذْ الْغَالِب أَن الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَعَ كَثْرَة الْمُلَازمَة للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسعون صفا أَو صفّين. فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يدل على الْجِنَازَة؟ قلت: المُرَاد من الْجِنَازَة الْمَيِّت، سَوَاء كَانَ مَدْفُونا أَو غير مدفون. فَإِن قلت: أَحَادِيث الْبَاب لَيْسَ فِيهَا صَلَاة على جَنَازَة، وَإِنَّمَا فِيهَا الصَّلَاة على الْغَائِب أَو على من فِي الْقَبْر. قلت: الاصطفاف إِذا شرع والجنازة غَائِبَة فَفِي الْحَاضِرَة أولى.
وَيزِيد من الزِّيَادَة وزريع، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ: مُحَمَّد بن مُسلم، وَسَعِيد ابْن الْمسيب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَقَالَ ابْن بطال: أَوْمَأ المُصَنّف إِلَى الرَّد على عَطاء حَيْثُ ذهب إِلَى أَنه لَا يشرع فِيهَا تَسْوِيَة الصُّفُوف، كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قَالَ: قلت لعطاء: أَحَق على الناى أَن يسووا صفوفهم على الْجَنَائِز كَمَا يسوونها فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يكبِّرون وَيَسْتَغْفِرُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: يَنْبَغِي لأهل الْمَيِّت إِذا لم يخشوا عَلَيْهِ التَّغَيُّر أَن ينتظروا بِهِ اجْتِمَاع قوم حَتَّى يقوم مِنْهُم ثَلَاثَة صُفُوف لهَذَا الحَدِيث. قلت: لأجل ذَلِك ذكر البُخَارِيّ: بَاب الصُّفُوف، بِصِيغَة الْجمع، وَجعل الصُّفُوف ثَلَاثًا مُسْتَحبّ لما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث مَالك بن هُبَيْرَة مَرْفُوعا: (من صلى عَلَيْهِ ثَلَاث صُفُوف(8/115)
فقد أوجب) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه، وَصَححهُ الْحَاكِم، وَفِي رِوَايَة: (إلاَّ غفر لَهُ) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَمُوت أحد من الْمُسلمين فَيصَلي عَلَيْهِ أمة من الْمُسلمين يبلغُوا أَن يَكُونُوا مائَة يشفعوا لَهُ إلاَّ شفعوا فِيهِ) . وَرَوَاهُ أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ. وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صلى عَلَيْهِ مائَة من الْمُسلمين غفر لَهُ) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي الْمليح: حَدثنِي عبد الله عَن إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَهِي مَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: أَخْبرنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا من ميت يُصَلِّي عَلَيْهِ أمة من النَّاس إلاَّ شفعوا فِيهِ، فَسَأَلت أَبَا الْمليح عَن الْأمة قَالَ: أَرْبَعُونَ) . وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة شريك بن عبد الله عَن كريب، قَالَ: مَاتَ ابْن لِابْنِ عَبَّاس بِقديد أَو بعسفان، فَقَالَ: يَا كريب أنظر مَا اجْتَمعُوا لَهُ من النَّاس؟ فَخرجت فَإِذا النَّاس قد اجْتَمعُوا لَهُ، فَأَخْبَرته فَقَالَ: أَتَقول وهم أَرْبَعُونَ؟ قلت: نعم، قَالَ: أَخْرجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من رجل مُسلم يَمُوت فَيقوم على جنَازَته أَرْبَعُونَ رجلا لَا يشركُونَ بِاللَّه شَيْئا إلاَّ شفعهم الله فِيهِ) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: إِن هَذِه الْأَحَادِيث خرجت أجوبة لسائلين سَأَلُوا عَن ذَلِك، فَأجَاب كل وَاحِد عَن سُؤَاله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِقبُول شَفَاعَة مائَة فَأخْبر بِهِ. ثمَّ بِقبُول شَفَاعَة أَرْبَعِينَ، ثمَّ ثَلَاثَة صُفُوف. وَإِن قل عَددهمْ فأخبريه وَيحْتَمل أَن يُقَال: هَذَا مَفْهُوم عدد وَلَا يحْتَج بِهِ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ، فَلَا يلْزم من الْإِخْبَار عَن قبُول شَفَاعَة مائَة منع قبُول مَا دون ذَلِك، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعين مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف.
قَوْله: (فَكبر أَرْبعا) ، يدل على أَن تَكْبِيرَات الْجِنَازَة أَربع، وَبِه احْتج جَمَاهِير الْعلمَاء مِنْهُم: مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وسُويد بن غَفلَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. ويحكى ذَلِك عَن: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَزيد بن ثَابت وَجَابِر وَابْن أبي أوفى وَالْحسن بن عَليّ والبراء بن عَازِب وَأبي هُرَيْرَة وَعقبَة ابْن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذهب قوم إِلَى أَن التَّكْبِير على الْجَنَائِز خمس، مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعِيسَى مولى حُذَيْفَة وَأَصْحَاب معَاذ بن جبل وَأَبُو يُوسُف من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَهُوَ مَذْهَب الشِّيعَة والظاهرية. وَقَالَ الْحَازِمِي: وَمِمَّنْ رأى التَّكْبِير على الْجَنَائِز خمْسا ابْن مَسْعُود وَزيد بن أَرقم وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان. وَقَالَت فرقة: يكبر سبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن زر بن حُبَيْش، وَقَالَت فرقة: يكبر ثَلَاثًا، رُوِيَ ذَلِك عَن أنس وَجَابِر بن زيد، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن يزِيد عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَمْزَة فَكبر عَلَيْهِ تسعا، ثمَّ جِيءَ بِأُخْرَى فَكبر عَلَيْهَا سبعا ثمَّ جِيءَ بِأُخْرَى فَكبر عَلَيْهَا خمْسا، حَتَّى فرغ مِنْهُنَّ، غير أَنَّهُنَّ وترا) . وَقَالَ ابْن قدامَة: لَا يخْتَلف الْمَذْهَب أَنه لَا تجوز الزِّيَادَة على سبع تَكْبِيرَات، وَلَا النَّقْص من أَربع، وَالْأولَى أَربع لَا يُزَاد عَلَيْهَا. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيمَا بَين ذَلِك، فَظَاهر كَلَام الْخرقِيّ أَن الإِمَام إِذا كبر خمْسا تَابعه الْمَأْمُوم وَلَا يُتَابِعه فِي زِيَادَة عَلَيْهَا، وَرَوَاهُ الْأَثْرَم عَن أَحْمد، وروى حَرْب عَن أَحْمد: إِذا كبر خمْسا لَا يكبر مَعَه وَلَا يسلم إلاَّ مَعَ الإِمَام، وَمِمَّنْ لَا يرى مُتَابعَة الإِمَام فِي زِيَادَة على أَربع: الثَّوْريّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل: وَاحْتج الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن التَّكْبِير على الْجِنَازَة خمس بِحَدِيث زيد بن أَرقم، أخرجه مُسلم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى قَالَ: كَانَ زيد بن أَرقم يكبر على جنائزنا أَرْبعا، وَأَنه كبر على جَنَازَة خمْسا، فَسَأَلته، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبرها. وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا. والطَّحَاوِي، وَبِحَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان أخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا عِيسَى بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن يحيى بن عبد الله التَّمِيمِي، قَالَ: صليت مَعَ عِيسَى مولى حُذَيْفَة بن الْيَمَان على جَنَازَة فَكبر عَلَيْهَا خمْسا، ثمَّ الْتفت إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا وهمت وَلَا نسيت، وَلَكِنِّي كَبرت كَمَا كبر مولَايَ وَولي نعمتي، يَعْنِي حُذَيْفَة بن الْيَمَان، صلى على جَنَازَة فَكبر عَلَيْهَا خمْسا، ثمَّ الْتفت إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا وهمت وَلَا نسيت وَلَكِنِّي كَبرت كَمَا كبر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِحَدِيث عَمْرو بن عَوْف، أخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر خمْسا، وَاسم جده عَمْرو ابْن عَوْف الْمُزنِيّ.
وَالْجَوَاب عَن الأحديث الَّتِي فِيهَا التَّكْبِير على الْجِنَازَة بِأَكْثَرَ من أَربع: أَنَّهَا مَنْسُوخَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي التَّكْبِير على الْجِنَازَة، لَا تشَاء أَن تسمع رجلا يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر سبعا، وَآخر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر خمْسا، وَآخر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله،(8/116)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبر أَرْبعا إِلَّا سمعته، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك، فَكَانُوا على ذَلِك حَتَّى قبض أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَأى اخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك شقّ عَلَيْهِ جدا، فَأرْسل إِلَى رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّكُم معاشر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَتى تختلفون على النَّاس يَخْتَلِفُونَ من بعدكم، وَمَتى تجتمعون على أَمر يجْتَمع النَّاس عَلَيْهِ، فانظروا أمرا تجتمعون عَلَيْهِ، فَكَأَنَّمَا أيقظهم، فَقَالُوا: نعم مَا رَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فأشر علينا، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: بل أَشِيرُوا عَليّ، فَإِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ، فتراجعوا الْأَمر بَينهم فَأَجْمعُوا أَمرهم على أَن يجْعَلُوا التَّكْبِير على الْجَنَائِز مثل التَّكْبِير فِي الْأَضْحَى، وَالْفطر أَربع تَكْبِيرَات، فأجمع أَمرهم على ذَلِك، فَهَذَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رد الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَربع تَكْبِيرَات بمشورة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وهم حَضَرُوا من فعل رَسُول الله. مَا رَوَاهُ حُذَيْفَة وَزيد بن أَرقم، فَكَانُوا مَا فعلوا، فَمن ذَلِك عِنْدهم هُوَ أولى مِمَّا قد كَانُوا فَذَلِك نسخ لما كَانُوا قد عمِلُوا لأَنهم مأمونون على مَا قد فعلوا، كَمَا كَانُوا مأمونين على مَا قد رووا. فَإِن قلت: كَيفَ ثَبت النّسخ بِالْإِجْمَاع؟ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون إلاَّ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَوَان النّسخ حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاتفاق على أَن لَا نسخ بعده؟ قلت: قد جوز ذَلِك بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع يُوجب علم الْيَقِين كالنص، فَيجوز أَن يثبت النَّص بِهِ، وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور، فَإِذا كَانَ النّسخ يجوز بالْخبر الْمَشْهُور فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى، على أَن ذَلِك الْإِجْمَاع مِنْهُم إِنَّمَا كَانَ على مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قد رفع كل مَا كَانَ قبله مِمَّا يُخَالِفهُ، فَصَارَ الْإِجْمَاع مظْهرا لما قد كَانَ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْهَم. حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِن حَدِيث النَّجَاشِيّ هُوَ النَّاسِخ لِأَنَّهُ مخرج فِي الصَّحِيح من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، قَالُوا: وَأَبُو هُرَيْرَة مُتَأَخّر الْإِسْلَام، وَمَوْت النَّجَاشِيّ كَانَ بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِمَّا يُؤَكد هَذَا مَا رَوَاهُ قَاسم بن أصبغ من حَدِيث أبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة عَن أَبِيه، (قَالَ: كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يكبر على الْجَنَائِز أَرْبعا وخمسا وستا وَسبعا وثمانيا، حَتَّى مَاتَ النَّجَاشِيّ فَخرج إِلَى الْمصلى فَصف النَّاس من وَرَائه فَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا، ثمَّ ثَبت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَربع حَتَّى توفاه الله تَعَالَى.
وَفِيه: معْجزَة عَظِيمَة للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أعلم الصَّحَابَة بِمَوْت النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَعَ بعد عَظِيم مَا بَين أَرض الْحَبَشَة وَالْمَدينَة. وَفِيه: حجَّة للحنفية والمالكية فِي منع الصَّلَاة على الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بهم إِلَى الْمصلى فَصف بهم، وَصلى عَلَيْهِ، وَلَو سَاغَ أَن يصلى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد لما خرج بهم إِلَى الْمصلى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْمُمْتَنع عِنْد الْحَنَفِيَّة إِدْخَال الْمَيِّت الْمَسْجِد لَا مُجَرّد الصَّلَاة عَلَيْهِ، حَتَّى لَو كَانَ الْمَيِّت خَارج الْمَسْجِد جَازَت الصَّلَاة عَلَيْهِ لمن هُوَ دَاخله. وَقَالَ ابْن بزيزة وَغَيره: اسْتدلَّ بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة، وَهُوَ بَاطِل، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صِيغَة نهي لاحْتِمَال أَن يكون خرج بهم إِلَى الْمصلى لأمر غير الْمَعْنى الْمَذْكُور، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على سُهَيْل بن بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد، فَكيف يتْرك هَذَا الصَّرِيح لأمر مُحْتَمل؟ بل الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا خرج بِالْمُسْلِمين إِلَى الْمصلى لقصد تَكْثِير الْجمع الَّذين يصلونَ عَلَيْهِ، ولإشاعة كَونه مَاتَ على الْإِسْلَام، فقد كَانَ بعض النَّاس لم يدر بِكَوْنِهِ أسلم. فقد روى ابْن أبي حَاتِم فِي التَّفْسِير من طَرِيق ثَابت وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَاد، وَالْبَزَّار من طَرِيق حميد، كِلَاهُمَا عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى على النَّجَاشِيّ، قَالَ بعض أَصْحَابه: صلى على علج من الْحَبَشَة، فَنزلت: {وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم} (آل عمرَان: 991) . الْآيَة.
وَفِي الْأَوْسَط للطبراني من حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن الَّذِي طعن بذلك فِيهِ كَانَ منافقا قلت: قَول النَّوَوِيّ: لَا حجَّة فِيهِ غير صَحِيح لِأَن تَعْلِيله بقوله: لِأَن الْمُمْتَنع. . إِلَى آخِره، يرد قَوْله وَيبْطل مَا قَالَه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفعل مُجَرّد الصَّلَاة على النَّجَاشِيّ فِي الْمَسْجِد، مَعَ كَونه غَائِبا، فَدلَّ على الْمَنْع وَإِن لم يكن الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَقَوله: حَتَّى لَو كَانَ الْمَيِّت ... إِلَى آخِره، على تَعْلِيل من يُعلل منع الصَّلَاة على الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد لخوف التلوث من الْمَيِّت، وَأما بِالنّظرِ إِلَى مُطلق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) ، فالمنع مُطلق. وَقَول ابْن بزيزة لَيْسَ فِيهِ صِيغَة النَّهْي ...(8/117)
إِلَى آخِره مَرْدُود أَيْضا، لِأَن إِثْبَات منع شَيْء غير مقتصر على الصِّيغَة، وتعليله بِالِاحْتِمَالِ غير مُفِيد لدعواه، وَأما صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سُهَيْل فَلَا ننكرها، غير أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) ، وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا وَلَفظه: (فَلَيْسَ لَهُ شَيْء) وَقَالَ الْخَطِيب: الْمَحْفُوظ، (فَلَا شَيْء لَهُ) ويروى: (فَلَا شَيْء عَلَيْهِ) ، وَرُوِيَ (فَلَا أجر لَهُ) ، قد نسخ حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بَيَانه أَن حَدِيث عَائِشَة إِخْبَار عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَال الْإِبَاحَة الَّتِي لم يتقدمها نهي، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة إِخْبَار عَن نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي قد تقدمته الْإِبَاحَة، فَصَارَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَاسِخا، وَيُؤَيِّدهُ إِنْكَار الصَّحَابَة على عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لأَنهم قد كَانُوا علمُوا فِي ذَلِك خلاف مَا علمت، وَلَوْلَا ذَلِك مَا أَنْكَرُوا ذَلِك عَلَيْهَا.
فَإِن قلت: مَا صُورَة الْإِنْكَار فِي ذَلِك؟ قلت: فِي رِوَايَة مُسلم: (عَن عَائِشَة: لما توفّي سعد بن أبي وَقاص قَالَت: ادخُلُوا بِهِ الْمَسْجِد حَتَّى أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهَا) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (إِن النَّاس عابوا ذَلِك، وَقَالُوا: مَا كَانَت الْجَنَائِز يدْخل بهَا الْمَسْجِد. .) الحَدِيث. فَإِن قلت: لِمَ لَا يَجْعَل الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا؟ قلت: يلْزم من ذَلِك إِثْبَات نسخين: نسخ الْإِبَاحَة الثَّابِتَة فِي الِابْتِدَاء بِالنَّصِّ الْمُوجب للحظر، ثمَّ نسخ الْحَظْر بِالنَّصِّ الْمُوجب للْإِبَاحَة. فَإِن قلت: من أَي قبيل يكون هَذَا النّسخ؟ قلت: من قبيل النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر ثمَّ نسخ مُوجبا للْإِبَاحَة، فَفِي مثل هَذَا يتَعَيَّن الْمصير إِلَى النَّص الْمُوجب للحظر، وَإِلَى الْأَخْذ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، والحظر طارىء عَلَيْهَا فَيكون مُتَأَخِّرًا. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين الْحَدِيثين مُسَاوَاة، لِأَن حَدِيث عَائِشَة أخرجه مُسلم، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة قد ضَعَّفُوهُ بِصَالح مولى التومة، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّوْفِيق. وَقَالَ ابْن عدي: هَذَا من مُنكرَات صَالح، وَالْأَئِمَّة طعنوا فِيهِ بِسَبَبِهِ، وَقَالُوا: إِنَّه ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : اخْتَلَط صَالح بآخر عمره وَلم يتَمَيَّز حَدِيث حَدِيثه من قديمه، ثمَّ ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: إِنَّه بَاطِل، وَكَيف يَقُول الرَّسُول ذَلِك وَقد صلى على سُهَيْل ابْن بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة. أَحدهَا: أَنه ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث ضَعِيف تفرد بِهِ صَالح مولى التومة وَهُوَ ضَعِيف. وَالثَّانِي: أَن الَّذِي فِي النّسخ الْمَشْهُورَة المسموعة فِي (سنَن أبي دَاوُد) : فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، فَلَا صِحَة فِيهِ. وَالثَّالِث: أَن اللَّام فِيهِ بِمَعْنى: على كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) . أَي: فعلَيْهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَانَ مَالك يُخرجهُ. قلت: رجال هَذَا ثِقَات يحْتَج بهم لَا نزاع فيهم، وَأما صَالح فَإِن الْعجلِيّ قَالَ: صَالح ثِقَة، وَعَن ابْن معِين أَنه قَالَ: صَالح ثِقَة حجَّة، قيل لَهُ: إِن مَالِكًا ترك السماع مِنْهُ. قَالَ: إِنَّمَا أدْركهُ مَالك بَعْدَمَا كبر وخرف، وَمن سمع مِنْهُ قبل أَن يخْتَلط فَهُوَ ثَبت. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ إِذا سمعُوا مِنْهُ قَدِيما مثل ابْن أبي ذِئْب وَابْن جريج وَزِيَاد بن سعد وَغَيرهم. انْتهى. فَعَن هَذَا علم أَنه لَا خلاف فِي عَدَالَته وَابْن أبي ذِئْب سمع مِنْهُ هَذَا الحَدِيث قَدِيما قبل اخْتِلَاطه، فَصَارَ الحَدِيث حجَّة. وَقَول ابْن حبَان: إِنَّه بَاطِل، كَلَام بَاطِل لِأَن مثل أبي دَاوُد أخرج هَذَا الحَدِيث وَسكت عَنهُ، فَأَقل الْأَمر فِيهِ أَن يكون حسنا عِنْده، لِأَنَّهُ رضى بِهِ. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا، وَكَيف يجوز لَهُ الحكم بِبُطْلَان هَذَا الحَدِيث؟ فَإِن كَانَ تشنيعه بِسَبَب اخْتِلَاط صَالح، فقد ذكرنَا أَنه كَانَ قبل الِاخْتِلَاط مِمَّن اثنى عَلَيْهِ بالثقة، وَأَن من أَخذ مِنْهُ قبله لَا يرد مَا أَخذه مِنْهُ، وَأَن ابْن أبي ذِئْب أَخذ عَنهُ قبله، وإلاَّ فَلَا يظْهر مِنْهُ إلاَّ التعصب الْمَحْض. وَالْعجب مِنْهُ أَنه يَقُول: وَكَيف يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَقد صلى على سُهَيْل؟ فَكَأَنَّهُ نسي بَاب النّسخ، وَمثل هَذَا كثير قد فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركه، وَبِهَذَا يرد أَيْضا مَا قَالَه النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ أَيْضا مَا إِلَى مَا قَالَ ابْن حبَان وَقَوله: إِن اللَّام، بِمَعْنى: على، عدُول عَن الْحَقِيقَة من غير ضَرُورَة، وَلَا سِيمَا على أصلهم، فَإِن الْمجَاز ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة، وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، وَيرد عَلَيْهِ فِي ذَلِك أَيْضا رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: فَلَا صَلَاة لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُمكن أَن يَقُول: إِن: اللَّام، هُنَا بِمَعْنى: على، لفساد الْمَعْنى. وَأما قَول الْبَيْهَقِيّ: كَانَ مَالك يُخرجهُ، فَإِن مُرَاده فِيمَا أَخذ عَنهُ بعد الِاخْتِلَاط.
وَأما حَدِيث مُسلم فِي ذَلِك فَإِن أَصله فِي (موطأ) مَالك فَإِنَّهُ أخرجه فِيهِ عَن أبي النَّضر عَن عَائِشَة قَالَ أَبُو عمر: هَكَذَا هَذَا الحَدِيث عِنْد جُمْهُور الروَاة مُنْقَطِعًا إلاَّ أَن أَبَا النَّضر لم يسمع من عَائِشَة شَيْئا، وَقَالَ ابْن وضاح: وَلَا أدْركهَا، وَإِنَّمَا يروي عَن أبي سَلمَة عَنْهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ أسْندهُ مُسلم، وَعمد عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ: وَلَا يَصح إلاَّ مُرْسلا عَن أبي النَّضر عَن عَائِشَة، لِأَنَّهُ قد خَالف فِي ذَلِك رجلَانِ حَافِظَانِ: مَالك والماجشون رِوَايَة عَن أبي النَّضر عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الشَّافِعِي وَغَيره فِي مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة على الْغَائِب، قَالُوا: وَهُوَ سنة فِي حق من كَانَ(8/118)
غَائِبا عَن بلد الْمَيِّت إِذا كَانَ فِي بلد وَفَاته قد اسقطوا فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ. قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي. أما من لم يحصل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي بلد وفاه، كَالْمُسلمِ يَمُوت فِي بلد الْمُشْركين وَلَيْسَ فِيهِ مُسلم، فَإِنَّهُ يجب على أهل الْإِسْلَام الصَّلَاة عَلَيْهِ كَمَا فِي قصَّة النَّجَاشِيّ، وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّجَاشِيّ رجل مُسلم قد آمن برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدقه على نبوته إلاَّ أَنه كَانَ يكتم إيمَانه، وَالْمُسلم إِذا مَاتَ يجب على الْمُسلمين أَن يصلوا عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه كَانَ بَين ظهراني أهل الْكفْر، وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ من يقوم بِحقِّهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، فَلَزِمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل ذَلِك إِذْ هُوَ نبيه ووليه وأحق النَّاس بِهِ، فَهَذَا وَالله أعلم هُوَ السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ بِظهْر الْغَيْب فَإِذا صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم يتوجهوا إِلَى بلد الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة الْقبْلَة،
وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما روى فِي بعض الْأَخْبَار أَنه قد سويت لَهُ الأَرْض حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا فعل شَيْئا من أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا الْمُتَابَعَة والاتساء بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلاَّ بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ إِلَى الصَّلَاة فَصف بهم وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا التَّأْوِيل فَاسد. قلت: هَذَا التَّشَيُّع كُله على الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول، مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع لَهُ سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ الْمَأْمُوم. فَإِن قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل بَيِّنَة وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّد الاجتمال. قلت: ورد مَا يدل على ذَلِك، فروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عمرَان بن الْحصين أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن أَخَاكُم النَّجَاشِيّ توفّي فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفوا خَلفه، فَكبر أَرْبعا وهم لَا يظنون إلاَّ أَن جنَازَته بَين يَدَيْهِ) . أخرجه من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَنهُ، وَلأبي عوَانَة من طَرِيق أبان وَغَيره عَن يحيى: (فصلينا خَلفه وَنحن لَا نرى إلاَّ الْجِنَازَة قدامنا) . وَذكر الواحدي فِي (أَسبَابه) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كشف للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سَرِير النَّجَاشِيّ حَتَّى رَآهُ وَصلى عَلَيْهِ، وَيدل على ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على غَائِب غَيره، وَقد مَاتَ من الصَّحَابَة خلق كثير وهم غائبون عَنهُ وَسمع بهم فَلم يصل عَلَيْهِم إلاَّ غَائِبا وَاحِدًا، ورد أَنه طويت لَهُ الأَرْض حَتَّى حَضَره وَهُوَ مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ، روى حَدِيث الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَكتاب (مُسْند الشاميين) من حَدِيث أبي أُمَامَة، قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبوك فَنزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، أَتُحِبُّ أَن تطوى لَك الأَرْض فَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَضرب بجناحه على الأَرْض وَرفع لَهُ سَرِيره، فصلى عَلَيْهِ وَخَلفه صفان من الْمَلَائِكَة فِي كل صف سَبْعُونَ ألف ملك ثمَّ رَجَعَ) .
9131 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ عنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ أخبرَنِي مَنْ شَهِدَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أرْبَعا قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفهم) ، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، والشيباني، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ سُلَيْمَان، واسْمه فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل الْكُوفِي.
وَمن لطائف إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: إِبْهَام الصَّحَابِيّ الَّذِي روى الحَدِيث ثمَّ تبيينه بِأَنَّهُ عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب وضوء الصّبيان مَتى يجب عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر عَن شُعْبَة. . إِلَى آخِره، نَحوه مَعَ اخْتِلَاف فِي الْمَتْن، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من كل الْوُجُوه.
قَوْله: (حَدثنَا الشَّيْبَانِيّ عَن الشّعبِيّ) وَهُنَاكَ: (سَمِعت سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ سَمِعت الشّعبِيّ) . قَوْله: (من شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهُنَاكَ: (من مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر منبوذ) . قَوْله: (فصفهم) ، وَهُنَاكَ: (فَأمهمْ وصفوا) . قَوْله: (قلت من حَدثَك؟) . وَهُنَاكَ: (فَقلت: يَا أَبَا عَمْرو من حَدثَك؟) . قَوْله: (قبر منبوذ) بِالْإِضَافَة، وَالصّفة: قبر لَقِيط لِأَنَّهُ رمي بِهِ، أَو قبر منتبذ عَن الْقُبُور أَي معتزل بعيد عَنْهَا.(8/119)
0231 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى اقال أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءٌ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ تُوُفِّيَ اليوْمَ رَجُلٌ صالِحٌ منَ الحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ قَالَ أبُو الزُّبَيْرِ عنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصففنا) ، وَفِي قَوْله: (وَنحن صُفُوف) أَيْضا على رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، فَإِن قَوْله: (وَنحن صُفُوف) فِي الحَدِيث على رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَلَيْسَ ذَلِك فِي رِوَايَة غَيره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق، يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وَأَن هشاما من أَفْرَاده وَأَنه يماني وقاضيها وَابْن جريج وَعَطَاء مكيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن أبي الرّبيع. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبيد الْكُوفِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من الْحَبَش) ، وَهُوَ الصِّنْف الْمَخْصُوص من السودَان. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَبَش والحبشة، جنس من السودَان، وَالْجمع: الحبشان، مثل: حمل وحملان. قَوْله: (فَهَلُمَّ) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: تعال، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع فِي لُغَة الْحجاز وَأهل نجد يصرفونها، فَيَقُولُونَ: (هلما هلموا هَلُمِّي هلما هلممنن. قَوْله: (وَنحن صُفُوف) ، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال، وَهَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: كَمَا ذكرنَا آنِفا، قَالَ بَعضهم: وَبِه يَصح مَقْصُود التَّرْجَمَة. قلت: الْمَقْصُود يحصل من قَوْله: (فصففنا) لِأَن قَوْله: (وَنحن صُفُوف) لَيْسَ فِي غير رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، فَإِذا لم نعتبر فِيهَا. قَوْله: (فصففنا) لَا تبقى الْمُطَابقَة. قَوْله: (قَالَ أَبُو الزبير) ، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن تدرس، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الدَّال وَضم الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، مر فِي: بَاب من شكا إِمَامه، وَهَذَا وَصله النَّسَائِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي الزبير بِلَفْظ: (كنت فِي الصَّفّ الثَّانِي يَوْم صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّجَاشِيّ) .
55 - (بابُ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ عَلَى الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال عِنْد إِرَادَة الصَّلَاة فِي الْجَنَائِز، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على الْجَنَائِز.
1231 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا الشَّيْبَانِي عنْ عَامِرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ مَتَى دُفِنَ هاذا قالُوا البَارِحَةَ قَالَ أفَلاَ آذَنْتُمُونِي قالُوا دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أنْ نُوقِظَكَ فقامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وَأنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ فِي وَقت مَا صلى مَعَهم صَغِيرا، لِأَنَّهُ كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون الْبلُوغ، لِأَنَّهُ شهد حجَّة الْوَدَاع وَقد قَارب الِاحْتِلَام، فيطابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب السَّابِق، غير أَنه هَهُنَا أتم من ذَاك، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري الْبَصْرِيّ الَّذِي يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَقد مضى فِي الْبَاب السَّابِق، وعامر هُوَ الشّعبِيّ وَقد مضى هُنَاكَ بنسبته.
قَوْله: (دفن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَنسبَة الدّفن إِلَى الْقَبْر مجَاز، لِأَن المدفون هُوَ صَاحب(8/120)
الْقَبْر وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (لَيْلًا) نصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (فَقَالُوا: البارحة) أَي: دفن البارحة. قَالَ الْجَوْهَرِي: البارحة أقرب لَيْلَة مَضَت، تَقول: مَا لَقيته البارحة، ولقيته البارحة الأولى، وَهُوَ من: برح، أَي: زَالَ. قَوْله: (أَفلا آذنتموني؟) أَي: أَفلا أعلمتموني؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الأحكم: الأول: فِيهِ جَوَاز الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل قبرا لَيْلًا فأسرج لَهُ بسراج، فَأخذ من الْقبْلَة وَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها تلاء لِلْقُرْآنِ، وَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) قَالَ: حَدِيث ابْن عَبَّاس حَدِيث حسن، وَقَالَ: وَقد رخص أَكثر أهل الْعلم فِي الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر بن عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي الْمقْبرَة، فأتوها فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر، وَإِذا هُوَ يَقُول: ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل الَّذِي كَانَ يرفع صَوته بِالذكر) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَسَنَده على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن أبي يُونُس الْبَاهِلِيّ، قَالَ: سَمِعت شَيخا بِمَكَّة كَانَ أَصله روميا يحدث عَن أبي ذَر قَالَ: كَانَ رجل يطوف بِالْبَيْتِ يَقُول: أوه أوه. قَالَ أَبُو ذَر: فَخرجت ذَات لَيْلَة فَإِذا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَقَابِر يدْفن ذَلِك الرجل وَمَعَهُ مِصْبَاح. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب يَوْمًا فَذكر رجلا من أَصْحَابه قبض فَكفن فِي كفن غير طائل وقبر لَيْلًا، فزجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقبر الرجل بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهِ إلاَّ أَن يضْطَر إِنْسَان فِي ذَلِك، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. قلت: يحْتَمل أَن يكون نهى عَن ذَلِك أَولا ثمَّ رخصه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمنْهِي عَنهُ الدّفن قبل الصَّلَاة. قلت: الدّفن قبل الصَّلَاة منهيٌّ عَنهُ مُطلقًا، سَوَاء كَانَ بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ، وَالظَّاهِر أَنه نهى عَن الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَو كَانَ بعد الصَّلَاة وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) من حَدِيث أبي الزبير: عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدفنوا مَوْتَاكُم بِاللَّيْلِ إلاَّ أَن تضطروا) ، وَلَكِن بشكل على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة دفنُوا لَيْلًا، وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: وَدفن، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يصبح. وَفِي (الْمَغَازِي) لِلْوَاقِدِي: عَن عمْرَة عَن عَائِشَة قَالَت: مَا علمنَا بدفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى سمعنَا صَوت الْمساحِي فِي السحر لَيْلَة الثُّلَاثَاء. وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَدفن لَيْلَة الْأَرْبَعَاء.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: فِيهِ الصَّلَاة على الْغَائِب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
الثَّالِث: فِيهِ الصَّلَاة على الْجِنَازَة بالصفوف، وَأَن لَهَا تَأْثِيرا، وَكَانَ مَالك بن هُبَيْرَة الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يصف من يحضر الصَّلَاة على الْجِنَازَة ثَلَاثَة صُفُوف، سَوَاء قلوا أَو كَثُرُوا، وَلَكِن الْكَلَام فِيمَا إِذا تعدّدت الصُّفُوف وَالْعدَد قَلِيل، أَو كَانَ الصَّفّ وَاحِدًا. وَالْعدَد كثيرا أَيهمَا أفضل؟ وَعِنْدِي: الصُّفُوف أفضل، وَالله أعلم.
الرَّابِع: فِيهِ تدريب الصّبيان على شرائع الْإِسْلَام وحضورهم مَعَ الْجَمَاعَات ليستأنسوا إِلَيْهَا، وَتَكون لَهُم عَادَة إِذا لزمتهم وَإِذا ندبوا إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة ليتدربوا إِلَيْهَا، وَهِي فرض كِفَايَة، فَفرض الْعين أَحْرَى.
الْخَامِس: فِيهِ الْإِعْلَام للنَّاس بِمَوْت أحد من الْمُسلمين لينهضوا إِلَى الصَّلَاة عَلَيْهِ. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على قبر الْمَيِّت، قَالَ أَصْحَابنَا: إِذا دفن الْمَيِّت وَلم يصل عَلَيْهِ صلى على قَبره مَا لم يعلم أَنه تفرق، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط) وَهَذَا يُشِير إِلَى أَنه إِذا شكّ فِي تفرقه وتفسخه يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقد نَص الْأَصْحَاب على أَنه لَا يصلى عَلَيْهِ مَعَ الشَّك فِي ذَلِك، ذكره فِي (الْمُفِيد) و (الْمَزِيد) وبقولنا قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى وَعَائِشَة وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ ثمَّ هَل يشْتَرط فِي جَوَاز الصَّلَاة على قَبره كَونه مَدْفُونا بعد الْغسْل؟ فَالصَّحِيح: أَنه يشْتَرط. وروى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه لَا يشْتَرط. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَيصلى عَلَيْهِ قبل أَن يتفسخ، وَالْمُعْتَبر فِي ذَلِك أكبر الرَّأْي، أَي: غَالب، فَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه تفسخ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه لم يتفسخ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَإِذا شكّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ. وَعَن أبي يُوسُف: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَبعدهَا لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يصلونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام.
وللشافعية سِتَّة أوجه: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، إِلَى شهر كَقَوْل أَحْمد، مَا لم يبل جسده. يُصَلِّي عَلَيْهِ من كَانَ من أهل الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. يُصَلِّي من كَانَ من أهل فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ يَوْم مَوته. يُصَلِّي عَلَيْهِ أبدا. فعلى هَذَا تجوز الصَّلَاة على قُبُور الصَّحَابَة وَمن قبلهم الْيَوْم، وَاتَّفَقُوا على تَضْعِيفه، وَمِمَّنْ صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ والمحاملي والفواراني وَالْبَغوِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ. وَقَالَ إِسْحَق يُصَلِّي القادم من السّفر إِلَى شهر، والحاضر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام. وَقَالَ سَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: لَا يصلى(8/121)
على الْقَبْر، سدا للذريعة فِي الصَّلَاة على الْقُبُور. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لما اخْتلفت الْأَحْوَال فِي ذَلِك فوض الْأَمر إِلَى رَأْي المبتلي بِهِ. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قَتْلَى أحد بعد ثَمَان سِنِين؟ قلت: حمل ذَلِك على الدُّعَاء، قَالَه بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْمًا فصلى على قَتْلَى أحد صلَاته على الْمَيِّت. قلت: الْجَواب السديد أَن أَجْسَادهم لم تبل.
65 - (بابُ سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَالْمرَاد من السّنة مَا شَرعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْجِنَازَة من الشَّرَائِط، والأركان. وَمن الشَّرَائِط أَنَّهَا لَا تجوز بِغَيْر الطَّهَارَة، وَلَا تجوز عُريَانا، وَلَا تجوز بِغَيْر اسْتِقْبَال الْقبْلَة. وَمن الْأَركان: التَّكْبِيرَات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ بَيَان جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، وَكَونهَا مَشْرُوعَة، وَإِن لم تكن ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود فاستدل عَلَيْهِ تَارَة بِإِطْلَاق اسْم الصَّلَاة عَلَيْهِ، والآمر بهَا. وَتارَة بِإِثْبَات مَا هُوَ من خَصَائِص الصَّلَاة، نَحْو: عدم التَّكَلُّم فِيهَا، وَكَونهَا مفتتحة بِالتَّكْبِيرِ مختتمة بِالتَّسْلِيمِ وَعدم صِحَّتهَا إلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَعدم أَدَائِهَا عِنْد الْوَقْت الْمَكْرُوه، وبرفع الْيَد وَإِثْبَات الأحقية بِالْإِمَامَةِ، ولوجوب طلب المَاء لَهُ وَالدُّخُول فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَيكون استفتاحها بِالتَّكْبِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ} . فَإِنَّهُ أطلق الصَّلَاة عَلَيْهِ، حَيْثُ نهى عَن فعلهَا، وبكونها ذَات صُفُوف وَإِمَام، وَحَاصِله أَن الصَّلَاة لفظ مُشْتَرك بَين ذَات الْأَركان الْمَخْصُوصَة من الرُّكُوع وَنَحْوه، وَبَين صَلَاة الْجِنَازَة، وَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا. انْتهى. قلت: فِي قَوْله: وَحَاصِله ... إِلَى آخِره، فِيهِ نظر، لِأَن الصَّلَاة فِي اللُّغَة وَالدُّعَاء والاتباع، وَقد اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِيمَا لم يجد فِيهِ الدُّعَاء والاتباع: كَصَلَاة الْأَخْرَس المنفردة، وَصَلَاة من لَا يقدر على الْقِرَاءَة وَحده، ثمَّ إِن الشَّارِع استعملها فِي غير مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَغلب اسْتِعْمَالهَا فِيهَا بِحَيْثُ يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى الْمَعْنى الَّذِي استعملها الشَّارِع فِيهِ عِنْد الْإِطْلَاق، وَهِي مجَاز هجرت حَقِيقَته بِالشَّرْعِ فَصَارَت حَقِيقَة شَرْعِيَّة، وَلَيْسَت بمشتركة بَين الصَّلَاة الْمَعْهُودَة فِي الشَّرْع وَبَين صَلَاة الْجِنَازَة، فَلَا تكون حَقِيقَة شَرْعِيَّة فيهمَا، وَلَا يفهم من كَلَام البُخَارِيّ الَّذِي نَقله عَنهُ الْكرْمَانِي أَن إِطْلَاق لفظ الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بطرِيق الْحَقِيقَة لَا بطرِيق الِاشْتِرَاك بَين الصَّلَاة الْمَعْهُودَة وَصَلَاة الْجِنَازَة.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ صَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ
هَذَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من صلى على الْجِنَازَة ... فَأطلق بِلَفْظ (صلى على الْجِنَازَة) ، وَلم يقل: من دَعَا للجنازة، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مَوْصُولا فِي: بَاب من انْتظر حَتَّى تدفن، وَلَكِن لَفْظَة: (من شهد الْجِنَازَة حَتَّى يُصَلِّي فَلهُ قِيرَاط) الحَدِيث، وَلَفظ مُسلم: (من صلى على جَنَازَة وَلم يتبعهَا فَلهُ قِيرَاط، وَإِن تبعها فَلهُ قيراطان) .
وَقَالَ صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ
هَذَا اسْتدلَّ بِهِ على مَا ذهب إِلَيْهِ من إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: (صلوا) ، وَهُوَ طرف من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، أخرجه مَوْصُولا فِي أَوَائِل الْحِوَالَة مطولا، وأوله: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أُتِي بِجنَازَة، فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا) الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ: (هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير! قَالَ: صلوا على صَاحبكُم) . الحَدِيث.
وَقَالَ صلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ
هَذَا أَيْضا بطرِيق الْأَمر، وَقد تقدم هَذَا فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَلَكِن لَفظه هُنَا، فصلوا عَلَيْهِ.
سَمَّاهَا صَلاَةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ
أَي: سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَيْئَة الْخَاصَّة الَّتِي يدعى فِيهَا للْمَيت: صَلَاة، وَالْحَال أَنه لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود، وَلَكِن التَّسْمِيَة لَيست بطرِيق الْحَقِيقَة، وَلَا بطرِيق الِاشْتِرَاك، وَلَكِن بطرِيق الْمجَاز.
وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيها وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ
أَي: وَلَا يتَكَلَّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَهَذَا أَيْضا من جملَة جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة بِإِثْبَات مَا هُوَ من(8/122)
خَصَائِص الصَّلَاة، وَهُوَ عدم التَّكَلُّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة كَالصَّلَاةِ. قَوْله: (وفيهَا) أَي: وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة (تَكْبِير وَتَسْلِيم) كَمَا فِي الصَّلَاة. أما التَّكْبِير فَلَا خلاف فِيهِ، وَأما التَّسْلِيم فمذهب أبي حنيفَة أَنه يسلم تسليمتين، وَاسْتدلَّ لَهُ بِحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى أَنه يسلم عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: (لَا أَزِيدكُم على مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع أَو هَكَذَا يصنع) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: حَدِيث صَحِيح. وَفِي (المُصَنّف) بِسَنَد جيد عَن جَابر بن زيد وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَنهم كَانُوا يسلمُونَ تسليمتين. وَفِي (الْمعرفَة) : روينَا عَن أبي عبد الرَّحْمَن (عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: ثَلَاث كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعلهن، تركهن النَّاس: إِحْدَاهُنَّ: التَّسْلِيم على الْجِنَازَة مثل التسليمتين فِي الصَّلَاة، وَقَالَ قوم: يسلم تَسْلِيمَة وَاحِدَة) روى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي أُمَامَة بن سهل وَأنس وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق.
ثمَّ: هَل يسرّ بهَا أَو يجْهر؟ فَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِخْفَاؤُهَا، وَعَن مَالك: يسمع بهَا من يَلِيهِ، وَعَن أبي يُوسُف: لَا يجْهر كل الْجَهْر وَلَا يسر كل الْإِسْرَار وَلَا يرفع يَدَيْهِ إلاَّ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، لما روى التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، مَرْفُوعا: (إِذا صلى على جَنَازَة يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة) . وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ لَا يعود) ، وَعَن ابْن عَبَّاس عِنْده مثله بِسَنَد فِيهِ الْحجَّاج ابْن نصير. وَفِي (الْمَبْسُوط) : أَن ابْن عمر وعليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَا: لَا ترفع الْيَد فِيهَا، إلاَّ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عمر، ثمَّ قَالَ: لم يَأْتِ بِالرَّفْع فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع. وَحكى فِي (المُصَنّف) عَن النَّخعِيّ وَالْحسن بن صَالح: أَن الرّفْع فِي الأولى فَقَط، وَحكى ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على الرّفْع فِي أول تَكْبِيرَة، وَعند الشَّافِعِيَّة: يرفع فِي الْجَمِيع، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَرُوِيَ مثل قَوْلنَا عَن ابْن عمر وَسَالم وَعَطَاء وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.
وكانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي إلاَّ طاهِرا وَلاَ تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
هَذَا أَيْضا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.
هَذِه ثَلَاث مسَائِل.
الأولى: أَن عبد الله ابْن عمر كَانَ لَا يُصَلِّي على الْجِنَازَة إلاَّ بِطَهَارَة، وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الشّعبِيّ، فَإِنَّهُ أجَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة بِغَيْر طَهَارَة، قَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاء لَيْسَ فِيهَا رُكُوع وَلَا سُجُود. قَالَ: وَالْفُقَهَاء مجمعون من السّلف وَالْخلف على خلاف قَوْله. انْتهى. قلت: وَقَالَ بِهِ أَيْضا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والشيعة، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن علية: الصَّلَاة على الْمَيِّت اسْتِغْفَار، وَالِاسْتِغْفَار يجوز بِغَيْر وضوء، وأوصل هَذَا التَّعْلِيق مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع بِلَفْظ: أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول: لَا يُصَلِّي الرجل على الْجِنَازَة إلاَّ وَهُوَ طَاهِر. وَأما إِطْلَاق الطَّهَارَة فَيتَنَاوَل الْوضُوء وَالتَّيَمُّم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز التَّيَمُّم للجنازة مَعَ وجود المَاء إِذا خَافَ فَوتهَا بِالْوضُوءِ، وَكَانَ الْوَلِيّ غَيره، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ، وَعَطَاء وَسَالم وَالنَّخَعِيّ وَعِكْرِمَة وَسعد بن إِبْرَاهِيم وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَابْن وهب، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد، وروى ابْن عدي عَن ابْن عَبَّاس (مَرْفُوعا) (إِذا فجأتك جَنَازَة وَأَنت على غير وضوء فَتَيَمم) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنهُ مَوْقُوفا. وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الحكم وَالْحسن، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يتَيَمَّم. وَقَالَ ابْن حبيب: الْأَمر فِيهِ وَاسع، وَنقل ابْن التِّين عَن ابْن وهب أَنه يتَيَمَّم إِذا خرج طَاهِرا فأحدث، وَإِن خرج مَعهَا على غير طَهَارَة لم يتَيَمَّم.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: أَن عبد الله بن عمر مَا كَانَ يُصَلِّي على الْجِنَازَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَلَا عِنْد غُرُوبهَا لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن أنيس بن أبي يحيى عَن أَبِيه أَن جَنَازَة وضعت، فَقَامَ ابْن عمر قَائِما فَقَالَ: أَيْن ولي هَذِه الْجِنَازَة؟ ليصل عَلَيْهَا قبل أَن يطلع قرن الشَّمْس. وَحدثنَا وَكِيع عَن جَعْفَر بن برْقَان عَن مَيْمُون، قَالَ: كَانَ ابْن عمر يكره الصَّلَاة على الْجِنَازَة إِذا طلعت الشَّمْس حَتَّى تغيب، وَحدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بكر، يَعْنِي ابْن حَفْص، قَالَ: كَانَ ابْن عمر إِذا كَانَت الْجِنَازَة صلى الْعَصْر ثمَّ قَالَ: عجلوا بهَا قبل أَن تطفل الشَّمْس. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة الصَّلَاة على الْجِنَازَة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، ثمَّ روى حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهَا، ونقبر فِيهِنَّ مَوتَانا، حِين تطلع الشَّمْس: بازغة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) . وَأخرجه مُسلم وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن أَيْضا، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على(8/123)
هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، يكْرهُونَ الصَّلَاة على الْجِنَازَة فِي هَذِه الْأَوْقَات، وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: معنى هَذَا الحَدِيث أَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا، يَعْنِي: الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا بَأْس أَن يصلى على الْجِنَازَة فِي السَّاعَات الَّتِي تكره فِيهَا الصَّلَاة.
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة: هِيَ قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) ، أَي: وَيرْفَع ابْن عمر يَدَيْهِ فِي صَلَاة الْجِنَازَة، قَالَ بَعضهم: وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب (رفع الْيَدَيْنِ) الْمُفْرد من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي كل تَكْبِيرَة على الْجِنَازَة. قلت: قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) . مُطلق يتَنَاوَل الرّفْع فِي أول التَّكْبِيرَات ويتناول الرّفْع فِي جَمِيعهَا، وَعدم تَقْيِيد البُخَارِيّ ذَلِك يدل على أَن الَّذِي رَوَاهُ فِي كتاب (رفع الْيَدَيْنِ) غير مرضِي عِنْده، إِذْ لَو كَانَ رَضِي بِهِ لَكَانَ ذكره فِي (الصَّحِيح) أَو قيد قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) بِلَفْظ: فِي التَّكْبِيرَات كلهَا، على أَنا قد ذكرنَا عَن قريب أَن ابْن حزم حكى عَن ابْن عمر أَنه لم يرفع إلاَّ فِي الأولى. وَقَالَ: لم يَأْتِ فِيمَا عدا الأولى نَص وَلَا إِجْمَاع، وَذكرنَا عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس مثله. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي الْكل؟ قلت: إِسْنَاده ضَعِيف فَلَا يحْتَج بِهِ، وَالله تَعَالَى أعلم.
وَقَالَ الحَسَنُ أدْرَكْتُ النَّاسَ وَأحَقُّهُمْ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ
هَذَا أَيْضا من جملَة مَا يسْتَدلّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة، فَإِن الَّذين أدركهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار كَانُوا يلحقون صَلَاة الْجِنَازَة بالصلوات، وَلِهَذَا مَا كَانَ أَحَق بِالصَّلَاةِ على الْجِنَازَة إلاَّ من كَانَ يُصَلِّي لَهُم الْفَرَائِض، وَالْوَاو فِي: وأحقهم، للْحَال وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله: من، وَهِي مَوْصُولَة، يَعْنِي: الَّذين. وَقَوله: رضوهم، صلتها. وَقَوله: رضوهم بضمير الْجمع رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: رضوه، بإفراد الضَّمِير. وَهَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء. قَالَ ابْن بطال: أَكثر أهل الْعلم قَالَ: الْوَالِي أَحَق من الْوَلِيّ، رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة، مِنْهُم: عَلْقَمَة وَالْأسود وَالْحسن، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: الْوَلِيّ أَحَق من الْوَالِي، وَقَالَ مطرف وَابْن عبد الحكم وَأصبغ: لَيْسَ ذَلِك إلاَّ إِلَى من أليه الصَّلَاة من قَاض أَو صَاحب شرطة أَو خَليفَة الْوَالِي الْأَكْبَر، وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الْوَالِي الْأَكْبَر الَّذِي يُؤَدِّي إِلَيْهِ الطَّاعَة، وَحكى ابْن أبي شيبَة عَن النَّخعِيّ وابي بردة وَابْن أبي ليلى وَطَلْحَة وزبيد وسُويد بن غَفلَة: تَقْدِيم إِمَام الْحَيّ، وَعَن أبي الشعْثَاء وَسَالم وَالقَاسِم وطاووس وَمُجاهد وَعَطَاء: أَنهم كَانُوا يقدمُونَ الإِمَام على الْجِنَازَة، وروى الثَّوْريّ عَن أبي حَازِم قَالَ: شهِدت الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قدم سعيد بن الْعَاصِ يَوْم مَاتَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقَالَ لَهُ: تقدم، فلولا السّنة مَا قدمتك، وَسَعِيد يَوْمئِذٍ أَمِير الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب أَعلَى من هَذَا، لِأَن شَهَادَة الْحسن شَهِدَهَا عوام النَّاس من الصَّحَابَة والمهاجرين وَالْأَنْصَار.
وَإذَا أحْدَثَ يَوْمَ العِيدِ أوْ عِنْدَ الجَنَازَةِ يِطْلُبُ المَاءَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ
الظَّاهِر أَن هَذَا من بَقِيَّة كَلَام الْحسن، لِأَن ابْن أبي شيبَة روى عَن حَفْص على أَشْعَث عَن الْحسن أَنه سُئِلَ عَن الرجل يكون فِي الْجِنَازَة على غير وضوء، قَالَ: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي إلاَّ على طهر. فَإِن قلت: روى سعيد بن مَنْصُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن كثير بن شنظير، قَالَ: سُئِلَ الْحسن عَن الرجل يكون فِي الْجِنَازَة على غير وضوء، فَإِن ذهب يتَوَضَّأ تفوته. قَالَ: يتَيَمَّم وَيُصلي. قلت: يحمل هَذَا على أَنه روى عَنهُ رِوَايَتَانِ، وَيدل ذكر البُخَارِيّ هَذَا على أَنه لم يقف عَن الْحسن إلاَّ على مَا روى عَنهُ من عدم جَوَاز الصَّلَاة على الْجِنَازَة إلاَّ بِالْوضُوءِ، أما التَّيَمُّم لصَلَاة الْجِنَازَة فقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
وَأما التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد فعلى التَّفْصِيل عندنَا، وَهُوَ أَنه إِن كَانَ قبل الشُّرُوع فِي صَلَاة الْعِيد لَا يجوز للْإِمَام، لِأَنَّهُ ينْتَظر، وَأما الْمُقْتَدِي فَإِن كَانَ المَاء قَرِيبا بِحَيْثُ لَو تَوَضَّأ لَا يخَاف الْفَوْت لَا يجوز، وإلاَّ فَيجوز، فَلَو أحدث أَحدهمَا بعد الشُّرُوع بِالتَّيَمُّمِ يتَيَمَّم وَإِن كَانَ الشُّرُوع بِالْوضُوءِ وَخَافَ ذهَاب الْوَقْت لَو تَوَضَّأ، فَكَذَلِك عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما. وَفِي (الْمُحِيط) وَإِن كَانَ الشُّرُوع بِالْوضُوءِ وَخَافَ زَوَال الشَّمْس لَو تَوَضَّأ يتَيَمَّم بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ فَإِن كَانَ يَرْجُو إِدْرَاك الإِمَام قبل الْفَرَاغ لَا يتَيَمَّم بِالْإِجْمَاع، وإلاَّ يتَيَمَّم وَيَبْنِي عِنْد أبي حنيفَة. وَقَالا: يتَوَضَّأ وَلَا يتَيَمَّم، فَمن الْمَشَايِخ من قَالَ: هَذَا اخْتِلَاف عصر وزمان، فَفِي زمن أبي حنيفَة كَانَت(8/124)
الْجَبانَة بعيدَة من الْكُوفَة، وَفِي زمنهما كَانُوا يصلونَ فِي جبانة قريبَة، وَعند الشَّافِعِي: لَا يجوز التَّيَمُّم لصَلَاة الْعِيد أَدَاء وَبِنَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَاس الشَّافِعِي صَلَاة الْجِنَازَة والعيد على الْجُمُعَة، وَقَالَ: تفوت الْجُمُعَة بِخُرُوج الْوَقْت بِالْإِجْمَاع، والجنازة لَا تفوت بل يصلى على الْقَبْر إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام بِالْإِجْمَاع، وَيجوز بعْدهَا عندنَا.
وإذَا انْتَهِى إلَى الجنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ
هَذَا بَقِيَّة من كَلَام الْحسن أَيْضا، أَي: إِذا انْتهى الرجل إِلَى الْجِنَازَة وَالْحَال أَن الْجَمَاعَة يصلونَ يدْخل مَعَهم بتكبيرة، وَقد وَصله ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا معَاذ عَن أَشْعَث عَن الْحسن فِي الرجل يَنْتَهِي إِلَى الْجِنَازَة وهم يصلونَ عَلَيْهَا، قَالَ: يدْخل مَعَهم بتكبيرة، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن مُحَمَّد، قَالَ: يكبر مَا أدْرك وَيَقْضِي مَا سبقه. وَقَالَ الْحسن: يكبر مَا أدْرك وَلَا يقْضِي مَا سبقه، وَعِنْدنَا لَو كبر الإِمَام تَكْبِيرَة أَو تكبيرتين لَا يكبر الْآتِي حَتَّى يكبر الإِمَام تَكْبِيرَة أُخْرَى عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، ثمَّ إِذا كبر الإِمَام يكبر مَعَه، فَإِذا فرغ الإِمَام كبر هَذَا الْآتِي مَا فَاتَهُ قبل أَن ترفع الْجِنَازَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يكبر حِين يحضر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعَن أَحْمد مُخَيّر، وقولهما هُوَ قَول الثَّوْريّ والْحَارث بن يزِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَإِسْحَاق وَأحمد فِي رِوَايَة.
وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبُ يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أرْبَعا
أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: يكبر الرجل فِي صَلَاة الْجِنَازَة سَوَاء كَانَت بِاللَّيْلِ أَو بِالنَّهَارِ، وَسَوَاء كَانَت فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر أَرْبعا أَي: أَربع تَكْبِيرَات، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي عدد التَّكْبِيرَات.
وقَالَ أنسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ التَّكْبِيرَةُ الوَاحِدَةِ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ
هَذَا أَيْضا مِمَّا يدل على مَا قَالَه البُخَارِيّ من جَوَاز إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة حَيْثُ أثبت لَهَا تَكْبِيرَة الاستفتاح، كَمَا فِي صَلَاة الْفَرْض، وروى سعيد بن مَنْصُور مَا يتَضَمَّن مَا ذكره البُخَارِيّ عَن أنس عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق، قَالَ زُرَيْق بن كريم لأنس بن مَالك: رجل صلى فَكبر ثَلَاثًا؟ قَالَ أنس: أوليس التَّكْبِير ثَلَاثًا؟ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة، التَّكْبِير أَربع. قَالَ: أجل غير أَن وَاحِدَة هِيَ افْتِتَاح الصَّلَاة.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ
هَذَا مَعْطُوف على أصل التَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: بَاب سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، فَإِنَّهُ أطلق عَلَيْهِ الصَّلَاة حَيْثُ نهى عَن فعلهَا على أحد من الْمُنَافِقين.
وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإمَامٌ
هَذَا عطف على قَوْله: وفيهَا تَكْبِير وَتَسْلِيم، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى صَلَاة الْجِنَازَة، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور أَو بِاعْتِبَار فعل الصَّلَاة، أَرَادَ أَن كَون الصُّفُوف فِي صَلَاة الْجِنَازَة وَكَون الإِمَام فِيهَا يدلان على إِطْلَاق الصَّلَاة على صَلَاة الْجِنَازَة.
2231 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ أَخْبرنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَقُلْنَا يَا أبَا عَمْرٍ ومَنْ حَدَّثَكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأمنا فصففنا) ، لِأَن الْإِمَامَة وتسوية الصُّفُوف من سنة صَلَاة الْجِنَازَة، والْحَدِيث قد مر فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَقبل قبله، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل. قَوْله: (يابا عَمْرو) أَصله: يَا أَبَا عَمْرو، حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَأَبُو عَمْرو هَذَا هُوَ الشّعبِيّ.(8/125)
75 - (بابُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل اتِّبَاع الْجَنَائِز، وَالْمرَاد من الإتباع أَن يتبع الْجِنَازَة وَيُصلي عَلَيْهَا، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يتبع ثمَّ ينْصَرف بِغَيْر صَلَاة. فَإِن قلت: مَا تدل التَّرْجَمَة على الحكم؟ قلت: المُرَاد إِثْبَات الْأجر وَالتَّرْغِيب فِيهِ لَا تعْيين الحكم وَقيل: المُرَاد من الِاتِّبَاع الْقدر الَّذِي يحصل بِهِ مُسَمَّاهُ الَّذِي يحصل بِهِ القيراط من الْأجر.
وقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ: إذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة على الْمَيِّت لَا تحصل إِلَّا باتباعه، وَزيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك بن زيد الْأنْصَارِيّ النجاري أَبُو خَارِجَة الْمدنِي، قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَهُوَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة، وَكَانَ يكْتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة، وَمن أَصْحَاب الْفَتْوَى، توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عُرْوَة عَنهُ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت: (إِذا صليتم على الْجِنَازَة فقد قضيتم مَا عَلَيْكُم فَخلوا بَينهَا وَبَين أَهلهَا) . قَوْله: (إِذا صليت) أَي: على الْمَيِّت (فقد قضيت) حَقه (الَّذِي عَلَيْك) ، من الْوَاجِب الَّذِي هُوَ على الْكِفَايَة، وَإِذا أَرَادَ الِاتِّبَاع بعد ذَلِك إِلَى قَبره فَلهُ زِيَادَة الْأجر.
وَقَالَ حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ: مَا عَلِمْنَا علَى الجَنَازَةِ إذْنا وَلاكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من صلى ثمَّ رَجَعَ) لِأَن الصَّلَاة تكون بالاتباع، وَحميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن هِلَال ابْن هُبَيْرَة أَبُو نصر الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، مر فِي: بَاب يرد الْمُصَلِّي من يمر بَين يَدَيْهِ. قَوْله: (إِذْنا) ، بِكَسْر الْهمزَة أَي، مَا ثَبت عندنَا أَنه يُؤذن على الْجِنَازَة، وَلَكِن ثَبت من صلى ... إِلَى آخِره، هَذَا أَن الصَّلَاة على الْجِنَازَة حق الْمَيِّت، ولابتغاء الْفضل وَلَيْسَ للأولياء فِيهَا حق حَتَّى يتَوَقَّف الِانْصِرَاف بعد الصَّلَاة على الْأذن. وَفِي هَذَا الْبَاب اخْتِلَاف، فَروِيَ عَن زيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن وَقَتَادَة وَابْن سِيرِين وَأبي قلَابَة: أَنهم كَانُوا يَنْصَرِفُونَ بعد الصَّلَاة وَلَا يستأذنون، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، وَقَالَت طَائِفَة: لَا بُد من الْإِذْن فِي ذَلِك، وَرُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة والمسور بن مخرمَة وَالنَّخَعِيّ: أَنهم كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ حَتَّى يستأذنون، وروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك قَالَ: لَا يجب لمن يشْهد جَنَازَة أَن ينْصَرف عَنْهَا حَتَّى يُؤذن لَهُ، إلاَّ أَن يطول ذَلِك. فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب (عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مَعَ الْجِنَازَة يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع حَتَّى يسْتَأْذن وَليهَا) الحَدِيث، وروى الْبَزَّار من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: (أميران وليسا بأميرين: الْمَرْأَة تحج مَعَ الْقَوْم فتحيض، وَالرجل يتبع الْجِنَازَة فَيصَلي عَلَيْهَا لَيْسَ لَهُ أَن يرجع حَتَّى يستأمر أهل الْجِنَازَة) . وروى أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (من تبع جَنَازَة فَحمل من علوها، وحثى فِي قبرها، وَقعد حَتَّى يُؤذن لَهُ رَجَعَ بقيراطين) . قلت: أما حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ مُنْقَطع مَوْقُوف. فَإِن قلت: روى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا أَيْضا؟ قلت: قَالَ أَبُو جَعْفَر الْعقيلِيّ: لم يُتَابع عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث جَابر فَهُوَ ضَعِيف، وَكَذَلِكَ حَدِيث أَحْمد ضَعِيف.
3231 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ نافِعا يَقُولُ حُدِّثَ ابنُ عُمَرَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يقُولُ مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا. فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عائِشَةَ أبَا هُرَيْرَةَ وَقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُهُ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مضوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم(8/126)
وبكسر الرَّاء المكررة: ابْن حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، سبق فِي: بَاب يسْتَقْبل الإِمَام النَّاس إِذا سلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا كَمَا أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا من رِوَايَة نَافِع عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا من رِوَايَة سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من رِوَايَة سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن رِوَايَة يزِيد بن كيسَان عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة خباب صَاحب الْمَقْصُورَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من رِوَايَة سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن عَمْرو حَدثنَا أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن تبعها حَتَّى يقْضِي دَفنهَا فَلهُ قيراطان أَحدهمَا أَو أصغرهما مثل أحد، فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عمر، فَأرْسل إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك، فَقَالَت: صدق أَبُو هُرَيْرَة، فَقَالَ ابْن عمر: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) . وَفِي الْبَاب عَن الْبَراء رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تبع جَنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا كَانَ لَهُ من الْأجر قِيرَاط، وَمن مَشى مَعَ الْجِنَازَة حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ من الْأجر قيراطان، والقيراط مثل أحد) ، وَعَن عبد الله بن الْمُغَفَّل روى حَدِيثه النَّسَائِيّ أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تبع جَنَازَة حَتَّى يفرغ مِنْهَا فَلهُ قيراطان، فَإِن رَجَعَ قبل أَن يفرغ مِنْهَا فَلهُ قِيرَاط. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، روى حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَتَى الْجِنَازَة عِنْد أَهلهَا فَمشى مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان مثل أحد) . وَعَن أبي بن كَعْب أخرج حَدِيثه ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، وَمن شَهِدَهَا حَتَّى تدفن فَلهُ قِيرَاط، وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ القيراط أعظم من أحد) . وَعَن ابْن عمر: أخرج حَدِيثه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، وَعَن ثَوْبَان أخرج حَدِيثه مُسلم وَابْن مَاجَه، عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط، فَإِن شهد دَفنهَا فَلهُ قيراطان، القيراط مثل أحد) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حدث) ، بِضَم الْحَاء على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي وَلم يبين فِي شَيْء من الطّرق من كَانَ حدث ابْن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بذلك، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه بَين فِي موضِعين أَحدهمَا فِي (صَحِيح مُسلم) : حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، قَالَ: حَدثنَا حَيْوَة بن صَخْر عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط أَنه حدث أَن دَاوُد بن عَامر ابْن سعد بن أبي وَقاص حَدثهُ عَن أَبِيه أَنه كَانَ قَاعِدا عِنْد عبد الله بن عمر إِذْ طلع خباب صَاحب الْمَقْصُورَة، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عمر ألاَ تسمع مَا يَقُول أَبُو هُرَيْرَة؟ إِنَّه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من خرج مَعَ جَنَازَة من بَيتهَا وَصلى عَلَيْهَا ثمَّ تبعها حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ قيراطان من الْأجر مثل أحد، وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ من الْأجر مثل أحد. فَأرْسل ابْن عمر خبابا إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن قَول أبي هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ يُخبرهُ مَا قَالَت، وَأخذ ابْن عمر قَبْضَة من حَصْبَاء الْمَسْجِد يقلبها فِي يَده حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُول، فَقَالَ: قَالَت عَائِشَة: صدق أَبُو هُرَيْرَة، فَضرب ابْن عمر بالحصباء الَّذِي كَانَ فِي يَده ثمَّ قَالَ: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) . والموضع الآخر فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أَن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: من تبع) كَذَا فِي جَمِيع الطّرق لم يذكر فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن رَاشد عَن أبي النُّعْمَان شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن مهْدي بن الْحَارِث عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن أبي أُميَّة عَن أبي النُّعْمَان وَعَن التسترِي عَن شَيبَان، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير بن حَازِم عَن نَافِع، قَالَ: قيل لِابْنِ عمر: إِن أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من تبع جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط من الْأجر) ، فَذكره. قَوْله: (من تبع جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط) ، زَاد مُسلم فِي رِوَايَته: (من الْأجر. .) والقيراط، بِكَسْر الْقَاف. قَالَ الْكرْمَانِي:(8/127)
القيراط لُغَة: نصف دانق، وَالْمَقْصُود مِنْهُ هُنَا النَّصِيب. وَقيل: القيراط جُزْء من أَجزَاء الدِّينَار، وَهُوَ نصف عشره فِي أَكثر الْبِلَاد، وَأهل الشَّام يجعلونه جُزْءا من أَرْبَعَة وَعشْرين، وَأَصله: القراط، يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ بِدَلِيل جمعه بالقراريط، فأبدل إِحْدَى الراءين يَاء. وَعَن ابْن عقيل: القيراط نصف سدس دِرْهَم أَو نصف عشر دِينَار. وَقيل: المُرَاد بالقيراط هَهُنَا جُزْء من أَجزَاء مَعْلُومَة عِنْد الله تَعَالَى، وَقد قربهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للفهم بتمثيله القيراط بِأحد، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَوْله: (مثل أحد) تَفْسِير للمقصود من الْكَلَام لَا للفظ القيراط، وَالْمرَاد مِنْهُ أَن يرجع بِنَصِيب من الْأجر، وَذَلِكَ لِأَن لفظ القيراط مُبْهَم من وَجْهَيْن فَبين الْمَوْزُون بقوله: (من الْأجر) وَبَين الْمِقْدَار المُرَاد مِنْهُ بقوله: (مثل أحد) . فَإِن قلت: لِمَ خص القيراط بِالذكر؟ قلت: لِأَن غَالب مَا تقع بِهِ معاملتهم كَانَ بالقيراط.
وَقد ورد لفظ القيراط فِي عدَّة أَحَادِيث: فَمِنْهَا: مَا يحمل على القيراط الْمُتَعَارف. وَمِنْهَا: مَا يحمل على الْجُزْء وَإِن لم تعرف النِّسْبَة، فَمن الأول: حَدِيث كَعْب بن مَالك: (إِنَّكُم ستفتحون بَلَدا يذكر فِيهَا القيراط) ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا (كنت أرى الْغنم لأهل مَكَّة بالقراريط) . قَالَ ابْن مَاجَه عَن بعض شُيُوخه، يَعْنِي: كل شَاة بقيراط، وَقَالَ غَيره: قراريط جبل بِمَكَّة، وَمن الْمُحْتَمل حَدِيث ابْن عمر الَّذين أعْطوا الْكتاب أعْطوا قيراطا قيراطا، وَحَدِيث الْبَاب. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة: (من اقتنى كَلْبا نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وَقد جَاءَ فِي حَدِيث مُسلم، وَغَيره: (القيراط مثل أحد) ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَأْتِي: القيراطان مثل الجبلين العظيمين، وَهَذَا تَمْثِيل واستعارة، وَيجوز أَن يكون حَقِيقَة بِأَن يَجْعَل الله عمله ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة عين يُوزن كَمَا توزن الْأَجْسَام، وَيكون قدر هَذَا كَقدْر أحد. فَإِن قلت: التَّمْثِيل بِأحد مَا وَجه تَخْصِيصه؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبا من المخاطبين وَكَانَ أَكْثَرهم يعرفونه كَمَا يَنْبَغِي، وَقيل: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَقه: (إِنَّه جبل يحبنا وَنحن نحبه) . وَقيل: لِأَنَّهُ أعظم الْجبَال خلقا. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: قَالَ ابْن عمر: أَكثر أَبُو هُرَيْرَة علينا. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: فِي ذكر الْأجر أَو فِي رِوَايَة الحَدِيث، خَافَ لِكَثْرَة رواياته أَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر، فِيهِ لَا أَنه نسبه إِلَى رِوَايَة مَا لم يسمع لِأَن مرتبتهما أجل من ذَلِك وَقَالَ ابْن التِّين لم يهتم ابْن عمر بل خشِي عَلَيْهِ السَّهْو أَو قَالَ ذَلِك لكَونه لم ينْقل لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه رَفعه، فَظن أَنه قَالَ بِرَأْيهِ، فاستنكره. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سَلمَة عِنْد سعيد ابْن مَنْصُور، فَبلغ ذَلِك ابْن عمر فتعاظمه، وَفِي رِوَايَة الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن عِنْد سعيد أَيْضا ومسدد وَأحمد بِإِسْنَاد صَحِيح: فَقَالَ ابْن عمر: يَا أَبَا هُرَيْرَة أنظر مَا تحدث من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله: (فصدقت) يَعْنِي عَائِشَة أَبَا هُرَيْرَة، لفظ: يَعْنِي، من البُخَارِيّ، كَأَنَّهُ شكّ فاستعملها، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي النُّعْمَان شيخ البُخَارِيّ فَلم يقلها، وَقد ذكرنَا رِوَايَة مُسلم وفيهَا: فَبعث ابْن عمر إِلَى عَائِشَة فَسَأَلَهَا فصدقت أَبَا هُرَيْرَة، وَقد ذكرنَا أَيْضا عَن التِّرْمِذِيّ: (فَأرْسل إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك فَقَالَت: صدق أَبُو هُرَيْرَة) . فَإِن قلت: روى سعيد بن مَنْصُور من حَدِيث الْوَلِيد بن عبد الرَّحْمَن: (فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَة فَأخذ بِيَدِهِ فَانْطَلقَا حَتَّى أَتَيَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أنْشدك الله أسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول؟ فَذكره، فَقَالَت: أللهم نعم) . قلت: التَّوْفِيق فِي ذَلِك بِأَن الرَّسُول لما رَجَعَ إِلَى ابْن عمر بِخَبَر عَائِشَة بلغ ذَلِك أَبَا هُرَيْرَة فَمشى إِلَى ابْن عمر فأسمعه ذَلِك من عَائِشَة مشافهة، وَزَاد فِي رِوَايَة الْوَلِيد: (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لم يشغلني عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غرس بالوادي وَلَا صفق بالأسواق، وَإِنَّمَا كنت أطلب من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَكلَة يطعمنيها أَو كلمة يعلمنيها. قَالَ لَهُ ابْن عمر: كنت ألزمنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَعْلَمنَا بحَديثه) . قَوْله: (لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة) أَي: من عدم الْمُوَاظبَة على حُضُور الدّفن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَمْيِيز أبي هُرَيْرَة فِي الْحِفْظ، وَأَن إِنْكَار الْعلمَاء بَعضهم على بعض قديم، وَأَن الْعَالم يستغرب مَا لم يصل إِلَى علمه. وَفِيه: عدم مبالاة الْحَافِظ بإنكار من لم يحفظ. وَفِيه: مَا كَانَت الصَّحَابَة عَلَيْهِ من التثبت فِي الْعلم والْحَدِيث النَّبَوِيّ والتحرير فِيهِ. وَفِيه: دلَالَة على فَضِيلَة ابْن عمر من حرصه على الْعلم وتأسفه على مَا فَاتَهُ من الْعَمَل الصَّالح. وَفِيه: فِي قَوْله: (من تبع جَنَازَة) حجَّة لمن قَالَ: إِن الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها، لِأَن ذَلِك حَقِيقَة الِاتِّبَاع حسا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الَّذين رجحوا الْمَشْي أمامها حملُوا الإتباع هُنَا على الإتباع الْمَعْنَوِيّ، أَي: المصاحبة، وَهُوَ أَعم من(8/128)
أَن يكون أمامها أَو خلفهَا أَو غير ذَلِك. قلت: هَذَا تحكم، وَاتِّبَاع الرجل غَيره فِي اللُّغَة وَالْعرْف عبارَة عَن أَن يمشي وَرَاءه، وَلَيْسَ لما قَالَه وَجه من الْوُجُوه.
فَرَّطْتُ: ضَيَّعْتُ مِنْ أمْرِ الله
جرى دأب البُخَارِيّ أَنه يُفَسر الْكَلِمَة الغريبة من الحَدِيث إِذا وَافَقت كلمة من الْقُرْآن، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي الْقُرْآن: {يَا حسرتا على مَا فرطت فِي جنب الله} (الزمر: 65) . وَمَعْنَاهُ: ضيعت من أَمر الله، وَفِي جَمِيع الطّرق وَقع: فرطت ضيعت من أَمر الله، وَفِي بعض النّسخ: فرطت من أَمر الله أَي: ضيعت، وَهَذَا أشبه.
85 - (بابُ مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى يُدْفَنَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ثَوَاب من انْتظر الْمَيِّت أَي: لم يُفَارِقهُ حَتَّى يدْفن، يَعْنِي إِلَى أَن يدْفن، وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب الشَّرْط اكْتِفَاء بِمَا ذكر فِي الحَدِيث. وَقيل: إِنَّمَا لم يذكر توقفا عَن إِثْبَات الِاسْتِحْقَاق بِمُجَرَّد الِانْتِظَار إِن خلا عَن الِاتِّبَاع. فَإِن قلت: لفظ الحَدِيث (من شهد الْجِنَازَة) ، فَلم عدل عَنهُ إِلَى لفظ الِانْتِظَار. قلت: قيل: لينبه على أَن الْمَقْصُود من الشُّهُود إِنَّمَا هُوَ معاضدة أهل الْمَيِّت والتصدي لمعونتهم، وَذَلِكَ من الْمَقَاصِد الْمُعْتَبرَة. وَقَالَ بَعضهم: اخْتَار لفظ الِانْتِظَار لكَونه أَعم من الْمُشَاهدَة. انْتهى وَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نظر. أما الأول: فَلِأَنَّهُ إِذا عاضد أهل الْمَيِّت وتصدى لمعونتهم وَلم يصلِّ لَا يسْتَحق القيراط الْمَوْعُود بِهِ، وَكَذَلِكَ إِذا صلى وَلم يحضر الدّفن لَا يسْتَحق القيراطين الْمَوْعُود بهما. وَإِنَّمَا يسْتَحق قيراطا وَاحِدًا، فَعلم من ذَلِك أَن الْمَقْصُود من الشُّهُود لَيْسَ مُجَرّد الشُّهُود لأجل مَا ذكره. وَأما الثَّانِي: فَلَا نسلم أَن الِانْتِظَار أَعم من الْمُشَاهدَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين مفهوميهما عُمُوم وخصوص، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِنَّمَا اخْتَار لفظ الِانْتِظَار إِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه بِلَفْظ الِانْتِظَار فِي رِوَايَة الْبَزَّار، رَحمَه الله تَعَالَى: (فَإِن انتظرها حَتَّى تدفن فَلهُ قِيرَاط) . رَوَاهُ ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
5231 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ. قَالَ قَرَأْتُ عَلَى ابنِ أبِي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سألَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فقالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا هِشَامٌ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حدَّثنا أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا يُونُسُ. قَالَ ابنُ شِهَابٍ وحدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ الأعْرَجِ أنَّ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كانَ لَهُ قِيرَاطانِ قِيلَ وَما القِيرَاطانِ قَالَ مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ.
(أنظر الحَدِيث 74 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من شهد حَتَّى تدفن) إِذا جعل شهد بِمَعْنى حضر، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة عشر رجلا، لِأَنَّهُ رَوَاهُ من ثَلَاث طرق: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو سعيد، واسْمه كيسَان، وَهَؤُلَاء قد ذكرُوا غير مرّة. الْخَامِس: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. السَّادِس: هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء من أَبنَاء فَارس. السَّابِع: معمر ابْن رَاشد. الثَّامِن: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. التَّاسِع: سعيد بن الْمسيب. الْعَاشِر: أَحْمد بن شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن سعيد أَبُو عبد الله الحبطي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ. الْحَادِي عشر: أَبوهُ شبيب بن سعيد. الثَّانِي عشر: يُونُس بن يزِيد. الثَّالِث عشر: عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج. الرَّابِع عشر:(8/129)
أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. وَفِيه السُّؤَال وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: عبد الله بن مسلمة مدنِي سكن الْبَصْرَة، وَمعمر وَأحمد بن شبيب وَأَبوهُ بصريون، وَيُونُس أيلي، وَالْبَاقُونَ مدنيون. وَفِيه: عَن سعيد بن أبي سعيد، وَحكى الْكرْمَانِي أَن: عَن أَبِيه، سَاقِط فِي بعض الطّرق. قيل: الصَّوَاب إثْبَاته. وَكَذَا أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه والإسماعيلي وَغَيرهمَا من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب، وَسقط: عَن أَبِيه، عِنْد أبي عوَانَة فِي رِوَايَة ابْن عجلَان، وَعند ابْن أبي شيبَة كَذَلِك فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَعبد بن حميد بن زَنْجوَيْه فِي رِوَايَة أبي معشر.
ذكر من أخرجه غَيره: الطَّرِيق الأول لم يُخرجهُ غَيره من بَقِيَّة السِّتَّة. وَالطَّرِيق الثَّانِي: أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن نوح بن حبيب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَالطَّرِيق الثَّالِث: أخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَهَارُون بن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وحَدثني) ذكر بِلَفْظ: الْوَاو، عطفا على مُقَدّر، أَي: قَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي فلَان بِهِ، وحَدثني عبد الرَّحْمَن أَيْضا بِهِ. قَوْله: (حَتَّى يُصَلِّي) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهِ) ، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: اللَّام، فِيهِ مَفْتُوحَة وَفِي بَعْضهَا بِكَسْرِهَا. وحملت: رِوَايَة الْفَتْح على رِوَايَة الْكسر لِأَن حُصُول القيراط مُتَوَقف على وجود الصَّلَاة من الَّذِي يشْهد، وَلم يبين فِي هَذِه ابْتِدَاء الْحُضُور، وَفِي رِوَايَة أبي سعيد المَقْبُري بَين ذَلِك حَيْثُ قَالَ: من أَهلهَا. وَفِي رِوَايَة خباب عِنْد مُسلم: (من خرج مَعَ جَنَازَة من بَيتهَا) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (فَمشى مَعهَا من أَهلهَا) ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَقْتَضِي أَن القيراط يخْتَص بِمن حضر من أول الْأَمر إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة. وَقَالَ بَعضهم: يحصل أَيْضا لمن صلى فَقَط، لِأَن كل مَا قبل الصَّلَاة وَسِيلَة إِلَيْهَا، لَكِن يكون قِيرَاط من صلى فَقَط دون قِيرَاط من شيع وَصلى. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن كل مَا كَانَ قبل الصَّلَاة لَيْسَ لأجل الصَّلَاة خَاصَّة، وَإِنَّمَا هُوَ لَهَا ولمعاضدة أهل الْجِنَازَة ومعونتهم، وَلأَجل إِظْهَار الْخدمَة لَهُم تطييبا لقُلُوبِهِمْ. والشارع قد نَص عَن أَن الَّذِي يُصَلِّي فَقَط فَلهُ قِيرَاط، وَلم يتَعَرَّض إِلَى اخْتِلَاف القيراط فِي نَفسه. وَهَذَا التَّصَرُّف فِيهِ تحكم. فَإِن قلت: يخْتَلف القيراط باخْتلَاف كَثْرَة الْعَمَل فِيهِ كَمَا فِي الْجُمُعَة: (من جَاءَ فِي السَّاعَة الأولى. .) الحَدِيث. قلت: هَذَا الْقيَاس لَا يَصح، لِأَن عين القيراط نَص عَلَيْهِ فَلَا يُمكن أَن يتَصَرَّف فِي الشَّيْء الْمعِين الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان، بِخِلَاف الْجُمُعَة فَإِن الِاخْتِلَاف فِيهِ لَيْسَ فِي شَيْء بِعَيْنِه. فَافْهَم. قَوْله: (كَانَ لَهُ قيراطان) ظَاهره أَنَّهُمَا غير قِيرَاط الصَّلَاة، وَبِذَلِك جزم الْبَعْض، وَحَكَاهُ ابْن التِّين عَن القَاضِي أبي الْوَلِيد. لَكِن رِوَايَة الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين صَرِيحَة فِي أَن الْحَاصِل من الصَّلَاة وَمن الدّفن قيراطان فَقَط، وروايتهما قد مرت فِي: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، فِي كتاب الْإِيمَان رويا عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من تبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا واحتسابا وَكَانَ مَعهَا حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا ويفرغ من دَفنهَا فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين، كل قِيرَاط مثل أحد. وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ قبل أَن تدفن فَإِنَّهُ يرجع بقيراط) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: رِوَايَة ابْن سِيرِين صَرِيحَة فِي أَن الْمَجْمُوع قيراطان. قلت: يحْتَمل أَن تكون رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَة عَن رِوَايَة ابْن سِيرِين عَنهُ. قَوْله: (حَتَّى تدفن) اخْتلف فِيهِ أَن حُصُول القيراطين يحصل بِمُجَرَّد وضع الْمَيِّت فِي الْقَبْر أَو عِنْد انْتِهَاء الدّفن قبل إهالة التُّرَاب أَو بعد الْفَرَاغ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبِكُل ذَلِك ورد الْخَبَر. فَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ: (حَتَّى يفرغ مِنْهَا) ، وَفِي الْأُخْرَى: (حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد) ، وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم عِنْده: (حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر) ، وَفِي رِوَايَة أبي مُزَاحم عِنْد أَحْمد: (حَتَّى يقْضِي قضاءها) ، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة عِنْد التِّرْمِذِيّ: (حَتَّى يقْضِي دَفنهَا) . وَفِي رِوَايَة ابْن عِيَاض عِنْد أبي عوَانَة: (حَتَّى يسوى عَلَيْهَا) ، أَي: التُّرَاب. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن ذَلِك يتَوَقَّف على كَمَال الدّفن لَا على وَضعه فِي اللَّحْد، وَذهب بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يحصل بِمُجَرَّد الْوَضع فِي اللَّحْد. قَوْله: (قيل: وَمَا القيراطان؟) قَالَ بَعضهم: لم يعين هَهُنَا(8/130)
الْقَائِل وَلَا الْمَقُول لَهُ، وَقد بَين لَهُ مُسلم فِي رِوَايَة الْأَعْرَج فَقَالَ: (قيل: وَمَا القيراطان يَا رَسُول الله؟) ، وَبَين الْقَائِل أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي مُزَاحم عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: (قلت: وَمَا القيراط يَا رَسُول الله؟) . قلت: الظَّاهِر بِحَسب الْقَرِينَة يدل على أَن الْقَائِل رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَالْمقول لَهُ هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أما الْقَائِل فَفِيهِ احْتِمَال أَن يكون غير الرَّاوِي مِمَّن كَانَ حَاضرا فِي ذَلِك الْمجْلس. وَأما الْمَقُول لَهُ فَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا لِأَنَّهُ قَالَ: (مثل الجبلين العظيمين) ، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ وَظِيفَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: قَالَ، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (مثل الجبلين العظيمين) ، وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين وَغَيره: (مثل أحد) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: (القيراط مثل جبل أحد) . وَكَذَا فِي حَدِيث ثَوْبَان عِنْد مُسلم، والبراء عِنْد النَّسَائِيّ، وَأبي سعيد عِنْد أَحْمد وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق الشّعبِيّ: (فَلهُ قيراطان من الْأجر، كل وَاحِد مِنْهُمَا أعظم من أحد) . وَفِي رِوَايَة أبي صَالح عِنْد مُسلم: (أصغرهما مثل أحد) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بن كَعْب: (القيراط أعظم من أحد) ، وَعند ابْن عدي من حَدِيث وَاثِلَة (كتب لَهُ قيراطان من أجر أخفهما فِي مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة أثقل من جبل أحد) وَقد ذكرنَا أَن هَذَا من بَاب التَّمْثِيل والاستعارة.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَفِيه: فِيهِ: التَّرْغِيب فِي شُهُود جَنَازَة الْمَيِّت وَالْقِيَام بأَمْره والحض على الِاجْتِمَاع لَهُ، والتنبيه على عَظِيم فضل الله تَعَالَى، وتكريمه للْمُسلمِ فِي تكثيره الثَّوَاب لمن يتَوَلَّى أمره بعد مَوته. وَفِيه: تَقْدِير الْأَعْمَال بِنِسْبَة الأوزان أَو بجعلها أعيانا حَقِيقَة. وَفِيه: السُّؤَال عَمَّا يهم فِيهِ.
95 - (بابُ صَلاَةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الجَنَائِزِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الصّبيان على الْمَوْتَى. فَإِن قلت: قد ذكر قبل هَذَا: بَاب صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال فِي الْجَنَائِز أَو لَيْسَ هَذَا بتكرار؟ قلت: أَفَادَ بذلك الْبَاب وقُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال، وَأَنَّهُمْ يصفونَ مَعَهم لَا يتأخرون عَنْهُم لقَوْل ابْن عَبَّاس فِي حَدِيث ذَلِك الْبَاب: وَأَنا فيهم، وَأفَاد بِهَذَا الْبَاب مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الصّبيان على الْمَوْتَى، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: هَذَا كَانَ يُسْتَفَاد من ذَلِك الْبَاب. قلت: نعم لَكِن ضمنا وَهنا ذكره قصدا ونصا.
6231 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ أبي بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا زَائِدَةُ قَالَ حَدثنَا أبُو إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عنْ عامِرِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ أتَى رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْرا فقالُوا هاذا دُفِنَ أوْ دُفِنَتِ البَارِحَةَ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصففنا خَلفه) ، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب صُفُوف الصّبيان مَعَ الرِّجَال فِي الْجَنَائِز، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي مر فِي: بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان، وَيحيى بن أبي بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: أَبُو زَكَرِيَّا الْعَبْدي الْكُوفِي قَاضِي كرمان، مَاتَ سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ، وزائدة، من الزِّيَادَة، وَأَبُو إِسْحَاق، إسمه سُلَيْمَان، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، وَقد مرا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
وَفِيه: الصَّلَاة على الْقَبْر. وَفِيه: الْجَمَاعَة. وَفِيه: الدّفن بِاللَّيْلِ.
06 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى الجَنَائِزِ بِالمُصَلَّى وَالمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة على الْجَنَائِز بالمصلى، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ للصَّلَاة على الْمَوْتَى فِيهِ. قَوْله: (وَالْمَسْجِد) ، أَي: وَالصَّلَاة عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ. قيل: إِنَّمَا ذكر الْمَسْجِد فِي التَّرْجَمَة لاتصاله بمصلى الْجَنَائِز. قلت: نذْكر وَجه ذكره فِي بَيَان الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
7231 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ(8/131)
ابنِ المُسَيَّبِ وَأبِي سَلَمَةَ أنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ نَعَى لَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجَاشِيَّ صاحِبَ الحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي ماتَ فِيهِ قَالَ اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ. وعَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَفَّ بِهِمْ بِالمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صف بهم بالمصلى) ، وَقد تقدم الحَدِيث فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَيحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، مصغر بكر، المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. وَقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. قَوْله: (النجاش) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: نعي (وَصَاحب الْحَبَشَة) مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفته، وَالْيَوْم مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَعَن ابْن شهَاب) مَعْطُوف على إِسْنَاد الْمصدر وَالرِّوَايَة عَن ابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ فِي الأول: بالعنعنة، وَفِي الثَّانِي: بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْإِفْرَاد.
9231 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافَعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ اليَهُودَ جاؤا إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأةٍ زَنَيَا فأمَرَ بِهِما فَرُجِمَا قَرِيبا مِنْ مَوْضِعِ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ..
وَجه مطابقه هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة لَا يَتَأَتَّى إلاَّ إِذا قُلْنَا إِن: عِنْد، فِي قَوْله: (عِنْد الْمَسْجِد) ، يكون بِمَعْنى: فِي، أَو نقُول. قَوْله: بَاب الصَّلَاة على الْجَنَائِز بالمصلى وَالْمَسْجِد، يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا: الاثبات، وَالْآخر: النَّفْي، وَلَعَلَّ غَرَض البُخَارِيّ النَّفْي بِأَن لَا يصلى عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِد بِدَلِيل تعْيين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَوضِع الْجِنَازَة عِنْد الْمَسْجِد، وَلَو جَازَ فِيهِ لما عينه فِي خَارجه، وَبِهَذَا يدْفع كَلَام ابْن بطال: لَيْسَ فِيهِ، أَي: فِي حَدِيث ابْن عمر، دَلِيل على الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، إِنَّمَا الدَّلِيل فِي حَدِيث عَائِشَة: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سُهَيْل بن بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد) . قلت: لَو كَانَ إِسْنَاده على شَرطه لأخرجه فِي (صَحِيحه) وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِيمَا مضى عَن قريب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله الْحزَامِي، وَقد مر. الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: اسْمه أنس بن عِيَاض، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف، مر فِي أول الْوضُوء. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي الِاعْتِصَام عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن مُحَمَّد بن معدان.
أما رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فَقَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا أَبُو ضَمرَة حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن الْيَهُود جاؤوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل مِنْهُم وَامْرَأَة قد زَنَيَا، فَقَالَ لَهُم: كَيفَ تَفْعَلُونَ بِمن زنى مِنْكُم؟ قَالُوا: نحممهما ونضربهما، فَقَالَ: لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم؟ فَقَالُوا: لَا نجد فِيهَا شَيْئا. فَقَالَ لَهُم: عبد الله بن سَلام: كَذبْتُمْ، فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ إِن كُنْتُم صَادِقين، فَوضع مدراسها الَّذِي يدرسها مِنْهُم كَفه على آيَة الرَّجْم، فَطَفِقَ يقْرَأ مَا دون يَده وَمَا وَرَاءَهَا وَلَا يقْرَأ آيَة الرَّجْم. فَنزع يَده عَن آيَة الرَّجْم فَقَالَ: مَا هَذِه؟ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك قَالُوا: هِيَ آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما فَرُجِمَا قَرِيبا من حَيْثُ تُوضَع الْجَنَائِز عِنْد الْمَسْجِد، فَرَأَيْت صَاحبهَا يحني عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَة) . هَذَا لَفظه فِي سُورَة آل عمرَان فِي التَّفْسِير. وَأما لَفظه فِي كتاب الِاعْتِصَام، فكلفظه هَهُنَا سندا ومتنا بعينهما.
وَأما رِوَايَة مُسلم فَفِي الْحُدُود: حَدثنِي الحكم بن مُوسَى أَبُو صَالح(8/132)
حَدثنَا شُعَيْب بن إِسْحَاق أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع أَن عبد الله أخبرهُ أَن رَسُول الله أَتَى بِيَهُودِيٍّ وبيهودية قد زَنَيَا فَانْطَلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جَاءَ يهود فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة على من زنى؟ قَالُوا: نسود وُجُوههمَا ونحملهما وَنُخَالِف بَين وُجُوههمَا وَيُطَاف بهما. قَالَ: فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ إِن كُنْتُم صَادِقين، فجاؤا بهَا فقرأوها حَتَّى إِذا مروا بِآيَة الرَّجْم وضع الْفَتى الَّذِي يقْرَأ يَده على آيَة الرَّجْم، وَقَرَأَ مَا بَين يَديهَا وَمَا وَرَاءَهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام، وَهُوَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مُره فَليرْفَعْ يَده، فَرَفعهَا فَإِذا تحتهَا آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمهما. قَالَ عبد الله بن عمر: كنت فِيمَن رجمهما، فَلَقَد رَأَيْته يَقِيهَا من الْحِجَارَة بِنَفسِهِ) .
وَأما رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَفِي الرَّجْم: أخبرنَا مُحَمَّد بن معدان، قَالَ: حَدثنَا الْحسن ابْن أعين، قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن الْيَهُود جاؤوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل مِنْهُم وَامْرَأَة قد وزنيا، قَالَ: فَكيف تَفْعَلُونَ بِمن زنى مِنْكُم؟ قَالُوا: نضربهما. قَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة؟ قَالُوا: مَا نجد فِيهَا شَيْئا. فَقَالَ: عبد الله بن سَلام: كَذبْتُمْ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم، فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين، فجاؤوا بِالتَّوْرَاةِ فَوضع مدرسها الَّذِي يدرسها مِنْهُم كَفه على آيَة الرَّجْم فَطَفِقَ يقْرَأ مَا دون يَده وَمَا وَرَاءَهَا وَلَا يقْرَأ آيَة الرَّجْم، فَضرب عبد الله بن سَلام يَده فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَ: هِيَ آيَة الرَّجْم، فَأمر بهما رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرُجِمَا قَرِيبا حَيْثُ تُوضَع الْجَنَائِز. قَالَ عبد الله: فَرَأَيْت صَاحبهَا يحني عَلَيْهَا ليقيها الْحِجَارَة) . وَفِي لفظ لَهُ: (فجاؤوا بِالتَّوْرَاةِ وجاؤوا بقارىء لَهُم أَعور، فَقَرَأَ حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مِنْهَا وضع يَده عَلَيْهِ، فَقيل: إرفع يدك فَرفع فَإِذا هِيَ تلوح، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد إِن فِيهَا الرَّجْم وَلَكنَّا كُنَّا نكاتمه) الحَدِيث، وَفِي لفظ لَهُ: (فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام: (إزحل كفك فَإِذا هُوَ بِالرَّجمِ يلوح) .
قَوْله: (نحممهما) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: نسودهما بالحممة، وَهِي الفحمة وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ونحملهما) ، بِالْحَاء وَاللَّام أَي: نحملهما على جمل، وَفِي رِوَايَة: (نجملهما) بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة أَي: نجعلهما جَمِيعًا على الْجمل. قَوْله: (لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة الرَّجْم؟) قَالُوا: هَذَا السُّؤَال لَيْسَ لتقليدهم، وَلَا لمعونة الحكم مِنْهُم، وَإِنَّمَا هُوَ لإلزامهم بِمَا يعتقدونه فِي كِتَابهمْ. وَلَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُوحِي إِلَيْهِ أَن الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْديهم لم يغيروه كَمَا غيروا أَشْيَاء، أَو أَنه أخبرهُ بذلك من أسلم مِنْهُم، وَلِهَذَا لم يخف ذَلِك عَلَيْهِ حِين كتموه. قَوْله: (مدراسها) ، بِكَسْر الْمِيم على وزن: مفعال، من أبنية الْمُبَالغَة، وَهُوَ صَاحب دراسة كتبهمْ، من: درس يدرس درسا ودراسة، وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشَّيْء، وَكَذَلِكَ الْمدرس، بِكَسْر الْمِيم على وزن: مفعل، من أبنية الْمُبَالغَة، وَجَاء فِي حَدِيث آخر: (حَتَّى أَتَى الْمِدْرَاس) ، بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْبَيْت الَّذِي يدرسون فِيهِ، ومفعال غَرِيب فِي الْمَكَان. قَوْله: (فَطَفِقَ) ، بِكَسْر الْفَاء: بِمَعْنى أَخذ فِي الْفِعْل وَشرع يعْمل، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (يحني) من حَنى يحنو ويحني إِذا أشْفق وَعطف. قَوْله: (يَقِيهَا) أَي: يحفظها، من: وقى يقي وقاية، وَهَذِه الْجُمْلَة محلهَا النصب على الْحَال. قَوْله: (إزحل) ، بالزاي: أزل كفك. قَوْله: (يلوح) أَي: يظْهر ويبرق.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل لوُجُوب حد الزِّنَا على الْكَافِر وَأَنه يَصح نِكَاحه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لِأَنَّهُ لَا يجب الرَّجْم إلاَّ على الْمُحصن، فَلَو لم يَصح نِكَاحه لم يثبت إحْصَانه وَلم يرْجم. قلت: من جملَة شُرُوط الْإِحْصَان الْإِسْلَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَعَن أبي يُوسُف، أَنه لَيْسَ بِشَرْط، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِحَدِيث الْبَاب. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمَدِينَة، وَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الحلد فِي حق الْمُحصن، وَالْكَافِر لَيْسَ بمحصن، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خُذُوا عني خُذُوا عني: قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا بالبكر جلد مائَة وَنفي سنة وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم) . فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا بالثيوبة، فَمن فرق بَينهمَا بِالْإِسْلَامِ فقد زَاد على النَّص. قلت: هَذَا مَنْسُوخ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يحكم بعد نزُول الْقُرْآن إلاَّ بِمَا فِيهِ، وَفِيه النَّص على الْجلد فَقَط. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا قبلوا عقد الذِّمَّة فأعلموهم أَن لَهُم مَا للْمُسلمين وَعَلَيْهِم مَا على الْمُسلمين، وَالرَّجم على الْمُسلم الثّيّب، فَكَذَا على الْكَافِر الثّيّب. قلت: الرَّجْم غير وَاجِب على كَافَّة الْمُسلمين، فَدلَّ على أَنه يخْتَص بالزناة المحصنين دون غَيرهم.(8/133)
ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على وجوب حد جلد الزَّانِي الْبكر مائَة، ورجم الْمُحصن وَهُوَ الثّيّب، وَلم يُخَالف فِي هَذَا أحد من أهل الْقبْلَة إلاَّ مَا حكى القَاضِي وَغَيره عَن الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة: كالنظام وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُم لم يَقُولُوا بِالرَّجمِ، وَاخْتلفُوا فِي جلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم، فَقَالَت طَائِفَة: يجب الْجمع بَينهمَا فيجلد ثمَّ يرْجم، وَبِه قَالَ عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء: الْوَاجِب الرَّجْم وَحده، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن طَائِفَة من أهل الحَدِيث أَنه يجب الْجمع بَينهمَا إِذا كَانَ الزَّانِي شَيخا ثَيِّبًا وَإِن كَانَ شَابًّا ثَيِّبًا اقْتصر على الرَّجْم وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَالْمرَاد من الْبكر من الرِّجَال من لم يُجَامع فِي نِكَاح صَحِيح، وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالْمرَاد من الثّيّب من جَامع فِي دهره مرّة بِنِكَاح صَحِيح وَهُوَ حر عَاقل بَالغ، وَالرجل وَالْمَرْأَة فِي هَذَا سَوَاء. قَالَ النَّوَوِيّ: وَسَوَاء فِي كل هَذَا الْمُسلم وَالْكَافِر والرشيد والمحجور عَلَيْهِ بِسَفَه، وَقَالَ أَيْضا: وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْبكر: (وَنفي سنة) ، فَفِيهِ حجَّة للشَّافِعِيّ، والجماهير أَنه يجب نَفْيه سنة رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ الْحسن: لَا يجب النَّفْي. وَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا نفي على النِّسَاء، وروى مثله عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالُوا: لِأَنَّهَا عَورَة وَفِي نَفيهَا تَضْييع لَهَا وتعريض للفتنة، وَلِهَذَا نهيت عَن المسافرة إلاَّ مَعَ محرم.
وَأما العَبْد وَالْأمة ففيهما ثَلَاثَة أَقْوَال للشَّافِعِيّ: أَحدهمَا: يغرب كل وَاحِد مِنْهُمَا سنة لظَاهِر الحَدِيث، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَابْن جرير. وَالثَّانِي: يغرب نصف سنة، وَهَذَا أصح الْأَقْوَال. وَالثَّالِث: لَا يغرب الْمَمْلُوك أصلا، وَبِه قَالَ الْحسن وَحَمَّاد وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَفِيه: أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرْع، قَالَه النَّوَوِيّ. قلت: فِيهِ: اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه. وَفِيه: أَن الْكفَّار إِذا تحاكموا إِلَيْنَا حكم القَاضِي بَينهم بِحكم شرعنا. فَإِن قلت: كَيفَ رجم اليهوديان أبِالْبَيِّنة أم بِالْإِقْرَارِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه بِالْإِقْرَارِ، وَقد جَاءَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَغَيره أَنه شهد عَلَيْهِمَا أَرْبَعَة أَنهم رَأَوْا ذكره فِي فرجهَا، فَإِن كَانَ الشُّهُود مُسلمين فَظَاهر، وَإِن كَانُوا كفَّارًا فَلَا اعْتِبَار بِشَهَادَتِهِم، وَيتَعَيَّن أَنَّهُمَا أقرا بِالزِّنَا.
16 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور. فَإِن قلت: يَأْتِي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب: بَاب بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر، فَمَا وَجه هذَيْن الْبَابَيْنِ؟ قلت: وَجه ذَلِك أَنَّهُمَا فِي الحكم سَوَاء، غير أَنه صرح بِالْكَرَاهَةِ فِي تَرْجَمَة هَذَا الْبَاب، وَاكْتفى هُنَاكَ بِدلَالَة حَدِيث الْبَاب على الْكَرَاهَة، وَقيل: الاتخاذ أَعم من الْبناء، فَلذَلِك أفرده بالترجمة، ولفظها يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، فَكَأَنَّهُ يفصل بَين مَا إِذا ترَتّب على الاتخاذ مفْسدَة أم لَا. قلت: لَا نسلم أَن لَفظهَا يَقْتَضِي أَن بعض الاتخاذ لَا يكره، وَدَعوى الْعُمُوم بَين الاتخاذ وَالْبناء غير صَحِيحَة.
وَلَمَّا ماتَ الحَسَنُ بنُ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ضَرَبَتِ امْرَأتُهُ القُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صائِحا يَقُولُ ألاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فأجابَهُ الآخَرُ بَلْ يَئِسُوا فانْقَلَبُوا
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْقبَّة المضروبة لم تخل عَن الصَّلَاة فِيهَا، واستلزم ذَلِك اتِّخَاذ الْمَسْجِد عِنْد الْقَبْر، وَقد يكون الْقَبْر فِي جِهَة الْقبْلَة فتزداد الْكَرَاهَة. وَقَالَ ابْن بطال: ضربت الْقبَّة على الْحسن وسكنت فِيهَا وَصليت فِيهَا فَصَارَت كالمسجد، وَأورد البُخَارِيّ ذَلِك دَلِيلا على الْكَرَاهَة، وَكره أَحْمد أَن يضْرب على الْقَبْر فسطاطا. وَأوصى إِبْرَاهِيم مرّة أَن لَا تضربوا عَليّ فسطاطا. وَقَالَ ابْن حبيب: ضربه على قبر الْمَرْأَة أفضل من ضربه على قبر الرجل، وَضرب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على قبر زَيْنَب بنت جحش، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمِمَّنْ كره ضربه على قبر الرجل ابْن عمر وَأَبُو سعيد وَابْن الْمسيب، وَضربت عَائِشَة على قبر أَخِيهَا فَنَزَعَهُ ابْن عمر، وضربه مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة على قبر ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن حبيب: أرَاهُ فِي الْيَوْم واليومين وَالثَّلَاثَة وَاسِعًا إِذا خيف من نبش أَو غَيره، وَالْحسن بن الْحسن بِلَفْظ التَّكْبِير فيهمَا ابْن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أحد أَعْيَان بني هَاشم فضلا وخبرا. مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين، وَامْرَأَته فَاطِمَة بنت حُسَيْن بن عَليّ، وَهِي الَّتِي حَلَفت لَهُ(8/134)
بِجَمِيعِ مَا تملكه أَنَّهَا لَا تزوج عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان، ثمَّ تزوجته، فأولدها مُحَمَّد الديباج. قَوْله: (قبَّة) ، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْقبَّة، بِالضَّمِّ من الْبناء وَالْجمع: قبب وقباب. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقبَّة من الْخيام: بَيت صَغِير مستدير، وَهُوَ من بيُوت الْعَرَب، وَضرب الْقبَّة: نصبها وإقامتها على أوتاد مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، وَجَاء فِي رِوَايَة الْمُغيرَة ابْن مقسم: لما مَاتَ الْحسن بن الْحسن ضربت امْرَأَته على قَبره فسطاطا وأقامت عَلَيْهِ سنة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْفسْطَاط بَيت من شعر، وَفِي (الْمغرب) : هُوَ خيمة عَظِيمَة، وَفِي (الباهر) : هُوَ مضرب السُّلْطَان الْكَبِير وَهُوَ السرادق أَيْضا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ ضرب من الْأَبْنِيَة فِي السّفر دون السرادق، وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ الخباء وَنَحْوه، وَقَالَ ابْن السّكيت: فسطاط، بِضَم الْفَاء، وفسطاط بِكَسْرِهَا، وفستاط وفستاط وفساط وفساط، وَالْجمع: فساطيط وفساسيط. وَفِي (الباهر) : وفساتيط. قَوْله: (ثمَّ رفعت) على بِنَاء الْفَاعِل بِفَتْح الرَّاء وَبِضَمِّهَا أَيْضا على بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (فَسمِعت) ويروى: (فَسَمِعُوا) ، قَوْله: (مَا فقدوا) ويروى (مَا طلبُوا) قَوْله: (فَأَجَابَهُ آخر) أَي: صائح آخر، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون هَذَانِ الصائحان من مؤمني الْجِنّ أَو من الْمَلَائِكَة.
0331 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى اعنْ شيْبَانَ عنْ هِلاَلٍ هُوَ الوَزَّانُ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ لَعَنَ الله اليَهُودَ والنَّصَارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدا قالَتْ ولَوْلاَ ذالِكَ لأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أنِّي أخْشَى أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ التلازم، وَذَلِكَ أَن التَّرْجَمَة اتِّخَاذ الْمَسْجِد على الْقَبْر، ومدلول الحَدِيث اتِّخَاذ الْقَبْر مسجداولكنهما متلازمان، وَإِن كَانَ مفهوماهما متغايران.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي النَّحْوِيّ. الثَّالِث: هِلَال بن حميد، وَيُقَال ابْن عبد الله الْوزان. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِي العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع أَن شَيْخه بَصرِي سكن الْكُوفَة، وشيبان وهلال كوفيان وَعُرْوَة مدنِي. وَفِيه: أَن هلالاً مَذْكُور بصنعته الْمَشْهُور أَنه ابْن أبي حمد، وَكَذَا وَقع مَنْسُوبا عِنْد ابْن أبي شيبَة والإسماعيلي وَغَيرهمَا. وَقيل: قَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : قَالَ وَكِيع: هِلَال بن حميد، وَقَالَ مرّة: هِلَال بن عبد الله، وَلَا يَصح قلت: وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: هِلَال بن مِقْلَاص.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن هَاشم ابْن الْقَاسِم عَن شَيبَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي مَرضه) ، إِنَّمَا قَالَه فِي مَرضه تحذيرا مِمَّا صنعوه. قَوْله: (لعن الله) ، اللَّعْن: الطَّرْد والإبعاد، فهم مطرودون ومبعودون من الرَّحْمَة، ولعنوا بكفرهم. قَوْله: (مَسْجِدا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مساجدا) . قَوْله: (لَوْلَا ذَلِك لأبرز) حَاصله: لَوْلَا خشيَة الاتخاذ لأبرز قَبره، أَي: لكشف قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يتَّخذ عَلَيْهِ الْحَائِل، وَلَكِن خشيَة الاتخاذ مَوْجُودَة، فَامْتنعَ الإبراز، لِأَن: لَوْلَا، لِامْتِنَاع الشَّيْء لوُجُود غَيره، وَهَذَا قالته عَائِشَة قبل أَن يُوسع الْمَسْجِد، وَلِهَذَا لما وسع الْمَسْجِد جعلت حُجْرَتهَا مُثَلّثَة الشكل محددة حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لأحد أَن يُصَلِّي إِلَى جِهَة الْقَبْر مَعَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَفِي رِوَايَة: (لأبرزوا) ، بِلَفْظ الْجمع أَي: لكشفوا قَبره كشفا ظَاهرا من غير بِنَاء بني عَلَيْهِ يمْنَع من الدُّخُول إِلَيْهِ. قَوْله: (غير أَنه خشِي) وَالْهَاء فِي أَنه ضمير الشَّأْن، وخشي على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي رِوَايَة (خشى) على بِنَاء الْمَعْلُوم، فعلى هَذَا الضَّمِير فِي: أَنه، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خشِي أَن يتَّخذ قَبره مَسْجِدا وَأمرهمْ بترك الإبراز. وَفِي رِوَايَة: (إِنِّي أخْشَى) ، وَهَذِه تَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ الَّتِي منعت من إبرازه.
وَمِمَّا(8/135)
يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا من بَاب قطع الذريعة لِئَلَّا يعبد قَبره الْجُهَّال، كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى بقبور أَنْبِيَائهمْ، وَكره مَالك الْمَسْجِد على الْقُبُور، وَإِذا بني مَسْجِد على مَقْبرَة دَائِرَة ليصلى فِيهِ فَلَا بَأْس بِهِ، وَكره مَالك الدّفن فِي الْمَسْجِد.
26 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على النُّفَسَاء إِذا مَاتَت فِي مُدَّة نفَاسهَا، وَالنُّفَسَاء: بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء: الْمَرْأَة الحديثة الْعَهْد بِالْولادَةِ، وَهِي صِيغَة مُفْردَة على غير الْقيَاس، وَقَالَ أَبُو عَليّ فِي كِتَابه (الْمَمْدُود والمقصور) : يَعْنِي، بِفَتْح النُّون لُغَة فِي نفسَاء، بِالضَّمِّ وَهِي ثَلَاث لُغَات يُقَال: امْرَأَة نفسَاء وَهِي الفصيحة الجيدة، ونفساء ونفساء وَهِي أفلها وأردؤها.
1331 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عنْ سَمُرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى امْرَأةٍ ماتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسْطَهَا.
(أنظر الحَدِيث 233 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمضى الحَدِيث فِي أول كتاب الْغسْل فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وسنتها، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن أبي سريح عَن شَبابَة عَن شُعْبَة عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب: (أَن امْرَأَة مَاتَت فِي بطن فصلى عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ وَسطهَا) . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَيزِيد بن زُرَيْع قد مر غير مرّة، وَيزِيد من الزِّيَادَة، وزريع مصغر الزَّرْع، وحسين هُوَ ابْن ذكْوَان الْمعلم، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. قَوْله: (وَسطهَا) ، بِسُكُون السِّين: يتَنَاوَل العجيزة أَيْضا لِأَنَّهُ أَعم من الْوسط بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي (التَّوْضِيح) : بِسُكُون السِّين هُوَ الصَّوَاب، وَقَيده بَعضهم بِالْفَتْح أَيْضا، وَكَون هَذِه الْمَرْأَة فِي نفَاسهَا وصف غير مُعْتَبر اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَة أَمر وَقع.
وَأما وصف كَونهَا امْرَأَة فَهَل هُوَ مُعْتَبر أم لَا؟ من الْفُقَهَاء من ألغاه، وَقَالَ: يُقَام عِنْد وسط الْجِنَازَة مُطلقًا، ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَمِنْهُم من خص ذَلِك بِالْمَرْأَةِ محاولة للستر. وَقيل: كَانَ قبل اتِّخَاذ الأنعشة والقباب.
وَأما الرجل فَعِنْدَ رَأسه لِئَلَّا ينظر إِلَى فرجه، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد وَأبي يُوسُف، وَالْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل وَغَيره: أَن يقوم من الرجل وَالْمَرْأَة حذاء الصَّدْر، وَعَن الْحسن بحذاء الْوسط مِنْهُمَا. وَقَالَ مَالك: يقوم من الرجل عِنْد وَسطه وَمن الْمرْآة عِنْد منكبيها، وَقَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ، من الشَّافِعِيَّة: يقوم الإِمَام عِنْد صَدره وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَقطع بِهِ السَّرخسِيّ. قَالَ الصيدلاني: وَهُوَ اخْتِيَار أَئِمَّتنَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا البصريون: يقوم عِنْد صَدره، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ. وَقَالَ البغداديون: عِنْد رَأسه، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي ذَلِك نَص، وَمِمَّنْ قَالَه الْمحَامِلِي وَصَاحب (الْحَاوِي) وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وروى حَرْب عَن أَحْمد كَقَوْل أبي حنيفَة، وَذكر عَن الْحسن التَّوسعَة فِي ذَلِك، وَبهَا قَالَ أَشهب وَابْن شعْبَان.
وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ.
وَالْإِجْمَاع قَائِم على أَنه لَا يقوم ملاصقا للجنازة، وَأَنه لَا بُد من فُرْجَة بَينهمَا، وَفِي الحَدِيث إِثْبَات الصَّلَاة على النُّفَسَاء، وَإِن كَانَت شهيدة وَعَن الْحسن أَنه لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا بِمَوْت من زنا وَلَا وَلَدهَا، وَقَالَ قَتَادَة: فِي وَلَدهَا.
36 - (بابٌ أَيْن يَقُومُ مِنَ المَرْأةِ وَالرَّجُلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَيْن يقوم الْمُصَلِّي على الْمَيِّت من الْمَرْأَة وَالرجل؟ فَإِن قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب بَيَان مَوضِع قيام الرجل، فَلم ذكره فِي التَّرْجَمَة. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: للإشعار بِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا بِشَرْطِهِ فِي ذَلِك، وَأما لقياس الرجل على الْمَرْأَة إِذا لم يقل أحد بِالْفرقِ بَينهمَا، وَفِيه نظر أما فِي الأول فَلِأَنَّهُ لما لم يجد حَدِيثا فِي ذَلِك بِشَرْطِهِ لم يكن لذكره وَجه، وَأما فِي الثَّانِي فَمن أَيْن علم؟ لم يقل بِالْفرقِ بَينهمَا. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ عدم التَّفْرِقَة بَين الرجل وَالْمَرْأَة، وَأَشَارَ(8/136)
إِلَى تَضْعِيف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي غَالب عَن أنس بن مَالك: (أَنه صلى على رجل فَقَامَ عِنْد رَأسه، وَصلى على امْرَأَة فَقَامَ عِنْد عجيزتها، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: أهكذا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل؟ قَالَ: نعم. انْتهى. قلت: روى أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث مطولا وَسكت عَلَيْهِ، وسكوته دَلِيل رِضَاهُ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُنِير عَن سعيد بن عَامر عَن همام (عَن أبي غَالب، قَالَ: صليت مَعَ أنس بن مَالك على جَنَازَة رجل فَقَامَ حِيَال رَأسه، ثمَّ جاؤوا بِجنَازَة امْرَأَة من قُرَيْش فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَة صل عَلَيْهَا، فَقَامَ حِيَال وسط السرير، فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بن زِيَاد: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ على الْجِنَازَة مقامك مِنْهَا وَمن الرجل مقامك مِنْهُ؟ قَالَ: نعم، فَلَمَّا فرغ قَالَ: إحفظوه) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث أنس حَدِيث حسن، وَاسم أبي غَالب: نَافِع، وَقيل: رَافع، وَكَيف يضعف هَذَا وَقد رَضِي بِهِ أَبُو دَاوُد وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَلَكِن لما كَانَ هَذَا الحَدِيث مُسْتَند الْحَنَفِيَّة طعنوا فِيهِ بِمَا لَا يفيدهم، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم وقُوف البُخَارِيّ عَلَيْهِ، والتضعيف وَعَدَمه مبنيان عَلَيْهِ، وَذكر البُخَارِيّ الرجل فِي التَّرْجَمَة لَا يدل على عدم التَّفْرِقَة بَينهمَا عِنْده لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون مذْهبه غير هَذَا، وَذكر الرجل وَقع اتِّفَاقًا لَا قصدا.
2331 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حَدثنَا حُسَيْنٌ عنِ ابنِ بُرَيْدَةَ قَالَ حدَّثنا سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّيْتُ وَرَاءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى امْرَأةٍ ماتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
(أنظر الحَدِيث 233 وطرفه) .
ذكر حَدِيث سَمُرَة هُنَا من وَجه آخر عَن عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة وَقد مر فِي: بَاب رفع الْعلم عَن عبد الْوَارِث ابْن سعيد عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة إِلَى آخِره، وَفِي الْبَاب السَّابِق يرْوى عَن ابْن بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بالعنعنة، وَهنا بِصِيغَة التحديث، وَهُنَاكَ يروي حُسَيْن عَن ابْن بُرَيْدَة بِالتَّحْدِيثِ، وَهَهُنَا بالعنعنة.
46 - (بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ أرْبَعا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن التَّكْبِير على الْجِنَازَة أَربع تَكْبِيرَات، وَقد استقصينا الْكَلَام فِي عدد تَكْبِيرَات الْجِنَازَة فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة.
وقالَ حُمَيْدٌ صَلى بِنَا أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَكَبَّرَ ثَلاَثا ثُمَّ سَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحميد هَذَا هُوَ حميد بن أبي حميد الطَّوِيل الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ، وَاخْتلفُوا فِي اسْم أبي حميد، فَقيل: دَاوُد، وَقيل: تيرويه، وَقيل: زادويه، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: طرخان، وَقيل: مهْرَان، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه عبد الرَّزَّاق من غير طَرِيق حميد، وَذَلِكَ: عَن معمر عَن قَتَادَة (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كبر على جَنَازَة ثَلَاثًا ثمَّ انْصَرف نَاسِيا، فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَة إِنَّك كَبرت ثَلَاثًا؟ قَالَ: فصفوا، فَكبر الرَّابِعَة) . فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الِاقْتِصَار على ثَلَاث. قَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من طَرِيق معَاذ عَن عمرَان بن حدير، قَالَ: صليت مَعَ أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على جَنَازَة، فَكبر عَلَيْهَا ثَلَاثًا لم يزدْ عَلَيْهَا) . وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق قَالَ: قيل لأنس: إِن فلَانا كبر ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَهل التَّكْبِير إلاَّ ثَلَاثًا؟ قلت: يُمكن التَّوْفِيق بِأَن يَكُونَا وَاقِعَتَيْنِ لتغايرهما، فَفِي الأولى كَانَ يرى الثَّلَاث مجزئة، ثمَّ اسْتَقر على الْأَرْبَع لما ثَبت عِنْده أَن الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ جَمَاهِير الصَّحَابَة هُوَ الْأَرْبَع. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَيحمل على أَن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وهم. قلت: هَذَا الْحمل غير موجه، وَالْأَحْسَن مَا قُلْنَاهُ، وَأما قَوْله: وَهل التَّكْبِير إلاَّ ثَلَاث؟ يَعْنِي: غير تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق أَن أنسا قَالَ: أَو لَيْسَ التبكير ثَلَاثًا؟ فَقيل لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَة التَّكْبِير أَربع. قَالَ: أجل غير أَن وَاحِدَة افْتِتَاح الصَّلَاة. قَوْله: (فَكبر ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث تَكْبِيرَات. قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: قيل لَهُ: كَبرت ثَلَاثًا. قَوْله:(8/137)
(ثمَّ كبر الرَّابِعَة) ، أَي: التَّكْبِيرَة الرَّابِعَة. وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا ترك بعض التَّكْبِير جهلا أَو نِسْيَانا أتم مَا بَقِي من التَّكْبِير، وَإِن رفعت إِذا كَانَ بِقرب ذَلِك فَإِن طَال وَلم تدفن أُعِيدَت الصَّلَاة عَلَيْهَا. وَإِن دفنت تركت، وَفِي (العتيبية) نَحوه عَن مَالك، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا خلاف فِي الْبطلَان إِذا رفعت فِي أثْنَاء الصَّلَاة، وَالأَصَح الصِّحَّة، وَإِن صلى عَلَيْهَا قبل وَضعهَا فَفِي الصِّحَّة وَجْهَان، وَعِنْدنَا كل تَكْبِيرَة قَائِمَة مقَام رَكْعَة حَتَّى لَو ترك تَكْبِيرَة مِنْهَا لَا تجوز صلَاته. كَمَا لَو ترك رَكْعَة، وَلِهَذَا قيل أَربع كأربع الظّهْر، والمسبوق بتكبيرة أَو أَكثر يَقْضِيهَا بعد السَّلَام، مَا لم ترفع الْجِنَازَة، وَلَو رفعت بِالْأَيْدِي وَلم تُوضَع على الأكتاف يكبر فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَعَن مُحَمَّد: إِن كَانَت إِلَى الأَرْض أقرب يكبر، وَإِن كَانَت إِلَى الأكتاف أقرب لَا يكبر. وَقيل: لَا يقطع حَتَّى يتباعد. وَفِي (الْأَشْرَاف) : قَالَ ابْن الْمسيب وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَقَتَادَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ: الْمَسْبُوق يقْضِي مَا فَاتَهُ مُتَتَابِعًا قبل أَن ترفع الْجِنَازَة، فَإِذا رفعت سلم وَانْصَرف، كَقَوْل أَصْحَابنَا، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول: وَقَالَ ابْن عمر: لَا يقْضِي مَا فَاتَهُ من التَّكْبِير، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ والسختياني وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَلَو جَاءَ وَكبر الإِمَام أَرْبعا وَلم يسلم لم يدْخل مَعَه وفاتته الصَّلَاة، وَعند أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ: يدْخل مَعَه وَيَأْتِي بالتكبيرات نسقا إِن خَافَ رفع الْجِنَازَة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَعَلِيهِ الْفَتْوَى.
3331 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي ماتَ فِيهِ وخَرَجَ بِهِمْ إلَى المُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث قد مضى فِي بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة.
4331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا سَلِيمُ بنُ حَبَّانَ قَالَ حدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَى أصْحَمَةَ النَّجَاشِيُّ فَكَبَّرَ أرْبَعا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مثل الَّذِي قبله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى: أَبُو بكر الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللَّام: ابْن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف منصرفا وَغير منصرف: ابْن بسطَام الْهُذلِيّ. الثَّالِث: سعيد بن ميناء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون وبالمد وَالْقصر: أَبُو الْوَلِيد. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُلَيْمَان بَصرِي وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ سليم، بِالْفَتْح غَيره، وَسَعِيد بن ميناء مكي.
وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على أَصْحَمَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ: عَطِيَّة، وَهُوَ اسْم ذَلِك الْملك الصَّالح. قَوْله: (فَكبر أَرْبعا) أَي: أَربع تَكْبِيرَات.
وَقَالَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَعَبْدُ الصَّمعدِ عنْ سَلِيمٍ أصْحَمَةَ
يزِيد من الزِّيَادَة: ابْن هَارُون الوَاسِطِيّ، وَعبد الصَّمد عبد الْوَارِث أَي: قَالَ، يزِيد وَعبد الصَّمد مِمَّا روياه عَن سليم الْمَذْكُور بأسناده إِلَى جَابر، رَحمَه الله تَعَالَى: أَصْحَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وَقَالَ يزِيد عَن سليم أَصْحَمَة، وَرِوَايَة يزِيد هَذِه وَصلهَا البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَنهُ.
وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ
أَي: تَابع يزِيد بن هَارُون عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَوصل رِوَايَته الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أَحْمد بن سعيد عَنهُ، وَوَقع فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : عَن يزِيد: صحمة، بِفَتْح الصَّاد وَسُكُون الْحَاء يَعْنِي بِحَذْف الْهمزَة، وَحكى الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن فِي رِوَايَة عبد الصَّمد(8/138)
أصخمة، بِإِثْبَات الْألف وَالْخَاء الْمُعْجَمَة. قَالَ: وَهُوَ غلط، وَحكى الْكرْمَانِي أَن فِي بعض النّسخ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: أصحبة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة عوض الْمِيم.
56 - (بابُ قِرَاءَةِ فاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَة الْفَاتِحَة على الْجِنَازَة، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَنقل ابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَالْحسن ابْن عَليّ وَابْن الزبير والمسور بن مخرمَة مشروعيتها، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَإِسْحَاق، وَنقل عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَة، وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين. قلت: وَلَيْسَ فِي صَلَاة الْجِنَازَة قِرَاءَة الْقُرْآن عندنَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَمِمَّنْ كَانَ لَا يقْرَأ فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة وينكر: عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة، وَمن التَّابِعين: عَطاء وطاووس وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالْحكم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَحَمَّاد وَالثَّوْري، وَقَالَ مَالك: قِرَاءَة الْفَاتِحَة لَيست مَعْمُولا بهَا فِي بلدنا فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَعند مَكْحُول وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الأولى، وَقَالَ ابْن حزم: يقْرؤهَا فِي كل تَكْبِيرَة عِنْد الشَّافِعِي، وَهَذَا النَّقْل عَنهُ غلط، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يقْرؤهَا فِي كل تَكْبِيرَة، وَهُوَ قَول شهر بن حَوْشَب، وَعَن الْمسور بن مخرمَة: يقْرَأ فِي الأولى فَاتِحَة الْكتاب وَسورَة قَصِيرَة.
وَقَالَ الحَسَنُ يَقْرَى علَى الطِّفْلِ بِفاتِحَةِ الكِتَابِ ويَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطا وَسَلَفا وَأجْرا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوَصله أَبُو نصر عبد الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف فِي (كتاب الْجَنَائِز) تأليفه: عَن سعيد بن أبي عرُوبَة أَنه سُئِلَ عَن الصَّلَاة على الصَّبِي فَأخْبرهُم عَن قَتَادَة عَن الْحسن أَنه كَانَ يكبر ثمَّ يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب ثمَّ يَقُول: أللهم اجْعَلْهُ لنا سلفا وفرطا وَأَجرا. قَوْله: (فرطا) الفرط بِالتَّحْرِيكِ الَّذِي يتَقَدَّم الْوَارِدَة فيهيء لَهُم أَسبَاب الْمنزل. قَوْله: (وسلفا) ، بتحريك اللَّام: أَي: مُتَقَدما إِلَى الْجنَّة لأجلنا.
5331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ عنْ طَلْحَةَ. قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ عَوْفٍ. قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ قَالَ لِيَعْلَمُوا أنَّهَا سُنَّةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال وَضمّهَا: وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، مَاتَ عَام خَمْسَة وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف ابْن أخي عبد الرَّحْمَن، كَانَ فَقِيها سخيا يُقَال لَهُ: طَلْحَة الندي، مَاتَ عَام تِسْعَة وَتِسْعين. السَّادِس: مُحَمَّد بن كثير ضد قَلِيل وَقد تقدم. السَّابِع: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّامِن: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: طَرِيقَانِ عَن شيخين كِلَاهُمَا مسميان بِمُحَمد. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُورَة بلقبه. وَفِيه: أَن شَيْخه مُحَمَّد بن بشار وَشَيخ شَيْخه بصريان وَشعْبَة واسطي وَسعد وَطَلْحَة مدنيان وَمُحَمّد بن كثير بَصرِي وسُفْيَان كُوفِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ، وَعَن الْهَيْثَم بن أَيُّوب الطَّالقَانِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه.(8/139)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب) ، لَيْسَ فِيهِ بَيَان لموْضِع الْقِرَاءَة، قَالَ شَيخنَا زين الدّين: هُوَ مُبين فِي حَدِيث جَابر، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل (عَن جَابر بن عبد الله: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر على الْمَيِّت أَرْبعا وَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن بعد التَّكْبِيرَة الأولى) . قَالَ شَيخنَا: وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ: وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. قَوْله: (ليعلموا أَنَّهَا) أَي: أَن قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي صَلَاة الْجِنَازَة سنة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِنَّهَا من السّنة) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (فَأخذت بِيَدِهِ فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: يَا ابْن أخي إِنَّه حق وَسنة) . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّه من السّنة، أَو من تَمام السّنة) . وَفِي رِوَايَة للنسائي بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة وجهر حَتَّى أسمعنا، فَلَمَّا فرغ أخذت بِيَدِهِ فَسَأَلته، فَقَالَ: سنة وَحقّ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَن التِّرْمِذِيّ لما روى هَذَا الحَدِيث، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَغَيرهم يختارون أَن يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب بعد التَّكْبِيرَة الأولى، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق.
الثَّانِي: مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي من أَن الْقِرَاءَة بعد التَّكْبِيرَة الأولى، هَل هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب أَو على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب؟ حكى الرَّوْيَانِيّ وَغَيره عَن نَص الشَّافِعِي أَنه: لَو أخر قِرَاءَة الْفَاتِحَة إِلَى التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة جَازَ، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد الِاسْتِحْبَاب دون الْوُجُوب، وَحكى ابْن الرّفْعَة والبندنيجي وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ تعين الْقِرَاءَة عقيب التَّكْبِيرَة الأولى، وَاخْتلف فِي الْمَسْأَلَة كَلَام النَّوَوِيّ، فَجزم فِي (الْبَيَان) بِوُجُوب قرَاءَتهَا فِي التَّكْبِيرَة الأولى، وَخَالف ذَلِك فِي (الرَّوْضَة) : فَقَالَ: إِنَّه يجوز تَأْخِيرهَا إِلَى التَّكْبِيرَة الثَّانِيَة. وَقَالَ فِي (شرح الْمُهَذّب) فَإِن قَرَأَ الْفَاتِحَة بعد تَكْبِيرَة أُخْرَى غير الأولى جَازَ، وَكَذَا قَالَ فِي (الْمِنْهَاج) .
الثَّالِث: لَيْسَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس صفة الْقِرَاءَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَهْر والإسرار، وَعند الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعيد، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يجْهر بِفَاتِحَة الْكتاب فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَيَقُول: إِنَّمَا فعلت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سنة، فقد يسْتَدلّ بِهِ على الْجَهْر بهَا، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي فِيمَا إِذا كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهَا لَيْلًا. قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَالصَّحِيح أَنه يسر بهَا لَيْلًا أَيْضا وَأما النَّهَار فاتفقوا على أَنه يسر فِيهِ. قَالَ: وَيُجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ أَرَادَ بذلك إعلامهم بِمَا يقْرَأ ليتعلموا ذَلِك، وَلَعَلَّه جهر بِبَعْضِهَا، كَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسمعهم الْآيَة أَحْيَانًا فِي صَلَاة الظّهْر، وَكَانَ مُرَاده ليعرفهم السُّورَة الَّتِي كَانَ يقْرَأ بهَا فِي الظّهْر. فَإِن قيل للشَّافِعِيَّة: لِمَ لم تقرأوا بِسُورَة مَعَ الْفَاتِحَة كَمَا فِي غَيرهَا من الصَّلَوَات؟ مَعَ أَن فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ الْمَذْكُورَة آنِفا: فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة؟ وَأجِيب: عَن ذَلِك بِأَن الْبَيْهَقِيّ قَالَ فِي (سنَنه) إِن ذكر السُّورَة فِيهِ غير مَحْفُوظ.
الرَّابِع: قَول الصَّحَابِيّ من السّنة حكمه حكم الْمَرْفُوع على القَوْل الصَّحِيح، قَالَه شَيخنَا زين الدّين. وَفِيه: خلاف مَشْهُور.
ووردت أَحَادِيث أخر فِي قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي صَلَاة الْجِنَازَة. مِنْهَا: حَدِيث أم شريك، رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنْهَا، قَالَت: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَقْرَأ على الْجِنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم عفيف النهدية أَنَّهَا قَالَت: (أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب على ميتنا) رَوَاهُ أَبُو نعيم. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة بن سهل أَنه قَالَ: (السّنة فِي الصَّلَاة على الْجِنَازَة أَن يقْرَأ فِي التَّكْبِيرَة الأولى بِأم الْقُرْآن مخافته، ثمَّ يكبر ثَلَاثًا، وَالتَّسْلِيم عِنْد الْأَخِيرَة) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِن إِسْنَاده على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وَأَبُو أُمَامَة هَذَا صَحَابِيّ، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: لم يعقل بِرُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف: اسْمه أسعد، سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَدِيثه مُرْسل، وروى ابْن أبي شيبَة عَن رجل من هَمدَان: أَن عبد الله بن مَسْعُود قَرَأَ على جَنَازَة بِفَاتِحَة الْكتاب، وروى أَيْضا من حَدِيث أبي الْعُرْيَان الْحذاء، قَالَ: صليت خلف الْحسن بن عَليّ على جَنَازَة، فَقلت لَهُ: كَيفَ صنعت؟ قَالَ: قَرَأت عَلَيْهَا بِفَاتِحَة الْكتاب، وَعَن ابْن أبي عون: كَانَ الْحسن بن أبي الْحسن يقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ فِي كل تَكْبِيرَة على الْجِنَازَة، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا قَول شهر بن حَوْشَب، وَقَالَ الضَّحَّاك: أَقرَأ فِي التكبيرتين الْأَوليين بِفَاتِحَة الْكتاب، وَكَانَ مَكْحُول يفعل ذَلِك، وَعَن فضَالة مولى(8/140)
عمر أَن الَّذِي كَانَ صلى على أبي بكر أَو عمر، أَقرَأ عَلَيْهِ بِفَاتِحَة الْكتاب، وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ عَن ابْن الزبير وَعُثْمَان بن حنيف أَنَّهُمَا كَانَا يقرآن عَلَيْهَا بِالْفَاتِحَةِ، وَفِي (كتاب الْجَنَائِز) للمزني: وبلغنا أَن أَبَا بكر وَغَيره من الصَّحَابَة كَانُوا يقرؤون بِأم الْقُرْآن عَلَيْهَا. وَفِي (الْمحلى) : صلى الْمسور بن مخرمَة فَقَرَأَ فِي التَّكْبِيرَة الأولى بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة قَصِيرَة رفع بهما صَوته، فَلَمَّا فرغ قَالَ: لَا أَجْهَل أَن تكون هَذِه الصَّلَاة عجماء، وَلَكِنِّي أردْت أَن أعلمكُم أَن فِيهَا قِرَاءَة. وَرُوِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء وَأنس وَأبي هُرَيْرَة: أَنهم كَانُوا يقرأون بِالْفَاتِحَةِ. قلت: قد ذكرنَا فِي أول الْبَاب عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن لَا قِرَاءَة فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَعَن ابْن مَسْعُود: لم يُوَقت فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قولا وَلَا قِرَاءَة، وَلِأَن مَا لَا رُكُوع فِيهِ لَا قِرَاءَة فِيهِ كسجود التِّلَاوَة، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ على ترك الْقِرَاءَة فِي الأولى بِتَرْكِهَا فِي بَاقِي التَّكْبِيرَات، وبترك التَّشَهُّد. وَقَالَ: لَعَلَّ، قِرَاءَة من قَرَأَ الْفَاتِحَة من الصَّحَابَة كَانَ على وَجه الدُّعَاء لَا على وَجه التِّلَاوَة.
وَمن الدُّعَاء للْمَيت مَا رَوَاهُ مُسلم (عَن عَوْف بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة فَحفِظت من دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ إغفر لَهُ وارحمه وعافه واعف عَنهُ، وَأكْرم نزله ووسع مدخله، واغسله بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد، ونقه من الْخَطَايَا كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، وأبد لَهُ دَارا خيرا من دَاره، وَأهلا خيرا من أَهله، وزوجا خيرا من زوجه وَأدْخلهُ الْجنَّة وأعذه من عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار، حَتَّى تمنيت أَن أكون ذَلِك الْمَيِّت) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جَنَازَة فَقَالَ: أللهم إغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وَكَبِيرنَا، وَذكرنَا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا. أللهم من أحييته منا فأحيه من الْإِيمَان، وَمن توفيته منا فتوفه على الْإِسْلَام. أللهم لَا تَحْرِمنَا أجره وَلَا تضلنا بعده) . وروى أَيْضا (عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رجل من الْمُسلمين، فَسَمعته يَقُول: أللهم إِن فلَان ابْن فلَان فِي ذِمَّتك، فَقِهِ من عَذَاب الْقَبْر) . قَالَ عبد الرَّحْمَن شيخ أبي دَاوُد: (فِي ذِمَّتك وحبل جوارك فَقِهِ من فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب النَّار وَأَنت أهل الْوَفَاء وَالْحق. أللهم اغْفِر لَهُ وارحمه أَنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم) . وَالْحَبل الْعَهْد والميثاق. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي عَن أَبِيه (قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى على الْجِنَازَة قَالَ: أللهم إغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وَكَبِيرنَا، وَذكرنَا وأنثانا) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: البُخَارِيّ عَن اسْم أبي إِبْرَاهِيم الأشْهَلِي فَلم يعرفهُ. وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث يزِيد بن ركَانَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ يُصَلِّي على الْجِنَازَة قَالَ: أللهم عَبدك وَابْن عَبدك احْتَاجَ إِلَى رحمتك وَأَنت غَنِي عَن عَذَابه، إِن كَانَ محسنا فزد فِي إحسانه، وَإِن كَانَ مسيئا فَتَجَاوز عَنهُ) . وروى المستغفري فِي (الدَّعْوَات) من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا على: إِذا صليت على جَنَازَة فَقل: أللهم عَبدك وَابْن عَبدك وَابْن أمتك، ماضٍ فِيهِ حكمك، وَلم يكن شَيْئا مَذْكُورا، إزارك وَأَنت خير مزور. أللهم لقنه حجَّته وألحقه بِنَبِيِّهِ، ونزله فِي قَبره ووسع عَلَيْهِ فِي مدخله وثبته بالْقَوْل الثَّابِت فَإِنَّهُ افْتقر إِلَيْك واستغنيت عَنهُ، وَكَانَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لَهُ، أللهم لَا تَحْرِمنَا أجره وَلَا تفتنا بعده. يَا عَليّ: وَإِذا صليت على امْرَأَة فَقل: أَنْت خلقتها ورزقتها، وَأَنت أحييتها وَأَنت أمتها، وَأَنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئْنَاك شُفَعَاء لَهَا إغفر لَهَا، أللهم لَا تَحْرِمنَا أجرهَا وَلَا تفتنا بعْدهَا. يَا عَليّ: وَإِذا صليت على طِفْل فَقل: أللهم إجعل لِأَبَوَيْهِ سلفا، واجعله لَهما فرطا، واجعله لَهما نورا وسدادا، أعقب وَالِديهِ الْجنَّة إِنَّك على كل شَيْء قدير) . وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن حَارِث عَن أَبِيه (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علمهمْ الصَّلَاة على الْمَيِّت: أللهم إغفر لأحيائنا وأمواتنا، وَأصْلح ذَات بَيْننَا، وَألف بَين قُلُوبنَا. أللهم هَذَا عَبدك فلَان بن فلَان لَا تعلم إلاَّ خيرا، وَأَنت أعلم بِهِ. فَاغْفِر لنا وَله) .
66 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى القَبْرِ بَعْدَمَا يُدْفَنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على الْقَبْر بَعْدَمَا يدْفن الْمَيِّت فِيهِ، وَهَذَا من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا، فَلذَلِك أطلق التَّرْجَمَة بِالْجَوَازِ أَو بِعَدَمِهِ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: بعد الدّفن.(8/141)
6331 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيُّ. قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ. قَالَ أَخْبرنِي مَنْ مَرَّ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فأمَّهُيْ وَصَلوْا خَلْفَهُ قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ هاذا يَا أبَا عَمْرٍ وَقَالَ ابنُ عَباسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
(أنظر الحَدِيث 758 أَطْرَافه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْجَنَائِز فِي موضِعين فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَفِي: بَاب سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَرُوِيَ نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة فِي: بَاب كنس الْمَسْجِد، ثفي: بَاب الخدا فِي الْمَسْجِد وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
7331 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ قَالَ حَدثنَا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أبِي رَافِعٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ أسْوَدَ رَجُلاً أوِ امْرَأةً كانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ ولَمْ يَعْلَمِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْم فَقَالَ مَا فَعَلَ ذالِكَ الإنْسَانُ قالُوا ماتَ يَا رسولَ الله قَالَ أفَلاَ آذَنْتُمُونِي فقالُوا إنَّهُ كانَ كَذَا وكَذَا قِصَّتَهُ قَالَ فَحَقَّرُوا شَأنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فأتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
(أنظر الحَدِيث 854 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصلى عَلَيْهِ) أَي: على قَبره، وَقد ذكرنَا الْآن أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورين، أَحدهمَا: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد. وَالْآخر: عَن أَحْمد بن وَاقد عَن حَمَّاد، وَقد مضى الْكَلَام فيهمَا هُنَاكَ.
قَوْله: (رجلا) بِالنّصب بدل عَن أسود، وَيجوز بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. قَوْله: (كَانَ يقم) أَي: يكنس ويروى: (يكون فِي الْمَسْجِد يقم) . قَوْله (قَالُوا مَاتَ) ويروى (فَقَالُوا) قَوْله (ذَات يَوْم) من بَاب إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه أَو لَفظه ذَات مقحمة قَوْله: (قصَّته) ، مَنْصُور بمقدر، أَي: ذكرُوا قصَّته. قَوْله: (فدلوني) ، بِضَم الدَّال. وَفِي هَذَا الحَدِيث زَاد ابْن حبَان فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت، ثمَّ قَالَ: (إِن هَذِه الْقُبُور مَمْلُوءَة ظلمَة على أَهلهَا، وَإِن الله منورها عَلَيْهِم بصلاتي) . فَإِن قلت: صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر الْأسود الْمَذْكُور بِسَبَب أَنهم حقروا شَأْنه، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: صلَاته عَلَيْهِ بِسَبَب أَن قَبره مَمْلُوء ظلمَة على أَهلهَا) . قلت: الحكم يثبت بعلتين وَأكْثر.
76 - (بابٌ المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَيِّت يسمع خَفق نعال الْأَحْيَاء، وخفق النِّعَال صَوتهَا عِنْد دوسها على الأَرْض، وَقَوله: الْمَيِّت، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: يسمع، وَلَفظ: بَاب، مَقْطُوع عَن الْإِضَافَة وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
8331 - حدَّثنا عَيَّاشٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ قَالَ وَقَالَ لِي خَلِيفَة حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ العَبْدُ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّىَ وَذَهَبَ أصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أتَاهُ مَلَكَانِ فَأقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هاذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُ أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ الله ورَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أبْدَلَكَ الله بِهِ مَقْعَدا مِنَ الجَنَّةِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَرَاهُمَا جَمِيعا وَأمَّا الكَافِرُ أوِ المُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أدْرِي كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ لاَ يَلِيهِ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ.
(الحَدِيث 8331 طرفه فِي: 4731) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّه يسمع قرع نعَالهمْ) فَإِن قلت: فِي التَّرْجَمَة خَفق النِّعَال فَلَا تطابق؟ قلت: الخفق والقرع فِي(8/142)
الْمَعْنى سَوَاء، على أَنه ورد فِي بعض طرق الحَدِيث بِلَفْظ: الخفق، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأحمد من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب فِي أثْنَاء حَدِيث طَوِيل، فِيهِ: (وَإنَّهُ ليسمع خَفق نعَالهمْ) . وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي حَدثنَا عبد الْوَهَّاب يَعْنِي ابْن عَطاء عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام، مر فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة. الثَّالِث: خَليفَة، من الْخلَافَة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْفَاء: ابْن خياط، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الرَّابِع: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي، وَقد مر غير مرّة. الْخَامِس: سعيد بن أبي عرُوبَة. السَّادِس: قَتَادَة بن دعامة. السَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: سَاق حَدِيثه مَقْرُونا بِرِوَايَة خَليفَة عَن يزِيد ابْن زُرَيْع على لفظ خَليفَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَقَالَ لي خَليفَة، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ لي خَليفَة. وَمثل هَذَا إِذا قَالَ يكون قد أَخذه عَنهُ فِي المذاكرة غَالِبا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: إِن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن خَليفَة وَعَيَّاش الرقام، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار، قَالَ: حَدثنَا عبد بن حميد حَدثنَا يُونُس بن مُحَمَّد حَدثنَا شَيبَان ابْن عبد الرَّحْمَن (عَن قَتَادَة حَدثنَا أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ لي نبيّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ. قَالَ: يَأْتِيهِ ملكان فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول: أشهد أَنه عبد الله وَرَسُوله، قَالَ: فَيُقَال لَهُ أنظر إِلَى مَقْعَدك من النَّار، قد أبدلك الله بِهِ مقْعدا من الْجنَّة. قَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. قَالَ قَتَادَة: وَذكر لنا أَنه يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا، ويملأ عَلَيْهِ خضراء إِلَى يَوْم يبعثون) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن أبي عبد الله الْوراق مُخْتَصرا وَمُطَولًا. وَعند ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: (إِن الْمَيِّت يصير إِلَى الْقَبْر فيجلس الرجل الصَّالح غير فزع وَلَا مشغوب، ثمَّ يُقَال لَهُ: فيمَ كنت؟ فَيَقُول: كنت فِي الْإِسْلَام، فَيُقَال: مَا هَذَا الرجل؟ فَيَقُول: مُحَمَّد رَسُول الله جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ من عِنْد الله فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت الله؟ فَيَقُول لَا، وَمَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرَاهُ، فيفرج لَهُ فُرْجَة قبل النَّار، فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا بَعْضًا، فَيُقَال لَهُ: أنظر ألى مَا وقاك الله، ثمَّ تفرج لَهُ فُرْجَة قبل الْجنَّة، فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا، فَيُقَال: هَذَا مَقْعَدك، وَيُقَال لَهُ: على الْيَقِين كنت، وَعَلِيهِ مت، وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَيجْلس الرجل السوء فِي قَبره فَزعًا مشغوباً، فَيُقَال لَهُ: فيمَ كنت؟ فَيَقُول: لَا أَدْرِي، فَيُقَال لَهُ: مَا هَذَا الرجل؟ فَيَقُول: سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ قولا فقلته، فيفرج لَهُ فُرْجَة قبل الْجنَّة، فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا، فَيُقَال لَهُ أنظر إِلَى مَا صرفه الله عَنْك، ثمَّ تفرج لَهُ فُرْجَة إِلَى النَّار، فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا بَعْضًا فَيُقَال لَهُ: هَذَا مَقْعَدك، على الشَّك كنت، وَعَلِيهِ مت، وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم: (فَإِن كَانَ مُؤمنا كَانَت الصَّلَاة عِنْد رَأسه، وَكَانَ الصَّوْم عَن يَمِينه، وَكَانَت الزَّكَاة عَن يسَاره وَكَانَ فعل الْخيرَات من الصَّدَقَة والصلة وَالْمَعْرُوف وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس عِنْد رجلَيْهِ، فَأَي جِهَة أَتَى مِنْهَا يمْنَع، فيقعد فتمثل لَهُ الشَّمْس قد دنت للغروب، فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي هَذَا الرجل ... ؟ الحَدِيث مطولا. وَقَالَ: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قبر الْمَيِّت، أَو قَالَ: أحدكُم أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان يُقَال لأَحَدهمَا الْمُنكر، وَللْآخر: النكير. فَيَقُولَانِ: مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَيَقُول، مَا كَانَ يَقُول: هُوَ عبد الله وَرَسُوله أشهد إِن لَا إِلَه إلاَّ الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول هَذَا، ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي سبعين، ثمَّ ينور لَهُ فِيهِ، ثمَّ يُقَال لَهُ: نم، فَيَقُول أرجع إِلَى أَهلِي فَأخْبرهُم، فَيَقُولَانِ: نم كنومة الْعَرُوس الَّذِي لَا يوقظه إلاَّ أحب أَهله إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك، فَإِن كَانَ منافقا، قَالَ: سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ فَقلت مثلهم لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول ذَلِك، فَيُقَال للْأَرْض التئمي عَلَيْهِ، فتلتئم عَلَيْهِ فتختلف أضلاعه فَلَا يزَال فِيهَا معذبا حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: وَوصف الْملكَيْنِ: أعينهما مثل(8/143)
قدور النّحاس، وأنيابهما مثل صياصي الْبَقر، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (أَتَدْرُونَ فِيمَن أنزلت هَذِه الْآيَة: {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} (طه: 421) . هُوَ عَذَاب الْكَافِر فِي الْقَبْر، يُسَلط عَلَيْهِ تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا. أَتَدْرُونَ مَا التنين؟ هُوَ تِسْعَة وَتسْعُونَ حَيَّة، لكل حَيَّة تِسْعَة أرؤس ينفخن لَهُ ويلسعنه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (العَبْد) ، أَي: العَبْد الْمُؤمن المخلص. قَوْله: (وَتَوَلَّى) ، أَي: أعرض وَذهب أَصْحَابه، وَهُوَ من بَاب تنَازع الذّهاب. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه كرر اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِد. قلت: لَا نسلم أَن الْمَعْنى وَاحِد، لِأَن التولي هُوَ الْإِعْرَاض، وَلَا يسْتَلْزم الذّهاب. وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْت أَن لفظ: تولى، مضبوطا بِخَط مُعْتَمد على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: تولى أمره أَي: الْمَيِّت. قلت: لَا يعْتَمد على هَذَا، وَالْمعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (قرع نعَالهمْ) أَي: نعال النَّاس الَّذين حول قَبره من الَّذين باشروا دَفنه وَغَيرهم، وقرع النِّعَال: صَوتهَا عِنْد الْمَشْي، والقرع فِي الأَصْل الضَّرْب، فَكَأَن أَصْحَاب النِّعَال إِذا ضربوا الأَرْض بهَا خرج مِنْهَا صَوت. قَوْله: (ملكان) ، وهما الْمُنكر والنكير، كَمَا فسر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، وَإِنَّمَا سميا بِهَذَا الأسم لِأَن خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين، وَلَا خلق الْمَلَائِكَة وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق الْهَوَام، بل لَهما خلق بديع، وَلَيْسَ فِي خلقتيهما أنس للناظرين إِلَيْهِمَا، جَعلهمَا الله تكرمة لِلْمُؤمنِ لتثبته وتبصره، وهتكا لستر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قبل أَن يبْعَث حَتَّى يحل عَلَيْهِ الْعَذَاب، وسميا أَيْضا: فتانأ الْقَبْر، لِأَن فِي سؤالهما انتهار، أَو فِي خلقهما صعوبة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ بِسَنَد ضَعِيف: ناكور وسيدهم رُومَان. قَوْله: (فأقعداه) أَي: أجلساه. قَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله تَعَالَى: وهما مُتَرَادِفَانِ، وَهَذَا يبطل قَول من فرق بَينهمَا، بِأَن الْقعُود هُوَ عَن الْقيام، وَالْجُلُوس عَن الِاضْطِجَاع. قلت: اسْتِعْمَال الإقعاد مَوضِع الإجلاس لَا يمْنَع الْفرق الْمَذْكُور. قَوْله: (فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (مُحَمَّد) بِالْجَرِّ عطف بَيَان عَن الرجل، وَيجوز أَن يكون بَدَلا فَإِن قلت: هَذِه عبارَة خشنة لَيْسَ فِيهَا تَعْظِيم وَلَا توقير؟ قلت: قصد بهَا الامتحان للمسؤول لِئَلَّا يَتَلَقَّن تَعْظِيمه عَن عبارَة الْقَائِل، ثمَّ يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت. قَوْله: (فَيُقَال) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا القَوْل من الْمُنكر والنكير، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيرهمَا من الْمَلَائِكَة. قَوْله: (فَيَرَاهُمَا) أَي: الْمَقْعَدَيْنِ اللَّذين أَحدهمَا من الْجنَّة وَالْآخر من النَّار. قَوْله: (أَو الْمُنَافِق) شكّ من الرَّاوِي، وَالْمرَاد بالمنافق الَّذِي يقر بِلِسَانِهِ وَلَا يصدق بِقَلْبِه، وَظَاهر الْكَلَام وَهُوَ قَوْله: (لَا أَدْرِي كنت أَقُول كَمَا يَقُول النَّاس) ، يَشْمَل الْكَافِر وَالْمُنَافِق، وَلَكِن الْكَافِر لَا يَقُول ذَلِك فَيتَعَيَّن الْمُنَافِق، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ. قَوْله: (لَا دَريت) قَالَ الدَّاودِيّ: أَي: لَا وقفت فِي مقامك هَذَا وَلَا فِي الْبَيْت. قَوْله: (وَلَا تليت) قَالَ الْخطابِيّ: هَكَذَا يرويهِ المحدثون وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب: ايتليت، على وزن: إفتعلت، من قَوْلك: مَا ألوته أَي: مَا استطعته. وَيُقَال: لَا آلو كَذَا، أَي: لَا استطيعه. قلت: وَكَذَا قَالَ ابْن السّكيت: قَوْلهم لَا دَريت وَلَا ايتليت، هُوَ افتعلت من قَوْلك: مَا ألوت هَذَا، أَي: مَا استطعته من الإيالو، أَي: قصر، أَو: فلَان لَا يألوك نصحا، فَهُوَ آل، وَالْمَرْأَة: آلية، وَجَمعهَا: أوال، وَيُقَال أَيْضا: إِلَى يؤلى تالية إِذا قصر، وَأَبْطَأ. وَقَالَ ابْن قرقول: قيل: مَعْنَاهُ لَا تَلَوت يَعْنِي الْقُرْآن، أَي: لم تدر وَلم تتل. أَي: لم تنْتَفع بدرايتك وَلَا بتلاوتك، كَمَا قَالَ: {فَلَا صدق وَلَا صلى} (الْقِيَامَة: 13) . قيل: مَعْنَاهُ لَا اتبعت الْحق. قَالَه الدَّاودِيّ. وَقيل: لَا اتبعت مَا تَدْرِي، قَالَه الْقَزاز. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: تليت غلط وَالصَّوَاب: أتليت، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون التَّاء: يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن تتلى إبِله أَي: لَا يكون لَهَا أَوْلَاد تتلوها. أَي: تتبعها. وَقَالَ ابْن سراج: هَذَا بعيد فِي دُعَاء الْملكَيْنِ للْمَيت، وَأي مَال لَهُ؟ وَقَالَ القَاضِي: لَعَلَّ ابْن الْأَنْبَارِي رأى أَن هَذَا أصل هَذَا الدُّعَاء، ثمَّ اسْتعْمل فِي غَيره كَمَا اسْتعْمل غَيره من أدعية الْعَرَب. انْتهى. قلت: ابْن الْأَنْبَارِي لم يذكر الْملكَيْنِ، وَإِنَّمَا بَين الصَّوَاب من الْخَطَأ فِي هَذِه الْمَادَّة، وَقَوله بِأَن لَا تتلى إبِله من: اتليت النَّاقة، إِذا تَلَاهَا وَلَدهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَمِنْه قَوْلهم: لَا دَريت وَلَا اتليت، يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن لَا تتلى إبِله، أَي: لَا يكون لَهَا أَوْلَاد. وتلو النَّاقة وَلَدهَا الَّذِي يتلوها، وَقَالَ ثَعْلَب: لَا دَريت وَلَا تليت، أَصله: وَلَا تَلَوت، فقلبت الْوَاو يَاء لازدواج الْكَلَام. قلت: هَذَا أصوب من كل مَا ذَكرُوهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن هَذِه اللَّفْظَة جَاءَت هَكَذَا فِي حَدِيث الْبَراء فِي مُسْند أَحْمد: (لَا دَريت وَلَا تَلَوت) ، أَي: لم تتل الْقُرْآن فَلم تنْتَفع بدرايتك وَلَا تلاوتك، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ: وَلَا أتبعت النَّاس بِأَن تَقول شَيْئا يَقُولُونَهُ. وَقيل: لَا قَرَأت فقلبت الْوَاو يَاء للمزاوجة أَي: مَا علمت بِنَفْسِك بالاستدلال، وَلَا اتبعت الْعلمَاء بالتقليد(8/144)
وَقِرَاءَة الْكتب. وَقَالَ ابْن بطال: الْكَلِمَة من ذَوَات الْوَاو لِأَنَّهَا من تِلَاوَة الْقُرْآن، لكنه لما كَانَ مَعَ: دَريت، تكلم بِالْيَاءِ ليزدوج الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: الدُّعَاء عَلَيْهِ. أَي: لَا كنت داريا وَلَا تاليا. قَوْله: (ثمَّ يضْرب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: الْمَيِّت. قَوْله: (بِمِطْرَقَةٍ) ، بِكَسْر الْمِيم، قَالَ الْجَوْهَرِي: طرق النجاد الصُّوف يطرقه طرقا إِذا ضربه، والقضيب الَّذِي يضْرب بِهِ يُسمى: مطرقة، وَكَذَلِكَ مطرقة الْحداد. قَوْله: (من حَدِيد) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون صفة لموصوف مَحْذُوف أَي: من ضَارب حَدِيد، أَي قوي شَدِيد الْغَضَب. وَالْآخر: أَن يكون صفة لمطرقة، فعلى هَذَا تكون كلمة: من، بيانة، ثمَّ إِن الظَّاهِر أَن الضَّارِب غير الْمُنكر والنكير، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون أَحدهمَا، وَيحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا. وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) مَا يدل على جَوَاز الْوَجْهَيْنِ: الأول: مَا رَوَاهُ من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة رجل من الْأَنْصَار فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْر وَلم يلْحد، فَجَلَسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَلَسْنَا حوله كَأَنَّمَا على رؤوسنا الطير، وَفِي يَده عود ينكت بِهِ فِي الأَرْض، فَرفع رَأسه فَقَالَ: استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَإنَّهُ يسمع خَفق نعَالهمْ إِذا ولوا مُدبرين حِين يُقَال لَهُ: يَا هَذَا من رَبك وَمَا دينك وَمن نبيك؟ قَالَ هُنَاكَ: ويأتيه ملكان ويجلسانه. .) الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ يقيض لَهُ أعمى أبكم مَعَه مرزبة من حَدِيد، لَو ضرب بهَا جبل لصار تُرَابا، قَالَ فيضربه بهَا ضَرْبَة يسْمعهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب إلاَّ الثقلَيْن، فَيصير تُرَابا ثمَّ يُعَاد فِيهِ الرّوح) . فَهَذَا يدل صَرِيحًا على أَن الضَّارِب غير الْمُنكر والنكير. الثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (عَن أنس بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل نخلا لبني النجار فَسمع صَوتا فَفَزعَ فَقَالَ: من أَصْحَاب هَذِه الْقُبُور؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله نَاس مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (فَيَقُول لَهُ: مَا كنت تعبد؟ فَيَقُول لَهُ: لَا أَدْرِي، فَيَقُول: لَا دَريت وَلَا تليت، فَقَالَ لَهُ: مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟ فَيَقُول: كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس، فيضربه بمطراق من حَدِيد بَين أُذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا الْخلق غير الثقلَيْن) . فَهَذَا يدل صَرِيحًا على أَن الضَّارِب هُوَ الْملك الَّذِي يسْأَله، وَهُوَ إِمَّا الْمُنكر أَو النكير. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه جمع الْوَجْهَيْنِ؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون الضَّرْب مُتَعَددًا مرّة من أحد الْملكَيْنِ وَمرَّة من الْأَعْمَى الأبكم، وكل هَذَا فِي حق الْكفَّار. فَافْهَم. قَوْله: (من يَلِيهِ؟) أَي: من يَلِي الْمَيِّت؟ قيل: المُرَاد بِهِ الْمَلَائِكَة الَّذين تكون فتنته ومساءلته. قَوْله: (إِلَّا الثقلَيْن) أَي: غير الثقلَيْن، وهما: الْإِنْس وَالْجِنّ، وسميا بِهِ لثقلهما على الأَرْض. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي منع الثقلَيْن من سَماع صَيْحَة ذَاك المعذب بِمِطْرَقَةٍ الْحَدِيد؟ قلت: لَو سمعا لارتفع الِابْتِلَاء وَصَارَ الْإِيمَان ضَرُورِيًّا، ولأعرضوا عَن التدابير والصنائع وَنَحْوهمَا مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ بقاؤهما. فَإِن قلت: من للعقلاء فانحصر السماع على الْمَلَائِكَة. قلت: نعم، وَقيل: المُرَاد مِنْهُ الْعُقَلَاء وَغَيرهم، وَغلب جَانب الْعقل وَهَذَا أظهر، وَقيل: المُرَاد بِمن يَلِيهِ أَعم من الْمَلَائِكَة الَّذين تكون فتنته وَغَيرهم من الثقلَيْن، وَإِنَّمَا منعت الْجِنّ هَذِه النَّصِيحَة وَلم يمْنَع سَماع كَلَام الْمَيِّت إِذا حمل، وَقَالَ: قدموني، لِأَن كَلَام الْمَيِّت حِين يحمل إِلَى قَبره فِي حكم الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء من الْجَزَاء والعقوبة، لِأَن الْجَزَاء لَا يكون إلاَّ فِي الْآخِرَة، وَإِنَّمَا كَلَامه اعْتِبَار لمن سَمعه وموعظة، فاسمعه الله الْجِنّ لِأَنَّهُ جعل فيهم قُوَّة يثبتون بهَا عِنْد سَمَاعه وَلَا يصعقون، بِخِلَاف الأنسان الَّذِي كَانَ يصعق لَو سَمعه، وصيحة الْمَيِّت فِي الْقَبْر عِنْد فتنته هِيَ عُقُوبَة وَجَزَاء، فَدخلت فِي حكم الْآخِرَة، فَمنع الله تَعَالَى الثقلَيْن الَّذين هما فِي دَار الدُّنْيَا سَماع عُقُوبَته وجزائه فِي الْآخِرَة، وأسمعه سَائِر خلقه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَأنكر ذَلِك ضرار بن عَمْرو وَبشر المريسي وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين من الْمُعْتَزلَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . أَي: لَا يذوقون فِي الْجنَّة موتا سوى الموتة الأولى، وَلَو صَارُوا أَحيَاء فِي الْقُبُور لذاقوا مرَّتَيْنِ لَا موتَة وَاحِدَة، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} (فاطر: 22) . فَإِن الْغَرَض من سِيَاق الْآيَة تَشْبِيه الْكَفَرَة بِأَهْل الْقُبُور فِي عدم الإسماع. وَقَالُوا: أما من جِهَة الْعقل فَأَنا نرى شخصا يصلب وَيبقى مصلوبا إِلَى أَن تذْهب أجزاؤه وَلَا نشاهد فِيهِ أَحيَاء ومساءلة، وَالْقَوْل لَهُم بهما مَعَ الْمُشَاهدَة سفسطة ظَاهِرَة، وأبلغ مِنْهُ من أَكلته السبَاع والطيور وَتَفَرَّقَتْ أجزاؤه فِي بطونها وحواصلها، وأبلغ مِنْهُ من أحرق حَتَّى يفتت وذري أجزاؤه المفتتة فِي الرِّيَاح الْعَاصِفَة شمالاً وجنوبا وقبولاً ودبورا، فَإنَّا نعلم عدم إحيائه ومساءلته وعذابه ضَرُورَة. وَلنَا آيَات: إِحْدَاهَا: قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} (غَافِر: 64) . فَهُوَ صَرِيح فِي التعذيب بعد الْمَوْت. الثَّانِيَة: قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحيينا اثْنَتَيْنِ} (غَافِر: 11) . فَإِن الله تَعَالَى ذكر الموتة مرَّتَيْنِ، وهما لَا تتحققان(8/145)
إلاَّ أَن يكون فِي الْقَبْر حَيَاة وَمَوْت، حَتَّى تكون إِحْدَى الموتتين مَا يتَحَصَّل عقيب الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى مَا يتَحَصَّل عقيب الْحَيَاة الَّتِي فِي الْقَبْر، وَالثَّالِثَة: قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} (غَافِر: 64) . عطف هَذَا الْعَذَاب الَّذِي هُوَ عَذَاب بوم الْقِيَامَة على الْعَذَاب الَّذِي هُوَ عرض النَّار صباحا وَمَسَاء، فَعلم أَنه غَيره، وَذهب أَبُو الْهُذيْل بن العلاف وَبشر بن الْمُعْتَمِر إِلَى أَن الْكَافِر يعذب فِيمَا بَين النفختين أَيْضا، وَإِذا ثَبت التعذيب ثَبت الْإِحْيَاء والمساءلة، لِأَن كل من قَالَ بِعَذَاب الْقَبْر قَالَ بهما.
وَلنَا أَيْضا أَحَادِيث صَحِيحَة وأخبار متواترة. مِنْهَا: حَدِيث الْبَاب. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه مُسلم مطولا، وَفِيه: (تعوذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه السِّتَّة عَنهُ قَالَ: (مر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقبرين فَقَالَ: إنَّهُمَا ليعذبان. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، أخرجه السِّتَّة قَالَ: (إِذا قعد الْمُؤمن فِي قَبره أُتِي فَيشْهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} (إِبْرَاهِيم: 72) . لفظ البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيحَيْنِ: ( {يثبت الَّذين آمنُوا} (إِبْرَاهِيم: 72) . نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب أخرجه الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيّ، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {يثبت الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} (إِبْرَاهِيم: 72) . فِي الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيّ، وَفِيه: عَذَاب الْقَبْر حق، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَعَوَّذ من الْجُبْن وَالْبخل وَعَذَاب الْقَبْر وفتنة الصَّدْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث سعد، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَنه كَانَ يَقُول لِبَنِيهِ: أَي بني تعوذوا بِكَلِمَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَعَوَّذ بِهن، فَذكر عَذَاب الْقَبْر. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَغَيره عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَمر بِعَبْد من عباد الله أَن يضْرب فِي قَبره مائَة جلدَة، فَلم يزل يسْأَل الله ويدعوه حَتَّى صَارَت وَاحِدَة، فَامْتَلَأَ قَبره عَلَيْهِ نَارا) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث زيد بن أَرقم، أخرجه مُسلم عَنهُ، (قَالَ: لَا أَقُول لكم إلاَّ مَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: أللهم أَنِّي أعوذ بك من الْعَجز والكسل والجبن وَالْبخل وَعَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكرَة، أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي إِثْر الصَّلَاة: أللهم إِنِّي أعوذ بك من الْكفْر والفقر وَعَذَاب الْقَبْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة. أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ فِي حَدِيث مَرْفُوع، قَالَ فِيهِ: (أَو مَا علمْتُم مَا أصَاب صَاحب بني إِسْرَائِيل؟ كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا أصَاب الشَّيْء من الْبَوْل قرضه بالمقراض، فنهاهم عَن ذَلِك فعذب فِي قَبره) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أللهم إِنِّي أعوذ بك من الكسل. .) الحَدِيث. وَفِيه: (وَأَعُوذ بك من عَذَاب الْقَبْر) . وروى التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي (نَوَادِر الْأُصُول) حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر فتاني الْقَبْر، فَقَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أترد لنا عقولنا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، كهيئتكم الْيَوْم. فَقَالَ عمر: فِي فِيهِ الْحجر) . وَمِنْهَا: حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ على مَا يَأْتِي. وَمِنْهَا: حَدِيث أم مُبشر أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَت: (دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا فِي حَائِط من حَوَائِط بني النجار فِيهِ قُبُور مِنْهُم قد مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَت: فَخرج فَسَمعته يَقُول: استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر. قلت: يَا رَسُول الله، وللقبر عَذَاب؟ قَالَ: إِنَّهُم ليعذبون عذَابا فِي قُبُورهم تسمعه الْبَهَائِم) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم خَالِد أخرجه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ عَنْهُمَا أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يتَعَوَّذ من عَذَاب الْقَبْر.
وَأما الْجَواب عَن قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إلاَّ الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . أَن ذَلِك وصف لأهل الْجنَّة، وَالضَّمِير فِيهَا للجنة أَي: لَا يذوقون أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة الْمَوْت فَلَا يَنْقَطِع نعيمهم كَمَا انْقَطع نعيم أهل الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ، فَلَا دلَالَة فِي الْآيَة على انْتِفَاء موتَة أُخْرَى بعد المساءلة، وَقبل دُخُول الْجنَّة. وَأما قَوْله: {إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . فَهُوَ تَأْكِيد لعدم مَوْتهمْ فِي الْجنَّة على سَبِيل التَّعْلِيق بالمحال، كَأَنَّهُ قيل: لَو أمكن ذوقهم الموتة الأولى لذاقوا الموتة الألى، لكنه لَا يُمكن بِلَا شُبْهَة، فَلَا يتَصَوَّر مَوْتهمْ فِيهَا وَقد يُقَال:(8/146)
{إلاَّ الموتة الأولى} (الدُّخان: 65) . للْجِنْس لَا للوحدة، وَإِن كَانَت الصِّيغَة صِيغَة الْوَاحِد نَحْو: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2) . وَلَيْسَ فِيهَا نفي تعدد الْمَوْت، لِأَن الْجِنْس يتَنَاوَل المتعدد أَيْضا بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى أحيى كثيرا من الْأَمْوَات فِي زمَان مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ يُوجب تَأْوِيل الْآيَة بِمَا ذكرنَا، وأماالجواب عَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} (فاطر: 22) فَهُوَ أَن عدم إسماع أهل الْقُبُور وَلَا يسْتَلْزم عدم إدراكهم وَأما الْجَواب عَن دليلهم الْعقلِيّ فَهُوَ أَن المصلوب لَا بعد فِي الْأَحْيَاء والمسائلة مَعَ عدم الْمُشَاهدَة كَمَا فِي صَاحب السكر فَإِنَّهُ حَيّ مَعَ أَنا لَا نشاهد حَيَاته وكما فِي رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ بَين أظهر أَصْحَابه مَعَ ستره عَنْهُم وَلَا بعد فِي رد الْحَيَاة إِلَى أَجزَاء الْبدن فَيخْتَص بِالْإِحْيَاءِ والمسائلة وَالْعَذَاب وَإِن لم يكن ذَلِك مشاهدا لنا وَقَالَ الصَّالِحِي من الْمُعْتَزلَة وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين يجوز التعذيب على الْمَوْتَى من غير إحْيَاء وَهَذَا خُرُوج عَن الْمَعْقُول لِأَن الجماد لَا حس لَهُ فَكيف يتَصَوَّر تعذيبه وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين الآلام تَجْتَمِع فِي أجساد الْمَوْتَى وتتضاعف من غير إحساس بهَا فَإِذا حشروا أحسوا بهَا دفْعَة وَاحِدَة وَهَذَا إِنْكَار للعذاب قبل الْحَشْر وَهُوَ بَاطِل بِمَا قَرَّرْنَاهُ. وَفِيه إِثْبَات السُّؤَال بالملكين اللَّذين بَينا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَأنكر الجبائي وَابْنه الْبَلْخِي تَسْمِيَة الْملكَيْنِ بالمنكر والنكير وَقَالُوا إِنَّمَا الْمُنكر مَا يصدر من الْكَافِر عِنْد تلجلجه إِذا شئل والنكير إِنَّمَا هُوَ تقريع الْملكَيْنِ وَيرد عَلَيْهِم بِالْحَدِيثِ الَّذِي فسر فِيهِ الْملكَانِ بهما كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز لبس النَّعْل لزائر الْقُبُور الْمَاشِي بَين ظهرانيها، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى كَرَاهَة ذَلِك، وَبِه قَالَ يزِيد بن زُرَيْع وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل لأحد أَن يمشي بَين الْقُبُور بنعلين سبتيتين، وهما اللَّذَان لَا شعر عَلَيْهِمَا، فَإِن كَانَ فيهمَا شعر جَازَ ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي أَحدهمَا شعر وَالْآخر بِلَا شعر جَازَ الْمَشْي فيهمَا، وَفِي (الْمُغنِي) : ويخلع النِّعَال إِذا دخل الْمَقَابِر، وَهَذَا مُسْتَحبّ. وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِحَدِيث بشير بن الخصاصية: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يمشي بَين الْقُبُور فِي نَعْلَيْنِ فَقَالَ: وَيحك يَا صَاحب السبتيتين إلق سبتيتيك) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بأتم مِنْهُ، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ، وَكَذَا صَححهُ ابْن حزم، والخصاصية، أمه وَاخْتلف فِي اسْم أَبِيه، فَقيل: بشير بن نَذِير، وَقيل: ابْن معبد ابْن شرَاحِيل. وَقَالَ الْجُمْهُور من الْعلمَاء بِجَوَاز ذَلِك، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وجماهير الْفُقَهَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، وَأجِيب عَن حَدِيث ابْن الخصاصية بِأَنَّهُ إِنَّمَا اعْترض عَلَيْهِ بِالْخلْعِ إحتراما للمقابر، وَقيل: لاختياله فِي مَشْيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْخلْعِ لَا لكَون الْمَشْي بَين الْقُبُور بالنعال مَكْرُوها. وَلَكِن لما رأى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قذرا فيهمَا يقذر الْقُبُور أَمر بِالْخلْعِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون إِنَّمَا كره ذَلِك لِأَنَّهُ فعل أهل النِّعْمَة وَالسعَة، فَأحب أَن يكون دُخُول الْمقْبرَة على التَّوَاضُع والخشوع. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث سوى الْحِكَايَة عَمَّن يدْخل الْمَقَابِر، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيمًا، وَيدل على أَنه أمره بِالْخلْعِ احتراما للقبور لِأَنَّهُ نهى عَن الِاسْتِنَاد وَالْجُلُوس عَلَيْهَا. وَفِيه: ذُهُول عَمَّا ورد فِي بعض الْأَحَادِيث أَن صَاحب الْقَبْر، كَانَ يسْأَل فَلَمَّا سمع صرير السبتتين أصغى إِلَيْهِ فكاد يهْلك لعدم جَوَاب الْملكَيْنِ فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلقهما لِئَلَّا تؤذي صَاحب الْقَبْر ذكره أَبُو عبد الله التِّرْمِذِيّ. فَإِن قلت: بعد فرَاغ الْملكَيْنِ من السُّؤَال مَا يكون الْمَيِّت؟ قلت: إِن كَانَ سعيدا كَانَ روحه فِي الْجنَّة، وَإِن كَانَ شقيا فَفِي سجّين على صَخْرَة على شَفير جَهَنَّم فِي الأَرْض السَّابِعَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: يكون قوم فِي برزخ لَيْسُوا فِي جنَّة وَلَا نَار، وَيدل عَلَيْهِ قصَّة أَصْحَاب الْأَعْرَاف، وَالله أعلم مَا يُقَال لمن يدْخل من أَصْحَاب الْكَبَائِر، أَكَانَ يُقَال لَهُ: نم صَالحا أَو يسكت عَنهُ. وَقيل: إِن أَرْوَاح السُّعَدَاء تطلع على قبورها، وَأكْثر مَا يكون مِنْهَا لَيْلَة الْجُمُعَة ويومها، وَلَيْلَة السبت إِلَى طُلُوع الشَّمْس، فَإِنَّهُم يعْرفُونَ أَعمال الْأَحْيَاء، يسْأَلُون من مَاتَ من السُّعَدَاء: مَا فعل فلَان فَإِن ذكر خيرا قَالَ: أللهم ثبته وَإِن كَانَ غَيره قَالَ: أللهم رَاجع بِهِ، وَإِن قيل لَهُم: مَاتَ. قيل: ألم يأتكم؟ قَالُوا: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، سلك بِهِ غير طريقنا، هوى بِهِ إِلَى أمه الهاوية. وَقيل: إِنَّهُم إِذا كَانُوا على قُبُورهم يسمعُونَ من يسلم عَلَيْهِم، فَلَو أذن لَهُم لردوا السَّلَام.
86 - (بابُ مَنْ أحَبَّ الدَّفْنَ فِي الأرْضِ المُقَدَّسَةِ أوْ نَحْوِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي يذكر فِيهِ من أحب أَن يدْفن فِي بَيت الْمُقَدّس إِمَّا طلبا للقرب من الْأَنْبِيَاء المدفونين هُنَاكَ، أَو ليقرب عَلَيْهِ(8/147)
الْمَشْي إِلَى الْمَحْشَر، وَتسقط عَنهُ الْمَشَقَّة الَّتِي تحصل لمن بعد مِنْهُ. قَوْله: (أَو نَحْوهَا) أَي: من بَقِيَّة مَا تشد إِلَيْهِ الرّحال من الْحَرَمَيْنِ.
9331 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُسٍ عَن أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلَى مُوسى عَلَيْهِما السلاَمُ فَلَمَّا جاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ فَقَالَ أرْسَلْتَنِي إلَى عبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوتَ فَرَدَّ الله عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعْ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْر فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أيْ رَبِّ ثُمَّ ماذَا قَالَ ثُمَّ المَوْتُ قَالَ فاْلآنَ فَسَالَ الله أنْ يُدْنِيهِ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ.
(الحَدِيث 9331 طرفه فِي: 7043) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَسَأَلَ الله أَن يُدْنِيه من الأَرْض المقدسة) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مَحْمُود بن غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، مر فِي: بَاب النّوم قبل الْعشَاء. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام، وَقد مضى. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عبد الله بن طَاوُوس، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض. الْخَامِس: طَاوُوس بن كيسَان، وَقد مر غير مرّة. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَمعمر بَصرِي وَعبد الرَّزَّاق وَعبد الله بن طَاوُوس وَأَبوهُ طَاوُوس يمانيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يرفع الحَدِيث هَهُنَا فَلذَلِك عابه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَرَفعه فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، على مَا يَجِيء.
وَأخرجه عَن يحيى بن مُوسَى، وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن رَافع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرسل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْلُوم أَن الله هُوَ الَّذِي أرْسلهُ. قَوْله: (صَكه) أَي: ضربه بِحَيْثُ فَقَأَ عينه، يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فَرد الله عينه) ، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة مُسلم، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد، قَالَ عبد: أخبرنَا، وَقَالَ ابْن رَافع: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: أرسل ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه ففقأ عينه، فَرجع إِلَى ربه فَقَالَ: أرسلتني إِلَى عبد لَا يُرِيد الْمَوْت. قَالَ: فَرد الله إِلَيْهِ عينه) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهُ: أجب رَبك، قَالَ: فلطم مُوسَى عين ملك الْمَوْت ففقأها، فَرجع الْملك إِلَى الله فَقَالَ: أرسلتني إِلَى عبد لَك لَا يُرِيد الْمَوْت، وَقد فَقَأَ عَيْني. قَالَ: فَرد الله إِلَيْهِ عينه) الحَدِيث. وَهَذَا الطَّرِيق مَرْفُوع، وَالَّذِي قبله مَوْقُوف كَمَا أخرجه البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: أنكر بعض أهل الْبدع والجهمية هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: لَا يَخْلُو أَن يكون مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف ملك الْمَوْت أَو لم يعرفهُ، فَإِن كَانَ عرفه فقد استخف بِهِ، وَأَن كَانَ لم يعرفهُ فرواية من روى أَنه كَانَ يَأْتِي مُوسَى عيَانًا لَا معنى لَهَا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لم يقْتَصّ لملك الْمَوْت من اللَّطْمَة وفقء الْعين، وَالله تَعَالَى لَا يظلم أحدا.
قَالَ ابْن خُزَيْمَة: وَهَذَا اعْتِرَاض من أعمى الله بصيرته، وَمعنى الحَدِيث صَحِيح، وَذَلِكَ أَن مُوسَى لم يبْعَث الله إِلَيْهِ ملك الْمَوْت وَهُوَ يُرِيد قبض روحه، حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا بَعثه اختبارا وبلاءً، كَمَا أَمر الله تَعَالَى خَلِيله بِذبح وَلَده وَلم يرد إِمْضَاء ذَلِك، وَلَو أَرَادَ أَن يقبض روح مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين لطم الْملك لَكَانَ مَا أَرَادَ، وَكَانَت اللَّطْمَة مُبَاحَة عِنْد مُوسَى إِذْ رأى آدَمِيًّا دخل عَلَيْهِ، وَلَا يعلم أَنه ملك الْمَوْت، وَقد أَبَاحَ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَأَ عين النَّاظر فِي دَار الْمُسلم بِغَيْر إِذن، ومحال أَن يعلم مُوسَى أَنه ملك الْمَوْت ويفقأ عينه، وَقد جَاءَت الْمَلَائِكَة إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلم يعرفهُمْ ابْتِدَاء، وَلَو علمهمْ لَكَانَ من الْمحَال أَن يقدم إِلَيْهِم عجلاً، لأَنهم لَا يطْعمُون. وَقد جَاءَ الْملك إِلَى مَرْيَم فَلم تعرفه، وَلَو عَرفته لما استعاذت مِنْهُ، وَقد دخل الْملكَانِ على دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي شبه آدميين يختصمان عِنْده فَلم يعرفهما، وَقد جَاءَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلَهُ(8/148)
عَن الْإِيمَان فَلم يعرفهُ، وَقَالَ: مَا أَتَانِي فِي صُورَة قطّ إِلَّا عَرفته فِيهَا غير هَذِه الْمرة، فَكيف يستنكر أَن لَا يعرف مُوسَى الْملك حِين دخل عَلَيْهِ.
وَأما قَول الجهمي: ءن الله تَعَالَى لم يقْتَصّ للْملك، فَهُوَ دَلِيل على جَهله من الَّذِي أخبرهُ أَن بَين الْمَلَائِكَة والآدميين قصاصا وَمن أخبرهُ أَن الْملك طلب الْقصاص فَلم يقْتَصّ لَهُ، وَمَا الدَّلِيل على أَن ذَلِك كَانَ عمدا وَقد أخبرنَا نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الله تَعَالَى لم يقبض نَبيا قطّ حَتَّى يرِيه مَقْعَده فِي الْجنَّة، ويخبره فَلم ير أَن يقبض روحه قبل أَن يرِيه مَقْعَده من الْجنَّة ويخبره، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقَول من قَالَ: فَقَأَ عينه بِالْحجَّةِ، لَيْسَ بِشَيْء لما فِي الحَدِيث: فَرد الله عينه، وَقَالَ الْخطابِيّ. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يفعل مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْملكِ مثل هَذَا الصَّنِيع؟ أَو كَيفَ تصل يَده إِلَيْهِ؟ أَو كَيفَ لَا يقبض الْملك روحه وَلَا يمْضِي أَمر الله تَعَالَى بِهِ؟ قلت: أكْرم الله مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي حَيَاته بِأُمُور أفرده بهَا، فَلَمَّا دنت وَفَاته لطف أيضابه بِأَن لم يَأْمر الْملك بِهِ بِأخذ روحه قهرا، لَكِن أرْسلهُ على سَبِيل الامتحان فِي صُورَة الْبشر، فاستنكر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَأْنه وَدفعه عَن نَفسه، فَأتى ذَلِك على عينه الَّتِي ركبت فِي الصُّورَة البشرية الَّتِي جَاءَهُ فِيهَا دون الصُّورَة الملكية، وَقد كَانَ فِي طبع مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِدة. رُوِيَ أَنه كَانَ إِذا غضب اشتعلت قلنسوته نَارا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ عَلَيْهِ فقء عين الْملك؟ قلت: لَا يمْتَنع أَن يَأْذَن الله لَهُ فِي هَذِه اللَّطْمَة، وَيكون ذَلِك امتحانا للملطوم، وَالله يفعل مَا يَشَاء. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي (مُخْتَلف الحَدِيث) : أذهب مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْعين الَّتِي هِيَ تخييل وتمثيل وَلَيْسَت على حَقِيقَته، وَعَاد ملك الْمَوْت إِلَى حَقِيقَة خلقه الروحاني كَمَا كَانَ لم ينتقص مِنْهُ شَيْء.
قَوْله: (قَالَ: أَي رب) أَي: قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: يَا رب. قَوْله: (ثمَّ مَاذَا) ، وَفِي رِوَايَة: (ثمَّ مَه) ، وَهِي: مَا، الاستفهامية. وَلما وقف عَلَيْهَا زَاد هَاء السكت، وَالْمعْنَى: ثمَّ مَا يكون بعد ذَلِك؟ . قَوْله: (قَالَ: ثمَّ الْمَوْت) أَي: قَالَ الله تَعَالَى: ثمَّ يكون بعد ذَلِك الْمَوْت. قَوْله: (قَالَ فَالْآن) أَي: قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْآن يكون الْمَوْت، وَلَفظ: الْآن، ظرف زمَان غير مُتَمَكن، وَهُوَ اسْم لزمان الْحَال وَهُوَ الزَّمَان الْفَاصِل بَين الْمَاضِي والمستقبل، وَهُوَ يدل على أَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، لما خَيره الله تَعَالَى اخْتَار الْمَوْت شوقا إِلَى لِقَاء ربه تَعَالَى، كَمَا خير نَبينَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: (الرفيق الْأَعْلَى) . قَوْله: (فَسَأَلَ الله أَن يُدْنِيه من الأَرْض المقدسة) أَي: فَعِنْدَ ذَلِك سَأَلَ مُوسَى الله أَن يقربهُ من الأَرْض المقدسة، وَهِي بَيت الْمُقَدّس. وَقَالَ ابْن التِّين: الأَرْض المقدسة الشَّام، وَمعنى: المقدسة، المطهرة. وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب على المفعولية، أَي: سَأَلَ الله تَعَالَى الدنو من بَيت الْمُقَدّس ليدفن فِيهِ دنوا لَو رمى رام الْحجر من ذَلِك الْموضع الَّذِي هُوَ الْآن مَوضِع قَبره لوصل إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَإِنَّمَا سَأَلَ ذَلِك لفضل من دفن فِي الأَرْض المقدسة من الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، فاستحب مجاورتهم فِي الْمَمَات كَمَا فِي الْحَيَاة، وَلِأَن النَّاس يقصدون الْمَوَاضِع الفاضلة ويزورون قبورها وَيدعونَ لأَهْلهَا. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا سَأَلَ الدنو مِنْهَا ليسهل على نَفسه وَيسْقط عَنهُ الْمَشَقَّة الَّتِي تكون على من هُوَ بعيد مِنْهَا، وصعوبته عِنْد الْبَعْث والحشر. فَإِن قلت: لِمَ لم يسْأَل نفس الْبَيْت وَسَأَلَ الدنو مِنْهُ؟ قلت: خَافَ أَن يكون قَبره مَشْهُورا فيفتنن بِهِ النَّاس، كَمَا أخبر بِهِ الشَّارِع أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد. قَوْله: (رمية بِحجر) ، يحْتَمل أَن يكون على قربهَا دونهَا قدر رمية حجر أَو أدنى من مَكَاني إِلَى الأَرْض المقدسة، هَذَا الْقدر. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي طلبه الدنو من الأَرْض المقدسة؟ قلت: الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن الله لما منع بني إِسْرَائِيل من دُخُول بَيت الْمُقَدّس وتركهم فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة إِلَى أَن أفناهم الْمَوْت وَلم يدْخل الأَرْض المقدسة إِلَّا أَوْلَادهم مَعَ يُوشَع، عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَات هَارُون ثمَّ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، قبل فتحهَا، ثمَّ إِن مُوسَى لما لم يتهيأ لَهُ دُخُولهَا لغَلَبَة الجبارين عَلَيْهَا، وَلَا يُمكن نبشه بعد ذَلِك لينقل إِلَيْهَا طلب الْقرب مِنْهَا، لِأَن مَا قَارب الشَّيْء أعطي حكمه. وَقيل: إِنَّمَا طلب الدنو لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْفن حَيْثُ يَمُوت وَلَا ينْقل. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن مُوسَى قد نقل يُوسُف، عَلَيْهِمَا السَّلَام إِلَى بلد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَفِيه نظر، لِأَن مُوسَى مَا نَقله إلاَّ بِالْوَحْي، فَكَانَ ذَاك مَخْصُوصًا بِهِ. قَوْله: (فَلَو كنت ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ. وَلما عرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مُوسَى قَائِما يُصَلِّي فِي قَبره. .
وَفِي (الْمرْآة) اخْتلفُوا فِي مَوضِع قبر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنه بِأَرْض التيه، هُوَ وَهَارُون، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يذخل الأَرْض المقدسة إلاَّ رمية حجر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ: لَا يعرف قَبره، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أبهم ذَلِك(8/149)
بقوله: (إِلَى جَانب الطَّرِيق عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر) ، وَلَو أَرَادَ بَيَانه لبين صَرِيحًا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَو علمت الْيَهُود قبر مُوسَى وَهَارُون لاتخذوهما ال هَين من دون الله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يطلع على قبر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا الرخمة، وَهِي الَّتِي أطلعت على قبر هَارُون لما دفن فِي التيه، فَنزع الله تَعَالَى عقلهَا لِئَلَّا تدل عَلَيْهِ، وَمعنى عقلهَا: إلهامها.
الثَّانِي: أَنه بِبَاب لد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ الصَّحِيح. قلت: كَيفَ يكون هُوَ الصَّحِيح، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس ووهب وَعَامة الْعلمَاء: إِنَّه بِأَرْض التيه.
الثَّالِث: أَن قَبره مَا بَين عالية وعويلة، ذكره الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي (تَارِيخ دمشق) فَقَالَ، وَرُوِيَ: أَن قبر مُوسَى بَين عالية وعويلة وهما محلتان عِنْد مَسْجِد الْقدَم، وَيُقَال: إِن قَبره رئي فِي الْمَنَام فِيهَا. قَالَ: وَالأَصَح أَنه بتيه بني إِسْرَائِيل.
الرَّابِع: أَن قَبره بواد فِي أَرض مآب بَين بصرى والبلقاء.
الْخَامِس: أَن قَبره بِدِمَشْق، ذكره الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم عَن كَعْب الْأَحْبَار، وَذكر ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) أَن قبر مُوسَى بمدين بَين الْمَدِينَة وَبَين الْمُقَدّس وَاعْترض عَلَيْهِ الضياء مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد فِي كِتَابه (علل الْأَحَادِيث) بِأَن مَدين لَيست قريبَة من الْقُدس وَلَا من الأَرْض المقدسة، وَقد اشْتهر أَن قَبره بأريحا وَهِي من الأَرْض المقدسة مرار، وَيُقَال: إِنَّه قبر مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده كثيب أَحْمَر، كَمَا فِي الحَدِيث، وَطَرِيق، وَالدُّعَاء عِنْده مستجاب.
قَوْله: (إِلَى جَانب الطّور) ذكر ياقوت فِي (كتاب الْمُشْتَرك) أَن الطّور سَبْعَة مَوَاضِع: مِنْهَا: جبل بَيت الْمُقَدّس يُقَال لَهُ طور زيتا، وَفِي الْأَثر: مَاتَ بطور زيتا سَبْعُونَ ألف نَبِي قَتلهمْ الْجُوع وَهُوَ شَرْقي وَادي سلوان، وَمِنْهَا: طور هَارُون، علم لجبل عَال مشرف من قبلي بَيت الْمُقَدّس فِيهِ فِيمَا قيل قبر هَارُون أخي مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالظَّاهِر أَن الطّور الْمَذْكُور هُوَ أحد الطورين الْمَذْكُورين، وَلَكِن الْأَقْرَب أَنه: طور زيتا، وَالله أعلم. قَوْله: (عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر) ، هُوَ الرمل الْمُجْتَمع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة ظَاهِرَة على أَن لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منزلَة كَبِيرَة حَيْثُ فَقَأَ عين ملك الْمَوْت وَلم يعاتبه عَلَيْهِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدّفن فِي الْمَوَاضِع الفاضلة والقرب من مدافن الصَّالِحين. وَفِيه: أَن للْملك قدرَة على التَّصَوُّر بِصُورَة غير صورته. وَفِيه: فِي قَوْله: (يضع يَده على متن ثَوْر) دلَالَة على أَن الدُّنْيَا بَقِي مِنْهَا كثير، وَإِن كَانَ قد ذهب أَكْثَرهَا. وَفِيه: دلَالَة على الزِّيَادَة فِي الْعُمر مثل الحَدِيث الآخر: (من سره أَن يبسط رزقه وينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه) ، وَهُوَ يُؤَيّد قَول من قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يعمر من معمر ... } (فاطر: 11) . الْآيَة، أَنه زِيَادَة وَنقص فِي الْحَقِيقَة.
96 - (بابُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة دفن الْمَيِّت فِي اللَّيْل، وَإِنَّمَا لم يُفَسر الْجَوَاز بل أطلق التَّرْجَمَة لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى كَرَاهَة دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد والطَّحَاوِي، قَالَ: (إِن رجلا من بني عذرة دفن لَيْلًا وَلم يصل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنهى عَن الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (لَا تدفنوا أمواتكم بِاللَّيْلِ) . وَقَالَ ابْن حزم: لَا يجوز أَن يدْفن أحد لَيْلًا إلاَّ عَن ضَرُورَة، وكل من دفن لَيْلًا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَزوَاجه وَأَصْحَابه، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِنَّمَا ذَلِك لضَرُورَة أوجبت ذَلِك من خوف زحام أَو خوف الْحر على من حضر وحر الْمَدِينَة شَدِيد، أَو خوف تغير أَو غير ذَلِك مِمَّا يُبِيح الدّفن لَيْلًا، لَا يحل لأحد أَن يظنّ بهم خلاف ذَلِك، وَذهب النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَعَطَاء وَابْن أبي حَازِم ومطرف ابْن عبد الله وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْأَصَح وَإِسْحَاق إِلَى أَن دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، قَالَ أَخْبرنِي: جَابر بن عبد الله أَو سَمِعت جَابر بن عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي الْمقْبرَة فأتوها فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر، وَإِذا هُوَ يَقُول: ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل الَّذِي كَانَ يرفع صَوته بِالذكر) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: النَّهْي فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور لَيْسَ لأجل كَرَاهَة الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَكِن لإِرَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي على جَمِيع الْمُسلمين، لما يكون لَهُم فِي ذَلِك من الْفضل وَالْخَيْر ببركة صلَاته عَلَيْهِم، لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيث يزِيد بن(8/150)
ثَابت: فَإِن صَلَاتي عَلَيْهِم رَحْمَة، وَلِأَن صلَاته عَلَيْهِم نور فِي قُبُورهم. وَذكر فِيهِ وَجها آخر، وَهُوَ مَا ذكره عَن الْحسن: أَن قوما كَانُوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم لَيْلًا، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك، وَقَالَ أَيْضا: وَقد فعل ذَلِك برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدفن بِاللَّيْلِ، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: دفن عَليّ بن أبي طَالب فَاطِمَة لَيْلًا، وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: دفن أَبُو بكر لَيْلًا.
وَدُفِنَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَيْلاً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْجَنَائِز فِي: بَاب موت يَوْم الْإِثْنَيْنِ، من حَدِيث عَائِشَة، وَفِيه: (دفن أَبُو بكر قبل أَن يصبح) ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْوَلِيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: (دفن أَبُو بكر لَيْلًا، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عَن ابْن السباق أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دفن أَبَا بكر لَيْلًا، ثمَّ دخل الْمَسْجِد فأوتر.
0431 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَما دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قامَ هُوَ وَأصْحَابُهُ وكانَ سَألَ عَنْهُ فقالَ مَنْ هاذا فَقَالُوا فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ فَصَلُّوا عَلَيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم لما قَالُوا: دفن البارحة، لم يُنكر عَلَيْهِم، فَدلَّ ذَلِك على عدم كَرَاهَة دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَفِي: بَاب سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَفِي: بَاب الصَّلَاة على الْقَبْر بَعْدَمَا يدْفن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. والشيباني: هُوَ سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
قَوْله: (قَامَ) ، ويروى: (فَقَامَ) ، قَوْله: (فصلوا) ، على صِيغَة الْجمع من الْمَاضِي: أَي صلى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: هَذَا تكْرَار لقَوْله صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن ذَلِك مُجمل وَهَذَا تَفْصِيل لأحواله، فَافْهَم وتيقظ.
07 - (بابُ بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان منع بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على هَذَا.
1431 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا اشْتَكَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأيْنَهَا بِأرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وكانتْ أُمُّ سَلَمَةَ وأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أتَتَا أرْضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرفع رَأسه فَقَالَ أُولَئِكَ إِذا مان مِنْهُم الرجل الصَّالح بنوا على قَبره مَسْجِدا ثمَّ صوروا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بنوا على قَبره مَسْجِدا. .) إِلَى آخِره، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الْبيعَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا عَبدة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (اشْتَكَى) أَي: مرض، ومارية، بِكَسْر الرَّاء: علم للكنيسة. قَوْله: (تِلْكَ) .
17 - (بابُ مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ المَرْأةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من يدْخل قبر الْمَرْأَة لأجل إلحادها.(8/151)
2431 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا هِلالُ بنُ عَلِيْ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ شَهِدْنَا بِنْتَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ عَلَى القَبْرِ فَرَأيْتُ عَيْنَيْهِ تدْمَعَانِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ أَنا قَالَ فانْزِلْ فِي قَبْرِهَا قَالَ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا. قَالَ ابنُ المُبَارَكِ قَالَ فُلَيْحٌ أرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ.
(أنظر الحَدِيث 5821) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأبي طَلْحَة: إنزل فِي قبر بنته، فَنزل فقبرها. وَقد ذكرنَا وَجه هَذَا فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يعذب الْمَيِّت ببكاء أَهله، لِأَنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ أَيْضا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَامر، قَالَ: حَدثنَا فليح بن سُلَيْمَان إِلَى آخِره. . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (لم يقارف) أَي: لم يُبَاشر الْمَرْأَة. قَوْله: (فَقَالَ أَبُو طَلْحَة) : اسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (فقبرها) ، أَي: قبر أَبُو طَلْحَة بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ ابْن الْمُبَارك) ، هُوَ عبد الله بن الْمُبَارك. قَالَ فليح: أرَاهُ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا قَالَ شُرَيْح بن النُّعْمَان عَن فليح: أخرجه أَحْمد عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عَليّ الغساني: كَذَا فِي النّسخ. قَالَ ابْن الْمُبَارك: وَفِي أصل أبي الْحسن الْقَابِسِيّ، قَالَ أَبُو الْمُبَارك: قَالَ أَبُو الْحسن، هُوَ أَبُو الْمُبَارك مُحَمَّد بن سِنَان يَعْنِي: أَبُو الْمُبَارك كنيته مُحَمَّد بن سِنَان شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور. وَقَالَ الجياني: هَذَا وهم من مُحَمَّد بن سِنَان لَا أعلم بَينهم خلافًا أَنه يكنى أَبَا بكر، وَكَانَ فِي نُسْخَة عَبدُوس عَن أبي زيد، كَمَا عِنْد سَائِر الروَاة على الصَّوَاب، وَفِي (التَّلْوِيح) ، وروى هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ. وانْتهى إِلَى قَوْله: قَالَ: فَنزل فِي قبرها، وَلم يذكر التَّفْسِير الَّذِي ذكره فِي (الْجَامِع) . وَرِوَايَة عبد الله بن الْمُبَارك عَن فليح مَشْهُورَة، وَقد روى فِي معنى المقارفة معنى آخر غير مَا فسر فليح (عَن أنس: لما مَاتَت رقية، قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يدْخل الْقَبْر رجل قارف اللَّيْلَة أَهله، فَلم يدْخل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . قَالَ البُخَارِيّ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يشْهد رقية.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله لِيَقْتَرِفُوا أَي لِيَكْتَسِبُوا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا تأييد مَا قَالَه ابْن الْمُبَارك عَن فليح، فَإِن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فسر قَوْله تَعَالَى: {وليقترفوا مَا هم مقترفون} (الْأَنْعَام: 311) . أَي: ليكتسبوا مَا هم مكتسبون، وَقد أخرج الطَّبَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، هَذَا التَّفْسِير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا أَعنِي: قَوْله: قَالَ أَبُو عبد الله ... إِلَى آخِره، لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْكشميهني.
27 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة على الشَّهِيد، وَإِنَّمَا لم يُفَسر الحكم وَأطلق التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ ذكر فِي الْبَاب حديثين: أَحدهمَا يدل على نَفيهَا، وَهُوَ حَدِيث جَابر. وَالْآخر: يدل على إِثْبَاتهَا، وَهُوَ حَدِيث عقبَة. وَمن هُنَا وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْعلمَاء، فَذهب الشَّافِعِي وَمَالك وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: إِلَى أَن الشَّهِيد لَا يصلى عَلَيْهِ كَمَا لَا يغسل. وَإِلَيْهِ ذهب أهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث جَابر الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَذهب ابْن أبي ليلى وَالْحسن بن يحيى وَعبيد الله بن الْحسن وَسليمَان بن مُوسَى وَسَعِيد ابْن عبد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَإِسْحَاق فِي رِوَايَة: إِلَى أَنه يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أهل الْحجاز أَيْضا، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِحَدِيث عقبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا نذكرهُ.
3431 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ كَعْب بنِ مالِكٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ(8/152)
مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذا لِلْقُرانِ فإذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أحدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أنَا شَهِيدٌ عَلَى هاؤلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ ولَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ علَيْهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن بعمومها يدل على نفس الصَّلَاة على الشَّهِيد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك أَبُو الْخطاب الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه دمشقي نزل تنيس، وَاللَّيْث مصري وَابْن شهَاب وَشَيْخه مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب عَن جَابر، كَذَا يَقُول اللَّيْث عَن ابْن شهَاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَا أعلم أحدا تَابع اللَّيْث من ثِقَات أَصْحَاب الزُّهْرِيّ على هَذَا الأسناد، وَاخْتلف على الزُّهْرِيّ فِيهِ، ثمَّ سَاقه من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة، فَذكر الحَدِيث مُخْتَصرا، وَكَذَا أخرجه أَحْمد من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَعَمْرو بن الْحَارِث، وَكلهمْ عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمرو فَزَاد فِيهِ جَابِرا، وَهُوَ مِمَّا يُقَوي اخْتِيَار البُخَارِيّ، فَإِن ابْن شهَاب صَاحب حَدِيث، فَيحمل على أَن الحَدِيث عِنْده عَن شيخين خُصُوصا أَن فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن كَعْب مَا لَيْسَ فِي رِوَايَة عبد الله بن ثَعْلَبَة. قَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن ثَعْلَبَة لَهُ رُؤْيَة وَرِوَايَة، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الْعَزِيز الْأنْصَارِيّ: حَدثنَا الزُّهْرِيّ (حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ يَوْم أحد: من رأى مقتل حَمْزَة؟ فَقَالَ رجل: أَنا، فَخرج حَتَّى وقف على حَمْزَة فَرَآهُ وَقد شقّ بَطْنه وَمثل بِهِ، فكره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن ينظر إِلَيْهِ، ثمَّ وقف بَين ظَهْري الْقَتْلَى، فَقَالَ: أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ، لفوهم فِي دِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ جريح يجرح إلاَّ جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة يدمى، لَونه لون الدَّم وريحه ريح الْمسك، وَقَالَ: قدمُوا أَكثر الْقَوْم قُرْآنًا فَاجْعَلُوهُ فِي اللَّحْد) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي هَذَا زيادات لَيست فِي رِوَايَة اللَّيْث، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث زِيَادَة لَيست فِي هَذِه الرِّوَايَة، فَيحْتَمل أَن تكون رِوَايَته عَن جَابر وَعَن أَبِيه صحيحتان وَإِن كَانَتَا مختلفتين، فالليث بن سعد إِمَام حَافظ، فروايته أولى. وَلما ذكر ابْن أبي حَاتِم هَذَا الحَدِيث فِي (كتاب الْعِلَل) قَالَ: قَالَ أبي يروي هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن كَعْب عَن الزُّهْرِيّ مَرْفُوعا، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز هَذَا شيخ مدنِي مُضْطَرب الحَدِيث، وروى الْحَاكِم من حَدِيث أُسَامَة بن زيد أَن ابْن شهَاب حَدثهُ أَن أنسا حَدثهُ: أَن شُهَدَاء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم وَلم يصل عَلَيْهِم، وَهُوَ صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَفِي (الْعِلَل) لِلتِّرْمِذِي: قَالَ مُحَمَّد: حَدِيث أُسَامَة عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس غير مَحْفُوظ، غلط فِيهِ أُسَامَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن سعيد بن سُلَيْمَان، وَأبي الْوَلِيد، وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن عَبْدَانِ وَمُحَمّد بن مقَاتل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة وَيزِيد بن خَالِد وَعَن سُلَيْمَان بن دَاوُد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من قَتْلَى أحد) ، الْقَتْلَى جمع: قَتِيل، كالجرحى جمع جريح. قَوْله: (فِي ثوب وَاحِد) ، ظَاهره تكفين الْإِثْنَيْنِ فِي ثوب وَاحِد. وَقَالَ المظهري فِي (شرح المصابيح) : معنى ثوب وَاحِد قبر وَاحِد، إِذْ لَا يجوز تجريدهما بِحَيْثُ تتلاقى بشرتاهما. قَوْله: (أَيهمْ) ، أَي: أَي الْقَتْلَى؟ هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: أَيهمَا، أَي: أَي الرجلَيْن. قَوْله: (أخذا) على التَّمْيِيز. قَوْله: (أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ) ، أَي: أشهد لَهُم بِأَنَّهُم بذلوا أَرْوَاحهم لله تَعَالَى. قَوْله: (وَلم يغسلوا) على صِيغَة الْمَجْهُول،(8/153)
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ ستأتي بِلَفْظ: (وَلم يصل عَلَيْهِم وَلم يغسلهم) ، كِلَاهُمَا بِصِيغَة الْمَعْلُوم أَي: لم يفعل ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ وَلَا بأَمْره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: قَالَ ابْن التِّين: فِيهِ: جَوَاز الْجمع جمع الرجلَيْن فِي ثوب وَاحِد، وَقَالَ أَشهب: لَا يفعل ذَلِك إلاَّ لضَرُورَة، وَكَذَا الدّفن، وَعَن الْعَلامَة ابْن تَيْمِية، معنى الحَدِيث أَنه كَانَ يقسم الثَّوْب الْوَاحِد بَين الْجَمَاعَة فيكفن كل وَاحِد بِبَعْضِه للضَّرُورَة، وَإِن لم يستر إلاَّ بعض بدنه، يدل عَلَيْهِ تَمام الحَدِيث: أَنه كَانَ يسْأَل عَن أَكْثَرهم قُرْآنًا فَيقدمهُ فِي اللَّحْد، فَلَو أَنهم فِي ثوب وَاحِد جملَة لسأل عَن أفضلهم قبل ذَلِك كَيْلا يُؤَدِّي إِلَى نقض التَّكْفِين وإعادته. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن التَّكْلِيف قد ارْتَفع بِالْمَوْتِ، وإلاَّ فَلَا يجوز أَن يلصق الرجل بِالرجلِ إلاَّ عِنْد انْقِطَاع التَّكْلِيف أَو للضَّرُورَة.
الثَّانِي: فِيهِ التَّفْضِيل بِقِرَاءَة الْقُرْآن، فَإِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة قدم أكبرهم لِأَن للسن فَضِيلَة.
الثَّالِث فِيهِ: جَوَاز دفن الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فِي قبر، وَبِه أَخذ غير وَاحِد من أهل الْعلم، وَكَرِهَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَا بَأْس أَن يدْفن الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْقَبْر الْوَاحِد، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، غير أَن الشَّافِعِي وَأحمد قَالَا ذَلِك فِي مَوضِع الضرورات، وحجتهم حَدِيث جَابر. وَقَالَ أَشهب: إِذا دفن اثْنَان فِي قبر لم يَجْعَل بَينهمَا حاجز من التُّرَاب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا معنى لَهُ إلاَّ التَّضْيِيق. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، ذكر أبي حَدِيثا رَوَاهُ ابْن وهب عَن ابْن جريج عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع يَوْم أحد النَّفر فِي الْقَبْر الْوَاحِد، فَكَانَ يقدم فِي الْقَبْر إِلَى الْقبْلَة أقرأهم، ثمَّ ذَا السن يَلِي أقرأهم) . قَالَ: أبي يحيى هَذَا: هُوَ ابْن صبيح، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : حَدثنَا أَيُّوب عَن حميد بن هِلَال عَن أبي الدهماء (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: شكوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقرح يَوْم أحد، فَقَالَ: أحفروا وَاجْعَلُوا فِي الْقَبْر الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَقدمُوا أَكْثَرهم قُرْآنًا) . وَقَالَ الْقَدُورِيّ فِي شَرحه، والسرخسي فِي (الْمَبْسُوط) : إِن وَقعت الْحَاجة إِلَى الزِّيَادَة فَلَا بَأْس أَن يدْفن الإثنان وَالثَّلَاثَة فِي قبر وَاحِد، وَفِي المرغيناني: أَو خَمْسَة، وَهُوَ إِجْمَاع، وَفِي (الْبَدَائِع) : وَيقدم أفضلهَا، وَيجْعَل بَين كل اثْنَيْنِ حاجز من التُّرَاب فَيكون فِي حكم قبرين، وَيقدم الرجل فِي اللَّحْد، وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة تقدم الْمَرْأَة على الرجل إِلَى الْقبْلَة، وَيكون الرجل إِلَى الرجل أقرب وَالْمَرْأَة عَنهُ أبعد.
الرَّابِع: فِيهِ دفن الشَّهِيد بدمه، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زملوهم بدمائهم) .
الْخَامِس فِيهِ: أَن الشَّهِيد لَا يغسل، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ إلاَّ مَا روى عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن ابْن أبي الْحسن من: أَنه يغسل. قَالَا: مَا مَاتَ ميت إلاَّ أجنب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَنْهُمَا بِسَنَد صَحِيح، وَعَن الْحسن بِسَنَد صَحِيح: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِحَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَغسل) وَحكي عَن الشّعبِيّ وَغَيره أَن حَنْظَلَة بن الراهب غسلته الْمَلَائِكَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ جنبا. وَقَالَ السُّهيْلي: فِي ترك غسل الشُّهَدَاء تَحْقِيق حياتهم وتصديق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} (آل عمرَان: 961) . الْآيَة، وَلِأَن الدَّم أثر عبَادَة فَلَا يزَال، كَمَا قَالُوا فِي السِّوَاك للصَّائِم.
السَّادِس: فِيهِ أَن الشَّهِيد لَا يصلى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاب فِيهِ خلاف، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشَّهِيد يصلى عَلَيْهِ بِلَا غسل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عقبَة الْآتِي عَن قريب، وَبِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بكر ابْن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَتَى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد فَجعل يُصَلِّي على عشرَة عشرَة وَحَمْزَة، وَهُوَ كَمَا هُوَ يرفعون وَهُوَ كَمَا هُوَ مَوْضُوع) ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يوضع بَين يَدَيْهِ يَوْم أحد عشرَة فَيصَلي عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة، ثمَّ تُوضَع الْعشْرَة وَحَمْزَة مَوْضُوع، ثمَّ تُوضَع عشرَة فيصلى عَلَيْهِم وعَلى حَمْزَة مَعَهم) . وَأخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بأتم مِنْهُ: حَدثنَا الْعَبَّاس، رَحمَه الله تَعَالَى، ابْن عبد الله الْبَغْدَادِيّ حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا يزِيد بن أبي زِيَاد عَن مقسم (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما قتل حَمْزَة يَوْم أحد أَقبلت صَفِيَّة تسْأَل: مَا صنع؟ فَلَقِيت عليا وَالزُّبَيْر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَت: يَا عَليّ وَيَا زبير! مَا فعل حَمْزَة؟ فأوهماهما أَنَّهُمَا لَا يدريان، قَالَ: فَضَحِك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَقَالَ: إِنِّي أَخَاف على عقلهَا، فَوضع يَده على صدرها فاسترجعت وبكت، ثمَّ(8/154)
قَامَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَوْلَا جزع النِّسَاء لتركته حَتَّى يحْشر من بطُون السبَاع وحواصل الطُّيُور، ثمَّ أَتَى بالقتلى فَجعل يُصَلِّي عَلَيْهِم فَيُوضَع سَبْعَة وَحَمْزَة فيكبر عَلَيْهِم سبع تَكْبِيرَات، ثمَّ يرفعون وَيتْرك حَمْزَة مَكَانَهُ فيكبر عَلَيْهِم سبع تَكْبِيرَات حَتَّى فرغ مِنْهُم) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) وَلَفْظهمْ: (أَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَمْزَة يَوْم أحد فهيىء للْقبْلَة ثمَّ كبر عَلَيْهِ سبعا، ثمَّ جمع إِلَيْهِ الشُّهَدَاء حَتَّى صلى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة) . زَاد الطَّبَرَانِيّ: (ثمَّ وقف عَلَيْهِم حَتَّى واراهم) . وَسكت الْحَاكِم عَنهُ. فَإِن قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: يزِيد بن أبي زِيَاد لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ يزِيد بن أبي زِيَاد، وَحَدِيث جَابر: أَنه لم يصل عَلَيْهِم، أصح. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : وَيزِيد بن زِيَاد مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : الَّذِي قَالُوهُ إِنَّمَا هُوَ فِي يزِيد بن زِيَاد، وَأما رَاوِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ الْكُوفِي، وَلَا يُقَال فِيهِ: ابْن زِيَاد، وَإِنَّمَا هُوَ: ابْن أبي زِيَاد، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه على لينه، وَقد روى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وروى لَهُ أَصْحَاب السّنَن، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا ترك حَدِيثه. وَابْن الْجَوْزِيّ جَعلهمَا فِي كِتَابه الَّذِي فِي الضُّعَفَاء وَاحِدًا، وَهُوَ وهم وَغلط، وَمِمَّا يُؤَيّد حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد هَذَا مَا رَوَاهُ هِشَام فِي السِّيرَة عَن إِبْنِ إِسْحَاق: حَدثنِي من لَا أتهم عَن مقسم مولى ابْن عَبَّاس (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَمْزَة فسجي بِبُرْدَةٍ ثمَّ صلى عَلَيْهِ وَكبر سبع تَكْبِيرَات، ثمَّ أُتِي بالقتلى فوضعوا إِلَى حَمْزَة فصلى عَلَيْهِم وَعَلِيهِ مَعَهم، حَتَّى صلى عَلَيْهِ ثِنْتَيْنِ وَسبعين صَلَاة) . فَإِن قلت: قَالَ السُّهيْلي فِي (الرَّوْض الْأنف) : قَول ابْن إِسْحَاق فِي هَذَا الحَدِيث: حَدثنِي من لَا أتهم، إِن كَانَ هُوَ الْحسن بن عمَارَة كَمَا قَالَه بَعضهم فَهُوَ ضَعِيف بِإِجْمَاع أهل الحَدِيث، وَإِن كَانَ غَيره فَهُوَ مَجْهُول. قلت: نَحن مَا نجزم أَنه الْحسن بن عمَارَة، وَلَئِن سلمنَا أَنه هُوَ فَنحْن مَا نحتج بِهِ، وَإِنَّمَا نستشهد بِهِ، وَيَكْفِي فِي الاستشهاد قَول ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي من لَا أتهم بِهِ، وَلَو كَانَ مُتَّهمًا عِنْده لما حدث عَنهُ. وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر يَوْم أحد بِحَمْزَة فسجي بِبُرْدَةٍ ثمَّ صلى عَلَيْهِ، فَكبر تسع تَكْبِيرَات، ثمَّ أَتَى بالقتلى يصفونَ وَيُصلي عَلَيْهِم وَعَلِيهِ مَعَهم) . وَأخرجه ابْن شاهين أَيْضا فِي كِتَابه من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن يحيى بن عبَادَة (عَن عبد الله بن الزبير، قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَمْزَة فَكبر سبعا) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ: حفظي أَنه قَالَ: عَن عبد الله بن الزبير، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي مَالك الْغِفَارِيّ، قَالَ: كَانَ قَتْلَى أحد يُؤْتى بِتِسْعَة وعاشرهم حَمْزَة فَيصَلي عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يحملون. ثمَّ يُؤْتى بِتِسْعَة فَيصَلي عَلَيْهِم وَحَمْزَة مَكَانَهُ، حَتَّى صلى عَلَيْهِم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَرَوَاهُ أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ (عَن أبي مَالك، قَالَ: كَانَ يجاء بقتلى أحد تِسْعَة وَحَمْزَة عاشرهم فَيصَلي عَلَيْهِم فيرفعون التِّسْعَة وَيدعونَ حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه قَالَ: (صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على قَتْلَى أحد عشرَة عشرَة، فِي كل عشرَة مِنْهُم حَمْزَة، حَتَّى صلى عَلَيْهِ سبعين صَلَاة) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (مُخْتَصر السّنَن) : كَذَا قَالَ: وَلَعَلَّه سبع صلوَات إِذْ شُهَدَاء أحد سَبْعُونَ أَو نَحْوهَا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْمَرَاسِيل، وَأَبُو مَالك اسْمه غَزوَان الْكُوفِي، وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي التَّابِعين الثِّقَات.
وَلنَا معاشر الْحَنَفِيَّة أَن نرجح مَذْهَبنَا بِأُمُور. الأول: أَن حَدِيث عقبَة الْآتِي ذكره مُثبت وَكَذَا غَيره من الصَّلَاة على الشَّهِيد، وَحَدِيث جَابر نافٍ والمثبت أولى. الثَّانِي: أَن جَابِرا كَانَ مَشْغُولًا بقتل أَبِيه وَعَمه، على مَا يَجِيء، فَذهب إِلَى الْمَدِينَة ليدبر حملهمْ، فَلَمَّا سمع الْمُنَادِي بِأَن الْقَتْلَى تدفن فِي مصَارِعهمْ سارع لدفنهم، فَدلَّ على أَنه لم يكن حَاضرا حِين الصَّلَاة، على أَن فِي (الإكليل) : حَدِيثا عَن ابْن عقيل (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على حَمْزَة، ثمَّ جِيءَ بِالشُّهَدَاءِ فوضعوا إِلَى جنبه فصلى عَلَيْهِم) . فالشافعية يحتجون بِرِوَايَة ابْن عقيل ويوجبون بهَا التَّسْلِيم من الصَّلَاة. الثَّالِث: مَا روى أَصْحَابنَا أَكثر مِمَّا رَوَاهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي. الرَّابِع: الصَّلَاة على الْمَوْتَى أصل فِي الدّين وَفرض كِفَايَة فَلَا تسْقط من غير فعل أحد بالتعارض، بِخِلَاف غسله، إِذْ النَّص فِي سُقُوطه لَا معَارض لَهُ. الْخَامِس: لَو كَانَت الصَّلَاة عَلَيْهِم غير مَشْرُوعَة لبينها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا نبه على الْغسْل. السَّادِس: نَتَنَزَّل ونقول كَمَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: لم يصلِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصلى غَيره. السَّابِع: يجوز أَنه: لم يصل عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْيَوْم، لما حصل لَهُ من الْجراحَة وَشبههَا، وَلَا سِيمَا من ألمه على حَمْزَة وَغَيره، وَصلى عَلَيْهِم فِي يَوْم غَيره لِأَنَّهُ لَا تغير بهم كَمَا جَاءَ فِي صلَاته عَلَيْهِم بعد ثَمَان سِنِين. الثَّامِن: قد رُوِيَ أَنه قد صلى على غَيرهم. التَّاسِع: لَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا: يحمل قَول عقبَة: صلى عَلَيْهِم، بِمَعْنى اسْتغْفر، لقَوْله: صلَاته(8/155)
على الْمَيِّت. الْعَاشِر: أَن مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا أحوط فِي الدّين، وَفِيه تَحْصِيل الْأجر. وَقد قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى على ميت فَلهُ قِيرَاط) ، فَلم يفصل مَيتا من ميت، فَإِن قَالُوا: الصَّلَاة لَا تصح على الْمَيِّت بِلَا غسل، فَلَمَّا لم يغسل الشَّهِيد لم تصح الصَّلَاة، قُلْنَا: يَنْبَغِي أَن لَا يدْفن أَيْضا بِلَا غسل، فَلَمَّا دفن الشَّهِيد بِلَا غسل دلّ أَنه فِي حكم المغسولين فيصلى عَلَيْهِ. فَإِن قَالُوا: الشُّهَدَاء أَحيَاء وَالصَّلَاة إِنَّمَا شرعت على الْمَوْتَى؟ قُلْنَا: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يقسم ميراثهم وَلَا تتَزَوَّج نِسَاؤُهُم وَشبه ذَلِك، وَإِنَّمَا هم أَحيَاء فِي حكم الْآخِرَة لَا فِي حكم الدُّنْيَا، وَالصَّلَاة عَلَيْهِم من أَحْكَام الدُّنْيَا، كَذَا قَالَه فِي (الْمَبْسُوط) ، فَإِن قَالُوا: ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم لاستغنائهم مَعَ التَّخْفِيف على من بَقِي من الْمُسلمين، قُلْنَا: لَا يسْتَغْنى أحد عَن الْخَيْر، وَالصَّلَاة خير مَوْضُوع، وَلَو اسْتغنى أحد من هَذِه الْأمة لاستغنى أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ الصغار، وَمن هُوَ فِي مثل حَالهم. وَالتَّعْلِيل بِالتَّخْفِيفِ لَا وَجه لَهُ، لأَنهم يسعون فِي تجهيزهم وحفر قُبُورهم، وَنَحْو ذَلِك، فَالصَّلَاة أخف من هَذَا كُله، فَإِن قَالُوا: إِنَّكُم لَا ترَوْنَ الصَّلَاة على الْقَبْر بعد ثَلَاثَة أَيَّام، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، بل تجوز الصَّلَاة على الْقَبْر مَا لم يتفسخ، وَالشُّهَدَاء لَا يتفسخون وَلَا يحصل لَهُم تغير. فَالصَّلَاة عَلَيْهِم لَا تمْتَنع أَي وَقت كَانَ.
4431 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا الليْثُ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ بن أبِي حَبِيبٍ عَن أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْما فَصَلَّى عَلَى أهْلِ أُحُدٍ صلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى المِنْبَرِ فَقَالَ إنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإنِّي وَالله لأنْظُرِ إلَى حَوْضِي الآنَ وَإنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضَ أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ وَإنِّي وَالله مَا أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلاكِنْ أخَافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا تحْتَمل مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة على الشَّهِيد من جِهَة عمومها.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تقدمُوا، وَأَبُو الْخَيْر اسْمه مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي، وَعقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن عَامر الْجُهَنِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مصريون وَهُوَ مَعْدُود من أصح الْأَسَانِيد. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بالكنية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن سعيد بن شُرَحْبِيل، وَفِي المغاوي عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم وَعَن قُتَيْبَة وَفِي ذكر الْحَوْض عَن عَمْرو بن خَالِد. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة بِهِ مُخْتَصرا وَعَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فصلى على أهل أحد) ، وهم الَّذين اسْتشْهدُوا فِيهِ، وَكَانَت أحد فِي شَوَّال سنة ثَلَاث. قَوْله: (صلَاته على الْمَيِّت) أَي: مثل صلَاته على الْمَيِّت، وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: إِن الصَّلَاة فِي الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت مَحْمُولَة على الدُّعَاء، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ وَالنَّوَوِيّ، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد من الصَّلَاة هُنَا الدُّعَاء، وَأما كَونه مثل الَّذِي على الْمَيِّت فَمَعْنَاه أَنه دَعَا لَهُم بِمثل الدُّعَاء الَّذِي كَانَت عَادَته أَن يَدْعُو بِهِ للموتى. قلت: هَذَا عدُول عَن الْمَعْنى الَّذِي يتضمنه هَذَا اللَّفْظ، لأجل تمشية مذْهبه فِي ذَلِك، وَهَذَا لَيْسَ بإنصاف. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: معنى صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو من ثَلَاثَة معَان: أما أَن يكون نَاسِخا لما تقدم من ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم، أَو يكون من سُنَنهمْ أَن لَا يُصَلِّي عَلَيْهِم إلاَّ بعد هَذِه الْمدَّة، أَو تكون الصَّلَاة عَلَيْهِم جَائِزَة، بِخِلَاف غَيرهم، فَإِنَّهَا وَاجِبَة، وأيها كَانَ فقد تثبت بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِم الصَّلَاة على الشُّهَدَاء. وَقَالَ بَعضهم: غَالب مَا ذكره بصدد الْمَنْع لِأَن صلَاته عَلَيْهِم تحْتَمل أمورا. مِنْهَا: أَن تكون من خَصَائِصه. وَمِنْهَا: أَن يكون الْمَعْنى: الدُّعَاء، ثمَّ هِيَ وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا، فَكيف ينتهض الِاحْتِجَاج بهَا لدفع حكم قد تقرر؟ وَلم يقل أحد من الْعلمَاء بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي ذكره؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكر هَذَا الْقَائِل مَمْنُوع، لِأَن قَوْله: مِنْهَا أَن تكون من خَصَائِصه، وَإِثْبَات الخصوصية بِالِاحْتِمَالِ(8/156)
لَا يَصح، لِأَن الِاحْتِمَال الناشيء من غير دَلِيل لَا يعْتَبر وَلَا يعْمل بِهِ، وَقَوله: وَمِنْهَا أَن يكون الْمَعْنى الدُّعَاء، يردهُ لفظ الحَدِيث ويبطله، وَقَوله: وَهِي وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا، كَلَام غير موجه لِأَن هَذَا الْكَلَام لَا دخل لَهُ فِي هَذَا الْمقَام، وَقَوله: لدفع حكم تقرر، لَا ينتهض دَلِيلا لَهُ لدفع خَصمه لِأَنَّهُ لَا يعلم مَا هَذَا الحكم الْمُقَرّر. وَقَوله: وَلم يقل أحد من الْعلمَاء بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي، كَلَام واه لِأَنَّهُ مَا ادّعى أَن أحدا من الْعلمَاء قَالَ بِهِ حَتَّى يُنكر عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكره بطرِيق الاستنباط من لفظ الحَدِيث. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف إِلَى الْمِنْبَر) ، وَلَفظ مُسلم: (ثمَّ صعد الْمِنْبَر، كَالْمُودعِ للأحياء والأموات، فَقَالَ: إِنِّي فَرَطكُمْ على الْحَوْض، وَإِن عرضه كَمَا بَين أَيْلَة إِلَى الْجحْفَة) وَفِي آخِره: (قَالَ عقبَة: فَكَانَت آخر مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر) . قَوْله: (إِنِّي فرط لكم) ، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء، وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم الْوَارِدَة ليصلح لَهُم الْحِيَاض والدلاء، وَنَحْوهمَا، وَمعنى: (فَرَطكُمْ) سابقكم إِلَيْهِ كالمهيىء لَهُ. قَوْله: (وَأَنا شَهِيد عَلَيْكُم) أَي: أشهد لكم. قَوْله: (مَفَاتِيح الأَرْض) جمع: مِفْتَاح، ويروى: (مفاتح الأَرْض) ، بِدُونِ الْيَاء فَهُوَ جمع مفتح على وزن مفعل بِكَسْر الْمِيم، قَوْله: (لأنظر إِلَى حَوْضِي) هُوَ على ظَاهره، وَكَأَنَّهُ كشف لَهُ عَنهُ فِي تِلْكَ الْحَالة. قَوْله: (مَا أَخَاف عَلَيْكُم أَن تُشْرِكُوا بعدِي) مَعْنَاهُ: على مجموعكم، لِأَن ذَلِك قد وَقع من الْبَعْض، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى. قَوْله: (أَن تنافسوا) ، من المنافسة، وَهِي الرَّغْبَة فِي الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَهُوَ من الشَّيْء النفيس الْجيد فِي نَوعه، ونافست الشَّيْء مُنَافَسَة ونفاسا: إِذا رغبت فِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد صلى على أهل أحد بعد مُدَّة، فَدلَّ على أَن الشَّهِيد يصلى عَلَيْهِ كَمَا يصلى على من مَاتَ حتف أَنفه، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة، وَأول الْخَبَر فِي ترك الصَّلَاة عَلَيْهِم يَوْم أحد على معنى اشْتِغَاله عَنْهُم وَقلة فَرَاغه لذَلِك، وَكَانَ يَوْمًا صعبا على الْمُسلمين، فعذروا بترك الصَّلَاة عَلَيْهِم. وَفِيه: أَن الْحَوْض مَخْلُوق مَوْجُود الْيَوْم وَأَنه حَقِيقِيّ. وَفِيه: معْجزَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ نظر إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأخْبر عَنهُ. وَفِيه: معْجزَة أُخْرَى أَنه أعْطى مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض وملكتها أمته بعده. وَفِيه: أَن أمته لَا يخَاف عَلَيْهِم من الشّرك، وَإِنَّمَا يخَاف عَلَيْهِم من التنافس، وَيَقَع مِنْهُ التحاسد والتباخل. وَفِيه: جَوَاز الْحلف من غير استحلاف لتفخيم الشَّيْء وتوكيده.
37 - (بابُ دَنْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دفن الرجلَيْن الميتين وَالثَّلَاثَة من الرِّجَال فِي قبر وَاحِد، قيل: لَو قَالَ: بَاب دفن الشخصين وَالثَّلَاثَة، لَكَانَ أحسن ليتناول النِّسَاء. قلت: النِّسَاء تبع للرِّجَال فِي الْأَحْكَام، إلاَّ إِذا خصصت بِشَيْء مِنْهَا.
5431 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا ابنُ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ كَعْبٍ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبرهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي دفن الرجلَيْن فِي قبر وَاحِد ظَاهِرَة، وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب لفظ: الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا ذكره على عَادَته بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا ورد من لفظ الثَّلَاثَة، وَلكنه لما لم يكن على شَرطه لم يُورِدهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَجِّي فِي (سنَنه) عَن ابْن عَبَّاس، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مثل بِهِ. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَكَانَ الرجل وَالرجلَانِ وَالثَّلَاثَة يكفنون فِي الثَّوْب الْوَاحِد) زَاد قُتَيْبَة: (ثمَّ يدفنون فِي قبر وَاحِد) .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: غَرِيب، وَقيل: ذكر الثَّلَاثَة بِالْقِيَاسِ وَفِيه نظر لِأَنَّهُ لَو كَانَ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ يَقُول: بَاب دفن الرجلَيْن وَأكْثر فِي قبر وَاحِد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: سعيد بن سُلَيْمَان الملقب بسعدويه الْبَزَّار، مر فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر، فِي كتاب الْوضُوء. وَاللَّيْث بن سعد، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن ابْن كَعْب مر فِي أول الْبَاب السَّابِق.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:(8/157)
أَن شَيْخه واسطي سكن بَغْدَاد، وَاللَّيْث مصري وَابْن شهَاب وَعبد الرَّحْمَن مدنيان، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: قد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب السَّابِق، وَذكرنَا أَيْضا مَا يتَعَلَّق بِحكم الحَدِيث.
47 - (بابُ مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من لم ير غسل الشُّهَدَاء، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى رد مَا روى عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: يغسل الشَّهِيد، لِأَن كل ميت يجنب فَيجب غسله، وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
6431 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا لَ يْثٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ كَعْبٍ عنْ جَابِرٍ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الصَّلَاة على الشُّهَدَاء، أَعَادَهُ هُنَا لأجل هَذَا التَّبْوِيب، وَوَقع الْكَلَام هُنَاكَ فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب. وَأَبُو الْوَلِيد: هُوَ هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
57 - (بابُ مَنْ يُقَدِّمُ فِي اللَّحْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من يقدم من الْمَوْتَى إِذا وضعُوا فِي اللَّحْد، وَحَدِيث الْبَاب بَين ذَلِك هُوَ أَن يقدم مِنْهُم من كَانَ أَكثر أخذا بِالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة، ثمَّ أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى تَفْسِير اللَّحْد بقوله:
وَسُمِّيَ اللَّحْدَ لأِنَّهُ فِي ناحِيَةٍ
أَي: سمي اللَّحْد لحدا لِأَنَّهُ لَا شقّ يعْمل فِي جَانب الْقَبْر، يُقَال: لحد الْقَبْر يلحده لحدا أَو لحده: عمل لَهُ لحدا، وَكَذَلِكَ، لحد الْمَيِّت يلحده لحدا وألحده وألحد لَهُ، وَقيل: لحده: دَفنه، وألحده عمل لَهُ لحدا. ولحد إِلَى الشَّيْء يلْحد، وألحد والتحد: مَال، ولحد فِي الدّين يلْحد وألحد: مَال وَعدل، وَقيل: لحد جَار وَمَال، وألحد مارى وجادل. وأصل الْإِلْحَاد: الْميل والعدول عَن الشَّيْء، وَمِنْه قيل للمائل عَن الدّين: ملحد، وَمِنْه قيل: لحد الْقَبْر لِأَنَّهُ يمِيل عَن وسط الْقَبْر إِلَى جَانِبه. وَفِي (الجمهرة) ؛ كل مائل لَاحَدَّ وملحد، وَلَا يُقَال لَهُ ذَلِك حَتَّى يمِيل عَن حق إِلَى بَاطِل. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: والملحد اللَّحْد، وَالْجمع ملاحد، وَقَالَ الْفراء: لحد وألحد: اعْترض وَالْألف أَجود، وَيُقَال: لحدت للْمَيت وألحدت أَجود، وَقَالَ ابْن سَيّده: اللَّحْد، واللحد الَّذِي يكون فِي جَانب الْقَبْر، وَقيل: الَّذِي يحْفر فِي عرضه، وَالْجمع ألحاد ولحود.
وَكُلُّ جائِرٍ مُلْحِدٌ
من الْإِلْحَاد من بَاب الإفعال، بِكَسْر الْهمزَة، وَقد قُلْنَا: إِن الملحد هُوَ المماري والمجادل، والجائز يُسمى اللاحد، وَذكر البُخَارِيّ ذَلِك بحاصل الْمَعْنى.
مُلْتَحَدا مَعْدِلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ أجد من دونه ملتحدا} (الْجِنّ: 22) . أَي: ملتجأ يعدل إِلَيْهِ عَن الله، لِأَن قدرَة الله مُحِيطَة بِجَمِيعِ خلقه، كَذَا فسره الطَّبَرِيّ، والملتحد من بَاب الافتعال على وزن مفتعل من اللَّحْد، من لحد إِلَى الشَّيْء والتحد إِذا مَال، كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا.
وَلَوْ كانَ مُسْتَقِيما كانَ ضَرِيحا
أَي: وَلَو كَانَ الْقَبْر أَو الشق مُسْتَقِيمًا غير مائل إِلَى نَاحيَة لَكَانَ ضريحا، لِأَن الضريح شقّ فِي الأَرْض على الاسْتوَاء، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الضارح هُوَ الَّذِي يعْمل الضريح، وَهُوَ الْقَبْر وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول بن الضرح وَهُوَ الشق فِي الأَرْض ثمَّ الْجُمْهُور على كَرَاهَة الزَّمن وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَلَو شَقوا لمُسلم يكون تركا للسّنة أللهم إلاَّ إِذا كَانَت الأَرْض رخوة لَا تحْتَمل اللَّحْد، فَإِن الشق حِينَئِذٍ مُتَعَيّن. وَقَالَ فَخر الْإِسْلَام فِي (الْجَامِع الصَّغِير) : وَإِن تعذر اللَّحْد(8/158)
فَلَا بَأْس بتابوت يتَّخذ للْمَيت، لَكِن السّنة أَن يفرش فِيهِ التُّرَاب. وَقَالَ صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) و (الْبَدَائِع) وَغَيرهم عَن الشَّافِعِي: أَن الشق أفضل عِنْده، وَهَكَذَا نَقله الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة) عَنهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أجمع الْعلمَاء على أَن اللَّحْد والشق جائزان، لَكِن إِن كَانَت الأَرْض صلبة لَا ينهار ترابها، فاللحد أفضل، وَإِن كَانَت رخوة ينهار، فالشق أفضل. قلت: فِيهِ نظر من وَجْهَيْن: الأول: أَن الأَرْض إِذا كَانَت رخوة يتَعَيَّن الشق فَلَا يُقَال أفضل. وَالثَّانِي: أَنه يصادم الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّحْد لنا والشق لغيرنا) ، وَمعنى (اللَّحْد لنا) أَي: لأجل أموات الْمُسلمين، والشق لأجل أموات الْكفَّار، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: المُرَاد بقوله: (لغيرنا) أهل الْكتاب كَمَا ورد مُصَرحًا بِهِ فِي بعض طرق حَدِيث جرير فِي (مُسْند الإِمَام أَحْمد) : (والشق لأهل الْكتاب) فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل اللَّحْد للْمُسلمين والشق لأهل الْكتاب، فَكيف يكونَانِ سَوَاء؟
على أَنه روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّحْد أَحَادِيث. مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن وَكِيع عَن الْعمريّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَعَن الْعمريّ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصى أَن يلْحد لَهُ) . وروى ابْن مَاجَه (عَن عَائِشَة، قَالَت: لما مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتلفُوا فِي اللَّحْد والشق حَتَّى تكلمُوا فِي ذَلِك وَارْتَفَعت أَصْوَاتهم، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تصخبوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيا وَلَا مَيتا، أَو كلمة نَحْوهَا، فأرسلوا إِلَى الشقاق واللاحد جَمِيعًا، فجَاء اللاحد يلْحد لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ دفن) . وَفِي (طَبَقَات ابْن سعد) من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ بِالْمَدِينَةِ حفاران) وَفِي رِوَايَة (قباران أَحدهمَا يلْحد وَالْآخر يشق) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سعد، رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَامر بن سعد بن أبي وَقاص: أَن سعد بن وَقاص قَالَ فِي مَرضه الَّذِي هلك فِيهِ: ألحدوا لي لحدا وانصبوا عَليّ اللَّبن نصبا، كَمَا فعل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: (لما توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يلْحد وَالْآخر يضرح، فَقَالُوا نستخير رَبنَا ونبعث إِلَيْهِمَا فَأَيّهمَا سبق تَرَكْنَاهُ، فَأرْسل إِلَيْهِمَا فَسبق صَاحب اللَّحْد فلحدوا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَمِنْهَا: حَدِيث الْمُغيرَة رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن المجالد عَن عَامر قَالَ: قَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة: لحد بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ (عَن ابْن بردة عَن أَبِيه قَالَ: أَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبل الْقبْلَة، وألحد لَهُ لحدا، وَنصب عَلَيْهِ اللَّبن نصبا) . وَفِي سَنَده أَبُو بردة عَن عَلْقَمَة، قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَأَبُو بردة: هَذَا هُوَ عَمْرو بن بريد التَّمِيمِي الْكُوفِي وَهُوَ ضَعِيف. قلت: لكَون هَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ بَادر إِلَى تَضْعِيفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي طَلْحَة رَوَاهُ ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) قَالَ: (اخْتلفُوا فِي الشق واللحد للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: شَقوا كَمَا يحْفر أهل مَكَّة، وَقَالَت الْأَنْصَار: إلحدوا كَمَا يحْفر بأرضنا، فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي ذَلِك قَالُوا: أللهم خر لنبيك، إبعثوا إِلَى أبي عُبَيْدَة وَإِلَى أبي طَلْحَة فَأَيّهمَا جَاءَ قبل الآخر فليعمل عمله. قَالَ: فجَاء أَبُو طَلْحَة فَقَالَ وَالله أنني قد خار لِبَنِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يرى اللحدفيعجبه ثمَّ قَالَ الْحِكْمَة فِي اخْتِيَاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّحْد على الشق لكَونه أستر للْمَيت، وَاخْتِيَار للشق للْأَنْصَار فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: (الْمحيا محياكم وَالْمَمَات مماتكم) ، فَأَرَادَ إعلامهم بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمُوت عِنْدهم وَلَا يُرِيد الرُّجُوع إِلَى بَلَده مَكَّة، فوافقهم أَيْضا فِي صفة الدّفن، وَاخْتَارَ الله لَهُ ذَلِك. وَفِيه حَدِيث رَوَاهُ السلَفِي عَن أبي بن كَعْب يرفعهُ: (اللَّحْد لآدَم وَغسل بِالْمَاءِ وترا. وَقَالَت الْمَلَائِكَة، هَذِه سنة وَلَده من بعده) .
7431 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ عَن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ منْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذا لِلْقُرآنِ فإذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. وَقَالَ أَنا شَهِيدٌ عَلَى هاؤلاَءِ وَأمَرَ بِدَفْنِهِمْ(8/159)
بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم فِي اللَّحْد من قَتْلَى أحد من كَانَ أَكثر أخذا لِلْقُرْآنِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن مقَاتل هُوَ: مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله: هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي.
والْحَدِيث مر عَن قريب، أخرجه فِي: بَاب الصَّلَاة على الشَّهِيد، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث، إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه فِي: بَاب دفن الرجلَيْن وَالثَّلَاثَة فِي قبر وَاحِد، عَن سعيد بن سُلَيْمَان عَن اللَّيْث إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا مُخْتَصرا فِي: بَاب من لم ير غسل الشَّهِيد، عَن أبي الْوَلِيد عَن اللَّيْث إِلَى آخِره، وَقد تكلمنا فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة.
8431 - وأخبَرَنَا الأوْزَاعِيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ أيُّ هاؤُلاَءِ أكْثَرُ أخْذا لِلْقُرْآنِ فإذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَجُللٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صاحِبِهِ..
أَي: قَالَ عبد الله وَأخْبرنَا عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ، وَهَذَا طَرِيق مُنْقَطع لِأَن ابْن شهَاب لم يسمع من جَابر، لِأَن جَابِرا توفّي فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَفِي (الكاشف) : سنة ثَمَان وَسبعين، ومولد الزُّهْرِيّ سنة ثَمَان وَخمسين، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي: مولده سنة خمسين. قلت: لقِيه إِيَّاه مُمكن، وَلَكِن سَمَاعه مِنْهُ لم يثبت، وَأما طَرِيق ابْن شهَاب الأول فمتصل.
وَقَالَ جابِرٌ فَكُفِّنَ أبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ
ذكر فِي (التَّلْوِيح) أَن قَوْله: (عمي) يتَبَادَر الذِّهْن إِلَيْهِ أَنه عَم جَابر، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ عَمْرو بن الجموح بن زيد بن حرَام، وَعبد الله أَبُو جَابر هُوَ ابْن عَمْرو بن حرَام فَهُوَ ابْن عَمه وَزوج أُخْته هِنْد بنت عَمْرو، فَسَماهُ: عَمَّا تَعْظِيمًا لَهُ، وتكريما، ذكره أَبُو عمر وَغَيره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: عمي، قيل: هَذَا تَصْحِيف أَو وهم لِأَن المدفون مَعَ أَبِيه هُوَ: عَمْرو بن الجموح الْأنْصَارِيّ الخزرجي السّلمِيّ، وَيحْتَمل أَن يُجَاب عَنهُ أَنه أطلق الْعم عَلَيْهِ مجَازًا، كَمَا هُوَ عَادَتهم فِيهِ، لَا سِيمَا وَكَانَ بَينهمَا قرَابَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن عبد الله وعمرا كَانَا صهرين، والنمرة، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم: بردة من صوف أَو غَيره مخططة. وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ دراعة فِيهَا لونان سَواد وَبَيَاض، وَيُقَال للسحابة إِذا كَانَت كَذَلِك: نمرة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: النمرة بردة من صوف تلبسها الْأَعْرَاب، وَهِي بِكَسْر الْمِيم وسكونها، وَيجوز كسر النُّون مَعَ سُكُون الْمِيم. فَإِن قلت: ذكر الْوَاقِدِيّ فِي (الْمَغَازِي) وَابْن سعد: أَنَّهُمَا كفنا فِي ثَوْبَيْنِ. قلت: إِذا ثَبت ذَلِك حمل على أَن النمرة شقَّتْ بَينهمَا نِصْفَيْنِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بنُ كَثِيرٍ حدَّثني الزُّهْرِيُّ قَالَ حدَّثني منْ سَمِعَ جابِرا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
سُلَيْمَان بن كثير ضد قَلِيل الْعَبْدي أَبُو مُحَمَّد، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس إلاَّ فِي الزُّهْرِيّ. وَقَالَ يحيى بن معِين، ضَعِيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَن الْفرق بَين هَذِه الطّرق أَن اللَّيْث ذكر عبد الرَّحْمَن وَاسِطَة بَين الزُّهْرِيّ وَجَابِر، وَالْأَوْزَاعِيّ لم يذكر الْوَاسِطَة بَينهمَا، وَسليمَان ذكر وَاسِطَة مَجْهُولا، فَاعْلَم ذَلِك. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: اضْطربَ فِيهِ الزُّهْرِيّ، وَمنع بَعضهم الِاضْطِرَاب بقوله: لِأَن الْحَاصِل من الِاخْتِلَاف فِيهِ على الثِّقَات أَن الزُّهْرِيّ حمله عَن شيخين، وَأما إِبْهَام سُلَيْمَان لشيخ الزُّهْرِيّ وَصدق الْأَوْزَاعِيّ لَهُ فَلَا يُؤثر ذَلِك فِي رِوَايَة من سَمَّاهُ لِأَن الْحجَّة لمن ضبط. وَزَاد: إِذا كَانَ ثِقَة لَا سِيمَا إِذا كَانَ حَافِظًا. قلت: الِاخْتِلَاف على الثِّقَات والإبهام مِمَّا يُورث الإضطراب، وَلَا ينْدَفع ذَلِك بِمَا ذكره.
67 - (بابُ الإذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال الْإِذْخر والحشيش فِي الْفرج الَّتِي تتخلل بَين اللبنات فِي الْقَبْر. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب ذكر الْحَشِيش فَلم ذكره؟ قلت: نبه بِهِ على إِلْحَاقه بالإذخر، لِأَن المُرَاد بِاسْتِعْمَال الْإِذْخر هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ لَا التَّطَيُّب، فَيكون الْحَشِيش فِي مَعْنَاهُ، كَمَا أَن الْمسك وَمَا جانسه من الطّيب فِي الحنوط دَاخل فِي معنى إِبَاحَة الكافور للْمَيت، ثمَّ الْإِذْخر،(8/160)
بِكَسْر الْهمزَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، وَهُوَ نبت مَعْلُوم وَله أصل مندفن وقضبان دقاق ذفر الرّيح، وَهُوَ مثل الأسل، أسل الكولان، إِلَّا أَنه أعرض وأصغر كعوبا وَله ثَمَرَة كَأَنَّهَا مكاميع الْقصب إلاَّ أَنَّهَا أرق وأصغر. وَقَالَ أَبُو زِيَاد: الْإِذْخر: يشبه فِي نَبَاته الغرز، والغرز نَبَاته نَبَات الأسل الَّذِي يعْمل مِنْهُ الْحصْر، والإذخر أدق مِنْهُ وَله كعوب كَثِيرَة وَهُوَ يطحن فَيدْخل فِي الطّيب. وَقَالَ أَبُو النَّصْر: هُوَ من الذُّكُور، وَإِنَّمَا الذُّكُور من البقل، وَلَيْسَ الْإِذْخر من البقل، وَله أرومة فينبت فِيهَا فَهُوَ بالحلبة أشبه. وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ من الحلبة، وقلما ينْبت الْإِذْخر مُنْفَردا، وَهُوَ ينْبت فِي السهول والحزون وَإِذا جف الْإِذْخر ابيضَّ. وَفِي شرح أَلْفَاظ المنصوري) : الْإِذْخر خشب يجلب من الْحجاز، وبالمغرب صنف مِنْهُ. قيل: هَذَا أصح مَا قيل فِي الْإِذْخر، وَيدل عَلَيْهِ قَول ابْن عَبَّاس: لبيوتهم وقبورهم، فَإِن الْبيُوت مَا تسقف إِلَّا بالخشب وَلَا يَجْعَل على اللحود إلاَّ الْخشب. قلت: قدذكرنا أَنه تنسد بِهِ الْفرج الَّتِي تتخلل بَين اللبنات بِدَلِيل قَوْله: والحشيش، فَإِن الْحَشِيش لَا يسقف بِهِ، لِأَنَّهُ غير متماسك لَا رطبا وَلَا يَابسا.
9431 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ حَرَّمَ الله عَزَّ وَجَلَّ مَكَّةَ فلَمْ تَحِلُّ لأِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأِحَدٍ بَعْدِي أحِلَّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لاَ يخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ ييُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلاَّ لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ العَبَّاسُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إلاَّ الإذْخِرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم ذكرُوا، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وخَالِد هُوَ الْحذاء.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي مُوسَى عَن عبد الْوَهَّاب، وَفِي الْبيُوع عَن إِسْحَاق عَن خَالِد، وَفِي اللّقطَة قَالَ: قَالَ خَالِد: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حرم الله مَكَّة) أَي: جعلهَا حَرَامًا، وَقد فسره بقوله: (فَلم تحل لأحد قبلي وَلَا لأحد بعدِي) ، وَلَفظه فِي الْحَج: عَن طَاوُوس عَن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم فتح مَكَّة: (إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله. .) الحَدِيث، وَفِي غَزْوَة الْفَتْح: (أَن الله حرم مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهِيَ حرَام بِحرَام الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) ، وَلَفظ مُسلم: (إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله تَعَالَى يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهِيَ حرَام بِحرْمَة الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . وَأخرجه الْبَزَّار عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن مَكَّة حرَام حرمهَا الله تَعَالَى يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله عز وَجل، حرم مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر، ووضعها بَين هذَيْن الأخشبين. .) الحَدِيث. وَقَالَ الْبَزَّار: وَهَذَا الحَدِيث قد رُوي عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، من غير وَجه، وَعَن غير ابْن عَبَّاس بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة ومعانيها قريبَة. قَوْله: (الأخشبين) أَي: الجبلين المطيفين بِمَكَّة، وهما أَبُو قبيس والأحمر، وَهُوَ جبل مشرف وَجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ. وَفِي الحَدِيث: (لَا تَزُول مَكَّة حَتَّى يَزُول أخشباها) . قَوْله: (سَاعَة من نَهَار) ، لم يرد بهَا السَّاعَة من الإثني عشر سَاعَة، وَالْمرَاد بهَا: الْقَلِيل من الْوَقْت وَالزَّمَان، وَإنَّهُ كَانَ بعض النَّهَار وَلم يكن يَوْمًا تَاما، وَدَلِيله: (وَقد عَادَتْ حرمتهَا الْيَوْم كحرمتها بالْأَمْس) . وَقيل: أَرَادَ بِهِ سَاعَة الْفَتْح أبيحت لَهُ إِرَاقَة الدَّم فِيهَا، دون الصَّيْد، وَقطع الشّجر وَنَحْوهمَا. قَوْله: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) أَي: لَا يقطع كلاؤها، والخلا، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة مَقْصُورا: الرطب من الْكلأ، كَمَا أَن الْحَشِيش اسْم الْيَابِس مِنْهُ، والواحدة خلاة، ولامه: يَاء، لقَولهم: خليت البقل: قطعته. وَفِي (الْمُخَصّص) : تَقول: خليت الخلا خليا: جززته. وَفِي (الْمُحكم) : وَقيل: الخلا، كل بقلة قطعتها، وَقد يجمع الخلا على أخلاء، حَكَاهُ أَبُو حنيفَة وأخلت الأَرْض: كثر خَلاهَا، واختلاه: جزه. وَقَالَ اللحياني: نَزعه. وَقَالَ القَاضِي: وَمعنى: لَا يخْتَلى خَلاهَا؛ لَا يحصد كلاها، مَقْصُور ومده بعض الروَاة، وَهُوَ خطأ. والاختلاء: الْقطع، فعل مُشْتَقّ من الخلا. والمخلا مَقْصُورَة: حَدِيدَة(8/161)
يخْتَلى بهَا الخلا، والمخلاة وعَاء يخْتَلى فِيهِ للدابة، ثمَّ سمى كل مَا يعتلف فِيهِ مِمَّا يعلق فِي رَأسهَا مخلاة، والخلاء، بِالْمدِّ: الْموضع الْخَالِي وَأَيْضًا مصدر من خلا يَخْلُو قَوْله: (وَلَا يعضد شَجَرهَا) أَي: لَا يقطع، يُقَال: عضد واستعضذ بِمَعْنى كَمَا يُقَال علا واستعلى قَالَ القَاضِي وَقع فِي رِوَايَة (وَلَا يعضد شجرائها) وَهُوَ الشّجر وَقَالَ الطَّبَرِيّ معنى لَا يعضد لَا يفْسد وَيقطع من عدد الرجل إِذا أصَاب عضده بِسوء وَفِي الموعب عضدت الشجرا عضده عضد مثل ضَربته إِذا قطعته وَفِي الْمُحكم الشَّيْء معضود وعضيد قَوْله (أَلا لمعرف) بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَهُوَ الَّذِي يعرفهَا حَتَّى يَجِيء صَاحبهَا وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ (وَلَا يلتقط لقطته إِلَّا من عرفهَا) وَفِي لفظ (وَلَا يحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد) والمنشد هُوَ الْمُعَرّف والناشد هُوَ الطَّالِب يُقَال ناشدت الضَّالة إِذا طلبتها فَإِذا عرفتها قلت أنشدتها وأصل الإنشاد رفع الصَّوْت وَمِنْه إنساد الشّعْر قَوْله (لصاغتنا) أَصله الصوغة جمع صائغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن مَكَّة حرَام يحرم فِيهَا أَشْيَاء مَا يحل فِي غَيرهَا من بِلَاد الله تَعَالَى، فَإِن قلت: الحَدِيث هُنَا (حرم الله مَكَّة) ، وَفِي حَدِيث صَحِيح: (أَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم مَكَّة) . قلت: يَعْنِي بلغ تَحْرِيم الله تَعَالَى لَهَا، فَكَانَ التَّحْرِيم على لِسَانه، فنسب إِلَيْهِ وَحكى الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي ابْتِدَاء تَحْرِيم مَكَّة، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَا زَالَت مُحرمَة وَأَنه خَفِي تَحْرِيمهَا فأظهره إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأشاعه، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن ابْتِدَاء تَحْرِيمهَا من زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك غير مُحرمَة كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد، وَإِن معنى: حرمهَا الله يَوْم خلق السَّمَوَات، أَنه قدر ذَلِك فِي الْأَزَل أَنه سيحرمها على لِسَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سيحرم مَكَّة بِأَمْر الله تَعَالَى.
وَفِيه: (أحلّت لي سَاعَة من نَهَار) ، احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة أَن مَكَّة فتحت عنْوَة لَا صلحا، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فتحهَا بِالْقِتَالِ. وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَيَجِيءُ فِي حَدِيث أبي شُرَيْح الْعَدوي فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا فَقولُوا لَهُ: إِن الله أذن لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يَأْذَن لَك، وَإِنَّمَا أذن لَهُ سَاعَة من النَّهَار، وَذهب الشَّافِعِي وَجَمَاعَة إِلَى أَنَّهَا فتحت صلحا، وتأولوا الحَدِيث على أَنه أُبِيح لَهُ الْقِتَال لَو احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ لقَاتل، وَلكنه بِمَ يحْتَج إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهَذَا التَّأْوِيل يبعده قَوْله: لقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي فِي حَدِيث أبي شُرَيْح فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وجود قتال ظَاهرا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: إِن بَعْضهَا فتح صلحا، وَبَعضهَا عنْوَة، لِأَن الْمَكَان الَّذِي دخل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَقع فِيهِ الْقِتَال، وَإِنَّمَا وَقع فِي غير الْمَكَان الَّذِي دخل مِنْهُ.
وَفِيه: لَا يجوز اختلاء خلا مَكَّة هَذَا مِمَّا ينْبت بِنَفسِهِ بِالْإِجْمَاع. وَأما الَّذِي يزرعه النَّاس نَحْو الْبُقُول والخضراوات، والفصيل فَإِنَّهَا يجوز قطعهَا. وَاخْتلف فِي الرَّعْي فِيمَا أَنْبَتَهُ الله من خَلاهَا، فَمَنعه أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُف وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم، وَقَالَ الإِمَام: اخْتلف النَّاس فِي قطع شجر الْحرم: هَل فِيهِ جَزَاء أم لَا؟ فَعِنْدَ مَالك: لَا جَزَاء فِيهِ، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِيهِ الْجَزَاء. قلت: هَذَا فِيمَا لم يغرسه الْآدَمِيّ من الشّجر. وَأما مَا غرسه الْآدَمِيّ فَلَا شَيْء فِيهِ، وخكى الْخطابِيّ أَن مَذْهَب الشَّافِعِي منع قطع مَا غرسه الْآدَمِيّ من شجر الْبَوَادِي ونماه وَأمه، وَغَيره مِمَّا أَنْبَتَهُ الله سَوَاء، وَاخْتلف قَوْله فِي جَزَاء الشّجر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي: فِي الدوحة بقرة، وَفِيمَا دونهَا شَاة. وَعند أبي حنيفَة: يُؤْخَذ مِنْهُ قيمَة مَا قطع يشترى بِهِ هدى، فَإِن لم يبلغ ثمنه تصدق بِهِ بنضف صَاع لكل مِسْكين. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْخشب وَنَحْوه قيمتهَا بَالِغَة مَا بلغت. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: فِيهَا قيمتهَا، وَالْمحرم والحلال فِي ذَلِك سَوَاء. وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم: فَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار أَنهم رخصوا فِي ذَلِك، وَحكى أَبُو ثَوْر ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ عَطاء يرخص فِي أَخذ ورق السنا يستمشي بِهِ وَلَا ينْزع من أَصله، وَرخّص فِيهِ عَمْرو بن دِينَار.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الشّجر المؤذي كالشوك لَا يقطع من الْحرم لإِطْلَاق قَوْله: (وَلَا يعضد شَجَرهَا) ، وَهُوَ اخْتِيَار أبي سعيد الْمُتَوَلِي من الشَّافِعِيَّة: وَذهب جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي(8/162)
إِلَى أَنه لَا يحرم قطع الشوك لِأَنَّهُ مؤذٍ، فَأشبه الفواسق الْخمس، وخصوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالصَّحِيح مَا اخْتَارَهُ المتولى.
وَفِيه: تَصْرِيح بِتَحْرِيم إزعاج صيد مَكَّة وَنبهَ بالتنفير على الاتلاف وَنَحْوه لِأَنَّهُ إِذا حرم التنفير فالاتلاف أولى.
وَفِيه: أَن وَاجِد لقطَة الْحرم لَيْسَ لَهُ غير التَّعْرِيف أبدا، وَلَا يملكهَا بِحَال وَلَا يستنفقها، وَلَا يتَصَدَّق بهَا حَتَّى يظفر بصاحبها، بِخِلَاف لقطَة سَائِر الْبِقَاع، وَهُوَ أظهر قولي الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعِنْدنَا: لقطَة الْحل وَالْحرم سَوَاء لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) . من غير فصل، وروى الطَّحَاوِيّ عَن معَاذَة العدوية: أَن امْرَأَة قد سَأَلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقَالَت: إِنِّي قد أصبت ضَالَّة فِي الْحرم، فَإِنِّي قد عرفتها فَلم أجد أحدا يعرفهَا. فَقَالَت لَهَا عَائِشَة: استنفقي بهَا.
وَفِيه: جَوَاز اسْتِعْمَال الْإِذْخر فِي الْقُبُور، والصاغة وَأهل مَكَّة يستعملون من الْإِذْخر ذريرة ويطيبون بهَا أكفان الْمَوْتَى، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إلاَّ الْإِذْخر) يجوز أَن يكون أُوحِي إِلَيْهِ تِلْكَ السَّاعَة، أَو من اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِقُبُورِنِا وَبُيُوتِنَا
ذكر البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق مَوْصُولا فِي بَاب كتال الْعلم، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، قَالَ: حَدثنَا شَيبَان عَن يحيى عَن أبي سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن خُزَاعَة قتلوا رجلا من بني لَيْث. .) الحَدِيث، وَفِيه: (إلاَّ الْإِذْخر يَا رَسُول الله، فَإنَّا نجعله فِي بُيُوتنَا وَقُبُورنَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إلاَّ الْإِذْخر) .
وقالَ أبَانُ بنُ صالِحٍ عنِ الحسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ سَمِعْتُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن مَاجَه: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا يُونُس بن بكير، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنَا أبان بن صَالح عَن الْحسن بن مُسلم بن بناق (عَن صَفِيَّة بنت شيبَة، قَالَت: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب عَام الْفَتْح، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِن الله حرم مَكَّة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهِيَ حرَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا يعضد شَجَرهَا وَلَا ينفر صيدها وَلَا يَأْخُذ لقطتهَا إلاَّ منشد، فَقَالَ الْعَبَّاس: إلاَّ الْإِذْخر فَإِنَّهُ للبيوت والقبور. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إلاَّ الْإِذْخر) .
وَقَالَ مُجاهِدٌ عنْ طَاووسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لِقَيْنِهِمْ وبُيُوتِهِمْ
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور من أول الْبَاب، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي كتاب الْحَج. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس هَذَا الحَدِيث بِوُجُوه، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق مُجَاهِد عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح، فتح مَكَّة: (لَا هِجْرَة وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله إلاَّ الْإِذْخر، فَإِنَّهُم لِقَيْنِهِم ولبيوتهم، فَقَالَ: إلاَّ الْإِذْخر) الْقَيْن، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون: الْحداد، وَالله أعلم.
77 - (بابٌ هَلْ يخْرج المَيِّتُ مِنَ القَبْرِ واللَّحْدِ لِعِلَّةٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يخرج الْمَيِّت من قَبره ولحده بعد دَفنه لعِلَّة؟ أَي: لأجل سَبَب من الْأَسْبَاب؟ وَإِنَّمَا ذكر التَّرْجَمَة بالاستفهام وَلم يذكر جَوَابه اكْتِفَاء بِمَا فِي أَحَادِيث الْبَاب الثَّلَاثَة: عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن فِي الحَدِيث الأول إِخْرَاج الْمَيِّت من قَبره لعِلَّة، وَهِي إقماص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن أبي بِقَمِيصِهِ الَّذِي على جسده، وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّالِث: إِخْرَاجه أَيْضا لعِلَّة، وَهِي تطييب قلب جَابر، فَفِي الأول لمصْلحَة الْمَيِّت، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث لمصْلحَة الْحَيّ، وَيتَفَرَّع على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ جَوَاز إِخْرَاج الْمَيِّت من قَبره إِذا كَانَت الأَرْض مَغْصُوبَة أَو أظهرت مُسْتَحقَّة أَو توزعت بِالشُّفْعَة، وَكَذَلِكَ نقل الْمَيِّت من مَوضِع إِلَى مَوضِع، فَذكر فِي الْجَوَامِع، وَإِن نقل ميلًا أَو ميلين فَلَا بَأْس بِهِ، وَقيل: مَا دون السّفر، وَقيل: لَا يكره السّفر أَيْضا. وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أَمر بقبور كَانَت عِنْد الْمَسْجِد إِن تحول إِلَى البقيع، وَقَالَ: توسعوا فِي مَسْجِدكُمْ، وَقيل: لَا بَأْس فِي مثله، وَقَالَ الْمَازرِيّ: ظَاهر مَذْهَبنَا جَوَاز نقل الْمَيِّت من بلد إِلَى بلد، وَقد مَاتَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بالعقيق، وَدفن بِالْمَدِينَةِ. وَكَذَلِكَ سعيد بن زيد، وَفِي (الْحَاوِي) : قَالَ الشَّافِعِي: لَا أحب نَقله إلاَّ أَن يكون بِقرب مَكَّة أَو الْمَدِينَة أَو(8/163)
بَيت الْمُقَدّس، فَاخْتَارَ أَن ينْقل إِلَيْهَا لفضل الدّفن فِيهَا، وَقَالَ الْبَغَوِيّ والبندنيجي: يكره نَقله، وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن والدارمي: يحرم نَقله: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الْأَصَح، وَلم ير أحد بَأْسا أَن يحول الْمَيِّت من قَبره إِلَى غَيره، وَقَالَ: قد نبش معَاذ امْرَأَته وحول طَلْحَة. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة قَوْله: واللحد مَعَ تنَاول الْقَبْر إِلَيْهِ؟ قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى جَوَاز الْإِخْرَاج لعِلَّة، سَوَاء كَانَ وَحده فِي الْقَبْر، نبه عَلَيْهِ بقوله: من الْقَبْر، أَو كَانَ مَعَه غَيره، نبه عَلَيْهِ بقوله: واللحد، لِأَن وَالِد جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ فِي اللَّحْد وَمَعَهُ غَيره، فَأخْرجهُ جَابر وَجعله فِي قبر وَحده حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيثه: وَدفن مَعَه آخر فِي قَبره. . إِلَى آخِره، كَمَا يَأْتِي الْآن، وَعلل لإخراجه عدم طيب نَفسه إِن يتْركهُ مَعَ الآخر، فاستخرجه بعد سِتَّة أشهر وَجعله فِي قبر على حِدة.
0531 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌ وسَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ أَتَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فأمَرَ بِهِ فأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَألْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَالله أعْلَمُ وكانَ كَسَا عَبَّاسا قَمِيصا. قَالَ سُفْيانُ وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ وكانَ عَلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابنُ عَبْدِ الله يَا رسولَ الله ألْبِسْ أبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ. قَالَ سُفْيانُ فَيُرَوْنَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألْبَسَ عَبْدَ الله قَمِيصَهُ مُكَافَأةً لِمَا صَنَعَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمر بِهِ فَأخْرج) أَي: من قَبره بعد أَن دفن.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، كَذَا نَص عَلَيْهِ الْحَافِظ. الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) . الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: سُفْيَان قَالَ عَمْرو: وَكَأن ذَاك كَانَ فِي حَال المذاكرة. وَفِيه: السماع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل وَفِي اللبَاس عَن عبد الله. ابْن عُثْمَان وَفِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأحمد ابْن عَبدة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَعبد الله بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ، فرقهم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عبد الله بن أبي) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن سلول، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة، وَأبي: هُوَ أَبُو مَالك بن الْحَارِث بن عبيد، وسلول امْرَأَة من خُزَاعَة، وَهِي أم أبي مَالك بن الْحَارِث وَأم عبد الله ابْن أبي خَوْلَة بنت الْمُنْذر بن حرَام من بني النجار، وَعبد الله سيد الْخَزْرَج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ رَأس الْمُنَافِقين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مرض عبد الله بن أبي فِي لَيَال بَقينَ من شَوَّال، وَمَات فِي ذِي الْقعدَة من سنة تسع من الْهِجْرَة، وَكَانَ مَرضه عشْرين لَيْلَة، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي توفّي دخل عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، فَقَالَ: قد نهيتك عَن حب يهود، فَقَالَ: قد أبْغضهُم أسعد بن زُرَارَة فَمَا نَفعه؟ ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله لَيْسَ هَذَا بِحِين عتاب، هُوَ الْمَوْت، فَإِن مت فَاحْضُرْ غسْلي واعطني قَمِيصك الَّذِي يَلِي جِلْدك فَكَفِّنِّي فِيهِ، وصلِّ عَليّ واستغفر لي، فَفعل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَوْله: (حفرته) أَي: قَبره، قَوْله: (فَأمر بِهِ) أَي: فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَبْد الله بن أبي فَأخْرج من قَبره. قَوْله: (فَالله أعلم) ، جملَة مُعْتَرضَة أَي: فَالله أعلم بِسَبَب إلباس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه قَمِيصه. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: عبد الله كسا عباسا قَمِيصًا، وعباس هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَسَاه مُكَافَأَة لما كَانَ كسا الْعَبَّاس قَمِيصه حِين قدم الْمَدِينَة، وَذَلِكَ أَنهم لم يَجدوا قَمِيصًا يصلح للْعَبَّاس إلاَّ قَمِيص عبد الله بن أبي، لِأَن الْعَبَّاس كَانَ طَويلا جدا، وَكَذَلِكَ عبد الله بن أبي. قَالَ أنس: شهِدت رجلَيْهِ وَقد فضلتا السرير من طوله. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ: ابْن عُيَيْنَة. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، هَكَذَا هُوَ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: قَالَ سُفْيَان: وَقَالَ أَبُو هَارُون: قيل: هُوَ الصَّوَاب، وَأَبُو هُرَيْرَة تَصْحِيف، وَأَبُو هَارُون هَذَا هُوَ مُوسَى بن أبي عِيسَى ميسرَة الحناط، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالنون: الْمدنِي، كَذَا نَص عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقيل: هُوَ إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء الغنوي من شُيُوخ الْبَصْرَة، وَكِلَاهُمَا من أَتبَاع التَّابِعين.(8/164)
وَقَالَ بَعضهم: أَبُو هَارُون الْمَذْكُور جزم الْمزي بِأَنَّهُ عِيسَى بن أبي مُوسَى الحناط، قَالَ: وَقد أخرجه الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان، فَسَماهُ عِيسَى، وَلَفظه: حَدثنَا عِيسَى بن أبي مُوسَى. قلت: قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : أَبُو هَارُون هَذَا مُوسَى بن أبي عِيسَى ميسرَة الحناط الْغِفَارِيّ أَخُو عِيسَى بن أبي عِيسَى الطَّحَّان، وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو هَارُون هُوَ مُوسَى بن أبي عِيسَى الحناط. قَالَ الغساني: أَتَى ذكره فِي (الْجَامِع) فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب هَل يخرج الْمَيِّت من الْقَبْر، فِي قصَّة ابْن سلول، فَقَط، وعَلى كل حَال الحَدِيث معضل. قَوْله: (قَالَ لَهُ ابْن عبد الله) أَي: قَالَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ابْن عبد الله بن أبي، وَهُوَ أَيْضا اسْمه عبد الله، وَكَانَ اسْمه: الْحباب، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الله، فَقَالَ: أَنْت عبد الله، والحباب شَيْطَان، وَقد كَانَ أسلم وَحسن إِسْلَامه وَشهد بَدْرًا مُسلما مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يصعب عَلَيْهِ صُحْبَة أَبِيه لِلْمُنَافِقين، وَهُوَ الَّذِي جلس على بَاب الْمَدِينَة وَمنع أَبَاهُ فِي غزَاة الْمُريْسِيع من دُخُولهَا. قَوْله: (ألبس) ،، بِفَتْح الْهمزَة من الإلباس. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان، فيرون. .) إِلَى آخِره، مُتَّصِل عِنْد سُفْيَان أخرجه البُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْجِهَاد فِي: بَاب كسْوَة الْأُسَارَى، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عمر وَسمع جَابر بن عبد الله، قَالَ: لما كَانَ يَوْم بدر أُتِي بِأسَارَى وَأتي بِالْعَبَّاسِ وَلم يكن عَلَيْهِ ثوب، فَنظر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ قَمِيصًا فوجدوا قَمِيص عبد الله بن أبي يقدر عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه، فَلذَلِك نزع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه الَّذِي ألبسهُ. قَالَ ابْن عُيَيْنَة: كَانَت لَهُ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدٌ فَأحب أَن يُكَافِئهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز إِخْرَاج الْمَيِّت من قَبره لعِلَّة، وَقد ذَكرْنَاهُ مُسْتَوفى، وَمن الْعلَّة أَن يكون دفن بِلَا غسل أَو لحق الأَرْض المدفون فِيهَا سيل أَو نداوة، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي أَحْكَامه. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف الْعلمَاء فِي نبش من دفن وَلم يغسل فأكثرهم يُجِيز إِخْرَاجه وغسله، هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: مَا لم يتَغَيَّر، وَكَذَا عندنَا: مَا لم يتَغَيَّر بالنتن. وَقيل: ينبش مَا دَامَ فِيهِ جُزْء من عظم وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِذا وضع فِي اللَّحْد وَلم يغسل لَا يَنْبَغِي أَن ينبشوه، وَبِه قَالَ أَشهب، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِيمَن دفن بِغَيْر صَلَاة، قَالَ ابْن الْمُنْذر: فعندنا لَا ينبش بل يصلى على الْقَبْر، أللهم إلاَّ أَن لَا يهال عَلَيْهِ التُّرَاب فَإِنَّهُ يخرج وَيصلى عَلَيْهِ، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي لعِلَّة الْمَشَقَّة، وَأَنه لَا يُسمى نبشا، وَقيل: ترفع لبنته وَهُوَ فِي لحده مِمَّا يُقَابل وَجهه لينْظر بعضه فيصلى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يخرج مَا لم يتَغَيَّر، وَهُوَ قَول سَحْنُون. وَقَالَ أَشهب: إِن ذكرُوا ذَلِك قبل أَن يهال عَلَيْهِ التُّرَاب أخرج وَصلي عَلَيْهِ، وَإِن أهالوا فليترك، وَإِن لم يصل عَلَيْهِ. وَعَن مَالك: إِذا نسيت الصَّلَاة على الْمَيِّت حَتَّى فرغ من دَفنه لَا أرى أَن ينبشوه لذَلِك، وَلَا يصلى على قَبره، وَلَكِن يدعونَ لَهُ، وروى سعد بن مَنْصُور عَن شُرَيْح بن عبيد: أَن رجَالًا قبروا صاحبا لَهُم لم يغسلوه وَلم يَجدوا لَهُ كفنا، فوجدوا معَاذ بن جبل فأخبروه فَأَمرهمْ أَن يخرجوه ثمَّ غسل وكفن وحنط وَصلى عَلَيْهِ، وَفِيه: وَنَفث عَلَيْهِ من رِيقه. احْتج بِهِ على من يرى نَجَاسَة الرِّيق والنخامة، وَهُوَ قَول يرْوى عَن سلمَان الْفَارِسِي وإبرهيم النَّخعِيّ، وَالْعُلَمَاء كلهم على خِلَافه، وَالسّنَن وَردت برده، فمعاذ الله من صِحَة خِلَافه والشارع علمنَا النَّظَافَة وَالطَّهَارَة، وَبِه طهرنا الله من الأدناس، فريقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتبرك بِهِ ويستشفى. وَفِيه: أَن الشُّهَدَاء لَا تَأْكُل الأَرْض لحومهم، وَقيل: أَرْبَعَة لَا تعدو عَلَيْهِم الأَرْض وَلَا هوامها الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْعُلَمَاء وَالشُّهَدَاء والمؤذنون، وَقيل: ذَلِك لأهل أحد كَرَامَة لَهُم.
1531 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ أخبرنَا بِشْرً بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ عنْ عَطَاءٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أبي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا أُرَانِي إلاَّ مَقْتُولاً فِي أوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أصْحَابَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإنِّي لاَ أتْرُكُ بَعْدِي أعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإنَّ عَلَيَّ دَيْنا فاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأخَوَاتِكَ خَيْرا فأصْبَحْنَا فَكانَ أوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أنْ أتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ فاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أشْهُرٍ فإذَا هُوَ كَيَوْمَ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ.
(الحَدِيث 1531 طرفه فِي: 2531) .(8/165)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاستخرجته) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، و: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، والمفضل، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. وَقَالَ الجياني: كَذَا رُوِيَ هَذَا الْإِسْنَاد عَن البُخَارِيّ إلاَّ أَبَا عَليّ بن السكن وَحده، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَته: شُعْبَة عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن جَابر.
وَأخرجه أَبُو نعيم من طَرِيق أبي الْأَشْعَث عَن بشر بن الْمفضل، فَقَالَ: سعيد بن يزِيد عَن أبي نَضرة عَن جَابر. وَقَالَ بعده: لَيْسَ أَبُو نَضرة من شَرط البُخَارِيّ. قَالَ: وَرِوَايَته عَن حُسَيْن عَن عَطاء عزيزة جدا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن سعيد بن يزِيد أبي سَلمَة عَن أبي نَضرة عَن جَابر، قَالَ: دفن مَعَ أبي رجل فَكَانَ فِي نَفسِي من ذَلِك حَاجَة. فَأَخْرَجته بعد سِتَّة أشهر، فَمَا أنْكرت مِنْهُ شَيْئا إلاَّ شعيرات كن فِي لحيته مِمَّا يَلِي الأَرْض، وَأَبُو نَضرة: الْمُنْذر بن مَالك الْعَوْفِيّ. وَأخرجه أَيْضا ابْن سعد وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق سعيد عَن أبي نَضرة عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما حضر أحد) ، أَي: وقْعَة أحد، وَإسْنَاد الْحُضُور إِلَيْهِ مجازي، وَكَانَت وقْعَة أحد فِي سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَيْهَا عَشِيَّة الْجُمُعَة لأَرْبَع عشرَة خلت من شَوَّال، وَقَالَ مَالك: كَانَت أحد وخيبر فِي أول النَّهَار. قَوْله: (مَا أَرَانِي) ، بِضَم الْهمزَة أَي: مَا أظنني، أَي: مَا أَظن نَفسِي، وَذكر الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَن الْوَاقِدِيّ: أَن سَبَب ظَنّه ذَلِك مَنَام رَآهُ أَنه رأى مُبشر بن عبد الله الْمُنْذر، وَكَانَ مِمَّن اسْتشْهد ببدر، يَقُول لَهُ: أَنْت قادم علينا فِي هَذِه الْأَيَّام، فَقَصَّهَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَذِه شَهَادَة، وَفِي رِوَايَة أبي عَليّ بن السكن عَن أبي نَضرة. (عَن جَابر: أَن أَبَاهُ قَالَ لَهُ: إِنِّي معرض نَفسِي للْقَتْل. .) الحَدِيث. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِنَاء على مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى مَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن بعض أَصْحَابه سيقتل. قَوْله: (فَإِن عَليّ دينا) كَانَت عَلَيْهِ أوسق تمر ليهودي. قَوْله: (فَاقْض) ، من: قضى يقْضِي أَي: أدِّ الدّين، ويروى: (فاقضه) ، بِذكر الضَّمِير الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول. قَوْله: (واستوصِ) أَي: أطلب الْوَصْل بأخواتك خيرا، يُقَال: وصيت الشَّيْء بِكَذَا إِذا وصلته بِهِ. قَالَ ابْن بطال: أَي: إقبل وصيتي بِالْخَيرِ إلَيْهِنَّ، وَكَانَت لَهُ تسع أَخَوَات باخْتلَاف فِيهِ، فوكد عَلَيْهِ فِيهِنَّ مَعَ مَا كَانَ فِي جَابر من الْخَيْر، فَوَجَبَ لَهُنَّ: حق الْقَرَابَة، وَحقّ وَصِيَّة الْأَب، وَحقّ الْيَتِيم، وَحقّ الْإِسْلَام. وَفِي (الصَّحِيح) : (لما قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تزوجت بكرا أم ثَيِّبًا؟ قَالَ: بل ثَيِّبًا، فَقَالَ: هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ قَالَ: إِن أبي ترك أَخَوَات كرهت أَن أضم إلَيْهِنَّ خرقاء مِثْلهنَّ) . فَلم يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك. قَوْله: (أَن أتركه) ، أَن: مَصْدَرِيَّة أَي: لم تطب نَفسِي تَركه مَعَ الآخر، وَهُوَ عَمْرو بن الجموح بن زيد بن حرَام الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ صديق وَالِد جَابر وَزوج أُخْته هِنْد بنت عَمْرو، فَكَانَ جَابر سَمَّاهُ عَمَّا تَعْظِيمًا. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) : حَدثنِي أبي عَن رجال من بني سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِين أُصِيب عبد الله بن عَمْرو وَعَمْرو بن الجموح: إجمعوا بَينهمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا متصادقين فِي الدُّنْيَا. وَفِي (مغازي الْوَاقِدِيّ) عَن عَائِشَة: أَنَّهَا رَأَتْ هِنْد بنت عَمْرو تَسوق بَعِيرًا لَهَا عَلَيْهِ زَوجهَا عَمْرو بن الجموح وأخوها عبد الله بن عَمْرو بن حرَام لتدفنها بِالْمَدِينَةِ ثمَّ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برد الْقَتْلَى إِلَى مضاجعهم، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) : بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي قَتَادَة، قَالَ: قتل عَمْرو بن الجموح وَابْن أَخِيه يَوْم أحد فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعلَا فِي قبر وَاحِد، وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : لَيْسَ هُوَ ابْن أَخِيه، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عَمه، قَوْله: (فاستخرجته بعد سِتَّة أشهر) أَي: من يَوْم دَفَنته. فَإِن قلت: وَقع فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة لَهُ: بلغه أَن عَمْرو بن الجموح وَعبد الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ كَانَا قد حفر السَّيْل قبرهما، وَكَانَا فِي قبر وَاحِد، فحفر عَنْهُمَا ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كَأَنَّهُمَا مَاتَا بالْأَمْس، وَكَانَ بَين أحد وَيَوْم حفر عَنْهُمَا سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة. انْتهى. وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره جَابر. قلت: أجَاب ابْن عبد الْبر بِتَعَدُّد الْقِصَّة، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: لِأَن الَّذِي فِي حَدِيث جَابر أَنه دفن أَبَاهُ فِي قبر وَاحِد بعد سِتَّة أشهر، وَفِي حَدِيث (الْمُوَطَّأ) أَنَّهُمَا وجدا فِي قبر وَاحِد بعد سِتَّة وَأَرْبَعين سنة، فإمَّا أَن المُرَاد بكونهما فِي قبر وَاحِد قرب الْمُجَاورَة، أَو أَن السَّيْل غرق أحد القبرين فصارا كقبر وَاحِد. قلت: فِيهِ مَا لَا يخفى، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: الْمَنْقُول عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة بَلَاغ فَلَا يُقَاوم الْمَرْوِيّ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَإِذا هُوَ) كلمة: إِذا، للمفاجأة. وَقَوله: هُوَ، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (كَيَوْم وَضعته) بِإِضَافَة: يَوْم، إِلَى: وَضعته، و: الْكَاف، بِمَعْنى: الْمثل، وَالْيَوْم بِمَعْنى: الْوَقْت. قَوْله: (هنيَّة) ، بِضَم الْهَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، مصغر هُنَا،(8/166)
أَي: قَرِيبا وانتصابه على الْحَال، وَقَوله: (غير إِذْنه) مُسْتَثْنى مِمَّا قبله، وَحَاصِل الْمَعْنى: استخرجت أبي من قَبره ففاجأته قَرِيبا مثل الْوَقْت الَّذِي وَضعته فِيهِ، غير أَن أُذُنه تغير بِسَبَب التصاقها بِالْأَرْضِ، وَهَذَا الْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة الْمروزِي والجرجاني وَأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن والنسفي: (كَيَوْم وَضعته فِي الْقَبْر غير هنيَّة فِي أُذُنه) ، يُرِيد غير أثر يسير غيرته الأَرْض من أُذُنه، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَحكى ابْن التِّين: أَنه فِي رِوَايَته، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا همزَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ هَاء الضَّمِير، وَمَعْنَاهُ: على حَالَته، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي خَيْثَمَة وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق غَسَّان بن نصر عَن أبي سَلمَة بِلَفْظ: (وَهُوَ كَيَوْم دَفَنته إلاَّ هنيَّة عِنْد أُذُنَيْهِ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم من طَرِيق الْأَشْعَث: (غير هنيَّة عِنْد أُذُنه) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَاكِم: (فَإِذا هُوَ كَيَوْم وَضعته غير أُذُنه) ، سقط مِنْهُ لفظ: هنيَّة، وَكَذَا ذكره الْحميدِي فِي (الْجمع فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ) وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي مسلمة بِلَفْظ: (غير أَن طرف أذن أحدهم تغير) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن سعد من طَرِيق أبي هِلَال عَن أبي مسلمة: (إلاَّ قَلِيلا من شحمة أُذُنه) ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَقد ذَكرنَاهَا من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن أبي مسلمة: (إلاَّ شعيرات كن من لحيته مِمَّا يَلِي الأَرْض) . فَإِن قلت: مَا وَجه رِوَايَة أبي دَاوُد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة؟ قلت: المُرَاد بالشعيرات الَّتِي تتصل بشحمة الْأذن. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر أَن أَبَاهُ قتل يَوْم أحد، ثمَّ مثلُوا بِهِ فجدعوا أَنفه وَأُذُنَيْهِ. . الحَدِيث؟ قلت: يحمل هَذَا على أَنهم قطعُوا بعض أُذُنَيْهِ لَا جميعهما. فَافْهَم.
87 - (بابُ اللَّحْدِ والشَّقِّ فِي القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اللَّحْد والشق الكائنين فِي الْقَبْر. فَإِن قلت: لَيْسَ للشق ذكر فِي حَدِيث الْبَاب. قلت: قَوْله: قدمه فِي اللَّحْد، يدل على الشق، لِأَن فِي تَقْدِيم أحد الميتين تَأْخِير الآخر غَالِبا فِي الشق لمَشَقَّة تَسْوِيَة اللَّحْد، لمَكَان اثْنَيْنِ، وَتَقْدِيم ذكر اللَّحْد يدل على مزية فَضله، دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (اللَّحْد لنا والشق لغيرنا) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.(8/167)
3531 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ عنْ جابِرِ ابنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ أيُّهُمْ أكْثَر أخْذا لِلْقُرْآنِ فإذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فقالَ أنَا شَهِيدٌ عَلى هاؤلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغسِّلْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة علمت مِمَّا ذَكرْنَاهُ الْآن.
وَرِجَاله قد مروا غير مرّة، وعبدان بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب الصَّلَاة على الشَّهِيد، رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة الَّتِي بعده.
قَوْله: (بَين الرجلَيْن) ، ويروى: (بَين رجلَيْنِ) ، بِلَا ألف وَلَام. قَوْله: (وَلم يغسلهم) ، بِفَتْح الْيَاء ويروى بضَمهَا: من التغسيل.
97 - (بابٌ إذَا أسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَليهِ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإسْلاَمُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أسلم الصَّبِي فَمَاتَ قبل الْبلُوغ، هَل يصلى عَلَيْهِ أم لَا؟ هَذِه تَرْجَمَة. وَقَوله: وَهل يعرض على الصَّبِي الْإِسْلَام؟ تَرْجَمَة أُخْرَى.
أما التَّرْجَمَة الأولى: فَفِيهَا خلاف، فَلذَلِك لم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام، وَلَا خلاف أَنه يصلى على الصَّغِير الْمَوْلُود فِي الْإِسْلَام لِأَنَّهُ كَانَ على دين أَبَوَيْهِ، قَالَ ابْن الْقَاسِم: إِذا أسلم الصَّغِير وَقد عقل الْإِسْلَام فَلهُ حكم الْمُسلمين فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَاخْتلفُوا فِي حكم الصَّبِي إِذا أسلم أحد أَبَوَيْهِ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: يتبع أَيهمَا أسلم، وَهُوَ أحد قولي مَالك، وَبِه أَخذ ابْن وهب، وَيصلى عَلَيْهِ إِن مَاتَ على هَذَا. وَالثَّانِي: يتبع أَبَاهُ وَلَا يعد بِإِسْلَام أمه مُسلما، وَهَذَا قَول مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) . وَالثَّالِث: تبع لأمه، وَإِن أسلم أَبوهُ، وَهَذِه مقَالَة شَاذَّة لَيست فِي مَذْهَب مَالك، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء فِي الطِّفْل الْحَرْبِيّ يسبى وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أَن إِسْلَام الْأُم إِسْلَام لَهُ، وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا لم يكن مَعَه أَبوهُ، أَو وَقع فِي الْقِسْمَة دونهمَا ثمَّ مَاتَ فِي ملك مُشْتَرِيه، فَقَالَ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يصلى عَلَيْهِ إلاَّ أَن يُجيب إِلَى الْإِسْلَام بِأَمْر يعرف بِهِ أَنه عقله، وَهُوَ الْمَشْهُور من مذْهبه، وَعنهُ: إِذا لم يكن مَعَه أحد من آبَائِهِ وَلم يبلغ أَن يتدين أَو يدعى، وَنوى سَيّده الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يصلى عَلَيْهِ، وَأَحْكَامه أَحْكَام الْمُسلمين فِي الدّفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين والموارثة، وَهُوَ قَول ابْن الْمَاجشون وَابْن دِينَار وإصبغ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ. وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : إِذا سبي صبي مَعَه أحد أَبَوَيْهِ فَمَاتَ لم يصل عَلَيْهِ حَتَّى يقر بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ يعقل، أَو يسلم أحد أَبَوَيْهِ خلافًا لمَالِك فِي إِسْلَام الْأُم، وَللشَّافِعِيّ فِي إِسْلَامه هُوَ وَالْولد يتبع خير الْأَبَوَيْنِ دينا، وللتبعية مَرَاتِب أقواها تَبَعِيَّة الْأَبَوَيْنِ. ثمَّ الدَّار ثمَّ الْيَد. وَفِي (الْمُغنِي) : لَا يصلى على أَوْلَاد الْمُشْركين إِلَّا أَن يسلم أحد أبويهم أَو يَمُوت مُشْركًا، فَيكون وَلَده مُسلما أَو يسبى مُنْفَردا أَو مَعَ أحد أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يصلى عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا سبى مَعَ أحد أَبَوَيْهِ لَا يصلى عَلَيْهِ إلاَّ إِذا أسلم، وَعنهُ إِذا أسر مَعَ أَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا أَو وَحده ثمَّ مَاتَ قبل أَن يخْتَار الْإِسْلَام يصلى عَلَيْهِ.
وَأما التَّرْجَمَة الثَّانِيَة: فَإِنَّهُ ذكرهَا هُنَا بِلَفْظ الإستفهام، وَترْجم فِي كتاب الْجِهَاد بِصِيغَة تدل على الْجَزْم بذلك، فَقَالَ: كَيفَ يعرض الْإِسْلَام على الصَّبِي؟ وَذكر فِيهِ قصَّة ابْن صياد، وَفِيه: وَقد قَارب ابْن صياد يَحْتَلِم، فَلم يشْعر حَتَّى ضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَهره بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله؟) الحَدِيث، وَفِيه عرض الْإِسْلَام على الصَّغِير، وَاحْتج بِهِ قوم على صِحَة إِسْلَام الصَّبِي إِن قَارب الِاحْتِلَام، وَهُوَ مَقْصُود البُخَارِيّ من تبويبه بقوله: وَهل يعرض على الصَّبِي الْإِسْلَام؟ وَجَوَابه: يعرض، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، خلافًا للشَّافِعِيّ.
وَقَالَ الحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإبْرَاهِيمُ وقَتَادَةُ إذَا أسْلَمَ أحَدُهُمَا فالوَلَدُ مَعَ المُسْلِمِ
مطابقته أثر هَؤُلَاءِ تحسن أَن تكون للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وَهِي قَوْله: وَهل يعرض على الصَّبِي الْإِسْلَام؟ فَإِن أَبَوَيْهِ إِذا أسلما أَو أسلم أَحدهمَا يكون مُسلما. وَأما أثر الْحسن الْبَصْرِيّ فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يحيى بن يحيى حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع(8/168)
عَن يُونُس عَن الْحسن فِي: الصَّغِير، قَالَ: مَعَ الْمُسلم من وَالِديهِ. وَأما أثر شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة: القَاضِي فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن يحيى بن يحيى حَدثنَا هشيم عَن أَشْعَث عَن الشّعبِيّ عَن شُرَيْح أَنه اخْتصم إِلَيْهِ فِي صبي أحد أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيّ، قَالَ: الْوَالِد الْمُسلم أَحَق بِالْوَلَدِ، وَأما أثر إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فَأخْرجهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ فِي نَصْرَانِيين بَينهمَا ولد صَغِير فَأسلم أَحدهمَا، قَالَ: أولاهما بِهِ الْمُسلم، وَأما أثر قَتَادَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن معمر عَنهُ نَحْو قَول الْحسن.
وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَعَ أُمِّهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أبِيهِ عَلَى دِينِ قَومِهِ
أَي: وَكَانَ عبد الله بن عَبَّاس مَعَ أمه لبَابَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة من الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الله حَدثنَا سُفْيَان، قَالَ: قَالَ عبيد الله: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ: إِنَّا من الْولدَان وَأمي من النِّسَاء، وَأَرَادَ بقوله: من الْمُسْتَضْعَفِينَ، قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان} (النِّسَاء: 89) . وهم الَّذين أَسْلمُوا بِمَكَّة وصدهم الْمُشْركُونَ عَن الْهِجْرَة فبقوا بَين أظهرهم مستضعفين يلقون مِنْهُم الْأَذَى الشَّديد. قَوْله: (وَلم يكن مَعَ أَبِيه) أَي: وَلم يكن ابْن عَبَّاس مَعَ أَبِيه عَبَّاس على دين قومه الْمُشْركين، وَهَذَا من كَلَام البُخَارِيّ ذكره مستنبطا، وَلَكِن هَذَا مَبْنِيّ على أَن إِسْلَام الْعَبَّاس كَانَ بعد وقْعَة بدر. فَإِن قلت: روى ابْن سعد من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَنه أسلم قبل الْهِجْرَة، وَأقَام بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فِي ذَلِك لمصْلحَة الْمُسلمين. قلت: هَذَا فِي إِسْنَاده الْكَلْبِيّ وَهُوَ مَتْرُوك، وَيَردهُ أَيْضا أَن الْعَبَّاس أسر ببدر وفدى نَفسه على مَا يَجِيء فِي الْمَغَازِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَيَردهُ أَيْضا أَن الْآيَة الَّتِي فِي قصَّة الْمُسْتَضْعَفِينَ نزلت بعد بدر بِلَا خلاف.، وَكَانَ شهد بَدْرًا مَعَ الْمُشْركين، وَكَانَ خرج إِلَيْهَا مكْرها وَأسر يَوْمئِذٍ ثمَّ أسلم بعد ذَلِك.
وَقَالَ الإسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى
كَذَا قَالَ البُخَارِيّ وَلم يعين من الْقَائِل، وَرُبمَا يظنّ أَن الْقَائِل هُوَ ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الدَّارَقُطْنِيّ أخرجه فِي كتاب النِّكَاح فِي (سنَنه) بِسَنَد صَحِيح على شَرط الْحَاكِم، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَحْمد بن الْحُسَيْن الْحداد حَدثنَا شَبابَة بن خياط حَدثنَا حشرج بن عبد الله بن حشرج حَدثنِي أبي عَن حدي عَن عَائِذ بن عَمْرو الْمُزنِيّ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى) . وروى (إِن عَائِذ بن عَمْرو جَاءَ عَام الْفَتْح مَعَ أبي سُفْيَان بن حَرْب، فَقَالَ الصَّحَابَة: هَذَا عَائِذ ابْن عَمْرو وَأَبُو سُفْيَان، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَذَا عَائِذ بن عَمْرو وَأَبُو سُفْيَان، الْإِسْلَام أعز من ذَلِك، الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى) . فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة ذكر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب؟ قلت: الْبَاب فِي نفس الْأَمر ينبىء عَن علو الْإِسْلَام، أَلا يرى أَن الصَّبِي غير الْمُكَلف إِذا أسلم وَمَات يصلى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ ببركة الْإِسْلَام وعلو قدره، وَكَذَلِكَ يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام حَتَّى لَا يحرم من هَذِه الْفَضِيلَة.
110 - (حَدثنَا عَبْدَانِ قَالَ أخبرنَا عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أخبرهُ أَن عمر انْطلق مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رَهْط قبل ابْن صياد حَتَّى وجدوه يلْعَب مَعَ الصّبيان عِنْد أَطَم بني مغالة وَقد قَارب ابْن صياد الْحلم فَلم يشْعر حَتَّى ضرب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ لِابْنِ صياد تشهد أَنِّي رَسُول الله فَنظر إِلَيْهِ ابْن صياد فَقَالَ أشهد أَنَّك رَسُول الْأُمِّيين فَقَالَ ابْن صياد للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله فرفضه وَقَالَ آمَنت بِاللَّه وبرسله فَقَالَ لَهُ مَاذَا ترى فَقَالَ ابْن صياد يأتيني صَادِق وكاذب فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خلط عَلَيْك الْأَمر ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي قد خبأت لَك خبيئا فَقَالَ ابْن صياد هُوَ الدخ فَقَالَ أخسا فَلَنْ تعدو قدرك فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ دَعْنِي يَا رَسُول الله أضْرب عُنُقه فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن يكنه فَلَنْ تسلط عَلَيْهِ وَإِن لم يكنه فَلَا خير لَك فِي قَتله) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " تشهد أَنِّي رَسُول الله " فَإِن فِيهِ عرض الْإِسْلَام على الصَّبِي وَيفهم مِنْهُ أَيْضا أَنه لَو لم يَصح إِسْلَام الصَّبِي لما عرض عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على ابْن صياد وَهُوَ غير مدرك فطابق الحَدِيث جزئي التَّرْجَمَة كليهمَا. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عَبْدَانِ وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان وَقد مر فِي الْبَاب السَّابِق. الثَّانِي عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث يُونُس(8/169)
ابْن يزِيد. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس سَالم بن عبد الله بن عمر. السَّادِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبلفظ الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَفِيه أَن شَيْخه مَذْكُور بلقبه وَأَنه وَشَيْخه عبد الله مروزيان وَيُونُس أيلي وَالزهْرِيّ وَسَالم مدنيان وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق وَأَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن عَبْدَانِ مقطعا وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَنهُ بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " فِي رَهْط " قَالَ أَبُو زيد الرَّهْط مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال وَفِي الْعين هُوَ عدد جمع من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة وَبَعض يَقُول من سَبْعَة إِلَى عشرَة وَمَا دون السَّبْعَة إِلَى ثَلَاثَة نفر وَعَن ثَعْلَب الرَّهْط للْأَب الْأَدْنَى وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ قَالُوا رَهْط وأراهط كَأَنَّهُمْ كسروا أرهط وَقَالَ كرَاع جَاءَنَا أرهوط مِنْهُم مثل أركوب وَالْجمع أراهيط وأراهط وَفِي الْمُحكم أراهط جمع أرهط والرهط لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَفِي الْجَامِع الرَّهْط مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَرُبمَا جاوزوا ذَلِك وأراهط جمع الْجمع وَفِي الصِّحَاح أرهط الرجل قومه وقبيلته والرهط مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال وَلَا يكون فيهم امْرَأَة وَالْجمع أرهاط وَفِي الجمهرة رُبمَا جمع رَهْط فَقَالُوا أرهط قَوْله " قبل ابْن صياد " بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي جِهَته ويروي ابْن صائد وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن الصياد يُقَال لَهُ ابْن الصَّائِد وَابْن صائد واسْمه صافي كقاضي وَقيل عبد الله وَقَالَ الْوَاقِدِيّ هُوَ من بني النجار وَقيل من الْيَهُود وَكَانُوا حلفاء بني النجار وَابْنه عمَارَة شيخ مَالك من خِيَار الْمُسلمين وَلما دَفعه بَنو النجار عَن نسبهم خلف مِنْهُم تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ رجلا وَرجل من بني سَاعِدَة على دَفعه والصياد على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ مُبَالغَة صائد قَوْله " حَتَّى وجدوه " ويروى " حَتَّى وجده " بإفراد الْفِعْل فَفِي الأول يرجع الضَّمِير الْمَرْفُوع إِلَى الرَّسُول وَمن مَعَه من الرَّهْط وَفِي الثَّانِي إِلَى الرَّسُول وَحده وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى ابْن الصياد قَوْله " يلْعَب " جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله " عِنْد أَطَم " بِضَم الْهمزَة والطاء كالحصن وَقيل هُوَ بِنَاء بِالْحِجَارَةِ كالحصن وَقيل هُوَ الْحصن وَجمعه آطام قَوْله " بني مغالة " بِفَتْح الْمِيم وبالغين الْمُعْجَمَة المخففة بطن من الْأَنْصَار وَقَوله " أَطَم بني مغالة " كَذَا هُوَ الصَّحِيح وَفِي صَحِيح مُسلم رِوَايَة الْحلْوانِي بني مُعَاوِيَة ذكر الزبير بن أبي بكر أَن كل مَا كَانَ عَن يَمِينك إِذا وَقعت آخر البلاط مُسْتَقْبل مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ لبني مغالة ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بني مغالة وَمَا كَانَ على يسارك فلبني جديلة وَهِي امْرَأَة نسبوا إِلَيْهَا وَهِي امْرَأَة عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار قَوْله " الْحلم " بِضَم اللَّام وسكونها وَهُوَ الْبلُوغ قَوْله " الْأُمِّيين " قَالَ الرشاطي الأميون مُشْرِكُوا الْعَرَب نسبوا إِلَى مَا عَلَيْهِ أمة الْعَرَب وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَقيل الأمية هِيَ الَّتِي على أصل ولادات أمهاتها وَلم تتعلم الْكِتَابَة وَقيل نِسْبَة إِلَى أم الْقرى قَوْله " فرفضه " كَذَا هُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة أَي تَركه وَزعم عِيَاض أَنه بصاد مُهْملَة قَالَ وَهِي روايتنا عَن الْجَمَاعَة وَقَالَ بَعضهم الرفص بالصَّاد الْمُهْملَة الضَّرْب بِالرجلِ مثل الرفس بِالسِّين الْمُهْملَة فَإِن صَحَّ هَذَا فَهُوَ بِمَعْنَاهُ قَالَ وَلَكِن لم أجد هَذِه اللَّفْظَة فِي أصُول اللُّغَة وَوَقع فِي رِوَايَة القَاضِي التَّمِيمِي فَرْضه بضاد مُعْجمَة وَهُوَ وهم وَفِي رِوَايَة الْمروزِي فوقصه بقاف وصاد مُهْملَة قَالَ وَلَا وَجه لَهُ وَعند الْخطابِيّ فرصه بصاد مُهْملَة أَي ضغطه حَتَّى ضم بعضه إِلَى بعض وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {بُنيان مرصوص} قَوْله " آمَنت بِاللَّه وبرسله " قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) كَيفَ طابق هَذَا الْجَواب أَتَشهد (قلت) لما أَرَادَ أَن يلْزمه وَيظْهر للْقَوْم كذبه فِي دَعْوَى الرسَالَة أخرج الْكَلَام مخرج كَلَام المُصَنّف وَمعنى آمَنت برسله فَإِن كنت رَسُولا صَادِقا فِي دعواك غير ملبس عَلَيْك الْأَمر أومن بك وَإِن كنت كَاذِبًا وخلط الْأَمر عَلَيْك فَلَا لكنك خلط الْأَمر عَلَيْك فاخسأ وَلَا تعد طورك حَتَّى تَدعِي الرسَالَة انْتهى وَفِيه نظر لَا يخفى قَوْله خلط عَلَيْك الْأَمر مَعْنَاهُ خلط عَلَيْك شَيْطَانك مَا يلقى إِلَيْك من السّمع مَعَ مَا يكذب قَوْله " خبأت لَك خبيئا " على وزن فعيل ويروى " خبأت لَك خبا " على وزن فعل وَكِلَاهُمَا صَحِيح بِمَعْنى الشَّيْء الْغَائِب المستور أَي أضمرت لَك سُورَة الدُّخان وَاخْتلف فِي هَذَا المخبأ مَا هُوَ فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْأَكْثَر على أَنه أضمر لَهُ فِي نَفسه {يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} قَالَ الدَّاودِيّ كَانَ فِي يَده سُورَة الدُّخان(8/170)
مَكْتُوبَة وَقَالَ الْخطابِيّ لَا معنى للدخان هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يخبا فِي كف أَو كم بل الدخ نبت مَوْجُود بَين النخيل والبساتين وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه المغيث وَقيل إِن الدَّجَّال يقْتله عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بجبل الدُّخان فَيحْتَمل أَن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَهُ انْتهى وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَفِيه نظر من حَيْثُ أَنا وجدنَا مَا قَالَه تحرصا مُسْندًا إِلَى سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من طَرِيق صَحِيحَة قَالَ أَحْمد فِي مُسْنده حَدثنَا مُحَمَّد بن سَابق حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أبي الزبير عَن جَابر فَذكره مَرْفُوعا مطولا قَوْله " هُوَ الدخ " قَالَ أَبُو مُوسَى بِضَم الدَّال وَفتحهَا لُغَتَانِ وَقَالَ الْكرْمَانِي بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْخَاء الدُّخان وَهُوَ لُغَة فِيهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ الْمَشْهُور فِي كتب اللُّغَة والْحَدِيث ضمهَا فَقَط وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن ابْن سَيّده وَأَبا التياني وَأَبا الْمَعَالِي وَصَاحب مجمع الغرائب حكوا الْفَتْح حاشا الْجَوْهَرِي فَإِنَّهُ نَص على الضَّم وَلم يذكر غَيره ورد عَلَيْهِ بِأَن حِكَايَة هَؤُلَاءِ الْفَتْح لَا يسْتَلْزم نفي الضَّم كَمَا أَن ذكر الْجَوْهَرِي الضَّم لَا يسْتَلْزم نفي الْفَتْح وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وجدته فِي كتاب الشَّيْخ الدخ سَاكن الْخَاء مصححا عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ على الْوَقْف قَالَ وَأما الَّذِي فِي الشّعْر فمشدد الْخَاء وَكَذَلِكَ قِرَاءَته فِي الحَدِيث وَقَالَ ابْن قرقول الدخ لُغَة فِي الدُّخان لم يسْتَطع ابْن صياد أَن يتم الكمة وَلم يهتد من الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَّا لهذين الحرفين على عَادَة الْكُهَّان من اختطاف بعض الْكَلِمَات من أَوْلِيَائِهِمْ من الْجِنّ أَو من هُوَ أجس النَّفس وَلِهَذَا قَالَ لَهُ " اخْسَأْ فَلَنْ تعدو قدرك " أَي لست بِنَبِي وَلنْ تجَاوز قدرك وَإِنَّمَا أَنْت كَاهِن فَلَنْ تجَاوز يَعْنِي قدر الْكُهَّان قَوْله " اخْسَأْ " فِي الأَصْل لفظ يزْجر بِهِ الْكَلْب ويطرد من خسأت الْكَلْب خسأ طردته وخسأ الْكَلْب نَفسه يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى واخسأ أَيْضا وَهُوَ خطاب زجر واستهانة أَي اسْكُتْ صاغرا مطرودا قَوْله " فَلَنْ تعدو " بِالنّصب بِكَلِمَة لن وَقَالَ السفاقسي وَقع هُنَا فَلَنْ تعدو بِغَيْر وَاو وَقَالَ الْقَزاز هِيَ لُغَة لبَعض الْعَرَب يجزمون بلن مثل لم وَقَالَ ابْن مَالك الْجَزْم لمن لُغَة حَكَاهَا الْكسَائي وَقيل حذفت الْوَاو تَخْفِيفًا وَقيل لن بِمَعْنى لَا أَو لم بالتأويل وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ يَعْنِي لَا يبلغ قدرك أَن تطالع بِالْغَيْبِ من قبل الْوَحْي الْمَخْصُوص بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا من قبيل الإلهام الَّذِي يُدْرِكهُ الصالحون وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي قَالَه من شَيْء أَلْقَاهُ الشَّيْطَان إِلَيْهِ إِمَّا لكَون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تكلم بذلك بَينه وَبَين نَفسه فَسَمعهُ الشَّيْطَان وَإِمَّا أَن يكون الشَّيْطَان سمع مَا يجْرِي بَينهمَا من السَّمَاء لِأَنَّهُ إِذا قضي الْقَضَاء فِي السَّمَاء تَكَلَّمت بِهِ الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فاسترق الشَّيْطَان السّمع وَإِمَّا أَن يكون رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حدث بعض أَصْحَابه بِمَا أضمر وَيدل على ذَلِك قَول عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وخبأ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} فَالظَّاهِر أَنه أعلم الصَّحَابَة بِمَا يخبأ لَهُ وَإِنَّمَا فعل ذَلِك بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليختبره عَن طَريقَة الْكُهَّان وليتعين للصحابة حَاله وَكذبه قَوْله " أَن يكنه " هَذَا الضَّمِير الْمُتَّصِل فِي يكنه هُوَ خَبَرهَا وَقد وضع مَوضِع الْمُنْفَصِل وَاسم يكن مستتر فِيهِ ويروى إِن يكن هُوَ هُوَ الصَّحِيح لِأَن الْمُخْتَار فِي خبر كَانَ هُوَ الِانْفِصَال وعَلى تَقْدِير هَذِه الرِّوَايَة لفظ هُوَ تَأْكِيد للضمير الْمُسْتَتر وَكَانَ تَامَّة أَو وضع هُوَ مَوضِع إِيَّاه أَي إِن يكن إِيَّاه أَي الدَّجَّال قَوْله " وَإِن لم يكنه " أَي وَإِن لم يكن هُوَ دجالًا فَلَا خير فِي قَتله (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول اخْتلفُوا فِي أَن الدَّجَّال هُوَ ابْن صياد أَو غَيره فَذهب قوم إِلَى أَن الدَّجَّال هُوَ ابْن صياد قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه بَاب فِي قصَّة ابْن صياد وَأَنه الدَّجَّال حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة واسحق بن إِبْرَاهِيم وَاللَّفْظ لعُثْمَان قَالَ عُثْمَان حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل " عَن عبد الله قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمررنا بصبيان فيهم ابْن صياد ففر الصّبيان وَجلسَ ابْن صياد فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كره ذَلِك فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تربت يداك تشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ لَا بل تشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ عمر بن الْخطاب ذَرْنِي يَا رَسُول الله حَتَّى أَقتلهُ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن يكن الَّذِي ترى فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتله " وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد قَالَ " لقِيه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي بعض طرق الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ هُوَ أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه مَا ترى قَالَ أرى عرشا على المَاء فَقَالَ رَسُول الله ترى عرش إِبْلِيس على الْبَحْر وَمَا ترى قَالَ أرى صَادِقين وكاذبا أَو كاذبين وصادقا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبس عَلَيْهِ دَعوه " ثمَّ روى مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ رَأَيْت جَابر بن عبد الله يحلف بِاللَّه أَن ابْن صائد الدَّجَّال فَقلت لَهُ تحلف(8/171)
على ذَلِك قَالَ إِنِّي سَمِعت عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يحلف على ذَلِك عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يُنكره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا أَبُو معَاذ قَالَ أخبرنَا أبي قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة مُسلم وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ الْعلمَاء قصَّة ابْن الصياد مشكلة وَأمره مشتبه فِي أَنه هَل هُوَ الْمَسِيح الدَّجَّال الْمَشْهُور أم غَيره وَلَا شكّ أَنه دجال من الدجاجلة قَالَ الْعلمَاء ظَاهر الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يُوح إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَسِيح الدَّجَّال وَلَا غَيره وَإِنَّمَا أوحى إِلَيْهِ بعلامات الدَّجَّال وَكَانَ فِي ابْن صياد قَرَائِن مُحْتَملَة فَلذَلِك كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يقطع بِأَنَّهُ الدَّجَّال وَلَا غَيره وَلِهَذَا قَالَ لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِن يكن هُوَ فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتله وَفِي سنَن أبي دَاوُد فِي خبر الْجَسَّاسَة من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَقَالَ شهد جَابر أَنه هُوَ ابْن صياد قلت فَإِنَّهُ قد مَاتَ قَالَ وَإِن مَاتَ قلت فَإِنَّهُ قد أسلم فَقَالَ وَإِن أسلم قلت فَإِنَّهُ قد دخل الْمَدِينَة قَالَ وَإِن دخل الْمَدِينَة وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث نَافِع قَالَ كَانَ ابْن عمر يَقُول وَالله مَا أَشك أَن الْمَسِيح الدَّجَّال ابْن صياد وَإِسْنَاده صَحِيح وَقَالَ الْخطابِيّ اخْتلف السّلف فِي أمره بعد كبره فروى عَنهُ أَنه تَابَ من ذَلِك القَوْل وَمَات بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُمْ لما أَرَادوا الصَّلَاة عَلَيْهِ كشفوا عَن وَجهه حَتَّى رَآهُ النَّاس وَقيل لَهُم اشْهَدُوا وَاعْترض عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر قَالَ فَقدنَا ابْن صياد يَوْم الْحرَّة وَيرد بِهَذَا قَول من قَالَ أَنه مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وصلوا عَلَيْهِ وَفِيه كتاب الْفتُوح لسيف لما نزل النُّعْمَان على السوس أعياهم حصارها فَقَالَ لَهُم القسيسون يَا معشر الْعَرَب إِن مِمَّا عهد عُلَمَاؤُنَا وأوائلنا أَن لَا يفتح السوس إِلَّا الدَّجَّال فَإِن كَانَ فِيكُم تستفتحونها فَإِن لم يكن فِيكُم فَلَا قَالَ وصاف ابْن صياد فِي جند النُّعْمَان وأتى بَاب السوس غضبانا فدقه بِرجلِهِ وَقَالَ انْفَتح فتقطعت السلَاسِل وتكسرت الأغلاق وَانْفَتح الْبَاب فَدخل الْمُسلمُونَ وَقَالَ ابْن التِّين وَالأَصَح أَنه لَيْسَ هُوَ لِأَن عينه لم تكن ممسوحة وَلَا عينه طافية وَلَا وجدت فِيهِ عَلامَة وروى ابْن أبي شيبَة عَن الغلتان ابْن عَاصِم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ أما مسيح الضَّلَالَة فَرجل أجلى الْجَبْهَة مَمْسُوح الْعين الْيُسْرَى عريض النَّحْر فِيهِ دفاء أَي انحناء وروى مُسلم عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الدَّجَّال أَعور عين الْيُسْرَى جفال الشّعْر مَعَه جنَّة ونار فناره جنَّة وجنته نَار " وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر قَالَ " ذكر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمًا بَين ظهراني النَّاس الْمَسِيح الدَّجَّال فَقَالَ إِن الله لَيْسَ بأعور إِلَّا أَن الْمَسِيح الدَّجَّال أَعور الْعين الْيُمْنَى كَأَنَّهُ عينه عنبة طافية " رَوَاهُ مُسلم وَقَالَ مُسلم بَاب فِي أَمر ابْن صياد وتبريه من أَن يكون الدَّجَّال حَدثنِي عبيد الله بن عمر القواريري وَمُحَمّد بن الْمثنى قَالَ حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا دَاوُد عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ صَحِبت ابْن صائد إِلَى مَكَّة فَقَالَ لي مَا لقِيت من النَّاس يَزْعمُونَ أَنِّي الدَّجَّال أَلَسْت سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول أَنه لَا يُولد لَهُ قَالَ فَقلت بلَى قَالَ فقد ولد لي أَو لَيْسَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لَا يدْخل الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة قلت بلَى قَالَ فَلَقَد ولدت بِالْمَدِينَةِ وَهَا أَنا أُرِيد مَكَّة قَالَ ثمَّ قَالَ فِي آخر قَوْله أما وَالله إِنِّي لأعْلم مولده ومكانه وَأَيْنَ هُوَ فليسني وَفِي لَفْظَة لَهُ قَالَ فَمَا زَالَ حَتَّى كَاد أَن يَأْخُذ فِي قَوْله قَالَ فَقَالَ أما وَالله إِنِّي لأعْلم الْآن حَيْثُ هُوَ وَأعرف أَبَاهُ وَأمه قَالَ وَقيل لَهُ أَيَسُرُّك أَنَّك ذَاك الرجل لَو عرض على مَا كرهت وَفِي لفظ لَهُ ثمَّ قَالَ أَنا وَالله إِنِّي لأعرفه وَأعرف مولده وَأَيْنَ هُوَ الْآن قَالَ قلت تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَأما احتجاجه بِأَنَّهُ مُسلم والدجال كَافِر وَبِأَنَّهُ لَا يُولد للدجال وَقد ولد لَهُ وَأَن الدَّجَّال لَا يدْخل الْحَرَمَيْنِ وَقد دخلهما هُوَ فَغير وَاضح وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن جرير وَغَيره ذَكرُوهُ فِي جملَة الصَّحَابَة لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أخبر عَن صِفَات الدَّجَّال وَقت فتنته وَخُرُوجه الثَّانِي مِمَّا يستنبط مِنْهُ وَمن غَيره من الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب هُوَ أَن ابْن صياد إِذا كَانَ هُوَ الدَّجَّال كَيفَ كَانَ حَاله حَتَّى بَقِي إِلَى وَقت خُرُوجه فِي آخر الزَّمَان قَالَ صَاحب زهرَة الرياض رَأَيْت فِي أمالي القَاضِي الإِمَام أبي بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْفضل الورنجري بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " بَينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي صَلَاة الْغَدَاة فَلَمَّا سلم اسْتقْبل أَصْحَابه بِوَجْهِهِ يُحَدِّثهُمْ إِذْ أَقبلت صَيْحَة شَدِيدَة بِنَاحِيَة الْيَهُود مَا سمعنَا صَيْحَة أَشد مِنْهَا فَأرْسل رجلا ليَأْتِينَا بالْخبر قَالَ فَمَا مكث حَتَّى رَجَعَ وَقد تغير لَونه فَقَالَ يَا رَسُول الله أما علمت أَن البارحة ولد ولد فِي الْيَهُود وَأَنه غضب وتزبد حَتَّى امْتَلَأَ الْبَيْت مِنْهُ وَقد ضم أمه مَعَ سريرها إِلَى زَاوِيَة(8/172)
الْبَيْت وَرفع السّقف عَن حيطانها وهم يخافونه فَاسْتَرْجع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ أَخَاف أَنه دجال فَلَمَّا مَضَت سَبْعَة أَيَّام قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَصْحَابه أَلا تمضون بِنَا إِلَى هَذَا الْمَوْلُود فَإِذا الدَّجَّال على رَأس نَخْلَة يلتقط رطبا ويأكله وَله همهمة شَدِيدَة وَأمه جالسة فِي آصال النَّخْلَة فَلَمَّا رَأَتْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نادته يَا ابْن الصَّائِد هَذَا مُحَمَّد قد أقبل قَالَ فَسكت وَترك الهمهمة قَالَ فَرجع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنزل الدَّجَّال من النَّخْلَة وَاتبع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأَصْحَابه اسمعوا إِلَى مقَالَته وَأَنا أسأله ثمَّ قَالَ أَتَشهد أَنِّي نَبِي وَقَالَ لَهُ الدَّجَّال أَتَشهد أَنِّي نَبِي ثمَّ رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ أَصْحَابه قَالَ فَقَامَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَضرب السَّيْف على هامته فنبأ السَّيْف كَأَنَّهُ قد ضرب على حجر ثمَّ رَجَعَ السَّيْف فشج رَأس عمر قَالَ فَوَقع عمر صَرِيعًا جريحا يسيل الدَّم من رَأسه قَالَ وَقَامَ الدَّجَّال على رَأسه يسخر بِهِ ويستهزيء بِهِ حَتَّى ورد الْخَبَر إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسرعا حَزينًا حَتَّى أَتَى إِلَى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ مَا الَّذِي دعَاك إِلَى هَذَا فَأخْبرهُ بِمَا جرى فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا عمر إِنَّك لن تَسْتَطِيع أَن ترد قَضَاء الله تَعَالَى قَالَ فَوضع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَده الْمُبَارَكَة على رَأس عمر فَدَعَا الله تَعَالَى فالتحم الْجرْح بِإِذن الله تَعَالَى وَقَالَ عمر يَا رَسُول الله وددت أَن يرفعهُ الله تَعَالَى فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتُحِبُّ ذَلِك يَا عمر قَالَ نعم قَالَ اللَّهُمَّ افْعَل فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قِطْعَة من الْغَمَام كشبه الترس فَنزل على رَأس الدَّجَّال وَهُوَ جَالس فِي وسط الْيَهُود فَأخذ بناصيته وجذبه عَن ظهر الأَرْض وَأمه وَأَبوهُ وَقَومه ينظرُونَ إِلَيْهِ ويبكون عَلَيْهِ فرفعه جِبْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَلْقَاهُ إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر إِلَى أَن قدم تَمِيم الدَّارِيّ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخْبرهُ بِخَبَرِهِ " وَأخرج مُسلم حَدِيثا طَويلا عَن فَاطِمَة بنت قيس أُخْت الضَّحَّاك بن قيس وَكَانَت من الْمُهَاجِرَات الأول وَفِيه " أَن تَمِيم الدَّارِيّ كَانَ رجلا نَصْرَانِيّا فَبَايع وَأسلم وحَدثني حَدِيثا وَافق الَّذِي كنت أحدثكُم عَن مسيح الدَّجَّال حَدثنِي أَنه ركب فِي سفينة بحريّة مَعَ ثَلَاثِينَ رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا فِي الْبَحْر ثمَّ أرموا إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر " الحَدِيث وَفِيه خبر الدَّجَّال ودابة الْجَسَّاسَة وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله تَعَالَى من ذهب إِلَى أَن ابْن صياد غير الدَّجَّال احْتج بِحَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي قصَّة الْجَسَّاسَة الثَّالِث فِي الأسئلة والأجوبة. السُّؤَال الأول كَيفَ سكت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّن يَدعِي النُّبُوَّة كَاذِبًا وَكَيف تَركه بِالْمَدِينَةِ يساكنه فِي دَاره ويجاوره فِيهَا وَأجِيب بِأَن هَذَا فتْنَة امتحن الله بهَا عباده الْمُؤمنِينَ وَقد امتحن قوم مُوسَى فِي زَمَانه بالعجل فَافْتتنَ بِهِ قوم وهلكوا وَنَجَا من هداه الله تَعَالَى وَعَصَمَهُ مِنْهُم وَقَالَ الْخطابِيّ وَالَّذِي عِنْدِي أَن هَذِه الْقِصَّة إِنَّمَا جرت مَعَه أَيَّام مهادنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيَهُود وحلفاءهم وَذَلِكَ أَنه بعد مقدمه الْمَدِينَة كتب بَينه وَبينهمْ كتابا صَالحهمْ فِيهِ على أَن لَا يهاجروا وَأَن يتْركُوا على أَمرهم وَكَانَ ابْن صياد مِنْهُم أَو دخيلا فِي جُمْلَتهمْ وَقيل لِأَنَّهُ كَانَ من أهل الذِّمَّة وَقيل لِأَنَّهُ كَانَ دون الْبلُوغ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ عِيَاض فَلم تجر عَلَيْهِ الْحُدُود. السُّؤَال الثَّانِي لم اشْتغل بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم حاور مَعَه المحاورات الْمَذْكُورَة وَأجِيب بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبلغهُ مَا يَدعِيهِ من الكهانة ويتعاطاه من الْكَلَام فِي الْغَيْب فامتحنه ليعلم حَقِيقَة حَاله وَيظْهر أمره الْبَاطِل للصحابة وَأَنه كَاهِن سَاحر يَأْتِيهِ الشَّيْطَان فيلقي على لِسَانه مَا تلقيه الشَّيَاطِين للكهنة. السُّؤَال الثَّالِث روى التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا من نَبِي إِلَّا وَقد أنذر أمته الْأَعْوَر الْكذَّاب أَلا أَنه أَعور وَإِن ربكُم لَيْسَ بأعور مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ ك ف ر " قَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح وَفِي رِوَايَة مُسلم " الدَّجَّال مَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ ك ف ر " أَي كَافِر وَفِي لفظ لَهُ " يَقْرَؤُهُ كل مُسلم " وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر " مَا من نَبِي إِلَّا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه " الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم وَقد ثَبت فِي أَحَادِيث الدَّجَّال أَنه يخرج بعد خُرُوج الْمهْدي وَأَن عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْتله إِلَى غير ذَلِك فَمَا وَجه إنذار الْأَنْبِيَاء أمتهم عَنهُ وَأجِيب بِأَن المُرَاد بِهِ تَحْقِيق خُرُوجه يَعْنِي لَا يَشكونَ فِي خُرُوجه فَإِنَّهُ يخرج لَا محَالة ونبهوا على فتنته فَإِن فتنته عَظِيمَة جدا تدهش الْعُقُول وتحير الْأَلْبَاب مَعَ سرعَة مروره فِي الأَرْض وَقلة مكثه (فَإِن قلت) لم خص نوحًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالذكر (قلت) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدم الْمَشَاهِير من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كَمَا قدمه فِي قَوْله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا}(8/173)
الرَّابِع من الْأَحْكَام فِيهِ وَفِي غَيره من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب حجَّة لمَذْهَب أهل الْحق فِي صِحَة وجوده وَأَنه شخص بِعَيْنِه ابتلى الله تَعَالَى عباده بِهِ وأقدره على أَشْيَاء من مقدورات الله تَعَالَى من إحْيَاء الْمَيِّت الَّذِي يقْتله ظُهُور زهرَة الدُّنْيَا وَالْخصب مَعَه وَاتِّبَاع كنوز الأَرْض لَهُ وَأمر السَّمَاء أَن تمطر فتمطر وَالْأَرْض أَن تنْبت فتنبت فَيَقَع كل ذَلِك بقدرة الله تَعَالَى ومشيئته ثمَّ يعجزه الله تَعَالَى بعد ذَلِك فَلَا يقدر على شَيْء من ذَلِك ثمَّ يقْتله عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وأبطل أمره الْخَوَارِج والجهمية وَبَعض الْمُعْتَزلَة وَزعم الجبائي وَمن وَافقه أَنه صحّح الْوُجُود لَكِن مَا مَعَه مُخَارق وخيالات لَا حَقِيقَة لَهَا ليفرق بَينه وَبَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يَدعِي النُّبُوَّة فَيحْتَاج إِلَى فَارق وَإِنَّمَا يَدعِي الألوهية وَهُوَ مكذب فِي ذَلِك لسمات الْحُدُوث فِيهِ وَنقص صورته وعورة وتكفيره الْمَكْتُوب بَين عَيْنَيْهِ ولهذه الدَّلَائِل وَغَيرهَا لَا يغتر بِهِ إِلَّا رعاع النَّاس لشدَّة الْحَاجة والفاقة وسد الرمق أَو خوفًا من أَذَاهُ وتقية الْخَامِس فِيهِ دَلِيل على صِحَة إِسْلَام الصَّبِي وَقد ذَكرْنَاهُ وَهُوَ مَقْصُود البُخَارِيّ من التَّبْوِيب السَّادِس فِيهِ دَلِيل على صلابة عمر وَقُوَّة دينه السَّابِع فِيهِ دلَالَة على التثبت فِي أَمر النَّهْي وَأَن لَا تستباح الدِّمَاء إِلَّا بِيَقِين -
5531 - وَقَالَ سالِمٌ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذلِكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ إلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابنُ صَيَّادٍ وهْوَ يَخْتِلُ أنْ يَسْمَعَ مِنِ ابنِ صَيَّادٍ شَئا قَبْلَ أنْ يَرَاهُ ابنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أوْ زَمْرَةٌ فَرَأتْ أُمُّ ابنِ صَيَّادٍ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فقالَتْ لأِبْنِ صَيَّادٍ يَا صافِ وَهْوَ اسْمُ ابْن صَيَّادٍ هاذَا مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَثَارَ ابنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ..
هَذَا من تَتِمَّة حَدِيث عبد الله بن عمر السَّابِق، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْجُمْهُور: سَالم سَمِعت ابْن عَمْرو كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ سَالم بن عبد الله: سَمِعت عبد الله بن عمر يَقُول: انْطلق بعد ذَلِك ... إِلَى آخِره نَحوه، وَحكى القَاضِي أَنه سقط فِي رِوَايَة ابْن ماهان: ابْن عمر، وَقَالَ: الصَّوَاب رِوَايَة الْمَجْهُول بالاتصال. قَوْله: (انْطلق بعد ذَلِك) أَي: بعد انطلاقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عمر فِي رَهْط قبل ابْن صياد، كَمَا مر فِي أول الحَدِيث. قَوْله: (أبي بن كَعْب) أَي: وَانْطَلق أبي بن كَعْب مَعَه إِلَى النّخل. قَوْله: (وَهُوَ يخْتل) الْوَاو: فِيهِ للْحَال، و: يخْتل، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الْخَاء الْمُعْجَمَة: أَي يخدع، وَمَعْنَاهُ: يستغفله ليسمع من كَلَامه شَيْئا ليعلم بِهِ حَاله أهوَ كَاهِن أَو سَاحر. قَوْله: (قبل أَن يرَاهُ ابْن صياد) ، أَي: قبل أَن يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن صياد ليسمع كَلَامه فِي خلوته وَيعلم هُوَ وَأَصْحَابه حَاله. قَوْله: (وَهُوَ مُضْطَجع) : الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فِي قطيفة) هِيَ: كسَاء لَهُ خمل، وَالْجمع قطائف، هَذَا هُوَ الْقيَاس، وَقَالَ ابْن جني: وَقد كسر على قطوف، وَفِي (الصِّحَاح) : الْجمع قطائف وقطف، مثل: صَحَائِف وصحف. وَقَالَ: كَأَنَّهُمَا جمع قطيف وصحيف. قَوْله: (رمزة) وَاخْتلف فِي ضَبطهَا، فَقَالَ ابْن قرقول: (رمزة أَو زمرة) كَذَا للْبُخَارِيّ. وَعند أبي ذَر: زمرة، بِتَقْدِيم الزَّاي، وَقَالَ البُخَارِيّ لَهُ فِيهَا: رمزة أَو زمرة، على الشَّك فِي تَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي أَو تَأْخِيرهَا، ولبعضهم: رمرمة أَو زمزمة، على الشَّك: هَل هُوَ براءين أَو زاءين؟ مَعَ زِيَادَة: مِيم، فيهمَا. وَمعنى هَذِه الْأَلْفَاظ كلهَا مُتَقَارِبَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الزمزمة، تَحْرِيك الشفتين بالْكلَام. وَقَالَ غَيره: هُوَ كَلَام العلوج، وَهُوَ صَوت من الخياشيم وَالْحلق لَا يَتَحَرَّك فِيهِ اللِّسَان والشفتان، والرمزة صَوت خَفِي بِكَلَام لَا يفهم، والزمرة بِتَقْدِيم الزَّاي صَوت من دَاخل الْفَم، وَقَالَ عِيَاض: جُمْهُور رُوَاة مُسلم بالمعجمتين، وَأَنه فِي بَعْضهَا برَاء: أَولا وزاي آخرا، وَحذف الْمِيم الثَّانِيَة، وَهُوَ صَوت خَفِي لَا يكَاد يفهم أَو لَا يفهم قَوْله: (وَهُوَ يَتَّقِي) : الْوَاو، فِيهِ للْحَال، أَي: يخفي نَفسه بجذوع النّخل حَتَّى لَا ترَاهُ أم ابْن صياد. قَوْله: (فثار ابْن صياد) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَفِي آخِره: رَاء أَي: قَامَ مسرعا، وَهَكَذَا هُوَ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَثَابَ) بباء مُوَحدَة، أَي: رَجَعَ عَن الْحَالة الَّتِي كَانَ فِيهَا. قَوْله: (لَو تركته) أَي: لَو تركت أم ابْن صياد ابْنه ابْن صياد: لبين ابْن صياد لكم باخْتلَاف كَلَامه مَا يهون عَلَيْكُم شَأْنه، وَفِي (التَّوْضِيح) ، لَو وقف عَلَيْهِ من يتفهم كَلَامه لبين من قَوْله ذَلِك الزمزمة، فَيعرف مَا يَدعِي(8/174)
من الْكَذِب، وَهُوَ أظهر من دَعْوَاهُ أَنه رَسُول الله، وَفِي مُسلم: وَفِي الحَدِيث عَن يَعْقُوب قَالَ: قَالَ أبي: يَعْنِي فِي قَوْله: لَو تركته بَين. قَالَ: لَو تركته أمه بَين أمره، وَيَعْقُوب هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد، أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه عَن صَالح عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله بن عمر. قَالَ: انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ رَهْط من أَصْحَابه وَفِيهِمْ عمر بن الْخطاب حَتَّى وجد ابْن صياد غُلَاما قد قَارب الْحلم يلْعَب مَعَ الغلمان عِنْد أَطَم بني مُعَاوِيَة. . الحَدِيث.
وَقَالَ شُعَيْبٌ فِي حَدِيثِهِ فَرَفَضَهُ رَمْرَمَةٌ أوْ زَمْزَمَةٌ
شُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، هَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب فِي: بَاب قَول الرجل للرجل: إخسأ. حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله أَن عبد الله بن عمر أخبرهُ: (أَن عمر بن الْخطاب انْطلق مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَهْط من أَصْحَابه قِبَل ابْن صياد. .) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وَابْن صياد مُضْطَجع على فرَاشه، فِي قطيفة لَهُ فِيهَا رمرمة أَو زمزمة. .) إِلَى آخِره، هَكَذَا رُوِيَ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ عُقَيْلٌ رَمْرَمَةٌ
عقيل، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف: هُوَ ابْن خَالِد الْأَيْلِي، رِوَايَة عقيل هَذِه وَصلهَا البُخَارِيّ فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب مَا يجوز من الاحتيال والحذر مَعَ من يخْشَى معرته. وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي عقيل، عَن ابْن شهَاب، عَن سَالم بن عبد الله، (عَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ: إنطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ أبي بن كَعْب قِبل ابْن صياد. .) الحَدِيث، وَفِيه: (وَابْن صياد فِي قطيفة لَهُ فِيهَا رمرمة. .) الحَدِيث. وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ إِسْحَاق الْكَلْبِيّ وَعقيل: رمرمة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَأبي الْوَقْت: ذكر إِسْحَاق الْكَلْبِيّ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ رَمْزَةٌ
معمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَرِوَايَته وَصلهَا البُخَارِيّ فِي كتاب الْجِهَاد أَيْضا فِي: بَاب كَيفَ يعرض الْإِسْلَام على الصَّبِي؟ حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا هِشَام أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنه أخبرهُ أَن عمر انْطلق فِي رَهْط من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل ابْن صياد) ، الحَدِيث. وَفِيه: (ابْن صياد مُضْطَجع على فرَاشه فِي قطيفة لَهُ فِيهَا رمزة. .) الحَدِيث، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْمِيم ثمَّ زَاي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
6531 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ وَهْوَ ابنُ زَيْدِ عنْ ثابتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَرِضَ فأتاهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُهُ فقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أسْلِمْ فَنَظَرَ إلَى أبِيهِ وهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أطِعْ أبَا القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأسْلَمَ فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ يَقُولُ الحَمْدُ لله الَّذِي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ.
(الحَدِيث 6531 طرفه فِي: 7565) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالَ لَهُ أسلم) : حَيْثُ عرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام على الْغُلَام الْيَهُودِيّ الَّذِي كَانَ يَخْدمه، وَرُوَاته كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن سُلَيْمَان بن حَرْب قَوْله: (كَانَ غُلَام يَهُودِيّ) قيل: كَانَ اسْمه: عبد القدوس، قَوْله: (يعودهُ) جملَة حَالية، أَي: يزوره. قَوْله: (فَقعدَ عِنْد رَأسه) ، ويروى: (فَقعدَ عِنْده) . قَوْله: (فَأسلم) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن سُلَيْمَان بن حَرْب (فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) . قَوْله: (أنقذه من النَّار) أَي: خلصه ونجاه من النَّار، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَأبي خَليفَة: (أنقذه بِي من النَّار) . فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي دُعَائِهِ إِلَيْهِ بِحَضْرَة أَبِيه؟ قلت: لِأَن الله تَعَالَى أَخذ عَلَيْهِ فرض التَّبْلِيغ لِعِبَادِهِ، وَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم.
وَفِيه: تَعْذِيب من لم يسلم إِذا عقل الْكفْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحَمد لله الَّذِي أنقذه من النَّار) . وَفِيه: جَوَاز عِيَادَة أهل الذِّمَّة، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الذِّمِّيّ جارا لَهُ، لِأَن فِيهِ إِظْهَار محَاسِن الْإِسْلَام وَزِيَادَة التآلف بهم لِيَرْغَبُوا فِي الْإِسْلَام. وَفِيه: جَوَاز(8/175)
اسْتِخْدَام الْكَافِر. وَفِيه: حسن الْعَهْد. وَفِيه: اسْتِخْدَام الصَّغِير. وَفِيه: عرض الْإِسْلَام على الصَّبِي، وَلَوْلَا صِحَّته مِنْهُ مَا عرضه عَلَيْهِ.
7531 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ الله سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ كُنْتُ أَنا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ أنَا مِنَ الوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ..
تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب، فَإِنَّهُ ذكره هُنَاكَ مُعَلّقا. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله. بتصغير العَبْد هُوَ عبيد الله بن أبي يزِيد اللَّيْثِيّ الْمَكِّيّ.
8531 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفى وإنْ كانَ لغَيَّةٍ منْ أجْلِ أنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ يَدَّعِي أبَوَاهُ الاسْلاَمَ أوْ أبُوهُ خاصَّةٍ وَإنْ كانَتْ امُّهُ عَلَى غَيْرِ الإسْلاَمِ إذَا اسْتَهَلَّ صارِخا صُلِّيَ عَليه وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ مِنْ أجْلِ أنَّهُ سِقْطٌ فإنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كانَ يحَدِّثُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فأبَوَاهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَوْلُود بَين الْأَبَوَيْنِ الْمُسلمين أَو أَحدهمَا مُسلم إِذا مَاتَ، وَقد اسْتهلّ صَارِخًا يصلى عَلَيْهِ، فَالصَّلَاة عَلَيْهِ تدل على أَنه مَحل عرض الْإِسْلَام عِنْد تعقله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ أَنه مُشْتَمل على شَيْئَيْنِ:
الأول: هُوَ قَول الزُّهْرِيّ، وَهُوَ قَوْله: قَالَ ابْن شهَاب: يُصلى على كل مَوْلُود ... إِلَى آخِره، وَهُوَ قَول جَمَاهِير الْفُقَهَاء إلاَّ قَتَادَة فَإِنَّهُ انْفَرد فَقَالَ: لَا يصلى عَلَيْهِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا اسْتهلّ الْمَوْلُود سمي وَغسل وَصلي عَلَيْهِ، وَكَذَا إِذا اسْتهلّ ثمَّ مَاتَ لحينه، والاستهلال أَن يكون مِنْهُ مَا يدل على حَيَاته فَإِن لم يستهل لَا يغسل وَلَا يَرث وَلَا يُورث وَلَا يُسمى. وَعند الطَّحَاوِيّ: إِن الْجَنِين الْمَيِّت يغسل، وَلم يحك خلافًا. وَعَن مُحَمَّد، فِي سقط استبان خلقه: يغسل ويكفن ويحنط وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا خرج أَكثر الْوَلَد وَهُوَ يَتَحَرَّك صلي عَلَيْهِ، وَإِن خرج أَقَله لم يصل عَلَيْهِ. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : إِذا اسْتهلّ السقط صلي عَلَيْهِ لحَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (إِذا اسْتهلّ السقط صلي عَلَيْهِ وَورث) . وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوف من رِوَايَة جَابر، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: كَانَ الْمَوْقُوف أصح. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على وجوب الصَّلَاة على السقط، وَعَن مَالك: لَا يصلى على الطِّفْل إلاَّ أَن يختلج ويتحرك، وَعَن ابْن عمر: أَنه يصلى عَلَيْهِ وَإِن لم يستهل، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْعَبدَرِي: إِن كَانَ لَهُ دون أَرْبَعَة أشهر لم يصل عَلَيْهِ بِلَا خلاف، يَعْنِي: بِالْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أشهر وَلم يَتَحَرَّك لم يصل عَلَيْهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَقَالَ أَحْمد وَدَاوُد: يصلى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: السقط الْوَلَد تضعه الْمَرْأَة مَيتا أَو لغير تَمام، فَأَما إِن خرج حَيا واستهل فَإِنَّهُ يصلى عَلَيْهِ بعد غسله بِلَا خلاف، وَصلى ابْن عمر على ابْن ابْنه ولد مَيتا، وَقَالَ الْحسن وَإِبْرَاهِيم وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي: لَا يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يستهل، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، وَحكى عَن سعيد بن جُبَير أَنه: لَا يصلى عَلَيْهِ مَا لم يبلغ. وَقَالَ ابْن حزم: ورويناه أَيْضا عَن سُوَيْد بن غَفلَة، وَعند الْمَالِكِيَّة: لَا يصلى عَلَيْهِ مَا لم يعلم حَيَاته بعد انْفِصَاله بالصراخ وَفِي العطاس وَالْحَرَكَة الْكَثِيرَة وَالرّضَاع الْيَسِير، قَولَانِ. أما الرَّضَاع المتحقق والحياة الْمَعْلُومَة بطول الْمكْث فكالصراخ، وَعَن اللَّيْث وَابْن وهب وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: أَن الْحَرَكَة وَالرّضَاع والعطاس استهلال، وَعَن بعض الْمَالِكِيَّة: أَن الْبَوْل وَالْحَدَث حَيَاة.
الثَّانِي: رِوَايَة ابْن شهَاب عَن أبي هُرَيْرَة مُنْقَطِعَة، لِأَن ابْن شهَاب لم يسمع من أبي هُرَيْرَة شَيْئا، وَلَا أدْركهُ. وَالْبُخَارِيّ لم يذكرهُ للاحتجاح، إِنَّمَا ذكر كَلَامه مُسْندًا لعلوه. وَقَالَ أَبُو عمر:(8/176)
رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من وُجُوه صِحَاح ثَابِتَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، فَمِمَّنْ رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة: الْأَعْرَج وَابْن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَسَعِيد بن أبي سعيد وَأَبُو سَلمَة وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَأَبُو صَالح، وَاخْتلف على ابْن شهَاب فِي رِوَايَة، فمعمر وَالزهْرِيّ قَالَا: عَنهُ عَن سعيد وَعَن أبي هُرَيْرَة، وَيُونُس وَابْن أبي ذِئْب قَالَا: عَنهُ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: عَنهُ عَن حميد، قَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: هَذِه الطّرق كلهَا صِحَاح عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ عَن مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج، وَرَوَاهُ عَن أبي الزِّنَاد أَيْضا عبد الله بن الْفضل الْهَاشِمِي شيخ مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعند ابْن شهَاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَرْفُوعا: (سُئِلَ عَن أَوْلَاد الْمُشْركين؟ فَقَالَ: الله أعلم مَا كَانُوا عاملين؟) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يصلى على كل مَوْلُود متوفى) ، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: (متوفى) ، صفة مَوْلُود. قَوْله: (لغية) ، بِكَسْر اللَّام والغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مُشْتَقّ من الغواية: وَهِي الضَّلَالَة كفرا وَغَيره، وَأَيْضًا يُقَال لولد الزِّنَا، ولد الغية، وَلغيره: ولد الرشدة، فَالْمُرَاد مِنْهُ، وَإِن كَانَ الْمَوْلُود لكافرة أَو زَانِيَة، يصلى عَلَيْهِ إِذا مَاتَ إِذا كَانَ أَبَوَاهُ مُسلمين، أَو أَبوهُ فَقَط. وَهُوَ معنى قَوْله: (من أجل أَنه ولد على فطْرَة الْإِسْلَام يَدعِي أَبَوَاهُ الْإِسْلَام أَو أَبوهُ خَاصَّة) ، يَعْنِي دون أمه. قَوْله: (يَدعِي) جملَة حَالية وَالْأَصْل: أَن مَذْهَب الزُّهْرِيّ أَنه يُصَلِّي على ولد الزِّنَا وَلَا يمْنَع ذَلِك من الصَّلَاة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَحْكُوم بِإِسْلَامِهِ تبعا لِأَبَوَيْهِ أَو لِأَبِيهِ، خَاصَّة إِذا كَانَت أمه غير مسلمة: قَوْله: (إِذا اسْتهلّ) أَي: إِذا صَاح عِنْد الْولادَة، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من الاستهلال وَهُوَ الصياح عِنْد الْولادَة. قَوْله: (صَارِخًا) حَال مُؤَكدَة من الضَّمِير الَّذِي فِي: اسْتهلّ. قَوْله: (سقط) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَفتحهَا: وَهُوَ الْجَنِين يسْقط قبل تَمَامه. قَوْله: (فَإِن أَبَا هُرَيْرَة) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، وَقد قُلْنَا: أَن هَذِه الرِّوَايَة مُنْقَطِعَة. قَوْله: (مَا من مَوْلُود) كلمة: من، زَائِدَة، ومولود، مُبْتَدأ و: يُولد، خَبره وَتَقْدِيره: مَا من مَوْلُود يُوجد على أَمر إلاَّ على الْفطْرَة، وَهِي فِي اللُّغَة: الْخلقَة، وَالْمرَاد بهَا هُنَا، مَا يُرَاد فِي الْآيَة الشَّرِيفَة: وَهِي الدّين لِأَنَّهُ قد اعتورها الْبَيَان من أول الْآيَة، وَهُوَ: {فأقم وَجهك للدّين} (الرّوم: 03) . وَمن آخرهَا وَهُوَ: {ذَلِك الدّين الْقيم} (الرّوم: 03) . وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: كلمة: من، الاستغراقية فِي سِيَاق النَّفْي الَّتِي تفِيد الْعُمُوم، كَقَوْلِك: مَا أحد خير مِنْك، وَالتَّقْدِير: مَا مَوْلُود يُوجد على أَمر من الْأُمُور إلاَّ على هَذَا الْأَمر، والفطرة تدل على نوع مِنْهَا، وَهُوَ الِابْتِدَاء والاختراع: كالجلسة والقعدة، وَالْمعْنَى بهَا هَهُنَا: تمكن النَّاس من الْهدى فِي أصل الجبلة والتهيىء لقبُول الدّين، فَلَو ترك عَلَيْهَا لاستمر على لُزُومهَا وَلم يفارقها إِلَى غَيرهَا، لِأَن هَذَا الدّين حسنه مَوْجُود فِي النُّفُوس، وَإِنَّمَا يعدل عَنهُ لآفة من الْآفَات البشرية، والتقليد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى} (الْبَقَرَة: 61، 571) . وَالْفَاء فِي: أَبَوَاهُ، إِمَّا للتعقيب وَهُوَ ظَاهر، وَإِمَّا للتسبب، أَي: إِذا تقرر ذَلِك فَمن تغير كَانَ بِسَبَب أويه، وَنَذْكُر مَا قَالُوا فِي معنى الْفطْرَة عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (فَأَبَوَاهُ يهوِّدانه أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ} مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يعلمَانِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ويصرفانه عَن الْفطْرَة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد يرغبانه فِي ذَلِك، أَو أَن كَونه تبعا لَهما فِي الدّين بولادته على فراشهما يُوجب أَن يكون حكمه حكمهمَا. وَقيل: معنى: يُهَوِّدَانِهِ، يحكم لَهُ بحكمهما فِي الدُّنْيَا، فَإِن سبقت لَهُ السَّعَادَة أسلم إِذا بلغ وإلاَّ مَاتَ على كفره، وَإِن مَاتَ قبل بُلُوغه فَالصَّحِيح أَنه من أهل الْجنَّة. وَقيل: لَا عِبْرَة بِالْإِيمَان الفطري فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، إِنَّمَا يعْتَبر الْإِيمَان الشَّرْعِيّ المكتسب بالإرادة وَالْفِعْل، وطفل الْيَهُودِيين. مَعَ وجود الْإِيمَان الفطري: مَحْكُوم بِكُفْرِهِ فِي الدُّنْيَا تبعا لوَالِديهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الضَّمِير فِي أَبَوَاهُ رَاجع إِلَى كل مَوْلُود، لِأَنَّهُ عَام، فَيَقْضِي تهويد كل المواليد أَو نَحوه، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لبَقَاء الْبَعْض على فطْرَة الْإِسْلَام. قلت: الْغَرَض من التَّرْكِيب أَن الضَّلَالَة لَيست من ذَات الْمَوْلُود، وَمُقْتَضى طبعه، بل أَيْنَمَا حصلت فَإِنَّمَا هِيَ بِسَبَب خَارج عَن ذَاته، قَوْله: (كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ قَوْله: (كَمَا) إِمَّا حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: (يُهَوِّدَانِهِ) ، مثلا فَالْمَعْنى: يهودان الْمَوْلُود بعد أَن خلق على الْفطْرَة شَبِيها بالبهيمة الَّتِي جدعت بعد أَن خلقت سليمَة، وَأما صفة مصدر مَحْذُوف أَي: يغيرانه تغيرا مثل تغييرهم الْبَهِيمَة السليمة، فالأفعال الثَّلَاثَة، أَعنِي: (يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه) ، تنازعت فِي، كَمَا على التَّقْدِيرَيْنِ. قَوْله: (تنْتج) ، ويروى على بِنَاء الْمَفْعُول، وَفِي (الْمغرب) : عَن اللَّيْث: وَقد نتج النَّاقة ينتجها نتجا: إِذا تولى نتاجها حَتَّى وضعت فَهُوَ ناتج، وَهُوَ للبهائم كالقابلة للنِّسَاء، وَالْأَصْل: نتجتها، وَلذَا(8/177)
يعدى إِلَى مفعولين، وَعَلِيهِ بَيت الحماسة:
(وهه نتحوك تَحت الْفِيل سقيا)
فَإِذا بني للْمَفْعُول الأول قيل: نتجت ولدا إِذا وَضعته. قَوْله: (جَمْعَاء) هِيَ الْبَهِيمَة الَّتِي لم يذهب من بدنهَا شَيْء سميت بهَا لِاجْتِمَاع سَلامَة أعضائها لَا جدع فِيهَا وَلَا كي. قَوْله: (وَهل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء) فِي مَوضِع الْحَال على التَّقْدِيرَيْنِ، أَي: بَهِيمَة سليمَة مقولاً فِي حَقّهَا هَذَا القَوْل، وَفِيه نوع من التَّأْكِيد، يَعْنِي: كل من نظر إِلَيْهَا قَالَ هَذَا القَوْل لظُهُور سلامتها، والجدعاء الْبَهِيمَة الَّتِي قطعت أذنها من جدع إِذا قطع الْأذن وَالْأنف، وَتَخْصِيص ذكر الْجمع إِيمَاء إِلَى أَن تصميمهم على الْكفْر إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب صممهم عَن الْحق، وَأَنه كَانَ خليقا فيهم. قَوْله: (ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة) ، الظَّاهِر: ثمَّ قَرَأَ فَعدل إِلَى القَوْل، وأتى بالمضارع على حِكَايَة الْحَال الْمَاضِيَة استحضارا لَهُ فِي ذهن السَّامع، كَأَنَّهُ يسمع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْآن قَوْله: (لَا تَبْدِيل) لَا يجوز أَن يكون إِخْبَارًا مَحْضا لحُصُول التبديل، بل يؤول بِأَن يُقَال: من شَأْنه أَن لَا يُبدل أَو يُقَال: إِن الْخَبَر بِمَعْنى النَّهْي.
ثمَّ نبين مَا قَالُوا فِي معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) . فَقَالَت: طَائِفَة: لَيْسَ معنى قَوْله: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) عَاما، وَمَعْنَاهُ أَن كل من ولد على الْفطْرَة وَكَانَ لَهُ أَبَوَانِ على غير الْإِسْلَام هوداه أَو نصراه. قَالُوا: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَن جَمِيع المولودين من بني آدم أَجْمَعِينَ يولدون على الْفطْرَة بَين الْأَبَوَيْنِ الْكَافرين، وَكَذَلِكَ من لم يُولد على الْفطْرَة وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين حكم لَهُ بحكمهما فِي صغره، وَإِن كَانَا يهوديين فَهُوَ يَهُودِيّ ويرثهما ويرثانه، وَكَذَلِكَ إِن كَانَا نَصْرَانِيين أَو مجوسيين، حَتَّى يعبر عَنهُ لِسَانه ويبلغ الْحِنْث، فَيكون لَهُ حكم نَفسه حِينَئِذٍ لَا حكم أَبَوَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْغُلَام الَّذِي قَتله الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طبعه الله يَوْم طبعه كَافِرًا) ، وَبِمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَليّ بن زيد عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد يرفعهُ: (أَلا إِن بني آدم خلقُوا طَبَقَات، فَمنهمْ من يُولد مُؤمنا وَيحيى مُؤمنا وَيَمُوت مُؤمنا. وَمِنْهُم من يُولد كَافِرًا وَيحيى كَافِرًا وَيَمُوت كَافِرًا، وَمِنْهُم من يُولد كَافِرًا وَيحيى كَافِرًا وَيَمُوت مُؤمنا) . قَالُوا: فَفِي هَذَا وَفِي غُلَام الْخضر مَا يدل على قَوْله: (كل مَوْلُود) لَيْسَ على الْعُمُوم، وَأورد عَلَيْهِم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ غير صَحِيح وَلَو صَحَّ مَا فِيهِ حجَّة لجَوَاز الْخُصُوص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ( {تدمر كل شَيْء} (الْأَحْقَاف: 52) . وَلم تدمر السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: {فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} (الْأَنْعَام: 44) . وَلم تفتح عَلَيْهِم أَبْوَاب الرَّحْمَة.
وَقَالَ آخَرُونَ: معنى الحَدِيث على الْعُمُوم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) ، وَلِحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) ، وَلِحَدِيث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (والولدان حوله أَوْلَاد النَّاس. .) فَهَذِهِ كلهَا تدل على أَن الْمَعْنى: الْجَمِيع يولدون على الْفطْرَة، وضعفوا حَدِيث سعيد بن مَنْصُور بِوَجْهَيْنِ: الأول: أَن فِي سَنَده ابْن جدعَان. وَالثَّانِي: أَنه لَا يُعَارض دَعْوَى الْعُمُوم، لِأَن الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة رَاجِعَة إِلَى علم الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قد يُولد الْوَلَد بَين مُؤمنين، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، يكون قد سبق فِي علمه تَعَالَى غير ذَلِك، وَكَذَا من ولد بَين كَافِرين، وَإِلَى هَذَا يرجع غُلَام خضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذِه الْفطْرَة، فَذكر أَبُو عبيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه: قبل أَن يُؤمر النَّاس بِالْجِهَادِ، قيل: فِيهِ نظر، لِأَن فِي حَدِيث الْأسود بن سريع أَنه بعد الْجِهَاد، رَوَاهُ عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا بَال قوم يبلغون فِي الْقَتْل إِلَى الذُّرِّيَّة، إِنَّه لَيْسَ من مَوْلُود إِلَّا وَهُوَ يُولد على الْفطْرَة فيعبر عَنهُ لِسَانه) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (مَا من مَوْلُود يُولد إلاَّ على فطْرَة الْإِسْلَام حَتَّى يعرب) ، وَذكره أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) وَقَالَ: هُوَ حَدِيث مَشْهُور ثَابت، وَفِيه نظر، لِأَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَيحيى بن معِين وَأَبا عبد الله بن مَنْدَه وَأَبا دَاوُد وَغَيرهم أَنْكَرُوا أَن يكون الْحسن سمع من الْأسود شَيْئا. وَقيل: روى عَن الْأَعْمَش عَن الْأسود وَهُوَ حَدِيث بَصرِي صَحِيح، وَقَالَ قوم: الْفطْرَة هُنَا الْخلقَة الَّتِي يخلق عَلَيْهَا الْمَوْلُود من الْمعرفَة بربه، لِأَن الْفطْرَة الْخلقَة من الفاطر الْخَالِق، وأنكروا أَن يكون الْمَوْلُود يفْطر على كفر أَو إِيمَان أَو معرفَة وإنكار، وَإِنَّمَا يُولد الْمَوْلُود على السَّلامَة فِي الْأَغْلَب خلقَة وطبعا، وبنية لَيْسَ فِيهَا إِيمَان وَلَا كفر وَلَا إِنْكَار، وَلَا معرفَة، ثمَّ يَعْتَقِدُونَ الْإِيمَان أَو غَيره إِذا ميزوا، وَاحْتَجُّوا بقوله فِي الحَدِيث: (كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة. .) الحَدِيث، فالأطفال فِي حِين الْولادَة كَالْبَهَائِمِ السليمة. فَلَمَّا بغوا استهوتهم الشَّيَاطِين فَكفر أَكْثَرهم إلاَّ من عصمه الله تَعَالَى، وَلَو فطروا على الْإِيمَان أَو الْفِكر فِي أول أَمرهم لما انتقلوا عَنهُ أبدا، فقد تجدهم يُؤمنُونَ ثمَّ يكفرون ثمَّ يُؤمنُونَ، ويستحيل أَن يكون الطِّفْل فِي حِين وِلَادَته يعقل شَيْئا، لِأَن الله أخرجهم فِي حَالَة(8/178)
لَا يفقهُونَ مَعهَا شَيْئا، فَمن لَا يعلم شَيْئا اسْتَحَالَ مِنْهُ كفر أَو إِيمَان أَو معرفَة أَو إِنْكَار. وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا القَوْل أصح مَا قيل فِي معنى الْفطْرَة هُنَا وَالله أعلم. وَقَالَ قوم: إِنَّمَا قَالَ: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) ، قيل أَن تنزل الْفَرَائِض، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُولد على الْفطْرَة ثمَّ مَاتَ أَبَوَاهُ قبل أَن يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ لما كَانَ يرثهما ويرثانه، فَلَمَّا نزلت الْفَرَائِض علم أَنه يُولد على دينهما. وَقَالَ قوم: الْفطْرَة هُنَا الْإِسْلَام، لِأَن السّلف أَجمعُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} (الرّوم: 03) . أَنَّهَا دين الْإِسْلَام. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: إِنِّي خلقت عبَادي حنفَاء على استقامة وسلامة) . والحنيف فِي كَلَام الْعَرَب: الْمُسْتَقيم السَّالِم. وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من الْفطْرَة) فَذكر قصّ الشَّارِب والاختتان، وَذَلِكَ من سنَن الْإِسْلَام، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو هُرَيْرَة وَالزهْرِيّ. وَقَالَ أَبُو عمر: ويستحيل أَن تكون الْفطْرَة الْمَذْكُورَة فِيهِ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ واعتقاد بِالْقَلْبِ وَعمل بالجوارح وَهَذَا مَعْدُوم فِي الطِّفْل وَقَالَ قوم معنى الْفطْرَة فِيهِ: الْبدَاءَة الَّتِي ابتدأهم عَلَيْهَا، أَي على مَا فطر الله تَعَالَى عَلَيْهِ خلقه من أَنه ابتدأهم للحياة وَالْمَوْت والسعادة والشقاوة، وَإِلَى مَا يصيرون إِلَيْهِ عِنْد الْبلُوغ من قبولهم من آبَائِهِم واعتقادهم. وَقَالَ قوم: معنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى قد فطرهم على الْإِنْكَار والمعرفة وعَلى الْكفْر وَالْإِيمَان، فَأخذ من ذُرِّيَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمِيثَاق حِين خلقهمْ فَقَالَ: أَلَسْت بربكم؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: بلَى، فَأَما أهل السَّعَادَة فَقَالُوا: بلَى على معرفَة لَهُ طَوْعًا من قُلُوبهم، وَأما أهل الشقاوة فَقَالُوا: بلَى كرها لَا طَوْعًا، وتصديق ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} (آل عمرَان: 38) . وَقَالَ الْمروزِي: سَمِعت ابْن رَاهَوَيْه يذهب إِلَى هَذَا، وَاحْتج ابْن رَاهَوَيْه أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة: (حِين مَاتَ صبي من الْأَنْصَار بَين أبوين مُسلمين، فَقَالَت عَائِشَة: طُوبَى لَهُ عُصْفُور من عصافير الْجنَّة فَرد عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَه يَا عَائِشَة؟ وَمَا يدْريك أَن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا؟ وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا؟) وَقَالَ أَبُو عمر: قَول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي هَذَا الْبَاب لَا يرضاه حذاق الْفُقَهَاء من أهل السّنة، وَإِنَّمَا هُوَ قَول الْمُجبرَة. وَقَالَ قوم: معنى الفظرة مَا أَخذه الله من الْمِيثَاق على الذُّرِّيَّة، وهم فِي أصلاب آبَائِهِم. وَقَالَ قوم: الْفطْرَة مَا يقلب الله تَعَالَى قُلُوب الْخلق إِلَيْهِ بِمَا يُرِيد ويشاء، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا القَوْل، وَإِن كَانَ صَحِيحا فِي الأَصْل، فَإِنَّهُ أَضْعَف الْأَقَاوِيل من جِهَة اللُّغَة فِي معنى الْفطْرَة، وَالله أعلم. .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قد تقدم فِي أَوله، وَالله أعلم.
08 - (بابٌ إذَا قَالَ المُشْرِكُ عِنْدَ المَوْتِ لاَ إلاهَ إلاَّ الله)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد مَوته كلمة: لَا إِلَه إلاَّ الله، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، لمَكَان التَّفْصِيل فِيهِ، وَهُوَ أَنه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من أهل الْكتاب أَو لَا يكون، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، فِي حَيَاته قبل مُعَاينَة الْمَوْت، أَو قَالَهَا عِنْد مَوته، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَنْفَعهُ ذَلِك عِنْد الْمَوْت لقَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا إيمَانهَا ... } (الْأَنْعَام: 851) . الآبة، وينفعه ذَلِك إِذا كَانَ فِي حَيَاته وَلم يكن من أهل الْكتاب حَتَّى يحكم بِإِسْلَامِهِ، بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلاه إلاَّ الله) الحَدِيث، وَإِن كَانَ من أهل الْكتاب فَلَا يَنْفَعهُ حَتَّى يتَلَفَّظ بكلمتي الشَّهَادَة. وَاشْترط أَيْضا أَن يتبرأ عَن كل دين سوى دين الْإِسْلَام، وَقيل: إِنَّمَا ترك الْجَواب لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ لِعَمِّهِ أبي طَالب: قل: لَا إلاه إلاَّ الله أشهد لَك بهَا. كَانَ مُحْتملا أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِهِ، لِأَن غَيره إِن قَالَ بهَا وَقد أَيقَن بالوفاة لَا يَنْفَعهُ ذَلِك.
0631 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثني أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عنْ أبِيهِ أنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طالِبٍ الوَفَاةُ جاءَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بنِ هِشَامٍ وعَبْدَ الله بنَ أبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ فَقال رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِبِي طالبٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إلاه إلاَّ الله كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله فَقَالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ الله بنُ أبِي أُمَيَّةَ يَا أبَا طَالِبٍ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(8/179)
يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ويَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ مَا كلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وأبَى أنْ يَقُولَ لَا إلاه إلاَّ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَا وَالله لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فأنْزَلَ الله تعَالى فيِهِ مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة فِيمَا إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد الْمَوْت: لَا إلاه إلاَّ الله، والْحَدِيث فِيمَا إِذا قيل للمشرك: قل: لَا إلاه إلاَّ الله.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا ابْن رَاهَوَيْه، وَإِمَّا ابْن مَنْصُور، وَلَا قدح فِي الْإِسْنَاد بِهَذَا اللّبْس لِأَن كلا مِنْهُمَا بِشَرْط البُخَارِيّ، وَفِيه نظر لَا يخفى. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، مَاتَ فِي فَم الصُّلْح، قَرْيَة على دجلة وَاسِط فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد وَمَات بهَا سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان أَبُو الْحَارِث، وَيُقَال أَبُو مُحَمَّد الْغِفَارِيّ، مَاتَ بعد الْأَرْبَعين وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: سعيد بن الْمسيب. السَّابِع: أَبوهُ الْمسيب، بِضَم الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة الْمَفْتُوحَة على الْمَشْهُور: ابْن حزن ضد السهل الْقرشِي المَخْزُومِي، وهما صحابيان هاجرا إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ الْمسيب مِمَّن بَايع تَحت شَجَرَة الرضْوَان، وَكَانَ رجلا تَاجِرًا، يرْوى لَهُ سَبْعَة أَحَادِيث، للْبُخَارِيّ مِنْهَا: ثَلَاثَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: الْمسيب بن حزن ابْن أبي وهب المَخْزُومِي لَهُ صُحْبَة، ويروي عَنهُ ابْنه، أسلم بعد خَيْبَر، وَقَالَ: حزن بن أبي وهب بن عَمْرو بن عَائِذ بن عمرَان ابْن مَخْزُوم المَخْزُومِي، لَهُ هِجْرَة، وَكَانَ أحد الْأَشْرَاف وَهُوَ من الطُّلَقَاء، وَقتل يَوْم الْيَمَامَة فِي ربيع الأول سنة عشر فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول: أَنه من أَفْرَاد الصَّحِيح، لِأَن الْمسيب لم يرو عَنهُ غير ابْنه سعيد. الثَّانِي: أَنه من مراسل الصَّحَابَة لِأَنَّهُ هُوَ وَأَبوهُ من مسلمة الْفَتْح، وَهُوَ على قَول أبي أَحْمد العسكري: بَايع تَحت الشَّجَرَة. وأيا مَا كَانَ، فَلم يشْهد أَمر أبي طَالب لِأَنَّهُ توفّي هُوَ وَخَدِيجَة فِي أَيَّام ثَلَاثَة، قَالَ صاعد فِي (كتاب النُّصُوص) : فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسَمِّي ذَلِك الْعَام عَام الْحزن، وَكَانَ ذَلِك وَقد أَتَى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع وَأَرْبَعُونَ سنة وَثَمَانِية أشهر وَأحد عشر يَوْمًا. وَقيل: مَاتَ فِي نصف شَوَّال من السّنة الْعَاشِرَة من النُّبُوَّة، وَقَالَ ابْن الجزار: قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَقيل: قبل الْهِجْرَة بِخمْس، وَقيل: بِأَرْبَع سِنِين، وَقيل: بعد الْإِسْرَاء. الثَّالِث: يكون مُرْسلا حَقِيقَة لَان ابْن حبَان ذكره فِي ثِقَات التَّابِعين، وَهُوَ قَول فِيهِ غرابة. وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن رَاهَوَيْه فَهُوَ مروزي سكن نيسابور، وَإِن كَانَ إِسْحَاق بن مَنْصُور فَهُوَ أَيْضا مروزي. وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: صَالح وَابْن شهَاب وَسَعِيد يروي بَعضهم عَن بعض. وَفِيه: رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب فِي موضِعين.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي سُورَة بَرَاءَة عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما حضرت أَبَا طَالب الْوَفَاة) ، يَعْنِي، حضرت علاماتها، وَذَلِكَ قبل النزع وإلاَّ لما نَفعه الْإِيمَان، وَيدل عَلَيْهِ محاورته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولكفار قُرَيْش، وَأَبُو طَالب اسْمه: عبد منَاف، قَالَه غير وَاحِد، وَقَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار أَن اسْمه كنيته، قَالَ: وَوجد بِخَط عَليّ الَّذِي لَا شكّ فِيهِ: وَكتب عَليّ بن أبي طَالب، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم المغربي الْوَزير اسْمه: عمرَان. قَوْله: (أَبَا جهل) ، كنيته أَبُو الحكم، كَذَا كناه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْمه: عَمْرو بن هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي، وَيُقَال لَهُ: ابْن الحنظلية، وَاسْمهَا أَسمَاء بنت سَلامَة بن مخرمَة، وَكَانَ أَحول مأبونا، وَكَانَ رَأسه أول رَأس حز فِي الْإِسْلَام، فِيمَا ذكره ابْن دُرَيْد فِي (وشاحه) . قَوْله: (وَعبد الله بن أبي أُميَّة) أمه عَاتِكَة عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، توفّي شَهِيدا بِالطَّائِف وَكَانَ شَدِيدا على الْمُسلمين معاديا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسلم قبل الْفَتْح هُوَ وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وَلَهُم عبد الله بن أبي أُميَّة بن وهب حَلِيف بني أَسد وَابْن أخيهم اسْتشْهد بِخَيْبَر، وَلَهُم عبد الله بن أُميَّة إثنان: أَحدهمَا بَدْرِي. قَوْله: (أَي: عَم) أَي: يَا عمي. قَوْله: (كلمة) ،(8/180)
نصب إِمَّا على الْبَدَلِيَّة أَو على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (أشهد لَك) أَي: لخيرك. وَفِي لفظ: (أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله تَعَالَى) . قَوْله: (أترغب؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار، أَي: أتعرض؟ قَوْله: (يعرضهَا) بِكَسْر الرَّاء، قَوْله: (ويعودان بِتِلْكَ الْمقَالة) . قَالَ عِيَاض وَفِي نُسْخَة ويعيدان يَعْنِي: أَبَا جهل وَعبد الله. وَقَالَ عِيَاض أَيْضا فِي جَمِيع الْأُصُول. وَيعود لَهُ بِتِلْكَ الْمقَالة، يَعْنِي: أَبَا طَالب. وَوَقع فِي مُسلم: (لَوْلَا تعيرني قُرَيْش يَقُولُونَ: إِنَّمَا حمله على ذَلِك الْجزع) ، بِالْجِيم وَالزَّاي، وَهُوَ الْخَوْف، وَذهب الْهَرَوِيّ والخطابي فِيمَا رَوَاهُ عَن ثَعْلَب فِي آخَرين أَنه: بخاء مُعْجمَة وزاي مفتوحتين، وَنَبَّهنَا غير وَاحِد أَنه الصَّوَاب، وَمَعْنَاهُ: الضعْف والخور. قَوْله: آخر مَا كَلمه) أَي: فِي آخر تكليمه إيَّاهُم. قَوْله: (هُوَ) إِمَّا عبارَة أبي طَالب، وإراد بِهِ نَفسه، وَإِمَّا عبارَة الرَّاوِي، وَلم يحك كَلَامه بِعَيْنِه لقبحه، وَهُوَ من التَّصَرُّفَات الْحَسَنَة. قَوْله: (أما) ، حرف تَنْبِيه، وَقيل: بِمَعْنى حَقًا، قَوْله: (مَا لم أُنْهَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (عَنْك) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مَا لم أَنه عَنهُ) . أَي: عَن الاسْتِغْفَار الَّذِي دلّ عَلَيْهِ قَوْله: (لأَسْتَغْفِرَن) ، قَوْله: فَأنْزل الله فِيهِ: {مَا كَانَ للنَّبِي. .} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة أَي: فَأنْزل الله فِي الاسْتِغْفَار قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، أَي: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ وَلَا لَهُم الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ أهل الْمعَانِي: مَا تَأتي فِي الْقُرْآن على وَجْهَيْن بمعني النَّفْي كَقَوْلِه: {مَا كَانَ لكم أَن تنبتوا شَجَرهَا} (النَّحْل: 06) . {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إلاَّ بِإِذن الله} (آل عمرَان: 541) . وَالْآخر بِمَعْنى النَّهْي. كَقَوْلِه: {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله} (الْأَحْزَاب: 35) . وَهِي فِي حَدِيث أبي طَالب نهي، وَتَأَول بَعضهم الاسْتِغْفَار هُنَا بِمَعْنى الصَّلَاة. وَقَالَ الواحدي: سَمِعت أَبَا عُثْمَان الْحِيرِي سَمِعت أَبَا الْحسن بن مقسم سَمِعت أَبَا إِسْحَاق الزّجاج يَقُول فِي هَذِه الْآيَة: أجمع الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نزلت فِي أبي طَالب، وَفِي (مَعَاني الزّجاج) : يرْوى أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عرض على أبي طَالب الْإِسْلَام عِنْد وَفَاته، وَذكر لَهُ وجوب حَقه عَلَيْهِ فَأبى أَبُو طَالب فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأَسْتَغْفِرَن لَك حَتَّى أُنهى عَن ذَلِك، ويروى أَنه اسْتغْفر لأمه. وَرُوِيَ أَنه اسْتغْفر لِأَبِيهِ، وَأَن الْمُؤمنِينَ ذكرُوا محَاسِن آبَائِهِم فِي الْجَاهِلِيَّة وسألوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِآبَائِهِمْ لما كَانَ من محَاسِن كَانَت لَهُم، فَأعْلم اا تَعَالَى أَن ذَلِك لَا يجوز، فَقَالَ: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا. .} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، وَذكر الواحدي من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة، قَالَ: (أخبرنَا مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: بَلغنِي أَنه لما اشْتَكَى أَبُو طَالب شكواه الَّتِي قبض فِيهَا، قَالَت لَهُ قُرَيْش: أرسل إِلَى ابْن أَخِيك يُرْسل إِلَيْك من هَذِه الْجنَّة الَّتِي ذكرهَا يكون لَك شِفَاء، فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله حرمهَا على الْكَافرين: طعامها وشرابها، ثمَّ أَتَاهُ فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، فَقَالَ: لَوْلَا أَن نعير بهَا فَيُقَال: جزع عمك من الْمَوْت لأقررت بهَا عَيْنك) واستغفر لَهُ بَعْدَمَا مَاتَ، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: مَا يمنعنا أَن نَسْتَغْفِر لآبائنا ولذوي قرابتنا، قد اسْتغْفر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَبِيهِ، وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ، فاستغفروا للْمُشْرِكين حَتَّى نزلت {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، وَمن حَدِيث ابْن وهب: حَدثنَا ابْن جريج عَن أَيُّوب بن هانىء عَن مَسْرُوق (عَن عبد الله: خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينظر فِي الْمَقَابِر وَنحن مَعَه، فتخطى الْقُبُور حَتَّى انْتهى إِلَى قبر مِنْهَا، فناجاه طَويلا، وَفِيه: (فجَاء وَله نحيب، فَسئلَ، فَقَالَ: هَذَا قبر أبي) . وَفِيه: (وَإِنِّي اسْتَأْذَنت بعد رَبِّي فِي زِيَارَة أُمِّي فَأذن، واستأذنته فِي الاسْتِغْفَار لَهَا فَلم يَأْذَن لي) ، وَفِيه: وَنزل على {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، فأخذني مَا يَأْخُذ الْوَالِد لوَلَده من الرقة، فَذَلِك الَّذِي أبكاني) . وَفِي كتاب (مقامات التَّنْزِيل) لأبي الْعَبَّاس الضَّرِير: لما أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تَبُوك الْوُسْطَى، وَاعْتمر، فَلَمَّا هَبَط من عسفان أَمر أَصْحَابه أَن يستندوا إِلَى الْعقبَة حَتَّى أرجع، فَنزل على قبر أمه ثمَّ بَكَى، فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَ عَن بكائهم، فَقَالُوا: بكينا لبكائك، قَالَ: نزلت على قبر أُمِّي فدعوت الله ليأذن لي فِي شَفَاعَتهَا يَوْم الْقِيَامَة فَأبى أَن يَأْذَن لي، فرحمتها فَبَكَيْت، ثمَّ جَاءَنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ} (التَّوْبَة: 411) . الْآيَة وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه: عَن عِكْرِمَة، وَفِي آخِره: كَانَت مدفونة تَحت كَذَا، وَكَانَت عسفان لَهُم وَبهَا ولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الضَّرِير: وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قد اسْتغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ، وَهُوَ مُشْرك لأَسْتَغْفِرَن لأمي. فَأتى قبرها ليَسْتَغْفِر لَهَا فَدفعهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْقَبْر. وَقَالَ: {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة. وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ بعسفان، وَقَالَ اسْتَأْذَنت فِي الاسْتِغْفَار لآمنة، فنهيت فَبَكَيْت ثمَّ عدت فَصليت رَكْعَتَيْنِ، واستأذنت فِي الاسْتِغْفَار لَهَا فزجرت، ثمَّ دَعَا نَاقَته فَمَا استطاعته الْقيام لنقل الْوَحْي، فَأنْزل الله {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة،(8/181)
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث سعيد عَن أَبِيه الْمسيب: قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي عَم، إِنَّك أعظم النَّاس عَليّ حَقًا، وَأَحْسَنهمْ عِنْدِي يدا ولأنت أعظم عِنْدِي حَقًا من وَالِدي، فَقل كلمة تجب لَك بهَا شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: نزلت: {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: 3111) . الْآيَة، وروى الْحَاكِم من حَدِيث أبي الْجَلِيل عَن عَليّ، قَالَ: سَمِعت رجلا يسْتَغْفر لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ، فَقلت: تستغفر لِأَبَوَيْك وهما مُشْرِكَانِ؟ قَالَ: أَو لم يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَبِيهِ، فَذَكرته لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزلت {مَا كَانَ للنَّبِي} (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَلما ذكر السُّهيْلي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 311) . قَالَ قد اسْتغْفر سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد، فقاال: أللهم إغفر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ، وَلَا يَصح أَن تكون الْآيَة الَّتِي نزلت فِي عَمه ناسخة لاستغفاره يَوْم أحد، لِأَن عَمه توفّي قبل ذَلِك، وَلَا ينْسَخ الْمُتَقَدّم الْمُتَأَخر، وَيُجَاب بِأَن استغفاره لِقَوْمِهِ مَشْرُوط بتوبتهم من الشّرك، كَأَنَّهُ أَرَادَ الدُّعَاء لَهُم بِالتَّوْبَةِ، وَجَاء فِي بعض الرِّوَايَات: أللهم إهذ قومِي، وَقيل: أَرَادَ مغْفرَة تصرف عَنْهُم عُقُوبَة الدُّنْيَا من المسخ وَشبهه، وَقيل: تكون الْآيَة تَأَخّر نُزُولهَا مُتَقَدما ونزولها مُتَأَخّر، لَا سِيمَا وَبَرَاءَة من آخر مَا نزل، فَتكون على هَذَا ناسخة للاستغفار، وَقَالَ ابْن بطال مَا محصله: أَي مُحَاجَّة يحْتَاج إِلَيْهَا من وافى ربه بِمَا يدْخلهُ الْجنَّة، أُجِيب: بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظن أَن عَمه اعْتقد أَن من آمن فِي مثل حَاله لَا يَنْفَعهُ إيمَانه إِذا لم يقارنه عمل سواهُ من صَلَاة أَو صِيَام وَحج وشرائط الْإِسْلَام كلهَا، فَأعلمهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله، عِنْد مَوته أَنه يدْخل فِي جملَة الْمُؤمنِينَ، وَإِن تعرى من عمل سواهَا. قلت: فِي قَوْله: وَحج، نظر لِأَنَّهُ لم يكن مَفْرُوضًا بِالْإِجْمَاع يَوْمئِذٍ. وَقيل: أَن يكون أَبُو طَالب قد عاين أَمر الْآخِرَة وأيقن بِالْمَوْتِ وَصَارَ فِي حَالَة من لَا ينْتَفع بِالْإِيمَان لَو آمن، فَرحا لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله، وأيقن بنبوته أَن يشفع لَهُ بذلك، ويحاج لَهُ عِنْد الله تَعَالَى فِي أَن يتَجَاوَز عَنهُ وَيقبل مِنْهُ إيمَانه فِي تِلْكَ الْحَال، وَيكون ذَلِك خَاصّا بِأبي طَالب وَحده لمكانته من حمايته ومدافعته عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: كَانَ أَبُو طَالب مِمَّن عاين براهين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصدق بمعجزاته وَلم يشك فِي صِحَة نبوته، فرجا لَهُ المحاجة بِكَلِمَة الْإِخْلَاص حَتَّى يسْقط عَنهُ إِثْم العناد والتكذيب، لما قد تبين حَقِيقَته لَكِن آنسه، بقوله: (أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله) لِئَلَّا يتَرَدَّد فِي الْإِيمَان وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ لتماديه على خلاف مَا تبين حَقِيقَته، وَقيل: (أُحَاج لَك بهَا) ، كَقَوْلِه (أشهد لَك بهَا عِنْد الله) لِأَن الشَّهَادَة للمرء حجَّة لَهُ فِي طلب حَقه، وَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ هُنَا الشَّهَادَة لِأَنَّهُ أقرب التَّأْوِيل فِي قصَّة أبي طَالب فِي كتاب الْبَعْث، لاحتمالها التَّأْوِيل. وَوَقع عِنْد إِبْنِ إِسْحَاق: أَن الْعَبَّاس قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا ابْن أخي، إِن الْكَلِمَة الَّتِي عرضتها على عمك سمعته يَقُولهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم أسمع. قَالَ السُّهيْلي: لِأَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك فِي حَال كَونه على غير الْإِسْلَام، وَلَو أَدَّاهَا بعد الْإِسْلَام لقبلت مِنْهُ، كَمَا قبل من جُبَير بن مطعم حَدِيثه الَّذِي سَمعه فِي حَال كفره وَأَدَّاهُ فِي الْإِسْلَام.
18 - (بابُ الجَرِيدِ عَلَى القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وضع الجريد على قبر الْمَيِّت، والجريد الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص.
وَأوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة: ابْن الْحصيب، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الله الْأَسْلَمِيّ، مَاتَ بمرو سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقد تقدم فِي: بَاب من ترك الْعَصْر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد من طَرِيق مُورق الْعجلِيّ قَالَ: أوصى بُرَيْدَة أَن يوضع فِي قَبره جريدان. وَقَوله: (فِي قَبره) رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على قَبره) ، وَالْحكمَة فِي ذَلِك، على رِوَايَة الْأَكْثَرين، التفاؤل ببركة النَّخْلَة. لقَوْله تَعَالَى: {كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 42) . وعَلى رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَضعه الجريدتين على الْقَبْر، وَسَنذكر الْحِكْمَة فِيهِ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(8/182)
وَرَأى ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فُسْطَاطا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمانِ فَقَالَ انْزَعْهُ يَا غُلاَمُ فَإنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ
وَجه إِدْخَال أثر ابْن عمر فِي هَذِه التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ يرى أَن وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجريدتين على القبرين خَاص بهما، وَأَن بُرَيْدَة حمله على الْعُمُوم، فَلذَلِك عقب أثر بُرَيْدَة بأثر عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بنيه ابْن سعد فِي رِوَايَته لَهُ مَوْصُولا من طَرِيق أَيُّوب بن عبد الله بن يسَار. قَالَ: مر عبد الله بن عمر على قبر عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أخي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَلِيهِ فسطاط مَضْرُوب، فَقَالَ: يَا غُلَام إنزعه فَإِنَّمَا يظله عَمه. قَالَ الْغُلَام: تضربني مولاتي. قَالَ: كلا فَنَزَعَهُ. قَوْله: (انزعه) أَي: إقلعه، وَكَانَ الْغُلَام الَّذِي خاطبه عبد الله غُلَام عَائِشَة أُخْت عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فَإِنَّمَا يظله) أَي: لَا يظله الْفسْطَاط، بل يظله الْعَمَل الصَّالح فَدلَّ هَذَا على أَن نصب الْخيام على الْقَبْر مَكْرُوه، وَلَا ينفع الْمَيِّت ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ إلاَّ عمله الصَّالح الَّذِي قدمه، وَتَفْسِير الْفسْطَاط قد مر مُسْتَوفى فِي: بَاب مَا يكره من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد على الْقُبُور.
وقالَ خارِجَةُ بنُ زَيْدٍ ورَأيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَإنْ أشَدَّنا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ
قيل: لَا مُنَاسبَة فِي إِدْخَال قَول خَارِجَة فِي هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا مَوْضِعه فِي: بَاب موعظة الْمُحدث عِنْد الْقَبْر وقعود أَصْحَابه حوله، وَكَانَ بعض الروَاة كتبه فِي غير مَوْضِعه، وَقد تكلّف طَرِيق إِلَى كَونه من هَذَا الْبَاب، وَهِي الْإِشَارَة إِلَى أَن ضرب الْفسْطَاط إِن كَانَ لغَرَض صَحِيح كالتستر من الشَّمْس مثلا للإحياء لَا لإظلال الْمَيِّت فَقَط، جَازَ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا كَانَ على الْقَبْر لغَرَض صَحِيح لَا لقصد المباهاة جَازَ، كَمَا يجوز الْقعُود عَلَيْهِ لغَرَض صَحِيح لَا لمن أحدث عَلَيْهِ، وخارجة بن زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، أحد التَّابِعين الثِّقَات وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وصل هَذَا التَّعْلِيق البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الصَّغِير) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ، سَمِعت خَارِجَة فَذكره. قَوْله: (رَأَيْتنِي) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب، وَالتَّقْدِير: رَأَيْت نَفسِي، وَالْوَاو فِي: (وَنحن شُبَّان) للْحَال، و: شُبَّان، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: شَاب. قَوْله: (وثبة) مصدر من: وثب يثب وثبا ووثبة، ومظعون، بِظَاء مُعْجمَة سَاكِنة وَعين مُهْملَة.
وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حَكِيمٍ أخَذَ بِيَدِي خارِجَةُ فأجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأخْبَرَني عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بنِ ثابِتٍ قَالَ إنَّمَا كُرِهَ ذالِكَ لِمَنْ أحْدَثَ عليهِ
الْكَلَام فِي ذكر مُنَاسبَة هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي قبله، وَعُثْمَان بن حَكِيم بن عباد بن حنيف الْأنْصَارِيّ الأوسي الأحملاني أَبُو سهل الْمدنِي، ثمَّ الْكُوفِي، أَخُو حَكِيم بن حَكِيم. وَعَن أَحْمد: ثِقَة ثَبت وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسَدّد فِي (مُسْنده) الْكَبِير وبيَّن فِيهِ سَبَب إِخْبَار خَارِجَة لحكيم بذلك، وَلَفظه: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا عُثْمَان بن حَكِيم حَدثنَا عبد الله بن سرجس وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن إنَّهُمَا (سمعا أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لِأَن أَجْلِس على جَمْرَة فتحرق مَا دون لحمي حَتَّى تُفْضِي إِلَى، أحب من أَن أَجْلِس على قَبره. قَالَ عُثْمَان: فَرَأَيْت خَارِجَة بن زيد فِي الْمَقَابِر، فَذكرت لَهُ ذَلِك فَأخذ بيَدي) الحَدِيث، وَقد أخرج مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، فَقَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِأَن يجلس أحدكُم على جَمْرَة فتحرق ثِيَابه فتخلص إِلَى جلده خير لَهُ من أَن يجلس على قبر) . وَقَالَ بَعضهم: وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن كَعْب، قَالَ: إِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: من جلس على قبر ليبول عَلَيْهِ، أَو يتغوط، فَكَأَنَّمَا جلس على جَمْرَة، لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف. قلت: سبخان الله مَا لهَذَا الْقَائِل من التعصبات الْبَارِدَة، فالطحاوي أخرج هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيقين، أَحدهمَا هَذَا الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل أخرجه عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى شيخ مُسلم عَن عبد الله بن وهب(8/183)
عَن مُحَمَّد بن أبي حميد عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر أخرجه عَن ابْن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن مُحَمَّد بن أبي حميد ... إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه عبد الله بن وهب وَالطَّيَالِسِي فِي مسنديهما، وَلم يذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث إِلَّا تَقْوِيَة لحَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه عَن سُلَيْمَان بن شُعَيْب عَن الْحصيب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي أُمَامَة أَن زيد بن ثَابت، قَالَ: هَلُمَّ يَا ابْن أخي أخْبرك إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجُلُوس على الْقُبُور لحَدث غَائِط أَو بَوْل، وَرِجَاله ثِقَات، وَعَمْرو بن عَليّ هُوَ الفلاس شيخ الْجَمَاعَة، فَهَذَا الْقَائِل: هلا مَا أورد هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح، وَأورد الحَدِيث الَّذِي هُوَ مُحَمَّد بن أبي حميد الْمُتَكَلّم فِيهِ، مَعَ أَنه ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا اسْتِشْهَادًا وتقوية، وَلَكِن إِنَّمَا ذكره هَذَا الْقَائِل حَتَّى يفهم أَن الطَّحَاوِيّ الَّذِي ينصر مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يروي فِي هَذَا الْبَاب الْأَحَادِيث الضعيفة، وَمن شدَّة تعصبه ذكر الحَدِيث فنسبه إِلَى أبي هُرَيْرَة، ولِمَ لَم يذكر فِيهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأبرزه فِي صُورَة الْمَوْقُوف، والْحَدِيث مَرْفُوع، وَتَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: بَاب الْجُلُوس على الْقُبُور: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان، قَالَ: حَدثنَا صَدَقَة بن خَالِد عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر عَن بسر بن عبيد الله عَن أبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عَن أبي مرْثَد الغنوي، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا تصلوا إِلَى الْقُبُور وَلَا تجلسوا إِلَيْهَا) . وَأخرج هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَاسم أبي مرْثَد: كناز بن الْحصين، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن جزم قَالَ: (رأني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبر فَقَالَ: إنزل عَن الْقَبْر فَلَا تؤذ صَاحب الْقَبْر وَلَا يُؤْذِيك) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث جَابر قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تجصيص الْقُبُور وَالْكِتَابَة عَلَيْهَا وَالْجُلُوس عَلَيْهَا وَالْبناء عَلَيْهَا) . وَأخرجه الْجَمَاعَة غير البُخَارِيّ. وَأخرج أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَة مُسلم عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذِه الْآثَار وقلدوها وكرهوا من أجلهَا الْجُلُوس على الْقُبُور، وَأَرَادَ بالقوم: الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير ومكحولاً وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبا سُلَيْمَان، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن عبد الله وَأبي بكرَة وَعقبَة بن عَامر وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِلَيْهِ ذهب الظَّاهِرِيَّة وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل لأحد أَن يجلس على قبر، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَجَمَاعَة من السّلف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: لم ينْه عَن ذَلِك لكَرَاهَة الْجُلُوس على الْقَبْر، وَلكنه أُرِيد بِهِ الْجُلُوس للغائط أَو الْبَوْل، وَذَلِكَ جَائِز فِي اللُّغَة، يُقَال: جلس فلَان للغائط وَجلسَ فلَان للبول، وَأَرَادَ بالآخرين: أَبَا حنيفَة ومالكا وَعبد الله بن وهب وَأَبا يُوسُف ومحمدا، وَقَالُوا: مَا رُوِيَ عَن النَّهْي مَحْمُول على مَا ذكرنَا، ويحكى ذَلِك عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ قَالَ: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: فَبين زيد فِي هَذَا الْجُلُوس الْمنْهِي عَنهُ فِي الأثار الأول مَا هُوَ ثمَّ رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا من طَرِيق ابْن يُونُس، وَطَرِيق ابْن أبي دَاوُد، وَقد ذكرناهما الْآن، ثمَّ قَالَ: فَثَبت بذلك أَن الْجُلُوس الْمنْهِي عَنهُ فِي الْآثَار الأول هُوَ هَذَا الْجُلُوس، يَعْنِي: للغائط وَالْبَوْل، فَأَما الْجُلُوس بِغَيْر ذَلِك فَلم يدْخل فِي ذَلِك النَّهْي، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، رَحِمهم الله تَعَالَى. قلت: فعلى هَذَا مَا ذكره أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ من أَن وطأ الْقُبُور حرَام، وَكَذَا النّوم عَلَيْهَا، لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. فَإِن الطَّحَاوِيّ هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْعلمَاء، وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة.
وَقَالَ نافعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْلِسُ عَلَى القُبُورِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي بكير عَن عَمْرو عَن بكير، أَن نَافِعًا حَدثهُ: أَن عبد الله بن عمر كَانَ يجلس على الْقُبُور. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ قَالَ: لِأَن أَطَأ على رضف أحب إليَّ من أَن أَطَأ على قبر؟ قلت: ثَبت من فعله أَنه كَانَ يجلس على الْقُبُور، وَيحمل قَوْله: (لِأَن أَطَأ، على معنى: لِأَن أَطَأ لأجل الحَدِيث، وَقَالَ بَعضهم، بعد أَن أورد مَا أخرجه الطَّحَاوِيّ من أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَلَا يُعَارض هَذَا مَا أخرجه(8/184)
ابْن أبي شيبَة، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهُوَ من الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا، وَورد فِيهَا من صَحِيح الحَدِيث مَا أخرجه مُسلم عَن أبي مرْثَد الغنوي مَرْفُوعا: (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا) قلت: لَيْت شعري كَيفَ يكون مَا ذكره من هَذَا جَوَابا لدفع الْمُعَارضَة وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ مَالك: المُرَاد بالقعود الْحَدث وَهُوَ تَأْوِيل ضَعِيف أَو بَاطِل قلت: شدَّة التعصب يحمل صَاحبه على أَكثر من هَذَا، وَكَيف يَقُول النَّوَوِيّ: إِن تَأْوِيل مَالك بَاطِل وَهُوَ أعلم من النَّوَوِيّ؟ وَمثله بموارد الْأَحَادِيث والْآثَار؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا، بعد نَقله عَن النَّوَوِيّ: وَهُوَ يُوهم بانفراد مَالك بذلك، وَكَذَا أَوْهَمهُ كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ، حَيْثُ قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء على الْكَرَاهَة خلافًا لمَالِك، وَصرح النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَن مَذْهَب أبي حنيفَة كالجمهور، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك لما نَقله عَنْهُم الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بأثر ابْن عمر الْمَذْكُور. وَأخرج عَن عَليّ نَحوه. قلت: الدَّعْوَى بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة غير مسلمة، لِأَن الْمُخَالف لَهُم: مَالك وَعبد الله بن وهب وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد والطَّحَاوِي، وَمن الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب، فَكيف يُقَال بِأَن الْجُمْهُور على الْكَرَاهَة وَنحن أَيْضا نقُول الْجُمْهُور على عدم الْكَرَاهَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُؤَيّد قَول الْجُمْهُور مَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث عمر بن حزم الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: (لَا تقعدوا على الْقُبُور) ، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: (رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا متكىء على قبر، فَقَالَ: لَا تؤذ صَاحب الْقَبْر) ، إِسْنَاده صَحِيح، وَهُوَ دَال على أَن المُرَاد بِالْجُلُوسِ الْقعُود على حَقِيقَته. قلت: المُرَاد من النَّهْي عَن الْقعُود على الْقُبُور، هُوَ النَّهْي عَن الْقعُود لأجل الْحَدث، حَتَّى ينْدَفع التَّعَارُض بَينه وَبَين مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَلَا يلْزم من النَّهْي عَن الْقعُود على الْقَبْر لأجل الْحَدث نفي حَقِيقَة الْقعُود.
1631 - حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا أبُو مُعَاوِيةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أمَّا أحدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ وَأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرِ وَاحِدَةً فقالُوا يَا رسولَ الله لِمَ صَنَعتَ هاذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ أنْ يخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَخذ جَرِيدَة. .) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله، أخرجه هُنَاكَ: عَن عُثْمَان عَن جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط من حيطان الْمَدِينَة أَو مَكَّة فَسمع صَوت إنسانين يعذبان فِي قبورهما) الحَدِيث، غير أَن هُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لِأَن مُجَاهدًا يروي عَن ابْن عَبَّاس وَعَن طَاوُوس أَيْضا، وَعكس الْكرْمَانِي فَقَالَ هَهُنَا: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهُنَاكَ: عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، وَهَذَا سَهْو مِنْهُ، وَشَيْخه هُنَاكَ يحيى، ذكره غير مَنْسُوب، فَقَالَ الغساني: قَالَ ابْن السكن: هُوَ يحيى بن مُوسَى، وَقَالَ الكلاباذي: سمع يحيى بن جَعْفَر أَبَا مُعَاوِيَة وَهُوَ مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي: الضَّرِير، وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) أَنه يحيى بن جَعْفَر، وَجزم أَبُو مَسْعُود فِي (الْأَطْرَاف) : والحافظ الْمزي أَيْضا بِأَنَّهُ يحيى بن يحيى، وَمضى الْكَلَام فِي الحَدِيث هُنَاكَ مَبْسُوطا مُسْتَوفى.
28 - (بابُ مَوْعِظَةِ المُحَدِّثِ عِنْدَ القَبْرِ وَقُعُودِ أصْحَابِهِ حَوْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الْمُحدث عِنْد الْقَبْر، وَالْمَوْعِظَة مصدر ميمي يُقَال: وعظ يُعْط وعظا وموعظة، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، تَقول: وعظته وعظا وعظة فاتعظ أَي: قبل الموعظة. قَوْله: (وقعود أَصْحَابه) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله:(8/185)
(موعظة الْمُحدث) ، أَي: وَفِي بَيَان قعُود أَصْحَاب الْمُحدث حول الْمُحدث، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الْجُلُوس مَعَ الْجَمَاعَة عِنْد الْقَبْر، إِن كَانَ لمصْلحَة تتَعَلَّق بالحي أَو الْمَيِّت لَا يكره ذَلِك، فَأَما مصلحَة الْحَيّ فَمثل أَن يجْتَمع قوم عِنْد قبر وَفِيهِمْ من يَعِظهُمْ وَيذكرهُمْ الْمَوْت وأحوال الْآخِرَة، وَأما مصلحَة الْمَيِّت فَمثل مَا إِذا اجْتَمعُوا عِنْده لقِرَاءَة الْقُرْآن وَالذكر، فَإِن الْمَيِّت ينْتَفع بِهِ وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث معقل بن يسَار قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقرأوا ي س على مَوْتَاكُم) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، فَالْحَدِيث يدل على أَن الْمَيِّت ينْتَفع بِقِرَاءَة الْقُرْآن عِنْده، وَهُوَ حجَّة على من قَالَ: إِن الْمَيِّت لَا ينْتَفع بِقِرَاءَة الْقُرْآن.
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجدَاثِ الأجْدَاثُ القُبُورُ
مُطَابقَة هَذَا وَمَا بعده للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن ذكر خُرُوج بني آدم من الْقُبُور وبعثرة مَا فِي الْقُبُور وإيفاضهم أَي: إسراعهم إِلَى الْمَحْشَر وهم يَنْسلونَ أَي: يخرجُون، كل ذَلِك من الموعظة. والأجداث جمع: جدث، وَهُوَ الْقَبْر. وَقد قَالُوا: جدف، بِالْفَاءِ مَوضِع الثَّاء الْمُثَلَّثَة إلاَّ إِنَّهُم لم يَقُولُوا فِي الْجمع: أجداف، بِالْفَاءِ وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن المُرَاد من الأجداث فِي الْآيَة: الْقُبُور، وَقد وَصله ابْن أبي حَاتِم وَغَيره من طَرِيق قَتَادَة وَالسُّديّ وَغَيرهمَا وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ الْفَارِسِي: اشتقاق الجدف بِالْفَاءِ من التجديف، وَهُوَ كفر النعم، وَفِي (الصِّحَاح) : الجدث الْقَبْر وَالْجمع أجدث وأجداث. وَقَالَ ابْن جني: وأجدث، مَوضِع، وَقد نفى سِيبَوَيْهٍ أَن يكون أفعل من أبنيه الْوَاحِد، فَيجب أَن يعد هَذَا مِمَّا فَاتَهُ، إلاَّ أَن يكون جمع الجدث الَّذِي هُوَ الْقَبْر على أجدث، ثمَّ سمى بِهِ الْموضع، وَفِي (الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة: بالثاء لُغَة أهل الْعَالِيَة، وَأهل نجد يَقُولُونَ: جدف، بِالْفَاءِ.
بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي أيْ جَعَلْتُ أسْفَلَهُ أعْلاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْقُبُور بعثرت} (الانفطار: 4) . وَأَن مَعْنَاهُ: أثيرت من الإثارة، وَفِي (الصِّحَاح) : قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بعثر مَا فِي الْقُبُور أثير وَأخرج. وَقَالَ فِي (الْمجَاز) : بعثرت حَوْضِي أَي: هدمته. وَفِي (الْمعَانِي) للفراء: بعثرت وبحثرت: لُغَتَانِ وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) عَن ابْن عَبَّاس: بعثرت بحثت. وَفِي (الْمُحكم) : بعثر الْمَتَاع وَالتُّرَاب قلبه، وبعثر الشَّيْء فرقه، وَزعم يَعْقُوب أَن عينهَا بدل من عين بعثر أَو غين بدل مِنْهَا، وبعثر الْخَبَر بَحثه. وَفِي (الواعي فِي اللُّغَة) : بعثرته إِذا قلبت ترابه وبددته.
الإيفَاضُ الإسْرَاعُ
الإيفاض، بِكَسْر الْهمزَة، مصدر من أوفض يوفض إيفاضا، وأصل إيفاض أوفاض، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نضب يوفضون} (المعارج: 34) . وثلاثيه: وفض من الوفض، وَهُوَ: العجلة.
وَقَرَأ الأعْمَشُ إلَى نَصْبٍ إلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إلَيْهِ وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ
الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان. قَوْله: (إِلَى نصب) ، بِفَتْح النُّون كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالضَّمِّ، وَالْأول أصح، وَهُوَ قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَحكى الطَّبَرِيّ أَنه لم يقرأه بِالضَّمِّ إِلَّا الْحسن الْبَصْرِيّ وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: قُرِئت (نصب) ، نصب، بِضَم النُّون وَسُكُون الصَّاد، و: نصب، بِضَم النُّون وَالصَّاد، وَمن قَرَأَ: نصب وَنصب، فَمَعْنَاه كَأَنَّهُمْ يوفضون إِلَى علم مَنْصُوب لَهُم، وَمن قَرَأَ: نصب، فَمَعْنَاه إِلَى أصنام لَهُم، وَكَانَت النصب الْآلهَة الَّتِي كَانَت تعبد من أَحْجَار. وَفِي (الْمُنْتَهى) : النصب وَالنّصب وَالنّصب، بِمَعْنى مثل: الْعُمر والعمر والعمر، وَقيل: النصب حجر ينصب فيعبد وَيصب عَلَيْهِ دِمَاء الذَّبَائِح، وَقيل: هُوَ الْعلم ينصب للْقَوْم، أَي: علم كَانَ. وَفِي (الْمُحكم) : النصب جمع نصيبة، كسفينة وسفن، وَقيل: النصب الْغَايَة، ذكره عبد فِي تَفْسِيره عَن مُجَاهِد وَأبي الْعَالِيَة، وَضَعفه ابْن سَيّده، وَقَالَ ابْن التِّين: قَرَأَ أَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن بِضَم النُّون وَالصَّاد، وَقَالَ الْحسن فِيمَا حَكَاهُ عبد فِي تَفْسِيره: كَانُوا يبتدرون إِذا طلعت الشَّمْس إِلَى نصبهم سرَاعًا أَيهمْ يستلمها أَولا لَا يلوي أَوَّلهمْ على آخِرهم. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: النصب بِالْفَتْح الْعلم الَّذِي ينصب، وَنصب بِالضَّمِّ جمَاعَة مثل: رهن وَرهن. قَوْله: (يوفضون) أَي: يسرعون، وَهُوَ من الإيفاض كَمَا مر، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن قُرَّة عَن الْحسن فِي قَوْله: {إِلَى نصب يوفضون} (المعارج: 34) . أَي: يبتدرون أَيهمْ يستلمه أول. قَوْله: (والنضب وَاحِد وَالنّصب مصدر) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لفظ النصب يسْتَعْمل إسما(8/186)
وَيسْتَعْمل مصدرا وَيجمع على أنصاب. وَقَالَ بَعضهم: النصب وَاحِد وَالنّصب مصدر، كَذَا وَقع فِيهِ، وَالَّذِي فِي (الْمعَانِي) للفراء: النصب وَالنّصب وَاحِد، وَهُوَ مصدر، وَالْجمع أنصاب، فَكَانَ التَّغْيِير من بعض النقلَة. قلت: لَا تَغْيِير فِيهِ لِأَن البُخَارِيّ فرق بِكَلَامِهِ هَذَا بَين الِاسْم والمصدر، وَلَكِن من قصرت يَده عَن علم الصّرْف لَا يفرق بَين الإسم والمصدر فِي مجيئها على لفظ وَاحِد.
يَوْمَ الخُرُوجِ مِنَ القُبُورِ يَنْسِلُونَ يَخْرُجُونَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك يَوْم الْخُرُوج} (ق: 24) . أَي من الْقُبُور وَفسّر قَوْله: {يَنْسلونَ} (الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) . بقوله: {يخرجُون} (ق: 24) . كَذَا ذكره عبد عَن قَتَادَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَنْسلونَ يسرعون، وَالذِّئْب ينسل ويعسل. وَفِي (الْكَامِل) : العسلان غير النسلان، وَفِي كتاب الزّجاج وَابْن جرير الطَّبَرِيّ و (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) {يَنْسلونَ} (الْأَنْبِيَاء: 69، ي س: 15) . يخرجُون بِسُرْعَة. وَفِي (الْمُجْمل) : النسلان مشْيَة الذِّئْب إِذا أعنق وأسرع فِي الْمَشْي، وَفِي (الْمُحكم) : نسل ينسل نَسْلًا ونسلانا. وَأَصله للذئب، ثمَّ اسْتعْمل فِي غير ذَلِك. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: نسولاً، وَأَصله عَدو مَعَ مقاربة خطو.
2631 - حدَّثنا عُثْمَانُ قَالَ حدَّثني جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَن أبي عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعَ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ مَا منِ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُول الله أفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا ونَدَعُ العَمَلَ فَمَنْ كانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا منْ كانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أمَّا أهلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا أهحلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فأمَّا مَنْ أعْطَى واتَّقَى الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقعدَ وقعدنا حوله) ، وَكَانَ فِي قعوده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَلَامه بِمَا قَالَه فِيهِ وعظ لَهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة، واسْمه إِبْرَاهِيم أَبُو الْحسن الْعَبْسِي. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: سعد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي آخر كتاب الْوضُوء. الْخَامِس: أَبُو عبد الرَّحْمَن، هُوَ عبد الله بن حبيب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، مر فِي: بَاب غسل الْمَذْي فِي كتاب الْغسْل. السَّادِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور غير مَنْسُوب، وَكَذَلِكَ اثْنَان فِيمَا بعده. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بكنيته. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون إلاَّ جَرِيرًا رازي وَأَصله من الْكُوفَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَعَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعَن يحيى عَن وَكِيع، ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة وَعَن أبي نعيم عَن سُفْيَان وَعَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ وَفِي الْقدر عَن عَبْدَانِ وَفِي الْأَدَب عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب، ثَلَاثَتهمْ عَن جرير بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي سعيد الْأَشَج، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وهناد بن السّري وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن أبي كريب وَعَن أبي مُوسَى وَابْن بشار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقدر عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.(8/187)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي بَقِيع) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَهُوَ من الأَرْض مَوضِع فِيهِ أروم شجر من ضروب شَتَّى، وَبِه سمى: بَقِيع الْغَرْقَد، بِالْمَدِينَةِ وَهِي مَقْبرَة أَهلهَا، و: الْغَرْقَد، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ شجر لَهُ شوك كَانَ ينْبت هُنَاكَ فَذهب الشّجر وَبَقِي الإسم لَازِما للموضع. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: قطعت غرقدات فِي هَذَا الْموضع حِين دفن فِيهِ عُثْمَان بن مَظْعُون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ ياقوت: وبالمدينة أَيْضا بَقِيع الزبير وبقيع الْخَيل عِنْد دَار زيد بن ثَابت وبقيع الخبجبة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الساكنة وَالْجِيم المفوحة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْأُخْرَى، كَذَا ذكره السُّهيْلي، وَغَيره يَقُول: الجبجبة، بجيمين، وبقيع الْخضمات، قَالَ الْخطابِيّ: وَمن النَّاس من يَقُوله بِالْبَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْغَرْقَد وأحدها غرقدة وَإِذا عظمت العوسجة فَهِيَ غرقدة، والعوسج من شجر الشوك لَهُ ثَمَر أَحْمَر مدور كَأَنَّهُ خرز العقيق. وَقَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري: هُوَ نبت من نَبَات السهل، وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ: الْغَرْقَد ينْبت بِكُل مَكَان مَا خلا حر الرمل، وَذكر ابْن البيطار فِي (جَامعه) أَن الْغَرْقَد اسْم عَرَبِيّ يُسَمِّي بِهِ بعض الْعَرَب النَّوْع الْأَبْيَض الْكَبِير من العوسج. قَالَ أَبُو عمر: إِن مضغه مر. وَفِي الحَدِيث فِي ذكر الدَّجَّال كل شَيْء يواري يَهُودِيّا ينْطق إلاَّ الْغَرْقَد فَإِنَّهُ من شجرهم فَلَا ينْطق، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْغَرْقَد من شجر الْحجاز. وَفِي (الْمُحكم) : بَقِيع الْغَرْقَد يُسمى كفنة لِأَنَّهُ يدْفن فِيهِ. قَوْله: (وَمَعَهُ مخصرة) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَالرَّاء: وَهُوَ شَيْء يَأْخُذهُ الرجل بِيَدِهِ ليتوكأ عَلَيْهِ مثل الْعَصَا وَنَحْوه، وَهُوَ أَيْضا مَا يَأْخُذهُ الْملك يُشِير بِهِ إِذا خطب، وَاخْتصرَ الرجل أمسك المخصرة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: التخصير إمْسَاك الْقَضِيب بِالْيَدِ، وَجزم ابْن بطال أَنه الْعَصَا. وَقَالَ ابْن التِّين: عَصا أَو قضيب. قَوْله: (فَنَكس) ، بتَخْفِيف الْكَاف وتشديدها، لُغَتَانِ، أَي: خفض رَأسه وطأطأ بِهِ إِلَى الأَرْض على هَيْئَة المهموم المفكر، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يُرَاد بنكس: نكس المخصرة. قَوْله: (ينكت) من النكت، وَهُوَ أَن يضْرب فِي الأَرْض بقضيب يُؤثر فِيهَا، وَيُقَال: النكت قرعك الأَرْض بِعُود أَو بأصبع يُؤثر فِيهَا. قَوْله: (منفوسة) أَي: مصنوعة مخلوقة. قَوْله: (إِلَّا كتب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (مَكَانهَا) ، بِالرَّفْع مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَأَصله: كتب الله مَكَان تِلْكَ النَّفس المخلوقة، وَكلمَة: من، للْبَيَان. قَوْله: (وَالنَّار) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاو فِي: النَّار، بِمَعْنى: أَو. قلت: لم أدر مَا حمله على هَذَا. قَوْله: (وَإِلَّا) كلمة: إِلَّا، الثَّانِيَة تروى بِالْوَاو وتروى بِدُونِهَا، وَفِيه غرابة من الْكَلَام، وَهِي أَن قَوْله: (مَا من نفس) يحْتَمل أَن يكون بَدَلا من قَوْله: (مَا مِنْكُم) وَأَن يكون إلاَّ ثَانِيًا بَدَلا من إلاَّ أَولا. وَيحْتَمل أَن يكون من بَاب اللف والنشر، وَأَن يكون تعميما بعد تَخْصِيص، إِذْ الثَّانِي فِي كل مِنْهَا أَعم من الأول. قَوْله: (شقية) قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع أَي: هِيَ شقية. قلت: وَجه ذَلِك هُوَ أَن الضَّمِير فِي قَوْله: (إلاَّ قد كتب) ، يرجع إِلَى قَوْله: (مَكَانهَا) ، لِأَنَّهُ بدل مِنْهُ فَلَا يَصح أَن يكون ارْتِفَاع: شقية، إلاَّ بِتَقْدِير شَيْء مَحْذُوف حِينَئِذٍ وَهُوَ لفظ: هِيَ، على أَنه مُبْتَدأ وشقية خَبره. قَوْله: (فَقَالَ رجل) قيل: إِنَّه عمر، وَقيل: إِنَّه غَيره. قَوْله: (أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا؟) أَي: الَّذِي قدر الله علينا ونتكل؟ أَي: نعتمد؟ وَأَصله: نوتكل، فأبدلت التَّاء من الْوَاو وأدغمت فِي الْأُخْرَى لِأَن أَصله من وكل يكل. قَوْله: (وَنَدع الْعَمَل) أَي: نتركه. قَوْله: (فسيصير) أَي: فسيجريه الْقَضَاء إِلَيْهِ قهرا، وَيكون مآل حَاله ذَلِك بِدُونِ اخْتِيَاره. قَوْله: (فييسرون) ، ذكره بِلَفْظ الْجمع بِاعْتِبَار معنى الْأَهْل، وَوجه مُطَابقَة جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسؤالهم هُوَ أَنهم لما قَالُوا: إِنَّا نَتْرُك الْمَشَقَّة الَّتِي فِي الْعَمَل الَّذِي لأَجلهَا سمي بالتكليف، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا مشقة ثمَّة إِذْ كل ميسر لما خلق لَهُ) ، (وَهُوَ يسيرٌ على من يسره الله عَلَيْهِ) . فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقَضَاء الأزلي يَقْتَضِي ذَلِك، فَلم الْمَدْح والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب؟ أُجِيب: بِأَن الْمَدْح والذم بِاعْتِبَار الْمَحَلِّيَّة لَا بِاعْتِبَار الفاعلية، وَهَذَا هُوَ المُرَاد باكسب الْمَشْهُور عَن الأشاعرة، وَذَلِكَ كَمَا يمدح الشَّيْء ويذم بحسنه وقبحه وسلامته وعاهته. وَأما الثَّوَاب وَالْعِقَاب فكسائر العاديات، فَكَمَا لَا يَصح عندنَا أَن يُقَال: لم خلق الله تَعَالَى الإحتراق عقيب مماسة النَّار وَلم يحصل ابْتِدَاء؟ فَكَذَا هَهُنَا، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْجَواب من الإسلوب الْحَكِيم مَنعهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الاتكال وَترك الْعَمَل، وَأمرهمْ بِالْتِزَام مَا يجب على العَبْد من الْعُبُودِيَّة، وَإِيَّاكُم وَالتَّصَرُّف فِي الْأُمُور الإلهية فَلَا تجْعَلُوا الْعِبَادَة وَتركهَا سَببا مُسْتقِلّا لدُخُول الْجنَّة وَالنَّار، بل إِنَّهَا عَلَامَات فَقَط، وَقَالَ الْخطابِيّ: لما أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سبق الْكتاب بالسعادة رام الْقَوْم أَن يتخذوه حجَّة فِي ترك الْعَمَل، فأعلمهم أَن هُنَا أَمريْن لَا يبطل أَحدهمَا الآخر: بَاطِن(8/188)
هُوَ الْعلَّة الْمُوجبَة فِي حكم الربوبية، وَظَاهر هُوَ التَّتِمَّة اللَّازِمَة فِي حق الْعُبُودِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ أَمارَة مخيلة فِي مطالقة علم العواقب غير مفيدة حَقِيقَة، وبيَّن لَهُم أَن كلا ميسر لما خلق لَهُ، وَأَن عمله فِي العاجل دَلِيل مصيره فِي الآجل، وَلذَلِك مثل بقوله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} (الَّيْلِ: 5) . الْآيَة، وَنَظِيره الرزق الْمَقْسُوم مَعَ الْأَمر بِالْكَسْبِ، وَالْأَجَل الْمَضْرُوب مَعَ التعالج بالطب، فَإنَّك تَجِد الْبَاطِن مِنْهُمَا على مُوجبه، وَالظَّاهِر سَببا مخيلاً، وَقد اصْطَلحُوا على أَن الظَّاهِر مِنْهُمَا لَا يتْرك للباطن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أصل لأهل السّنة فِي أَن السَّعَادَة والشقاوة بِخلق الله تَعَالَى، بِخِلَاف قَول الْقَدَرِيَّة الَّذين يَقُولُونَ: إِن الشَّرّ لَيْسَ بِخلق الله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ إِثْبَات للقدر، وَإِن جمع الْوَاقِعَات بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره، لَا يُسأل عَمَّا يفعل، وَقيل: إِن سر الْقدر ينْكَشف لِلْخَلَائِقِ إِذا دخلُوا الْجنَّة، وَلَا ينْكَشف لَهُم قبل دُخُولهَا، وَفِيه رد على أهل الْجَبْر، لِأَن الْمُجبر لَا يَأْتِي الشَّيْء إلاَّ وَهُوَ يكرههُ، والتيسير ضد الْجَبْر، أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله تجَاوز عَن أمتِي مَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) . قَالَ: والتيسير هُوَ أَن يَأْتِي الْإِنْسَان الشَّيْء وَهُوَ يُحِبهُ.
وَاخْتلف أهل يعلم فِي الدُّنْيَا الشقي من السعيد؟ فَقَالَ قوم: نعم، محتجين بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة، والْحَدِيث لِأَن كل عمل أَمارَة على جَزَائِهِ. وَقَالَ قوم: لَا، وَالْحق فِي ذَلِك أَنه يدْرك ظنا لَا جزما. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية: من اشْتهر لَهُ لِسَان صدق فِي النَّاس من صالحي هَذِه الْأمة هَل يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء رَحِمهم الله.
وَفِيه: جَوَاز الْقعُود عِنْد الْقُبُور والتحدث عِنْدهَا بِالْعلمِ والمواعظ. وَفِيه: نكته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمِخْصَرَةِ فِي الأَرْض. أصل تَحْرِيك الإصبع فِي التَّشَهُّد. قَالَه الْمُهلب. فَإِن قلت: مَا معنى النكت بِالْمِخْصَرَةِ؟ قلت: هُوَ إِشَارَة إِلَى إِحْضَار الْقلب للمعاني. وَفِيه: نكس الرَّأْس عِنْد الْخُشُوع والتفكر فِي أَمر الْآخِرَة. وَفِيه: إِظْهَار الخضوع والخشوع عِنْد الْجِنَازَة، وَكَانُوا إِذا حَضَرُوا جَنَازَة يلقى أحدهم حَبِيبه وَلَا يقبل عَلَيْهِ إلاَّ بِالسَّلَامِ حَتَّى يرى أَنه وَاجِد عَلَيْهِ، وَكَانُوا لَا يَضْحَكُونَ هُنَاكَ، وَرَأى بَعضهم رجلا يضْحك فآلى أَن لَا يكلمهُ أبدا، وَكَانَ يبْقى أثر ذَلِك عِنْدهم ثَلَاثَة أَيَّام لشدَّة مَا يحصل فِي قُلُوبهم من الْخَوْف والفزع. وَفِيه: أَن النَّفس المخلوقة إِمَّا سعيدة وَإِمَّا شقية، وَلَا يُقَال: إِذا وَجَبت الشقاوة والسعادة بِالْقضَاءِ الأزلي وَالْقدر الإلهي فَلَا فَائِدَة فِي التَّكْلِيف، فَإِن هَذَا أعظم شبه النافين للقدر، وَقد أجابهم الشَّارِع بِمَا لَا يبْقى مَعَه إِشْكَال، وَوجه الِانْفِصَال أَن الرب تَعَالَى أمرنَا بِالْعَمَلِ، فَلَا بُد من امتثاله، وغيب عَنَّا الْمَقَادِير لقِيَام حجَّته وزجره، وَنصب الْأَعْمَال عَلامَة على مَا سبق فِي مَشِيئَته، فسبيله التَّوَقُّف، فَمن عدل عَنهُ ضل لِأَن الْقدر سر من أسراره لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ هُوَ فَإِذا دخلُوا الْجنَّة كشف لَهُم.
38 - (بابُ مَا جاءَ فِي قاتِلِ النَّفْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي حق قَاتل النَّفس، قيل: مَقْصُود التَّرْجَمَة حكم قَاتل النَّفس، وَالْمَذْكُور فِي الْبَاب حكم قَاتل نَفسه فَهُوَ أخص من التَّرْجَمَة، وَلكنه أَرَادَ أَن يلْحق بِقَاتِل نَفسه قَاتل غَيره من بَاب الأولى. قلت: قَوْله: قَاتل النَّفس، أَعم من أَن يكون قَاتل نَفسه، وَقَاتل غَيره، فَهَذَا اللَّفْظ يَشْمَل الْقسمَيْنِ فَلَا يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى دَعْوَى الأخصية وَلَا إِلَى إِلْحَاق قَاتل الْغَيْر بِقَاتِل نَفسه، وَلَا يلْزم أَن يكون حَدِيث الْبَاب طبق التَّرْجَمَة من سَائِر الْوُجُوه، بل إِذا صدق الحَدِيث على جُزْء مَا صدقت عَلَيْهِ التَّرْجَمَة، كفى. وَقيل: عَادَة البُخَارِيّ إِذا توقف فِي شَيْء ترْجم عَلَيْهِ تَرْجَمَة مُبْهمَة كَأَنَّهُ يُنَبه على طَرِيق الِاجْتِهَاد، وَقد نقل عَن مَالك أَن قَاتل النَّفس لَا تقبل تَوْبَته، وَمُقْتَضَاهُ أَن لَا يصلى عَلَيْهِ. قلت: لَا نسلم أَن هَذِه التَّرْجَمَة مُبْهمَة، والإبهام من أَيْن جَاءَ وَهِي ظَاهِرَة فِي تنَاولهَا الْقسمَيْنِ الْمَذْكُورين كَمَا ذكرنَا؟ وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّ البُخَارِيّ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (أُتِي بِرَجُل قتل نَفسه بمشاقص فَلم يصل عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة للنسائي: (أما أَنا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ) لكنه لما لم يكن على شَرطه أَوْمَأ إِلَيْهِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة وَأورد فِيهَا مَا يُشبههُ من قصَّة قَاتل نَفسه. قلت: تَوْجِيه كَلَام البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة بالتخمين لَا يُفِيد، وَكَلَامه ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.(8/189)
3631 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ ثابتِ ابنِ الضَّحَّاكِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كاذِبا مُتَعَمِّدا فَهْوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ..
وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة مَا ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تقدمُوا، وخَالِد هُوَ الْحذاء وَأَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان، وَهُوَ صَغِير، مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي النذور عَن مُعلى بن أَسد وَفِي الْأَدَب أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي غَسَّان وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي تَوْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن مَحْمُود بن خَالِد وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِملَّة) ، الْملَّة الدّين كملة الْإِسْلَام واليهودية والنصرانية، وَقيل: هِيَ مُعظم الدّين، وَجُمْلَة مَا يَجِيء بِهِ الرُّسُل. صورته أَن يحلف بدين النَّصَارَى أَو بدين مِلَّة من ملل الْكَفَرَة. قَوْله: (كَاذِبًا) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: حلف، أَي: حَال كَونه كَاذِبًا فِي تَعْظِيم تِلْكَ الْملَّة الَّتِي حلف بهَا، فَيكون هَذَا الْحَال من الْأَحْوَال اللَّازِمَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الْحق مُصدقا} (الْبَقَرَة: 29، وفاطر: 13) . لِأَن من عظم غير مِلَّة الْإِسْلَام كَانَ كَاذِبًا فِي تَعْظِيم ذَلِك دَائِما فِي كل حَال، وَفِي كل وَقت، وَلَا ينْتَقل عَنهُ وَلَا يصلح أَن يُقَال: إِنَّه يَعْنِي بِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي حَقه كَونه صَادِقا أَو كَاذِبًا إِذا حلف بِملَّة غير الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذمه الشَّرْع من حَيْثُ إِنَّه حلف بِتِلْكَ الْملَّة الْبَاطِلَة مُعظما لَهَا على نَحْو مَا يعظم بِهِ مِلَّة الْإِسْلَام الْحق، وَلَا فرق بَين أَن يكون صَادِقا أَو كَاذِبًا فِي الْمَحْلُوف عَلَيْهِ. قَوْله: (مُتَعَمدا) أَيْضا حَال من الْأَحْوَال المتداخلة أَو المترادفة، قيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْحَالِف بذلك غير مُعْتَقد لذَلِك فَهُوَ آثم مرتكب كَبِيرَة إِذْ قد تشبه فِي قَوْله بِمن يعظم تِلْكَ الْملَّة ويعتقدها، فغلظ عَلَيْهِ الْوَعيد بِأَن صير كواحد مِنْهُم مُبَالغَة فِي الردع والزجر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} (الْمَائِدَة: 15) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: (مُتَعَمدا) ، يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ مُعْتَقدًا لتعظيم تِلْكَ الْملَّة الْمُغَايرَة لملة الْإِسْلَام، وَحِينَئِذٍ يكون كَافِرًا حَقِيقَة، فَيبقى اللَّفْظ على ظَاهره. قَوْله: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) ، قَالَ ابْن بطال: أَي: هُوَ كَاذِب لَا كَافِر، وَلَا يخرج بِهَذِهِ الْقِصَّة من الْإِسْلَام إِلَى الدّين الَّذِي حلف بِهِ لِأَنَّهُ لم يقل مَا يَعْتَقِدهُ، فَوَجَبَ أَن يكون كَاذِبًا، كَمَا قَالَ لَا كَافِرًا. قَالَ: فَإِن ظن أَن فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيلا على إِبَاحَة الْحلف بِملَّة غير الْإِسْلَام صَادِقا لاشتراطه فِي الحَدِيث أَن يحلف بِهِ كَاذِبًا، قيل لَهُ: لَيْسَ كَمَا توهمت لوُرُود نهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحلف بِغَيْر الله نهيا مُطلقًا، فَاسْتَوَى فِي ذَلِك الْكَاذِب والصادق. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) أَي: فَهُوَ على مِلَّة غير الْإِسْلَام، لِأَن الْحلف بالشَّيْء تَعْظِيم لَهُ، ثمَّ قَالَ: الظَّاهِر أَنه تَغْلِيظ. قلت: حمله على هَذَا التَّفْسِير صرفه معنى قَوْله: كَاذِبًا إِلَى الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَقد ذكرنَا أَنه لَا يصلح ذَلِك لِاسْتِوَاء كَونه صَادِقا أَو كَاذِبًا إِذا حلف بِملَّة غير الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ إِنَّمَا يحلف الْحَالِف بِمَا كَانَ عَظِيما عِنْده، وَمن اعْتقد تَعْظِيم مِلَّة من ملل الْكفْر فقد ضاهى الْكفَّار. انْتهى. قلت: فقد كفر حَقِيقَة والمضاهاة دون ذَلِك. قَوْله: (بحديدة) أَرَادَ بِهِ آلَة قاطمة مثل السَّيْف والسكين وَنَحْوهمَا، والحديدة أخص من الْحَدِيد سمي بِهِ لِأَنَّهُ منيع، لِأَن أَصله من الْحَد وَهُوَ الْمَنْع وَالْجمع حدائد، وَجَاء فِي الشّعْر: الحديدات. قَوْله: (عذب بِهِ) ، ويروى: (بهَا) ، أَي: بالحديدة، وَأما تذكير الضَّمِير فباعتبار الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا يعذب بهَا لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على أَن الْحَالِف بِالْيَمِينِ الْمَذْكُور ينْعَقد يَمِينه وَعَلِيهِ الْكَفَّارَة، لِأَن الله تَعَالَى أوجب على الْمظَاهر الْكَفَّارَة، وَهُوَ مُنكر من القَوْل وزور، وَالْحلف بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مُنكر وزور، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا ينْعَقد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء يَمِين، وَعَلِيهِ أَن يسْتَغْفر الله ويوحده(8/190)
وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ سَوَاء فعله أم لَا. وَقَالَ: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف فَقَالَ بِاللات والعزى فَلْيقل لَا إِلَه إلاَّ الله) ، وَلم يذكر فِي الحَدِيث كَفَّارَة، قُلْنَا: لَا يلْزم من عدم ذكرهَا فِيهِ نفي وجوب الْكَفَّارَة، وَقَالَ ابْن بطال فِي قَوْله: (وَمن قتل نَفسه بحديدة) : أجمع الْفُقَهَاء وَأهل السّنة على أَنه من قتل نَفسه أَنه لَا يخرج بذلك من الْإِسْلَام، وَأَنه يصلى عَلَيْهِ وإثمه عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مَالك، وَلم يكره الصَّلَاة عَلَيْهِ إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنّ الصَّلَاة على الْمُسلمين وَلم يسْتَثْن مِنْهُم أحدا فيصلى على جَمِيعهم. قلت: قَالَ أَبُو يُوسُف: لَا يصلى على قَاتل نَفسه لِأَنَّهُ ظَالِم لنَفسِهِ فَيلْحق بالباغي وقاطع الطَّرِيق، وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد: يصلى عَلَيْهِ لِأَن دَمه هذر كَمَا لَو مَاتَ حتفه.
4631 - وَقَالَ حجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حَدثنَا جَريرُ بنُ حازِمٍ عنِ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا جُنْدَبٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِي هاذا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ قَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ الله عزَّ وجَلَّ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ.
(الحَدِيث 4631 طرفه فِي: 3643) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله فِي ذكر بني إِسْرَائِيل فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال فَذكره، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه بِلَفْظ: قَالَ، وخرجه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال، قَالَ: وَهُوَ يضعف قَول من قَالَ: إِنَّه إِذا قَالَ عَن شَيْخه، وَقَالَ فلَان، يكون أَخذه عَنهُ مذاكرة، وَلَفظه هُنَاكَ: كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ رجل بِهِ جرح فجزع، فَأخذ سكينا فحز بهَا يَده فَمَا رقي الدَّم حَتَّى مَاتَ، وَعند مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي: حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي، وَلَفظه: (خرجت بِهِ قرحَة فَلَمَّا آذته انتزع سَهْما من كِنَانَته فنكاها فَلم يرق الدَّم حَتَّى مَاتَ) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم مُحَمَّد هَذَا هُوَ الذهلي، قَالَ الجياني: وَنسبه أَبُو عَليّ ابْن السكن عَن الْفربرِي، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد حَدثنَا حجاج، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد أخرج البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن معمر وَهُوَ مَشْهُور بالرواية، ثمَّ رَوَاهُ أَبُو عَليّ عَن حَكِيم بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ بن قديد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحرز حَدثنَا حجاج فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي هَذَا الْمَسْجِد) ، الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة، قَوْله: (فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَاف) ذكر هَذَا للتَّأْكِيد وَالتَّحْقِيق. قَوْله: (عَن النَّبِي) ، ويروى: (عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهُوَ ظَاهر، لِأَنَّهُ يُقَال: كذب عَلَيْهِ، وَأما رِوَايَة: عَن، فعلى معنى النَّقْل، قَوْله: (بِرَجُل جراح) ، لم يعرف الرجل من هُوَ، و: الْجراح، بِكَسْر الْجِيم، ويروى: (خراج) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ فِي اصْطِلَاح الْأَطِبَّاء: الورم إِذا اجْتمعت مادته المتفرقة فِي لِيف الْعُضْو الورم إِلَى تجويف وَاحِد، وَقبل ذَلِك يُسمى ورما وَفِي (الْمُحكم) هُوَ اسْم لما يخرج فِي الْبدن، زَاد فِي (الْمُنْتَهى) : من القروح. وَفِي (الْمغرب) : الْخراج، بِالضَّمِّ البثر الْوَاحِدَة، خراجة، وَزعم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَنه يجمع على خراجات وخرجات. وَفِي (الجمهرة) و (الْجَامِع) و (الموعب) : الْخراج مَا خرج على الْجَسَد من دمل وَنَحْوه وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْخراج قرحَة، بِفَتْح الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء، وَهِي وَاحِدَة القروح، وَهِي حبات تخرج فِي بدن الْإِنْسَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : ينظر فِيهِ من سلفه فِيهِ. قَوْله: (قتل نَفسه) ، أَي: بِسَبَب الْجراح، وَهِي جملَة وَقعت صفة، ويروى: (فَقتل) . قَوْله: (بدرني) ، معنى الْمُبَادرَة: عدم صبره حَتَّى يقبض الله روحه حتف أَنفه، يُقَال: بدرني، أَي: سبقني من بدرت إِلَى الشَّيْء أبدر بَدْرًا: إِذا أسرعت: وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ. قَوْله: (حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) مَعْنَاهُ: إِن كَانَ مستحلاً فعقوبته مُؤَبّدَة، أَو مَعْنَاهُ: حرمت قبل دُخُول النَّار، أَو المُرَاد من الْجنَّة: جنَّة خَاصَّة لِأَن الْجنان كَثِيرَة، أَو هُوَ من بَاب التغيظ، أَو هُوَ مُقَدّر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَعيد لهَذَا الرجل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وانضم إِلَى هَذَا الرجل مشركه، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون كَافِرًا، لقَوْله: (فَحرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) ، وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن الْجنَّة مُحرمَة على الْكَافِر سَوَاء قتل نَفسه اَوْ استبقاها، وعَلى تَقْدِير أَن يكون كَافِرًا، إِنَّمَا يَتَأَتَّى على قَول من يَقُول: إِن الْكفَّار مطالبون(8/191)
بالفروع الشَّرْعِيَّة، وعَلى القَوْل الآخر: لَا يحسن ذَلِك، ثمَّ إِن الحَدِيث لَا دلَالَة فِيهِ على كفر وَلَا إِيمَان، بل هُوَ على الْإِيمَان أدل من غَيره، وَالله أعلم، لَا سِيمَا وَقد ورد فِي (المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن سماك (عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَصَابَته جِرَاحَة فآلمته، فَأخذ مشقصا فَقتل بِهِ نَفسه، فَلم يصلِّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ) .
4631 - وَقَالَ حجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حَدثنَا جَريرُ بنُ حازِمٍ عنِ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا جُنْدَبٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فِي هاذا المَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ قَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ الله عزَّ وجَلَّ بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ.
(الحَدِيث 4631 طرفه فِي: 3643) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله فِي ذكر بني إِسْرَائِيل فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال فَذكره، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه بِلَفْظ: قَالَ، وخرجه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا حجاج بن منهال، قَالَ: وَهُوَ يضعف قَول من قَالَ: إِنَّه إِذا قَالَ عَن شَيْخه، وَقَالَ فلَان، يكون أَخذه عَنهُ مذاكرة، وَلَفظه هُنَاكَ: كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ رجل بِهِ جرح فجزع، فَأخذ سكينا فحز بهَا يَده فَمَا رقي الدَّم حَتَّى مَاتَ، وَعند مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي: حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي، وَلَفظه: (خرجت بِهِ قرحَة فَلَمَّا آذته انتزع سَهْما من كِنَانَته فنكاها فَلم يرق الدَّم حَتَّى مَاتَ) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم مُحَمَّد هَذَا هُوَ الذهلي، قَالَ الجياني: وَنسبه أَبُو عَليّ ابْن السكن عَن الْفربرِي، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد حَدثنَا حجاج، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد أخرج البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن معمر وَهُوَ مَشْهُور بالرواية، ثمَّ رَوَاهُ أَبُو عَليّ عَن حَكِيم بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو بكر بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ بن قديد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحرز حَدثنَا حجاج فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي هَذَا الْمَسْجِد) ، الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة، قَوْله: (فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَاف) ذكر هَذَا للتَّأْكِيد وَالتَّحْقِيق. قَوْله: (عَن النَّبِي) ، ويروى: (عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَهُوَ ظَاهر، لِأَنَّهُ يُقَال: كذب عَلَيْهِ، وَأما رِوَايَة: عَن، فعلى معنى النَّقْل، قَوْله: (بِرَجُل جراح) ، لم يعرف الرجل من هُوَ، و: الْجراح، بِكَسْر الْجِيم، ويروى: (خراج) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ فِي اصْطِلَاح الْأَطِبَّاء: الورم إِذا اجْتمعت مادته المتفرقة فِي لِيف الْعُضْو الورم إِلَى تجويف وَاحِد، وَقبل ذَلِك يُسمى ورما وَفِي (الْمُحكم) هُوَ اسْم لما يخرج فِي الْبدن، زَاد فِي (الْمُنْتَهى) : من القروح. وَفِي (الْمغرب) : الْخراج، بِالضَّمِّ البثر الْوَاحِدَة، خراجة، وَزعم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ أَنه يجمع على خراجات وخرجات. وَفِي (الجمهرة) و (الْجَامِع) و (الموعب) : الْخراج مَا خرج على الْجَسَد من دمل وَنَحْوه وَزعم النَّوَوِيّ أَن الْخراج قرحَة، بِفَتْح الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء، وَهِي وَاحِدَة القروح، وَهِي حبات تخرج فِي بدن الْإِنْسَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : ينظر فِيهِ من سلفه فِيهِ. قَوْله: (قتل نَفسه) ، أَي: بِسَبَب الْجراح، وَهِي جملَة وَقعت صفة، ويروى: (فَقتل) . قَوْله: (بدرني) ، معنى الْمُبَادرَة: عدم صبره حَتَّى يقبض الله روحه حتف أَنفه، يُقَال: بدرني، أَي: سبقني من بدرت إِلَى الشَّيْء أبدر بَدْرًا: إِذا أسرعت: وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ. قَوْله: (حرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) مَعْنَاهُ: إِن كَانَ مستحلاً فعقوبته مُؤَبّدَة، أَو مَعْنَاهُ: حرمت قبل دُخُول النَّار، أَو المُرَاد من الْجنَّة: جنَّة خَاصَّة لِأَن الْجنان كَثِيرَة، أَو هُوَ من بَاب التغيظ، أَو هُوَ مُقَدّر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَعيد لهَذَا الرجل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وانضم إِلَى هَذَا الرجل مشركه، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون كَافِرًا، لقَوْله: (فَحرمت عَلَيْهِ الْجنَّة) ، وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن الْجنَّة مُحرمَة على الْكَافِر سَوَاء قتل نَفسه اَوْ استبقاها، وعَلى تَقْدِير أَن يكون كَافِرًا، إِنَّمَا يَتَأَتَّى على قَول من يَقُول: إِن الْكفَّار مطالبون بالفروع الشَّرْعِيَّة، وعَلى القَوْل الآخر: لَا يحسن ذَلِك، ثمَّ إِن الحَدِيث لَا دلَالَة فِيهِ على كفر وَلَا إِيمَان، بل هُوَ على الْإِيمَان أدل من غَيره، وَالله أعلم، لَا سِيمَا وَقد ورد فِي (المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن سماك (عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَصَابَته جِرَاحَة فآلمته، فَأخذ مشقصا فَقتل بِهِ نَفسه، فَلم يصلِّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ) .
5631 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُها يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ.
(الحَدِيث 5631 طرفه فِي: 8775) .
هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه، وَأخرجه فِي الطِّبّ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مطولا. وَمن ذَلِك الْوَجْه أخرجه مُسلم، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الخنق، وَفِيه من الزِّيَادَة ذكر السم وَغَيره، وَلَفظه: (فَهُوَ فِي نَار جَهَنَّم خَالِدا مخلدا فِيهَا أبدا) ، وَقد تمسك بِهِ الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم مِمَّن قَالَ بتخليد أَصْحَاب الْمعاصِي فِي النَّار، وَأجَاب أهل السّنة بأجوبة، مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: هَذِه لزِيَادَة وهم، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن أخرجه، رَوَاهُ مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، فَلم يذكر: (خَالِدا مخلدا) ، قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن الرِّوَايَات قد صحت أَن أهل التَّوْحِيد يُعَذبُونَ ثمَّ يخرجُون مِنْهَا، وَقد ذكرنَا أجوبة أُخْرَى فِي هَذَا الْبَاب، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. قَوْله: (يخنق) ، بِضَم النُّون. قَوْله: (يطعنها) ، بِفَتْح الْعين وَضمّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ الخنق والطعن فِي النَّار، لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل.
48 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلى المُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمُنَافِقين، وَكَرَاهَة الاسْتِغْفَار أَي: طلب الْمَغْفِرَة للْمُشْرِكين لعدم الْفَائِدَة.
رَوَاهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمُنَافِقين عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا ذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قَوْله: (مَا يكره) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لما جزم البُخَارِيّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ فَلم مَا ذكره بِإِسْنَادِهِ. قلت: لِأَنَّهُ لم يكن الرَّاوِي بِشَرْطِهِ، أَو لِأَنَّهُ ذكره فِي مَوضِع آخر انْتهى. قلت: لَا نسلم أَنه جزم بذلك، بل أخبر. وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَيحْتَمل أَن تَركه الْإِسْنَاد اكْتِفَاء بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره فِي قصَّة الصَّلَاة على عبد الله بن أبي فِي: بَاب الْقَمِيص الَّذِي يلف.
6631 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ الله ابنِ عَبْدِ الله عنْ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ بنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُصَلَّى عَلَيْهِ فَلَمَّا قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثَبْتُ إلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أتُصَلِّي عَلَى ابنِ أُبَيٍّ وقَدْ قَالَ يَوْمَ كذَا وكَذَا كَذَا وكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيه قولَهُ فَتَبَسَّمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إنِّي خُيِّرْتُ فاخْتَرْتُ لَوْ أعْلَمُ أنِّي إنْ زِدْتُ عَلى السَّبْعِينَ فَغُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا قَالَ فصَلَّى عَلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إلاَّ يَسِيرا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتانِ مِنْ بَرَاءَةَ ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنهُم ماتَ أبدا إلَى وَهُمْ فاسِقُونَ قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأتِي عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ وَالله ورسُولُهُ أعْلَمُ.
(الحَدِيث 6631 طرفه فِي: 1764) .(8/192)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تصل على أحد مِنْهُم) لِأَن قَوْله: (لَا تصل) نهي، وَالنَّهْي يَقْتَضِي الْكَرَاهَة. فَإِن قلت: من التَّرْجَمَة قَوْله: وَالِاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب مَا يدل على النَّهْي عَن الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين؟ قلت: فِي قَوْله: (حَتَّى نزلت الْآيَات) مَا يدل على ذَلِك، لِأَن من جملَة الْآيَات قَوْله: تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . الْآيَة، وَقَوله: {فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . يدل على منع الاسْتِغْفَار لَهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. الْخَامِس: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عبد الله، بِفَتْح الْعين: ابْن عُيَيْنَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّابِع: عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَهُوَ وَاللَّيْث مصريان، وَعقيل أيلي وَابْن شهَاب وَعبيد الله مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار وَمُحَمّد بن رَافع، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من طَرِيق ابْن عمر فِي: بَاب الْكَفَن فِي الْقَمِيص، عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سعيد بن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَنَذْكُر هُنَا بعض شَيْء.
قَوْله: (دعِي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (أعدد عَلَيْهِ قَوْله) أَي: أعد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول عبد الله ابْن أبي من أَقْوَاله القبيحة فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُؤمنِينَ. قَوْله: (فَلَمَّا أكثرت عَلَيْهِ) ، أَي: فَلَمَّا زِدْت الْكَلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِنِّي خيرت) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} (التَّوْبَة: 18) . قَوْله: قَوْله: (حَتَّى نزلت (فاخترت) أَي الاسْتِغْفَار الْآيَات) ، ويروى: حَتَّى نزلت الْآيَتَانِ الأولى. قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصل عَليّ أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا وهم فَاسِقُونَ} (التَّوْبَة: 48) . وَالْآيَة الثَّانِيَة هِيَ قَوْله: {اسْتغْفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . الْآيَة، وَأما على رِوَايَة الْآيَات فَمن قَوْله: {اسْتغْفر لَهُم} (التَّوْبَة: 08) . إِلَى قَوْله: {وهم فَاسِقُونَ} (التَّوْبَة: 48) . .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الدَّاودِيّ: هَذِه الْآيَات فِي قوم بأعيانهم يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب} (التَّوْبَة: 021) . الْآيَة، فَلم ينْه عَمَّا لم يعلم، وَكَذَلِكَ إخْبَاره لِحُذَيْفَة بسبعة عشر من الْمُنَافِقين، وَقد كَانُوا يناكحون الْمُسلمين ويوارثونهم وَيجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام لاستتارهم بكفرهم، وَلم ينْه النَّاس عَن الصَّلَاة عَلَيْهِم، إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَحده، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ينظر إِلَى حُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِن شهد جَنَازَة مِمَّن يظنّ بِهِ شهد، وإلاَّ لم يشهده، وَلَو كَانَ أمرا ظَاهرا لم يسره الشَّارِع إِلَى حُذَيْفَة، وَذكر عَن الطَّبَرِيّ أَنه يجب ترك الصَّلَاة على معلن الْكفْر ومسره، بِهَذَا قَالَ، فَأَما الْمقَام على قَبره فَغير محرم بل جَائِز لوَلِيِّه الْقيام عَلَيْهِ لإصلاحه وَدَفنه، وَبِذَلِك صَحَّ الْخَبَر، وَعمل بِهِ أهل الْعلم. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا خلاف مَا قدمنَا. أَن ولد الْكَافِر لَا يدفنه وَلَا يحضر دَفنه، وَفِي (النَّوَادِر) عَن ابْن سِيرِين: مَا حرم الله الصَّلَاة على أحد من أهل الْقبْلَة إِلَّا على ثَمَانِيَة عشر رجلا من الْمُنَافِقين، وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إذهب فواره) يَعْنِي أَبَاك، وروى سعيد بن جُبَير، قَالَ: مَاتَ رجل يَهُودِيّ وَله ابْن مُسلم، فَذكر ذَلِك لِابْنِ عَبَّاس، فَقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي أَن يمشي مَعَه ويدفنه وَيَدْعُو لَهُ بِالصَّلَاةِ مَا دَامَ حَيا، فَإِذا مَاتَ وَكله إِلَى أشباهه، ثمَّ قَرَأَ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة} (التَّوْبَة: 411) . الْآيَة، وَقَالَ النَّخعِيّ: توفيت أم الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة وَهِي نَصْرَانِيَّة، فاتبعها أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكرمة لِلْحَارِثِ وَلم يصلوا عَلَيْهَا، ثمَّ فرض على جَمِيع الآمة أَن لَا يدعوا لِمُشْرِكٍ وَلَا يَسْتَغْفِرُوا لَهُ إِذا مَاتَ على شركه، قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا ... } (التَّوْبَة: 311) . الْآيَة، وَقد بَين الله تَعَالَى عذر إِبْرَاهِيم فِي استغفاره لِأَبِيهِ فَقَالَ: {إلاَّ عَن موعدة وعدها إِيَّاه} (التَّوْبَة: 411) . فَدَعَا لَهُ وَهُوَ يَرْجُو إنابته ورجوعه إِلَى الْإِيمَان: {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ} (التَّوْبَة: 411) . فَفِي هَذَا من الْفِقْه أَنه جَائِز أَن يدعى لكل من يُرْجَى من الْكفَّار إنابته بالهداية(8/193)
مَا دَامَ حَيا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا شمت أحد الْمُنَافِقين وَالْيَهُود قَالَ: يهديكم الله وَيصْلح بالكم، وَقد يعْمل الرجل بِعَمَل أهل النَّار وَيخْتم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَفِيه: تَصْحِيح القَوْل بِدَلِيل الْخطاب لاستعمال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَذَلِكَ أَن إخْبَاره تَعَالَى أَنه لَا يغْفر لَهُ وَلَو اسْتغْفر لَهُ سبعين مرّة، يحْتَمل أَنه لَو زَاد عَلَيْهَا كَانَ يغْفر لَهُ، لَكِن لما شهد الله تَعَالَى أَنه كَافِر بقوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله} (التَّوْبَة: 08) . دلّت هَذِه الْآيَة على تَغْلِيب أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ أَنه لَا يغْفر لَهُ لكفره، فَلذَلِك أمسك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّعَاء لَهُ. وَفِي إقدام عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مُرَاجعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْفِقْه أَن الْوَزير الْفَاضِل الناصح لَا حرج عَلَيْهِ فِي إِن يخبر سُلْطَانه بِمَا عِنْده من الرَّأْي، وَإِن كَانَ مُخَالفا لرأيه، وَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ بعض الخفاء إِذا علم فضل الْوَزير وثقته وَحسن مذْهبه، فَإِنَّهُ لَا يلْزمه اللوم على مَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَلَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ سوء الظَّن، وَإِن صَبر السُّلْطَان على ذَلِك من تَمام فَضله، أَلا يرى سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عمر وَتَركه الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكبر الأسوة.
58 - (بابُ ثَنَاءِ النَّاسِ علَى المَيِّتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة ثَنَاء النَّاس على الْمَيِّت، وَالثنَاء عَلَيْهِ بِأَن يذكر عَنهُ من أَوْصَاف جميلَة وخصال حميدة.
7631 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فأثْنُوا عَلَيْهَا خَيْرا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرى فأثْنُوا عَلَيْهَا شَرّا فَقَالَ وَجَبَتْ فقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هاذا أثْنَيْتُمْ عليهِ خَيْرا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ وَهاذا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الأرْضِ.
(الحَدِيث 7631 طرفه فِي: 2462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَثْنوا عَلَيْهَا خيرا) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وآدَم هُوَ ابْن إِيَاس.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مروا بِجنَازَة) ، ويروى: (مر بِجنَازَة) ، بِضَم الْمِيم على صِيغَة الْمَجْهُول: (فَأَثْنوا عَلَيْهَا) أَي: على الْجِنَازَة، وأثنوا من الثَّنَاء: بالثاء الْمُثَلَّثَة بعْدهَا النُّون وبالمد، وَهُوَ يسْتَعْمل فِي الْخَيْر وَلَا يسْتَعْمل فِي الشَّرّ، وَقيل: يسْتَعْمل فيهمَا، وَقيل: اسْتِعْمَال الثَّنَاء فِي الشَّرّ لُغَة شَاذَّة. فَإِن قلت: قد عرفت أَن الثَّنَاء الممدودة لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي الْخَيْر، وَكَيف وَقد اسْتعْمل فِي الشَّرّ فِي كَلَام الفصيح؟ قلت: قد قيل هَذَا على اللُّغَة الشاذة، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: اسْتعْمل هَذَا لأجل المشاكلة والتجانس كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 04) . وَأخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من حَدِيث ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: مر بِجنَازَة فَأثْنى عَلَيْهَا خيرا، فَقَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَجَبت وَجَبت وَجَبت، وَمر بِجنَازَة فَأثْنى عَلَيْهَا شرا، فَقَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجَبت وَجَبت وَجَبت) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض، أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض، أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض. .) وَأخرج الْحَاكِم من حَدِيث النَّضر بن أنس: (كنت قَاعِدا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمر بِجنَازَة فَقَالَ: مَا هَذِه الْجِنَازَة؟ قَالُوا: جَنَازَة فلَان الْفُلَانِيّ، كَانَ يحب الله وَرَسُوله وَيعْمل بِطَاعَة الله وَيسْعَى فِيهَا، فَقَالَ: وَجَبت وَجَبت وَجَبت. وَمر بِجنَازَة أُخْرَى فَقَالَ: مَا هَذِه الْجِنَازَة؟ قَالُوا: جَنَازَة فلَان الْفُلَانِيّ، كَانَ يبغض الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيعْمل بِمَعْصِيَة الله وَيسْعَى فِيهَا، فَقَالَ: وَجَبت وَجَبت وَجَبت. قَالُوا: يَا رَسُول الله، قَوْلك فِي الْجِنَازَة وَالثنَاء عَلَيْهَا أثني على الأول خير، وعَلى الآخر شَرّ، فَقلت فيهمَا وَجَبت وَجَبت وَجَبت، فَقَالَ: نعم يَا أَبَا بكر، إِن لله مَلَائِكَة ينْطق على لِسَان بني آدم بِمَا فِي الْمَرْء من الْخَيْر وَالشَّر) . وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ، وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير مَا أبهم من الْخَيْر وَالشَّر فِي حَدِيث الْبَاب، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة: (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجنَازَة فَقيل: هَذَا بئس الرجل، وأثنوا عَلَيْهِ شرا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تعلمُونَ ذَلِك؟ قَالُوا نعم. قَالَ: وَجَبت، وَقَالَ فِي الَّتِي أثنوا عَلَيْهَا خيرا كَذَلِك) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (مروا(8/194)
على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجنَازَة فَأَثْنوا عَلَيْهَا خيرا، فَقَالَ: وَجَبت، ثمَّ مروا بِأُخْرَى فَأَثْنوا عَلَيْهَا شرا، فَقَالَ: وَجَبت، ثمَّ قَالَ: إِن بَعْضكُم على بعض شُهَدَاء) . وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم السَّلَام، شُهَدَاء الله فِي السَّمَاء وَأَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض، إِن بَعْضكُم على بعض شَهِيد) . قَوْله: (وَجَبت) أَي: وَجَبت الْجنَّة فِي الأول، وَوَجَبَت النَّار فِي الثَّانِي، وَالْمرَاد بِالْوُجُوب الثُّبُوت، أَو هُوَ فِي صِحَة الْوُقُوع كالشيء الْوَاجِب، وَحَاصِل الْمَعْنى أَن ثناءهم عَلَيْهِ بِالْخَيرِ يدل على أَن أَفعاله كَانَت خيرا فَوَجَبت لَهُ الْجنَّة، وثناءهم عَلَيْهِ بِالشَّرِّ يدل على أَن أَفعاله كَانَت شرا فَوَجَبت لَهُ النَّار، وَذَلِكَ لِأَن الْمُؤمنِينَ شُهَدَاء بَعضهم على بعض، لما صرح فِي الحَدِيث، والتكرير فِيهِ فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره لتأكيد الْكَلَام وتحقيقه لِئَلَّا يشكوا فِيهِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث عِنْد الْفُقَهَاء إِذا أثنى عَلَيْهِ أهل الْفضل والصدق، لِأَن الفسقة قد يثنون على الفسقة فَلَا يدْخلُونَ فِي معنى هَذَا الحَدِيث، وَالْمرَاد، وَالله أعلم، إِذا كَانَ الثَّنَاء بِالشَّرِّ مِمَّن لَيْسَ لَهُ بعدوٍّ، لِأَنَّهُ قد يكون للرجل الصَّالح الْعَدو، وَإِذا مَاتَ عدوه فَذكر عَن ذَلِك الرجل الصَّالح شرا فَلَا يدْخل الْمَيِّت فِي معنى هَذَا الحَدِيث، لِأَن شَهَادَته كَانَت لَا تجوز عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِن كَانَ عدلا للعداوة والبشر غير معصومين. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز ذكر شَرّ الْمَوْتَى، مَعَ وُرُود الحَدِيث الصَّحِيح عَن زيد بن أَرقم فِي النَّهْي عَن سبّ الْمَوْتَى وَذكرهمْ إلاَّ بِخَير. وَأجِيب: بِأَن النَّهْي عَن سبّ الْأَمْوَات غير الْمُنَافِق وَالْكَافِر والمجاهر بِالْفِسْقِ أَو بالبدعة، فَإِن هَؤُلَاءِ لَا يحرم، وَذكرهمْ بِالشَّرِّ للحذر من طريقهم، وَمن الِاقْتِدَاء بهم، وَقيل: لَا بُد أَن يكون ثناؤهم مطابقا لأفعاله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون النَّهْي عَن سبّ الْمَوْتَى مُتَأَخِّرًا عَن هَذَا الحَدِيث، فَيكون نَاسِخا، وَقيل: حَدِيث أنس الْمَذْكُور يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة فِي الْأَحْيَاء، فَإِن كَانَ الرجل أغلب أَحْوَاله الْخَيْر، وَقد يكون مِنْهُ الْغَلَبَة فالإغتياب لَهُ محرم، وَإِن كَانَ فَاسِقًا مُعْلنا فَلَا غيبَة فِيهِ، فَكَذَلِك الْمَيِّت، فَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يُنْهِي عَنهُ من سبّ الْأَمْوَات، وَقَالَ بَعضهم: الثَّنَاء على عُمُومه لكل مُسلم مَاتَ، فَإِذا ألهم الله النَّاس، أَو معظمهم، الثَّنَاء عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك دَلِيلا أَنه من أهل الْجنَّة، سَوَاء كَانَت أَفعاله تَقْتَضِي ذَلِك أم لَا، لِأَنَّهُ، وَإِن لم تكن أَفعاله مقتضية فَلَا تتحتم عَلَيْهِ الْعقُوبَة، بل هُوَ فِي الْمَشِيئَة، فَإِذا ألهم الله النَّاس الثَّنَاء عَلَيْهِ استدللنا بذلك أَن الله تَعَالَى قد شَاءَ الْمَغْفِرَة لَهُ، وَبِهَذَا تظهر فَائِدَة الثَّنَاء فِي قَوْله: (وَجَبت) ، وَقيل: هَذَا خَاص بالمثنين الْمَذْكُورين لغيب أطلع الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، ورد بِأَن كلمة: من، تستدعي الْعُمُوم والتخصيص بِلَا مُخَصص، لَا يجوز. قَوْله: (أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض) . الْخطاب للصحابة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلمن كَانَ على صفتهمْ من الْإِيمَان، وَحكى ابْن التِّين أَن ذَلِك مَخْصُوص بالصحابة لأَنهم كَانُوا ينطقون بالحكمة بِخِلَاف من بعدهمْ، ثمَّ قَالَ: وَالصَّوَاب أَن ذَلِك يخْتَص بالثقات والمتقين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الظَّاهِر أَن الَّذِي أثنوا عَلَيْهِ شرا كَانَ من الْمُنَافِقين. قلت: ويستأنس لما قَالَه بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي قَتَادَة بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ على الَّذِي أثنوا عَلَيْهِ شرا، وَصلى على الآخر.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِيهِ: دلَالَة على جَوَاز ذكر الْمَرْء بِمَا يُعلمهُ إِذا وَقعت الْحَاجة إِلَيْهِ، نَحْو سُؤال القَاضِي الْمُزَكي وَنَحْوه.
8631 - حدَّثنا عَفَّانُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا دَاوُدُ بنُ أبي الفُرَاتِ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عنْ أبِي الأسْوَدِ قَالَ قَدِمْتُ المَدِينَةَ وقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ فَجَلَسْتُ إلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فَمَرَّ بِهِمْ جَنَازَةُ فأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرا فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فأُثْنِيَ عَلَى صاحِبِهَا خَيْرا فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شرَّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ أبُو الأسْوَدِ فقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ فقُلْنَا وثَلاَثَةٌ قَالَ وثَلاَثَةٌ فقُلْنَا واثْنَان قالَ واثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْألْهُ عنِ الوَاحِدِ.
(الحَدِيث 8631 طرفه فِي: 3462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قَوْله: (حَدثنَا) ، كَذَا وَقع لأكْثر الروَاة، وَذكر أَصْحَاب الْأَطْرَاف أَنه أخرجه قَائِلا: قَالَ عَفَّان،(8/195)
وَبِذَلِك جزم الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا عَن شَيْخه، فَقَالَ: وَقَالَ عَفَّان، وَقَالَهُ أَيْضا أَبُو الْعَبَّاس الطرقي، وَخلف فِي كتاب (الْأَطْرَاف) : وَالَّذِي فِي نسخه سَمَاعنَا: حَدثنَا عَفَّان، وعَلى تَقْدِير صِحَة الأول فقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي (صَحِيحه) فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عَفَّان إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَفَّان، بتَشْديد الْفَاء: ابْن مُسلم، بِكَسْر اللَّام الْخَفِيفَة: الصفار. الثَّانِي: دَاوُد بن أبي الْفُرَات، بِلَفْظ النَّهر الْمَشْهُور، وَاسم أبي الْفُرَات: عَمْرو، وَهُوَ كندي وَلَهُم شيخ آخر يُقَال لَهُ: دَاوُد بن أبي الْفُرَات، وَاسم أَبِيه: بكر، وَاسم جده: أَبُو الْفُرَات، وَهُوَ أشجعي من أهل الْمَدِينَة أقدم من الْكِنْدِيّ. الثَّالِث: عبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، مر فِي أَوَاخِر كتاب الْحيض. الرَّابِع: أَبُو الْأسود ظَالِم بن عَمْرو بن سُفْيَان من سَادَات التَّابِعين، ولي الْبَصْرَة وَهُوَ أول من تكلم فِي النَّحْو بعد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ، وَهُوَ الْمَشْهُور بالدؤلي، وَفِيه اختلافات: فَقيل، بِضَم الدَّال وَسُكُون الْوَاو وبالضم والهمزة الْمَفْتُوحَة، قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ بِالضَّمِّ وَكسر الْهمزَة، إلاَّ أَنهم فتحُوا الْهمزَة فِي النِّسْبَة استثقالاً للكسرتين، وياء النِّسْبَة، وَرُبمَا قَالُوا: بِضَم الدَّال وَفتح الْوَاو المقلوبة عَن الْهمزَة، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: بِكَسْر الدَّال وقلب الْهمزَة يَاء. الْخَامِس: عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَفَّان بن مُسلم الصفار مَذْكُور فِي بعض النّسخ بالصفار وَفِي بَعْضهَا بِدُونِهِ. وَفِيه: رِوَايَة عبد الله بن بُرَيْدَة معنعنة عَن أبي الْأسود، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (التتبع) عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ أَن ابْن بُرَيْدَة إِنَّمَا يروي عَن يحيى بن يعمر عَن أبي الْأسود، وَلم يقل فِي هَذَا الحَدِيث: سَمِعت أَبَا الْأسود، قيل: إِن ابْن بُرَيْدَة ولد فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فقد أدْرك أَبَا الْأسود بِلَا ريب، لَكِن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا يَكْتَفِي بالمعاصرة فَلَعَلَّهُ أخرجه شَاهدا، وَاكْتفى للْأَصْل بِحَدِيث أنس الَّذِي قبله. وَفِيه: قَالَ الْكرْمَانِي: وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم بصريون. قلت: دَاوُد مروزي، وَلكنه تحول إِلَى الْبَصْرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن دَاوُد بن أبي الْفُرَات، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز، وَقَالَ: حَدثنَا يحيى بن مُوسَى وَهَارُون بن عبد الله الْبَزَّار، قَالَا: حَدثنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا دَاوُد بن أبي الْفُرَات حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة (عَن أبي الْأسود الديلِي، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة فَجَلَست إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَمروا بِجنَازَة فَأَثْنوا عَلَيْهَا خيرا، فَقَالَ عمر: وَجَبت، فَقلت لعمر: مَا وَجَبت؟ قَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا من مُسلم يشْهد لَهُ ثَلَاثَة إلاَّ وَجَبت لَهُ الْجنَّة. قُلْنَا: وإثنان؟ قَالَ: وإثنان، قَالَ: وَلم نسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْوَاحِد) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَفِي لَفظه: (أَرْبَعَة) مثل لفظ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدمت الْمَدِينَة) أَي: مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَقد وَقع مرض) ، جملَة حَالية، وَزَاد البُخَارِيّ فِي الشَّهَادَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن دَاوُد بن أبي الْفُرَات: (وهم يموتون موتا ذريعا) ، وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، أَي: سَرِيعا. قَوْله: (فَجَلَست إِلَى عمر) ، يحْتَمل أَن يكون إِلَى هَهُنَا على بَابه بِمَعْنى الِانْتِهَاء والغاية، وَالْمعْنَى انْتهى جلوسي إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْأَوْجه أَن يكون إِلَى هَهُنَا بِمَعْنى: عِنْد، أَي: جَلَست عِنْد عمر كَمَا قَالَ فِي قَول الشَّاعِر:
(أم لَا سَبِيل إِلَى الشَّبَاب وَذكره ... أشهى إِلَيّ من الرَّحِيق السلسل)
قَوْله: (فَأثْنى على صَاحبهَا خيرا) بِنصب: خيرا، فِي أَكثر الْأُصُول، وَكَذَا شرا. ويروى: (خير وَشر) ، بِالرَّفْع فيهمَا، وأثني على صِيغَة الْمَجْهُول. فَوجه النصب مَا قَالَه ابْن بطال: إِنَّه أَقَامَ الْجَار وَالْمَجْرُور مقَام الْمَفْعُول الأول، وَخيرا مقَام الْمَفْعُول الثَّانِي. وَقَالَ ابْن مَالك: خيرا، صفة لمصدر مَحْذُوف وأقيمت مقَامه فنصب لِأَن: أثنى، مُسْند إِلَى الْجَار وَالْمَجْرُور، والتفاوت بَين الْإِسْنَاد إِلَى الْمصدر والإسناد إِلَى الْجَار وَالْمَجْرُور قَلِيل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَنْصُوب بِإِسْقَاط الْجَار أَي: فَأثْنى عَلَيْهَا بِخَير، وَوجه الرّفْع ظَاهر، وَهُوَ أَن: أُثنى، مُسْند إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّوَاب بِالرَّفْع، وَفِي نَصبه بعد فِي اللِّسَان. قَوْله: (وَجَبت) أَي: الْجنَّة، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (قَالَ أَبُو الْأسود) وَهُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَمَا وَجَبت؟) اسْتِفْهَام عَن(8/196)
معنى الْوُجُوب فيهمَا مَعَ اخْتِلَاف الثَّنَاء بِالْخَيرِ وَالشَّر. قَوْله: (أَيّمَا مُسلم) إِلَى آخِره، مقول قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (شهد لَهُ أَرْبَعَة) أَي: أَرْبَعَة من الْمُسلمين، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ثَلَاثَة، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اخْتِلَاف هَذَا الْعدَد حَيْثُ جَاءَ أَرْبَعَة وَثَلَاثَة وَاثْنَانِ؟ قلت: لاخْتِلَاف الْمعَانِي، لِأَن الثَّنَاء قد يكون بِالسَّمَاعِ الفاشي على الْأَلْسِنَة فاستحب فِي ذَلِك التَّوَاتُر وَالْكَثْرَة، وَالشَّهَادَة لَا تكون إلاَّ بالمعرفة بأحوال الْمَشْهُود لَهُ، فَيَأْتِي فِي ذَلِك أَرْبَعَة شُهَدَاء، لِأَن ذَلِك أَعلَى مَا يكون من الشَّهَادَة، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى جعل فِي الزِّنَى أَرْبَعَة شُهَدَاء، فَإِن قصروا يَأْتِي فِيهِ ثَلَاثَة، فَإِن قصروا فِيهِ يَأْتِي فِيهِ شَاهِدَانِ؟ لِأَن ذَلِك أقل مَا يَجْزِي فِي الشَّهَادَة على سَائِر الْحُقُوق رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ، وتجاوزا عَنْهُم حَيْثُ أجْرى أُمُورهم فِي الْآخِرَة على نمط أُمُورهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لم يسْأَلُوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْوَاحِد، حَيْثُ قَالَ: (ثمَّ لم نَسْأَلهُ عَن الْوَاحِد) أَي: ثمَّ لم نسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثَنَاء الشَّخْص الْوَاحِد: هَل يَكْتَفِي بِهِ؟ وَذَلِكَ أَن هَذَا الْمقَام مقَام عَظِيم فَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَقَلّ من النّصاب. فَإِن قلت: هَل يخْتَص الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِالرِّجَالِ أم يشْتَرك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء، فَإِذا قُلْنَا: يشتركون فِيهِ، فَهَل يَكْتَفِي فِي ذَلِك بامرأتين؟ أَو لَا بُد من رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو أَربع نسْوَة؟ قلت: الظَّاهِر الِاكْتِفَاء بِاثْنَيْنِ مُسلمين، وَإنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى قيام امْرَأتَيْنِ مقَام رجل وَاحِد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير من رِوَايَة إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن قسطاس عَن سعد بن إِسْحَاق بن كَعْب بن عجْرَة عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا لأَصْحَابه: (مَا تَقولُونَ فِي رجل قتل فِي سَبِيل الله؟ قَالُوا: ألله وَرَسُوله أعلم. قَالَ الْجنَّة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل فَقَالَا: لَا نعلم إلاَّ خيرا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: الْجنَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي رجل مَاتَ فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل، فَقَالَا: لَا نعلم خيرا، فَقَالُوا: النَّار، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مذنب، وَالله غَفُور رَحِيم) . فقد يُقَال: لَا يكْتَفى بِشَهَادَة النِّسَاء، ألاَ يُرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكتف بِشَهَادَة الْمَرْأَة الَّتِي أثنت على عُثْمَان بن مَظْعُون بقولِهَا: شهادتي عَلَيْك أَبَا السَّائِب، فَقَالَ لَهَا: وَمَا يدْريك؟ وَقد يُجَاب عَنهُ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أنكر عَلَيْهَا الْقطع بِأَن الله أكْرمه، وَذَلِكَ مغيب عَنْهَا، بِخِلَاف الشَّهَادَة للْمَيت بأفعاله الجميلة الَّتِي كَانَ متلبسا بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، والْحَدِيث الَّذِي فِيهِ قَضِيَّة عُثْمَان بن مَظْعُون رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث حَارِثَة بن زيد: أَن أم الْعَلَاء امْرَأَة من الْأَنْصَار قد بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرته أَنهم اقتسموا للمهاجرين قرعَة، فطار لنا عُثْمَان بن مَظْعُون فأنزلناه فِي أَبْيَاتنَا، فوجع وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا توفّي وَغسل وكفن فِي أثوابه دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا عُثْمَان بن مَظْعُون، رَحْمَة الله عَلَيْك أَبَا السَّائِب، فشهادتي عَلَيْك، لقد أكرمك الله تَعَالَى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا يدْريك أَن الله أكْرمه؟ فَقلت: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، فَمن؟ فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما هُوَ فقد جَاءَهُ الْيَقِين فوَاللَّه إِنِّي لأرجو لَهُ الْخَيْر وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَاذَا يفعل بِي قَالَت فوَاللَّه مَا أزكي بعده أحدا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. فَإِن قلت: هَل يخْتَص الثَّنَاء الَّذِي ينفع الْمَيِّت بِكَوْنِهِ مِمَّن خالطه وَعرف حَاله أم هُوَ على عُمُومه؟ قلت: الظَّاهِر الأول بِدَلِيل قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ رَسُول الله: (مَا من مُسلم يَمُوت فَيشْهد لَهُ أَرْبَعَة من أهل أَبْيَات من جِيرَانه الأدنين أَنهم لَا يعلمُونَ إلاَّ خيرا، إلاَّ قَالَ الله تَعَالَى: قد قبلت علمكُم وغرت لَهُ مَا لَا تعلمُونَ) . فَإِن قلت: هَل ينفع الثَّنَاء على الْمَيِّت بِالْخَيرِ وَإِن خَالف الْوَاقِع أم لَا بُد أَن يكون الثَّنَاء عَلَيْهِ مطابقا للْوَاقِع؟ قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء أصَحهمَا أَن ذَلِك يَنْفَعهُ، وَأَن لم يُطَابق الْوَاقِع لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يَنْفَعهُ إلاَّ بالموافقة لم يكن للثناء فَائِدَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة فرات بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن العَبْد سيرزق الثَّنَاء والستر وَالْحب من النَّاس حَتَّى تَقول الْحفظَة: رَبنَا إِنَّك تعلم ونعلم غير مَا يَقُولُونَ، فَيَقُول: أشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ مَا لَا يعلمُونَ، وَقبلت شَهَادَتهم على مَا يَقُولُونَ) . فَإِن قلت: الحَدِيث(8/197)
الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى يدل على أَن المُرَاد الثَّنَاء المطابق بِدَلِيل قَوْله: (قد قبلت علمكُم) ، وَالْعلم لَا يُخَالف الْوَاقِع. قلت: المُرَاد بِالْعلمِ: الشَّهَادَة، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يعلى عَن ابْن عمر، وَكَذَلِكَ فِي (مُسْند أَحْمد) فِي هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة: (قد قبلت شَهَادَتهم) ، وَمعنى قَوْله: (غفرت لَهُ مَا لَا يعلمُونَ) ، أَي: من الذُّنُوب الَّتِي لم يطلعوا عَلَيْهَا. فَإِن قلت: عل تشْتَرط فِي هَذِه الشَّهَادَة الْعَدَالَة كَسَائِر الشَّهَادَات؟ أم تَكْفِي فِي ذَلِك شَهَادَة الْمُسلمين وَإِن لم يَكُونُوا بِوَصْف الْعَدَالَة المشترطة فِي الشَّهَادَة؟ قلت: يدل على الأول حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (فَقَامَ رجلَانِ ذَوا عدل) ، وعَلى الثَّانِي يدل ظَاهر حَدِيث الْبَاب، وَمَعَ هَذَا الأَصْل فِي الشَّهَادَة الْعَدَالَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: فَضِيلَة هَذِه الْأمة. وَفِيه: إِعْمَال الحكم بِالظَّاهِرِ. وَفِيه: جَوَاز ذكر الْمَرْء بِمَا فِيهِ من خير أَو شَرّ للْحَاجة، وَلَا يكون ذَلِك من الْغَيْبَة، وَذكر الْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ إِبَاحَة الْعلمَاء الْغَيْبَة فِي سِتَّة مَوَاضِع، فَهَل تُبَاح فِي حق الْمَيِّت أَيْضا؟ وَإِن مَا جَازَ غيبَة الْحَيّ بِهِ جَازَت غيبَة الْمَيِّت بِهِ، أم يخْتَص جَوَاز الْغَيْبَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع المستثناة بِالْإِحْيَاءِ، يَنْبَغِي أَن ينظر فِي السَّبَب الْمُبِيح للغيبة إِن كَانَ قد انْقَطع بِالْمَوْتِ كالمصاهرة والمعاملة، فَهَذَا لَا يذكر فِي حق الْمَيِّت، لِأَنَّهُ قد انْقَطع ذَلِك بِمَوْتِهِ، وَإِن لم يَنْقَطِع ذَلِك بِمَوْتِهِ كجرح الروَاة وَكَونه يُؤْخَذ عَنهُ اعْتِقَاد أَو نَحوه فَلَا بَأْس بِذكرِهِ بِهِ ليحذر ويتجنب. وَفِيه: جَوَاز الشَّهَادَة قبل الاستشهاد. وَفِيه: اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ سَأَلَ عَن الثَّلَاثَة وَلم يسْأَل عَمَّا فَوق الْأَرْبَعَة كالخمسة مثلا. وَفِيه: أم مَفْهُوم الْعدَد لَيْسَ دَلِيلا قَطْعِيا، بل هُوَ فِي مقَام الِاحْتِمَال.
68 - (بابُ مَا جاءَ فِي عَذَابِ القَبْرِ وقولهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَراي إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلاَئِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِم أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} (الْأَنْعَام: 39) . الهُونُ هُوَ الهَوَانُ والهَوْنُ الرِّفْقُ. وقولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيم} وَقولُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذَابِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي حقية عَذَاب الْقَبْر، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى مُجَرّد وجود عَذَاب الْقَبْر دون التَّعَرُّض أَنه يَقع على الرّوح وَحده أَو عَلَيْهِ وعَلى الْبدن. وَفِي هَذَا الْبَاب خلاف مَشْهُور بَين أهل السّنة والمعتزلة، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة الثَّلَاث تَنْبِيها على ثُبُوت ذكر عَذَاب الْقَبْر فِي الْقُرْآن، وردا على من ادّعى عدم ذكره فِي الْقُرْآن، وَأَن ذكره ورد فِي أَخْبَار الْآحَاد الْآيَة الأولى هُوَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْعَام: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: 39) . أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله، و: قَوْله تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: عَذَاب الْقَبْر. قَوْله: {وَلَو ترى} (الْأَنْعَام: 39) . خطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف أَي: لرأيت أمرا عجيبا عَظِيما وَكلمَة إِذْ ظرف مُضَاف إِلَى جملَة إسمية، وَهِي قَوْله: {الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: 39) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يُرِيد الظَّالِمين الَّذين ذكرهم من الْيَهُود والمتنبئة فَتكون اللَّام للْعهد، وَيجوز أَن تكون للْجِنْس فَيدْخل فِيهِ هَؤُلَاءِ لاشْتِمَاله، وَقَالَ غَيره: المُرَاد من الظَّالِمين هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة أخرجهم الْكفَّار إِلَى قتال بدر، فَلَمَّا أبصروا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجعُوا عَن الْإِيمَان، وَقيل: هم الَّذين قَالُوا: {مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} (الْأَنْعَام: 19) . قَوْله: {فِي غَمَرَات الْمَوْت} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: فِي شدائده وَسَكَرَاته وكرباته وَهُوَ جمع غمرة، وأصل الغمرة مَا يغمر من المَاء فاستعيرت للشدة الْغَالِبَة. قَوْله: {باسطوا أَيْديهم} (الْأَنْعَام: 39) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يبسطون إِلَيْهِم، يَقُول: هاتوا أرواحكم أخرجوها إِلَيْنَا من أجسادكم، وَهَذِه عبارَة عَن العنف فِي السِّيَاق والإلحاح وَالتَّشْدِيد فِي الإزهاق من غير تَنْفِيس، وإمهال. وَقَالَ اضحاك وَأَبُو صَالح: باسطوا أَيْديهم بِالْعَذَابِ، وروى الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام: 39) . الْآيَة، قَالَ: هَذَا عِنْد الْمَوْت، والبسط: الضَّرْب، يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قبل الدّفن؟ قلت: هَذَا من جملَة الْعَذَاب(8/198)
الْوَاقِع قبل يَوْم الْقِيَامَة وَإِضَافَة الْعَذَاب إِلَى الْقَبْر لِكَثْرَة وُقُوعه على الْمَوْتَى فِي الْقُبُور، وإلاَّ فالكافر، وَمن شَاءَ الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد مَوته، وَلَو لم يدْفن، وَلَكِن هَذَا مَحْجُوب عَن الْخلق إلاَّ من شَاءَ الله تَعَالَى لحكمة اقْتَضَت ذَلِك. قَوْله: {أخرجُوا أَنفسكُم} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: تَقول الْمَلَائِكَة أخرجُوا أَنفسكُم، وَذَلِكَ لِأَن الْكَافِر إِذا احْتضرَ بَشرته الْمَلَائِكَة بِالْعَذَابِ والنكال والسلاسل والجحيم وَغَضب الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَتفرق روحه فِي جسده ويعصى ويأبى الْخُرُوج، فتضر بهم الْمَلَائِكَة حَتَّى تخرج أَرْوَاحهم من أَجْسَادهم قائلين لَهُم: أخرجُوا أَنفسكُم. وَقيل: مَعْنَاهُ أخرجُوا أَنفسكُم من الْعَذَاب إِن قدرتم تقريعا لَهُم وتوبيخا. وَاخْتلف فِي النَّفس وَالروح فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر وَأَصْحَابه: إنَّهُمَا إسمان لشَيْء وَاحِد. وَقَالَ ابْن حبيب: الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي يدْخل وَيخرج لَا حَيَاة للنَّفس إلاَّ بِهِ. وَالنَّفس يألم ويلذ، وَالروح لَا يألم وَلَا يلذ، وَعَن ابْن الْقَاسِم عَن عبد الرَّحْمَن بن خلف: بَلغنِي أَن الرّوح لَهُ جَسَد ويدان ورجلان وَرَأس وعينان يسل من الْجَسَد سلاً، وَعَن ابْن الْقَاسِم: الرّوح مثل المَاء الْجَارِي. قَوْله: {الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} (الْأَنْعَام: 39) . أَي: الْيَوْم تهانون غَايَة الإهانة بِمَا كُنْتُم تكفرون على الله وتستكبرون عَن اتِّبَاع آيَاته والانقياد لرسله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْيَوْم تُجْزونَ، يجوز أَن يُرِيدُوا وَقت الإماتة، وَمَا يُعَذبُونَ بِهِ من شدَّة النزع، وَأَن يُرِيدُوا الْوَقْت الممتد المتطاول الَّذِي يلحقهم فِيهِ الْعَذَاب فِي البرزخ وَالْقِيَامَة، وَفسّر البُخَارِيّ الْهون بقوله: هُوَ الهوان، وَهُوَ الهوان الشَّديد وَإِضَافَة الْعَذَاب إِلَيْهِ كَقَوْلِك: رجل سوء يُرِيد العراقة فِي الْهون والتمكن فِيهِ. قَوْله: (والهون الرِّفْق) أَي: الْهون، بِفَتْح الْهَاء مَعْنَاهُ الرِّفْق مَا قَالَ فِي قَوْله: {الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} (الْفرْقَان: 36) . أَي بِرِفْق وسكينة.
الْآيَة الثَّانِيَة هِيَ قَوْله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} (التَّوْبَة: 101) . أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله: وَقَوله، عز وَجل، بِالْجَرِّ أَيْضا عطفا على مَا قبله، وَهَذِه الْآيَة فِي سُورَة الْبَرَاءَة، وَقبلهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} (التَّوْبَة: 101) . وَقَالَ مُجَاهِد: مرَّتَيْنِ الْقَتْل والسبي، وَعنهُ: الْعَذَاب بِالْجُوعِ وَعَذَاب الْقَبْر، وَقيل: الفضيحة وَعَذَاب الْقَبْر، وروى الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ عَن أبي مَالك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ: أخرج يَا فلَان فَإنَّك مُنَافِق، واخرج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق، فَأخْرج من الْمَسْجِد نَاسا مِنْهُم فضحهم، فجَاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وهم يخرجُون من الْمَسْجِد فاختبىء مِنْهُم حَيَاء أَنه لم يشْهد الْجُمُعَة، وَظن أَن النَّاس قد انصرفوا، واختبأوا هم عَن عمر ظنُّوا أَنه قد علم بأمرهم، فجَاء عمر فَدخل الْمَسْجِد فَإِذا النَّاس لم يصلوا، فَقَالَ لَهُ رجل من الْمُسلمين: أبشر يَا عمر، فقد فَضَح الله الْمُنَافِقين. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَهَذَا الْعَذَاب الأول حِين أخرجهم من الْمَسْجِد، وَالْعَذَاب الثَّانِي عَذَاب الْقَبْر، وَكَذَا قَالَ الثَّوْريّ عَن السّديّ عَن أبي مَالك نَحْو هَذَا.
الْآيَة الثَّالِثَة هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وحاق بآل فِرْعَوْن} (غَافِر، الْمُؤمن، 54) . إِلَى قَوْله: {أَشد الْعَذَاب} (غَافِر، الْمُؤمن: 54) . وَهِي فِي سُورَة الْمُؤمن الَّتِي تسمى بِسُورَة غَافِر أَيْضا، وَمعنى: {حاق بآل فِرْعَوْن} (غَافِر، الْمُؤمن: 54) . يَعْنِي: نزل بهم سوء الْعَذَاب، يَعْنِي شدَّة الْعَذَاب. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وحاق بآل فِرْعَوْن مَا هموا بِهِ من تَعْذِيب الْمُسلمين، وَرجع عَلَيْهِم كيدهم، يُقَال: حاق بِهِ الشَّيْء يَحِيق، أَي: أحاطه بِهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السىء إلاَّ بأَهْله} (فاطر: 34) . وحاق بهم الْعَذَاب أَي: أحَاط بهم، وَنزل قَوْله: {النَّار يعرضون} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . بدل من قَوْله: {سوء الْعَذَاب} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . أَو خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف كَأَن قَائِلا يَقُول: مَا سوء الْعَذَاب؟ فَقيل: هُوَ النَّار، أَو مُبْتَدأ وَخَبره: {يعرضون عَلَيْهَا} (غَافِر الْمُؤمن: 54) . وعرضهم عَلَيْهَا إحراقهم بهَا، يُقَال: عرض الْأُسَارَى على السَّيْف إِذا قَتلهمْ بِهِ، وقرىء: النَّار، بِالنّصب وَتَقْدِيره: يدْخلُونَ النَّار يعرضون عَلَيْهَا، وَيجوز أَن ينْتَصب على الِاخْتِصَاص. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يعرضون يَعْنِي: أَرْوَاحهم على النَّار غدوا وعشيا، يَعْنِي: فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَقَالَ مقَاتل: تعرض روح كل كَافِر على مَنَازِلهمْ من النَّار كل يَوْم مرَّتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي: الْآيَة تدل على عَذَاب الْقَبْر، لِأَنَّهُ ذكر دُخُولهمْ النَّار يَوْم الْقِيَامَة، وَذَلِكَ أَنه يعرض عَلَيْهِم النَّار قبل ذَلِك غدوا وعشيا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن أَرْوَاح آل فِرْعَوْن فِي أَجْوَاف طير سود تعرض على النَّار مرَّتَيْنِ، يُقَال لَهُم: هَذِه داركم. وَقَالَ مُجَاهِد: غدوا وعشيا من أَيَّام الدُّنْيَا، وَقَالَ الْفراء: لَيْسَ فِي الْقِيَامَة غدو وَلَا عشي، لَكِن مِقْدَار ذَلِك، وَيرد عَلَيْهِ قَوْله: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة} (غَافِر وَالْمُؤمن: 54) . فَدلَّ على أَن الأول بِمَنْزِلَة عَذَاب الْقَبْر، وَحَدِيث الْبَراء مُفَسّر لِلْآيَةِ، قَوْله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة} (غَافِر الْمُؤمن: 54) . يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: أدخلُوا آل فِرْعَوْن. قَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر وَأَبُو عمر: وادخلوا، بِضَم(8/199)
الْهمزَة، وَهَكَذَا قَرَأَ عَاصِم فِي رِوَايَة أبي بكر. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح الْهمزَة، فَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: أدخلُوا يَا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، فَصَارَ الْآل نصبا بالنداء، وَمن قَرَأَ: أدخلُوا، بِفَتْح الْهمزَة، فَمَعْنَاه يُقَال للخزنة: أدخلُوا آل فِرْعَوْن، يَعْنِي قوم فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، يَعْنِي أَشد الْعقَاب، وَصَارَ الْآل نصبا لوُقُوع الْفِعْل عَلَيْهِ.
9631 - حدَّثنا حفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَدٍ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ إذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أنْ لَا إِلَه إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّدا رسولُ الله فَذالِكَ قولُهُ {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (إِبْرَاهِيم: 72) .
(الحَدِيث 9631 طرفه فِي: 9964) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أصل الحَدِيث فِي عَذَاب الْقَبْر، كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وفيهَا: وَزَاد {يثبت الله الَّذين آمنُوا} (ابراهيم: 72) . نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث الحوضي النمري الْأَزْدِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عَلْقَمَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة. الرَّابِع: سعد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي آخر الْوضُوء. الْخَامِس: الْبَراء، بتَخْفِيف الرَّاء: ابْن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وعلقمة وَسعد كوفيان. وَفِيه: شُعْبَة عَن عَلْقَمَة مُعَنْعَن، وَفِي التَّفْسِير صرح بالإخبار عَنهُ، وَكَذَلِكَ صرح أَيْضا بِالسَّمَاعِ بَين عَلْقَمَة وَسعد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز: عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي التَّفْسِير: عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن بنْدَار بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن أبي الْوَلِيد بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز وَفِي التَّفْسِير. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد جَمِيعًا عَن بنْدَار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُتِي) ، بِضَم الْهمزَة أَي حَال كَونه مأتيا إِلَيْهِ، والآتي الْملكَانِ: مُنكر وَنَكِير. قَوْله: (ثمَّ شهد) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (ثمَّ تشهد) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة عَن حَفْص بن عمر شيخ البُخَارِيّ: (إِن الْمُؤمن إِذا شهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله وَعرف مُحَمَّدًا فِي قَبره فَذَلِك قَوْله: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَأخرجه ابْن مرْدَوَيْه من هَذَا الْوَجْه وَغَيره بِلَفْظ: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر عَذَاب الْقَبْر، فَقَالَ: إِن الْمُسلم إِذا شهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَعرف أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله) الحَدِيث. قَوْله: (فَذَلِك قَوْله) ، يَعْنِي: قَول الْمُؤمن لَا إلاه إلاَّ الله، هُوَ قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَالْقَوْل الثَّابِت هُوَ كلمة التَّوْحِيد لِأَنَّهَا راسخة فِي قلب الْمُؤمن. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، {وَيثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (إِبْرَاهِيم: 72) . لَا إلاه إلاَّ الله، وَفِي الْآخِرَة قَالَ: الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر) . وَقَالَ قَتَادَة: أما الْحَيَاة الدُّنْيَا فيثبتهم بِالْخَيرِ وَالْعَمَل الصَّالح، وَفِي الْآخِرَة فِي الْقَبْر، وَكَذَا رُوِيَ عَن غير وَاحِد من السّلف، وَذكر ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} ) (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: ذَلِك إِذا قيل لَهُ فِي الْقَبْر: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ فَيَقُول: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، ونبيي مُحَمَّد جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ من عِنْد الله، فآمنت بِهِ وصدقت. فَيُقَال: صدقت، على هَذَا عِشْت وَعَلِيهِ مت وَعَلِيهِ تبْعَث) . وَقَالَ أَيْضا قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي خَيْثَمَة عَن الْبَراء فِي قَوْله: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: عَذَاب الْقَبْر.(8/200)
0731 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنِ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ بِهاذا وَزَادَ {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا} (إِبْرَاهِيم: 72) . نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ.
هَذَا طَرِيق آخر للْبُخَارِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر غير مرّة، وَفِيه زِيَادَة أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله: وَزَاد. . إِلَى آخِره، وبهذه الزِّيَادَة أخرجه مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار بن عُثْمَان الْعَبْدي حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة (عَن الْبَراء بن عَازِب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} (إِبْرَاهِيم: 72) . قَالَ: نزلت فِي عَذَاب الْقَبْر) .
0731 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثَنِي أبي عنْ صَالِحٍ قَالَ حدَّثني نافِعٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبرهُ قَالَ اطَّلَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أهْلِ القَلِيبِ فَقَالَ {وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} (الْأَعْرَاف: 44) . فَقِيلَ لَهُ أتَدْعُو أمْوَاتا فَقَالَ مَا أنْتُمْ بِأسْمَعَ منْهُمْ وَلاكِنْ لاَ يُجِيبُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاهد أهل القليب، قليب بدر، وهم يُعَذبُونَ فَلذَلِك قَالَ: {وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} (الْأَعْرَاف: 44) . يَعْنِي: من الْعَذَاب فِي الْقَبْر قبل يَوْم الْقِيَامَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ. الثَّالِث: أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ فَإِن صَالحا رأى عبد الله بن عمر، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقَالَ: مَاتَ: بعد الْأَرْبَعين وَالْمِائَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي: حَدثنِي عُثْمَان حَدثنَا عَبدة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (وقف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قليب بدر، فَقَالَ: هَل {وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا ... } (الْأَعْرَاف: 44) . الحَدِيث. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي كريب وَأبي بكر ابْن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إطلع) أَي: شَاهد أهل القليب، وَحضر عِنْدهم وهم: أَبُو جهل بن هِشَام وَأُميَّة بن خلف وَعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة واطلع عَلَيْهِ وهم مقتولون فَقَالَ مَا قَالَ، ثمَّ أَمرهم فسحبوا فَألْقوا فِي قليب بدر، والقليب، بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الْبِئْر قبل أَن يطوى، يذكر وَيُؤَنث، وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة وَجمع الْقلَّة: أقلبة، وَالْكثير: قلب، بِضَمَّتَيْنِ وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: قليب بدر، وَبَينه فِي الحَدِيث بقوله: (قليب بدر) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ بدل عَن قَوْله: (أهل القليب) . قَوْله: (وهم يُعَذبُونَ) جملَة حَالية، وَلما رَآهُمْ وهم يُعَذبُونَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} (الْأَعْرَاف: 44) . قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْقَائِل هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم فِي رِوَايَة أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك قَتْلَى بدر ثَلَاثًا، ثمَّ أَتَاهُم فَقَامَ عَلَيْهِم فناداهم، فَقَالَ: يَا أَبَا جهل ابْن هِشَام يَا أُميَّة بن خلف يَا عتبَة بن ربيعَة يَا شيبَة بن ربيعَة أَلَيْسَ قد وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟ فَإِنِّي قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا، فَسمع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيفَ يسمعوا وأنى يجيبوا وَقد جيفوا؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم. وَلَكنهُمْ لَا يقدرُونَ أَن يجيبوا ثمَّ أَمر بهم فسحبوا فَألْقوا فِي قليب بدر) . قَوْله (وَلَكِن لَا يجيبون) أَي لَا يقدرُونَ على الْجَواب فَعلم أَن فِي الْقَبْر حَيَاة فيصلح الْعَذَاب فِيهِ
1731 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّمَا قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أنَّ مَا كُنْتُ أقُولُ حَقٌّ وقَدْ(8/201)
قَالَ الله تَعَالَى إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّهُم يعلمُونَ الْآن أَن مَا كنت أَقُول حق) ، وَالَّذِي كَانَ يَقُوله هُوَ من عَذَاب الْقَبْر وَغَيره. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر حَدِيث ابْن عمر وَحَدِيث عَائِشَة وهما متعارضان فِي تَرْجَمَة عَذَاب الْقَبْر؟ قلت: لما ثَبت من سَماع أهل القليب كَلَامه وتوبيخه لَهُم دلّ إدراكهم كَلَامه بحاسة السّمع على جَوَاز إدراكهم ألم الْعَذَاب بِبَقِيَّة الْحَواس فَحسن ذكرهمَا فِي هَذِه التَّرْجَمَة ثمَّ التَّوْفِيق بَين الْخَبَرَيْنِ أَن حَدِيث ابْن عمر مَحْمُول على أَن مُخَاطبَة أهل القليب كَانَت وَقت المساءلة ووقتها وَقت إِعَادَة الرّوح إِلَى الْجَسَد وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الْأُخْرَى أَن الْكَافِر المسؤول يعذب، وَأَن حَدِيث عَائِشَة مَحْمُول على غير وَقت المساءلة، فَبِهَذَا يتَّفق الخبران.
ذكر رِجَاله: وهم قد ذكرُوا، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم الْكُوفِي وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
وَفِي سَنَده التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، جَاءَ بِلَفْظ: إِنَّمَا، وَهِي للحصر، قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَانَ حَدِيث (مَا أَنْتُم بأسمع مِنْهُم) لم يثبت عِنْدهَا، ومذهبها أَن أهل الْقُبُور يعلمُونَ مَا سمعُوا قبل الْمَوْت وَلَا يسمعُونَ بعد الْمَوْت. انْتهى. قلت: هَذَا من عَائِشَة يدل على أَنَّهَا ردَّتْ رِوَايَة ابْن عمر الْمَذْكُورَة، وَلَكِن الْجُمْهُور خالفوها فِي ذَلِك وقبلوا حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لموافقة من رَوَاهُ غَيره عَلَيْهِ. وَقَالَ السُّهيْلي: عَائِشَة لم تحضر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فغيرها مِمَّن حضر أحفظ للفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَقد قَالُوا: يَا رَسُول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم، قَالَ: وَإِذا جَازَ أَن يَكُونُوا فِي تِلْكَ الْحَال عَالمين، جَازَ أَن يَكُونُوا سَامِعين أيا مَا كَانَ روسهم، كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور، أَو يَأْذَن الرّوح على رَأْي من يُوَجه السُّؤَال إِلَى الرّوح من غير رُجُوع الْجَسَد.
قَالَ: وَأما الْآيَة فَإِنَّهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي} (الزخرف: 04) . أَي: إِن الله هُوَ الَّذِي يسمع وَيهْدِي. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا مُعَارضَة بَين حَدِيث ابْن عمر وَالْآيَة، لِأَن الْمَوْتَى لَا يسمعُونَ، لَا شكّ، لَكِن إِذا أَرَادَ الله إسماع مَا لَيْسَ من شَأْنه السماع لم يمْتَنع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة ... } (الْأَحْزَاب: 27) . الْآيَة. وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا} (فصلت: 11) . الْآيَة وَإِن النَّار اشتكت إِلَى رَبهَا، وَيكون معنى قَوْله: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . مثل قَوْله: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} (الْقَصَص: 65) . ثمَّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} (النَّمْل: 08) . فِي سُورَة النَّمْل، وَقَبله: {فتوكل على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء إِذا ولوا مُدبرين} (النَّمْل: 97 و 08) . قَالَ أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله: هَذَا مثل ضربه للْكفَّار، فَكَمَا أَنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى فَكَذَلِك لَا تفقه كفار مَكَّة وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء، قَرَأَ ابْن كثير: وَلَا يسمع الصم، بِفَتْح الْيَاء وبضم الصم، على أَنه فَاعل: لَا يسمع، وَالْبَاقُونَ: وَلَا تسمع، بِالْخِطَابِ وَنصب: الصم، على المفعولية، والصم جمع: الْأَصَم. قَوْله: {إِذا ولوا مُدبرين} (النَّمْل: 08) يَعْنِي إِذا عرضوا عَن الْحق مكدبين وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ (إِذا ولوا مُدبرين) . تَأْكِيد لحَال الْأَصَم، لِأَنَّهُ إِذا تبَاعد عَن الدَّاعِي بِأَن تولى عَنهُ مُدبرا كَانَ أبعد عَن إِدْرَاك صَوته.
2731 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ الأشْعَثَ عنْ أبِيهِ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ يهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ القَبْرِ فقالَتْ لَهَا أعَاذَكِ الله مِنْ عَذَابِ القبْرِ فَسَألَتْ عائِشَةُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ عَذَابِ القَبْرِ فَقَالَ نَعَمْ عَذَابُ القَبْرِ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَمَا رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدُ صلَى صَلاَةً إلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: أَبوهُ عُثْمَان بن جبلة بن أبي رواد، واسْمه ثَابت. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: الْأَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو الشعْثَاء بِالْمدِّ، واسْمه: سليم بن الْأسود الْمحَاربي. السَّادِس: مَسْرُوق بن الأجدع بِالدَّال. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة(8/202)
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث: سَمِعت أبي. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب فِي موضِعين. وَفِيه: شَيْخه مَذْكُور بلقبه وَأَنه مروزي أَصله من الْبَصْرَة، وَأَبوهُ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية، فَإِن أَبَا الشعْثَاء روى عَن حديفة وَأبي هُرَيْرَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هناد عَن أبي الْأَحْوَص، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن ابْن بشار عَن غنْدر، وَلم يذكر قصَّة الْيَهُودِيَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ: نعم عَذَاب الْقَبْر حق) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (عَذَاب الْقَبْر) فَقَط بِدُونِ لفظ حق، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لَيست بجيدة لِأَن المُصَنّف قَالَ عقيب هَذَا الطَّرِيق: زَاد غنْدر (عَذَاب الْقَبْر حق) ، فَبين أَن لَفْظَة: حق، لَيست فِي رِوَايَة عَبْدَانِ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة، وَأَنَّهَا ثَابِتَة فِي رِوَايَة غنْدر يَعْنِي عَن شُعْبَة وَهُوَ كَذَلِك، وَقد أخرج طَرِيق غنْدر النَّسَائِيّ والإسماعيلي كَذَلِك. قلت: قَوْله: (زَاد غنْدر: عَذَاب الْقَبْر حق) لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ، وَلَئِن سلمنَا وجود هَذَا فَلَا نسلم أَنه يسْتَلْزم حذف الْخَبَر، مَعَ أَن الأَصْل ذكر الْخَبَر، وَكَيف يَنْفِي الْجَوْدَة من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي مَعَ كَونهَا على الأَصْل؟ فَمَاذَا يلْزم من الْمَحْذُور إِذا ذكر الْخَبَر فِي الرِّوَايَات كلهَا. قَوْله: (بعد) ، مَبْنِيّ على الضَّم، أَي: بعد ذَلِك. قَوْله: (إلاَّ تعوذ) أَي: إلاَّ صَلَاة تعوذ فِيهَا، وَقد تقدم فِي: بَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، فِي الْكُسُوف من طَرِيق عمْرَة (عَن عَائِشَة أَن يَهُودِيَّة جَاءَت تسألها، فَقَالَت لَهَا: أَعَاذَك الله من عَذَاب الْقَبْر؟ فَسَأَلت عَائِشَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أيعذب النَّاس فِي قُبُورهم؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائذا بِاللَّه من ذَلِك، ثمَّ ركب ذَات غَدَاة مركبا فخسفت الشَّمْس) الحَدِيث وَوَقع عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي وَائِل عَن مَسْرُوق، فِي الدَّعْوَات (دخل عجوزان عَن عجز يهود الْمَدِينَة، فَقَالَتَا: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم) ، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن إِحْدَاهمَا تَكَلَّمت وأقرتها الْأُخْرَى، على ذَلِك، فنسب القَوْل إِلَيْهِمَا مجَازًا. فَإِن قلت: روى مُسلم من طَرِيق ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: دخلت على امْرَأَة من الْيَهُود وَهِي تَقول: هَل شَعرت أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور؟ قَالَت: فارتاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: إِنَّمَا تفتن يهود، قَالَت عَائِشَة: فلبثنا ليَالِي، ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل شَعرت أَنه أُوحِي إِلَيّ أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور؟ قَالَت عَائِشَة: فَسمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستعيذ من عَذَاب الْقَبْر) ، فَهَذِهِ الرِّوَايَة مُخَالفَة للرواية الأولى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: هما قضيتان سمع الْيَهُودِيَّة فَقَالَ: إِنَّمَا تفتن الْيَهُود، ثمَّ أعلم بذلك وَلم يعلم عَائِشَة، فَجَاءَت الْيَهُودِيَّة مرّة أُخْرَى فَذكرت لعَائِشَة ذَلِك فأنكرت عَلَيْهَا مستندة إِلَى الْإِنْكَار الأول، فأعلمها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْوَحْي نزل بإثباته. وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: يحْتَمل أَنه كَانَ يتَعَوَّذ قبل ذَلِك سرا. وَلما رأى استغرابها حَيْثُ سَمِعت من الْيَهُودِيَّة أعلن ليترسخ ذَلِك فِي عقائد أمته ويكونوا على حذر من فتنته. قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع على رِوَايَة ابْن شهَاب الْمَذْكُورَة من (صَحِيح مُسلم) فَلذَلِك ذكر مَا ذكره بِالِاحْتِمَالِ، وَوَقع صَرِيحًا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن عِنْده علم بِعَذَاب الْقَبْر لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ: عَن سعيد بن عَمْرو بن سعيد الْأمَوِي (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن يَهُودِيَّة كَانَت تخدمها فَلَا تصنع عَائِشَة إِلَيْهَا شَيْئا من الْمَعْرُوف إلاَّ قَالَت لَهَا الْيَهُودِيَّة: وقاك الله تَعَالَى عَذَاب الْقَبْر، قَالَت: فَقلت: يَا رَسُول الله! هَل للقبر عَذَاب؟ قَالَ: كذبت يهود، لَا عَذَاب دون يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ مكث بعد ذَلِك مَا شَاءَ الله أَن يمْكث، فَخرج ذَات يَوْم نصف النَّهَار وَهُوَ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته: أَيهَا النَّاس استعيذوا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر، فَإِن عَذَاب الْقَبْر حق) . وَفِي هَذَا كُله أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا علم بِحكم عَذَاب الْقَبْر إِذْ هُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخر الْأَمر. فَإِن قلت: الْآيَة، أَعنِي قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا} (إِبْرَاهِيم: 72) . مَكِّيَّة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} (غَافِر: 64) . قلت: أُجِيب بِأَن عَذَاب الْقَبْر يُؤْخَذ من الْآيَة الأولى بطرِيق الْمَفْهُوم فِي حق من لم يَتَّصِف بِالْإِيمَان، وَكَذَا بالمنطوق وَفِي الْآيَة الثَّانِيَة فِي حق آل فِرْعَوْن، والتحق بهم من كَانَ لَهُ حكمهم من الْكفَّار، فَالَّذِي أنكرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا هُوَ وُقُوع عَذَاب الْقَبْر على الْمُوَحِّدين، ثمَّ أعلم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك قد يَقع على من شَاءَ الله مِنْهُم، فَجزم بِهِ وحذر مِنْهُ وَبَالغ فِي الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ، تَعْلِيما لأمته، وإرشادا، فَزَالَ التَّعَارُض، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن عَذَاب الْقَبْر حق وَأَنه لَيْسَ بخاص بِهَذِهِ الْأمة. وَفِيه: جَوَاز التحدث عَن أهل الْكتاب(8/203)
إِذا وَافق قَول الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: التَّوَقُّف عَن خبرهم حَتَّى يعرف أصدق هُوَ أم كذب. وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر عقيب الصَّلَاة لِأَنَّهُ وَقت إِجَابَة الدعْوَة. وَفِيه: جَوَاز دُخُول الْيَهُودِيَّة عِنْد المسلمات. وَفِي حَدِيث أَحْمد، جَوَاز اسْتِخْدَام أهل الذِّمَّة.
3731 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَمِعَ أسْمَاءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا تَقُولُ قامَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبا فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ فَلَمَّا ذَكَرَ ذالِكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً زَادَ غُنْدَرٌ عَذَابُ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فتْنَة الْقَبْر أَعم من المساءلة وَغَيرهَا من الْعَذَاب، بل عين المساءلة عَذَاب فِي حق الْكفَّار، وَلِهَذَا أخرج النَّسَائِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، قَالَ: أخبرنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس، قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَنه سمع أَسمَاء بنت أبي بكر تَقول: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر فتْنَة الْقَبْر الَّتِي يفتتن الْمَرْء فِيهَا فِي قَبره، فَلَمَّا ذكر ذَلِك ضج الْمُسلمُونَ ضجة حَالَتْ بيني وَبَين أَن أفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا سكتت ضجتهم قلت لرجل قريب عني: أَي بَارك الله فِيك، مَاذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر قَوْله؟ قَالَ: قد أُوحِي إِلَيّ إِنَّكُم تفتنون فِي الْقُبُور قَرِيبا من فتْنَة الدَّجَّال) . وَأخرجه البُخَارِيّ كَمَا ترَاهُ مُخْتَصرا عَن يحيى بن سُلَيْمَان أبي سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزيل مصر عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي عَن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام إِلَى آخِره.
قَوْله: (خَطِيبًا) ، نصب على الْحَال. قَوْله: (الَّتِي تفتتن) صفة للفتنة، يَعْنِي ذكر الْفِتْنَة بتفاصيلها كَمَا يجْرِي على الْمَرْء فِي قَبره، وَمن ثمَّة ضج الْمُسلمُونَ وصاحوا وجزعوا، والتنوين فِي ضجة، للتعظيم. قَوْله: (زَاد غنْدر: عَذَاب الْقَبْر) ، غنْدر، بِضَم الْغَيْن: وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر غير مرّة. قيل: وَقع: زَاد غنْدر، فِي بعض النّسخ عقيب حَدِيث أَسمَاء وَهُوَ غلط. قلت: دَعْوَى الْغَلَط بِلَا دَلِيل غلط، فَإِن كَانَ دَلِيله أَن غندرا إِنَّمَا رَوَاهُ عَن شُعْبَة، وَحَدِيث أَسمَاء لَيْسَ فِيهِ عَن شُعْبَة، فَنَقُول: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة لَا تَسْتَلْزِم نفي رِوَايَته عَن غَيره فِي حَدِيث أَسمَاء، فَافْهَم.
4731 - حدَّثنا عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ حدَّثَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وتَوَلَّى عَنْهُ أصْحَابُهُ وَإنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتُ تَقُولُ فِي هاذا الرَّجُلَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَّا المؤْمِنُ فَيَقُولُ أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ الله ورَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أبْدَلَكَ الله بِهِ مَقْعَدا مِنَ الجنَّةِ فَيَراهُمَا جَمِيعا. قَالَ قَتَادَةُ وذُكِرَ لَنَا أنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أنَسٍ قَالَ وَأمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هاذا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أدْرِي كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُهُ النَّاسُ فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ.
(أنظر الحَدِيث 8331) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيضْرب بمطارق من حَدِيد) ، إِلَى آخِره، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: عَن عَيَّاش عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد عَن قَتَادَة. . إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا أَيْضا عَن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة، عَن عبد الْأَعْلَى كَذَلِك عَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَذَلِك إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.(8/204)
ذكر مَعْنَاهُ: نذْكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ لزِيَادَة فَائِدَة. قَوْله: (ليسمع قرع نعَالهمْ) زَاد مُسلم: (إِذا انصرفوا) ، قَوْله: (فَيُقْعِدَانِهِ) ، زَاد فِي حَدِيث الْبَراء: (فتعاد روحه فِي جسده) . قَوْله: (لمُحَمد) بَيَان من الرَّاوِي أَي: لأجل مُحَمَّد، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل؟) وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث عَائِشَة: (مَا هَذَا الرجل الَّذِي كَانَ فِيكُم؟) قَوْله: (أنظر إِلَى مَقْعَدك من النَّار) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَيُقَال لَهُ: هَذَا بَيْتك كَانَ فِي النَّار، وَلَكِن الله عز وَجل عصمك ورحمك فأبدلك بِهِ بَيْتا فِي الْجنَّة، فَيَقُول لَهُم: دَعونِي حَتَّى أذهب فأبشر أَهلِي فَيُقَال لَهُ: أسكت) . وَفِي حَدِيث أبي سعيد عَن أَحْمد: (كَانَ هَذَا مَنْزِلك لَو كفرت بِرَبِّك) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد صَحِيح: (فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت الله؟ فَيَقُول: مَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرى الله، فيفرج الله لَهُ فُرْجَة قبل النَّار فَينْظر إِلَيْهَا فيحطم بَعْضهَا بَعْضًا. فَيُقَال لَهُ: أنظر إِلَى مَا وقاك الله) . قَوْله: (وَذكر لنا) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَوْله: (يفسح لَهُ فِي قَبره) كلمة فِي، زَائِدَة، إِذْ الأَصْل: يفسح لَهُ فِي قَبره، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق شَيبَان عَن قَتَادَة: (سَبْعُونَ ذِرَاعا، ويملأ خضرًا إِلَى يَوْم يبعثُون) ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (سبعين ذِرَاعا فِي سبعين ذِرَاعا) ، وَله من وَجه آخر: عَن أبي هُرَيْرَة: (ويرحب لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا وينور لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر) . وَفِي حَدِيث طَوِيل للبراء: (فينادي منادٍ من السَّمَاء أَن: صدق عَبدِي فافرشوه من الْجنَّة، وافتحوا لَهُ بَابا فِي الْجنَّة، والبسوه من الْجنَّة. قَالَ: فيأتيه من رِيحهَا وطيبها، ويفسح لَهُ مد بَصَره) . وَزَاد ابْن حبَان من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة: (فَيَزْدَاد غِبْطَة وسرورا فيعاد الْجلد إِلَى مَا بدا مِنْهُ، وَيجْعَل روحه فِي نسم طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة) . قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر) ، كَذَا بواو الْعَطف فِي هَذِه الطَّرِيق، وَتقدم فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال: وَأما الْكَافِر أَو الْمُنَافِق بِالشَّكِّ، وَفِي حَدِيث أبي دَاوُد: (وَأَن الْكَافِر إِذا وضع) ، وَعند أَحْمد فِي حَدِيث أبي سعيد: (وَإِن كَانَ كَافِرًا أَو منافقا) بِالشَّكِّ، وَله فِي حَدِيث أَسمَاء: (فَإِن كَانَ فَاجِرًا أَو كَافِرًا) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثهَا: (وَأما الْمُنَافِق أَو المرتاب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن جَابر، وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (وَأما الْمُنَافِق) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد أَحْمد وَأبي هُرَيْرَة عِنْد ابْن مَاجَه: (وَأما الرجل السوء) ، وللطبراني من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (وَإِن كَانَ من أهل الشَّك) . قَوْله: (كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس) ، وَفِي حَدِيث أَسمَاء: (سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته) ، وَكَذَا فِي أَكثر الْأَحَادِيث. قَوْله: (وَلَا تليت) أَي: وَلَا تَلَوت، أَي: لَا فهمت وَلَا قَرَأت الْقُرْآن، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَوْله: (بمطارق حَدِيد) جمع مطرقة، وَكَذَا فِي: بَاب خَفق النِّعَال، بِالْإِفْرَادِ. والمطارق: مُضَاف إِلَى حَدِيد مثل: خَاتم فضَّة، ويروى: (بمطارق من حَدِيد) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه الْجمع للإيذان بِأَن كل جُزْء من أَجزَاء تِلْكَ المطرقة مطرقة برأسها مُبَالغَة. قَوْله: (يسْمعهَا من يَلِيهِ) قَالَ الْمُهلب: المُرَاد الْمَلَائِكَة الَّذين يلون فتنته. قلت: لَا وَجه لتخصيصه بِالْمَلَائِكَةِ، فقد ثَبت أَن الْبَهَائِم تسمعه، وَفِي حَدِيث الْبَراء: (يسْمعهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب) ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى (يسمعهُ خلق الله كلهم غير الثقلَيْن) ، وَيدخل فِي هَذَا، وَفِي حَدِيث الْبَراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الْحَيَوَان والجماد، لَكِن يُمكن أَن يخص مِنْهُ الجماد لما فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار، رَحمَه الله تَعَالَى: (يسمعهُ كل دَابَّة إلاَّ الثقلَيْن) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر، وَأَنه وَاقع على الْكفَّار وَمن شَاءَ الله من الْمُؤمنِينَ. فَإِن قلت: المساءلة عَامَّة على جَمِيع الْأُمَم أم على أمة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَذهب الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ إِلَى أَنَّهَا تخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، وَقَالَ: كَانَت الْأُمَم قبل هَذِه الْأمة تأتيهم الرُّسُل، فَإِن أطاعوا فَذَاك، وَإِن أَبَوا اعتزلوهم وعوجلوا بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا أرسل الله مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَحْمَة للْعَالمين أمسك عَنْهُم الْعَذَاب، وَقبل الْإِسْلَام مِمَّن أظهره سَوَاء أسر الْكفْر أَو لَا، فَلَمَّا مَاتُوا قيض الله لَهُم فتاني الْقَبْر ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الْخَبيث من الطّيب، وَيثبت الَّذين آمنُوا ويضل الظَّالِمين. انْتهى. وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (إِن هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها) الحَدِيث أخرجه مُسلم وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا قَول الْملكَيْنِ: مَا تَقول فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟ وَحَدِيث عَائِشَة أَيْضا عِنْد أَحْمد بِلَفْظ: وَأما فتْنَة الْقَبْر فِي يفتنون وعني يسْأَلُون) وَذهب ابْن الْقيم إِلَى عُمُوم المساءلة، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا يَنْفِي المساءلة عَمَّن تقدم من الْأُمَم، وَإِنَّمَا أخبر(8/205)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بكيفية إمتحانهم فِي الْقُبُور، لَا أَنه نفى ذَلِك عَن غَيرهم، قَالَ: وَالَّذِي يظْهر أَن كل نَبِي مَعَ أمته كَذَلِك، فيعذب كفارهم فِي قُبُورهم بعد سُؤَالهمْ وَإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، كَمَا يُعَذبُونَ فِي الْآخِرَة بعد السُّؤَال وَإِقَامَة الْحجَّة. وَحكى فِي مساءلة الْأَطْفَال احْتِمَالا. قلت: ذكر أَصْحَابنَا أَنهم يسْأَلُون وَقَطعُوا بذلك، وَقَالَ ابْن الْقيم: السُّؤَال للْكَافِرِ وَالْمُسلم قَالَ الله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين} (إِبْرَاهِيم: 72) . وَفِي حَدِيث أنس فِي البُخَارِيّ: (وَأما الْمُنَافِق وَالْكَافِر) ، بواو الْعَطف، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (فَإِن كَانَ مُؤمنا) فَذكره، وَفِيه: (وَإِن كَانَ كَافِرًا) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْآثَار تدل على أَن الْفِتْنَة لمن كَانَ مَنْسُوبا إِلَى أهل الْقبْلَة، وَأما الْكَافِر الجاحد فَلَا يسْأَل، ورد بِأَنَّهُ نفي بِلَا دَلِيل، بل فِي الْكتاب الْعَزِيز الدّلَالَة على أَن الْكَافِر يسْأَل عَن دينه، قَالَ تَعَالَى: {فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسألن الْمُرْسلين} (الْأَعْرَاف: 6) . وَقَالَ تَعَالَى: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} (الْحجر: 29) . قلت: لقَائِل أَن يَقُول: المُرَاد من هَذَا السُّؤَال يحْتَمل أَن يكون فِي الْآخِرَة. وَفِيه: ذمّ التَّقْلِيد فِي الاعتقادات لمعاقبة من قَالَ: كنت أسمع النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته. وَفِيه: أَن الْمَيِّت يحيى فِي قَبره للمساءلة، خلافًا لمن رده، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
78 - (بابُ التَّعَوَّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، وَكَيْفِيَّة التَّعَوُّذ، وإلاَّ فأحاديث هَذَا الْبَاب دَاخِلَة فِي الْحَقِيقَة فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
5731 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني عَوْنُ بنُ أبِي جُحَيْفَةَ عنْ أبِيهِ عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَالَ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتا فقالَ يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث والترجمة، لِأَن الحَدِيث فِي بَيَان ثُبُوت عَذَاب الْقَبْر، والترجمة فِي التَّعَوُّذ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا أدخلهُ فِي هَذَا الْبَاب بعض من نسخ الْكتاب وَلم يُمَيّز. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْعَادة قاضية بِأَن كل من سمع مثل ذَلِك الصَّوْت يتَعَوَّذ من مثله، أَو تَركه اختصارا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد، يعرف بالزمن الْعَنْبَري. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: عون بن أبي جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، وَقد مر فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْأَحْمَر. لخامس: أَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة الصَّحَابِيّ واسْمه: وهب بن عبد الله السوَائِي. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب السَّابِع: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، واسْمه: خَالِد بن زيد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَيحيى كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَعون كُوفِي وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة صحابيون يروي بَعضهم عَن بعض.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي صفة أهل النَّار عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن أبي قدامَة عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من الْمَدِينَة إِلَى خَارِجهَا. قَوْله: (وَقد وَجَبت الشَّمْس) ، جملَة حَالية، وَقد علم أَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة إِذا وَقعت حَالا فَلَا بُد من لَفْظَة: قد، صَرِيحَة أَو مقدرَة. وَمعنى: وَجَبت: سَقَطت، وَالْمرَاد أَنَّهَا غربت. قَوْله: (فَسمع صَوتا) ، يحْتَمل أَن يكون صَوت مَلَائِكَة الْعَذَاب، أَو صَوت الْيَهُود الْمُعَذَّبين، أَو صَوت وَقع الْعَذَاب، وَقد وَقع عِنْد الطَّبَرَانِيّ: أَنه صَوت الْيَهُود، رَوَاهُ من طَرِيق عبد الْجَبَّار بن الْعَبَّاس عَن عون بِهَذَا السَّنَد، وَلَفظه: (خرجت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين غربت الشَّمْس وَمَعِي كوز من مَاء، فَانْطَلق لِحَاجَتِهِ حَتَّى جَاءَ فوضأته فَقَالَ: ألم تسمع مَا أسمع؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: أسمع أصوات الْيَهُود يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: صَوت الْمَيِّت من الْعَذَاب يسمعهُ غير الثقلَيْن، فَكيف سمع ذَلِك؟ ثمَّ أجَاب بقوله: هُوَ فِي الضجة الْمَخْصُوصَة وَهَذَا غَيرهَا، أَو سَماع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل المعجزة.(8/206)
قَوْله: (يهود تعذب) ، وارتفاع يهود على الِابْتِدَاء وَخَبره تعذب وَهُوَ علم للقبيلة، وَقد يدْخل فِيهِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أَرَادوا باليهود الهوديين، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء الْإِضَافَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، وَإِنَّمَا عرف على هَذَا الْحَد فَجمع على قِيَاس شعيرَة وشعير، ثمَّ عرف الْجمع بِالْألف وَاللَّام، وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز دُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ معرفَة مؤنث، فجرس فِي كَلَامهم مجْرى الْقَبِيلَة، وَلم يَجْعَل كالحي، وَقَالَ بَعضهم: يهود خبر مُبْتَدأ أَي: هَذِه يهود. قلت: كَأَنَّهُ ظن أَنه نكرَة فَلذَلِك قَالَ: هُوَ خبر مُبْتَدأ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه علم وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهودهم الْيَهُود.
وَقَالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَوْنٌ قَالَ سَمِعْتُ أبي سَمِعْتُ البَرَاءَ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل مر فِي: بَاب حمل العنزة فِي الِاسْتِنْجَاء، وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الطَّرِيق تَنْبِيها على أَنه مُتَّصِل بِالسَّمَاعِ، وَالطَّرِيق الأول بالعنعنة، وَهُوَ من الْمُتَابَعَة الْمُعَلقَة ليحيى بن سعيد، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: حَدثنَا مكي حَدثنَا زاج حَدثنَا النَّضر حَدثنَا شُعْبَة إِلَى آخِره.
6731 - حدَّثنا مُعَلَّى قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ عَنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خالِدِ بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِي أنَّهَا سَمِعَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
(الحَدِيث 6731 طرفه فِي: 4636) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة: ابْن أَسد، مر فِي: بَاب الْمَرْأَة تحيض بعد الْإِفَاضَة. الثَّانِي: وهيب، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن خَالِد. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْأَسدي. الرَّابِع: ابْنة خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَاسْمهَا: أمة، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم: أم خَالِد الأموية ولدت بِالْحَبَشَةِ، تزَوجهَا الزبير فَولدت لَهُ خَالِدا وعمرا. قَالَ الذَّهَبِيّ: لَهَا صُحْبَة، روى عَنْهَا مُوسَى بن إِبْرَاهِيم ابْنا عقبَة وكريب بن سُلَيْمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه ووهيبا بصريان ومُوسَى مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَوَقع فِي الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن مُوسَى بن عقبَة بِلَفْظ: (استجيروا بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر) ، ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا استعاذ من عَذَاب الْقَبْر، وَالْحَال أَنه مَعْصُوم مطهر مغْفُور لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر، فَيَنْبَغِي لَك يَا من لَا عصمَة لَك وَلَا طَهَارَة لَك عَن الذُّنُوب أَن تستعيذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر مَعَ امْتِثَال الْأَوَامِر والاجتناب عَن الْمعاصِي حَتَّى ينجيك الله من النَّار وَمن عَذَاب الْقَبْر، واستعاذته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إرشاد لأمته ليقتدوا بِهِ فِيمَا فعله وَفِيمَا أمره حَتَّى يتخلصوا من شَدَائِد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
7731 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هشَامٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى اعنْ أبِي سَلَمَة عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعدْعُو اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ ومِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي القصاب. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان وَيحيى يمامي وَأَبُو سَلمَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَيحيى رأى أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن هِشَام، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الدُّعَاء قبل السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، هُنَاكَ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاة: أللهم إِنِّي(8/207)
أعوذ بك من عَذَاب الْقَبْر، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، وَأَعُوذ بك من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات. .) الحَدِيث. قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو: اللَّهُمَّ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كَانَ يَدْعُو وَيَقُول: اللَّهُمَّ) إِلَى آخِره. قَوْله: (وَمن عَذَاب النَّار) تَعْمِيم بعد تَخْصِيص، كَمَا أَن: (وَمن فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال) تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، والمحيا وَالْمَمَات مصدران ميميان، وَيجوز أَن يَكُونَا إسمي زمَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمن عَن فتْنَة الدَّجَّال وَنَحْوهَا، فَمَا الْفَائِدَة فِيهِ؟ قلت: نفس الدُّعَاء عبَادَة، كَقَوْلِه: اللَّهُمَّ اغْفِر لي، مَعَ كَونه مغفورا لَهُ، أَو لتعليم الْأمة والإرشاد لَهُم.
88 - (بابُ عَذَابِ القَبْرِ مِنَ الغِيبَةِ وَالبَوْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عَذَاب الْقَبْر الْحَاصِل من أجل الْغَيْبَة، وَكلمَة: من، للتَّعْلِيل، و: الْغَيْبَة، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة: أَن تذكر الْإِنْسَان فِي غيبته بِسوء وَإِن كَانَ فِيهِ، فَإِذا ذكرته بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ بهت وبهتان، والغيب والغيبة، بِفَتْح الْغَيْن: كل مَا غَابَ عَن الْعُيُون سَوَاء كَانَ محصلاً فِي الْقُلُوب أَبُو غير مُحَصل، تَقول: غَابَ عَنهُ غيبا وغيبة. قَوْله: (وَالْبَوْل) ، عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَبَيَان عَذَاب الْقَبْر من أجل الْبَوْل أَي: من أجل عدم استنزاهه مِنْهُ، كَمَا ورد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) فَإِن قلت: عَذَاب الْقَبْر غير مقتصر على الْغَيْبَة وَالْبَوْل، فَمَا وَجه الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا؟ قلت: تخصيصهما بِالذكر لعظم أَمرهمَا لَا لنفي الحكم عَمَّا عداهما.
8731 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُسٍ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَما يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثمَّ قَالَ بَلى أما أحَدُهُمَا فَكانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأمَّا الآخَرُ فَكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. قَالَ ثُمَّ أخَذَ عُودا رَطْبا فكَسَرَهُ باثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا..
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: الْغَيْبَة والنميمة، ومطابقة الحَدِيث للبول ظَاهِرَة، وَأما الْغَيْبَة فَلَيْسَ لَهَا ذكر فِي الحَدِيث، وَلَكِن يُوَجه بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْغَيْبَة من لَوَازِم النميمة لِأَن الَّذِي ينم ينْقل كَلَام الرجل الَّذِي اغتابه، وَيُقَال: الْغَيْبَة والنميمة أختَان، وَمن نم عَن أحد فقد اغتابه. قيل: لَا يلْزم من الْوَعيد على النميمة ثُبُوته على الْغَيْبَة وَحدهَا، لِأَن مفْسدَة النميمة أعظم وَإِذا لم تساوها لم يَصح الْإِلْحَاق. قُلْنَا: لَا يلْزم من اللحاق وجود الْمُسَاوَاة، والوعيد على الْغَيْبَة الَّتِي تضمنتها النميمة مَوْجُود، فَيصح الْإِلْحَاق لهَذَا الْوَجْه. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ الْغَيْبَة، وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث. فَافْهَم، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله، فِي كتاب الْوضُوء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان عَن جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهنا أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس، عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
98 - (بابُ المَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ والعَشِيِّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمَيِّت يعرض عَلَيْهِ. . إِلَى آخِره، وَالْمرَاد (بِالْغَدَاةِ والعشي) وقتهما، وإلاَّ فالموتى لَا صباح عِنْدهم وَلَا مسَاء، وَالْمرَاد من المقعد: الْموضع الَّذِي أعد لَهُ فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار.
9731 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ أحدَكُمْ إذَا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالغَدَاةِ وَالَعَشِيِّ إنْ كانَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الجَنَّةِ وَإنْ كانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هاذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ.(8/208)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا جُزْء من الحَدِيث.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَإِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس واسْمه عبد الله، وَهُوَ ابْن أُخْت مَالك، رَحمَه الله.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِالْغَدَاةِ) أَي: فِي الْغَدَاة وَفِي الْعشي قَوْله: (إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فَمن أهل الْجنَّة) يَعْنِي: إِن كَانَ الْمَيِّت من أهل الْجنَّة فمقعده من مقاعد أهل الْجنَّة يعرض عَلَيْهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يجوز أَن يكون الْمَعْنى: إِن كَانَ من أهل الْجنَّة فسيبشر بِمَا لَا يكتنه كنهه لِأَن هَذَا الْمنزل لطليعة تباشير السَّعَادَة الْكُبْرَى، لِأَن الشَّرْط وَالْجَزَاء إِذا اتحدا دلّ على الفخامة، كَقَوْلِهِم: من أدْرك الصمان فقد أدْرك المرعى. قلت: الصمان، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم وَبعد الْألف نون: جبل ينقاد ثَلَاث لَيَال وَلَيْسَ لَهُ ارْتِفَاع، سمي بِهِ لصلابته. قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله يَوْم الْقِيَامَة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك: (حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) ، وَحكى ابْن عبد الْبر فِيهِ الِاخْتِلَاف بَين أَصْحَاب مَالك، وَأَن الْأَكْثَرين رَوَوْهُ كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَأَن ابْن الْقَاسِم رَوَاهُ كَرِوَايَة مُسلم، قَالَ: وَالْمعْنَى حَتَّى يَبْعَثك الله إِلَى ذَلِك المقعد، وَيحْتَمل أَن يعود الضَّمِير على: الله وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور، وَكَونه عَائِدًا إِلَى المقعد الَّذِي يصير إِلَيْهِ أشبه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه بِلَفْظ: (ثمَّ يُقَال: هَذَا مَقْعَدك الَّذِي تبْعَث إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة) أخرجه مُسلم. وَقد أخرج النَّسَائِيّ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم لَكِن لَفظه كَلَفْظِ البُخَارِيّ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى: حَتَّى يَبْعَثك الله، و: حَتَّى، للغاية، أَنه يرى بعد الْبَعْث من عِنْد الله كَرَامَة ومنزلة ينسى عِنْده هَذَا المقعد، كَمَا قَالَ صَاحب (الْكَشَّاف) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين} (ص: 87) . أَي: إِنَّك مَذْمُوم مدعوٌّ عَلَيْك باللعنة إِلَى يَوْم الدّين فَإِذا جَاءَ ذَلِك الْيَوْم عذب بِمَا تنسى اللَّعْن مَعَه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: عرض مقْعد الْمَيِّت عَلَيْهِ، قيل: معنى الْعرض هُنَا الْإِخْبَار بِأَن هَذَا مَوضِع أَعمالكُم وَالْجَزَاء لَهَا عِنْد الله تَعَالَى، وَأُرِيد بالبكور بِالْغَدَاةِ والعشي تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أَن الأجساد بعد الْمَوْت والمساءلة هِيَ فِي الْفَوات وَأكل التُّرَاب لَهَا والفناء، وَلَا يعرض شَيْء على الفاني فَبَان أَن الْعرض الَّذِي يَدُوم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِنَّمَا هُوَ على الْأَرْوَاح خَاصَّة، لِأَنَّهَا لَا تفنى. وَقَالَ أَبُو الطّيب: اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنه لَا غدو وَلَا عشي فِي الْآخِرَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا فهم معرضون بعد مماتهم على النَّار. وَقيل: يَوْم الْقِيَامَة، وَيَوْم الْقِيَامَة يدْخلُونَ أَشد الْعَذَاب. انْتهى. قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} (مَرْيَم: 26) . وَالَّذِي يُقَال فِي هَذِه الْآيَة، يُقَال فِي هَذَا أَيْضا، وَالله تَعَالَى أعلم. وَقَالَ ابْن التِّين: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْغَدَاةِ والعشي: غَدَاة وَاحِدَة وَعَشِيَّة وَاحِدَة، يكون الْعرض فِيهَا، وَمعنى قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله) أَي: لَا تصل إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث، وَيحْتَمل أَن يُرِيد كل غَدَاة وكل عشي، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ بِأَن يكون الْإِحْيَاء بِجُزْء مِنْهُ فَإنَّا نشاهد الْمَيِّت مَيتا بِالْغَدَاةِ والعشي، وَذَلِكَ يمْنَع إحْيَاء جَمِيعه وإعادة جِسْمه،. وَلَا يمْتَنع أَن تُعَاد الْحَيَاة فِي جُزْء أَو أَجزَاء مِنْهُ وَتَصِح مخاطبته وَالْعرض عَلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بذلك غَدَاة وَاحِدَة وَيكون الْعرض فِيهَا، وَيكون معنى قَوْله: (حَتَّى يَبْعَثك الله) أَي: أَنه مَقْعَدك لَا تصل إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثك الله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يجوز أَن يكون هَذَا الْعرض على الرّوح فَقَط، وَيجوز أَن يكون عَلَيْهِ مَعَ جُزْء من الْبدن، قَالَ: وَهَذَا فِي حق الْمُؤمن وَالْكَافِر وَاضح، وَأما الْمُؤمن المخلط فَيحْتَمل أَيْضا فِي حَقه، لِأَنَّهُ يدْخل الْجنَّة فِي الْجُمْلَة، ثمَّ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْر الشُّهَدَاء. وَقيل: يحْتَمل أَن يُقَال: إِن فَائِدَة الْعرض فِي حَقهم تبشير أَرْوَاحهم باستقرارها فِي الْجنَّة مقترنة بأجسادها، فَإِن فِيهِ قدرا زَائِدا على مَا هِيَ فِيهِ الْآن. وَفِيه مَا قَالَ ابْن عبد الْبر عَن بَعضهم، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِهِ على أَن الْأَرْوَاح على أفنية الْقُبُور، قَالَ: وَالْمعْنَى عِنْدِي أَنَّهَا قد تكون على أفنية الْقُبُور لَا أَنَّهَا لَا تفارق الأفنية، بل هِيَ كَمَا قَالَ مَالك: إِنَّه بلغَة أَن الْأَرْوَاح تسرح حَيْثُ شَاءَت. قلت: كَونهَا تسرح حَيْثُ شَاءَت لَا يمْنَع كَونهَا على الأفنية، لِأَنَّهَا تسرح، ثمَّ تأوي إِلَى الْقَبْر، وَعَن مُجَاهِد: الْأَرْوَاح على الْقُبُور سَبْعَة أَيَّام من يَوْم دفن الْمَيِّت لَا تفارق.
09 - (بابُ كَلاَمِ المَيِّتِ عَلَى الجَنَازَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَلَام الْمَيِّت بعد حمله على الْجِنَازَة.(8/209)
0831 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ فاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعْنَاقِهِمْ فإنْ كانَتْ صَالِحَةً قالَتْ قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي وإنْ كانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قالَتْ يَا وَيْلَهَا أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ.
(أنظر الحَدِيث 4131 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن الْمَيِّت إِذا حمل على الْجِنَازَة يَقُول هَذَا الْكَلَام، وَالْمَيِّت هُوَ الَّذِي يَقُول ذَلِك، وَإِنَّمَا أسْند إِلَى الْجِنَازَة مجَازًا، وَلِهَذَا صرح بذلك فِيمَا مضى فِي كتاب الْجَنَائِز، بقوله: بَاب قَول الْمَيِّت وَهُوَ على الْجِنَازَة: قدموني: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة هَذَا التّكْرَار؟ قلت: فَائِدَته أَنه رَاعى هُنَاكَ مُنَاسبَة التَّرْجَمَة لترجمة الْبَاب الَّذِي قبله، وَهِي: بَاب السرعة بالجنازة، لاشتمال حَدِيثه على بَيَان مُوجب الْإِسْرَاع، وراعى هُنَا أَيْضا مُنَاسبَة تَرْجَمَة هَذَا الْبَاب لترجمة الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ عرض المقعد عَلَيْهِ، فَكَأَن ابتداءه يكون عِنْد حمل الْجِنَازَة، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يظْهر للْمَيت مَا يؤول إِلَيْهِ حَاله، فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول مَا يَقُول. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب قَول الْمَيِّت وَهُوَ على الْجِنَازَة: قدموني، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد عَن أَبِيه أَنه سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ ... وَأخرجه هُنَا: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث. . إِلَى آخِره نَحوه، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَقَالَ ابْن بطال: الْكَلَام لَا يكون إلاَّ من الرّوح، وَقد جَاءَت آثَار تدل على معرفَة الْمَيِّت من يحملهُ ويدخله فِي قَبره. وروى بِسَنَد لَهُ إِلَى مُعَاوِيَة أَو ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن الْمَيِّت ليعرف من يحملهُ وَمن يغسلهُ وَمن يدليه فِي قَبره) . وَعَن مُجَاهِد: (إِذا مَاتَ الْمَيِّت فَمَا من شَيْء إلاَّ وَهُوَ يرَاهُ عِنْد غسله وَعند حمله حَتَّى يصل إِلَى قَبره) .
19 - (بابُ مَا قِيلَ فِي أوْلاَدِ المُسْلِمِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي أَوْلَاد الْمُسلمين غير الْبَالِغين.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ ماتَ لَهُ ثلاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ كانَ لَهُ حِجِابا مِنَ النَّارِ أوْ دَخَلَ الجَنَّةَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْوَلَد الَّذِي لم يبلغ الْحِنْث إِذا كَانَ حِجَابا لِأَبَوَيْهِ من النَّار فبالطريق الأولى أَن يكون محجوبا عَن النَّار، فَيدل هَذَا على أَن أَوْلَاد الْمُسلمين الْأَطْفَال من أهل الْجنَّة، وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَقد رَوَاهُ فِي: بَاب فضل من مَاتَ لَهُ ولد فاحتسب، رَوَاهُ عَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَمُوت لمُسلم ثَلَاثَة من الْوَلَد فيلج النَّار إلاَّ تَحِلَّة الْقسم) . وَقد رُوِيَ هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة بطرق مُخْتَلفَة لَيْسَ فِيهَا مَوْصُول من حَدِيثه على الْوَجْه الَّذِي ذكره مُعَلّقا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع من يعْتد بِهِ من عُلَمَاء الْمُسلمين على أَن من مَاتَ من أَطْفَال الْمُسلمين فَهُوَ من أهل الْجنَّة، وَتوقف فِيهِ بَعضهم لحَدِيث عَائِشَة، أخرجه مُسلم بِلَفْظ: (توفّي صبي من الْأَنْصَار فَقلت: طُوبَى لَهُ لم يعْمل سوءا وَلم يُدْرِكهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة؟ إِن الله تَعَالَى خلق للجنة أَهلا. .) الحَدِيث. وَأجِيب عَنهُ: أَنه لَعَلَّه نهاها عَن المسارعة إِلَى الْقطع من غير دَلِيل، أَو قَالَ ذَلِك قبل أَن يعْمل أَن أَطْفَال الْمُسلمين فِي الْجنَّة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: نفى بَعضهم الْخلاف وَكَأَنَّهُ عَنى ابْن أبي زيد، فَإِنَّهُ أطلق الْإِجْمَاع فِي ذَلِك، وَلَعَلَّه أَرَادَ إِجْمَاع من يعْتد بِهِ، وَقَالَ الْمَازرِيّ: الْخلاف فِي غير أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي أَوَائِل كتاب الْجَنَائِز.
1831 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُلَيَّةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ(8/210)
ثَلاثَةٌ منَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ إلاَّ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ.
(أنظر الحَدِيث 8421) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة آنِفا، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب فضل من مَاتَ لَهُ ولد، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن عبد الْعَزِيز عَن أنس، وَهنا أخرجه: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي عَن ابْن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَعليَّة اسْم أمه.
قَوْله: (من الْوَلَد) لَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
2831 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ أنَّهُ سَمِعَ البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ أبْرَاهِيمْ عَلَيْهِ السلاَمُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ لَهُ مُرْضِعا فِي الجَنَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَن لأبنه إِبْرَاهِيم مُرْضعًا فِي الْجنَّة، وَهَذَا يدل على أَن أَوْلَاد الْمُسلمين الْأَطْفَال فِي الْجنَّة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْوَلِيد، هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأخرجه أَيْضا فِي صفة الْجنَّة عَن حجاج بن منهال، وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب.
قَوْله: (إِبْرَاهِيم) ، يَعْنِي: ابْن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا خلاف أَن جَمِيع أَوْلَاد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، سوى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ مَا مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَكَانَ ميلاده فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ إِبْرَاهِيم يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من ربيع الأول سنة عشر، وَهُوَ ابْن ثَمَانِيَة عشر شهرا فِي بني مَازِن بن النجار، فِي دَار أم بَرزَة بنت الْمُنْذر، وَدفن بِالبَقِيعِ. قَوْله: (إِن لَهُ مُرْضعًا) ، بِضَم الْمِيم أَي: من يتم رضاعه فِي الْجنَّة، ويروى بِفَتْح الْمِيم أَي: رضَاعًا. قَالَه الْخطابِيّ: وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة: مُرْضعًا ترْضِعه فِي الْجنَّة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّا بك لَمَحْزُونُونَ) .
29 - (بابُ مَا قِيلَ فِي أوْلادِ المُشْرِكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي أَوْلَاد الْمُشْركين وَلم يجْزم بذلك لتوقفه فِيهِ، وَلَكِن ذكر فِي تَفْسِير سُورَة الرّوم مَا يدل على أَنه اخْتَار قَول من قَالَ: إِنَّهُم يصيرون إِلَى الْجنَّة وَأَرَادَ بالأولاد غير الْبَالِغين.
3831 - حدَّثنا حِبَّانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ أبِي بِشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أوْلاَدِ المُشْرِكِينَ فقالَ الله إذْ خَلَقَهُمْ أعْلَمُ بِمَا كانُوا عامِلِينَ.
(الحَدِيث 3831 طرفه فِي: 7956) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على الْوَقْف فِي أَمر أَوْلَاد الْمُشْركين، والترجمة فِيهَا التَّوَقُّف أَيْضا، وَأَحَادِيث هَذَا الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَاحِد، وَعَن أبي هُرَيْرَة اثْنَان، وَعَن سَمُرَة وَاحِد، كَحَدِيث ابْن عَبَّاس، وَالْأول من حَدِيثي أبي هُرَيْرَة على التَّوَقُّف وَالثَّانِي من حَدِيثي أبي هُرَيْرَة يدل على كَونهم فِي الْجنَّة، لَكِن من غير تَصْرِيح، وَحَدِيث سَمُرَة يدل صَرِيحًا على أَنهم فِي الْجنَّة، وَذَلِكَ قَوْله: (وَالشَّيْخ فِي أصل الشَّجَرَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالصبيان حوله أَوْلَاد النَّاس) وأصرح مِنْهُ الَّذِي يَأْتِي فِي التَّعْبِير، وَهُوَ قَوْله: (وَأما الرجل الَّذِي فِي الروضه فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأما الْولدَان الَّذين حوله فَكل مَوْلُود مَاتَ على الْفطْرَة. قَالَ: فَقَالَ بعض الْمُسلمين: يَا رَسُول الله وَأَوْلَاد الْمُشْركين؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَوْلَاد الْمُشْركين) . وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو يعلى من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (سَأَلت رَبِّي اللاَّهين من ذُرِّيَّة الْبشر أَن لَا يعذبهم فأعطانيهم) إِسْنَاده حسن وَورد تَفْسِير اللاَّهين بِأَنَّهُم الْأَطْفَال، من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، أخرجه الْبَزَّار: حَدثنَا أَبُو كَامِل الْفضل بن الْحُسَيْن الجحدري حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن هِلَال بن خباب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض مغازيه، فَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي اللاَّهين؟ فَسكت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ كلمة، فَلَمَّا(8/211)
فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَزْوَة طائف فَإِذا هُوَ بِغُلَام قد وَقع يعبث فِي الأَرْض، فَنَادَى مناديه: أَيْن السَّائِل عَن اللاَّهين؟ فَأقبل الرجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل الْأَطْفَال، ثمَّ قَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، هَذَا من اللاَّهين) . وروى أَحْمد من طَرِيق خنساء بنت مُعَاوِيَة بن صريم عَن عَمَّتهَا، قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله من فِي الْجنَّة؟ قَالَ: النَّبِي فِي الْجنَّة، والشهيد فِي الْجنَّة والمولود فِي الْجنَّة والوئيد فِي الْجنَّة) ، إِسْنَاده حسن.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: حبَان، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُوسَى، مر غير مرّة، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية وَقد مر أَيْضا.
وَفِي سَنَده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان وَشعْبَة واسطي وَأَبُو بشر بَصرِي وَسَعِيد بن جُبَير كُوفِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُجَاهِد بن مُوسَى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، قَوْله: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) لم يدر هَذَا السَّائِل من هُوَ، قيل: يحْتَمل أَن تكون عَائِشَة هِيَ السائلة لما روى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق عبد الله بن أبي قيس عَنْهَا، قَالَت: (قلت: يَا رَسُول الله، ذَرَارِي الْمُسلمين؟ قَالَ: مَعَ آبَائِهِم. قلت: يَا رَسُول الله بِلَا عمل؟ قَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) الحَدِيث، وروى ابْن عبد الْبر من طَرِيق أبي معَاذ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: سَأَلت خَدِيجَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَاد الْمُشْركين، فَقَالَ: هم مَعَ آبَائِهِم، ثمَّ سَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، ثمَّ سَأَلته بَعْدَمَا استحكم الْإِسْلَام فَنزلت: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء 512، فاطر: 81، الزمر: 7 والنجم: 83) . فَقَالَ: هم على الْفطْرَة، أَو قَالَ: فِي الْجنَّة) . وَأَبُو معَاذ هُوَ: سُلَيْمَان بن أَرقم، وَهُوَ ضَعِيف، وَلَو صَحَّ هَذَا لَكَانَ قَاطعا للنزاع.
قَوْله: (إِذْ خلقهمْ) أَي: حِين خلقهمْ. قَوْله: (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي علم أَنهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يرجعُونَ فيعملون، أَو أخبر بِعلم الشَّيْء لَو وجد كَيفَ يكون، مثل قَوْله: {وَلَو ردوا لعادوا} (الْأَنْعَام: 82) . وَلَكِن لم يرد أَنهم يجازون بذلك فِي الْآخِرَة، لِأَن العَبْد لَا يجازى بِمَا لم يعْمل. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل قَوْله: (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) ، وُجُوهًا من التَّأْوِيل. أَحدهَا: أَن يكون قبل إِعْلَامه أَنهم من أهل الْجنَّة. الثَّانِي: أَي: على أَي دين يميتهم لَو عاشوا فبلغوا الْعَمَل فَأَما إِذا عدم مِنْهُم الْعَمَل فهم فِي رَحْمَة الله الَّتِي ينالها من لَا ذَنْب لَهُ. الثَّالِث: أَنه مُجمل يفسره. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم ... } (الْأَعْرَاف: 271) . الْآيَة، فَهَذَا إِقْرَار عَام يدْخل فِيهِ أَوْلَاد الْمُؤمنِينَ وَالْمُشْرِكين فَمن مَاتَ مِنْهُم قبل بُلُوغ الْحِنْث مِمَّن أقرّ بِهَذَا الْإِقْرَار من أَوْلَاد النَّاس كلهم فَهُوَ على إِقْرَاره الْمُتَقَدّم لَا يقْضِي لَهُ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لم يدْخل عَلَيْهِ مَا ينْقضه إِلَى أَن يبلغ الْحِنْث، وَأما من قَالَ: حكمهم حكم آبَائِهِم فَهُوَ مَرْدُود بقوله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 512، فاطر: 81، الزمر: 7 والنجم: 83) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء قَدِيما وحديثا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على أَقْوَال:
الأول: أَنهم فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، وَهُوَ مَنْقُول عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَحَمَّاد بن زيد وَعبد الله بن الْمُبَارك وَإِسْحَاق، وَنَقله الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي فِي حق أَوْلَاد الْكفَّار خَاصَّة، وَالْحجّة فِيهِ (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) .
الثَّانِي: أَنهم تبع لِآبَائِهِمْ، فأولاد الْمُسلمين فِي الْجنَّة وَأَوْلَاد الْكفَّار فِي النَّار، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن الْأزَارِقَة من الْخَوَارِج، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} (نوح 62) . ورد بِأَن المُرَاد قوم نوح خَاصَّة، وَإِنَّمَا دَعَا بذلك لما أوحى الله إِلَيْهِ: {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إلاَّ من قد آمن} (هود: 63) . فَإِن قلت: فِي الحَدِيث هم من آبَائِهِم أَو مِنْهُم (قلت) ذَاك ورد فِي الْحَرْب (فَإِن قلت) روى أَحْمد من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (سَأَلت رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ولدان الْمُسلمين؟ قَالَ: فِي الْجنَّة، وَعَن أَوْلَاد الْمُشْركين؟ قَالَ: فِي النَّار، وَلَو شِئْت أسمعتك تضاغيهم فِي النَّار) قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف جدا لِأَن فِي إِسْنَاده أَبَا عقيل مولى نهية وَهُوَ مَتْرُوك.
الثَّالِث: أَنهم يكونُونَ فِي برزخ بَين الْجنَّة وَالنَّار لأَنهم لم يعملوا حَسَنَات يدْخلُونَ بهَا الْجنَّة وَلَا سيئات يدْخلُونَ بهَا النَّار.
الرَّابِع: هم خدم أهل الْجنَّة، وَورد فِيهِ حَدِيث ضَعِيف أخرجه أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَأَبُو يعلى وَالْبَزَّار من حَدِيث سَمُرَة مَرْفُوعا: (أَوْلَاد الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة) .
الْخَامِس: أَنهم يمْتَحنُونَ(8/212)
فِي الْآخِرَة بِأَن ترفع لَهُم نَار، فَمن دَخلهَا كَانَت عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَمن أبي عذب. وَقَالَ الْبَزَّار: حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر بن هتاخ الْكُوفِي حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى حَدثنَا فُضَيْل بن مَرْزُوق عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْسبهُ قَالَ: (يُؤْتى بالهالك فِي الفترة وَالْمَعْتُوه والمولود، فَيَقُول الْهَالِك فِي الفترة: لم يأتني كتاب وَلَا رَسُول، وَيَقُول الْمَعْتُوه: أَي رب، لم تجْعَل لي عقلا أَعقل بِهِ خيرا وَلَا شرا، وَيَقُول الْمَوْلُود: لم أدْرك الْعَمَل. قَالَ: فَترفع لَهُم نَار، فَيُقَال لَهُم: رِدُوها، أَو قَالَ: أدخلوها فيدخلها من كَانَ فِي علم الله سعيدا أَو أدْرك الْعَمَل، قَالَ: ويمسك عَنْهَا من كَانَ فِي علم الله شقيا، أَي: لَو أدْرك الْعَمَل فَيَقُول: تبَارك وَتَعَالَى: إيَّايَ عصيتم فَكيف برسلي بِالْغَيْبِ) . قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يرْوى عَن أبي سعيد إلاَّ من حَدِيث فُضَيْل، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: قد صحت مَسْأَلَة الامتحان فِي حق الْمَجْنُون وَمن مَاتَ فِي الفترة من طرق صَحِيحَة وروى الْبَزَّار من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُؤْتى بأَرْبعَة يَوْم الْقِيَامَة: بالمولود وَالْمَعْتُوه وَمن مَاتَ فِي الفترة وبالشيخ الفاني، كلهم يتَكَلَّم بحجته، فَيَقُول الله تَعَالَى لعنق من جَهَنَّم، أَحْسبهُ قَالَ: إبرزي، فَيَقُول لَهُم: إِنِّي كنت أبْعث إِلَى عبَادي رسلًا من أنفسهم، وَإِنِّي رَسُول نَفسِي إِلَيْكُم أدخلُوا هَذِه. فَيَقُول من كتب عَلَيْهِ الشَّقَاء: يَا رب أتدخلناها وَمِنْهَا كُنَّا نفرق، وَمن كتب لَهُ السَّعَادَة فيمضي فيقتحم فِيهَا مسرعا. قَالَ: فَيَقُول الله: قد عصيتموني وَأَنْتُم لرسلي أَشد تَكْذِيبًا ومعصية. قَالَ: فَيدْخل هَؤُلَاءِ الْجنَّة وَهَؤُلَاء النَّار) . وروى أَيْضا من حَدِيث الْأسود بن سريع عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يعرض على الله الْأَصَم الَّذِي لَا يسمع شَيْئا والأحمق والهرم وَرجل مَاتَ فِي الفترة: فَيَقُول الْأَصَم رب جَاءَ الأسلام وَمَا أسمع شَيْئا وَيَقُول الأحمق رب جَاءَ الْإِسْلَام وَمَا أَعقل شَيْئا وَيَقُول الَّذِي مَاتَ فِي الفترة رب مَا أَتَانِي لَك من رَسُول، قَالَ: فَيَأْخُذ مواثيقهم، فَيُرْسل إِلَيْهِم تبَارك وَتَعَالَى: أدخلُوا النَّار، فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا. وَحكى الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الِاعْتِقَاد أَن مَسْأَلَة الامتحان فِي حق الْمَجْنُون وَمن مَاتَ فِي الفترة هُوَ الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَاعْترض بِأَن الْآخِرَة لَيست بدار تَكْلِيف فَلَا عمل فِيهَا وَلَا ابتلاء. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك بعد أَن يَقع الِاسْتِقْرَار فِي الْجنَّة أَو النَّار، وَأما فِي عرصات يَوْم الْقِيَامَة فَلَا مَانع من ذَلِك، وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (الْقَلَم: 24) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (أَن النَّاس يؤمرون بِالسُّجُود فَيصير ظهر الْمُنَافِق طبقًا فَلَا يَسْتَطِيع أَن يسْجد) .
السَّادِس: أَنهم فِي الْجنَّة، قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} (الْإِسْرَاء: 51) . وَإِذا كَانَ لَا يعذب الْعَاقِل لكَونه لم تبلغه الدعْوَة، فَلِأَن لَا يعذب غير الْعَاقِل من بَاب الأولى. وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا: فِي أَطْفَال الْمُشْركين ثَلَاثَة مَذَاهِب، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هم فِي النَّار تبعا لِآبَائِهِمْ، وَتوقف طَائِفَة مِنْهُم، وَالثَّالِث هُوَ الصَّحِيح أَنهم من أهل الْجنَّة، لحَدِيث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين رَآهُ فِي الْجنَّة وَحَوله أَوْلَاد النَّاس. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث: (وَالله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) أَنه لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُم فِي النَّار، وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: الثَّوَاب وَالْعِقَاب ليسَا بِالْأَعْمَالِ وإلاَّ لزم أَن تكون الذَّرَارِي لَا فِي الْجنَّة وَلَا فِي النَّار، بل الْمُوجب لَهما هُوَ اللطف الرباني والخذلان الإل هِيَ الْمُقدر لَهُم فِي الْأَزَل، فَالْوَاجِب فيهم التَّوَقُّف، فَمنهمْ من سبق الْقَضَاء بِأَنَّهُ سعيد حَتَّى لَو عَاشَ عمل بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَمِنْهُم بِالْعَكْسِ.
4831 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ. قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقُولُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ فَقَالَ الله أعْلَمُ بِمَا كانُوا عامِلِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي وَجه مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الْمدنِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر عَن يحيى بن بكير. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي الطَّاهِر وَعَن مُحَمَّد بن حميد وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ وَعَن سَلمَة بن شُعَيْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.(8/213)
5831 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ كمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيها جَدْعَاءَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة) يشْعر بِأَن أَوْلَاد الْمُشْركين فِي الْجنَّة، لِأَن قَوْله فِي التَّرْجَمَة: بَاب مَا قيل، يتَنَاوَل ذَلِك، وَلَكِن لَا يدل على ذَلِك صَرِيحًا، إِذْ لَو دلّ صَرِيحًا مَا كَانَ مطابقا للتَّرْجَمَة. وَالَّذِي يدل صَرِيحًا قد ذَكرْنَاهُ، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث مَبْسُوطا فِي: بَاب إِذا أسلم الصَّبِي فَمَاتَ هَل يصلى عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: الأول: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن ابْن شهَاب. وَالثَّانِي: عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَهُنَا أخرجه عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَنَذْكُر هُنَا مَا فاتنا هُنَاكَ.
قَوْله: (كل مَوْلُود) أَي: من بني آدم، وَصرح بِهِ جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (كل بني آدم يُولد على الْفطْرَة) . قيل: ظَاهره الْعُمُوم فِي جَمِيع المولودين، يدل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، بِلَفْظ: (لَيْسَ من مَوْلُود يُولد إلاَّ على هَذِه الْفطْرَة حَتَّى يعبر عَنهُ لِسَانه) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (مَا من مَوْلُود يُولد إلاَّ وَهُوَ على الْملَّة) ، وَقيل: إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْعُمُوم، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن كل من ولد على الْفطْرَة،. وَكَانَ لَهُ أَبَوَانِ على غير الْإِسْلَام نَقَلَاه إِلَى دينهما، فتقدير الْخَبَر على هَذَا: كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَأَبَوَاهُ يَهُودِيَّانِ مثلا، فَإِنَّهُمَا يُهَوِّدَانِهِ ثمَّ يصير عِنْد بُلُوغه إِلَى مَا يحكم بِهِ عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأَبَوَاهُ) أَي: فَأَبَوا الْمَوْلُود، قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْفَاء إِمَّا للتعقيب أَو للسَّبَبِيَّة أَو جَزَاء شَرط مُقَدّر أَي: إِذا تقرر ذَلِك فَمن تغير كَانَ بِسَبَب أَبَوَيْهِ إِمَّا بتعليمهما إِيَّاه أَو ترغيبهما فِيهِ، أَو كَونه تبعا لَهما فِي الدّين، يَقْتَضِي أَن يكون حكمه حكمهمَا فِيهِ، وَخص الأبوان بِالذكر للْغَالِب. قَوْله: (تنْتج) الْبَهِيمَة أَي: تلدها.
39 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْله: (فصل) ، وَيذكر هَذَا هَكَذَا لتَعَلُّقه فِي الحكم بِمَا قبله، ثمَّ إِنَّه وَقع هَكَذَا عِنْد الروَاة كلهم إلاَّ أَبَا ذَر.
6831 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ قَالَ حدَّثنا أبُو رَجاءٍ عنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ. قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا صَلَّى صَلاَةً أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ منْ رَأي مِنْكُمْ اللَّيلَةَ رُؤيَا قَالَ فإنْ رَأى أحَدٌ قَصَّها فَيَقُولُ مَا شاءَ الله فسَألَنا يَوما فَقَالَ هَلْ رَأى أحدٌ مِنْكُمْ رُؤيَا قُلْنَا لاَ قَالَ لاكِنِّي رَأيْتُ اللَّيلَة رَجُلَيْنِ أتيَانِي فأخذَا بِيَدِي فأخْرجَانِي إِلَى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ فَإِذا رَجُلٌ جالِسٌ ورَجُلٌ قائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَديدٍ قَالَ بَعْضُ أصْحَابِنَا عنْ مُوسى أنَّهُ يُدْخِلُ ذالِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَثْلُغَ قَفاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذالِكَ ويَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هاذا فيَعُودُ فيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هاذا قالاَ انْطَلِقْ فانْطَلَقْنَا حَتَّى أتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلى قَفَاهُ ورَجُلٌ قائِمٌ عَلى رَأسِهِ بِفِهْرٍ أوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأسَهُ فإذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الحَجَرُ فانْطَلَقَ إلَيْهِ لِيَأخُذَهُ فلاَ يَرْجِعُ إلَى هاذا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأسُهُ وعَادَ رأسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هاذا قالاَ انْطَلِقْ فانْطَلَقْنا إلَى ثَقْبٍ مِثلِ التَّنُّورِ أعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارا فإذَا اقْتَرَبَ ارْتَفعُوا حتَّى كَاد أنْ يَخْرُجوا فَإِذا خمَدتْ رجَعُوا فِيها وَفيها رِجالٌ وَنِساءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هاذَا قالاَ(8/214)
انْطَلِقْ فانْطَلَقْنَا حتَّى أتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قائِمٌ عَلَى وسَطِ النَّهْرِ وَقَالَ يَزِيدُ ووَهْبُ بنُ جَرِيرِ بنِ حازِمٍ وعلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فأقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهرِ فإذَا أرادَ أنْ يَخْرُجَ رَمى الرَّجلُ بِحجَرٍ فِي فيهِ فرَدَّهُ حيْثُ كانَ فجَعلَ كلَّما جاءَ لِيخْرُجَ رمَى فِي فيهِ بِحجَرٍ فيَرْجِعُ كَما كانَ فقُلتُ مَا هاذا قَالَا انْطَلِقْ فانْطَلَقْنا حتَّى انْتَهينَا إِلَى رَوضَةٍ خَضْراءَ فِيها شجرَةٌ عَظيمَةٌ وَفِي أصْلِهَا شَيْخٌ وصِبْيَانٌ وَأذا رجلٌ قَريبٌ مِنَ الشَّجرَةِ بَيْنَ يدَيْهِ نارٌ يُوقِدُها فصَعِدَا بِي فِي الشَّجرةِ وأدْخلانِي دَارا لَمْ أرَ قطُّ أحْسَنُ مِنْهَا فِيهَا رِجالٌ شُيُوخٌ وشَبَابٌ ونِسَاءٌ وصِبْيَانٌ ثُمَّ أخْرَجَانِي مِنْهَا فصعِدَا بِي الشَّجَرةَ فأدْخلانِي دَارا هيَ أحْسَنُ وأفْضَلُ فِيها شُيوخٌ وشبَابٌ قُلتُ طوَّفْتُمَانِي اللَّيلَةَ فأخبِراني عَمَّا رَأيْتُ قالاَ نَعَمْ أمَّا الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ فتُحْمَلُ عنهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ فَيْصْنَعُ بِهِ مَا رَأيْتَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَالَّذِي رَأيْتَهُ يُشْدَخْ رَأسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ الله القُرْآنَ فنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ ولَمُ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ والَّذِي رَأيْتهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ والَّذِي رأيْتَهُ فِي النَّهْرِ آكِلُوا الرِّبا والشَّيْخُ فِي أصْلِ الشَّجَرَةِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ والصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فأوْلادُ النَّاسِ والَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الأولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وأمَّا هاذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنا جِبْرِيلُ وهاذا مِيكائِيلُ فارْفَعْ رَأسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فإذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قالاَ ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أدْخُلْ مَنْزِلِي قالاَ إنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أتَيْتَ مَنْزِلَكَ..
مطابقته لترجمة الْبَاب فِي قَوْله: (وَالشَّيْخ فِي أصل الشَّجَرَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالصبيان حوله أَوْلَاد النَّاس) . وَهَذَا صَرِيح فِي كَون أَوْلَاد النَّاس كلهم فِي الْجنَّة، وَيدخل فِيهِ أَوْلَاد الْمُشْركين، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَته فِي التَّعْبِير بِلَفْظ: (وَأما الْولدَان الَّذين حوله فَكل مَوْلُود مَاتَ على الْفطْرَة، فَقَالَ بعض الْمُسلمين: وَأَوْلَاد الْمُشْركين؟ فَقَالَ: وَأَوْلَاد الْمُشْركين) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري الَّذِي يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي. الثَّالِث: أَبُو رَجَاء، بتَخْفِيف الْجِيم وبالمد: واسْمه عمرَان بن تَمِيم، وَيُقَال: ابْن ملْحَان العطاردي. الرَّابِع: سَمُرَة بن جُنْدُب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه كَذَلِك وَأَبُو رَجَاء مخضرم أدْرك زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد فتح مَكَّة وَلم ير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنزل الْبَصْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع وَفِي الْجِهَاد وَفِي بَدْء الْخلق وَفِي صَلَاة اللَّيْل وَفِي الْأَدَب: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الصَّلَاة وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير: عَن مُؤَمل بن هِشَام، وَالَّذِي أخرجه فِي الصَّلَاة فِي: بَاب عقد الشَّيْطَان على قافية الرَّأْس، أخرجه عَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عَوْف عَن أبي رَجَاء عَن سَمُرَة بن جُنْدُب مُخْتَصرا جدا، وَذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فسألنا) ، بِفَتْح اللَّام جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. قَوْله: (يَوْمًا) نصب على الظّرْف. قَوْله: (رُؤْيا) ، على وزن: فعلى، بِالضَّمِّ، يُقَال: رأى فِي مَنَامه رُؤْيا على: فعلى بِلَا تَنْوِين، وَجمعه، رأى بِالتَّنْوِينِ، مِثَال: رعى، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل اللُّغَة أَن الرُّؤْيَا(8/215)
فِي النّوم، والرؤية فِي الْيَقَظَة. وَقد قيل: إِن الرُّؤْيَا أَيْضا تكون فِي الْيَقَظَة، وَعَلِيهِ تَفْسِير الْجُمْهُور فِي قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إلاَّ فتْنَة للنَّاس} (يُوسُف:) . أَن الرُّؤْيَا هَهُنَا فِي الْيَقَظَة، وتكتب بِالْألف كَرَاهَة اجْتِمَاع الياءين. قَوْله: (فَإِذا رجل) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (كَلوب) ، بِفَتْح الْكَاف وَضم اللَّام الْمُشَدّدَة، وَهُوَ: الحديدة الَّتِي ينشل بهَا اللَّحْم عَن الْقدر، وَكَذَلِكَ الْكلاب، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ. قَوْله: (من حَدِيد) ، كلمة: من، للْبَيَان كَمَا فِي قَوْلك: خَاتم من فضَّة. قَوْله: (قَالَ بعض أَصْحَابنَا عَن مُوسَى) ، وَهُوَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور فِي أول الحَدِيث، وَهَذَا الْبَعْض مُبْهَم، وَلَكِن لَا يضر لما عرف من عَادَة البُخَارِيّ أَنه لَا يرْوى إلاَّ عَن الْعدْل الَّذِي بِشَرْطِهِ، فَلَا بَأْس بِجَهْل اسْمه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ مَا صرح باسمه حَتَّى لَا يلْزم التَّدْلِيس؟ قلت: لَعَلَّه نسي اسْمه أَو لغَرَض آخر. فَإِن قلت: مَا الْمِقْدَار الَّذِي هُوَ مقول بعض الْأَصْحَاب؟ قلت: كَلوب من حَدِيد. فَإِن قلت: فعلى رِوَايَة غيرَة لَا يتم الْكَلَام إِذا لم يذكر مَا بِيَدِهِ؟ قلت: مَحْذُوف كَأَنَّهُ قَالَ: بِيَدِهِ شَيْء فسره بعض الْأَصْحَاب بِأَنَّهُ كَلوب. قَوْله: (أَنه) أَي: أَن ذَلِك الرجل الَّذِي فِي يَده الكلوب. قَوْله: (يدْخل) ، بِضَم الْيَاء من الإدخال. قَوْله: (الكلوب) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (فِي شدقه) بِكَسْر الشين: جَانب الْفَم. قَوْله: (حَتَّى يثلغ قَفاهُ) ، من ثلغ يثلغ بِفَتْح اللَّام فيهمَا ثلغا، ومادته ثاء مُثَلّثَة وَلَام وغين مُعْجمَة، والثلغ: الشدخ. وَقيل: هُوَ ضربك الشَّيْء الرطب بالشَّيْء الْيَابِس حَتَّى يتشدخ. قَوْله: (مثل ذَلِك) أَي: مثل مَا فعل بشدقه الأول. قَوْله: (وَرجل قَائِم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (بفهر) ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الْحجر ملْء الْكَفّ. وَقيل: هُوَ الْحجر مُطلقًا. قَوْله: (فيشدخ) ، من الشدخ، وَهُوَ: كسر الشَّيْء الأجوف. تَقول: شدخت رَأسه فانشدخ، ومادته: شين مُعْجمَة ودال مُهْملَة وخاء مُعْجمَة. قَوْله: (تدهده الْحجر) أَي: تدحرج وَهُوَ على وزن: تفعلل، من مزِيد الرباعي ورباعيه: دهده، على وزن: فعلل. يُقَال: دهدهت الْحجر إِذا دحرجته. وَيُقَال: أَيْضا: دهيدته. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قد تبدل من الْهَاء يَاء، فَيُقَال: تدهدى الْحجر وَغَيره تدهديا، ودهديته أَنا أدهديه دهدأة ودهداء: إِذا دحرجته. قَوْله: (إِلَى ثقب) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ويروى بالنُّون وَفِي (الْمطَالع) : وَعند الْأصيلِيّ: نقب، بالنُّون وَفتح الْقَاف وَهُوَ بِمَعْنى: ثقب، بالثاء الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (مثل التَّنور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون المضمومة وَفِي آخِره رَاء، وَهَذِه اللَّفْظَة من الغرائب حَيْثُ توَافق فِيهَا جَمِيع اللُّغَات، وَهُوَ الَّذِي يخبز فِيهِ. قَوْله: (يتوقد تَحْتَهُ نَارا) ، الضَّمِير فِي يتوقد يرجع إِلَى الثقب، و: نَارا، مَنْصُوب على التَّمْيِيز كَمَا يُقَال: مَرَرْت بِامْرَأَة يتضوع من أردانها طيبا، أَي: يتضوع طيبها من أردانها. ويروى: نَار، بِالرَّفْع على أَنه فَاعل: يتوقد. قَوْله: (فَإِذا اقْترب ارتفعوا) ، من الْقرب، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي، وَالضَّمِير فِي اقْترب يرجع إِلَى الْوقُود أَو الْحر الدَّال عَلَيْهِ. قَوْله: (يتوقد) ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ وَابْن السكن وعبدوس: (فَإِذا افترت) ، بِالْفَاءِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: فَإِذا أخمدت، وَأَصله من الفترة وَهُوَ الانكسار والضعف، وَقد فتر الْحر وَغَيره يفتر فتورا، وفتره الله تفتيرا. وَقَالَ ابْن التِّين: بِالْقَافِ، قترت، وَمَعْنَاهُ: ارْتَفَعت من القترة وَهُوَ الْغُبَار، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قتر اللَّحْم يقتر بِالْكَسْرِ إِذا ارْتَفع قتارها، وقتر اللَّحْم بِالْكَسْرِ لُغَة فِيهِ حَكَاهَا أَبُو عَمْرو. وَقَالَ: والقتار ريح الشواء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَأما فترت بِالْفَاءِ فَمَا علمت لَهُ وَجها لِأَن بعده: فَإِذا خمدت رجعُوا، وَمعنى: خمدت وفترت وَاحِد، وَعند النَّسَفِيّ: إِذا أوقدت ارتفعوا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي (شرح الْمشكاة) : فَإِذا ارتقت من الارتقاء وَهُوَ الصعُود، ثمَّ قَالَ: كَذَا فِي الْحميدِي و (جَامع الْأُصُول) ، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح دراية وَرِوَايَة قَوْله: (ارتفعوا) جَوَاب: إِذا، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النَّاس، بِدلَالَة سِيَاق الْكَلَام. قَوْله: (حَتَّى كَاد أَن يخرجُوا) أَي: كَاد خُرُوجهمْ، وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: حَتَّى كَاد خُرُوجهمْ يتَحَقَّق. قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَفِي (نسخ المصابيح) حَتَّى يكادوا يخرجُوا، وَحقه إِثْبَات النُّون، أللهم إلاَّ أَن يتمحل وَيقدر: أَن يخرجُوا، تَشْبِيها لكاد بعسى، ثمَّ حذف: أَن، وَترك على حَاله، وَفِي (التَّوْضِيح) : وروى بِإِثْبَات النُّون. قَوْله: قَالَ يزِيد ووهب بن جرير عَن جرير بن حَازِم: (وعَلى شط النَّهر رجل) ، وَهَذَا التَّعْلِيق من يزِيد بن هَارُون، ووهب ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر كَمَا جَاءَ فِي التَّعْبِير: على شط النَّهر رجل، أما التَّعْلِيق عَن يزِيد فوصله أَحْمد عَنهُ وسَاق الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (فَإِذا نهر من دم فِيهِ رجل، وعَلى شط النَّهر رجل) . وَأما التَّعْلِيق عَن جرير بن حَازِم فوصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه، وَفِيه: (حَتَّى ينتهى إِلَى نهر من دم وَرجل قَائِم فِي وَسطه وَرجل على شاطىء النَّهر) . قَوْله: (فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه. قَوْله: (فَجعل كلما جَاءَ ليخرج وَقع) خبر: جعل،(8/216)
هُنَا جملَة فعلية مصدرة: بكلما، وَحقه أَن يكون فعلا مضارعا كَمَا فِي غَيره من أَفعَال المقاربة، وَلَكِن ترك الأَصْل شذوذا كَمَا وَقع هُنَا جملَة من فعل مَاض مقدم عَلَيْهِ. قَوْله: (رمى الرجل) ، رُوِيَ بِالرَّفْع وَالنّصب، قَالَه الْكرْمَانِي قلت: وَجه الرّفْع أَن: رمي، على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَيْهِ الرجل، وَوجه النصب أَن: رمي، على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الرجل الْقَائِم على شط النَّهر. قَوْله: (فَقلت: مَا هَذَا؟) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ ذكر فِي المشدوخ بِلَفْظ: من، وَفِي أخواته الثَّلَاثَة بِلَفْظ: مَا؟ قلت: السُّؤَال: بِمن، عَن الشَّخْص، و: بِمَا، عَن حَاله وهما متلازمان، فَلَا تفَاوت فِي الْحَاصِل مِنْهُمَا. أَو لما كَانَ هَذَا الرجل عبارَة عَن الْعَالم بِالْقُرْآنِ ذكره بِلَفْظ: من، الَّذِي للعقلاء، إِذْ الْعلم من حَيْثُ هُوَ فَضِيلَة وَإِن لم يكن مَعَه الْعَمَل بِخِلَاف غَيره، إِذْ لَا فَضِيلَة لَهُم، وَكَأَنَّهُ لَا عقل لَهُم. قَوْله: (وَفِي أَصْلهَا شيخ وصبيان) ، يُرِيد الَّذين هم فِي علم الله من أهل السَّعَادَة من أَوْلَاد الْمُسلمين، قَالَه أَبُو عبد الْملك. قَوْله: (وأدخلاني) ويروى: (فأدخلاني) ، بِالْفَاءِ. قَوْله: (طوفتماني) بالنُّون ويروى: (طوفتما بِي) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من التطويف، يُقَال: طوف إِذا أَكثر الطّواف وَهُوَ الدوران، يُقَال: طَاف حول الْبَيْت يطوف طوفا وطوفانا، وَتَطوف واستطاف كُله بِمَعْنى. قَوْله: (أما الَّذِي رَأَيْته يشق شدقه، فكذاب) ، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْمَالِكِي: لَا بُد من جعل الْمَوْصُول الَّذِي هَهُنَا للمعين، كالعام، حَتَّى جَازَ دُخُول الْفَاء فِي خَبره أَي: المُرَاد هُوَ وَأَمْثَاله قلت: نقل الطَّيِّبِيّ عَنهُ مَبْسُوطا فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِي: فِي هَذَا شَاهد على أَن الحكم قد يسْتَحق بِجُزْء الْعلَّة، وَذَلِكَ أَن الْمُبْتَدَأ لَا يجوز دُخُول الْفَاء على خَبره إلاَّ إِذا كَانَ شَبِيها بِمن الشّرطِيَّة فِي الْعُمُوم، واستقبال مَا يتم بِهِ الْمَعْنى نَحْو الَّذِي يأتيني فمكرم، فَلَو كَانَ الْمَقْصُود بِالَّذِي مَعنا زَالَت مشابهته بِمن وَامْتنع دُخُول الْفَاء على الْخَبَر كَمَا يمْتَنع دُخُولهَا على أَخْبَار المبتدآت الْمَقْصُود بهَا، التَّعْيِين، نَحْو: زيد مكرم، فمكرم لم يجز، فَكَذَا لَا يجوز الَّذِي يأتيني إِذا قصدت بِهِ معينا، لَكِن الَّذِي يأتيني عِنْد قصد التَّعْيِين شَبيه فِي اللَّفْظ بِالَّذِي يأتيني عِنْد قصد الْعُمُوم، فَجَاز دُخُول الْفَاء حملا للشبيه على الشبيه، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ فبإذن الله} (آل عمرَان: 661) . فَإِن مَدْلُول: مَا، معِين ومدلول: أَصَابَكُم، مَاض إلاَّ أَنه روعي فِيهِ الشّبَه اللَّفْظِيّ، يشبه هَذِه الْآيَة بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} (الشورى: 03) . فَأجرى: مَا، فِي مصاحبة: الْفَاء، مجْرى وَاحِد، ثمَّ قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَقُول: هَذَا كَلَام متين، لَكِن جوب الْملكَيْنِ تَفْصِيل لتِلْك الرُّؤْيَا المتعددة المبهمة، فَلَا بُد من ذكر كلمة التَّفْصِيل كَمَا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) والْحميدِي و (الْمشكاة) أَو تقديرها بِالْفَاءِ جَوَاب أما وَالْفَاء فِي قَوْله: (فأولاد النَّاس) ، جَازَ دُخُوله على الْخَبَر لِأَن الْجُمْلَة معطوفة على مَدْخُول، أما فِي قَوْله أما الرجل الَّذِي رَأَيْته وَحذف الْفَاء فِي بعض المعطوفات نظرا إِلَى أَن أما مَا حذفت حذف مقتضاها، وَكِلَاهُمَا جائزان. قَوْله: (فَنَامَ عَنهُ) أَي: أعرض عَنهُ. و: عَن، هَهُنَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} (الماعون: 5) . قَوْله: (دَار الشُّهَدَاء) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ اكْتفى فِي هَذِه الدَّار بِذكر الشُّيُوخ والشباب وَلم يذكر النِّسَاء وَالصبيان؟ قلت: لِأَن الْغَالِب أَن الشَّهِيد لَا يكون إلاَّ شَيخا أَو شَابًّا لَا امْرَأَة أَو صَبيا. فَإِن قلت: مُنَاسبَة التَّعْبِير للرؤيا ظَاهِرَة إلاَّ فِي الزناة، فَمَا هِيَ؟ قلت: من جِهَة أَن العري فضيحة كَالزِّنَا ثمَّ إِن الزَّانِي يطْلب الْخلْوَة كالتنور وَلَا شكّ أَنه خَائِف حذر وَقت الزِّنَا، كَأَنَّهُ تَحت النَّار فَإِن قلت: دَرَجَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفيعة فَوق دَرَجَات الشُّهَدَاء، فَمَا وَجه كَونه تَحت الشَّجَرَة، وَهُوَ خَلِيل الله وَأَبُو الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنه الأَصْل فِي الْملَّة وَأَن كل من بعده من الْمُوَحِّدين فَهُوَ تَابع لَهُ وبممره يصعدون شَجَرَة الْإِسْلَام ويدخلون الْجنَّة. قَوْله: (دَعَاني) أَي: اتركاني، وَهُوَ خطاب للملكين.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الاهتمام بِأَمْر الرُّؤْيَا واستحباب السُّؤَال عَنْهَا وَذكرهَا بعد الصَّلَاة. وَفِيه: التحذير عَن الْكَذِب وَالرِّوَايَة بِغَيْر الْحق. وَفِيه: التحذير عَن ترك قِرَاءَة الْقُرْآن وَالْعَمَل بِهِ. وَفِيه: التَّغْلِيظ على الزناة. وَوجه الضَّبْط فِي هَذِه الْأُمُور أَن الْحَال لَا يَخْلُو من الثَّوَاب وَالْعِقَاب فالعذاب إِمَّا على مَا يتَعَلَّق بالْقَوْل أَو بِالْفِعْلِ، وَالْأول: أما على وجود قَول لَا يَنْبَغِي أَو على عدم قَول يَنْبَغِي، الثَّانِي: إِمَّا على بدني وَهُوَ الزِّنَا وَنَحْوه، أَو مَالِي وَهُوَ الرِّبَا أَو نَحوه، وَالثَّوَاب إِمَّا لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودرجته فَوق الْكل مثل السحابة، وَإِمَّا للْأمة وَهِي ثَلَاث دَرَجَات: الْأَدْنَى للصبيان(8/217)
والأوسط للعامة والأعلى للشهداء. وَفِيه: فضل تَعْبِير الرُّؤْيَا. وَفِيه: أَن من قدم خيرا وجده غَدا فِي الْقِيَامَة لقَوْله: (أتيت مَنْزِلك) . وَفِيه: اسْتِحْبَاب إقبال الإِمَام بعد سَلَامه على أَصْحَابه. وَفِيه: مبادرة الْمعبر إِلَى تَأْوِيلهَا أول النَّهَار قبل أَن يتشعب ذهنه باشتغاله فِي معاشه فِي الدُّنْيَا، وَلِأَن عهد الرَّائِي قريب وَلم يطْرَأ عَلَيْهِ مَا يشوشها، وَلِأَنَّهُ قد يكون فِيهَا مَا يسْتَحبّ تَعْجِيله: كالحث على خير والتحذير عَن مَعْصِيّة. وَفِيه: إِبَاحَة الْكَلَام فِي الْعلم. وَفِيه: أَن استدبار الْقبْلَة فِي جُلُوسه للْعلم أَو غَيره جَائِز.
49 - (بابُ مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْمَوْت يَوْم الِاثْنَيْنِ. فَإِن قلت: لَيْسَ لأحد اخْتِيَار فِي تعْيين وَقت الْمَوْت، فَمَا وَجه هَذَا؟ قلت: لَهُ مدْخل فِي التَّسَبُّب فِي حُصُوله بِأَن يرغب إِلَى الله لقصد التَّبَرُّك، فَإِن أُجِيب فَخير حصل وإلاَّ يُثَاب على اعْتِقَاده.
7831 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ فِي ثَلاَثَةِ أثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ وَقَالَ لَهَا فِي أيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ يَوْمَ الإثْنَيْنِ قَالَ فأيُّ يَوْمٍ هاذا قالَتْ يَوْمُ الإثْنَيْنِ قَالَ أرْجُو فِيمَا بَيْنِي وبَيْنَ اللَّيْلِ فنَظَرَ إلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كانَ يْمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هاذا وَزِيدُوا علَيْهِ ثَوْبَيْنِ فكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْتُ إنَّ هاذا خَلْقً. قَالَ إنَّ الحَيَّ أحَقُّ بِالجَدِيدِ مِنَ المَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاَثَاءِ ودُفِنَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت وَفَاته يَوْم الْإِثْنَيْنِ، فَمن مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ يُرْجَى لَهُ الْخَيْر لموافقة يَوْم وَفَاته يَوْم وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فظهرت لَهُ مزية على غَيره من الْأَيَّام بِهَذَا الِاعْتِبَار، فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلم يَمُوت يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة إلاَّ وَقَاه الله تَعَالَى فتْنَة الْقَبْر) . قلت: هَذَا حَدِيث انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِمُتَّصِل لِأَن ربيعَة بن سيف يرويهِ عَن ابْن عمر، وَلَا يعرف لَهُ سَماع مِنْهُ، فَلذَلِك لم يذكرهُ البُخَارِيّ، فاقتصر على مَا وَافق شَرطه.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ووهيب بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخلت على أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) تَعْنِي أَبَاهَا. قَوْله: (فِي كم كفنتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) أَي: فِي كم ثوبا كفنتم، و: كم، الاستفهامية وَإِن كَانَ لَهَا صدر الْكَلَام، وَلَكِن الْجَار كالجزء لَهُ فَلَا يتصدر عَلَيْهِ. فَإِن قلت: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أقرب النَّاس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعلمهم بِحَالهِ وأموره، فَمَا وَجه هَذَا السُّؤَال؟ قلت: هَذَا السُّؤَال من أبي بكر عَن كفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَالْجَوَاب عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَا فِي مرض مَوته، وَكَانَ قَصده من ذَلِك مُوَافَقَته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى فِي التَّكْفِين، وَكَانَ يَرْجُو أَيْضا أَن تكون وَفَاته فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لشدَّة إتباعه إِيَّاه فِي حَيَاته، فَأَرَادَ اتِّبَاعه فِي مماته، وَحصل قَصده فِي التَّكْفِين، لِأَن عَائِشَة لما قَالَت: كفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة، أَشَارَ أَبُو بكر أَن يكون كَفنه أَيْضا فِي ثَلَاثَة أَثوَاب، حَيْثُ قَالَ: إغسلوا ثوبي هَذَا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى ثَوْبه الَّذِي كَانَ يمرض فِيهِ، وزيدوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ ليصير ثَلَاثَة أَثوَاب، مثل كفن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما وَفَاته فقد تَأَخَّرت عَن وَقت وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توفّي يَوْم الِاثْنَيْنِ، وَتُوفِّي أَبُو بكر لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء لثمان بَقينَ من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة، وَذَلِكَ كَانَ لحكمة فِي التَّأْخِير، وَهِي أَنه إِنَّمَا تَأَخّر عَن يَوْم الْإِثْنَيْنِ(8/218)
لكَونه قَامَ بِالْأَمر بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَاسَبَ أَن تكون وَفَاته مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت الَّذِي قبض فِيهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك بِصِيغَة الِاسْتِفْهَام تَوْطِئَة لعَائِشَة للصبر على فَقده، لِأَنَّهُ لم تكن خرجت من قَلبهَا الحرقة، لمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو كَانَ ذكر ابْتِدَاء من أَمر مَوته لدخل عَلَيْهَا غم عَظِيم من ذَلِك، وتجديد حزن، لِأَنَّهُ كَانَ يكون حِينَئِذٍ غم على غم وحزن على حزن، وَلم يقْصد أَبُو بكر ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون السُّؤَال عَن قدر الْكَفَن على حَقِيقَته لِأَنَّهُ لم يحضر ذَلِك لاشتغاله بِأَمْر الْبيعَة. انْتهى. قلت: مَا أبعد هَذَا عَن مَنْهَج الصَّوَاب، لأَنا قد ذكرنَا أَن السُّؤَال وَالْجَوَاب إِنَّمَا كَانَا فِي مرض موت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لأجل الْمُوَافقَة والاتباع، وَأَيْنَ كَانَ وَقت اشْتِغَاله بِأَمْر الْبيعَة من هَذَا الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ مَرِيضا مرض الْمَوْت، وَمن الْبعيد أَن لَا يحضر أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تكفين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَونه أقرب النَّاس إِلَيْهِ فِي كل شَيْء، وَمَعَ هَذَا كَانَت الْبيعَة فِي الْيَوْم الَّذِي توفّي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَوْم الِاثْنَيْنِ، والتكفين كَانَ وَقت دَفنه لَيْلَة الْأَرْبَعَاء. قَالَه ابْن إِسْحَاق. فَإِن قلت: قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت الْبيعَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ قلت: كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ يَوْم السَّقِيفَة، وَكَانَت الْبيعَة الْعَامَّة يَوْم الثُّلَاثَاء، قَالَه الزُّهْرِيّ وَغَيره. قَوْله: (بيض) ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: أَبيض. قَوْله: (سحُولِيَّة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى سحول، قَرْيَة بِالْيمن، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب الثِّيَاب الْبيض للكفن، قَوْله: (وَقَالَ لَهَا) أَي: قَالَ أَبُو بكر لعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي أَي يَوْم توفّي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ بَعضهم: وَأما تعْيين الْيَوْم فنسيانه أَيْضا يحْتَمل، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن لَيْلَة الْأَرْبَعَاء، فَيمكن أَن يحصل التَّرَدُّد: هَل مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ أَو الثُّلَاثَاء؟ انْتهى قلت: هَذَا أبعد من الأول، لِأَنَّهُ كَيفَ يخفى عَلَيْهِ ذَلِك وَقد بُويِعَ لَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم بيعَة السَّقِيفَة؟ وَأَيْضًا كَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِيهِ فِي مَوته، فَمن قَائِل، قَالَ: مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن قَائِل قَالَ: لم يمت وَمِنْهُم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى خطب أَبُو بكر إِلَى جَانب الْمِنْبَر، وَبَين لَهُم وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأزال الْجِدَال وأزاح الْإِشْكَال. وَكَيف يخفى عَلَيْهِ مثل ذَلِك الْيَوْم مَعَ قرب الْعَهْد، وَإِنَّمَا كَانَ وَجه سُؤَاله ليعلمها أَنه كَانَ يتَمَنَّى أَن تكون وَفَاته يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَلم يكن سُؤَاله عَن حَقِيقَة ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يَوْم الِاثْنَيْنِ تطييبا لِقَلْبِهِ، لما قَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَي يَوْم توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَيَوْم الِاثْنَيْنِ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (قَالَ فَأَي يَوْم هَذَا؟) أَي: قَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَي يَوْم هَذَا؟ وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الْيَوْم الَّذِي كَانَ مَرِيضا فِيهِ، وَكَانَ آخر أَيَّامه، وَلم يكن مَوته فِيهِ لما ذكرنَا قَوْله: (قلت يَوْم الِاثْنَيْنِ) ، بِرَفْع الْيَوْم لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا الْيَوْم يَوْم الْإِثْنَيْنِ. قَوْله: (أَرْجُو فِيمَا بيني وَبَين اللَّيْل) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (وَبَين اللَّيْلَة) وَمَعْنَاهُ: أَرْجُو من الله تَعَالَى أَن يكون موتِي فِيمَا بَين الْوَقْت الَّذِي أَنا فِيهِ وَبَين اللَّيْل الَّذِي يَأْتِي، يَعْنِي يكون يَوْم الِاثْنَيْنِ ليَكُون مَوته فِي يَوْم موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ هَذَا توفّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء بَين الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة لثمان بَقينَ من جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة، كَمَا ذكرنَا آنِفا. وَقيل: توفّي أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم الْجُمُعَة، وَقيل: لَيْلَة الْجُمُعَة و: الأول أصح، وَلَا خلاف أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ قبل أَن ينشب النَّهَار، وَمرض لإثنين وَعشْرين لَيْلَة من صفر، وَبَدَأَ وَجَعه عِنْد وليدة لَهُ يُقَال لَهَا رَيْحَانَة كَانَت من سبي الْيَهُود وَكَانَ أول يَوْم مرض يَوْم السبت، وَتُوفِّي يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول لتَمام عشر سِنِين من مقدمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب موت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ سيف بن عمر، إِسْنَاده عَن ابْن عمر، قَالَ: كَانَ سَبَب مرض أبي بكر وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كمد فَمَا زَالَ جِسْمه يذوب حَتَّى مَاتَ. وَقيل: سم، فَقَالَ ابْن سعد بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن شهَاب: إِن أَبَا بكر والْحَارث بن كلدة يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فَقَالَ لَهُ الْحَارِث: إرفع يدك يَا خَليفَة رَسُول الله، وَالله إِن فِيهَا السم سنة وَأَنا وَأَنت نموت فِي يَوْم وَاحِد عِنْد انْتِهَاء السّنة، فماتا عِنْد انْقِضَائِهَا، وَلم يَزَالَا عليلين حَتَّى مَاتَا. والخزيرة أَن يقطع اللَّحْم ويذر عَلَيْهِ الدَّقِيق. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الَّذِي سمته امْرَأَة من الْيَهُود فِي أرز، وَقيل: إِن الْيَهُود سمته فِي حسو. وَقيل: اغْتسل فِي يَوْم بَارِد فَحم خَمْسَة عشر يَوْمًا وَتُوفِّي، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن عَائِشَة. وَقيل: علق بِهِ سل قبل وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَتله، حَكَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (ثمَّ نظر) ، أَي: أَبُو بكر، إِلَى ثوب عَلَيْهِ أَي(8/219)
ثوب كَائِن على بدنه، قَوْله: (كَانَ يمرض فِيهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التمريض، من مَرضت فلَانا بِالتَّشْدِيدِ إِذا أَقمت عَلَيْهِ بالتعهد والمداواة، قَوْله: (بِهِ ردع) ، أَي: بِهَذَا الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ ردع، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ اللطخ والأثر، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من زعفران) ، للْبَيَان. قَوْله: (وزيدوا عَلَيْهِ) أَي: على هَذَا الثَّوْب. قَوْله: (فيهمَا) أَي: فِي الْمَزِيد والزيد عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: إِن كَانَت الرِّوَايَة: فِيهَا، فَالضَّمِير عَائِد إِلَى الأثواب الثَّلَاثَة، وَإِن كَانَت: فيهمَا، يَعْنِي بالتثنية، فكأنهما جَعلهمَا جِنْسَيْنِ: الثَّوْب الَّذِي كَانَ يمرض فِيهِ جِنْسا، والثوبين الآخرين جِنْسا، فذكرهما بِلَفْظ التَّثْنِيَة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: فِيهَا بإفراد الضَّمِير. قَوْله: (قلت: إِن هَذَا خلق) أَي: قَالَت عَائِشَة: إِن هَذَا الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهِ خلق، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام، أَي: بَال، عَتيق، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عِنْد ابْن سعد: (أَلا تجعلها جددا كلهَا؟ قَالَ: لَا) . وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ يرى عدم المغالاة فِي الأكفان، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله بعد ذَلِك: (إِن الْحَيّ أَحَق بالجديد، إِنَّمَا هُوَ للمهلة) ، بِضَم الْمِيم وَهُوَ: الْقَيْح والصديد، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بالمهلة مَعْنَاهَا الْمَشْهُور، أَي: الْجَدِيد لمن يرى المهلة فِي بَقَائِهِ، ويروى: المهلة، بِكَسْر الْمِيم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فَإِنَّمَا هما للمهل وَالتُّرَاب، ويروى: للمهلة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا وَهُوَ: الْقَيْح والصديد الَّذِي يذوب. وَقيل: من الْجَسَد، وَمِنْه قيل للنحاس الذائب: مهل. وَقَالَ ابْن حبيب: المهلة، بِالْكَسْرِ: الصديد وَبِفَتْحِهَا من التمهل وَبِضَمِّهَا عكر الزَّيْت الْأسود المظلم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} (المعارج: 8) . وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّهَا صديد الْمَيِّت، زَعَمُوا أَن الْمهل ضرب من القطران، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا تغَالوا فِي الْكَفَن فَإِنَّهُ يسلب سَرِيعا) . قَوْله: (لَا تغَالوا) ، من المغالاة وَهِي مُجَاوزَة الْعدَد، وَالْمعْنَى: لَا تبالغوا. قَوْله: (يسلب سَرِيعا) يَعْنِي: يسلب الْمَيِّت الْكَفَن، وَالْمعْنَى: يبْلى عَلَيْهِ وَيقطع وَلَا يبْقى وَلَا ينْتَفع بِهِ الْمَيِّت. فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه مُسلم عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه) . وَفِي رِوَايَة الْحَارِث بن أُسَامَة وَأحمد بن منيع: (إِذا ولي أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه فَإِنَّهُم يبعثون فِي أكفانهم ويتزاورون فِي أكفانهم) . وَفِي رِوَايَة أبي نصر عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَحْسنُوا أكفان مَوْتَاكُم فَإِنَّهُم يتباهون ويتزاورون) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا، لِأَن المُرَاد بِهِ لَيْسَ بالمغالاة فِي ثمنه ورقته، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كَونه جَدِيدا أَبيض، حَكَاهُ ابْن الْمُبَارك عَن سَلام بن أبي مُطِيع، وروى ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَنه كَانَ يُعجبهُ الْكَفَن الصفيق، وروى أَيْضا عَن جَعْفَر بن مَيْمُون، قَالَ: كَانُوا يستحبون أَن تكون الْمَرْأَة فِي غِلَاظ الثِّيَاب، وروى أَيْضا عَن الْحسن وَمُحَمّد أَنه: كَانَ يعجبهما أَن يكون الْكَفَن كتانا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن الحنيفة. قَالَ: لَيْسَ للْمَيت من الْكَفَن شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ تكرمة الْحَيّ. وَقيل فِي الْجمع بَينهمَا: يحمل التحسين على الصّفة، وَتحمل المغالاة على الثّمن، وَقيل: التحسين حق الْمَيِّت فَإِذا أوصى بِتَرْكِهِ اتبع، كَمَا فعل الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون اخْتَار ذَلِك الثَّوْب بِعَيْنِه لِمَعْنى فِيهِ من التَّبَرُّك بِهِ، لكَونه كَانَ جَاهد فِيهِ أَو تعبد فِيهِ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن سعد من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، قَالَ أَبُو بكر: كفنوني فِي ثوبي اللَّذين كنت أُصَلِّي فيهمَا. قلت: يحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن الثَّوْب الَّذِي اخْتَارَهُ كَانَ وصل إِلَيْهِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك اخْتَارَهُ تبركا بِهِ، وَحقّ لَهُ هَذَا الِاخْتِيَار.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب التَّكْفِين فِي الثِّيَاب الْبيض. وَفِيه: اسْتِحْبَاب تثليث الْكَفَن. وَفِيه: جَوَاز التَّكْفِين فِي الثِّيَاب المغسولة. وَفِيه: إِيثَار الْحَيّ بالجديد. وَفِيه: جَوَاز دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب طلب الْمُوَافقَة فِيمَا وَقع للأكابر تبركا بذلك. وَفِيه: أَخذ الْمَرْء الْعلم عَمَّن دونه. وَفِيه: فضل أبي بكر وَصِحَّة فراسته وثباته عِنْد وَفَاته، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن وَصِيَّة الْمَيِّت مُعْتَبرَة فِي كَفنه وَغير ذَلِك من أمره إِذا وَافق صَوَابا، فَإِن أوصى بسرف، فَعَن مَالك: يُكفن بِالْقَصْدِ، فَإِن لم يوص لم ينقص عَن ثَلَاثَة أَثوَاب من جنس لِبَاسه فِي حَيَاته، لِأَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا وَالنَّقْص مِنْهَا خُرُوج بِهِ عَن عَادَته، وَلَا خلاف فِي جَوَاز التَّكْفِين فِي خلق الثِّيَاب إِذا كَانَت سَالِمَة من الْقطع وساترة لَهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: فِيهِ: أَن التَّكْفِين فِي الثَّوْب الْجَدِيد والخلق سَوَاء، وَاعْترض عَلَيْهِ بِاحْتِمَال أَن يكون أَبُو بكر اخْتَارَهُ لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، وعَلى تَقْدِير أَن لَا يكون كَذَلِك فَلَا دَلِيل فِيهِ على الْمُسَاوَاة. وَالله أعلم.(8/220)
59 - (بابُ مَوْتِ الفَجْأةِ البَغْتَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال الْمَوْت فَجْأَة، وَلم يُبينهُ اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهُ غير مَكْرُوه، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يظْهر مِنْهُ كراهيته لما أخبرهُ الرجل بِأَن أمه افتلتت نَفسهَا، والفجاءة، بِضَم الْفَاء وبالمد، وَفِي (الْمُحكم) : فَجْأَة وفجأة يفجؤه فجَاء وفجاءة وافتجأه وفاجأه مفاجأة: هجم عَلَيْهِ من غير أَن يشْعر بِهِ، ولقيته فَجْأَة وضعوه مَوضِع الْمصدر، وَمَوْت الْفجأَة مَا يفجأ الْإِنْسَان من ذَلِك. . وَفِي (الْمُنْتَهى) : هُوَ بِالضَّمِّ، والهمزة، وَفِي (الاصلاح) ليعقوب: فاجأني وفجأني الرجل. قَالَ أَبُو زيد: إِذا لَقيته وَلَا تشعر بِهِ وَهُوَ لَا يشْعر بك أَيْضا. وَعند ابْن التياني: فجأ الْأَمر وفاجأ وفجىء، وَبِه يرد على ابْن درسْتوَيْه فِي كتاب (تَصْحِيح الفصيح) 7 والعامة تفتح ماضيه، وَقَالَ قطرب: الأَصْل: فجا، وَنحن نتفجى فلَانا أَي ننتظره وأتيته فجواء أَي: مفاجأة، وَحكى الْمُطَرز عَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه يُقَال: أَتَيْته فجاة والتقاطا وعينا وبددا، أَي: بِغَيْر تلبث. قَوْله: (البغتة) بِالْجَرِّ على أَنه بدل من الْفجأَة وَيجوز أَن يرفع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ البغتة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: بَغْتَة، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال بغته يبغته بغتا، أَي: فاجأه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: البغت أَن يفجأك الشَّيْء، تَقول: بَغْتَة أَي: فَجْأَة ولقيته بَغْتَة أَي فجاءة، والمباغتة المفاجأة.
8831 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وأظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أجْرٌ إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْها قالَ نَعَمْ.
(الحَدِيث 8831 طرفه فِي: 0672) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أجَاب بقوله: (نعم) لذَلِك الْقَائِل الَّذِي فِي الحَدِيث دلّ على أَن موت الْفجأَة غير مَكْرُوه، وَقد ورد فِي حَدِيث عَن عَائِشَة وَابْن مَسْعُود، أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (موت الْفجأَة رَاحَة لِلْمُؤمنِ وأسف على الْفَاجِرَة) . فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبيد بن خَالِد السّلمِيّ، رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: موت الْفجأَة أَخْذَة آسَف، والآسف على فَاعل من الصِّفَات المشبهة، والآسف بِفتْحَتَيْنِ اسْم، وَالْمعْنَى: أَخْذَة غَضْبَان فِي الْوَجْه الأول، وَأَخْذَة غضب فِي الْوَجْه الثَّانِي، وَمَعْنَاهُ: أَنه فعل مَا أوجب الْغَضَب عَلَيْهِ والانتقام مِنْهُ بِأَن أَمَاتَهُ بَغْتَة من غير استعداد وَلَا حُضُور لذَلِك، وروى أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بجدار مائل فأسرع، وَقَالَ: أكره موت الْفَوات) . قلت: الْجمع بَينهمَا بِأَن الأول: مَحْمُول على من استعد وتأهب، وَالثَّانِي: مَحْمُول على من فرط. وَقَالَ ابْن بطال: وَكَانَ ذَلِك، وَالله أعلم، لما فِي موت الْفجأَة من خوف حرمَان الْوَصِيَّة وَترك الاستعداد للمعاد بِالتَّوْبَةِ وَغَيرهَا من الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وروى ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (الْمَوْت) : من حَدِيث أنس نَحْو حَدِيث عبيد بن خَالِد، وَزَاد فِيهِ: المحروم من حرم وَصيته) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم. الثَّانِي: مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر بن أبي كثير. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مصري وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون، وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ سعد بن عبَادَة، قَالَ أَبُو عمر: وَاسم أمه عمْرَة. قَوْله: (افتلتت نَفسهَا) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْنَاهُ: مَاتَت فَجْأَة، يُقَال: افتلت فلَان على صِيغَة الْمَجْهُول، وافتلتت نَفسه أَيْضا، و: نَفسهَا، نصب على التَّمْيِيز أَو مفعول ثانٍ بِمَعْنى: سلبت، ويروى بِرَفْع النَّفس، وَهُوَ ظَاهر. وَسَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن سعد بن عبَادَة استفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نذر كَانَ على أمه توفيت قبل أَن تقضيه، فَقَالَ: إقضه عَنْهَا، وَلأبي دَاوُد: (إِن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أُمِّي افتلتت نَفسهَا. .) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم) ، وللنسائي عَن ابْن عَبَّاس، (عَن سعد بن عبَادَة أَنه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت فَأَي الصَّدَقَة(8/221)
أفضل؟ قَالَ: المَاء) . وَفِي حَدِيث مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أبي مَاتَ وَترك مَالا وَلم يوص، فَهَل يَكْفِي ذَلِك عَنهُ أَن أَتصدق؟ قَالَ: نعم) فالقضية إِذن مُتعَدِّدَة.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الصَّدَقَة عَن الْمَيِّت تجوز، وَأَنه ينْتَفع بهَا، وروى أَحْمد عَن عبد الله بن عَمْرو أَن الْعَاصِ بن وَائِل نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَأَن هِشَام بن الْعَاصِ نحر عَنهُ خمسين، وَأَن عمرا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: أما أَبوك فَلَو أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت وتصدقت عَنهُ نَفعه ذَلِك، وَعند ابْن مَاكُولَا، من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن حبَان عَن أَبِيه عَن جده (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: إِنَّا لندعو لموتانا ونتصدق عَنْهُم ونحج، فَهَل يصل ذَلِك إِلَيْهِم؟ فَقَالَ: إِنَّه ليصل إِلَيْهِم ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالهدية) .
69 - (بابُ مَا جاءَ فِي قَبْرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي صفة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصفَة قبر أبي بكر الصّديق وَعمر الْفَارُوق من كَون قبرهم فِي بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَكَونه مسنما أَو غير مسنم، وَكَونه بارزا أَو غير بارز، وَمن كَون أبي بكر وَعمر مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه فَضِيلَة عَظِيمَة لَهما فِيمَا لَا يشاركهما فِيهَا أحد، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَا وزيريه فِي حَال حَيَاته، وصارا ضجيعيه بعد مماته، وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة خصهما الله تَعَالَى بهَا، وكرامة حياهما بهَا لم تحصل لأحد: أَلا ترى وَصِيَّة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِلَى ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن لَا يدفنها مَعَهم خشيَة أَن تزكّى بذلك، وَهَذَا من تواضعها وإقرارها بِالْحَقِّ لأَهله، وإيثارها بِهِ على نَفسهَا، وَرَأَتْ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَهلا وَأَيْضًا لقرب طينتهما من طينته، فَفِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة عِنْد قبر، فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقيل: فلَان الحبشي، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا إلاه إلاَّ الله، سيق من أرضه وسمائه إِلَى تربته الَّتِي مِنْهَا خلق) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَإِنَّمَا استأذنها عمر فِي ذَلِك وَرغب إِلَيْهَا فِيهِ لِأَن الْموضع كَانَ بَيتهَا، وَلها فِيهِ حق، وَلها أَن تُؤثر بِهِ نَفسهَا لذَلِك، فآثرت بِهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقد كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَأَتْ رُؤْيا دلتها على مَا فعلت حِين رَأَتْ ثَلَاثَة أقمار سقطن فِي حُجْرَتهَا، فقصتها على والدها لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدفن فِي بَيتهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر: هَذَا أول أقمارك وَهُوَ خَيرهَا.
وَقَوْلُ الله {فأقبره}
قَول الله: مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: فأقبره، بالتأويل، يَعْنِي قَول الله مقول فِيهِ فأقبره يُشِير بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} (عبس: 12) . وَذَلِكَ بعد أَن خلقه سويا ثمَّ أَمَاتَهُ، أَي: قبض روحه فأقبره أَي: جعله ذَا قبر يدْفن فِيهِ، وَقيل: جعل لَهُ من يقبره ويواريه وَلَا يلقى للسباع وَالطير، ليَكُون مكرما حَيا وَمَيتًا، وَلم يقل: قَبره، لِأَن فَاعل ذَلِك هُوَ الله تَعَالَى، أَي: صيره مقبورا فَلَيْسَ كَفعل الْآدَمِيّ، وَالْعرب تَقول: طردت فلَانا عني، وَالله أطرده أَي: جعله طريدا.
أقْبَرْتُ الرَّجُلَ إذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرا وقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْفرق فِي الْمَعْنى بَين: أقبرت، الَّذِي هُوَ من الثلاثي الْمَزِيد من بَاب: الْأَفْعَال، وَبَين: قبرت، الَّذِي من الثلاثي الْمُجَرّد، وبيَّن أَن معنى: أقبرت، جعلت لَهُ قبرا، وَأَن معنى: قبرت فلَانا: دَفَنته.
كِفَاتا يَكُونُونَ فِيهَا أحْيَاءً ويُدْفَنُونَ فِيهَا أمْوَاتا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} (المرسلات: 52) . وَقَوله: كفاتا، كلمة من الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقَوله: يكونُونَ فِيهَا تَفْسِيره. وروى عبد بن حميد من طَرِيق مُجَاهِد، قَالَ فِي قَوْله: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا أَحيَاء وأمواتا} (المرسلات: 52) . قَالَ يكونُونَ فِيهَا مَا أَرَادوا، ثمَّ يدفنون فِيهَا. انْتهى. والكفات من: كفت الشَّيْء أكفته إِذا جمعته وضممته. قَالَه الزّجاج: وَقَالَ الْفراء: نكفتهم أَمْوَاتًا فِي بَطنهَا، أَي: نحفظهم ونحرزهم وَنصب الْأَحْيَاء والأموات بِوُقُوع الكفات عَلَيْهِ. وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : كفاتا وعَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس: كُنَّا، وَعَن مُجَاهِد: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} (المرسلات: 52) . قَالَ: نكفت أذاهم وَمَا يخرج مِنْهُم. وَفِي (الْمُحكم) : كفته وكفته: قَبضه وضمه. قَالَ: وَعِنْدِي أَن الكفات فِي الْآيَة الْكَرِيمَة مصدر من: كفت.(8/222)
9831 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني سُلَيْمَانُ عنْ هِشَامٍ ح وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو مَرْوَانَ يَحْيى بنُ أبِي زَكَرِيَّاءَ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ قالَتْ إنْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أيْنَ أَنا اليَوْمَ أيْنَ أَنا غَدا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عائِشَةَ فَلَمَّا كانَ يَوْمِي قَبَضَهُ الله بَيْنَ سَحْري ونَحْرِي وَدُفِنَ فِي بَيْتِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن فِي بَيت عَائِشَة، وَفِيه قَبره، والترجمة فِي قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس واسْمه عبد الله إِبْنِ أُخْت مَالك بن أنس، وَقد تقدم. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير. الرَّابِع: مُحَمَّد بن حَرْب ضد الصُّلْح أَبُو عبد الله النَّسَائِيّ، بِفَتْح النُّون وبالشين الْمُعْجَمَة، مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الْخَامِس: أَبُو مَرْوَان يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة. السَّادِس: عُرْوَة ابْن الزبير بن الْعَوام. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه إِسْمَاعِيل وَسليمَان وَهِشَام وَعُرْوَة مدنيون وَمُحَمّد بن حَرْب شَيْخه واسطي وَيحيى بن أبي زَكَرِيَّا شَامي سكن وَاسِط.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: إِن، هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، فَتدخل على الجملتين، فَإِن دخلت على الإسمية جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين. وَحكى سِيبَوَيْهٍ: إِن عمرا لمنطلقٌ، وَإِن دخلت على الفعلية وَجب إهمالها، وَهَهُنَا دخلت على الفعلية، وَالْأَكْثَر كَون الْفِعْل مَاضِيا. قَوْله: (ليتعذر) بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة أَي: يطْلب الْعذر، فِيمَا يحاوله من الِانْتِقَال إِلَى بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَيُمكن أَن يكون بِمَعْنى: يتعسر، أَي: يتعسر عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الصَّبْر. وَعند ابْن التِّين فِي رِوَايَة أبي الْحسن: ليتقدر، بِالْقَافِ وَالدَّال الْمُهْملَة. قَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ يسْأَل عَن قدر مَا بَقِي إِلَى يَوْمهَا ليهون عَلَيْهِ بعض مَا يجد، لِأَن الْمَرِيض يجد عِنْد بعض أَهله مَا لَا يجده عِنْد غَيره من الْأنس والسكون. قَوْله: (أَيْن أَنا الْيَوْم) أَي: أَيْن أكون فِي هَذَا الْيَوْم، وَأَيْنَ أكون غَدا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يُرِيد بقوله: (أَيْن أَنا الْيَوْم) : لمن النّوبَة الْيَوْم؟ وَلمن النّوبَة غَدا؟ أَي: فِي حجرَة أَي امْرَأَة من النِّسَاء أكون غَدا؟ استبطاء ليَوْم عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يستطيل الْيَوْم اشتياقا إِلَيْهَا وَإِلَى نوبتها. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ يومي) أَي: فِي النّوبَة. قَوْله: (بَين سحرِي وَنَحْرِي) السحر، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: مَا التزق بالحلقوم والمريء من أَعلَى الْبَطن، وَالسحر، بِفتْحَتَيْنِ كَذَلِك وبضم السِّين كَذَلِك، وَالسحر أَيْضا: الرئة، وَالْجمع: سحور، ذكره ابْن سَيّده. وَذكر ابْن عديس أَيْضا فِي الرئة: سحرًا، بِفتْحَتَيْنِ. وَفِي (الصِّحَاح) السحر الرئة وَالْجمع أسحار، كبرد وأبراد. وَقَالَ الْفراء: السحر أَكثر قَول الْعَرَب السحر والنحر، بالنُّون: الصَّدْر. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه (الْغَرِيب) : بَلغنِي عَن عمَارَة بن عقيل بن بِلَال بن جرير أَنه قَالَ: إِنَّمَا هُوَ شجري وَنَحْرِي، بالشين المنقوطة وَالْجِيم، فَسئلَ عَن ذَلِك فشبك بَين أَصَابِعه وقدمها من صَدره، كَأَنَّهُ يضم شَيْئا إِلَيْهِ، أَرَادَ أَنه قبض وَقد ضمته بِيَدَيْهَا إِلَى نحرها وصدرها، وَالشَّجر التشبيك. وَفِي (الْمُخَصّص) : الشّجر طرفا اللحيين من أَسْفَل،. وَقيل: هُوَ مُؤخر الْفَم، وَالْجمع أَشجَار وشجور.
وَيُسْتَفَاد من الحَدِيث فَضِيلَة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (وَدفن فِي بَيْتِي) نِسْبَة الْبَيْت إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: (وَقرن فِي بيوتكن} (الْأَحْزَاب: 33) . لِأَن الْبيُوت كَانَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
0931 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ هِلالٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ الله اليَهُودَ والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلاَ ذالِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أنَّهُ خَشِيَ أوْ خُشِيَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدا وعنْ هِلالٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ ولَمْ يُولَدْ لِي.
.(8/223)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أبرز قَبره) ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري، تكَرر ذكره، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وهلال بن حميد، وَيُقَال ابْن أبي حميد، وَيُقَال ابْن عبد الله الجهيني الْوزان، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الزَّاي وبالنون، مر فِي: بَاب مَا يكره من اتِّخَاذ الْمَسَاجِد، مَعَ الحَدِيث فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان عَن هِلَال الْوزان عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَة.
قَوْله: (لَوْلَا ذَلِك) من كَلَام عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (أبرز) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أظهر. قَوْله: (خشِي) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: خشِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَو خشِي) على صِيغَة الْمَجْهُول، فالخاشي الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَو عَائِشَة، أَو رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَعَن هِلَال) يَعْنِي: بلإسناد الْمَذْكُور. قَوْله: (كناني: عُرْوَة) أَي: ابْن الزبير بن الْعَوام الَّذِي روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث، وَاخْتلفُوا فِي كنية هِلَال، فَقيل: أَبُو أُميَّة، وَقيل: أَبُو الجهم، وَقيل: أَبُو عَمْرو وَهُوَ الْمَشْهُور، وَمعنى: كناني أَي: جعلني ذَا كنية ونسبني إِلَيْهَا. وَلَعَلَّ غَرَض البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الْكَلَام التَّنْبِيه على لِقَاء هِلَال عُرْوَة. قَوْله: (وَلم يُولد لي) جملَة حَالية أَي: كناني بكنية وَالْحَال لم يُولد لي ولد، لِأَن الْغَالِب لَا يكنى الشَّخْص إلاَّ باسم أول أَوْلَاده، وَهَذَا كناه وَلَا جَاءَ لَهُ ولد.
وَفِيه: جَوَاز التكنية سَوَاء جَاءَ للمكني ولد أَو لَا، وَقد كنى الشَّارِع عَائِشَة بِابْن أُخْتهَا، عبد الله بن الزبير.
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا أبُو بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ عنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أنَّهُ حدَّثَهُ أنَّهُ رَأى قَبْرَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسَنَّما
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: أَبُو بكر بن عَيَّاش، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: الْكُوفِي المقرىء الْمُحدث، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. الرَّابِع: سُفْيَان بن دِينَار الْكُوفِي التمار، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْمِيم: وَهُوَ من كبار أَتبَاع التَّابِعين، وَقد لحق عصر الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَلم تعرف لَهُ رِوَايَة عَن صَحَابِيّ. وَفِي (تَارِيخ البُخَارِيّ: سُفْيَان بن زِيَاد، وَيُقَال: ابْن دِينَار التمار الْعُصْفُرِي، وَزعم الْبَاجِيّ: أَن بَعضهم فرق بَين ابْن زِيَاد وَبَين أبي دِينَار، وَزعم أَنه هُوَ الْمَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) ، وكل مِنْهُمَا كُوفِي عصفري، وَلم يروِ البُخَارِيّ عَن أبي دِينَار التمار إلاَّ قَوْله هَذَا، وَقد وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره، وروى ابْن أبي شيبَة هَذَا القَوْل، وَزَاد: (وقبر أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مسنمين) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : وقبر أبي بكر وَعمر كَذَلِك، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَخْبرنِي من رأى قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحبيه مسنمة نَاشِزَة من الأَرْض عَلَيْهَا مرمر أَبيض. وَقَالَ الشّعبِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: رَأَيْت قُبُور شُهَدَاء أحد مسنمة، وَكَذَا فعل بِقَبْر عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي يزِيد بن أبي حبيب أَنه يسْتَحبّ أَن تُسنم الْقُبُور وَلَا ترفع وَلَا يكون عَلَيْهَا تُرَاب كثير، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالثَّوْري وَمَالك وَأحمد، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة مِنْهُم، الْمُزنِيّ: أَن الْقُبُور تُسنم لِأَنَّهَا أمنع من الْجُلُوس عَلَيْهَا، وَقَالَ أَشهب وَابْن حبيب: أحب إِلَى أَن يسنم الْقَبْر، وَإِن يرفع فَلَا بَأْس. وَقَالَ طَاوُوس: كَانَ يعجبهم أَن يرفع الْقَبْر شَيْئا حَتَّى يعلم أَنه قبر، وَادّعى القَاضِي حُسَيْن اتِّفَاق أَصْحَاب الشَّافِعِي على التسنيم، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جمَاعَة من قدماء الشَّافِعِيَّة استحبوا التسطيح، كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي، وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ وَآخَرُونَ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَ الشَّافِعِي: تسطح الْقُبُور وَلَا تبنى وَلَا ترفع وَتَكون على وَجه الأَرْض نَحوا من شبر. قَالَ: وبلغنا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سطح قبر ابْنه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَوضع عَلَيْهِ الْحَصْبَاء ورش عَلَيْهِ المَاء، وَأَن مَقْبرَة الْأَنْصَار والمهاجرين مسطحة قُبُورهم، وَرُوِيَ عَن مَالك مثله وَاحْتج الشَّافِعِي أَيْضا بِمَا روى التِّرْمِذِيّ عَن أبي الْهياج الْأَسدي، واسْمه: حَيَّان. قَالَ لي عَليّ: أَلا أَبْعَثك على مَا بَلغنِي عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن لَا أدع قبرا مشرفا إلاَّ سويته، وَلَا تمثالاً إلاَّ طمسته) . وَبِمَا روى أَبُو دَاوُد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: دخلت عَليّ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقلت: يَا أُمَّاهُ اكشفي لي قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكشفت لي عَن ثَلَاثَة قُبُور لَا مشرفة وَلَا لاطئة مبطوحة ببطحاء الْعَرَصَة الْحَمْرَاء، فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدما، وَأَبا بكر رَأسه بَين كَتِفي النَّبِي(8/224)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعمرا رَأسه عِنْد رجْلي النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ويسنم الْقَبْر من التسنيم، وتسنيمه، رَفعه من الأَرْض، مِقْدَار شبر أَو أَكثر قَلِيلا. وَفِي (ديوَان الْأَدَب) : يُقَال: قبر مسنم، أَي: غير مسطح، وَبِه قَالَ مُوسَى بن طَلْحَة وَيزِيد بن أبي حبيب، وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَمَالك وَأحمد. وَفِي (الْمُغنِي) : وَاخْتَارَ التسنيم أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ وَأَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة والجويني وَالْغَزالِيّ وَالرُّويَانِيّ والسرخسي، وَذكر القَاضِي حُسَيْن اتِّفَاقهم عَلَيْهِ، وخالفوا الشَّافِعِي فِي ذَلِك، وَالْجَوَاب عَمَّا رَوَاهُ الشَّافِعِي: أَنه ضَعِيف ومرسل وَهُوَ لَا يحْتَج بالمرسل، وَعَما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: أَن المُرَاد من المشرفة الْمَذْكُورَة فِيهِ هِيَ المبنية الَّتِي يطْلب بهَا المباهاة، وَعَما رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن رِوَايَة البُخَارِيّ تعارضها. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالْبَغوِيّ: وَرِوَايَة الْقَاسِم بن مُحَمَّد أصح، وَأولى أَن تكون مَحْفُوظَة، قلت: قَالَ صَاحب (اللّبَاب) : هَذِه كبوة مِنْهُمَا بِمَا رفلا فِيهِ من ثِيَاب التعصب والعناد، وإلاَّ فَأَحْمَد يرجح رِوَايَة أبي دَاوُد على رِوَايَة البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) . وَقَالَ صَاحب (الْمُغنِي) : رِوَايَة البُخَارِيّ أصح وَأولى. وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ: التربيع من شعار الرافضة، وَقَالَ ابْن قدامَة: التسطيح هُوَ شعار أهل الْبدع، فَكَانَ مَكْرُوها. وَقَالَ الْمُزنِيّ فِي (كتاب الْجَنَائِز) : إِذا ثَبت أحد الْخَبَرَيْنِ المسطح أَو المسنم فَأشبه الْأَمريْنِ بِالْمَيتِ مَا لَا يشبه المصانع ليجلس عَلَيْهِ، والمسطح يشبه مَا يصنع للجلوس، وَلَيْسَ المسنم هُوَ مَوضِع الْجُلُوس، وَقد نهى عَن الْجُلُوس على الْقُبُور. وَقَالَ الْمُزنِيّ؛ وَفِي التسنيم منع الْجُلُوس فَهُوَ أمنع من أَن يجلس عَلَيْهَا، وأشبه بِأَمْر الْآخِرَة، وَلَكِن لَا يُزَاد فِيهِ أَكثر من ترابه، وَيعلم ليعرف فيدعى لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: وَقَول سُفْيَان التمار لَا حجَّة فِيهِ، كَمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ لاحْتِمَال أَن قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن فِي الأول مسنما، ثمَّ ذكر مَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي دَاوُد. قلت: قد أبعد عَن مَنْهَج الصَّوَاب من يحْتَج بالإحتمال، مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل لَا يقدم شَيْئا على رِوَايَة البُخَارِيّ، وَعند قيام التعصب يحيد عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ الإختلاف فِي ذَلِك أَيهمَا أفضل لَا فِي أصل الْجَوَاز، ثمَّ قَالَ: ويرجح التسطيح مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث فضَالة بن عبيد أَنه مر بِقَبْر فسوي، ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمر بتسويتها قلت: إِنَّمَا أَمر بالتسوية لأجل الْبناء الَّذِي يبْنى عَلَيْهَا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ للمباهاة كَمَا ذكرنَا، وَذكر الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مَحْمُود بن النجار فِي كِتَابه (الدرة الثمينة فِي أَخْبَار الْمَدِينَة) : أَن قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقبر صَاحِبيهِ فِي صفة بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَ: وَفِي الْبَيْت مَوضِع قبر فِي السهوة المشرفة، قَالَ سعيد بن الْمسيب: فِيهِ يدْفن عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَعَن عبد الله بن سَلام، قَالَ: يدْفن عِيسَى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون قَبره رَابِعا. وَعَن عُثْمَان بن نسطاس، قَالَ: رَأَيْت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هَدمه عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرتفعا نَحْو أَرْبَعَة أَصَابِع، وَرَأَيْت قبر أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَاء قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَسْفَل مِنْهُ، وَعَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يَلِي الْمغرب، وَرَأس أبي بكر عِنْد رجلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعمر خلف ظهر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن نَافِع بن أبي نعيم قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمامهما إِلَى الْقبْلَة مقدما ثمَّ قبر أبي بكر حذاء مَنْكِبي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر حذاء مَنْكِبي أبي بكر، وَعَن مُحَمَّد بن الْمُبَارك. قَالَ: قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا، وقبر أبي بكر خَلفه، وقبر عمر عِنْد رجْلي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن عقيل: قبر أبي بكر عِنْد رجلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر عِنْد رجْلي أبي بكر. وَقَالَ ابْن التِّين: يُقَال: إِن أَبَا بكر خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جَازَ ملحده ملحد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأس عمر عِنْد رجْلي أبي بكر قد حازت رِجْلَاهُ رجْلي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرت فِي صفة قُبُورهم أَقْوَال فالأكثر هَكَذَا.(8/225)
وَقد استدلت جمَاعَة على فَضِيلَة الشَّيْخَيْنِ بمجاورتهما ملحده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولقرب طينهما من طينه، لما فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الحبشي الْمَذْكُور فِي أَوَائِل الْبَاب، وَله شَوَاهِد أَكْثَرهَا صَحِيحَة. مِنْهَا: حَدِيث جُنْدُب بن سُفْيَان يرفعهُ: (إِذا أَرَادَ الله قبض عبد بِأَرْض جعل لَهُ بهَا حَاجَة) . وَحَدِيث ابْن مَسْعُود ومطرز بن مكامس وَعُرْوَة بن مُضرس بِنَحْوِهِ. وَفِي (الْحِلْية) لأبي نعيم الْحَافِظ: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مَوْلُود إلاَّ وَقد ذَر عَلَيْهِ من تُرَاب حفرته) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَفِي (نَوَادِر الْأُصُول) للحكيم أبي عبد الله التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مرّة الطّيب عَن عبد الله بن مَسْعُود (أَن الْملك الْمُوكل بالرحم يَأْخُذ النُّطْفَة فيعجنها بِالتُّرَابِ الَّذِي يدْفن فِي بقعته، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم} (طه: 55) . وَفِي (التَّمْهِيد) من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن عَطاء الْخفاف: حَدثنَا أبي عَن دَاوُد بن أبي هِنْد حَدثنِي عَطاء الْخُرَاسَانِي: (أَن الْملك ينْطَلق فَيَأْخُذ من تُرَاب الْمَكَان الَّذِي يدْفن فِيهِ، فيذره على النُّطْفَة فتخلق من التُّرَاب، وَمن النُّطْفَة، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى} (طه: 55) . وَعند التِّرْمِذِيّ أبي عبد الله، قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَو حَلَفت حَلَفت صَادِقا بارا غير شاكٍ وَلَا مستثن أَن الله تَعَالَى مَا خلق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أَبَا بكر وَلَا عمر إلاَّ من طِينَة وَاحِدَة، ثمَّ ردهم إِلَى تِلْكَ الطينة.
حدَّثنافَرْوَةُ قَالَ حدَّثنا علِيٌّ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الحَائِطَ فِي زَمَانِ الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ أخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وظَنُّوا أنَّهَا قَدَمُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا وَجَدُوا أحَدا يَعْلَمُ ذالِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ لاَ وَالله مَا هِيَ قَدَمُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هِيَ إلاَّ قَدَمُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
1931 - وعَنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا أوْصَتْ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لاَ تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لَا أُزَكَّى بِهِ أبَدا.
(الحَدِيث 1931 طرفه فِي: 7237) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن حَائِط مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سقط وبدا قدم ففزعوا وظنوا أَنَّهَا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم تكن إلاَّ قدم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دلّ هَذَا على قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الْقَبْر، والترجمة فِي قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: فَرْوَة، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد وبالقصر: أَبُو الْقَاسِم. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم: مر فِي مُبَاشرَة الْحَائِض. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده روى عَنهُ، وَقَالَ: مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ وَشَيْخه كوفيان وَهِشَام وَأَبوهُ مدنيان. وَفِيه: حَدثنَا عَليّ بن حُسَيْن فِي رِوَايَة أبي ذَر، كَذَا هُوَ مَذْكُور باسم أَبِيه، وَفِي رِوَايَة غَيره لم يذكر اسْم أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما سقط عَلَيْهِم الْحَائِط) أَي: حَائِط حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (لما سقط عَنْهُم) ، وَالسَّبَب فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو بكر الْآجُرِيّ من طَرِيق شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ أَخْبرنِي(8/226)
قَالَ: كَانَ النَّاس يصلونَ إِلَى الْقَبْر فَأمر بِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز فَرفع حَتَّى لَا يُصَلِّي إِلَيْهِ أحد، فَلَمَّا هدم بَدَت قدم بساق وركبة، فَفَزعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَأَتَاهُ عُرْوَة فَقَالَ: هَذَا سَاق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وركبته، فَسرِّي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز: وروى الْآجُرِيّ من طَرِيق مَالك بن مغول عَن رَجَاء بن حَيْوَة قَالَ: كتب الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز، وَكَانَ قد اشْترى حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أهدمها ووسع بهَا الْمَسْجِد، فَقعدَ عمر فِي نَاحيَة ثمَّ أَمر بهدمها، فَمَا رَأَيْت باكيا أَكثر من يَوْمئِذٍ، ثمَّ بناه كَمَا أَرَادَ، فَلَمَّا أَن بنى الْبَيْت على الْقَبْر وَهدم الْبَيْت الأول ظَهرت الْقُبُور الثَّلَاثَة، وَكَانَ الرمل الَّذِي عَلَيْهَا قد انهار، فَفَزعَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَأَرَادَ أَن يقوم فيسويها بِنَفسِهِ، فَقلت لَهُ: أصلحك الله، إِنَّك إِن قُمْت قَامَ النَّاس مَعَك، فَلَو أمرت رجلا أَن يصلحها، ورجوت أَنه يَأْمُرنِي بذلك، فَقَالَ: يَا مُزَاحم يَعْنِي مَوْلَاهُ قُم فأصلحها. قَالَ رَجَاء: فَكَانَ قبر أبي بكر عِنْد وسط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعمر خلف أبي بكر رَأسه عِنْد وَسطه. وَفِي (الإكليل) : عَن وردان، وَهُوَ الَّذِي بني بَيت عَائِشَة: لما سقط شقَّه الشَّرْقِي فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِن الْقَدَمَيْنِ لما بدتا قَالَ سَالم بن عبد الله: أَيهَا الْأَمِير هَذَانِ قدما جدي وَجدك عمر. وَقَالَ أَبُو الْفرج الْأمَوِي فِي (تَارِيخه) : وردان هَذَا هُوَ أَبُو امْرَأَة أشعب الطماع، وَفِي (الطَّبَقَات) قَالَ مَالك: قسم بَيت عَائِشَة ثَلَاثِينَ: قسم كَانَ فِيهِ الْقَبْر، وَقسم كَانَ تكون فِيهِ عَائِشَة وَبَينهمَا حَائِط، فَكَانَت عَائِشَة رُبمَا دخلت جنب الْقَبْر فصلا، فَلَمَّا دفن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم تدخله إلاَّ وَهِي جَامِعَة عَلَيْهَا ثِيَابهَا. وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار وَعبيد الله ابْن أبي يزِيد: لم يكن على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِط، فَكَانَ أول من بنى عَلَيْهِ جدارا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ عبيد الله: كَانَ جِدَاره قَصِيرا، ثمَّ بناه عبد الله بن الزبير وَزَاد فِيهِ. وَفِي (الدرة الثمينة) لِابْنِ النجار: سقط جِدَار الْحُجْرَة مِمَّا يَلِي مَوضِع الْجَنَائِز فِي زمَان عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فظهرت الْقُبُور، فَمَا رُؤِيَ باكيا أَكثر من يَوْمئِذٍ فَأمر عمر بقباطي يستر بهَا الْموضع، وَأمر ابْن وردان أَن يكْشف عَن الأساس، فَلَمَّا بَدَت القدمان قَامَ عمر فَزعًا، فَقَالَ لَهُ عبيد الله بن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَانَ حَاضرا: أَيهَا الْأَمِير لَا تفزع فهما قدما جدك عمر، ضَاقَ الْبَيْت عَنهُ فحفر لَهُ فِي الأساس، فَقَالَ لَهُ عمر: يَا ابْن وردان غطِّ مَا رَأَيْت، فَفعل. وَفِي رِوَايَة: أَن عمر أَمر أَبَا حَفْصَة، مولى عَائِشَة وناسا مَعَه، فبنوا الْجِدَار وَجعلُوا فِيهِ كوَّة، فَلَمَّا فرغوا مِنْهُ ورفعوه دخل مُزَاحم مولى عمر فَقُمْ مَا سقط على الْقَبْر من التُّرَاب وَبنى عمر على الْحُجْرَة حاجزا فِي سقف الْمَسْجِد إِلَى الأَرْض، وَصَارَت الْحُجْرَة فِي وَسطه وَهُوَ على دورانها، فَلَمَّا ولي المتَوَكل أزرها بالرخام من حولهَا، فَلَمَّا كَانَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، فِي خلَافَة المقتفي، جدد التأزير وَجعل قامة وبسطة، وَعمل لَهَا شباكا من الصندل والأبنوس وأداره حولهَا مِمَّا يَلِي السّقف، ثمَّ إِن الْحسن بن أبي الهيجا، صهر الصَّالح وَزِير المصريين، عمل لَهَا ستارة من الديبقي الْأَبْيَض مرقومة بالإبريسيم الْأَصْفَر والأحمر، ثمَّ جَاءَت من المستضيء بِأَمْر الله ستارة من الإبريسيم البنفسجي وعَلى دوران حاماتها مرقوم: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ شيلت تِلْكَ ونفذت إِلَى مشْهد عَليّ بن أبي طَالب، وعلقت هَذِه. ثمَّ إِن النَّاصِر لدين الله نفذ ستارة من الإبريسيم الْأسود وطرزها وحاماتها أَبيض، فعلقت فَوق تِلْكَ، ثمَّ لما حجت الْجِهَة الخليفية عملت ستارة على شكل الْمَذْكُورَة ونفذتها فعلقت. قَوْله: (فِي زمَان الْوَلِيد بن عبد الْملك) بِفَتْح الْوَاو وَكسر اللَّام، وجده مَرْوَان بن الحكم ولي الْأَمر بعد موت عبد الْملك فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أكبر ولد عبد الْملك، وَكَانَت خِلَافَته تسع سِنِين وَثَمَانِية أشهر على الْمَشْهُور، وَكَانَت وَفَاته يَوْم السبت منتصف جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سِتّ وَتِسْعين بِدِمَشْق بدير مَرْوَان، وَصلى عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَحمل على أَعْنَاق الرِّجَال وَدفن بمقابر بَاب الصَّغِير، وَقيل: بِبَاب الفراديس، ثمَّ بعد وَفَاته بُويِعَ بالخلافة لِأَخِيهِ سُلَيْمَان بن عبد الْملك، وَكَانَ سُلَيْمَان بالرملة. قَوْله: (فبدت لَهُم قدم) أَي: ظَهرت من البدو وَهُوَ الظُّهُور. قَوْله: (وَعَن هِشَام عَن أَبِيه) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مُسْندًا فِي الِاعْتِصَام عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام بِزِيَادَة، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَبدة عَن هِشَام وَزَاد فِيهِ: (وَكَانَ فِي بَيتهَا مَوضِع قبر) . قَوْله: (لَا تدفني مَعَهم) أَي: مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، وَإِنَّمَا قَالَت ذَلِك مَعَ أَنه بَقِي فِي الْبَيْت مَوضِع لَيْسَ فِيهِ أحد خوفًا من أَن يَجْعَل لَهَا بذلك مزية فضل. وَفِي (التكملة) لِابْنِ الْأَبَّار، من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله الْعمريّ: حَدثنَا شُعَيْب بن طَلْحَة من ولد أبي بكر عَن أَبِيه(8/227)
عَن جده (عَن عَائِشَة قَالَ: قَالَت للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أَرَانِي إلاَّ سأكون بعْدك فتأذن لي أَن أدفن إِلَى جَانِبك؟ قَالَ: وأنى لَك، ذَلِك الْموضع مَا فِيهِ إلاَّ قَبْرِي وقبر أبي بكر وَعمر، وَفِيه عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا قَوْلهَا لما طلب مِنْهَا أَن يدْفن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَهُمَا أردْت لنَفْسي قلت: قيل: لِأَن ظَاهره أَن الْبَيْت لَيْسَ فِيهِ غير مَوضِع عمر. وَقيل: كَانَ ظنا من عَائِشَة. وَقيل: كَانَ اجتهادها فِي ذَلِك تغير. وَقيل: إِنَّمَا قَالَت ذَلِك قبل أَن يَقع لَهَا مَا وَقع فِي قَضِيَّة الْجمل، فاستحت بعد ذَلِك أَن تدفن هُنَاكَ. وَقَالَ قَالَ عَنْهَا عمار بن يَاسر، وَهُوَ أحد من حاربها يَوْمئِذٍ: إِنَّهَا زَوْجَة نَبِيكُم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قلت: إِذا صَحَّ مَا رَوَاهُ ابْن الْأَبَّار فَهُوَ جَوَاب قَاطع. قَوْله: (وادفني مَعَ صواحبي) أَرَادَت بذلك بَقِيَّة نسَاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، المدفونات فِي البقيع. قَوْله: (لَا أزكى بِهِ أبدا) أَي: لَا يثنى عَليّ بِسَبَبِهِ، و: أزكى، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّزْكِيَة. قَالَ ابْن بطال: فِيهِ معنى التَّوَاضُع، كرهت عَائِشَة أَن يُقَال: إِنَّهَا مدفونة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون فِي ذَلِك تَعْظِيمًا لَهَا.
2931 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ قَالَ حدَّثنا حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ عَمْرِو بنِ مَيْمُونٍ الأوْدِيِّ. قَالَ رَأيْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ يَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ اذْهَبْ إلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلاَمَ ثُمَّ سَلْهَا أنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ أذِنَتْ لَكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كانَ شَيءٌ أهَمَّ إلَيَّ مِنْ ذالِكَ الْمَضْجَعِ فإذَا قُبِضْتُ فاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فإنْ أذِنَتْ لِي فادْفِنُونِي وَإلاَّ فَرُدُّونِي إلَى مقَابِرِ المُسْلِمِينَ إنِّي لاَ أعْلَمُ أحَدا أحَقَّ بِهاذَا الأمْرِ مِنْ هاؤُلاَءِ النَّفر الَّذِيَ تُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ عَنْهُمْ رَاض فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهْوَ الخَلِيفَةُ فاسْمَعُوا لَهُ وأطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ وعَلِيَّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بنَ أبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ شابٌّ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ أبْشِرْ يَا أمِيرَ المُؤمِنِينَ بِبُشْرَى الله كانَ لَكَ مِنَ القَدَمِ فِي الإسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هاذا كُلِّهِ فَقَالَ لَيْتنِي يَا ابنَ أخِي وَذالِكَ كَفافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بالمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرا أنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرا الذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَالإيمَانَ أنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِيهِمْ ويُعْفَى عنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ الله وذِمَّةِ رسولهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طاقَتِهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَضِيَّة عمر بن الْخطاب، لِأَن فِيهَا السُّؤَال بِأَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ، وهما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَا ذَاك إلاَّ فِي قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والترجمة فِي.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: جرير، بِالْجِيم: ابْن عبد الحميد، مر فِي: بَاب من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالنون، مر فِي كتاب الصَّلَاة. الرَّابِع: عَمْرو بن مَيْمُون الأودي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى أود بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَلم يلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسمع عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَثَّقَهُ يحيى وَغَيره، مَاتَ سنة خمس وَسبعين.(8/228)
ذكر مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي ذكره عَمْرو بن مَيْمُون قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل سَيَأْتِي فِي مَنَاقِب عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (أَن أدفن، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (مَعَ صَاحِبي) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء، وَأَصله صاحبين لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون، وَأَرَادَ بصاحبيه: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (كنت أريده) أَي: كنت أُرِيد الدّفن مَعَ صَاحِبيهِ، قَوْله: (فلأوثرنه) من الإيثار، يُقَال: آثرت فلَانا على نَفسِي، إِذا اخْتَارَهُ على نَفسه وفضله عَلَيْهِ. قَوْله: (فَلَمَّا أقبل) أَي: عبد الله بن عمر. قَوْله: (مَا لديك؟) أَي: مَا عنْدك من الْخَبَر؟ قَوْله: (أَذِنت لَك) أَي: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَذِنت لَهُ بالدفن مَعَ صَاحِبيهِ. قَوْله: (من ذَلِك المضجع) ، أَرَادَ بِهِ مَضْجَع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومضجع أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَإِذا قبضت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وإلاَّ) أَي: وَإِن لم تأذنِ لي. قَوْله: (إِنِّي لَا أعلم. .) إِلَى آخِره من جملَة وَصيته، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بِهَذَا الْأَمر) ، أَرَادَ بِهِ الْخلَافَة. قَوْله: (من هَؤُلَاءِ النَّفر؟) النَّفر: عدَّة رجال من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة. قَوْله: (وَهُوَ عَنْهُم راضٍ) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَمن استخلفوا) ، أَي: فَمن اسْتَخْلَفَهُ هَؤُلَاءِ النَّفر المذكورون فَهُوَ الْخَلِيفَة، أَي: فَهُوَ أَحَق بالخلافة، قَوْله: (فَسمى عُثْمَان) إِلَى آخِره، إِنَّمَا لم يذكر أَبَا عُبَيْدَة لِأَنَّهُ كَانَ قد مَاتَ، وَلم يذكر سعيد ابْن زيد لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبا، قَالَ بَعضهم: لم يذكرهُ لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبه وصهره، فَفعل كَمَا فعل بِهِ عبد الله بن عمر. قَوْله: (وولج عَلَيْهِ) أَي: دخل، من ولج يلج ولوجا. قَوْله: (كَانَ لَك من الْقدَم) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الدَّال، ويروى بِفَتْح الْقَاف: وَهُوَ السَّابِقَة فِي الْأَمر، يُقَال: لفُلَان قدم صدق، أَي: إثرة حَسَنَة، وَلَو صحت الرِّوَايَة بِالْكَسْرِ فَالْمَعْنى صَحِيح أَيْضا. قَوْله: (ثمَّ اسْتخْلفت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ثمَّ الشَّهَادَة) أَي: ثمَّ جاءتك الشَّهَادَة، فَيكون ارْتِفَاع: الشَّهَادَة، على أَنه فَاعل فعل مَحْذُوف، وَذَلِكَ أَنه قَتله علج يُسمى فَيْرُوز وكنيته أَبُو لؤلؤة، وَكَانَ غُلَاما للْمُغِيرَة بن شُعْبَة، وَكَانَ يدَّعي الْإِسْلَام، وَسَببه أَنه قَالَ لعمر: ألاَ تكلم مولَايَ يضع عني من خراجي؟ قَالَ: كم خراجك؟ قَالَ: دِينَار. قَالَ: مَا أرى أَن أفعل، إِنَّك عَامل محسن وَمَا هَذَا بِكَثِير، فَغَضب مِنْهُ، فَلَمَّا خرج عمر إِلَى النَّاس لصَلَاة الصُّبْح جَاءَ عَدو الله فطعنه بسكين مَسْمُومَة ذَات طرفين فَقتله، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: طعن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم الْأَرْبَعَاء لأَرْبَع ليالٍ بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاثَة وَعشْرين، وَدفن يَوْم الْأَحَد صباح هِلَال الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين، وَكَانَ عمره يَوْم مَاتَ سِتِّينَ سنة، وَقيل: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَقيل: إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقيل: سِتَّة وَسِتِّينَ، وَكَانَت خِلَافَته عشر سِنِين وَخَمْسَة أشهر، وَإِحْدَى وَعشْرين لَيْلَة من متوفى أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَه الْوَاقِدِيّ. فَإِن قلت: الشَّهِيد من قتل فِي قتال الْكفَّار على قَول الشَّافِعِيَّة، وعَلى قَول الْحَنَفِيَّة: من قتل ظلما وَلم يجب بقتْله دِيَة أَيْضا قلت: أما على قَوْلهم: فَإِنَّهُ كالشهيد فِي ثَوَاب الْآخِرَة، وَأما على قَوْلنَا فَإِنَّهُ قتل ظلما وَوَجَب الْقصاص على قَاتله، فَهُوَ شَهِيد حَقِيقَة. فَإِن قلت: بالإرتثاث تسْقط الشَّهَادَة. قلت: هُوَ قتل لأجل كلمة الْحق، وَالْقَوْل بِكَلِمَة الْحق من الدّين، وورود: (من قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد) . قَوْله: (لَيْتَني) جَوَاب هُوَ قَوْله: (وَلَا عليَّ) أَي: لَيْتَني لَا عِقَاب عَليّ وَلَا ثَوَاب لي فِيهِ: أَي: أَتَمَنَّى أَن أكون رَأْسا بِرَأْس فِي أَمر الْخلَافَة، ويروى: وَلَا ليا، بإلحاق ألف الْإِطْلَاق فِي آخِره. قَوْله: (كفاف) بِفَتْح الْكَاف بِمَعْنى الْمثل، قَالَه الْكرْمَانِي قلت: مَعْنَاهُ: أَن أَمر الْخلَافَة مكفوف عني شَرها، وَقيل: مَعْنَاهُ إِن لَا تنَال مني وَلَا أنال مِنْهَا، أَي: تكف عني وأكف عَنْهَا، والكفاف فِي الأَصْل هُوَ الَّذِي لَا يفضل عَن الشَّيْء وَيكون بِقدر الْحَاجة إِلَيْهِ، وإرتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ، وَهُوَ قَوْله ذَلِك، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَمر الْخلَافَة، وَهَذِه الْجُمْلَة مُعْتَرضَة بَين: لَيْت وخبرها، قَوْله: (أَن يعرف لَهُم) ، تَفْسِير لقَوْله: (خيرا) وَبَيَان لَهُ. قَوْله: (بالمهاجرين الْأَوليين) وهم الَّذين هَاجرُوا قبل بيعَة الرضْوَان، أَو الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ، أَو الَّذين شهدُوا بَدْرًا. قَوْله: (وأوصيه بالأنصار الَّذين تبوأوا الدَّار) ، قد وَقع هُنَا خيرا بَين الصّفة والموصوف، وَوجه جَوَازه أَن مَجْمُوع الْكَلَام يدل على مَا تقدم، وَالْمرَاد من الدَّار: الْمَدِينَة، قدمهَا عَمْرو بن عَامر حِين رأى بسد مأرب مَا دله على فَسَاده فَاتخذ الْمَدِينَة وطنا لما أَرَادَ الله من كَرَامَة الْأَنْصَار لنصرة نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِالْإِسْلَامِ. قَوْله: (وَالْإِيمَان) ، قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: الْإِيمَان اسْم من أَسمَاء الْمَدِينَة، فَإِن لم يكن كَذَلِك فَيحمل أَن(8/229)
يُرِيد: تبوأوا الدَّار وَأَجَابُوا إِلَى الْإِيمَان من قبل أَن يهاجروا إِلَيْهِم. قَوْله: (أَن يقبل) بدل من قَوْله: (خيرا) . وَمَعْنَاهُ: يفعل بهم من التلطف وَالْبر مَا كَانَ يَفْعَله الرَّسُول والخليفتان بعده. قَوْله: (ويُعفَى عَن مسيئهم) ، يَعْنِي: مَا دون الْحُدُود وَحُقُوق النَّاس. قَوْله: (بِذِمَّة الله) ، أَي: بعهده وبذمة رَسُوله، وَيُقَال: بِذِمَّة الله، يَعْنِي بِأَهْل ذمَّة الله، وهم عَامَّة الْمُؤمنِينَ، لِأَن كلهم فِي ذمتهما، وَهَذَا تَعْمِيم بعد تَخْصِيص. قَوْله: (من ورائهم) ، الوراء بِمَعْنى الْخلف، وَقد يكون بِمَعْنى القدام وَهُوَ من الأضداد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْحِرْص على مجاورة الصَّالِحين فِي الْقُبُور طَمَعا فِي إِصَابَة الرَّحْمَة إِذا نزلت عَلَيْهِم، وَفِي دُعَاء من يزورهم من أهل الْخَيْر. وَفِيه: أَن من وعد عدَّة جَازَ لَهُ الرُّجُوع فِيهَا وَلَا يلْزم بِالْوَفَاءِ. وَفِيه: أَن من بعث رَسُولا فِي حَاجَة مهمة أَن لَهُ أَن يسْأَل الرَّسُول قبل وُصُوله إِلَيْهِ، وَلَا يعد ذَلِك من قلَّة الصَّبْر، بل من الْحِرْص على الْخَيْر. وَفِيه: أَن الْخلَافَة بعد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شُورَى. وَفِيه: التَّعْزِيَة لمن يحضرهُ الْمَوْت بِمَا يذكر من صَالح عمله.
79 - (بابُ مَا يُنْهِى مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ينْهَى من سبّ الْأَمْوَات، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة. أَي: بَاب النَّهْي عَن سبّ الْأَمْوَات، يَعْنِي: شتمهم من السب، وَهُوَ الْقطع. وَقيل: من السبة، وَهِي خلقَة الدبر كَأَنَّهَا على القَوْل الأول قطع المسبوب عَن الْخَيْر وَالْفضل، وعَلى الثَّانِي كشف الْعَوْرَة وَمَا يَنْبَغِي أَن يستر.
148 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تسبوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُم قد فأفضوا إِلَى مَا قدمُوا) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الحَدِيث نهى عَن سبّ الْأَمْوَات والترجمة كَذَلِك قيل لفظ التَّرْجَمَة يشْعر بانقسام السب إِلَى مَنْهِيّ وَغير مَنْهِيّ وَلَفظ الْخَبَر مضمونه النَّهْي عَن السب مُطلقًا أجَاب بَعضهم أَن عُمُومه مَخْصُوص بِحَدِيث أنس حَيْثُ قَالَ " أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض " وَذَلِكَ عِنْد ثنائهم بِالْخَيرِ وَالشَّر وَلم يُنكر عَلَيْهِم (قلت) لَا نسلم أشعار التَّرْجَمَة إِلَى الانقسام الْمَذْكُور لِأَن قد ذكرنَا أَن كلمة مَا فِي التَّرْجَمَة مَصْدَرِيَّة فَلَا تَقْتَضِي الانقسام بل هِيَ للْعُمُوم وَأورد على البُخَارِيّ أَنه غفل عَن حَدِيث وَجَبت وَجَبت لِأَن فِيهِ تَفْصِيلًا وَقد أطلق هُنَا (قلت) لَا يرد عَلَيْهِ شَيْء لِأَن الثَّنَاء بِالشَّرِّ على الْمَيِّت لَا يُسمى سبا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثني بِالشَّرِّ أما فِي حق الْفَاسِق أَو الْمُنَافِق أَو الْكَافِر وَلَيْسَ هَذَا بداخل فِي معنى حَدِيث الْبَاب. وَرِجَاله قد ذكرُوا وآدَم وَابْن أبي إِيَاس وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن حميد بن مسْعدَة عَن بشر بن الْمفضل عَن شُعْبَة بِهِ قَوْله " الْأَمْوَات " الْألف وَاللَّام للْعهد أَي أموات الْمُسلمين وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " اذْكروا محَاسِن مَوْتَاكُم وَكفوا عَن مساويهم " وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي كتاب الْأَدَب من سنَنه وَلَا حرج فِي ذكر مساوي الْكفَّار وَلَا يَأْمر بِذكر محَاسِن إِن كَانَت لَهُم من صَدَقَة وإعتاق وإطعام طَعَام وَنَحْو ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَأَذَّى بذلك مُسلم من ذُريَّته فيجتنب ذَلِك حِينَئِذٍ كَمَا ورد فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ " أَن رجلا من الْأَنْصَار وَقع فِي أبي الْعَبَّاس كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَطَمَهُ الْعَبَّاس فَجَاءَهُ قومه فَقَالُوا وَالله لنلطمنه كَمَا لطمه فلبسوا السِّلَاح فَبلغ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَعدَ الْمِنْبَر فَقَالَ أَيهَا النَّاس أَي أهل الأَرْض أكْرم عِنْد الله قَالُوا أَنْت قَالَ فَإِن الْعَبَّاس مني وَأَنا مِنْهُ فَلَا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا فجَاء الْقَوْم فَقَالُوا يَا رَسُول الله نَعُوذ بِاللَّه من غضبك " وَفِي كتاب الصمت لِابْنِ أبي الدُّنْيَا فِي حَدِيث مُرْسل صَحِيح الْإِسْنَاد من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ " نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يسب قَتْلَى بدر من الْمُشْركين وَقَالَ لَا تسبوا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ لَا يخلص إِلَيْهِم شَيْء مِمَّا تَقولُونَ وتؤذون الْأَحْيَاء إِلَّا أَن الْبذاء لؤم " وَقَالَ ابْن بطال ذكر شرار الْمَوْتَى من أهل الشّرك خَاصَّة جَائِز لِأَنَّهُ لَا شكّ أَنهم فِي النَّار وَقَالَ سبّ الْأَمْوَات يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة فَإِن كَانَ أغلب أَحْوَال الْمَرْء الْخَيْر وَقد تكون مِنْهُ الْغَلَبَة فالاغتياب لَهُ مَمْنُوع وَإِن كَانَ فَاسِقًا مُعْلنا فَلَا غيبَة لَهُ فَكَذَلِك الْمَيِّت قَوْله " فَإِنَّهُم قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا " أَي قد وصلوا إِلَى جَزَاء أَعْمَالهم(8/230)
(وَرَوَاهُ عبد الله بن عبد القدوس عَن الْأَعْمَش وَمُحَمّد بن أنس عَن الْأَعْمَش) أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الله بن عبد القدوس السَّعْدِيّ الرَّازِيّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش مُتَابعًا لشعبة وَرَوَاهُ أَيْضا مُحَمَّد بن أنس الْعَدوي الْمولى الْكُوفِي عَن الْأَعْمَش مُتَابعًا لشعبة قَالَ الْكرْمَانِي وَقَالَ هَهُنَا رَوَاهُ وَلم يقل تَابعه لِأَنَّهُ روى اسْتِقْلَالا وبطريق آخر لَا مُتَابعَة لآدَم بطريقه وَلَيْسَ لأبي عبد القدوس فِي الصَّحِيح غير هَذَا الْموضع الْوَاحِد وَذكر البُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَقَالَ إِنَّه صَدُوق إِلَّا أَنه يروي عَن قوم ضعفاء
(تَابعه عَلَيْهِ بن الْجَعْد وَابْن عرْعرة وَابْن أبي عدي عَن شُعْبَة) هَذَا قد وَقع فِي بعض النّسخ قبل قَوْله " وَرَوَاهُ عبد الله " إِلَى آخِره قَوْله " تَابعه " أَي تَابع آدم عَليّ بن الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان وَقد وَصله البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْجَعْد فِي الرقَاق قَوْله " وَابْن عرْعرة " أَي وَتَابعه أَيْضا مُحَمَّد بن عرْعرة بِفَتْح الْعَينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الرَّاء الأولى وَقد تقدم فِي بَاب خوف الْمُؤمن وروى البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْجَعْد وَابْن عرْعرة بِدُونِ الْوَاسِطَة وروى عَن ابْن أبي عدي بالواسطة لِأَنَّهُ لم يدْرك عصره قَوْله " وَابْن أبي عدي " أَي وتابع آدم أَيْضا مُحَمَّد بن أبي عدي وَقد تقدم فِي كتاب الْغسْل وَطَرِيق ابْن أبي عدي ذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ وَوَصله أَيْضا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة -
89 - (بابُ ذِكْرِ شِرَارِ المَوْتَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر شرار الْمَوْتَى.
4931 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ قَالَ أبُو لَهَبٍ عَلَيْهِ لَعْنَةُ الله لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبَّا لَكَ سائِرَ اليَوْمِ فنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ أَبُو لَهب، عَلَيْهِ لعنة الله) وَقَالَ ابْن عَبَّاس: ذكر أَبَا لَهب باللعنة عَلَيْهِ، وَهُوَ من شرار الْمَوْتَى، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث مُرْسل لِأَن هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت بِمَكَّة المشرفة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذْ ذَاك صَغِيرا. انْتهى. بل كَانَ على بعض الْأَقْوَال غير موجور، وَاعْترض على البُخَارِيّ فِي تَخْرِيجه هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، لِأَن تبويبه لَهُ يدل على الْعُمُوم فِي شرار الْمُؤمنِينَ والكافرين، وَكَأَنَّهُ نسي حَدِيث أنس: (مروا بِجنَازَة. فَأَثْنوا عَلَيْهَا شرا. .) الحَدِيث، فَترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهيهم عَن ذكر الشَّرّ يدل أَن للنَّاس أَن يذكرُوا الْمَيِّت بِمَا فِيهِ من شَرّ إِذا كَانَ شَره مَشْهُورا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد الْخُصُوص، فطابقت الْآيَة التَّرْجَمَة، أَو يُرِيد الْعُمُوم قِيَاسا للْمُسلمِ المجاهر بِالشَّرِّ على الْكَافِر، لِأَن الْمُسلم الْفَاسِق لَا غيبَة لَهُ. انْتهى. قلت: قد مر الْجَواب عَنهُ فِي الْبَاب السَّابِق بأوجه من هَذَا وأوضح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو عمر شيخ البُخَارِيّ هُوَ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، مر فِي: بَاب تَسْوِيَة الصُّفُوف.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَأورد هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا، وَسَيَأْتِي فِي التَّفْسِير مطولا فِي سُورَة الشُّعَرَاء، فَإِنَّهُ أخرجه فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله وَمُحَمّد بن سَلام فرقهما، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة، وَفِيه وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش بِتَمَامِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة بِهِ وَعَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد بن السّري وَأحمد بن منيع، كِلَاهُمَا عَن مُعَاوِيَة نَحوه، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب عَن عَمْرو بن حَفْص(8/231)
بِهِ، وَفِيه وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي كريب عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَقَالَ البُخَارِيّ فِي تَفْسِير الشُّعَرَاء لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} (الشُّعَرَاء: 412) . صعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا، فَجعل يُنَادي: يَا بني فهر يَا بني عدي، لبطون قُرَيْش، حَتَّى اجْتَمعُوا فَجعل الرجل إِذا لم يسْتَطع أَن يخرج أرسل رَسُولا ينظر مَا هُوَ، فجَاء أَبُو لَهب وقريش فَقَالَ: أَرَأَيْتُم إِن أَخْبَرتكُم أَن خيلاً بالوادي تُرِيدُ أَن تغير عَلَيْكُم أَكُنْتُم مصدقي؟ قَالُوا: نعم مَا جربنَا عَلَيْك إلاَّ صدقا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم {) وَفِي تَفْسِير: تبت، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاه} فَقَالُوا: من هَذَا؟ فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ. . وَفِيه: فَقَالَ أَبُو لَهب: أَلِهَذَا جمعتنَا؟ ثمَّ قَامَ فَنزلت {تبت يدا أبي لَهب وَقد تب} (المسد: 1) . هَكَذَا قَرَأَ الْأَعْمَش، وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) : حَدثنَا يُونُس أخبرنَا ابْن وهب أخبرنَا ابْن زيد، قَالَ أَبُو لَهب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَاذَا أُعطى يَا مُحَمَّد إِن آمَنت بك؟ قَالَ: كَمَا يُعطى الْمُسلمُونَ. قَالَ: فَمَا لي فضل عَلَيْهِم؟ تَبًّا لهَذَا من دين أكون أَنا وَهَؤُلَاء سَوَاء. فَأنْزل الله تبَارك وَتَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1) . قَالَ: خسرت يَدَاهُ، وَالْيَدَانِ هُنَا الْعَمَل، أَلا ترَاهُ يَقُول بِمَا عملت أَيْديهم؟) . وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَلَمَّا دعاهم أَقبلُوا إِلَيْهِ يسعون من كل نَاحيَة واكتنفوه، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد لماذا دَعوتنَا؟ قَالَ: (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى أَمرنِي أَن أنذركم خَاصَّة، وَالنَّاس عَامَّة، فَقَالُوا: قد أجبناك لما دَعوتنَا. قَالَ: كلمة تقرأون بهَا تَمْلِكُونَ الْعَرَب وَتَدين لكم بهَا الْعَجم، فَقَالَ أَبُو لَهب من بَينهم: وَعشر كَلِمَات، لله أَبوك فَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله. فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك! أَلِهَذَا دَعوتنَا؟ فَنزلت {تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1) . أَي: صغرت يَدَاهُ، وَفِي مَعَاني الْقُرْآن الْعَظِيم للقزاز فِي قِرَاءَة عبد الله: وَقد تب، فَالْأول: دُعَاء وَالثَّانِي: خبر، كَمَا تَقول للرجل أهْلكك الله، وَقد أهْلكك. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: (دَعَا عمومته وَقدم إِلَيْهِم صَحْفَة فِيهَا طَعَام، فَقَالُوا أَحَدنَا وَحده يَأْكُل الشَّاة وَإِنَّمَا قدم لنا هَذِه، فَأَكَلُوا مِنْهَا جَمِيعًا وَلم ينقص مِنْهَا إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير، فَقَالُوا لَهُ: مَا لنا عنْدك إِن اتَّبَعْنَاك؟ قَالَ: مَا للْمُسلمين، وَإِنَّمَا يتفاضلون فِي الدّين. فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك. .) الحَدِيث. وَفِي كتاب (الْأَفْعَال) : تب ضعف وخسر، وَتب هلك وَفِي الْقُرْآن {وَمَا كيد فِرْعَوْن إلاَّ فِي تباب} (غَافِر: 73) . وَأَبُو لَهب كنيته، وسمه عبد الْعُزَّى بن عبد الْمطلب، عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ كَافِرًا وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلف فِي أبي لَهب، هَل هُوَ لقب لَهُ أَو كنية لَهُ، فَالَّذِي عِنْد ابْن إِسْحَاق والكلبي فِي آخَرين أَن عبد الْمطلب لقبه بذلك لحمرة خديه وتوقدهما كالجمر، وَفِي حَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للهب بن أبي لَهب واسْمه عبد الْعُزَّى: (أكلك كلب الله) ، فَأَكله الْأسد، وَهُوَ دَال على أَنه كنى بِابْنِهِ، قَوْله: (تَبًّا) مفعول مُطلق يجب حذف عَامله أَي: هَلَاكًا وخسارا. قَوْله: (سَائِر الْيَوْم) ، مَنْصُوب بالظرفية أَي: بَاقِي الْيَوْم، أَو: بَاقِي الْأَيَّام جَمِيعهَا، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : سُورَة تبت مَكِّيَّة، وَهِي سَبْعَة وَسَبْعُونَ حرفا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ كلمة وَخمْس آيا. قَوْله: (تبت) أَي: خابت وخسرت (يدا أبي لَهب) أخبر عَن يَدَيْهِ، وَأَرَادَ بِهِ نَفسه، على عَادَة الْعَرَب فِي التَّعْبِير بِبَعْض الشَّيْء عَن كُله. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: لِمَ كنَّاه والكنية مكرمَة؟ قلت: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون مشتهرا بالكنية دون الإسم. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ اسْمه: عبد الْعُزَّى فَعدل عَنهُ إِلَى كنيته. وَالثَّالِث: أَنه لما كَانَ من أهل النَّار ومآله إِلَى النَّار ذَات لَهب وَافَقت حَاله كنيته، وَكَانَ جَدِيرًا بِأَن يذكر بهَا، وقرىء: {تبت يدا أَبُو لَهب} كَمَا قيل: عَليّ بن أَبُو طَالب، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، لِئَلَّا يُغير مِنْهُ شَيْء فيشكل على السَّامع، وَالله تَعَالَى أعلم.
42 - (كِتَابُ الزَّكَاة)
1 - (بابُ وُجُوبِ الزَّكاةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الزَّكَاة، وَقد وَقع عِنْد بعض الروَاة: كتاب وجوب الزَّكَاة، وَعند بَعضهم: بَاب وجوب الزَّكَاة، وَلم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر لَا بَاب وَلَا كتاب، وَفِي أَكثر النّسخ وَقع: كتاب الزَّكَاة، ثمَّ وَقع بعده: بَاب وجوب الزَّكَاة، كَمَا هُوَ الْمَذْكُور(8/232)
هَهُنَا، إِنَّمَا ذكر كتاب الزَّكَاة عقيب كتاب الصَّلَاة من حَيْثُ إِن الزَّكَاة ثَالِثَة الْإِيمَان وثانية الصَّلَاة فِي الْكتاب وَالسّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 3) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس. .) الحَدِيث، وَهِي لُغَة: عبارَة عَن النَّمَاء، يُقَال: زكا الزَّرْع، إِذا نما، وَقيل: عَن الطَّهَارَة. قَالَ الله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} (الْأَعْلَى: 41) . أَي: تطهر. قلت: الزَّكَاة اسْم للتزكية وَلَيْسَت بمصدر، وَقَالَ نفطويه: سميت بذلك لِأَن مؤديها يتزكى إِلَى الله أَي: يتَقرَّب إِلَيْهِ بِصَالح الْعَمَل وكل من تقرب إِلَى الله بِصَالح عمل فقد تزكّى إِلَيْهِ. وَقيل: سميت زَكَاة للبركة الَّتِي تظهر فِي المَال بعْدهَا. وَفِي (الْمُحكم) : الزَّكَاة ممدودا: النَّمَاء والريع، زكا يزكو زكاء وزكوا وأزكى والزكاء: مَا أخرجته الأَرْض من الثَّمر، وَالزَّكَاة الصّلاح، وَرجل زكي من قوم أزكياء، وَقد زكى زكاء، وَالزَّكَاة مَا أخرجته من مَالك لتطهره. وَقَالَ أَبُو عَليّ: الزَّكَاة صفوة الشَّيْء. وَفِي (الْجَامِع) : زكتْ النَّفَقَة: أَي بورك فِيهَا. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه (المدارك) : تطلق الزَّكَاة على الصَّدَقَة أَيْضا وعَلى الْحق وَالنَّفقَة وَالْعَفو عِنْد اللغويين، وَهِي شرعا: إيتَاء جُزْء من النّصاب الحولي إِلَى فَقير غير هاشمي. ثمَّ لَهَا ركن وَسبب وَشرط وَحكم وَحِكْمَة. فركنها: جعلهَا الله تَعَالَى بالإخلاص، وسببها: المَال، وَشَرطهَا نَوْعَانِ: شَرط السَّبَب وَشرط من تجب عَلَيْهِ، فَالْأول: ملك النّصاب الحولي، وَالثَّانِي: الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة، وَحكمهَا: سُقُوط الْوَاجِب فِي الدُّنْيَا وَحُصُول الثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وحكمتها كَثِيرَة. مِنْهَا: التطهر من أدناس الذُّنُوب وَالْبخل، وَمِنْهَا: ارْتِفَاع الدرجَة والقربة، وَمِنْهَا: الْإِحْسَان إِلَى المحتاجين، وَمِنْهَا: استرقاق الْأَحْرَار فَإِن الْإِنْسَان عبيد الْإِحْسَان، وَقَالَ الْقشيرِي على قَول من قَالَ: النَّمَاء، أَي: إخْرَاجهَا يكون سَببا للنماء كَمَا صَحَّ: (مَا نقص مَال من صَدَقَة) ، وَوجه الدَّلِيل مِنْهُ أَن النَّقْص محسوس بِإِخْرَاج الْقدر الْوَاجِب، وَلَا يكون غير نَاقص إلاَّ بِزِيَادَة تبلغه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْمَعْنيين جَمِيعًا الْمَعْنَوِيّ والحسي فِي الزِّيَادَة، أَو بِمَعْنى تَضْعِيف أجورها كَمَا جَاءَ: (إِن الله يُربي الصَّدَقَة حَتَّى تكون كالجبل) ، وَمن قَالَ: إِنَّهَا طَهَارَة فللنفس من رذيلة الْبُخْل، أَو لِأَنَّهَا تطهر من الذُّنُوب، وَهَذَا الْحق أثْبته الشَّارِع لمصْلحَة الدَّافِع والآخذ مَعًا، أما الدَّافِع فلتطهيره وتضعيف أجره، وَأما الْآخِذ فلسد خلته.
(بابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الزَّكَاة أَي: فرضيتها، وَقد يذكر الْوُجُوب وَيُرَاد بِهِ الْفَرْض، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُجُوب الثُّبُوت والتحقق. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجَبت وَجَبت، أَي: ثبتَتْ وتحققت، أَو ذكر الْوُجُوب لأجل الْمَقَادِير فَإِنَّهَا ثبتَتْ بأخبار الْآحَاد، أَو لِأَنَّهُ لَو قَالَ: فرض الزَّكَاة، لتبادر الذِّهْن إِلَى الَّذِي هُوَ التَّقْدِير، إِذْ التَّقْدِير هُوَ الْغَالِب فِي بَاب الزَّكَاة لِأَنَّهَا جُزْء مُقَدّر من جَمِيع أَصْنَاف الْأَمْوَال. قلت: لَا شكّ أَن الْكتاب مُجمل وَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يَأْتِي الْبَيَان، وَالْبَيَان فوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّن ذَلِك فِي سَائِر الْأَمْوَال، فَيكون أصل الزَّكَاة ثَابتا بِدَلِيل قَطْعِيّ، والمقدار بِالْحَدِيثِ، فَلَعَلَّ من أطلق على الزَّكَاة لفظ: الْوُجُوب، نظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
وقَوْلِ الله تعَالى {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَة: 34 و 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، المزمل: 02) .
قَول الله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن فَرضِيَّة الزَّكَاة بِالْقُرْآنِ، لِأَن الله تَعَالَى أَمر بهَا بقوله: {وَآتوا الزَّكَاة} (الْبَقَرَة: 34، 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، والمزمل: 02) . وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقيل: هُوَ بِالرَّفْع مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: هُوَ دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ من الْوُجُوب. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لَا يخفى على الفطن، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ، قَالَ ابْن الْمُنْذر: انْعَقَد الْإِجْمَاع على فَرضِيَّة الزَّكَاة وَهِي الرُّكْن الثَّالِث، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس) وَفِيه قَالَ: (وإيتاء الزَّكَاة) ، وَقَالَ ابْن بطال: فَمن جحد وَاحِدَة من هَذِه الْخمس فَلَا يتم إِسْلَامه، أَلا ترى أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: من منعهَا مُنْكرا وُجُوبهَا فقد كفر إِلَّا أَن يكون حَدِيث عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يعلم وُجُوبهَا. وَقَالَ الْقشيرِي: من جَحدهَا كفر، وَأجْمع الْعلمَاء أَن مانعها تُؤْخَذ(8/233)
قهرا مِنْهُ، وَإِن نصب الْحَرْب دونهَا قتل، كَمَا فعل أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَهْل الرِّدَّة، وَوَافَقَ على ذَلِك جَمِيع الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حدَّثني أبُو سُفْيَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَذَكَرَ حَديثَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يأمُرُنَا بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ والعَفَافِ
قد مضى هَذَا فِي أول الْكتاب فِي قَضِيَّة أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل فِي حَدِيث طَوِيل مِنْهُ. (قَالَ) أَي: هِرقل لأبي سُفْيَان (مَاذَا يَأْمُركُمْ؟ قَالَ) أَي: أَبُو سُفْيَان فِي جَوَابه (يَقُول: أعبدوا الله وَحده وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، واتركوا مَا يَقُول آباؤكم، ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة والصدق والعفاف والصلة) . وروى هَذَا الحَدِيث عبد الله بن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان بن حَرْب حَيْثُ قَالَ: (إِن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ) الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْجُزْء مِنْهُ هُنَا إِشَارَة إِلَى فَرضِيَّة الزَّكَاة بِهِ.
5931 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ عنْ زَكَرِيَّاءَ بنِ إسْحَاقَ عنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ الله ابنِ صَيْفِيٍّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ مُعَاذا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ إلَى اليَمَنِ فَقَالَ ادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وَأنِّي رسولُ الله فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ فأعْلِمْهُمْ أنَّ الله قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذالِكَ فأعْلِمْهُمْ أنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ بَيَان فَرضِيَّة الزَّكَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك، بتَشْديد الْحَاء: ابْن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وإهمال الدَّال، وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: زَكَرِيَّا ابْن إِسْحَاق، الثَّالِث: يحيى بن عبد الله بن صَيْفِي مَنْسُوبا إِلَى الصَّيف ضد الشتَاء مولى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع: أَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال: واسْمه نافد، بالنُّون وَالْفَاء وَالدَّال الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ، مولى ابْن عَبَّاس، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَة وَكَانَ أصدق موَالِي ابْن عَبَّاس، وَقد مر فِي: بَاب الذّكر بعد الصَّلَاة. الْخَامِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَن زَكَرِيَّا وَيحيى مكيان. وَفِيه: اثْنَان مذكوران بالكنية أَحدهمَا مَذْكُور باسمه أَيْضا. وَفِيه: أَن أحدهم مَذْكُور باسم جده أَيْضا. وَفِيه: عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي مُسلم: عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جعله من مُسْند معَاذ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي عَاصِم النَّبِيل عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه أَيْضا فِي الْجَنَائِز والتوحيد عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن حبَان بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَكَرِيَّا، وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عبد الله بن أبي الْأسود، وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن أُميَّة بن بسطَام، وَفِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أُميَّة بن بسطَام بِهِ وَعَن عبد بن حميد عَن أبي عَاصِم بِهِ وَعَن أبي بكر وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر عَن بشر بن السّري عَن زَكَرِيَّاء بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي كريب فِي الزَّكَاة بِتَمَامِهِ، وَفِي الْبر يذكر دَعْوَة الْمَظْلُوم حسب بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المخرمي عَن وَكِيع(8/234)
بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عمار الْموصِلِي عَن الْمعَافى بن عمرَان عَن زَكَرِيَّاء بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث معَاذًا) وَفِي (الإكليل) لِابْنِ البيع: بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، معَاذًا وَأَبا مُوسَى عِنْد انْصِرَافه من تَبُوك سنة تسع، وَزعم ابْن الْحذاء ابْن الْحذاء أَن ذَلِك كَانَ فِي شهر ربيع الآخر سنة عشر، وَقدم فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْحجَّة الَّتِي فِيهَا حج عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا ذكره سيف فِي (الرِّدَّة) وَفِي (الطَّبَقَات) : فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع، وَفِي (كتاب الصَّحَابَة) للعسكري: بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واليا على الْيمن. وَفِي (الِاسْتِيعَاب) : لما خلع من مَاله لغرمائه بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: لَعَلَّ الله أَن يجبرك. قَالَ: وَبَعثه أَيْضا قَاضِيا وَجعل إِلَيْهِ قبض الصَّدقَات من الْعمَّال الَّذين بِالْيمن، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قسم الْيمن على خَمْسَة رجال: خَالِد بن سعيد على صنعاء، وَالْمُهَاجِر بن أبي أُميَّة على كِنْدَة، وَزِيَاد بن لبيد على حَضرمَوْت، ومعاذ على الجندل، وَأبي مُوسَى على زبيد وعدن والساحل. قَوْله: (أدعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله) أَي: أدع أهل الْيمن أَولا إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله، وَالثَّانِي: الشَّهَادَة بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ مَا يَعْتَقِدهُ أهل الْيمن؟ قلت: صرح فِي رِوَايَة مُسلم أَنهم من أهل الْكتاب، حَيْثُ قَالَ عَن ابْن عَبَّاس، (عَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: إِنَّك تَأتي قوما من أهل الْكتاب فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: كَيْفيَّة الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام بِاعْتِبَار أَصْنَاف الْخلق فِي الاعتقادات، فَلَمَّا كَانَ إرْسَال معَاذ إِلَى من يقر بالإل هـ والنبوات، وهم أهل الْكتاب، أمره بِأول مَا يَدعُوهُم إِلَى تَوْحِيد الإل هـ وَالْإِقْرَار بنبوة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُم وَإِن كَانُوا يعترفون بإل هية الله تَعَالَى وَلَكِن يجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكا، لدَعْوَة النَّصَارَى أَن الْمَسِيح ابْن الله تَعَالَى، ودعوة الْيَهُود أَن عُزَيْرًا ابْن الله، سُبْحَانَهُ عَمَّا يصفونَ، وَأَن مُحَمَّدًا لَيْسَ برَسُول الله أصلا، أَو أَنه لَيْسَ برَسُول إِلَيْهِم، على اخْتِلَاف آرائهم فِي الضَّلَالَة، فَكَانَ هَذَا أول وَاجِب يدعونَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيد قوما بِأَهْل كتاب، يَعْنِي: فِي رِوَايَة مُسلم وَفِيهِمْ أهل الذِّمَّة وَغَيرهم من الْمُشْركين، تَفْضِيلًا لَهُم وتغليبا على غَيرهم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا أَن يَدعُوهُم أَولا بتوحيد الله وتصديق نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيل على أَنهم لَيْسُوا بعارفين الله تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب حذاق الْمُتَكَلِّمين فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، أَنهم غير عارفين الله تَعَالَى، وَإِن كَانُوا يعْبدُونَ ويظهرون مَعْرفَته لدلَالَة السّمع عِنْدهم، هَذَا، وَإِن كَانَ الْعقل لَا يمْنَع أَن يعرف الله تَعَالَى من كذب رَسُولا. وَقَالَ: مَا عرف الله من شبهه وجسمه من الْيَهُود، أَو أضَاف إِلَيْهِ الود، أَو أضَاف إِلَيْهِ الصاحبة أَو أجَاز الْحُلُول عَلَيْهِ والانتقال والامتزاج من النَّصَارَى، أَو وَصفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ، أَو أضَاف إِلَيْهِ الشَّرِيك والمعاند فِي خلقه من الْمَجُوس والثنوية، فمعبودهم الَّذِي عبدوه لَيْسَ هُوَ الله تَعَالَى، وَإِن سموهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ مَوْصُوفا بِصِفَات الإل هـ الْوَاجِبَة، فَأذن مَا عرفُوا الله سُبْحَانَهُ. وَقيل: إِنَّمَا أمره بالمطالبة بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَن ذَلِك أصل الدّين الَّذِي لَا يَصح شَيْء من فروعه إلاَّ بِهِ، فَمن كَانَ مِنْهُم غير موحد على التَّحْقِيق كالبصراني، فالمطالبة موجهة إِلَيْهِ بِكُل وَاحِدَة من الشَّهَادَتَيْنِ، وَمن كَانَ موحدا كاليهود فالمطالبة لَهُ بِالْجمعِ بَين مَا أقرّ بِهِ من التَّوْحِيد، وَبَين الْإِقْرَار بالرسالة. وَفِي (التَّلْوِيح) : أهل الْيمن كَانُوا يهودا لِأَن ابْن إِسْحَاق وَغَيره ذكرُوا أَن تبعا تهود، وَتَبعهُ على ذَلِك قومه. قَوْله: (فَإِن هم أطاعوا لذَلِك) ، أَي: للإتيان بِالشَّهَادَتَيْنِ. قَوْله: (فأعلمهم) ، بِفَتْح الْهمزَة من الْإِعْلَام. قَوْله: (أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة) ، كلمة: أَن، مَفْتُوحَة لِأَنَّهَا فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان للإعلام، وطاعتهم بِالصَّلَاةِ يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا: يحْتَمل أَن يُرِيد إقرارهم بِوُجُوبِهَا، الثَّانِي: أَن يُرِيد الطَّاعَة بِفِعْلِهَا، ويرجح الأول بِأَن الذّكر فِي لفظ الحَدِيث هُوَ الْإِخْبَار بالفريضة، فتعود الْإِشَارَة بذلك إِلَيْهَا. ويرجح الثَّانِي بِأَنَّهُم لَو أخبروا بِالْوُجُوب فبادروا بالامتثال بِالْفِعْلِ لكفى، وَلم يشْتَرط تلقيهم بِالْإِقْرَارِ بِالْوُجُوب، وَكَذَا الزَّكَاة لَو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بِالْإِقْرَارِ لكفى، فَالشَّرْط عدم الْإِنْكَار والإذعان بِالْوُجُوب لَا بِاللَّفْظِ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه رتب دعوتهم إِلَى أَدَاء الزَّكَاة على طاعتهم إِلَى إِقَامَة الصَّلَاة؟ قلت: لم يرتبه تَرْتِيب الْوُجُوب، وَإِنَّمَا رتبه لترتيب الْبَيَان ألاَ ترى أَن وجوب الزَّكَاة على قوم من النَّاس دون آخَرين، وَإِن لُزُومهَا بِمُضِيِّ الْحول على المَال، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: يحْتَمل أَن يُقَال: إِنَّهُم إِذا(8/235)
أجابوا إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ ودخلوا بذلك فِي الْإِسْلَام وَلم يطيعوا لوُجُوب الصَّلَاة كَانَ ذَلِك كفرا وردة عَن الْإِسْلَام بعد دُخُولهمْ فِيهِ، فَصَارَ مَالهم فَيْئا، فَلَا يؤمرون بِالزَّكَاةِ بل يقتلُون؟ قَوْله: (فَإِن هم أطاعوا لذَلِك) أَي: لوُجُوب الصَّلَاة بِالْأَدَاءِ كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة) أَي: زَكَاة، وَأطلق لفظ: الصَّدَقَة، على الزَّكَاة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 06) . وَالْمرَاد بهَا: الزَّكَاة. قَوْله: (تُؤْخَذ) على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله (صَدَقَة) ، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَترد) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على قَوْله: (تُؤْخَذ) ، وَسَيَأْتِي فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب لَا تُؤْخَذ كرائم أَمْوَال النَّاس فِي الصَّدَقَة، عقيب قَوْله: (وَترد على فقرائهم فَإِذا أطاعوا بهَا فَخذ مِنْهُم وتوقَّ كرائم أَمْوَال النَّاس) ، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي: بَاب أَخذ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء، عقيب قَوْله: (وكرائم أَمْوَالهم، واتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَين الله حجاب) . قَوْله: (توق) ، وَفِي رِوَايَة: (فإياك وكرائم أَمْوَالهم) ، يَعْنِي: إحترز فَلَا تَأْخُذ كرائم الْأَمْوَال، والكرائم جمع: كَرِيمَة، وَهِي النفيسة من المَال. وَقيل: مَا يخْتَص صَاحبه لنَفسِهِ مِنْهَا ويؤثره، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هِيَ جَامِعَة الْكَمَال المتمكن فِي حَقّهَا من غزارة اللَّبن وجمال صُورَة أَو كَثْرَة لحم أَو صوف، قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الشَّأْن، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فَإِنَّهَا، أَي: فَإِن الْقِصَّة والشأن. قَوْله: (لَيْسَ بَينه) ، أَي: بَين دُعَاء الْمَظْلُوم وَبَين الله حجاب. وَفِي رِوَايَة: (بَينهَا) ، أَي: بَين دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبَين الله. قَوْله: (فإياك وكرائم أَمْوَالهم) ، بِالْوَاو، وَلَا يجوز تَركه لِأَن معنى: إياك: إتق، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ التحذير، والمحذر مِنْهُ إِذا ولي المحذر فَإِن كَانَ اسْما صَرِيحًا يسْتَعْمل بِمن أَو الْوَاو، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا، وَإِلَّا يفهم مِنْهُ أَنه محذر مِنْهُ، وَإِن كَانَ فعلا يجب أَن يكون مَعَ: أَن ليَكُون فِي تَأْوِيل الإسم، فيستعمل بِالْوَاو عطفا نَحْو: إياك وَأَن تحذف، فَإِن تَقْدِيره: إياك والحذف، أَو: بِمن، نَحْو إياك من أَن تحذف. وَلَا يجوز أَن يُقَال: إياك الْأسد، بِدُونِ الْوَاو. وَقد نقل ابْن مَالك: إياك الْأسد، بِحَذْف الْوَاو، وَلكنه شَاذ يكون فِي الضَّرُورَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن أَبَا مُوسَى كَانَ مَعَه، فَلَيْسَ خبر وَاحِد على هَذَا، وعَلى قَول أبي عمر: كَانُوا خَمْسَة. قلت: فِي نظره نظر، لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن كَونه خبر وَاحِد، وَقبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ قَول من يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع.
الثَّانِي: فِيهِ أَن الْكفَّار يدعونَ إِلَى الْإِسْلَام قبل الْقِتَال، وَإنَّهُ لَا يحكم بِإِسْلَام الْكَافِر إلاَّ بالنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة لِأَن ذَلِك أصل الدّين الَّذِي لَا يَصح شَيْء من فروعه إلاَّ بِهِ.
الثَّالِث: فِيهِ أَن الصَّلَوَات الْخمس فرض فِي كل يَوْم وَلَيْلَة خمس مَرَّات.
الرَّابِع: فِيهِ أَن الزَّكَاة فرض.
الْخَامِس: فِيهِ اسْتِدْلَال بَعضهم على عدم جَوَاز نقل الزَّكَاة عَن بلد المَال، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَترد على فقرائهم) ، قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح، لِأَن الضَّمِير فِي (فقرائهم) ، يرجع إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين، وَهُوَ أَعم من أَن يكون من فُقَرَاء أهل تِلْكَ الْبَلدة أَو غَيرهم، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: اتَّفقُوا على أَنَّهَا إِذا نقلت وَأديت يسْقط الْفَرْض عَنهُ، إلاَّ عمر ابْن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ رد صَدَقَة نقلت من خُرَاسَان إِلَى الشَّام إِلَى مَكَانهَا من خُرَاسَان.
السَّادِس: أَن الْخطابِيّ قَالَ فِيهِ: يسْتَدلّ لمن يذهب إِلَى أَن الْكفَّار غير مخاطبين بشريعة الدّين، وَإِنَّمَا خوطبوا بِالشَّهَادَةِ فَإِذا أقاموها تَوَجَّهت عَلَيْهِم بعد ذَلِك الشَّرَائِع والعبادات، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أوجبهَا مرتبَة وَقدم فِيهَا الشَّهَادَة، ثمَّ تَلَاهَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف، فَإِن المُرَاد علمهمْ بِأَنَّهُم مطالبون بِالصَّلَاةِ وَغَيرهَا فِي الدُّنْيَا، والمطالبة فِي الدُّنْيَا لَا تكون إلاَّ بعد الْإِسْلَام، وَلَيْسَ يلْزم من ذَلِك أَن لَا يَكُونُوا مخاطبين بهَا يُزَاد فِي عَذَابهمْ بِسَبَبِهَا فِي الْآخِرَة، ثمَّ قَالَ: إعلم أَن الْمُخْتَار أَن الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الشَّرِيعَة الْمَأْمُور بِهِ والمنهي عَنهُ، هَذَا قَول الْمُحَقِّقين والأكثرين، وَقيل: لَيْسُوا مخاطبين، وَقيل: مخاطبون بالمنهي دون الْمَأْمُور. قلت: قَالَ شمس الْأَئِمَّة فِي كِتَابه، فِي فصل بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حق الْكفَّار: لَا خلاف أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النَّاس كَافَّة لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان، قَالَ تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} (الْأَعْرَاف: 851) . وَلَا خلاف أَنهم مخاطبون بالمشروع من الْعُقُوبَات، وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالمعاملات يتناولهم أَيْضا، وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالشرائع يتناولهم فِي حكم الْمُؤَاخَذَة فِي الْآخِرَة، فَأَما فِي وجوب الْأَدَاء فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فمذهب الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابنَا أَن الْخطاب يتناولهم أَيْضا. وَالْأَدَاء وَاجِب عَلَيْهِم، ومشايخ دِيَارنَا يَقُولُونَ: إِنَّهُم لَا يخاطبون بأَدَاء مَا يحْتَمل السُّقُوط من الْعِبَادَات.(8/236)
السَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ من يرى بِعَدَمِ وجوب الْوتر، لِأَن بعث معَاذ إِلَى الْيمن قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَلِيل. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا ظَاهر لَا إِيرَاد عَلَيْهِ، وَمن ناقش بِهِ فقد غلط. قلت: مَا غلط إلاَّ من اسْتمرّ على هَذَا بِغَيْر برهَان، لِأَن الرَّاوِي لم يذكر جَمِيع المفروضات. أَلاَ ترى أَنه لم يذكر الصَّوْم وَالْحج وَنَحْوهمَا، وَلَئِن سلمنَا مَا ذَكرُوهُ، وَلَكِن لَا نسلم نفي ثُبُوت وُجُوبه بعد ذَلِك لعدم الْعلم بالتاريخ، وَقد قَالَت الشَّافِعِيَّة: فِي ردهم قَول أَحْمد حَيْثُ تمسك بِحَدِيث ابْن عكيم فِي عدم الِانْتِفَاع بإجزاء الْميتَة قبل موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَهْر، وَيحْتَمل أَن يكون الْإِذْن فِي ذَلِك قبل مَوته بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُم أَن يَقُولُوا هُنَا كَمَا قَالُوا هُنَاكَ.
الثَّامِن: ذكر الطَّيِّبِيّ وَآخَرُونَ أَن فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم) . دَلِيلا على أَن الطِّفْل تلْزمهُ الزَّكَاة لعُمُوم قَوْله (تُؤْخَذ من أغنيائهم) قلت قلت: عبارَة الشَّافِعِيَّة: أَن الزَّكَاة لَا تجب على الصَّبِي بل تجب فِي مَاله، وَكَذَا فِي الْمَجْنُون، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطب فَقَالَ: ألاَّ من ولي يَتِيما لَهُ مَال فليتجر فِي مَاله وَلَا يتْركهُ حَتَّى تَأْكُله الصَّدَقَة) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، قُلْنَا: الشَّرْط فِي وجوب الزَّكَاة: الْعقل وَالْبُلُوغ، فَلَا تجب فِي مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون لحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق) ، وَحَدِيث التِّرْمِذِيّ ضَعِيف لِأَن فِي إِسْنَاده الْمثنى بن الصَّباح. فَقَالَ أَحْمد: لَا يُسَاوِي شَيْئا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ يحيى: ليش بِشَيْء، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن رَوَاهُ: وَفِي إِسْنَاده مقَال لِأَن الْمثنى بن الصَّباح يضعف فِي الحَدِيث. فَإِن قلت: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة منْدَل عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إحفظوا الْيَتَامَى فِي أَمْوَالهم لَا تأكلها الزَّكَاة) . قلت: منْدَل بن عَليّ الْكُوفِي ضعفه أَحْمد، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يرفع الْمَرَاسِيل ويسند الْمَوْقُوفَات من سوء حفظه، فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ اسْتحق التّرْك. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وروى بَعضهم هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... فَذكر هَذَا الحَدِيث. قلت: ظَاهره أَن عَمْرو بن شُعَيْب رَوَاهُ عَن عمر بِغَيْر وَاسِطَة بَينه وَبَينه وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بِوَاسِطَة سعيد بن الْمسيب من رِوَايَة حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب، أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: ابْتَغوا بأموال اليتامي لَا تأكلها الصَّدَقَة. وَقد اخْتلف فِي سَماع ابْن الْمسيب عَن عمر بن الْخطاب، وَالصَّحِيح أَنه لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب، فَرَأى غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، مِنْهُم: عمر وَعلي وَعَائِشَة وَابْن عمر، وَبِه يَقُول: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْعلم: لَيْسَ فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، وَبِه قَالَ: سُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك. قلت: وَبِه قَالَ: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ قَول أبي وَائِل وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكي عَنهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا تجب الزَّكَاة إلاَّ على من تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصِّيَام، وَذكر حميد بن زَنْجوَيْه النَّسَائِيّ: أَنه مَذْهَب ابْن عَبَّاس. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَهُوَ قَول عَليّ أَيْضا، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه مثله، وَبِه قَالَ شُرَيْح، ذكره النَّسَائِيّ.
التَّاسِع: فِيهِ أَن الْمَدْفُوع عين الزَّكَاة وَفِيه خلاف.
الْعَاشِر: أَنه لَيْسَ فِي المَال حق وَاجِب سوى الزَّكَاة، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث شريك عَن أبي حَمْزَة عَن الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة بنت قيس: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قلت: قد اخْتلف نسخ ابْن مَاجَه فِي لَفظه، فَفِي نُسْخَة: فِي المَال حق سوى الزَّكَاة، وَفِي نُسْخَة: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (الإِمَام) هَكَذَا فِي النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا روايتنا، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ: إِن فِي المَال لَحقا سوى الزَّكَاة، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي يرويهِ أَصْحَابنَا فِي التَّعَالِيق: لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: لَيْسَ حَدِيث فَاطِمَة هَذَا بِصَحِيح، تفرد بِرَفْعِهِ أَبُو حَمْزَة القصاب الْأَعْوَر الْكُوفِي، واسْمه: مَيْمُون، وَهُوَ وَإِن روى عَنهُ الثِّقَات: الحمادان وسُفْيَان وَشريك وَابْن علية وَغَيرهم، فَهُوَ مُتَّفق على ضعفه. وَقَالَ أَحْمد: مَتْرُوك الحَدِيث وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَحكم التِّرْمِذِيّ أَن هَذَا الحَدِيث من قَول الشّعبِيّ أصح، وَهُوَ كَذَلِك، وَقد صَحَّ أَيْضا عَن غَيره من التَّابِعين، وروى أَيْضا عَن ابْن عمر من قَوْله: وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ عَن الشّعبِيّ وَمُجاهد وطاووس وَغَيرهم(8/237)
القَوْل: فِي المَال حق سوى الزَّكَاة. قَالَ: وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: فِي مَالك حق سوى الزَّكَاة. وَقَالَ مُجَاهِد إِذا حصد ألْقى لَهُم من السنبل، وَإِذا جز النّخل ألْقى لَهُم من الشماريخ، فَإِذا كاله زَكَّاهُ. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . قَالَ: مَا قل مِنْهُ أَو كثر، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه، قَالَ: وَآتوا حَقه، قَالَ: شَيْء سوى الْحق الْوَاجِب، وَعَن عَطاء: القبضة من الطَّعَام، وَعَن يزِيد بن الْأَصَم، قَالَ: كَانَ النّخل إِذا صرم يَجِيء الرجل بالعذق من نخله فيعلقه فِي جَانب الْمَسْجِد، فَيَجِيء الْمِسْكِين فيضربه بعصاه، فَإِذا تناثر مِنْهُ شَيْء أكل، فَذَلِك قَوْله: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَعَن حَمَّاد: يُعْطي ضغثا، وَعَن الرّبيع بن أنس: وَآتوا حَقه. قَالَ إلقاط السنبل، وَعَن سُفْيَان قَالَ: يدع الْمَسَاكِين يتبعُون أثر الحصادين فِيمَا سقط عَن المنجل، وَذكر الْعَبَّاس الضَّرِير فِي كِتَابه (مقامات التَّنْزِيل) : وَقد رُوِيَ وَصَحَّ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَهُوَ قَول عَطِيَّة وَأبي عبيد، وَاحْتج بِحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه: نهى عَن حصاد اللَّيْل. وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ قَول الشّعبِيّ، رَحمَه الله، وَقَالَ النّحاس: فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة خَمْسَة أَقْوَال: فَمنهمْ من قَالَ هِيَ مَنْسُوخَة بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَة، فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك، سعيد بن جُبَير، وَقَالَ: كَانَ هَذَا قبل أَن تنزل الزَّكَاة، وَقَالَ الضَّحَّاك: نسخت الزَّكَاة فِي كل صَدَقَة فِي الْقُرْآن، وَفِي تَفْسِير الفلاس: حَدثنَا يحيى حَدثنَا سُفْيَان عَن الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. القَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَهُوَ قَول أنس بن مَالك، وَعَن الْحسن مثله، وَهُوَ قَول جَابر بن زيد وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم، وَقيل: هَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. القَوْل الثَّالِث: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: كَأَن السّديّ ذهب إِلَى أَن الَّذِي نزل بِمَكَّة: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . فَقَط، فَلَمَّا أعْطى ابْن قيس كلما حصد، نزل: {وَلَا تسرفوا} (الْأَنْعَام: 141) . وَأول الْآيَة مكي وَآخِرهَا مدنِي. وَعَن الْكَلْبِيّ مثل قَول السّديّ، وَذكر النّحاس مثل قَول السّديّ عَن الْأَعْرَج، وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. القَوْل الرَّابِع: قَول من قَالَ: نسخت الْآيَة بالعشر وَنصف الْعشْر. وَفِي تَفْسِير الفلاس: هُوَ قَول ابْن عَبَّاس. القَوْل الْخَامِس: قَالَ أَبُو جَعْفَر: أَن يكون مَعْنَاهُ على النّدب، وَهَذَا لَا نَعْرِف أحدا من الْمُتَقَدِّمين قَالَه.
الْحَادِي عشر: فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم) ، دَلِيل على أَن الإِمَام يُرْسل السعاة إِلَى أَصْحَاب الْأَمْوَال لقبض صَدَقَاتهمْ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْعلم على أَن الزَّكَاة كَانَت ترفع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَى رسله وعماله وَإِلَى من أَمر بدفعها إِلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِي دفع الزَّكَاة إِلَى الْأُمَرَاء، فَكَانَ سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو رزين وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ، يَقُولُونَ: تدفع الزَّكَاة إِلَى الْأُمَرَاء. وَقَالَ عَطاء: يعطيهم إِذا وضعوها موَاضعهَا. وَقَالَ طَاوُوس: لَا يدْفع إِلَيْهِم إِذا لم يضعوها موَاضعهَا. وَقَالَ الثَّوْريّ: أخلف لَهُم وعدهم وأكذبهم وَلَا تعطهم شَيْئا إِذا لم يضعوها موَاضعهَا.
الثَّانِي عشر: فِيهِ أَن السَّاعِي لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ خِيَار الْأَمْوَال، بل يَأْخُذ الْوسط بَين الْخِيَار والرديء.
الثَّالِث عشر: قَالَ الْخطابِيّ، فِيهِ: قد يسْتَدلّ بِهِ من لَا يرى على الْمَدْيُون زَكَاة، لِأَنَّهُ قسم قسمَيْنِ فَقِيرا وغنيا، فَهَذَا لما جَازَ لَهُ الْأَخْذ لم يجب عَلَيْهِ الدّفع. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْمَدْيُون لَا يَأْخُذهَا لفقره حَتَّى لَا تجب عَلَيْهِ لغناه، وَإِنَّمَا يَأْخُذهَا لكَونه من الغارمين، وهم أحد الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَذْكُورين فِي الْآيَة.
الرَّابِع عشر: قَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : فِيهِ دَلِيل لمَالِك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على أَن الزَّكَاة لَا تجب قسمتهَا على الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الْمَذْكُورين فِي الْآيَة، وَأَنه يجوز للْإِمَام أَن يصرفهَا إِلَى صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي الْآيَة إِذا رَآهُ نظرا أَو مصلحَة دينية.
الْخَامِس عشر: فِيهِ أَن دعو الْمَظْلُوم لَا ترد، وَلَو كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَن لَا يُسْتَجَاب لمثله من كَون مطعمه حَرَامًا أَو نَحْو ذَلِك حَتَّى ورد فِي بعض طرقه. وَإِن كَانَ كَافِرًا لَيْسَ دونه حجاب، رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَله من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) . وَإِسْنَاده حسن.
6931 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعبَةُ عنِ ابنِ عُثْمَانِ بنِ عَبْدِ الله بنِ مَوْهَبٍ(8/238)
عنْ مُوسى بنِ طَلْحَةَ عنْ أبِي أيُّوبَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ قَالَ مالَهُ مالَهُ وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرَبٌ مالَهُ تَعْبُدُ الله وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا وتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتؤتي الزَّكَاة) فَإِنَّهَا ذكرت مُقَارنَة للصَّلَاة الَّتِي ذكرت مُقَارنَة للتوحيد، فَإِن قَوْله: (تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) عبَادَة عَن التَّوْحِيد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن الْحَارِث بن سَخْبَرَة أَبُو عمر الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْهَاء وبالباء الْمُوَحدَة. الرَّابِع: مُوسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله الْقرشِي، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَة. الْخَامِس: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، واسْمه خَالِد بن زيد بن كُلَيْب، يَقُول فِي حَدِيثه: إِن رجلا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِن هَذَا الرجل هُوَ أَبُو أَيُّوب الرَّاوِي، وَنسبه بَعضهم إِلَى الْغَلَط وَهُوَ غير موجه، إِذْ لَا مَانع أَن يبهم الرَّاوِي نَفسه لغَرَض لَهُ. فَإِن قلت: هَذَا يبعد هَهُنَا لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّتِي تَأتي بعد بِأَنَّهُ أَعْرَابِي. قلت: أُجِيب بِالْمَنْعِ لعدم الْمَانِع من تعدد الْقِصَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَابْن عُثْمَان ومُوسَى مدنيان. وَفِيه: ابْن مُخْتَلف فِيهِ هَل هُوَ مُحَمَّد بن عُثْمَان أَو عَمْرو بن عُثْمَان، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَنَذْكُر عَن قريب وَجه ذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَنهُ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعبد الرَّحْمَن بن نصر، كِلَاهُمَا عَن بهز عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبِيهِ عُثْمَان بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن أبي الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عَن بهز بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يدخلني) الْجَزْم فِيهِ على جَوَاب الْأَمر غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ إِذا جعل جَوَاب الْأَمر يبْقى قَوْله: بِعَمَل، غير مَوْصُوف، والنكرة غير الموصوفة لَا تفِيد، كَذَا قَالَه صَاحب (الْمظهر) شَارِح (المصابيح) قلت: التنكير فِي: بِعَمَل، للتفخيم أَو التنويع، أَي: بِعَمَل عَظِيم أَو مُعْتَبر فِي الشَّرْع، أَو نقُول، إِذا صَحَّ الْجَزْم فِيهِ: إِن جَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: أَخْبرنِي بِعَمَل إِن عملته يدخلني الْجنَّة، فالجملة الشّرطِيَّة بأسرها صفة: لعمل. فَافْهَم. قَوْله: (مَاله مَاله؟) كلمة: مَا للاستفهام والتكرار للتَّأْكِيد، قَالَه ابْن بطال: وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: أَي شَيْء جرى لَهُ، قَوْله: (ارب) إختلفوا فِي هَيْئَة هَذِه الْكَلِمَة وَفِي مَعْنَاهَا أَيْضا، أما فِي الأول فَقيل، ارب، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الرَّاء وتنوين الْبَاء: على وزن حذر، وَقَالَ ابْن قرقول: يرْوى: أرب مَاله: اسْم فَاعل حذر. قلت: لَا يُسمى مثل هَذَا اسْم فَاعل، بل هُوَ صفة مشبهة، وَقيل: أرب، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الرَّاء أَيْضا وتنوين الْبَاء، وَقيل: أرب، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الرَّاء وَفتح الْبَاء على صِيغَة الْمَاضِي، وَرُوِيَ هَذَا عَن أبي ذَر، وَقيل: على صِيغَة الْمَاضِي، وَلكنه بِكَسْر الرَّاء، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقْوَال. وَأما اخْتلَافهمْ فِي الْمَعْنى فَفِي الْوَجْه الأول مَعْنَاهُ: صَاحب الْحَاجة، وَهُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ أرب، وَلما رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حَرِيص فِي سُؤَاله، قَالَ: مَا لَهُ مُتَعَجِّبا من حرصه بطرِيق الِاسْتِفْهَام، وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: مَعْنَاهُ لَهُ أرب، أَي: حَاجَة، فَيكون ارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف. وَفِي الْوَجْه الثَّالِث وَالرَّابِع اللَّذين بِصُورَة الْمَاضِي على اخْتِلَاف حَرَكَة عين الْفِعْل، مَعْنَاهُ: احْتَاجَ فَسَأَلَ عَن حَاجته. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل، يُقَال: أرب الرجل فِي الْأَمر إِذا بلغ فِيهِ جهده. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: سقط آرابه، أَي: أعضاؤه، ومفرده: الأرب، هَذِه كلمة لَا يُرَاد بهَا وُقُوع الْأَمر. كَمَا تَقول: تربت يداك، وَإِنَّمَا تسْتَعْمل عِنْد التَّعَجُّب. وَقيل: لما رأى الرجل يزاحم دَعَا عَلَيْهِ دُعَاء لَا يُسْتَجَاب فِي الْمَدْعُو عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أرب الرجل فِي الشَّيْء إِذا صَار ماهرا فِيهِ، فَيكون الْمَعْنى التَّعَجُّب من حسن فطنته والتهدي إِلَى مَوضِع حَاجته، فَلذَلِك قَالَ: مَاله، بالاستفهام:(8/239)
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما مَا رَوَاهُ بَعضهم بِكَسْر الرَّاء وتنوين الْبَاء، وَمَعْنَاهُ: هُوَ أرب، أَي: صَادِق فطن، فَلَيْسَ بِمَحْفُوظ عِنْد أهل الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة: (قَالَ النَّاس: مَاله مَاله؟ فَقَالَ النَّبِي تصلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرب مَاله) و: مَا، صلَة أَي حَاجَة مَا أَو أَمر مَاله. انْتهى. قلت: لهَذِهِ الْمَادَّة معَان كَثِيرَة: الأرب، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء: الْعُضْو، كَمَا فِي الحَدِيث: (أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة آرَاب) . وَهُوَ جمع أرب، وَجَاء على أرؤب، والأرب أَيْضا الدهاء، وَيُقَال: هُوَ ذُو أرب أَي: ذُو عقل، وَمِنْه: الأريب، وَهُوَ الْعَاقِل، والأرب أَيْضا: الْحَاجة وَفِيه لُغَات: أرب وأربة وأرب ومأربة، تَقول مِنْهُ: أرب الرجل بِالْكَسْرِ يأرب بِالْفَتْح أربا، وَيُقَال: أرب الدَّهْر إِذا اشْتَدَّ، وأرب الرجل إِذا تساقطت أعضاؤه، وأرب بالشَّيْء درب بِهِ وَصَارَ بَصيرًا فِيهِ فَهُوَ أرب، والأربة بِالضَّمِّ: الْعقْدَة، والإربة بِالْكَسْرِ الْمَعْتُوه، قَالَ تَعَالَى: {غير أولي الإربة} (النُّور: 13) . قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْمَعْتُوه، وتأريب الْعقْدَة إحكامها وَمِنْه يُقَال: أرب عقدتك، أَي: أحكمها، وتأريب الشَّيْء أَيْضا توفيره، وكل موفر مؤرب. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: التأرب التشدد فِي الشَّيْء، وأربت على الْقَوْم أَي: فزت عَلَيْهِم، والأرب، بِالضَّمِّ صغَار الْغنم حِين تولد. قَوْله: (تعبد الله) أَي: توحده، وَفَسرهُ بقوله: (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليعبدون} (الذاريات: 65) . أَي: ليوحدوني، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن الْعِبَادَة الطَّاعَة مَعَ خضوع، فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالْعبَادَة هُنَا معرفَة الله تَعَالَى، وَالْإِقْرَار بوحدانيته، فعلى هَذَا يكون عطف الصَّلَاة وَعطف مَا بعْدهَا عَلَيْهَا لإدخالها فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لم تكن دخلت فِي الْعِبَادَة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالْعبَادَة الطَّاعَة مُطلقًا، فَيدْخل جَمِيع وظائف الْإِسْلَام فِيهَا. فعلى هَذَا يكون عطف الصَّلَاة وَغَيرهَا من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، تَنْبِيها على شرفه ومزيته، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله: (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) بعد الْعِبَادَة لِأَن الْكفَّار كَانُوا يعبدونه سُبْحَانَهُ فِي الصُّورَة ويعبدون مَعَه أوثانا يَزْعمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاء فنفى هَذَا. قَوْله: (وتقيم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) اقتباس من قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} (النِّسَاء: 301) . وَقد جَاءَ فِي أَحَادِيث وصفهَا بالمكتوبة، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إلاَّ الْمَكْتُوبَة) ، و (أفضل الصَّلَاة بعد الْمَكْتُوبَة صَلَاة اللَّيْل) ، و (خمس صلوَات كتبهن الله) ، وَمعنى: إِقَامَة الصَّلَاة إدامتها والمحافظة عَلَيْهَا، وَقيل: إِتْمَامهَا على وَجههَا. قَوْله: (وَتصل الرَّحِم) ، من وصل يصل صلَة، وصلَة الرَّحِم مُشَاركَة ذَوي الْقَرَابَة فِي الْخيرَات، وَإِنَّمَا خص هَذَا من بَين سَائِر وَاجِبَات الدّين نظرا إِلَى حَال السَّائِل، كَأَنَّهُ كَانَ قطاعا للرحم مبيحا لذَلِك، فَأمره بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ المهم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: قد علم بسؤال الرجل أَن لَهُ حَاجَة، فَمَا الْفَائِدَة فِي قَوْله: لَهُ حَاجَة؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: لَهُ حَاجَة مهمة مفيدة جَاءَت بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا لم يُخْبِرهُمْ بالتطوع لأَنهم كَانُوا حَدِيثي عهد بِالْإِسْلَامِ، فَاكْتفى مِنْهُم بِفعل مَا وَجب عَلَيْهِم للتَّخْفِيف، وَلِئَلَّا يعتقدوا أَن التطوعات وَاجِبَة، فتركهم إِلَى أَن تَنْشَرِح صُدُورهمْ لَهَا فتسهل عَلَيْهِم.
وَقَالَ بَهْزٌ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ وأبُوهُ عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ الله أنَّهُمَا سَمِعَا مُوسى بنَ طَلْحَةَ عنْ أبِي أيُّوبَ بِهاذَا. قَالَ أبُو عَبْدِ الله أخْشَى أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مَحْفُوظٍ إنَّمَا هُوَ عَمْرٌ
وبهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: ابْن أَسد الْعمي أَبُو الْأسود الْبَصْرِيّ، مر فِي: بَاب الْغسْل بالصاع. قَوْله: شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَفِي رِوَايَة حَفْص بن عمر: عَن شُعْبَة قَالَ حَدثنَا ابْن عُثْمَان، كَمَا مر. وَقد أوضح شُعْبَة فِي هَذِه الرِّوَايَة هُوَ مُحَمَّد بن عُثْمَان، وَلكنه وهم فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان، وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أخْشَى أَن يكون مُحَمَّد غير مَحْفُوظ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِن شُعْبَة وهم فِي اسْم ابْن عُثْمَان بن موهب فَسَماهُ مُحَمَّدًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن عُثْمَان، والْحَدِيث مَحْفُوظ عَنهُ، حدث بِهِ عَنهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان وَمُحَمّد بن عبيد وَإِسْحَاق الْأَزْرَق وَأَبُو أُسَامَة وَأَبُو نعيم ومروان الْفَزارِيّ وَغَيرهم عَن عَمْرو بن عُثْمَان، وَقَالَ الكلاباذي: روى شُعْبَة عَن عَمْرو بن عُثْمَان وَوهم فِي اسْمه فَقَالَ: مُحَمَّد بن عُثْمَان، فِي أول كتاب الزَّكَاة، وَقَالَ الغساني: هَذَا مِمَّا عد على شُعْبَة أَنه وهم فِيهِ حَيْثُ قَالَ: مُحَمَّد بدل عَمْرو، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة شُعْبَة فِي (كتاب الْأَدَب) فَقَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن حَدثنَا بهز حَدثنَا شُعْبَة(8/240)
حَدثنَا ابْن عُثْمَان بن عبد الله، غير مُسَمّى ليَكُون أقرب إِلَى الصَّوَاب، قَوْله: (وَأَبوهُ عُثْمَان) أَي: أَبُو مُحَمَّد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن شُعْبَة رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَعَن أَبِيه عُثْمَان بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن مُوسَى بن طَلْحَة، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عَن بهز عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبِيهِ عُثْمَان، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد عَن بهز، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: جوده بهز فَقَالَ: حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان وَأَبوهُ عُثْمَان، قَالَ: وَانْفَرَدَ ابْن أبي عدي فِيهِ بالرواية عَن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن مُوسَى. وَقَالَ مُسلم: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَدثنِي أبي حَدثنَا عَمْرو بن عُثْمَان حَدثنَا مُوسَى بن طَلْحَة (حَدثنِي أَبُو أَيُّوب: أَن أَعْرَابِيًا عرض لرَسُول الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ فِي سفر، فَأخذ بِخِطَام نَاقَته أَو بزمامها ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَو يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي بِمَا يقربنِي إِلَى الْجنَّة وَمَا يباعدني من النَّار؟ قَالَ: فَكف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نظر فِي أَصْحَابه، ثمَّ قَالَ: لقد وفْق هَذَا أَو لقد هدي قَالَ: كَيفَ قلت؟ قَالَ: فَأَعَادَهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وَتصل الرَّحِم، دع النَّاقة) . ثمَّ روى من طَرِيق بهز: حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب وَأَبوهُ عُثْمَان أَنَّهُمَا سمعا مُوسَى بن طَلْحَة يحدث عَن أبي أَيُّوب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل هَذَا الحَدِيث. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، لِأَن كنيته أَبُو عبد الله، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ مُحَمَّد، هُوَ البُخَارِيّ أَيْضا لِأَن اسْمه مُحَمَّد.
7931 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حدَّثنا عَفَّانُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بنِ حَيَّانَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ أعْرَابِيَّا أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ قَالَ تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا وتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ وَتُؤدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أزِيدُ عَلَى هاذا فَلَمَّا ولَّى قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رجُلٍ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هاذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: (وتؤتى الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة) يدل على فَرضِيَّة الزَّكَاة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو يحيى. الثَّانِي: عَفَّان بتَشْديد الْفَاء ابْن مُسلم الصفار الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: وهيب، بِضَم الْوَاو: ابْن خَالِد ابْن عجلَان وَصَاحب الكرابيس. الرَّابِع: يحيى بن سعيد بن حَيَّان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو حَيَّان التَّمِيمِي، تيم الربَاب. الْخَامِس: أَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء: واسْمه هرم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عبد الله تقدم فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كتاب الْإِيمَان. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن ابْن صَخْر، على خلاف فِيهِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَكَانَ يُقَال لَهُ: صَاعِقَة، لِأَنَّهُ كَانَ سريع الْحِفْظ وجيده، مَاتَ فِي سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ بغدادي وَعَفَّان بَصرِي روى البُخَارِيّ عَنهُ بِدُونِ الْوَاسِطَة فِي: بَاب ثَنَاء النَّاس على الْمَيِّت، ووهيب أَيْضا بَصرِي وَيحيى وَأَبُو زرْعَة كوفيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي هَذَا الْكتاب. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن إِسْحَاق عَن عَفَّان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أَعْرَابِيًا) هُوَ سعد بن الأخرم، قَالَ الذَّهَبِيّ: سعد بن الأخرم أَبُو الْمُغيرَة، نزل الْكُوفَة، روى عَنهُ ابْنه، مُخْتَلف فِي صحبته، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث الْأَعْمَش: عَن عَمْرو بن مرّة عَن الْمُغيرَة بن سعد ابْن الأخرم عَن أَبِيه أَو عَن عَمه شكّ الْأَعْمَش، قَالَ: (أتيت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: يَا نَبِي الله دلَّنِي على عمل يقربنِي من الْجنَّة وَيُبَاعِدنِي من النَّار، فَسكت سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَنظر فَقَالَ: تعبد الله لَا تشرك بِهِ شَيْئا، وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان وتحب للنَّاس مَا تحب أَن يُؤْتى إِلَيْك، وَمَا كرهت أَن يُؤْتى إِلَيْك فدع النَّاس مِنْهُ) . وَقَالَ بَعضهم: السَّائِل فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة قد سمي فِيمَا رَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَابْن السكن وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَأَبُو مُسلم(8/241)
الْكَجِّي فِي (السّنَن) من طَرِيق مُحَمَّد بن جحادة وَغَيره: (عَن الْمُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي أَن أَبَاهُ حَدثهُ قَالَ: انْطَلَقت إِلَى الْكُوفَة فَدخلت الْمَسْجِد فَإِذا رجل من قيس يُقَال لَهُ: ابْن المنتفق، وَهُوَ يَقُول: وصف لي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فطلبته فَلَقِيته بِعَرَفَات، فتزاحمت عَلَيْهِ فَقيل لي: إِلَيْك عَنهُ، فَقَالَ: دعوا الرجل أرب مَاله. قَالَ: فزاحمتهم عَلَيْهِ حَتَّى خلصت إِلَيْهِ فَأخذت بِخِطَام رَاحِلَته، فَمَا غير عَليّ قَالَ: شَيْئَانِ أَسأَلك عَنْهُمَا: مَا ينجيني من النَّار؟ وَمَا يدخلني الْجنَّة؟ قَالَ: فَنظر إِلَى السَّمَاء، ثمَّ أقبل عَليّ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: لَئِن كنت أوجزت الْمقَالة لقد أعظمت وطولت، فاعقل عَليّ: أعبد الله لَا تشرك بِهِ شَيْئا، وأقم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، وأدِّ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وصم رَمَضَان) . وَزعم الصريفيني أَن اسْم ابْن المنتفق هَذَا: لَقِيط بن صبرَة وَافد بني المنتفق، ثمَّ قَالَ: وَقد يُؤْخَذ من هَذِه الرِّوَايَة أَن السَّائِل فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل فِي حَدِيث أبي أَيُّوب. انْتهى. قلت: قَالَ هَذَا الْقَائِل قبل هَذَا: لَا مَانع من تعدد الْقِصَّة، وَلَا يلْزم من المشابهة بَين سِيَاق الْحَدِيثين أَن يكون فيهمَا السَّائِل وَاحِدًا. قَوْله: (وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (وتصوم رَمَضَان) ، زَاد هَذَا فِي هَذَا الحَدِيث لِأَن الظَّاهِر أَنه قد فرض وَلم يذكر الْحَج لِأَنَّهُ لم يفْرض حِينَئِذٍ، وَلَا الْجِهَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْض على الْأَعْرَاب. قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَ النَّوَوِيّ: وَاعْلَم أَنه لم يَأْتِ فِي هَذَا الْحَج وَلَا جَاءَ ذكره فِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا غير هَذَا من هَذِه الْأَحَادِيث لم يذكر فِي بَعْضهَا الصَّوْم، وَلم يذكر فِي بَعْضهَا الزَّكَاة. وَذكر فِي بَعْضهَا صلَة الرَّحِم، وَفِي بَعْضهَا أَدَاء الْخمس، وَلم يَقع فِي بَعْضهَا ذكر الْإِيمَان فتفاوتت هَذِه الْأَحَادِيث فِي عدد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَة ونقصانا وإثباتا وحذفا، وَقد أجَاب القَاضِي عِيَاض وَغَيره عَنْهَا بِجَوَاب لخصه الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا باخْتلَاف صادر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من تفَاوت الروَاة فِي الْحِفْظ والضبط، فَمنهمْ من قصر فاقتصر على مَا حفظه فأداه وَلم يتَعَرَّض لما زَاد غَيره بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، وَإِن كَانَ اقْتِصَاره على ذَلِك يشْعر بِأَنَّهُ الْكل، فقد بَان بِمَا أَتَى بِهِ غَيره من التَّفَاوُت أَن ذَلِك لَيْسَ بِالْكُلِّ، وَأَن اقْتِصَاره عَلَيْهِ كَانَ لقُصُور حفظه عَن تَمَامه، وَلم ذكر النَّوَوِيّ هَذَا استحسنه، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن رَوَاهُ هَذِه الْأَحَادِيث مُتعَدِّدَة، وكل مَا روى وَاحِد مِنْهُم بِزِيَادَة على مَا رَوَاهُ غَيره أَو بِنَقص لم يكن بتقصير الرَّاوِي، وَإِنَّمَا وَقع ذَلِك بِحَسب اخْتِلَاف الْموقع وَاخْتِلَاف الزَّمَان. قَوْله: (لَا أَزِيد على هَذَا) أَي: عَن الْفَرَائِض أَو أكتفي بِهِ عَن النَّوَافِل، أَو يكون المُرَاد: لَا أَزِيد على مَا سَمِعت مِنْك فِي أدائي لقومي، لِأَنَّهُ كَانَ وافدهم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا أَزِيد فِي الْفَرَائِض وَلَا أنقص كَمَا فعل أهل الْكتاب. قَوْله: (فَلَمَّا ولَّى) أَي: أدبر. قَوْله: (من سره. .) إِلَى آخِره، الظَّاهِر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَنه يُوفي بِمَا الْتزم، وَأَنه يَدُوم على ذَلِك وَيدخل الْجنَّة، فَإِن قيل: المبشرون بِالْجنَّةِ معدودون بِالْعشرَةِ، وَبِهَذَا يُزَاد عَلَيْهِم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص عَلَيْهِ أَنه من أهل الْجنَّة. وَأجِيب: بِأَن التَّنْصِيص على الْعدَد لَا يُنَافِي الزِّيَادَة، وَقد ورد أَيْضا فِي حق كثير مثل ذَلِك، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحسن وَالْحُسَيْن وأزواجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: الْعشْرَة بشروا بِالْجنَّةِ دفْعَة وَاحِدَة فَلَا يُنَافِي المتفرق.
وَفِيه من الْفَوَائِد: جَوَاز قَول: جَاءَ رَمَضَان وَذهب رَمَضَان، خلافًا لمن منع من مثل ذَلِك لزعمه بِأَن رَمَضَان اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن من أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصلى وزكى وَصَامَ وَحج إِن اسْتَطَاعَ دخل الْجنَّة. وَفِيه: سُؤال من لَا يعلم عَمَّن يعلم عَن الْعَمَل الَّذِي يكون سَببا لدُخُول الْجنَّة. وَفِيه: وجوب السُّؤَال عَن أُمُور الدّين. وَفِيه: الْبشَارَة والتبشير لِلْمُؤمنِ الَّذِي يُؤَدِّي الْوَاجِبَات بِدُخُول الْجنَّة.
حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي حَيَّانَ قَالَ أخبرَنِي أبُو زُرْعَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهاذَا
يحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَأَبُو حَيَّان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، كنيته، يحيى بن سعيد بن حَيَّان التَّيْمِيّ الْمَذْكُور آنِفا ذكره ثمَّة باسمه وَهنا بكنيته، وَهَذَا الطَّرِيق مُرْسل لِأَن أَبَا زرْعَة تَابِعِيّ لَا صَحَابِيّ، فَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بطرِيق الْإِرْسَال. وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا فِي هَذِه النّسخ، وَكَذَا ذكره صاحبا (المستخرجين) والْحميدِي فِي (جمعه) وَفِي أصل الْعِزّ الْحَرَّانِي: أَبُو زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَزعم الجياني أَنه وَقع تَخْلِيط وَوهم فِي رِوَايَة أبي أَحْمد، كَانَ عِنْده عَفَّان حَدثنَا وهيب عَن يحيى بن سعيد بن حَيَّان، أَو عَن يحيى بن سعيد عَن أبي حَيَّان عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ خطأ إِنَّمَا(8/242)
الحَدِيث: عَن وهيب عَن أبي حَيَّان عَن يحيى بن سعيد بن حَيَّان عَن أبي زرْعَة، على مَا رَوَاهُ ابْن السكن، وَأَبُو زيد وَسَائِر الروَاة عَن الْفربرِي.
154 - (حَدثنَا حجاج قَالَ حَدثنَا حَمَّاد بن زيد قَالَ حَدثنَا أَبُو جَمْرَة قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول قدم وَفد عبد الْقَيْس على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا يَا رَسُول الله إِن هَذَا الْحَيّ من ربيعَة قد حَالَتْ بَيْننَا وَبَيْنك كفار مُضر ولسنا نخلص إِلَيْك إِلَّا فِي الشَّهْر الْحَرَام فمرنا بِشَيْء نَأْخُذهُ عَنْك وندعو إِلَيْهِ من وَرَائِنَا قَالَ آمركُم بِأَرْبَع وأنهاكم عَن أَربع الْإِيمَان بِاللَّه وَشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَعقد بِيَدِهِ هَكَذَا وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَأَن تُؤَدُّوا خمس مَا غَنِمْتُم وأنهاكم عَن الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمزفت) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وإيتاء الزَّكَاة " وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس وَهَهُنَا عَن حجاج بن الْمنْهَال السّلمِيّ الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ عَن حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم وَفتح الرَّاء الضبعِي واسْمه نصر بن عمرَان بن عَاصِم وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي هُنَاكَ فلنذكر شَيْئا مُخْتَصرا فَقَوله " إِن هَذَا الْحَيّ " ويروى " أَن هَذَا الْحَيّ " وانتصاب هَذَا الْحَيّ على الِاخْتِصَاص أَي أَعنِي هَذَا الْحَيّ فعلى هَذَا الْوَجْه يكون خبر أَن قَوْله " من ربيعَة " وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى " أَنا حَيّ من ربيعَة " والحي اسْم لمنزل الْقَبِيلَة ثمَّ سميت الْقَبِيلَة بِهِ لِأَن بَعضهم يحيى بِبَعْض قَوْله " نخلص " أَي نصل وَالْمرَاد من قَوْلهم شهر الْحَرَام جنس الْأَشْهر الْحرم وَهِي أَرْبَعَة أشهر ذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة ومحرم وَرَجَب قَوْله " عَن الدُّبَّاء " بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء وبالمد وَهُوَ القرع الْيَابِس أَي الْوِعَاء مِنْهُ والحنتم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره مِيم وَهِي الجرار الْخضر والنقير بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَهُوَ جذع ينقر وَسطه
(وَقَالَ سُلَيْمَان وَأَبُو النُّعْمَان عَن حَمَّاد الْإِيمَان بِاللَّه شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله) سُلَيْمَان هُوَ ابْن حَرْب ضد الصُّلْح أَبُو أَيُّوب الْبَصْرِيّ قَاضِي مَكَّة أحد شُيُوخ البُخَارِيّ وَكَذَلِكَ أَبُو النُّعْمَان من مشايخه واسْمه مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي وَكِلَاهُمَا رويا عَن حَمَّاد بن زيد " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " بِدُونِ الْوَاو وَفِي رِوَايَة حجاج عَن حَمَّاد " وَشَهَادَة " بِالْوَاو وَالْوَاو إِمَّا عطف تفسيري للْإيمَان وَإِمَّا أَن الْإِيمَان ذكر تمهيدا للأربعة من الشَّهَادَة لِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل لَهَا سِيمَا والوفد كَانُوا مُؤمنين عِنْد السُّؤَال فابتداء الْأَرْبَعَة من الشَّهَادَة أَو الْإِيمَان وَاحِد وَالشَّهَادَة أحراها وَقَالَ ابْن بطال الْوَاو فِي الرِّوَايَة الأولى كالمقحمة يُقَال فلَان حسن وَجَمِيل أَي حسن جميل أما تَعْلِيق سُلَيْمَان فقد وَصله أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب وَمُحَمّد بن عبيد قَالَا حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي جَمْرَة إِلَى آخِره وَأما تَعْلِيق أبي النُّعْمَان فقد وَصله البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الدّين قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي جَمْرَة الضبعِي قَالَ سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول قدم وَفد عبد الْقَيْس الحَدِيث
6 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع قَالَ أخبرنَا شُعَيْب بن أبي جمزة عَن الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَكفر من كفر من الْعَرَب فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا(8/243)
لَا إِلَه إِلَّا الله فَمن قَالَهَا فقد عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ وحسابه على الله فَقَالَ وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَإِن الزَّكَاة حق المَال وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا (1) كَانُوا يأدونها إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقاتلتهم على منعهَا. قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَن قد شرح الله صدر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَعرفت أَنه الْحق) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَقَالَ وَالله لأقاتلن " إِلَى قَوْله قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم قَالَ الْحميدِي هَذَا الحَدِيث يدْخل فِي مُسْند أبي بكر وَفِي مُسْند عمر أَيْضا بقوله أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " الحَدِيث وَخلف ذكره فِي مسنديهما وَذكره ابْن عَسَاكِر فِي مُسْند عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن يحيى بن بكير وَفِي الِاعْتِصَام عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أَحْمد بن عَمْرو ابْن السَّرْح وَسليمَان بن دَاوُد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْمُحَاربَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي الْجِهَاد عَن كثير بن عبيد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُغيرَة وَعَن كثير بن عبيد وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الْمُحَاربَة أَيْضا عَن زِيَاد بن أَيُّوب. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الِاثْنَيْنِ " لثنتي عشرَة لَيْلَة من ربيع الأول من سنة إِحْدَى عشرَة من الْهِجْرَة وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء وَفِيه أَقْوَال أخر قَوْله " وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَي خَليفَة وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " اسْتخْلف أَبُو بكر بعده " قَوْله " وَكفر من كفر من الْعَرَب " كلمة من الأولى بِفَتْح الْمِيم فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله " وَكفر " وَمن الثَّانِيَة بِكَسْر الْمِيم حرف جر للْبَيَان وَهَؤُلَاء كَانُوا صنفين صنف ارْتَدُّوا عَن الدّين ونابدوا الْملَّة وعادوا إِلَى كفرهم وهم الَّذين عناهم أَبُو هُرَيْرَة بقوله " وَكفر من كفر من الْعَرَب " وَهَذِه الْفرْقَة طَائِفَتَانِ إِحْدَاهمَا أَصْحَاب مُسَيْلمَة من بني حنيفَة وَغَيرهم الَّذين صدقوه على دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّة وَأَصْحَاب الْأسود الْعَنسِي وَمن كَانَ من مستجيبيه من أهل الْيمن وَغَيرهم وَهَذِه الْفرْقَة بأسرها مُنكرَة لنبوة سيدنَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مدعية للنبوة لغيره فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَتَّى قتل الله مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ والعنسي بالصنعاء وَانْقَضَت جموعهم وَهلك أَكْثَرهم والطائفة الثَّانِيَة ارْتَدُّوا عَن الدّين فأنكروا الشَّرَائِع وَتركُوا الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من أُمُور الدّين وعادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة فَلم يكن مَسْجِد لله تَعَالَى فِي بسيط الأَرْض إِلَّا ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِد مَكَّة وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد عبد الْقَيْس فِي الْبَحْرين فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا جواثى والصنف الآخر هم الَّذين فرقوا بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فأقروا بِالصَّلَاةِ وأنكروا فرض الزَّكَاة وَوُجُوب أَدَائِهَا إِلَى الإِمَام وَهَؤُلَاء على الْحَقِيقَة أهل بغي وَإِنَّمَا لم يدعوا بِهَذَا الِاسْم فِي ذَلِك الزَّمَان خُصُوصا لدخولهم فِي غمار أهل الرِّدَّة فأضيف الِاسْم فِي الْجُمْلَة إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَت أعظم الْأَمريْنِ وأهمهما وأرخ قتال أهل الْبَغي فِي زمن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا كَانُوا منفردين فِي زَمَانه لم يختلطوا بِأَهْل الشّرك وَقد كَانَ فِي ضمن هَؤُلَاءِ المانعين لِلزَّكَاةِ من كَانَ يسمع بِالزَّكَاةِ وَلَا يمْنَعهَا إِلَّا أَن رؤساءهم صدوهم عَن ذَلِك وقبضوا على أَيْديهم كبني يَرْبُوع فَإِنَّهُم قد جمعُوا صَدَقَاتهمْ وَأَرَادُوا أَن يبعثوا بهَا إِلَى أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَمَنعهُمْ مَالك بن نُوَيْرَة من ذَلِك وفرقها فيهم وَقَالَ الْوَاقِدِيّ فِي كتاب الرِّدَّة تأليفه لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْتَدَّت الْعَرَب فَارْتَد من جمَاعَة النَّاس أَسد وغَطَفَان إِلَّا بني عبس فَأَما بَنو عَامر فتربصت مَعَ قادتها وَكَانَت فَزَارَة قد ارْتَدَّت وَبَنُو حنيفَة بِالْيَمَامَةِ وارتد أهل الْبَحْرين وَبكر بن وَائِل وَأهل دباء وأزد عمان والنمرين قاسط وكلب وَمن قاربهم من قضاعة وارتدت عَامَّة بني تَمِيم وارتد من بني سليم عصية وعميرة وخفاف وَبَنُو عَوْف بن امْرُؤ الْقَيْس وذكوان(8/244)
وحارثة وَثَبت على الْإِسْلَام أسلم وغفار وجهينة وَمُزَيْنَة وَأَشْجَع وَكَعب بن عَمْرو بن خُزَاعَة وَثَقِيف وهذيل والدئل وكنانة وَأهل السراة وبجيلة وخثعم وطي وَمن قَارب تهَامَة من هوَازن وجشم وَسعد بن بكر وَعبد الْقَيْس وتجيب ومدحج إِلَّا بَنو زيد وهمدان وَأهل صنعاء وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وحَدثني مُحَمَّد بن معِين بن عبد الله المجمر عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ لم يرجع رجل من دوس وَلَا من أهل السراة كلهَا قَالَ وحَدثني عبد الْمجِيد بن جَعْفَر عَن يزِيد بن أبي حَكِيم قَالَ سَمِعت أَبَا مَرْوَان التجِيبِي قَالَ لم يرجع رجل وَاحِد من تجيب وَلَا من هَمدَان وَلَا من الْأَبْنَاء بِصَنْعَاء وَفِي أَخْبَار الرِّدَّة لمُوسَى بن عقبَة لما توفّي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَعَ عَامَّة الْعَرَب عَن دينهم أهل الْيمن وَعَامة أهل الْمشرق وغَطَفَان وَبَنُو أَسد وَبَنُو عَامر وَأَشْجَع ومسكت طَيء بِالْإِسْلَامِ وَفِي كتاب الرِّدَّة لسيف عَن فَيْرُوز الديلمي أول ردة كَانَت فِي الْإِسْلَام ردة كَانَت بِالْيمن على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على يَد ذِي الْخمار عبهلة بن كَعْب وَهُوَ الْأسود الْعَنسِي " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " قَالَ الطَّيِّبِيّ قَالَ أَكثر الشَّارِحين أَرَادَ بِالنَّاسِ عَبدة الْأَوْثَان بِدُونِ أهل الْكتاب لأَنهم يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ لَا يرفع عَنْهُم السَّيْف حَتَّى يقرُّوا بنبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو يُعْطوا الْجِزْيَة ثمَّ قَالَ أَقُول تَحْرِير ذَلِك أَن حَتَّى للغاية يَعْنِي فِي قَوْله " حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله " وَقد جعل رَسُول الله غَايَة الْمُقَابلَة القَوْل بِالشَّهَادَتَيْنِ وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة ورتب على ذَلِك الْعِصْمَة وَأهل الْكتاب إِذا أعْطوا الْجِزْيَة سقط عَنْهُم الْقِتَال وَثَبت لَهُم الْعِصْمَة فَيكون ذَلِك نفيا للمطلق فَالْمُرَاد بِالنَّاسِ إِذا عَبدة الْأَوْثَان وَالَّذِي يذاق من لفظ النَّاس الْعُمُوم والاستغراق ثمَّ اعْلَم أَنه عرض الْخلاف فِي هَؤُلَاءِ وَوَقعت الشُّبْهَة لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فراجع إِلَى أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وناظره وَاحْتج عَلَيْهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أمرت أَن أقَاتل النَّاس " الحَدِيث وَهَذَا من عمر كَانَ تعلقا بِظَاهِر الْكَلَام قبل أَن ينظر فِي آخِره ويتأمل شَرَائِطه فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر إِن الزَّكَاة حق المَال يُرِيد أَن الْقَضِيَّة قد تَضَمَّنت عصمَة دم وَمَال معلقَة بإيفاء شرائطها وَالْحكم الْمُعَلق بِشَرْطَيْنِ لَا يحصل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخر مَعْدُوم ثمَّ قايسه بِالصَّلَاةِ ورد الزَّكَاة إِلَيْهَا فَقَالَ فِي ذَلِك من قَوْله دَلِيل على أَن قتال الْمُمْتَنع من الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا من رَأْي الصَّحَابَة وَلذَلِك رد الْمُخْتَلف فِيهِ إِلَى الْمُتَّفق عَلَيْهِ فَاجْتمع فِي هَذِه الْقَضِيَّة الِاحْتِجَاج من عمر بِالْعُمُومِ وَمن أبي بكر بِالْقِيَاسِ فَدلَّ ذَلِك على أَن الْعُمُوم يخص بِالْقِيَاسِ وَأَيْضًا فقد صَحَّ عَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة " الحَدِيث فَلَو كَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ذَاكِرًا لهَذَا الحَدِيث لما اعْترض على الصّديق وَلَو كَانَ الصّديق ذَاكِرًا لَهُ لأجاب بِهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلم يحْتَج إِلَى غَيره وَهَذَا يدل على أَنه يُوجد عِنْد بعض أَصْحَاب الْعَالم مَا لَا يُوجد عِنْد خواصه وبطانته قَوْله " أمرت " على صِيغَة الْمَجْهُول إِذا قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرت فهم مِنْهُ أَن الله تَعَالَى أمره فَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ أمرت فهم أَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره فَإِن من اشْتهر بِطَاعَة رَئِيس إِذا قَالَ ذَلِك فهم مِنْهُ أَن الرئيس أمره قَوْله " وعصم مني مَاله وَنَفسه " قَالَ القَاضِي عِيَاض اخْتِصَاص عصمَة المَال وَالنَّفس بِمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله تَعْبِير عَن الْإِجَابَة إِلَى الْإِيمَان وَأَن المُرَاد بِهَذَا مشركو الْعَرَب وَأهل الْأَوْثَان وَمن لَا يوحدوه كَانُوا أول من دعِي إِلَى الْإِسْلَام وقوتل عَلَيْهِ فَأَما غَيرهم مِمَّن يقر بِالتَّوْحِيدِ فَلَا يَكْتَفِي فِي عصمته بقوله لَا إِلَه إِلَّا الله إِذْ كَانَ يَقُولهَا فِي كفره وَهِي من اعْتِقَاده فَلذَلِك جَاءَ فِي الحَدِيث الآخر " وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة " وَقَالَ النَّوَوِيّ وَلَا بُد مَعَ هَذَا الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لأبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويؤمنوا بِي وَبِمَا جِئْت بِهِ " قَوْله " إِلَّا بِحقِّهِ " أَي بِحَق الْإِسْلَام وَهُوَ اسْتثِْنَاء من أَعم تَمام الْجَار وَالْمَجْرُور وَمعنى الحَدِيث أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِذا شهدُوا عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ وَلَا يجوز إهدار دِمَائِهِمْ واستباحة أَمْوَالهم بِسَبَب من الْأَسْبَاب إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام من قتل النَّفس الْمُحرمَة وَترك الصَّلَاة وَمنع الزَّكَاة بِتَأْوِيل بَاطِل وَغير ذَلِك قَوْله " وحسابه على الله " وَفِي رِوَايَة غَيره " وحسابهم على الله " أَي فِيمَا يسرون بِهِ من الْكفْر والمعاصي وَالْمعْنَى أَنا نحكم عَلَيْهِم بِالْإِيمَان ونؤاخذهم بِحُقُوق الْإِسْلَام بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر حَالهم وَالله تَعَالَى يتَوَلَّى حسابهم فيثيب المخلص ويعاقب الْمُنَافِق قَوْله " فَقَالَ وَالله " أَي فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " من فرق " رُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد وَمَعْنَاهُ(8/245)
من أطَاع فِي الصَّلَاة وَجحد الزَّكَاة أَو منعهَا وَإِنَّمَا خص الصَّلَاة وَالزَّكَاة بِالذكر والمقاتلة عَلَيْهِمَا بِحَق الْإِسْلَام لِأَنَّهُمَا إِمَّا الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة والمالية والمعيار على غَيرهمَا والعنوان لَهُ وَلذَلِك سمى الصَّلَاة عماد الدّين وَالزَّكَاة قنطرة الْإِسْلَام وَأكْثر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ذكرهمَا متقارنتين فِي الْقُرْآن قَوْله " عنَاقًا " بِفَتْح الْعين وَالنُّون الْأُنْثَى من أَولا الْمعز وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد وَالْبُخَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فِي رِوَايَة " عقَالًا " وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا قَدِيما وحديثا فَذهب جمَاعَة مِنْهُم إِلَى أَن المُرَاد بالعقال زَكَاة عَام وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة بذلك وَهَذَا قَول الْكسَائي وَالنضْر بن شُمَيْل وَأبي عبيد والمبرد وَغَيرهم من أهل اللُّغَة وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقول عَمْرو بن الْعَلَاء
(سعى عقَالًا فَلم يتْرك لنا سبدا ... فَكيف لَو قد سعى عَمْرو عِقَالَيْنِ)
أَرَادَ مُدَّة عقال فنصبه على الظَّرْفِيَّة وَعَمْرو هَذَا هُوَ عَمْرو بن عتبَة بن أبي سُفْيَان السَّاعِي ولاه عَمه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان صدقَات كلب فَقَالَ فِيهِ قَائِلهمْ ذَلِك قَالُوا وَلِأَن العقال الَّذِي هُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير لَا يجب دَفعه فِي الزَّكَاة فَلَا يجوز الْقِتَال عَلَيْهِ فَلَا يَصح حمل الحَدِيث عَلَيْهِ وَذهب كَثِيرُونَ من الْمُحَقِّقين إِلَى أَن المُرَاد بالعقال الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير وَهَذَا القَوْل محكي عَن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهمَا وَهُوَ مَأْخُوذ مَعَ الْفَرِيضَة لِأَن على صَاحبهَا التَّسْلِيم وَإِنَّمَا يَقع قبضهَا برباطها وَقيل معنى وجوب الزَّكَاة فِيهِ إِذا كَانَ من عرُوض التِّجَارَة فَبلغ مَعَ غَيره فِيهَا قيمَة نِصَاب وَقيل أَرَادَ بِهِ الشَّيْء التافه الحقير فَضرب العقال مثلا لَهُ وَقيل كَانَ من عَادَة الْمُصدق إِذا أَخذ الصَّدَقَة أَن يعمد إِلَى قرن بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يقرن بِهِ بَين بَعِيرَيْنِ لِئَلَّا تشرد الْإِبِل فيسمى عِنْد ذَلِك الْقرَان فَكل قرنين مِنْهَا عقال وَفِي الْمُحكم والعقال القلوص الْفتية وروى ابْن الْقَاسِم وَابْن وهب عَن مَالك العقال القلوص وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل إِذا بلغت الْإِبِل خمْسا وَعشْرين وَجَبت فِيهَا بنت مَخَاض من جنس الْإِبِل فَهُوَ العقال وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير كل مَا أَخذ من الْأَمْوَال والأصناف فِي الصَّدَقَة من الْإِبِل وَالْغنم وَالثِّمَار من الْعشْر وَنصف الْعشْر فَهَذَا كُله فِي صنفه عقال لِأَن الْمُؤَدِّي عقل بِهِ عَنهُ طلبة السُّلْطَان وعقل عَنهُ الْإِثْم الَّذِي يَطْلُبهُ الله تَعَالَى بِهِ قَوْله " فَمَا رَأَيْت إِلَّا أَن قد شرح الله صدر أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَي فتح ووسع وَلما اسْتَقر عِنْده صِحَة رَأْي أبي بكر وَبَان لَهُ صَوَابه تَابعه على الْقِتَال وَقَالَ عرفت أَنه الْحق حَيْثُ انْشَرَحَ صَدره أَيْضا بِالدَّلِيلِ الَّذِي أَقَامَهُ الصّديق نصا وَدلَالَة وَقِيَاسًا فَلَا يُقَال لَهُ أَنه قلد أَبَا بكر لِأَن الْمُجْتَهد لَا يجوز لَهُ أَن يُقَلّد الْمُجْتَهد قَوْله " فَعرفت أَنه الْحق " أَي بِمَا أظهر من الدَّلِيل وَإِقَامَة الْحجَّة فِيهِ دلَالَة على أَن عمر لم يرجع إِلَى قَول أبي بكر تَقْلِيد (فَإِن قلت) مَا النَّص الَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ أَبُو بكر وَعمل بِهِ (قلت) روى الْحَاكِم فِي الإكليل من حَدِيث فَاطِمَة بنت خشاف السلمِيَّة عَن عبد الرَّحْمَن الظفري قَالَ بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى رجل من أَشْجَع لتؤخذ صدقته فَرده فَرجع فَأخْبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ ارْجع فَأخْبرهُ أَنَّك رَسُول رَسُول الله فجَاء إِلَى الْأَشْجَعِيّ فَرده فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اذْهَبْ إِلَيْهِ الثَّالِثَة فَإِن لم يُعْط صدقته فَاضْرب عُنُقه قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْعَزِيز أحد رُوَاة الحَدِيث قلت لحكيم وَهُوَ حَكِيم بن عباد بن حنيف أحد رُوَاة الحَدِيث مَا أرى أَبَا بكر لم يقاتلهم متأولا إِنَّمَا قَاتلهم بِالنَّصِّ (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ فَضِيلَة أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه جَوَاز الْقيَاس وَالْعَمَل بِهِ. وَفِيه جَوَاز الْحلف وَإِن كَانَ فِي غير مجْلِس الحكم. وَفِيه اجْتِهَاد الْأَئِمَّة فِي النَّوَازِل. وَفِيه مناظرة أهل الْعلم وَالرُّجُوع إِلَى قَول صَاحبه إِذا كَانَ هُوَ الْحق وَقَالَ الْكرْمَانِي فِيهِ وجوب الصَّدَقَة فِي السخال والفصلان والعجاجيل وَإِنَّهَا تجزيء إِذا كَانَت كلهَا صغَارًا وَقَالَ النَّوَوِيّ رِوَايَة العناق مَحْمُولَة على مَا إِذا كَانَت الْغنم صغَارًا كلهَا بِأَن مَاتَت أمهاتها فِي بعض الْحول فَإِذا حَال حول الْأُمَّهَات زكى السخال الصغار بحول الْأُمَّهَات سَوَاء بَقِي من الْأُمَّهَات شَيْء أم لَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْأنمَاطِي من أَصْحَابنَا لَا تزكّى الْأَوْلَاد بحول الْأُمَّهَات إِلَّا أَن يبْقى من الْأُمَّهَات نِصَاب وَقَالَ أَصْحَابنَا إِلَّا أَن يبْقى من الْأُمَّهَات شَيْء وَيتَصَوَّر ذَلِك أَيْضا فِيمَا إِذا مَاتَ مُعظم الْكِبَار وَحدثت صغَار فحال حول الْكِبَار على بقيتها وعَلى الصغار (قلت) قَوْله هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَهُوَ قَول أبي يُوسُف أَيْضا من أَصْحَابنَا وَعند أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى لَا تجب الزَّكَاة فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة وَحمل الحَدِيث على صِيغَة الْمُبَالغَة أَو على الْفَرْض وَالتَّقْدِير. وَفِيه أَن من أظهر الْإِسْلَام وَأسر الْكفْر يقبل إِسْلَامه فِي الظَّاهِر(8/246)
وَهَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء وَذهب مَالك إِلَى أَن تَوْبَة الزنديق لَا تقبل ويحكى ذَلِك أَيْضا عَن أَحْمد وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي قبُول تَوْبَة الزنديق وَهُوَ الَّذِي يُنكر الشَّرْع جملَة فَذكرُوا فِيهِ خَمْسَة أوجه لِأَصْحَابِنَا أَصَحهَا والأصوب مِنْهَا قبُولهَا مُطلقًا للأحاديث الصَّحِيحَة الْمُطلقَة. وَالثَّانِي لَا تقبل ويتحتم قَتله لكنه إِن صدق فِيهِ تَوْبَته نَفعه ذَلِك فِي الدَّال الْآخِرَة وَكَانَ من أهل الْجنَّة. وَالثَّالِث أَنه إِن تَابَ مرّة وَاحِدَة قبلت تَوْبَته فَإِن تكَرر ذَلِك مِنْهُ لم تقبل. وَالرَّابِع إِن أسلم ابْتِدَاء من غير طلب قبل مِنْهُ وَإِن كَانَ تَحت السَّيْف فَلَا تقبل. وَالْخَامِس إِن كَانَ دَاعيا إِلَى الضلال لم تقبل مِنْهُ وَإِلَّا قبل مِنْهُ (قلت) تقبل تَوْبَة الزنديق عندنَا وَعَن أبي حنيفَة إِذا أُوتيت بزنديق استتبه فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَفِي رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا لَا تقبل تَوْبَته. وَفِيه أَن الرِّدَّة لَا تسْقط الزَّكَاة عَن الْمُرْتَد إِذا وَجَبت فِي مَاله قَالَه فِي التَّوْضِيح (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَنه رُوِيَ فِي حَدِيث أبي بكر الْمَذْكُورَة " وتقيم الصَّلَاة وتؤتوا الزَّكَاة " وَأجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذكره بعد ذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون سَمعه من ابْن عمر أَو غَيره فَأرْسلهُ. وَمِنْهَا مَا قيل لَو كَانَ مُنكر الزَّكَاة بَاغِيا لَا كَافِرًا لَكَانَ فِي زَمَاننَا أَيْضا كَذَلِك لكنه كَافِر بِالْإِجْمَاع وَأجِيب بِالْفرقِ وَهُوَ أَنهم عذروا فِيمَا جرى مِنْهُم لقرب الْعَهْد بِزَمَان الشَّرِيعَة الَّذِي كَانَ يَقع فِيهِ تَبْدِيل الْأَحْكَام ولوقوع الفترة بِمَوْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ الْقَوْم جُهَّالًا بِأُمُور الدّين قد أضلتهم الشُّبْهَة أما الْيَوْم فقد شاع أَمر الدّين واستفاض الْعلم بِوُجُوب الزَّكَاة حَتَّى عرفه الْخَاص وَالْعَام فَلَا يعْذر أحد بتأويله وَكَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الصَّلَوَات الْخمس وَنَحْوهَا. وَمِنْهَا مَا قيل بِأَن هَذَا الحَدِيث مُشكل لِأَن أول الْقِصَّة دلّ على كفرهم والتفريق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة يُوجب أَن يَكُونُوا ثابتين على الدّين مقيمين للصَّلَاة وَأجِيب بِأَن الْمُخَالفين كَانُوا صنفين صنف ارْتَدُّوا كأصحاب مُسَيْلمَة وهم الَّذين عناهم بقوله " كفر من كفر " وصنف أقرُّوا بالصلوات وأنكروا الزَّكَاة وَهَؤُلَاء على الْحَقِيقَة أهل الْبَغي وَإِنَّمَا لم يدعوا بِهَذَا الِاسْم خُصُوصا بل أضيف الِاسْم على الِاسْم إِلَى الرِّدَّة إِذْ كَانَت أعظم خطأ وَصَارَ مبدأ قتال أهل الْبَغي مؤرخا بأيام عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذْ كَانُوا منفردين فِي عصره لم يختلطوا بِأَهْل الشّرك على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل أَنهم كَانُوا مؤولين فِي منع الزَّكَاة محتجين بقوله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم} فَإِن التَّطْهِير وَنَحْوه مَعْدُوم فِي غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَذَا صَلَاة غَيره لَيست سكنا وَمثل هَذِه الشُّبْهَة توجب الْعذر لَهُم وَالْوُقُوف عَن قِتَالهمْ وَأجِيب بِأَن الْخطاب فِي كتاب الله تَعَالَى على ثَلَاثَة أَقسَام خطاب عَام كَقَوْلِه تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} وخاص بالرسول فِي قَوْله {فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} حَيْثُ قطع التَّشْرِيك بقوله نَافِلَة لَك وخطاب مُوَاجهَة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ وَجَمِيع أمته فِي المُرَاد مِنْهُ سَوَاء كَقَوْلِه {أقِم الصَّلَاة} فعلى الْقَائِم بعده بِأَمْر الْأَمر أَن يحتذي حذوه فِي أَخذهَا مِنْهُ وَأما التَّطْهِير والتزكية وَالدُّعَاء من الإِمَام لصَاحِبهَا فَإِن الْفَاعِل فِيهَا قد ينَال ذَلِك كُله بِطَاعَة الله تَعَالَى وَرَسُوله فِيهَا وكل ثَوَاب مَوْعُود على عمل كَانَ فِي زَمَنه فَإِنَّهُ بَاقٍ غير مُنْقَطع وَيسْتَحب للْإِمَام أَن يَدْعُو للمتصدق ويرجى أَن يستجيب الله ذَلِك وَلَا يخيب مَسْأَلته -
2 - (بابُ البَيْعَةِ عَلَى إيتَاءِ الزَّكَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبيعَة على إِعْطَاء الزَّكَاة، والبيعة بِفَتْح الْبَاء مثل: البيع، سميت بذلك تَشْبِيها بالمعاملة فِي مجْلِس، وَمِنْه: الْمُبَايعَة، وَهِي عبارَة عَن المعاقدة، والمعاهدة، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره.
فإنْ تَابُوا وَأقَامُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تَأْكِيدًا لحكم التَّرْجَمَة، لِأَن معنى الْآيَة أَنه: لَا يدْخل فِي التَّوْبَة من الْكفْر وَلَا ينَال أخوة الْمُؤمنِينَ فِي الدّين إلاَّ من أَقَامَ الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة، وَأَن بيعَة الْإِسْلَام لَا تتمّ إلاَّ بِالْتِزَام أَدَاء الزَّكَاة، وَأَن مانعها نَاقص لعهده مُبْطل لبيعته، وكل مَا تضمنته بيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ وَاجِب.(8/247)
1041 - حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ قَيْسٍ قَالَ قَالَ جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بايَعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إقَامِ الصَّلاَةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكلِّ مُسْلِمٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وإيتاء الزَّكَاة) ، وَقد مضى الحَدِيث فِي آخر كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدّين النَّصِيحَة لله وَرَسُوله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس عَن جرير، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تقدم فِي: بَاب مَا ينْهَى من الْكَلَام، وَهُوَ يحدث وَحده عَن أَبِيه عبد الله بن نمير، وَقد مر هُوَ فِي: بَاب إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، وَهُوَ يروي عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ مَوْلَاهُم الْكُوفِي، وَاسم أبي خَالِد: سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَهُوَ يروي عَن قيس ابْن أبي حَازِم واسْمه عَوْف أَبُو عبد الله الأحمسي البَجلِيّ، قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ عَمْرو بن عَليّ: مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، وَقد مضى هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ.
3 - (بابُ إثْمِ مانِعِ الزَّكَاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من منع زَكَاته، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الصَّغِير) من رِوَايَة سعد بن سِنَان عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَانع الزَّكَاة يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار) ، وَسعد ضعفه النَّسَائِيّ، وَعَن أَحْمد أَنه ثِقَة، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْحَارِث الْأَعْوَر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لعن آكل الرِّبَا وموكله وكاتبه ومانع الصَّدَقَة) .
وَقَوْلُ الله تعَالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التَّوْبَة: 43، 53) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان قَول الله، عز وَجل، والمطابقة بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة أَن الْآيَة أَيْضا فِي بَيَان إِثْم مَانع الزَّكَاة، نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَامَّة أهل الْكتاب وَالْمُسْلِمين، وَقيل: بل خَاصَّة بِأَهْل الْكتاب، وَقيل: بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف فِي حق من لَا يُزكي من هَذِه الْأمة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ، وَأكْثر الْمُفَسّرين، وَسَيَجِيءُ فِي تَفْسِير هَذِه عَن البُخَارِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا جرير عَن حُصَيْن عَن زيد بن وهب، قَالَ: مَرَرْت على أبي ذَر بالربذة فَقلت: مَا أنزلك هَذِه الأَرْض؟ فَقَالَ: كُنَّا بِالشَّام فَقَرَأت: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا هَذَا فِينَا، مَا هَذَا إلاَّ فِي أهل الْكتاب. قَالَ: قلت: إِنَّهَا لفينا وَفِيهِمْ، وَرَوَاهُ ابْن جرير، وَزَاد، فارتفع فِي ذَلِك القَوْل بيني وَبَينه، فَكتب إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يشكوني، فَكتب إِلَيّ عُثْمَان: أَن أقبل إِلَيْهِ. قَالَ: فَأَقْبَلت، فَلَمَّا قدمت الْمَدِينَة ركبني النَّاس كَأَنَّهُمْ لم يروني يَوْمئِذٍ، فشكوت ذَلِك إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ لي: تَنَح قَرِيبا. فَقلت: وَالله لن أدع مَا كنت أَقُول. وَكَانَ من مَذْهَب أبي ذَر تَحْرِيم إدخار مَا زَاد على نَفَقَة الْعِيَال، وَكَانَ يُفْتِي النَّاس بذلك ويحثهم عَلَيْهِ وَيَأْمُرهُمْ بِهِ ويغلظ فِي خِلَافه، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم ينْتَه فخشي أَن يضرّهُ النَّاس فِي هَذَا، فَكتب يشكوه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان، وَأَن يأخذوه إِلَيْهِ، فاستقدمه عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْمَدِينَة وأنزله بالربذة وَحده، وَبهَا مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: {وَالَّذين يكنزون} (التَّوْبَة: 43) . قَالَ ابْن سَيّده: الْكَنْز اسْم لِلْمَالِ، وَلما يحرز فِيهِ، وَجمعه: كنوز، كنزه يكنزه كنزا واكتنزه، وكنز الشَّيْء فِي الْوِعَاء أَو الأَرْض يكنزه كنزا: غمزه فِي يَده. وَفِي (المغيث) : الْكَنْز اسْم لِلْمَالِ المدفون. وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يدرى من كنزه، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ كل شَيْء مَجْمُوع بعضه إِلَى بعض فِي بطن الأَرْض كَانَ أَو ظهرهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَصله الضَّم وَالْجمع وَلَا يخْتَص ذَلِك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، أَلا يرى إِلَى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا أخْبركُم بِخَير مَا يكنزه الْمَرْء؟ الْمَرْأَة الصَّالِحَة) . أَي: يضمه لنَفسِهِ ويجمعه، وَاعْلَم أَن الْكَنْز(8/248)
الْمُسْتَحق عَلَيْهِ الْوَعيد كل مَال لم تُؤَد زَكَاته، وكل مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ تَحت سبع أَرضين رَوَاهُ نَافِع عَن ابْن عمر، وروى نَحوه عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا، وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَي مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ مَدْفُونا فِي الأَرْض، وَأي مَال لم تُؤَد زَكَاته فَهُوَ كنز يكوي بِهِ صَاحبه وَإِن كَانَ على وَجه الأَرْض. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن أبي حُصَيْن عَن أبي الضُّحَى عَن جعدة بن هُبَيْرَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف فَمَا دونهَا نَفَقَة فَمَا كَانَ أَكثر من ذَلِك فَهُوَ كنز، وَهَذَا غَرِيب. وَقيل: هُوَ مَا فضل من المَال عَن حَاجَة صَاحبه إِلَيْهِ. قَوْله: (الذَّهَب وَالْفِضَّة) سمي الذَّهَب ذَهَبا لِأَنَّهُ يذهب وَلَا يبْقى، وَسميت الْفضة فضَّة لِأَنَّهَا تنفض أَي تَنْصَرِف، وحسبك دلَالَة على فنائهما. قَوْله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} (التَّوْبَة: 43) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِن قلت: لِمَ قيل: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، وَقد ذكر شَيْئَانِ؟ قلت: ذَهَابًا بالضمير إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا جملَة وافية، وعدة كَثِيرَة ودنانير ودراهم. وَقيل: ذهب بِهِ إِلَى الْكُنُوز، وَقيل: إِلَى الْأَمْوَال، وَقيل: مَعْنَاهُ وَلَا يُنْفِقُونَهَا وَالذَّهَب. فَإِن قلت: لم خصا بِالذكر من بَين سَائِر الْأَمْوَال؟ قلت: لِأَنَّهُمَا قانون التمول وأثمان الْأَشْيَاء وَلَا يكنزهما إلاَّ من فضلا عَن حَاجته. قَوْله: {يَوْم يحمى عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 53) . أَي: أذكر وَقت تدخل النَّار فيوقد عَلَيْهَا يَعْنِي أَن النَّار تحمى عَلَيْهَا فَلَمَّا حذفت النَّار قيل يحمى لانتقال اسناد الْفِعْل إِلَى عَلَيْهَا قَوْله: (فتكوى بهَا) الكي: إلصاق الْحَار من الْحَدِيد أَو النَّار بالعضو حَتَّى يَحْتَرِق الْجلد. قَوْله: (جباههم) جمع جبهة، وَهِي مَا بَين الحاجبين إِلَى الناصية، والجنوب جمع جنب، والظهور جمع ظهر، خصت هَذِه الْمَوَاضِع دون غَيرهَا من الْبدن لِأَنَّهَا مجوفة يصل الْحر إِلَيْهَا بِسُرْعَة، وَيُقَال لِأَن الْغَنِيّ إِذا أقبل عَلَيْهِ الْفَقِير قبض جَبهته وزوى مَا بَين عَيْنَيْهِ وطوى كشحه، وَلِأَن الكي فِي الْوَجْه أبشع وَأشهر، وَفِي الظّهْر وَالْجنب آلم وأوجع، وَقيل: إِنَّمَا خص هَذِه الْمَوَاضِع ليَقَع ذَلِك على الْجِهَات الْأَرْبَع، وَيُقَال: إِذا جَاءَ الْفَقِير إِلَى الْغَنِيّ يواجهه بِوَجْهِهِ فيولي عَنهُ وَجهه ويلتفت إِلَى جنبه، ثمَّ يَدُور الْفَقِير فَيَجِيء إِلَى نَاحيَة حنبه ويلتفت الْغَنِيّ ويولي إِلَى ظَهره، فيجازى على هَذَا الْوَجْه، وَذكر مكي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وعراك بن مَالك أَن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَفِي الاستذكار روى الثَّوْريّ عَن ابْن انْعمْ عَن عمَارَة بن رَاشد قَرَأَ عمر رَضِي الله عَنهُ {وَالَّذين يكنزون} (التَّوْبَة: 301) . فَقَالَ مَا أَرَاهَا إلاَّ مَنْسُوخَة بقوله: {خُذ من أَمْوَالهم} (التَّوْبَة: 301) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا حميد بن مَالك حَدثنَا يحيى بن يعلى الْمحَاربي حَدثنَا أبي حَدثنَا غيلَان بن جَامع الْمحَاربي عَن عُثْمَان بن أبي الْيَقظَان عَن جَعْفَر بن أياس عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة. .} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، كبر ذَلِك على الْمُسلمين، وَقَالُوا: مَا يَسْتَطِيع أحد منا لوَلَده مَالا يبْقى بعده، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنا أفرج عَنْكُم، فَانْطَلق عمر وَاتبعهُ ثَوْبَان، فَأتى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا نَبِي الله إِنَّه قد كبر على أَصْحَابك هَذِه الْآيَة، فَقَالَ نَبِي الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله لم يفْرض الزَّكَاة إلاَّ ليطيب بهَا مَا بَقِي من أَمْوَالكُم، وَإِنَّمَا فرض الْمَوَارِيث من أَمْوَال تبقى بعدكم، قَالَ: فَكبر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخْبرك بِخَير مَا يكنز الْمَرْء: الْمَرْأَة الصَّالِحَة الَّتِي إِذا نظر إِلَيْهِ سرت، وَإِذا أمرهَا أَطَاعَته، وَإِذا غَابَ عَنْهَا حفظته) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث يعلى بن يعلى بِهِ، وَأخرجه الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْحصار فِي كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) : أَرَادَ من قَالَ بالنسخ أَن جمع المَال كَانَ محرما فِي أول الْإِسْلَام، فَلَمَّا فرضت الزَّكَاة جَازَ جمعه، وَاسْتدلَّ أَبُو بكر الرَّازِيّ من هَذِه الْآيَة على إِيجَاب الزَّكَاة فِي سَائِر الذَّهَب وَالْفِضَّة مصوغا أَو مَضْرُوبا أَو تبرا أَو غير ذَلِك، لعُمُوم اللَّفْظ. قَالَ: وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا على ضم الذَّهَب إِلَى الْفضة لإيجابه الْحق فيهمَا مجموعين، فَيدْخل تَحْتَهُ الْحلِيّ أَيْضا، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا. قَالَ أَبُو حنيفَة: بِضَم الْقيمَة كالعروض، وَعِنْدَهُمَا بالأجزاء.
2041 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نَافِعٍ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنَادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ هُرْمُزَ الأعْرَجَ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأتِي الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا(8/249)
عَلَى خَيْرِ مَا كانَتْ إذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأخْفَافِهَا وَتَأْتِي الغَنَمُ عَلَى صاحِبِهَا عَلى خَيْرِ مَا كانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأظْلاَفِهَا وتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا قَالَ ومِنْ حَقِّهَا أنْ تُحْلَبَ عَلَى المَاءِ قَالَ وَلاَ يَأْتِي أحَدُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ فَيقُولُ يَا مُحَمَّدُ فأقُولُ لاَ أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ بَلَّغْتُ وَلاَ يَأتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فأقُولُ لاَ أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ بَلَّغْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يخبر عَن مَانع الزَّكَاة مَا يعذب بِهِ، وَلَا يعذب أحد إلاَّ على ترك فرض من الْفَرَائِض، وَلَو لم يكن فِي مَنعه الزَّكَاة آثِما لما اسْتوْجبَ هَذِه الْعقُوبَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: ابْن نَافِع أَبُو الْيَمَان البهراني الْحِمصِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. الثَّالِث: أَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: واسْمه عبد الله بن ذكْوَان. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد على صِيغَة الْمَاضِي، وَفِي مَوضِع على صِيغَة الْمُسْتَقْبل. وَفِيه: أَن نصف السَّنَد حمصي وَنصفه مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن سُوَيْد بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا حَفْص بن ميسرَة الصَّنْعَانِيّ عَن زيد بن أسلم أَن أَبَا صَالح ذكْوَان أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من صَاحب ذهب وَلَا فضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صفحت لَهُ صَفَائِح من نَار فأحمى عَلَيْهَا فيكوى بهَا جنبه وجبينه، وظهره كلما بردت أُعِيدَت لَهُ فِي يَوْم كَانَ مقدراه خمسين ألف سنة حَتَّى يقْضى بَين الْعباد، فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. قيل: يَا رَسُول الله فالإبل؟ قَالَ: وَلَا صَاحب إبل لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا، وَمن حَقّهَا حلبها يَوْم وُرُودهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نطح بهَا بقاع قرقر أوفر مَا كَانَت لَا يفقد مِنْهَا فصيلاً وَاحِدًا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عَلَيْهِ أولاها رد عَلَيْهِ أخراها فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة، حَتَّى يقْضى بَين الْعباد فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. قيل: يَا رَسُول الله، فالبقر وَالْغنم؟ قَالَ: وَلَا صَاحب بقر وَلَا غنم لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إلاَّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نطح بهَا بقاع قرقر لَا يفقد مِنْهَا شَيْئا لَيْسَ فِيهَا عقصاء وَلَا جلحاء وَلَا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عَلَيْهِ أولاها رد عَلَيْهِ أخراها فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة حَتَّى يقْضِي بَين الْعباد فَيرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار. .) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد رَحمَه الله تَعَالَى، مُخْتَصرا، وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي الْبَاب عَن جَابر أَيْضا أخرجه مُسلم مُنْفَردا من رِوَايَة أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: إِنَّه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (مَا من صَاحب إبل لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تستن عَلَيْهِ بقوائمها وأخفافها، وَلَا صَاحب بقر لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، وَلَا صَاحب غنم لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أَكثر مَا كَانَت وَقعد لَهَا بقاع قرقر تنطحه وتطؤه بأظلافها لَيْسَ فِيهَا جماء وَلَا منكسر قرنها. .) الحَدِيث، وَعَن عبد الله بن الزبير أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من صَاحب إبل إلاَّ يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع تطؤه بأخفافها وَيُؤْتى بِصَاحِب الْبَقر إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، وَيُؤْتى بِصَاحِب الْغنم إِذا لم يكن يُؤَدِّي حَقّهَا فتمشي عَلَيْهِ بقاع فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها لَيْسَ فِيهَا جماء وَلَا مَكْسُورَة الْقرن، وَيُؤْتى بِصَاحِب الْكَنْز فيمثل لَهُ شُجَاع أَقرع فَلَا يجد شَيْئا فَيدْخل يَده فِي فِيهِ) . وَفِي إِسْنَاده أَبُو حُذَيْفَة، فَإِن كَانَ هُوَ صَاحب كتاب الْمُنْتَقى فَهُوَ مَتْرُوك، واسْمه إِسْحَاق بن بشير. قَوْله: (تَأتي الْإِبِل) الْإِبِل اسْم الْجمع وَهُوَ مؤنث(8/250)
وَكَذَلِكَ الْغنم، قَوْله: (على صَاحبهَا) قَالَ بِلَفْظ: على، بَيَانا لاستعلائها وتسلطها عَلَيْهِ. قَوْله: (على خير مَا كَانَت) ، يَعْنِي: فِي الْقُوَّة وَالسمن ليَكُون أَشد لفعلها، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي ذَر: (إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أعظم مَا كاكنت وأسمنه) ، أَي: أعظم مَا كَانَت عِنْد الَّذِي منع زَكَاتهَا، لِأَنَّهَا قد تكون عِنْده على حالات مرّة هزيلة وَمرَّة سَمِينَة وَمرَّة صَغِيرَة وَمرَّة كَبِيرَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا تَأتي على أعظم أحوالها عِنْد صَاحبهَا، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إلاَّ جَاءَت يَوْم الْقِيَامَة أوفر مَا كَانَت) ، أَي: أحسن مَا كَانَت من السّمن وَصَلَاح الْحَال. قَوْله: (فتطؤه بأخفافها) ، سَقَطت الْوَاو من: تطؤ، عِنْد بعض النَّحْوِيين لشذوذ هَذَا الْفِعْل من بَين نَظَائِره فِي التَّعَدِّي، لِأَن الْفِعْل إِذا كَانَ فاؤه: واوا، وَكَانَ على: فعل، بِكَسْر الْعين كَانَ غير مُتَعَدٍّ غير هَذَا الْحَرْف، وَآخر وَهُوَ: وسع، فَلَمَّا شذا دون نظائرهما أعطيا هَذَا الحكم وَقيل: إِن أَصله: توطىء، بِكَسْر الطَّاء فَسَقَطت لوقوعها بَين يَاء وكسرة، ثمَّ فتحت الطَّاء لأجل الْهمزَة، و: الأخفاف، جمع: خف الْبَعِير، والخف من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الظلْف للغنم والقدم للآدمي والحافر للحمار والبغل وَالْفرس، والظلف للبقر وَالْغنم والظبا وكل حافر منشق منقسم فَهُوَ ظلف، وَقد استعير الظلْف للْفرس. قَوْله: (وتنطحه) قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة: تنطحه، بِكَسْر الطَّاء وَفِيه لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي: الْفَتْح وَالْكَسْر، فالكسر هُوَ الْأَصَح وماضيه مخفف وَقد يشدد وَلَا يخْتَص بالكبش كَمَا ادَّعَاهُ ابْن بل يسْتَعْمل فِي الثور وَغَيره. قَوْله: (وَمن حَقّهَا أَن تحلب على المَاء) أَي لتسقي أَلْبَانهَا أَبنَاء السَّبِيل وَالْمَسَاكِين الَّذين ينزلون على المَاء، وَلِأَن فِيهِ الرِّفْق على الْمَاشِيَة لِأَنَّهُ أَهْون لَهَا وأوسع عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: يُرِيد حق الْكَرم والمواساة وشريف الأخلاف، لَا أَن ذَلِك فرض. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت عَادَة الْعَرَب التَّصَدُّق بِاللَّبنِ على المَاء. فَكَانَ الضُّعَفَاء يرصدون ذَلِك مِنْهُم. قَالَ: وَالْحق حقان فرض عين وَغَيره، فالحلب من الْحُقُوق الَّتِي هِيَ من مَكَارِم الْأَخْلَاق. وَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: الْحق المفترض هُوَ الْمَوْصُوف الْمَحْدُود، وَقد تحدث أُمُور لَا تحد فَتجب فِيهَا الْمُوَاسَاة للضَّرُورَة الَّتِي تنزل من ضيف مُضْطَر أَو جَائِع أَو عَار أَو ميت لَيْسَ لَهُ من يواريه، فَيجب حِينَئِذٍ على من يُمكنهُ الْمُوَاسَاة الَّتِي تَزُول بهَا هَذِه الضرورات. قَالَ ابْن التِّين: وَقيل: كَانَ هَذَا قبل فرض الزَّكَاة، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي: بَاب الشّرْب، من كتاب البُخَارِيّ من روى: يجلب، بِالْجِيم أَرَادَ يجلب لموْضِع سقيها فيأتيها الْمُصدق، قَالَ: وَلَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ: أَن يجلب إِلَى المَاء، وَلم يقل: على المَاء. انْتهى. قلت: رَأْي الْكُوفِيّين أَن حُرُوف الْجَرّ يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَيجوز أَن يكون: على، بِمَعْنى: إِلَى. وَفِي (الْمطَالع) : ذكر الدَّاودِيّ أَنه يرْوى: يجلب، بِالْجِيم وَفَسرهُ بالجلب إِلَى الْمُصدق. قَوْله: (لَهَا يعار) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة. وَقَالَ فِي (الْمطَالع) : فِي بَاب منع الزَّكَاة: لَهَا ثعار، بالثاء الْمُثَلَّثَة عِنْد أبي أَحْمد، وَعند أبي زيد: تعار أَو يعار على الشَّك، وَعند غَيرهمَا بالغين الْمُعْجَمَة. وَفِي: بَاب الْغلُول: شَاة لَهَا ثُغَاء أَو يعار، والثغاء للضأن واليعار للمعز. وَفِي (الْمُحكم) : اليعار صَوت الْغنم، وَقيل: صَوت الْمعز، وَقيل: هُوَ الشَّديد من أصوات الشَّاء يعرت تَيْعر وتيعر، الْفَتْح عَن كرَاع. وَقَالَ الْقَزاز: اليعار لَيْسَ بِشَيْء إِنَّمَا هُوَ الثغاء، وَهُوَ صَوت الشَّاة، وَيجوز أَن يكون كتب الْحَرْف بِالْهَمْزَةِ أَمَام الْألف فظنت رَاء. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : اليعور الشَّاة الَّتِي تبول على محلبها فَيفْسد اللَّبن. قَوْله: (لَا أملك لَك) أَي: للتَّخْفِيف عَنْك، وَقد بلغت إِلَيْك حكم الله. قَوْله: (بِبَعِير) الْبَعِير بقع على الذّكر وَالْأُنْثَى من الْإِبِل، وَيجمع على أَبْعِرَة وبعران. قَوْله: (رُغَاء) أَي: للبعير رُغَاء، بِضَم الرَّاء وبالغين الْمُعْجَمَة، والرغاء لِلْإِبِلِ خَاصَّة، وَبَاب الْأَصْوَات يَجِيء فِي الْغَالِب على: فعال، كالبكاء، وعَلى: فعيل كالصهيل، وعَلى: فعللة كالحمحمة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا يدل على وجوب الزَّكَاة فِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَأما كَيْفيَّة مقدارها فِي كل صنف فَفِي أَحَادِيث أُخْرَى. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بَعضهم أَن الْحق غير الزَّكَاة بَاقٍ فِي ألبان الْمَاشِيَة وأثمار الْأَشْجَار للقراء وَأَبْنَاء السَّبِيل. وَقَالُوا: قد عَابَ الله تَعَالَى قوما أخفوا جذاذهم فِي قَوْله: {ليصرمنها مصبحين} (الْقَلَم: 71) . أَرَادوا: أَن لَا يُصِيب الْمُسلمين مِنْهَا شَيْء وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . نَحوا من هَذَا، وَأَنه بَاقٍ مَعَ الزَّكَاة، ويحكى هَذَا عَن الشّعبِيّ وَالْحسن وَعَطَاء(8/251)
وطاووس وَعَن أبي هُرَيْرَة: حق الْإِبِل أَن تنحر السمينة وتمنح العزيزة ويفقد الظّهْر وتطرق الْفَحْل وتسقى اللَّبن، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء أَن هَذَا على النّدب والمواساة. وَفِيه: مَا يدل على أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم الَّتِي منعت زَكَاتهَا بِعَينهَا ليعذب بهَا مانعها، كَمَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث. وَأما المَال الَّذِي لَيْسَ بحيوان الَّذِي منع فِيهِ الزَّكَاة فَإِنَّهُ يمثل لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شجاعا أَقرع، على مَا يَجِيء عَن قريب، وَيحْتَمل أَن عين مَاله يَنْقَلِب ثعبانا يعذب بِهِ صَاحبه وَلَا يُنكر قلب الْأَعْيَان فِي الْآخِرَة.
3041 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا هاشِمُ بنُ القَاسِمْ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله بنِ دِينَارِ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ آتاهُ الله مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ ثُمَّ يَأخ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أنَا مالُكَ أنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلاَ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (آل عمرَان: 081) . الْآيَة..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي مُطَابقَة الحَدِيث الأول.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، تكَرر ذكره. الثَّانِي: هَاشم بن الْقَاسِم أَبُو النَّضر التَّمِيمِي، وَيُقَال اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِبَغْدَاد يَوْم الْأَرْبَعَاء غرَّة ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ، مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله مر فِي: بَاب الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن دِينَار مولى عبد الله بن عمر بن الْخطاب مر فِي: بَاب أُمُور الْإِيمَان. الْخَامِس: أَبُو صَالح واسْمه ذكْوَان الزيات. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَأَن هاشما خراساني سكن بَغْدَاد وَعبد الرَّحْمَن وأباه وَأَبا صَالح مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن أَبِيه وَجعل أَبُو الْعَبَّاس الطرقي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله حَدِيثا وَاحِدًا، وَرَوَاهُ مَالك فِي (موطئِهِ) : عَن عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح فَوَقفهُ على أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: وَرَوَاهُ عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عِنْد النَّسَائِيّ عَن عبد الله بن دِينَار سَأَلَ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهُوَ عِنْدِي خطأ، وَالْمَحْفُوظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث عبد الْعَزِيز خطأ بيّن فِي الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْده عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَا رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة أبدا، وَرِوَايَة مَالك وَعبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله فِيهِ هِيَ الصَّحِيحَة، وَهُوَ مَرْفُوع صَحِيح، وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مثله، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَعند مُسلم من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من صَاحب إبل) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن مُنِير عَن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن الْفضل بن سهل عَن الْحسن بن مُوسَى الأشيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن أَبِيه، وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاة مَاله يخيل إِلَيْهِ مَاله يَوْم الْقِيَامَة شجاعا أَقرع لَهُ زَبِيبَتَانِ، قَالَ: فَيلْزمهُ أَو يطوقه، قَالَ: فَيَقُول: أَنا كَنْزك أَنا كَنْزك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من أَتَاهُ الله تَعَالَى) ، بِمد الْهمزَة أَي: من أعطَاهُ الله. قَوْله: (مثل لَهُ) ، أَي: صور لَهُ مَاله الَّذِي لم يؤد زَكَاته شجاعا، أَو ضمن: مثل، معنى التصيير أَي: صير مَاله على صُورَة شُجَاع، وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَمثل، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين تَقول: مثلت الشمع فرسا فَإِذا بني لما لم يسم فَاعله تعدى إِلَى مفعول وَاحِد، فَلِذَا قَالَ: مثل لَهُ شجاعا أَقرع. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن قَوْله: مثل، على صِيغَة الْمَجْهُول الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (مَالا) ، وَقد نَاب عَن الْمَفْعُول الأول. وَقَوله: (شجاعا) مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (شجاعا) نصب يجْرِي مجْرى الْمَفْعُول الثَّانِي، أَي: صور مَاله شجاعا. وَقَالَ ابْن قرقول: وبالرفع ضبطناه، وَهِي رِوَايَة الطرابلسي(8/252)
فِي (الْمُوَطَّأ) وَلغيره شجاعا كَأَنَّهُ مفعول ثَان. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) : وَفِي رِوَايَة الشَّافِعِي: شُجَاع، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ الَّذِي أقيم مقَام الْفَاعِل الأول: لمثل، لِأَنَّهُ أخلاه من الضَّمِير وَجعل لَهُ مَفْعُولا وَاحِدًا، وَلَا يكون الشجاع كِنَايَة عَن المَال الَّذِي لم تُؤَد زَكَاته وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَة حَيَّة يخلق مَاله حَيَّة تفعل بِهِ ذَلِك، يعضد ذَلِك أَنه لم يذكر فِي رِوَايَته مَاله بِخِلَاف مَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ قلت: وللبخاري أَيْضا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة لَفْظَة: مَاله، مَذْكُورَة، وَفِي رِوَايَة غير مَذْكُورَة، والشجاع: الْحَيَّة، وسمى أَقرع لِأَنَّهُ يقرع السم ويجمعه فِي رَأسه حَتَّى تتمعط مِنْهُ فَرْوَة رَأسه، وَفِي (جَامع) الْقَزاز: لَيْسَ على رُؤُوس الْحَيَّات شعر، وَلَكِن لَعَلَّه يذهب جلد رَأسه. وَفِي (الموعب) : الشجاع ضرب من الْحَيَّات، وَالْجمع: الشجعان، وَثَلَاثَة أشجعة. وَفِي (التَّهْذِيب) : هُوَ الْحَيَّة الذّكر، وَقَالَ اللحياني: يُقَال للحية شُجَاع وشجاع وشجعان وَيُقَال للحية أَيْضا أَشْجَع وَقَالَ شمر فِي (كتاب الْحَيَّات) : الشجاع ضرب من الْحَيَّات لطيف دَقِيق، وَهُوَ كَمَا زَعَمُوا أجرؤها. وَفِي (الْمُحكم) شجعان بِالْكَسْرِ أَكثر. وَفِي (البارع) لأبي عَليّ القالي: شجعة، بِفَتْح الشين وَالْجِيم: إِذا كَانَ طَويلا ملتويا. وَفِي (الاستذكار) : وَقيل: الشجاع الثعبان، وَقيل: الْحَيَّة، وَقيل: هُوَ الَّذِي يواثب الْفَارِس والراجل وَيقوم على ذَنبه، وَرُبمَا بلغ وَجه الْفَارِس وَيكون فِي الصحارى، والأقرع الَّذِي فِي رَأسه بَيَاض. وَقيل: كلما كثر سمه ابيض رَأسه، وَقَالَ ابْن خالويه: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب اسْم الْحَيَّات وصفاتها إلاَّ مَا كتبته فِي هَذَا الْبَاب، فَذكر أَرْبَعَة وَثَمَانِينَ اسْما. قَوْله: (زَبِيبَتَانِ) ، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: الزّبد فِي الشدقين إِذا غضب، يُقَال: تكلم فلَان حَتَّى زبد شدقاه، أَي: خرج الزّبد عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) : الزبيبتان الزبدتان فِي الشدقين، وَمِنْه الْحَيَّة ذُو الزبيبتين وهما النكتتان السوداوان فَوق عَيْنَيْهِ، وَقيل: هما نقطتان تكتنفان فاها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هما نابان يخرجَانِ من فِيهَا، وَأنكر بَعضهم هَذَا، وَقَالَ: هَذَا لَا يُوجد. وَيُقَال: الْحَيَّة ذُو الزبيبتين أَخبث مَا يكون من الْحَيَّات. وَقَالَ أَبُو عمر: هما عَلَامَات الْحَيَّة الذّكر المؤذي. وَقَالَ ابْن حبيب عَن مطرف: لَهُ زَبِيبَتَانِ فِي خلقه بِمَنْزِلَة زنمتى العنز. وَفِي (المسالك) لِابْنِ الْعَرَبِيّ: سُئِلَ مَالك عَن الزبيبتين؟ فَقَالَ: أراهما شنشنتين تَكُونَانِ على رَأسه مثل القرنين. قَوْله: (يطوقه) ، بِفَتْح الْوَاو: يَجْعَل طوقا فِي عُنُقه. وَفِي رِوَايَة: (وَحَتَّى يطوقه) ، وَفِي (التَّلْوِيح) : قَالَ أَبُو السعادات: يجوز أَن تكون الْوَاو أَي: مَفْتُوحَة يَعْنِي: حَتَّى يطوقه الله تَعَالَى فِي عُنُقه، كَأَنَّهُ قيل: يَجْعَل لَهُ طوقا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَهُوَ تَشْبِيه لذكر الْمُشبه والمشبه بِهِ، كَأَنَّهُ قيل: يَجعله كالطوق فِي عُنُقه. قلت: الضَّمِير الَّذِي فِيهِ مَفْعُوله الأول وَالضَّمِير البارز مَفْعُوله الثَّانِي وَهُوَ يرجع إِلَى: من، فِي قَوْله: (من آتَاهُ الله مَالا) ، وَالضَّمِير الْمُسْتَتر يرجع إِلَى الشجاع. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْهَاء، عَائِدَة إِلَى الطوق لَا إِلَى المطوق وَفِيه مَا فِيهِ. قَوْله: (بِلِهْزِمَتَيْهِ) ، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْهَاء وَكسر الزَّاي تَثْنِيَة لهزمة، قَالَ ابْن سَيّده: اللهزمتان: مضيغتان فِي أصل الحنك، وَقيل: هما مضيغتان فِي منحنى اللحيين أَسْفَل من الْأُذُنَيْنِ، وهما مُعظم اللحيين، وَقيل: هما تَحت الْأُذُنَيْنِ من أَعلَى اللحيين والخدين، وَقيل: هما مُجْتَمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن من اللحي، زَاد صَاحب (الموعب) : لهزمتان، يُقَال: شنشنان، وَيُقَال، للْفرس الموسوم على ذَلِك الْمَكَان: ملهوز، وَفِي (الْجَامِع) : هِيَ لحم الْخَدين اللَّذين يَتَحَرَّك إِذا أكل الْإِنْسَان، وَالْجمع: اللهازم، وَفِي (الجمهرة) : لهزمه إِذا ضرب لهزمته، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هما الماضغتان اللَّتَان بَين الْأذن والفم. قَوْله: (يَعْنِي شدقيه) ، بِكَسْر الشين هَذَا التَّفْسِير فِي الحَدِيث أَي جَانِبي الْفَم. قَوْله: (ثمَّ يَقُول) الشجاع المصور من المَال: (أَنا مَالك أَنا كَنْزك) يُخَاطب بِهِ صَاحب المَال لمزيد الغصة والهم، لِأَنَّهُ شَرّ أَتَاهُ من حَيْثُ كَانَ يَرْجُو فِيهِ خيرا، وَفِيه نوع تهكم. قَوْله: (ثمَّ تَلا) أَي: قَرَأَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ} (آل عمرَان: 081) . الْآيَة، وتلاوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه تدل على أَنَّهَا نزلت فِي مَانع الزَّكَاة، وَقيل: إِن المُرَاد بهَا الْيَهُود لأَنهم بخلوا، وَالْمعْنَى سيطوقون الْإِثْم، وَتَأَول مَسْرُوق أَنَّهَا نزلت فِيمَن لَهُ مَال فَيمْنَع قرَابَته صلته فيطوق حَيَّة كَمَا سلف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَن ذَلِك فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَقيل: فِي الْأَحْبَار الَّذين كتموا صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على فَرضِيَّة الزَّكَاة لِأَن الْوَعيد الشَّديد يدل على ذَلِك. وَفِيه: مَا يدل على قلب الْأَعْيَان وَذَلِكَ فِي قدرَة الله تَعَالَى هَين لَا يُنكر. وَفِيه: أَن لفظ: مَالا، بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا من الْأَمْوَال الزكوية، وَقَالَ الْمُهلب: لم ينْقل عَن الشَّارِع زَكَاة الذَّهَب من طَرِيق الْخَبَر، كَمَا نقل عَنهُ زَكَاة الْفضة. قلت: صَحَّ من حَدِيث أبي بكر بن مُحَمَّد ابْن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات مطولا،(8/253)
وَفِيه: (وَفِي كل أَرْبَعِينَ دِينَارا دِينَار) ، رَوَاهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَكَانَ صرف الدِّينَار عشرَة دَرَاهِم فَعدل الْمُسلمُونَ بِخمْس أوراق من الْفضة عشْرين مِثْقَالا، وجعلوه زَكَاة نِصَاب الذَّهَب، وتواتر الْعَمَل بِهِ، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء: أَن الذَّهَب إِذا كَانَ عشْرين مِثْقَالا وَقيمتهَا مِائَتَا دِرْهَم فِيهَا نصف دِينَار إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن أَنه لَيْسَ فِيمَا دون أَرْبَعِينَ دِينَارا زَكَاة، وَهُوَ شَاذ لَا يعرج عَلَيْهِ وَذَهَبت طَائِفَة إلاَّ أَن الذَّهَب إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ زَكَاة وَإِن كَانَ أقل من عشْرين مِثْقَالا، وَهُوَ قَول عَطاء وطاووس وَالزهْرِيّ، فَجعلُوا الْفضة أصلا فِي الزَّكَاة.
4 - (بابٌ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن المَال الَّذِي أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَقع هَكَذَا عِنْد أبي ذَر، وَوَقع عِنْد أبي الْحسن: بَاب من أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، قَالَ ابْن التِّين مَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِذِي كنز. قلت: على هَذَا الْوَجْه لَا بُد من تَأْوِيل، لِأَن الْخَبَر لَا بُد أَن يكون من المشتقات ليَصِح الْحمل على الْمُبْتَدَأ.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ
علل البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث حَيْثُ ذكره بلام التَّعْلِيل صِحَة تَرْجَمته بقوله: بَاب مَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، لِأَن شَرط كَون الْكَنْز شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يكون نِصَابا، وَالثَّانِي أَن لَا يخرج مِنْهُ زَكَاته فَإِذا عدم النّصاب لَا يلْزمه شَيْء فَلَا يكون كنزا، وَلَا يدْخل تَحت قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 43) . فَلَا يسْتَحق الْعَذَاب وَإِذا وجد النّصاب وَلم يزك يكون كنزا، فَيدْخل تَحت الْآيَة، وَيسْتَحق الْعَذَاب، وَإِذا وجد النّصاب وزكى لَا يكون كنزا فَلَا يسْتَحق الْعَذَاب، وَهَذَا هُوَ التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: كَيفَ يُطَابق هَذَا التَّعْلِيل التَّرْجَمَة والترجمة فِيمَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، والْحَدِيث فِيمَا إِذا كَانَ الْعين أقل من خَمْسَة أَوَاقٍ لَيست فِيهَا صَدَقَة، أَي: زَكَاة، وَبِهَذَا الْوَجْه اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ على هَذِه التَّرْجَمَة. قلت: تكلّف فِيهِ بِأَن قيل: إِن مُرَاده أَن مَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ لَيْسَ بكنز، لِأَنَّهُ لَا صَدَقَة فِيهِ، فَإِذا كَانَت خَمْسَة أَوَاقٍ أَو أَكثر وَأدّى زَكَاتهَا فَلَيْسَتْ بكنز، فَلَا يدْخل تَحت الْوَعيد. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: نزع البُخَارِيّ بِأَن كل مَا أُدي زَكَاته فَلَيْسَ بكنز لإِيجَاب الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل خمس أَوَاقٍ ربع عشرهَا، فَإِذا كَانَ ذَلِك فرض الله تَعَالَى على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمعلوم أَن الْكَنْز هُوَ المَال وَإِن بلغ ألوفا، إِذا أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَلَا يحرم على صَاحبه اكتنازه لِأَنَّهُ لم يتوعد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْوَعيد على مَا لم تُؤَد زَكَاته. وَقيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة حَدِيثا رَوَاهُ جَابر مَرْفُوعا: (أَيّمَا مَال أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز) ، لكنه لَيْسَ على شَرطه فَلم يُخرجهُ. انْتهى. قلت: هَذَا مستبعد جدا لِأَنَّهُ كَيفَ يترجم بِشَيْء ثمَّ يعلله بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَيُشِير إِلَى حَدِيث آخر لَيْسَ عِنْده بِصَحِيح، وَهَذَا غير موجه، وَلَو قَالَ هَذَا الْقَائِل: أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة حَدِيثا روته أم سَلمَة مَرْفُوعا: (مَا بلغ أَن تُؤَدّى زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، لَكَانَ لَهُ وَجه مَا، لِأَن حَدِيث أم سَلمَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ثَابت بن عجلَان (عَن عَطاء عَنْهَا قَالَت: كنت ألبس أَوْضَاحًا من ذهب، فَقلت: يَا رَسُول الله أكنز هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بلغ أَن تُؤَدّى زَكَاته فَزكِّي فَلَيْسَ بكنز) ، وَإِسْنَاده جيد وَرِجَاله رجال البُخَارِيّ، وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا وَصَححهُ، وَقَالَ: على شَرط البُخَارِيّ. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد ضَعِيف، وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي (الْعِلَل) لِابْنِ أبي حَاتِم: الصَّحِيح أَنه مَوْقُوف، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة ابْن جريج عَن أبي الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا أدّيت زَكَاة مَالك فقد أذهبت عَنْك شَره) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يُخرجهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ هَكَذَا، ثمَّ رَوَاهُ مَوْقُوفا على جَابر وَقَالَ: هَذَا أصح، وَيَجِيء الْكَلَام فِي معنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ صَدَقَة) فِي حَدِيث أبي سعيد فِي هَذَا الْبَاب.
(وَقَالَ أَحْمد بن شبيب بن سعيد حَدثنَا أبي عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن خَالِد بن أسلم(8/254)
قَالَ خرجنَا مَعَ عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ أَعْرَابِي أَخْبرنِي قَول الله وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا من كنزها فَلم يؤد زَكَاتهَا فويل لَهُ إِنَّمَا كَانَ هَذَا قبل أَن تنزل الزَّكَاة فَلَمَّا أنزلت جعلهَا الله طهرا للأموال) مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَفْهُوم لِأَن مَفْهُوم قَوْله " من كنزها فَلم يؤد زَكَاتهَا " إِذا أدّى زَكَاتهَا لَا يسْتَحق الْوَعيد فَإِذا لم يسْتَحق الْوَعيد بِسَبَب أَدَائِهِ الزَّكَاة يدْخل فِي معنى التَّرْجَمَة وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد فِي النَّاسِخ والمنسوخ عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي عَن أَحْمد بن شبيب بِإِسْنَادِهِ وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد دعْلج بن أَحْمد السّخْتِيَانِيّ بِبَغْدَاد حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن زيد الصَّائِغ حَدثنَا أَحْمد بن شبيب حَدثنَا أبي إِلَى آخِره بِهَذَا الْإِسْنَاد وَفِيه زِيَادَة وَهُوَ قَوْله " ثمَّ الْتفت إِلَيّ فَقَالَ مَا أُبَالِي لَو كَانَ لي مثل أحد ذَهَبا أعلم عدده وأزكيه وأعمل فِيهِ بِطَاعَة الله تَعَالَى " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول أَحْمد بن شبيب بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء أُخْرَى الحبطي بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى الحبطات من بني تَمِيم وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو بن تَمِيم بن مرّة والْحَارث هُوَ الحبط وَولده يُقَال لَهُم الحطبات روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَفِي الاستقراض مُفردا وَفِي غير مَوضِع مَقْرُونا إِسْنَاده بِإِسْنَاد آخر قَالَ ابْن قَانِع مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ ابْن عَسَاكِر سنة تسع وَثَلَاثِينَ. الثَّانِي أَبوهُ شبيب بن سعيد أبي سعيد الحبطي مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس خَالِد بن أسلم أَخُو زيد بن أسلم مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التصدير بالْقَوْل من غير تحديث وَفِيه أَحْمد بن شبيب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر حَدثنَا أَحْمد وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن أَحْمد وأباه بصريان وَيُونُس أيلي مصري وَابْن شهَاب وخالدا مدنيان وَفِيه أَن أَحْمد من أَفْرَاده وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَفِيه أَن خَالِدا من أَفْرَاده وَقَالَ الْحميدِي لَيْسَ فِي الصَّحِيح لخَالِد غير هَذَا (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير نَحْو مَا أخرجه هُنَا وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب عَن ابْن لَهِيعَة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ نَحوه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من كنزها " إِفْرَاد الضَّمِير إِمَّا على تَأْوِيل الْأَمْوَال أَو أعَاد الضَّمِير إِلَى الْفضة لِأَن الِانْتِفَاع بهَا أَكثر أَو لِكَثْرَة وجودهَا وَالْحَامِل على ذَلِك رِعَايَة لفظ الْقُرْآن قَوْله " فويل لَهُ " الويل الْحزن والهلاك وَالْمَشَقَّة من الْعَذَاب وَالْمعْنَى فالعذاب لمن كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم ينفقهما فِي سَبِيل الله وارتفاع ويل على الِابْتِدَاء قَوْله " قبل أَن تتنزل الزَّكَاة " وَاخْتلف فِي أول وَقت فرض الزَّكَاة فَعِنْدَ الْأَكْثَرين وَقع بعد الْهِجْرَة فَقيل كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة قبل فرض رَمَضَان وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ فِي السّنة التَّاسِعَة ورد عَلَيْهِ لوُرُود ذكرهَا فِي عدَّة أَحَادِيث قبل ذَلِك وَكَذَا مُخَاطبَة أبي سُفْيَان مَعَ هِرقل وَكَانَ يَأْمُرنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَت فِي أول السَّابِعَة (فَإِن قلت) يدل على مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْأَثِير مَا وَقع فِي قَضِيَّة ثَعْلَبَة بن حَاطِب المطولة وفيهَا لما أنزلت آيَة الصَّدَقَة بعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاملا فَقَالَ مَا هَذِه إِلَّا جِزْيَة أَو أُخْت الْجِزْيَة والجزية إِنَّمَا وَجَبت فِي التَّاسِعَة فَتكون الزَّكَاة فِي التَّاسِعَة (قلت) هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ (فَإِن قلت) ادّعى ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه أَن فَرضهَا كَانَ قبل الْهِجْرَة وَاحْتج بِمَا أخرجه من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي قصَّة هجرتهم إِلَى الْحَبَشَة وفيهَا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ للنجاشي فِي جملَة مَا أخبرهُ بِهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام (قلت) أُجِيب بِأَن فِيهِ نظرا لِأَن الصَّلَوَات خمس لم تكن فرضت بعد وَلَا صِيَام رَمَضَان وَأجَاب بَعضهم بِأَن مُرَاجعَة(8/255)
جَعْفَر لم تكن فِي أول مَا قدم على النَّجَاشِيّ وَإِنَّمَا أخبرهُ بذلك بعد مُدَّة قد وَقع فِيهَا مَا ذكر من قَضِيَّة الصَّلَاة وَالصِّيَام وَبلغ ذَلِك جعفرا فَقَالَ يَأْمُرنَا بِمَعْنى يَأْمر أمته (قلت) هَذَا بعيد جدا (فَإِن أُجِيب) بِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد من الصَّلَاة الصَّلَوَات الْخمس وَلَا من الزَّكَاة الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَلَا من الصّيام صَوْم شهر رَمَضَان بل المُرَاد من الصَّلَاة الصَّلَاة الَّتِي كَانُوا يصلونها رَكْعَتَيْنِ قبل فَرضِيَّة الْخمس وَالْمرَاد من الصَّوْم مُطلق الصَّوْم لأَنهم رُبمَا كَانُوا يَصُومُونَ اتبَاعا للشريعة الَّتِي كَانَت قبل وَالْمرَاد من الزَّكَاة الصَّدَقَة فَلَا بَأْس بِهَذَا التَّأْوِيل وَذَلِكَ بعد أَن يسلم حَدِيث أم سَلمَة من قدح فِي إِسْنَاده فَافْهَم قَوْله " طهرا للأموال " أَي فِي حق الْفُقَرَاء وَهِي أوساخ النَّاس وَلِهَذَا لَا تحل لبني هَاشم كَمَا ورد فِي حَدِيث مُسلم " أَن الصَّدَقَة لَا تنبغي لآل مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس " فَإِذا أخرجت الزَّكَاة يحصل الطُّهْر للأموال وَكَذَلِكَ هِيَ طهر لأصحابها عَن رذائل الْأَخْلَاق وَالْبخل -
5041 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ بنُ أسْحَاقَ قَالَ الأوْزَاعَيُّ أَخْبرنِي يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ أنَّ عَمْرَو بنَ يَحْيى بنِ عُمَارَةَ أخْبَرَهُ عنْ أبِيهِ يَحْيى بنِ عُمَارَةَ بنِ أبِي الحَسَنِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوَاقٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أوْسقٍ صَدَقَةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرنَاهَا عِنْد الحَدِيث الْمُعَلق فِي أَوَائِل الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق بن يزِيد من الزِّيَادَة هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن يزِيد أَبُو النَّضر السَّامِي. الثَّانِي: شُعَيْب بن إِسْحَاق، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير. الْخَامِس: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة. السَّادِس: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة، بِضَم الْعين: ابْن أبي الْحسن الْمَازِني الْأنْصَارِيّ. السَّابِع: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: واسْمه سعيد ابْن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: عَن أَبِيه يحيى بن عمَارَة، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: عَن عَمْرو أَنه سمع أَبَاهُ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيه. وَأَنه وشعيبا وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيون وَيحيى يمامي طائي وَعَمْرو وَأَبوهُ مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن عبد الله بن إِدْرِيس وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعلي أبي كَامِل الجحدري وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله ابْن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أَحْمد بن عَبدة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن مهْدي وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي وَعَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَوَاقٍ) ، وَقع هُنَا أَوَاقٍ بِدُونِ الْيَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أواقي، بِالْيَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَوَقع أَيْضا بِدُونِ الْيَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَهِي جمع: أُوقِيَّة، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء، وَيجمع على أواقي، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها، وأواق بحذفها. قَالَ ابْن السّكيت فِي (الْإِصْلَاح) : كل مَا كَانَ من هَذَا النَّوْع واحده مشدد أجَاز فِي جمعه التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف كالأوقية والأواقي، والسرية والسراري والبختية والعلية والإثفية ونظائرها. وَأنكر الْجُمْهُور أَن يُقَال فِي الْوَاحِدَة: وقية، بِحَذْف الْهمزَة، وَحكى الجبائي جَوَازهَا بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء وَجَمعهَا: وقايا، مثل: ضحية وضحايا،(8/256)
وَأجْمع أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وأئمة اللُّغَة على أَن الْأُوقِيَّة الشَّرْعِيَّة: أَرْبَعُونَ درهما، وَهِي أُوقِيَّة الْحجاز. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا يَصح أَن تكون الْأُوقِيَّة وَالدَّرَاهِم مَجْهُولَة فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُوجب الزَّكَاة فِي أعداد مِنْهَا وَتَقَع بهَا الْبياعَات والأنكحة كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَهَذَا يبين أَن قَول من زعم أَن الدَّرَاهِم لم تكن مَعْلُومَة إِلَى زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان وَأَنه جمعهَا بِرَأْي الْعلمَاء، وَجعل كل عشرَة وزن سَبْعَة مَثَاقِيل وَوزن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، قَول بَاطِل، وَإِنَّمَا معنى مَا نقل من ذَلِك أَنه لم يكن مِنْهَا شَيْء من ضرب الْإِسْلَام وعَلى صفة لَا تخْتَلف، بل كَانَت مجموعات من ضرب فَارس وَالروم صغَارًا وكبارا وَقطع فضَّة غير مَضْرُوبَة وَلَا منقوشة ويمنية ومغربية، فَرَأَوْا صرفهَا إِلَى ضرب الْإِسْلَام ونقشه وتصييرها وزنا وَاحِدًا لَا يخْتَلف وأعيانا يسْتَغْنى فِيهَا من الموازين، فَجمعُوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم، قَالَ القَاضِي: وَلَا شكّ أَن الدَّرَاهِم كَانَت حِينَئِذٍ مَعْلُومَة، وَإِلَّا فَكيف كَانَ يتَعَلَّق بهَا حُقُوق الله تَعَالَى فِي الزَّكَاة وَغَيرهَا وَحُقُوق الْعباد وَهَذَا كَمَا كَانَت الْأُوقِيَّة مَعْلُومَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع أهل الْعَصْر الأول على التَّقْدِير بِهَذَا الْوَزْن الْمَعْرُوف، وَهُوَ أَن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، وكل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل وَلم يتَغَيَّر المثقال فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام. قلت: روى ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) فِي تَرْجَمَة عبد الْملك بن مَرْوَان: أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه، قَالَ: ضرب عبد الْملك بن مَرْوَان الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير سنة خمس وَسبعين، وَهُوَ أول من أحدث ضربهَا وَنقش عَلَيْهَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: حَدثنَا خَالِد بن ربيعَة بن أبي هِلَال عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَت مَثَاقِيل الْجَاهِلِيَّة الَّتِي ضرب عَلَيْهَا عبد الْملك اثْنَتَيْنِ وَعشْرين قيراطا إلاَّ حَبَّة بالشامي، وَكَانَت الْعشْرَة وزن سَبْعَة. انْتهى. وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي (كتاب الْأَمْوَال) ، فِي: بَاب الصَّدَقَة وأحكامها: كَانَت الدَّرَاهِم قبل الْإِسْلَام كبارًا أَو صغَارًا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَأَرَادُوا ضرب الدَّرَاهِم وَكَانُوا يزكونها من النَّوْعَيْنِ فنظروا إِلَى الدارهم الْكَبِير فَإِذا هُوَ ثَمَانِيَة دوانق وَإِلَى الدِّرْهَم الصَّغِير فَإِذا عو أَرْبَعَة دوانق فوضعوا زِيَادَة الْكَبِير على نُقْصَان الصَّغِير فجعلوهما دِرْهَمَيْنِ سَوَاء كل وَاحِد سِتَّة دوانيق، ثمَّ اعتبروها بالمثاقيل، وَلم يزل المثقال فِي آباد الدَّهْر محدودا لَا يزِيد وَلَا ينقص، فوجدوا عشرَة دَرَاهِم من هَذِه الدَّرَاهِم الَّتِي وَاحِدهَا سِتَّة دوانيق يكون وزان سَبْعَة مَثَاقِيل، وَأَنه عدل بَين الْكِبَار وَالصغَار، وَأَنه مُوَافق لسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّدَقَة، فمضت سنة الدَّرَاهِم على هَذَا، وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة فَلم يخْتَلف أَن الدِّرْهَم التَّام ستت دوانيق فَمَا زَاد أَو نقص قيب فِيهِ زَائِدا وناقص وَالنَّاس فِي الزَّكَاة على الأَصْل الَّذِي هم السّنة لم يزيغوا وَكَذَلِكَ فِي المبايعات انْتهى وَذكر فِي كتب أَصْحَابنَا أَن الدَّرَاهِم كَانَت فِي الِابْتِدَاء على لى ثَلَاثَة أَصْنَاف: صنف: مِنْهَا: كل عشرَة مِنْهُ عشرَة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم مِثْقَال. وصنف: مِنْهَا كل عشرَة مِنْهُ سِتَّة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم ثَلَاثَة أَخْمَاس مِثْقَال. وصنف: مِنْهَا كل عشرَة مِنْهُ خَمْسَة مَثَاقِيل، كل دِرْهَم نصف مِثْقَال، وَكَانَ النَّاس يتصرفون فِيهَا ويتعاملون بهَا فِيمَا بَينهم إِلَى أَن اسْتخْلف عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَرَادَ أَن يسْتَخْرج الْخراج بالأكبر فالتمسوا مِنْهُ التَّخْفِيف، فَجمع حسَّاب زَمَانه ليتوسطوا ويوفقوا بَين الدَّرَاهِم كلهَا وَبَين مَا رامه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبَين مَا رامه الرّعية، فَاسْتَخْرَجُوا لَهُ وزن السَّبْعَة بِأَن أخذُوا من كل صنف ثلثه فَيكون الْمَجْمُوع سَبْعَة. وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: إِن الدِّرْهَم الْمصْرِيّ أَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَبَّة، وَهُوَ أكبر من دِرْهَم الزَّكَاة، فَإِذا أسقطت الزَّائِدَة كَانَ النّصاب من دَرَاهِم مائَة وَثَمَانِينَ درهما وجبتين. وَفِي (فَتَاوَى الفضلى) : تعْتَبر دَنَانِير كل بلد ودراهمهم، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي: بَاب لَيْسَ فِيمَا دونه خَمْسَة أوسق صَدَقَة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَيْضا: وَلَا أقل فِي خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة، وَهنا زَاد لفظ: من الْوَرق، الْوَرق وَالْوَرق وَالْوَرق والرقة: الدَّرَاهِم، وَرُبمَا سميت الْفضة ورقة، والرقة الْفضة، وَالْمَال. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي وَقيل: الْفضة وَالذَّهَب، وَعَن ثَعْلَب: وَجمع الْوَرق وَالْوَرق أوراق، وَجمع الرقة رقوق ورقون، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) أعطَاهُ ألف دِرْهَم رقة، يَعْنِي: لَا يخالطها شَيْء من المَال غَيرهَا. وَفِي (الغريبين) ؛ الْوَرق والرقة الدَّرَاهِم خَاصَّة وَأما الْوَرق فَهُوَ المَال كُله. وَقَالَ أَبُو بكر: الرقة مَعْنَاهَا فِي كَلَامهم: الْوَرق، وَجَمعهَا رقات، وَفِي (الْمغرب) : الْوَرق، بِكَسْر الرَّاء: الْمَضْرُوب من الْفضة، وَكَذَا الرقة. وَفِي (الْمُجْمل) : الْوَرق الدَّرَاهِم وَحدهَا، وَالْوَرق من المَال، ورد النَّوَوِيّ على صَاحب (الْبَيَان) فِي قَوْله: الرقة هِيَ الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَقَالَ: هَذَا غلط فَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ كَمَا ذكرنَا عَن ابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: دِرْهَم الْكَيْل زنته خَمْسُونَ حَبَّة وخمسا حَبَّة، وَسمي بذلك لِأَنَّهُ بتكييل عبد الْملك بن مَرْوَان، أَي: بتقديره وتحقيقه، وَذَلِكَ أَن الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَ النَّاس(8/257)
يتعاملون بهَا نَوْعَانِ: نوع عَلَيْهِ نقش فَارس، وَنَوع عَلَيْهِ نقش الرّوم، أحد النَّوْعَيْنِ يُقَال لَهُ: البغلي، وَهُوَ السود، الدِّرْهَم مِنْهَا ثَمَانِيَة دوانيق، وَالْآخر يُقَال لَهُ الطَّبَرِيّ، وَهُوَ الْعتْق، الدِّرْهَم مِنْهَا أَرْبَعَة دوانيق. وَفِي (شرح المهداية) : البغلية منسوبة إِلَى ملك يُقَال لَهُ: رَأس الْبَغْل، والطبرية منسوبة إِلَى: طبرية، وَقيل: إِلَى طبرستان. وَفِي (الْأَحْكَام) للماوردي: اسْتَقر فِي الْإِسْلَام زنة الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، كل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل، وَزعم المرغيناني أَن الدِّرْهَم كَانَ شَبيه النواة ودور على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَتَبُوا عَلَيْهِ {لَا إلاه إلاَّ الله مُحَمَّد رسولُ الله} ثمَّ زَاد نَاصِر الدولة بن حمدَان: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت منقبة لآل حمدَان. وَفِي كتاب (المكاييل) : عَن الْوَاقِدِيّ، عَن معبد بن مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن سابط، قَالَ: كَانَ لقريش أوزان فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام أقرَّت على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، والرطل اثْنَا عشر أُوقِيَّة، فَذَلِك أَربع مائَة وَثَمَانُونَ درهما، وَكَانَ لَهُم النش، وَهُوَ عشرُون درهما، والنواة وَهِي خَمْسَة دَرَاهِم، وَكَانَ المثقال إثنين وَعشْرين قيراطا إلاَّ حَبَّة، وَكَانَت الْعشْرَة دَرَاهِم وَزنهَا سَبْعَة مَثَاقِيل، وَالدِّرْهَم خَمْسَة عشر قيراطا. فَلَمَّا قدم سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُسَمِّي الدِّينَار لوزنه دِينَارا، وَإِنَّمَا هُوَ تبر، ويسمي الدِّرْهَم لوزنه درهما، وَإِنَّمَا هُوَ تبر، فأقرت مَوَازِين الْمَدِينَة على هَذَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمِيزَان ميزَان أهل الْمَدِينَة) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد فِيهِ زيد بن أبي أنيسَة عَن أبي الزبير عَن جَابر يرفعهُ: (والوقية أَرْبَعُونَ درهما) . وَقَالَ أَبُو عمر: وروى جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الدِّينَار أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ قيراطا) . قَالَ أَبُو عمر: هَذَا وَإِن لم يَصح سَنَده فَفِي قَول جمَاعَة الْعلمَاء واجتماع النَّاس على مَعْنَاهُ مَا يُغني عَن الْإِسْنَاد فِيهِ.
قَوْله: (ذود) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره دَال مُهْملَة وَهِي من الْإِبِل من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَفِي الْمثل: الذود إِلَى الذود إبل، وَقيل: الذود مَا بَين الثِّنْتَيْنِ وَالتسع من الْإِنَاث دون الذُّكُور، قَالَ:
(ذود ثَلَاث بكرَة ونابان ... غير الفحول من ذُكُور البعران)
وَيجمع على أذواد. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَقَالُوا: ثَلَاث ذود، فوضعوه مَوضِع أذواد. وَقَالَ الْفَارِسِي: وَهَذَا على حد قَوْلهم ثَلَاثَة أَشْيَاء فَإِذا وصفت الذود فَإِن شِئْت جعلت الْوَصْف مُفردا بِالْهَاءِ على حد مَا تُوصَف الْأَسْمَاء المؤنثة الَّتِي لَا تعقل فِي حد الْجمع، فَقلت: ذود جربة، وَإِن شِئْت جمعت فَقلت: ذود جراب، ذكره فِي (الْمُخَصّص) وَفِي (الْمُحكم) : وَقيل: الذود من ثَلَاث إِلَى خمس عشرَة، وَقيل: إِلَى عشْرين. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِلَى الثَّلَاثِينَ، وَلَا يكون إلاَّ من الْإِنَاث، وَهُوَ مؤنث وتصغيره بِغَيْر هَاء على غير قِيَاس، وَفِي (كتاب نعوت الْإِبِل) لأبي الْحسن النَّضر بن شُمَيْل بن خَرشَة الْمَازِني مَا يدل على أَنه ينْطَلق على الذُّكُور أَيْضا، وَهُوَ قَوْله: الذود ثَلَاثَة أَبْعِرَة، يُقَال: عِنْد فلَان ذود لَهُ، وَعَلِيهِ ثَلَاث ذود، وَعَلِيهِ أذواد لَهُ إِذا كن ثَلَاثًا فَأكْثر، وَعَلِيهِ ثَلَاث أذواد مثله سَوَاء، وَيُقَال رَأَيْت أذواد بني فلَان إِذا كَانَت فِيمَا بَين الثَّلَاث إِلَى خمس عشرَة. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز. وَقَول الْفُقَهَاء: لَيْسَ فِيمَا دون خمس ذود صَدَقَة، إِنَّمَا مَعْنَاهُ خمس من هَذَا الْجِنْس، وَقد أجَاز قوم أَن يكون الذود وَاحِدًا. وَفِي (الصِّحَاح) : الذود مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: ذهب قوم إِلَى أَن الذود وَاحِد، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه جمع، وَهُوَ الْمُخْتَار. وَاحْتج بِأَنَّهُ: لَا يُقَال خمس ذود، كَمَا لَا يُقَال: خمس ثوب، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ ابْن مزين: الذود الْجمل الْوَاحِد، وَقَالَ أَبُو زِيَاد الْكلابِي فِي (كتاب الْإِبِل) تأليفه: وَالثَّلَاث من الْإِبِل ذود، وَلَيْسَ الثنتان بذود إِلَى أَن تبلغ عشْرين، وسمى الذود لِأَنَّهُ يذاد أَي يساق، ثمَّ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: خمس ذود، بِالْإِضَافَة، وَرُوِيَ بتنوين خمس، وَيكون ذود بَدَلا مِنْهُ، وَبِزِيَادَة التَّاء فِي خمس نظرا إِلَى أَن الذود يُطلق على الْمُذكر والمؤنث، وَتركُوا الْقيَاس فِي الْجمع كَمَا قَالُوا: ثلثمِائة، قيل: وَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ فِي معنى الْجمع كَقَوْلِه: تِسْعَة رَهْط، لِأَن فِيهِ معنى الجمعية.
قَوْله: (أوسق) جمع: وسق، بِكَسْر الْوَاو وَفتحهَا، وَالْفَتْح أشهر. والوسق: حمل بعير، وَقيل: هُوَ سِتُّونَ صَاعا بِصَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: هُوَ الْحمل عَامَّة، وَالْجمع أوسق ووسوق ووسق الْبَعِير، وأوسقه أوقره ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : الْجمع أوساق والوسق الْعدْل. وَفِي (الصِّحَاح) : الوسق حمل الْبَغْل وَالْحمار. وَفِي (الغريبين) : هُوَ مائَة وَسِتُّونَ منا. وَفِي (الْمثنى) لِابْنِ عديس: وَقيل: الوسق العدلان. وَفِي (مجمع الغرائب) : خَمْسَة أوسق ثَمَانمِائَة من، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي البخْترِي العلائي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق زَكَاة، والوسق سِتُّونَ مَخْتُومًا) . ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: أَبُو البخْترِي لم يسمع من أبي سعيد، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مُنْقَطع. وَقَالَ عبيد: الْمَخْتُوم الصَّاع، إِنَّمَا سمي مَخْتُومًا لِأَن الْأُمَرَاء جعلت(8/258)
على أَعْلَاهُ خَاتمًا مطبوعا لِئَلَّا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص مِنْهُ، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: الوسق سِتُّونَ صَاعا مَخْتُومًا بالحجازي، وَحَكَاهُ فِي (المُصَنّف) : عَن ابْن عمر من رِوَايَة لَيْث بن أبي سليم، وَعَن الْحسن بِسَنَد صَحِيح، وَعَن أبي قلَابَة بِسَنَد صَحِيح، وَعَن الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب بأسانيد جِيَاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على ثَلَاثَة فُصُول:
الأول: هُوَ قَوْله: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَوَاقٍ صَدَقَة) ، وَفِيه: بَيَان نِصَاب الْفضة وَهُوَ خَمْسَة أَوَاقٍ، وَهِي مِائَتَا دِرْهَم. لِأَن كل أُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، وحدد الشَّرْع نِصَاب كل جنس بِمَا يحْتَمل الْمُوَاسَاة، فنصاب الْفضة خمس أَوَاقٍ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَم بِنَصّ الحَدِيث وَالْإِجْمَاع، وَأما الذَّهَب فعشرون مِثْقَالا، والمعول فِيهِ على الْإِجْمَاع إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يجب فِي أقل من أَرْبَعِينَ مِثْقَالا، وَالْأَشْهر عَنْهُمَا الْوُجُوب فِي عشْرين مِثْقَالا كَمَا قَالَه الْجُمْهُور. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَعَن بعض السّلف وجوب الزَّكَاة فِي الذَّهَب إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم وَإِن كَانَ دون عشْرين مِثْقَالا. قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَا زَكَاة فِي الْعشْرين حَتَّى تكون قيمتهَا مِائَتي دِرْهَم. ثمَّ إِذا زَاد الذَّهَب أَو الْفضة على النّصاب اخْتلفُوا فِيهِ. فَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَعَامة أهل الحَدِيث: إِن فِيمَا زَاد من الذَّهَب وَالْفِضَّة ربع الْعشْر فِي قَلِيله وَكَثِيره وَلَا وقص، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: لَا شَيْء فِيمَا زَاد على مِائَتي دِرْهَم حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ درهما وَلَا فِيمَا زَاد على عشْرين دِينَارا حَتَّى يبلغ أَرْبَعَة دَنَانِير، فَإِذا زَادَت فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَفِي كل أَرْبَعَة دَنَانِير دِرْهَم، فَجعل لَهما وقصا كالماشية. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاحْتج الْجُمْهُور بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرقة ربع الْعشْر) ، والرقة الْفضة، وَهَذَا عَام فِي النّصاب وَمَا فَوْقه بِالْقِيَاسِ على الْحُبُوب، وَلأبي حنيفَة حَدِيث ضَعِيف لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ. قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن الْمنْهَال بن جراح عَن حبيب بن نجيح عَن عبَادَة بن نسي عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره حِين وَجهه إِلَى الْيمن أَن لَا يَأْخُذ من الْكسر شَيْئا إِذا كَانَت الْوَرق مِائَتي دِرْهَم فَخذ مِنْهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَا تَأْخُذ مِمَّا زَاد شَيْئا حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ درهما، فَإِذا بلغت أَرْبَعِينَ درهما فَخذ مِنْهَا درهما) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْمنْهَال ابْن جراج وَهُوَ أَبُو العطوف مَتْرُوك الحَدِيث، وَكَانَ ابْن إِسْحَاق يقلب اسْمه إِذا روى عَنهُ، وَعبادَة بن نسي لم يسمع من معَاذ. انْتهى. وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْمنْهَال بن الْجراح مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يكذب، وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: كَانَ مكذابا. وَفِي (الإِمَام) قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: مَتْرُوك الحَدِيث واهيه لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث ضَعِيف جدا. قلت: ذكر الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب ذكر الْخَبَر الَّذِي روى فِي وقص الْوَرق، ثمَّ اقْتصر عَلَيْهِ لكَون الْبَاب مَقْصُود الْبَيَان مَذْهَب خَصمه.
وَفِي الْبَاب حديثان: أَحدهمَا: ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب فرض الصَّدَقَة، وَهُوَ كِتَابه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الَّذِي بَعثه إِلَى الْيمن مَعَ عَمْرو بن حزم، وَفِيه: (وَفِي كل خمس أواقي من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا(8/259)
زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم) ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ مجود الْإِسْنَاد، وَرَوَاهُ جمَاعَة من الْحفاظ مَوْصُولا حسنا، وروى الْبَيْهَقِيّ عَن أَحْمد ابْن حَنْبَل أَنه قَالَ: أَرْجُو أَن يكون صَحِيحا. وَالثَّانِي: ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب لَا صَدَقَة فِي الْخَيل، من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَفَوْت لكم صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق، فَهَلُمُّوا صَدَقَة الرقة من كل أَرْبَعِينَ درهما، وَلَيْسَ فِي تسعين وَمِائَة شَيْء، فَإِذا بلغت مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم) ، وَقَالَ ابْن حزم: صَحِيح مُسْند، وروى ابْن أبي شيبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن عَاصِم الْأَحول عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: كتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى أبي مُوسَى: فَمَا زَاد على الْمِائَتَيْنِ فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) من وَجه آخر عَن أنس عَن عمر نَحوه، وَقَالَ صَاحب (التَّمْهِيد) : وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَالْحسن وَمَكْحُول وَعَطَاء وطاووس وَعَمْرو بن دِينَار وَالزهْرِيّ، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَذكر الْخطابِيّ الشّعبِيّ مَعَهم، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن مُحَمَّد الباقر رَفعه، قَالَ: (إِذا بلغت خمس أواقي فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم) . وَفِي (أَحْكَام) عبد الْحق قَالَ: روى أَبُو أَوْس عَن عبد الله وَمُحَمّد ابْني أبي بكر بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيهِمَا عَن جدهما عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كتب هَذَا الْكتاب لعَمْرو بن حزم حِين أمره على الْيمن. وَفِيه: الزَّكَاة لَيْسَ فِيهَا صَدَقَة حَتَّى تبلغ مِائَتي دِرْهَم، فَإِذا بلغت مِائَتي دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون الْأَرْبَعين صَدَقَة، وَالَّذِي عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَغَيرهم، وَفِي كل خمس أواقٍ من الْوَرق خَمْسَة دَرَاهِم، وَمَا زَاد فَفِي كل أَرْبَعِينَ درهما دِرْهَم، وَلَيْسَ فِيمَا دون خمس أواقٍ شَيْء، وروى أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي (كتاب الْأَمْوَال) : حَدثنَا يحيى بن بكير عَن اللَّيْث بن سعد عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس، قَالَ: ولاَّني عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الصَّدقَات فَأمرنِي أَن آخذ من كل عشْرين دِينَارا نصف دِينَار، وَمَا زَاد فَبلغ أَرْبَعَة دَنَانِير فَفِيهِ دِرْهَم، وَأَن آخذ من كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، فَمَا زَاد فَبلغ أَرْبَعِينَ درهما فَفِيهِ دِرْهَم، وَالْعجب من النَّوَوِيّ مَعَ وُقُوفه على هَذِه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَيفَ يَقُول: وَلأبي حنيفَة حَدِيث ضَعِيف. وَيذكر الحَدِيث الْمُتَكَلّم فِيهِ،. وَلم يذكر غَيره من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَبَقِي الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: مَسْأَلَة الضَّم، وَهُوَ أَن الْجُمْهُور يَقُولُونَ بِضَم الْفضة وَالذَّهَب بَعْضهَا إِلَى بعض فِي إِكْمَال النّصاب، وَبِه قَالَ مَالك إلاَّ أَنه يُرَاعِي الْوَزْن وَيضم على الْأَجْزَاء لَا على الْقيم، وَيجْعَل كل دِينَار كعشرة دَرَاهِم على الصّرْف الأول، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: يضم على الْقيم فِي وَقت الزَّكَاة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: لَا يضم مُطلقًا. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن الْغنم لَا تضم إِلَى الْإِبِل وَلَا إِلَى الْبَقر، وَأَن التَّمْر لَا يضم إِلَى الزَّبِيب، وَاخْتلفُوا فِي الْبر وَالشعِير. فَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا يضم وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخر، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ مَالك: يُضَاف الْقَمْح إِلَى الشّعير وَلَا يُضَاف القطاني إِلَى الْقَمْح وَالشعِير. وَالْآخر: مَسْأَلَة الْغِشّ، فَعِنْدَ أبي حنيفَة وصاحبيه: إِذا كَانَ الْغَالِب على الْوَرق الْفضة فهن فِي حكم الْفضة، وَإِن كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ الْغِشّ فَهِيَ فِي حكم الْعرُوض، يعْتَبر أَن تبلغ قيمتهَا نِصَابا فَلَا زَكَاة فِيهَا إلاَّ بِأحد الْأَمريْنِ إِن يبلغ مَا فِيهَا من الْفضة مِائَتي دِرْهَم أَو يكون للتِّجَارَة، وَقيمتهَا مِائَتَان، وَمَا زَاد على مِائَتي دِرْهَم فَفِي كل شَيْء مِنْهُ ربع عشره، قلَّ أَو كثر، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا شَيْء فِيمَا زَاد على الْمِائَتَيْنِ حَتَّى تبلغ الزِّيَادَة أَرْبَعِينَ درهما، فَإِذا بلغتهَا كَانَ فِيهَا ربع عشرهَا وَهُوَ دِرْهَم، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وطاووس وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَعَمْرو بن دِينَار وَالْأَوْزَاعِيّ، وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن يحيى بن أَيُّوب عَن حميد عَن أنس عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْفَصْل الثَّانِي: هُوَ قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة ذود صَدَقَة) وَفِيه: بَيَان أقل الْإِبِل الَّتِي تجب فِيهَا الزَّكَاة، فبيَّن أَنه لَا تجب الزَّكَاة، فبيّن أَنه لَا تجب الزَّكَاة فِي أقل من خمس ذود من الْإِبِل، فَإِذا بلغت خمْسا سَائِمَة وَحَال عَلَيْهَا الْحول فَفِيهَا شَاة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وَلَيْسَ فِيهِ خلاف، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ مفصلا عِنْده مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْفَصْل الثَّالِث: هُوَ قَوْله: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: أَن مَا أخرجته الأَرْض إِذا بلغ خَمْسَة أوسق تجب فِيهَا الصَّدَقَة، وَهِي الْعشْر، وَلَيْسَ فِيمَا دون ذَلِك شَيْء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: فِي كل مَا أخرجته الأَرْض قَلِيله وَكَثِيره الْعشْر، سَوَاء سقِِي سيحا أوسقته السَّمَاء إلاَّ الْقصب الْفَارِسِي والحطب والحشيش. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: وجوب الزَّكَاة فِي هَذِه المحدودات. وَالثَّانيَِة: أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون ذَلِك، وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي هَاتين إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الْحبّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل منابذ لصريح الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: هَذِه عبارَة سمجة وَلَا يَلِيق التَّلَفُّظ بهَا فِي حق إِمَام مُتَقَدم علما وفضلاً وزهدا وقربا أَي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار، لَا سِيمَا ذَلِك من شخص مَوْسُوم بَين النَّاس بِالْعلمِ الغزير والزهد الْكثير، والإنصاف فِي مثل هَذَا الْمقَام تَحْسِين الْعبارَة، وَهُوَ اللَّائِق لأهل الدّين، وَلَا يفحش الْعبارَة إلاَّ من يتعصب بِالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ هَذَا من الدّين، وَلم ينْسب النَّوَوِيّ بطلَان هَذَا الْمَذْهَب ومنابذة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لأبي حنيفَة وَحده، بل نسبه أَيْضا إِلَى بعض السّلف، وَالسَّلَف هم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهَذَا أَيْضا قَول زفر وَرِوَايَة عَن بعض التَّابِعين، فَإِن مَذْهَب هَؤُلَاءِ مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن معمر عَن سماك بن الْفضل عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: فِيمَا أنبتت الأَرْض من قَلِيل أَو كثير الْعشْر. وَأخرج نَحوه عَن مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. وَأخرج ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن هَؤُلَاءِ نَحوه، وَزَاد فِي حَدِيث(8/260)
النَّخعِيّ: حَتَّى فِي كل عشر دستجات بقل دستجة بقل، وَأما الَّذِي احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالنضح نصف الْعشْر) ، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِيمَا سقت الْأَنْهَار والغيم الْعشْر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف الْعشْر) . وَبِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَسْرُوق (عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الْيمن، فَأمرنِي أَن آخذ مِمَّا سقت السَّمَاء وَمَا سقِِي بعلا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالدر إِلَى نصف الْعشْر) . وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا مُطلقَة وَلَيْسَ فِيهَا فصل، وَالْمرَاد من لفظ: الصَّدَقَة، فِي حَدِيث الْبَاب: زَكَاة التِّجَارَة، لأَنهم كَانُوا يتبايعون بالأوساق، وَقِيمَة الوسق أَرْبَعُونَ درهما. وَمن الْأَصْحَاب من جعله مَنْسُوخا وَلَهُم فِي تَقْرِيره قَاعِدَة، فَقَالُوا: إِذا ورد حديثان أَحدهمَا عَام وَالْآخر خَاص فَإِن علم تَقْدِيم الْعَام على الْخَاص خص الْعَام بالخاص، كمن يَقُول لعَبْدِهِ: لَا تعط لأحد شَيْئا، ثمَّ قَالَ لَهُ: أعْط زيدا درهما. وَإِن علم تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام ينْسَخ الْخَاص بِالْعَام، كمن قَالَ لعَبْدِهِ: أعْط زيدا درهما، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا تعط لأحد شَيْئا، فَإِن هَذَا نَاسخ للْأولِ، هَذَا مَذْهَب عِيسَى بن أبان، رَحمَه الله تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمَأْخُوذ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي: هَذَا إِذا علم التَّارِيخ، أما إِذا لم يعلم فَإِن الْعَام يَجْعَل آخرا لما فِيهِ من الِاحْتِيَاط، وَهنا لم يعلم التَّارِيخ، فَجعل الْعَام آخرا احْتِيَاطًا. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: حجَّة أبي حنيفَة فِيمَا ذهب إِلَيْهِ عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} (الْبَقَرَة: 762) . وَقَوله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . وَالْأَحَادِيث الَّتِي تعلّقت بهَا أهل الْمقَالة الأولى أَخْبَار آحَاد فَلَا تقبل فِي مُقَابلَة الْكتاب. قَوْله: (فِيمَا سقت السَّمَاء) أَي: الْمَطَر. قَوْله: (أَو كَانَ عثريا) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء، وَهُوَ من النخيل الَّذِي يشرب بعروقه من مَاء الْمَطَر، يجْتَمع فِي حفيره. وَقيل: هُوَ الغدي: وَهُوَ الزَّرْع الَّذِي لَا يسْقِيه إلاَّ الْمَطَر، يُسمى بِهِ كَأَنَّهُ عثر على المَاء عثرا بِلَا عمل من صَاحبه، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى العثر وَلَكِن الْحَرَكَة من تغييرات النّسَب. قَوْله: (السانية) ، هِيَ النَّاقة الَّتِي يستقى عَلَيْهَا، وَقيل: هِيَ الدَّلْو الْعَظِيمَة وأدواتها الَّتِي تستقي بهَا، ثمَّ سميت الدَّوَابّ سواني لاستقائها. قَوْله: (بعلا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وَهُوَ مَا كَانَ من الْكَرم قد ذهب عروقه فِي الأَرْض إِلَى المَاء فَلَا يحْتَاج إِلَى السَّقْي لخمس سِنِين، وَلست سِنِين، وانتصابه على الْحَال بالتأويل كَمَا تَقول: جَاءَنِي زيد أسدا، أَي: شجاعا، وَالْأَظْهَر أَنه نصب على التَّمْيِيز، والدوالي جمع دالية وَهِي المنجنون الَّتِي يديرها الثور.
6041 - حدَّثنا عَلِيٌّ سَمِعَ هُشَيْما قَالَ أخبرنَا حُصيْنٌ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فإذَا أَنا بِأبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هاذا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأمِ فاخْتَلَفْتُ أَنا وَمُعَاوِيَةُ فِي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله. قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أهْلِ الكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وفِيهِمْ فَكانَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كأنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذالِك فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتُ قَرِيبا فذَاكَ الَّذِي أنْزَلَنِي هاذَا المَنْزِلِ وَلَوْ أمَّرُوا عَلِيَّ حَبَشِيَّا لَسَمِعْتُ وأطَعْتُ.
(الحَدِيث 6041 طرفه فِي: 0664) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا فِيمَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَمَفْهُوم الْآيَة كَذَلِك إِذا أدّى زَكَاة الذَّهَب وَالْفِضَّة لَا يكون مَا ملكه كنزا، فَلَا يسْتَحق الْوَعيد الَّذِي يسْتَحقّهُ من يكنزه وَلَا يُؤَدِّي زَكَاته.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ، بِغَيْر نِسْبَة، اخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ عَليّ بن أبي هَاشم عبيد الله بن الطبراخ، بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة(8/261)
وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة. قَالَ الجياني: نسبه أَبُو ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، فَقَالَ: عَليّ بن أبي هَاشم، وَقيل: هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُسلم بن سعيد الطوسي نزيل بَغْدَاد، وَقَالَ بَعضهم: وَقع فِي أَطْرَاف الْمزي عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ، وَهُوَ خطأ. قلت: هَذِه مجازفة فِي تخطئة مثل هَذَا الْحَافِظ، وَقد قَالَ الكلاباذي وَابْن طَاهِر: هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، ذكره الطرقي. الثَّانِي: هشيم، بِالتَّصْغِيرِ: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْقَاسِم بن دِينَار. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد المهملتيين: عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، يكنى أَبَا الْهُذيْل، مر فِي أَوَاخِر كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة. الرَّابِع: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. الْخَامِس: أَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل سؤالاً وجوابا. وَفِيه: أَن شَيْخه غير مَذْكُور بنسبته، فإمَّا بغدادي إِن كَانَ هُوَ: عَليّ بن أبي هَاشم، وَإِمَّا طوسي، إِن كَانَ عَليّ بن مُسلم، وَإِمَّا مدنِي إِن كَانَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ. وَفِيه: سمع هشيما وَهُوَ بِالْألف، وَفِي بعض النّسخ: هشيم، بِدُونِ الْألف، وَهُوَ اللُّغَة الربيعية حَيْثُ يقفون على الْمَنْصُوب الْمنون بِالسُّكُونِ فَلَا يحْتَاج الْكَاتِب بلغتهم إِلَى الْألف، وهشيم واسطي وَأَصله من بَلخ، وحصين كُوفِي وَزيد بن وهب من التَّابِعين الْكِبَار المخضرمين من قضاعة، وَهُوَ أَيْضا كُوفِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة عَن جرير، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن زنبور عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالربذة) ، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة: مَوضِع على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حماها لإبل الصَّدَقَة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: هِيَ قَرْيَة من قرى الْمَدِينَة. وَقَالَ الْحَازِمِي: من منَازِل الْحَاج بَين السليلة والعمق. قَوْله: (فَإِذا أَنا بِأبي ذَر) ، كلمة: إِذا للمفاجأة، وَالْبَاء فِي: أبي ذَر، للمصاحبة. قَوْله: (كنت بِالشَّام) ، أَي: بِدِمَشْق. قَوْله: (نزلت فِي أهل الْكتاب) ، وَفِي رِوَايَة جرير: (مَا هَذِه فِينَا) . قَوْله: (فَكَانَ بيني وَبَينه فِي ذَلِك) ، أَي: كَانَ نزاع بيني وَبَين مُعَاوِيَة فِيمَن نزل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة. .} (التَّوْبَة: 43) . الْآيَة، فمعاوية نظر إِلَى سِيَاق الْآيَة فَإِنَّهَا نزلت فِي الْأَحْبَار والرهبان الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة، وَأَبُو ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نظر إِلَى عُمُوم الْآيَة، وَإِن من لَا يرى أداءها مَعَ أَنه يرى وُجُوبهَا يلْحقهُ هَذَا الْوَعيد الشَّديد. وَكَانَ مُعَاوِيَة فِي ذَلِك الْوَقْت عَامل عُثْمَان على دمشق، وَقد بيَّن سَبَب سُكْنى أبي ذَر بِدِمَشْق مَا رَوَاهُ أَبُو يعلى من طرق أُخْرَى، عَن زيد بن وهب: حَدثنِي أَبُو ذَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا بلغ الْبناء) أَي بِالْمَدِينَةِ: (سلعا فارتحل إِلَى الشَّام، فَلَمَّا بلغ الْبناء سلعا قدمت الشَّام فَكنت بهَا. .) فَذكر الحَدِيث نَحوه، وروى أَبُو يعلى أَيْضا بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: اسْتَأْذن أَبُو ذَر على عُثْمَان فَقَالَ: إِنَّه يؤذينا، فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ عُثْمَان: أَنْت الَّذِي تزْعم أَنَّك خير من أبي بكر؟ قَالَ: لَا وَلَكِن سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِن أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني من بَقِي على الْعَهْد الَّذِي عاهدته عَلَيْهِ، وَأَنا بَاقٍ على عَهده. قَالَ: فَأمره أَن يلْحق بِالشَّام، فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ وَيَقُول: لَا يبيتن عِنْد أحدكُم دِينَار وَلَا دِرْهَم إلاَّ مَا يُنْفِقهُ فِي سَبِيل الله أَو يعده لغريم، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان: إِن كَانَ لَك بِالشَّام حَاجَة فَابْعَثْ إِلَى أبي ذَر، فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان أَن أقدم عَليّ، فَقدم) . وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا كتب مُعَاوِيَة يشكو أَبَا ذَر لِأَنَّهُ كَانَ كثير الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ والمنازعة لَهُ، وَكَانَ فِي جَيْشه ميل إِلَى أبي ذَر، فأقدمه عُثْمَان خشيَة الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ رجلا لَا يخَاف فِي الله لومة لائم، وَقَالَ الْمُهلب: وَكَانَ هَذَا من توقير مُعَاوِيَة لَهُ، إِذْ كتب فِيهِ إِلَى السُّلْطَان الْأَعْظَم، لِأَنَّهُ مَتى أخرجه كَانَت وصمة عَلَيْهِ. قَوْله: (أَن أقدم) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة، وبلفظ الْمُضَارع، وبلفظ الْأَمر. قَوْله: (فَكثر عَليّ النَّاس حَتَّى كَأَنَّهُمْ لم يروني) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: (أَنهم كَثُرُوا عَلَيْهِ يسألونه عَن سَبَب خُرُوجه من الشَّام، قَالَ: فخشي عُثْمَان على أهل الْمَدِينَة خشيَة مُعَاوِيَة على أهل الشَّام) . وَقَالَ ابْن بطال: وَلما قدم أَبُو ذَر الْمَدِينَة اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس يسألونه عَن الْقِصَّة، وَمَا جرى بَينه وَبَين مُعَاوِيَة، فَلَمَّا رأى أَبُو ذَر ذَلِك خَافَ أَن يعاتبه عُثْمَان فِي ذَلِك، فَذكر لَهُ كَثْرَة النَّاس وتعجبهم من حَاله كَأَنَّهُمْ لم يروه قطّ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: إِن كنت تخشى وُقُوع فتْنَة فاسكن مَكَانا قَرِيبا من الْمَدِينَة، فَنزل الربذَة، وَهُوَ معنى(8/262)
قَوْله إِن شِئْت تنحيت، من التنحي، وَهُوَ التباعد. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: (فَقَالَ لَهُ: تَنَح قَرِيبا. قَالَ: وَالله لن أدع مَا كنت أقوله) . وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق وَرْقَاء عَن حُصَيْن بِلَفْظ: (فوَاللَّه لَا أدع مَا قلت) . قَوْله: (وَلَو أمروا عَليّ) من التأمير. قَوْله: (حَبَشِيًّا) ، وَفِي رِوَايَة وَرْقَاء (عبدا حَبَشِيًّا) ، أَرَادَ لَو أَمر الْخَلِيفَة عبدا حَبَشِيًّا لسمعت أمره وأطعت قَوْله، وروى أَحْمد وَأَبُو يعلى من طَرِيق أبي حَرْب بن أبي الْأسود عَن عَمه عَن أبي ذَر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: (كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهُ؟) أَي: من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟ (قَالَ: آتِي الشَّام. قَالَ: كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهَا؟ قَالَ أَعُود إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الْمَسْجِد النَّبَوِيّ. (قَالَ: كَيفَ تصنع إِذا أخرجت مِنْهُ؟ قَالَ أضْرب بسيفي. قَالَ: أَلا أدلك على مَا هُوَ خير لَك من ذَلِك وَأقرب رشدا؟ تسمع وتطيع وتنساق لَهُم حَيْثُ ساقوك) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْأَخْذ للْإنْسَان بالشدة فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى فِرَاق وَطنه. وَفِيه: أَنه يجوز للْإِمَام أَن يخرج من يتَوَقَّع بِبَقَائِهِ فتْنَة بَين النَّاس. وَفِيه: ترك الْخُرُوج على الْأَئِمَّة والانقياد لَهُم، وَإِن كَانَ الصَّوَاب فِي خلافهم. وَفِيه: جَوَاز الِاخْتِلَاف وَالِاجْتِهَاد فِي الآراء، أَلا ترى أَن عُثْمَان وَمن كَانَ بِحَضْرَتِهِ من الصَّحَابَة لم يردوا أَبَا ذَر عَن مذْهبه، وَلَا قَالُوا: إِنَّه لَا يجوز لَك اعْتِقَاد قَوْلك، لِأَن أَبَا ذَر نزع بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ، وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أحب أَن لي مثل أحد ذَهَبا أنفقهُ كُله إلاَّ ثَلَاثَة دَنَانِير. .) وَذَلِكَ حِين أنكر على أبي هُرَيْرَة نصل سَيْفه اسْتشْهد على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ترك صفراء أَو بَيْضَاء كوي بهَا) . وَهَذَا حجَّة فِي أَن الِاخْتِلَاف فِي الْعلم باقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يرْتَفع إلاَّ بِالْإِجْمَاع، وَفِيه ملاطفة الْأَئِمَّة الْعلمَاء فَإِن مُعَاوِيَة لم يَجْسُر على الْإِنْكَار على أبي ذَر حَتَّى كَاتب من هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِي أَمر دينه. وَفِيه: أَن عُثْمَان لم يخف على أبي ذَر مَعَ كَونه مُخَالفا لَهُ فِي تَأْوِيله.
7041 - حدَّثنا عَيَّاشٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلى قَالَ حدَّثنا الجُرَيْرِيُّ عنْ أبِي العَلاَءِ عنِ الأحْنَفِ ابنِ قَيْسٍ. قَالَ جَلَسْتُ (ح) وحدَّثني إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الصَّمَدِ. قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حَدثنَا الجرَيْرِيُّ قَالَ حَدثنَا أبُو العَلاءِ بنُ الشِّخِّيرِ أنَّ الأحْنَفَ بنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ. قَالَ جَلَسْت إلَي مَلاَءٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ والثِّيَابِ وَالهَيْئَةِ حَتَّى قامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرِ الكانِزِينَ بِرَضْفٍ يَحْمَى عَلَيْهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ علَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ويُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سارِيَةٍ وتَبِعْتُهُ وجَلَسْتُ إلَيْهِ وَأنَا لَا أدْرِي منْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ لاَ أُرَى القَوْمَ إلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئا. قَالَ لِي خَلِيلِي قَالَ قُلْتُ مَنْ خَلِيلُكَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أبَا ذَرٍّ أتُبْصِرُ أُحُدا قَالَ فَنَظَرْتُ إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأنَا أُرَى أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرْسِلُنِي فِي حاجَةٍ لَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إلاَّ ثَلاَثَةَ دَنانِيرَ وَإنَّ هاؤُلاءِ لاَ يَعْقِلُونَ إنَّما يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ وَالله لاَ أسْألُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أسْتَفْتِيهِمْ عنْ دِينٍ حَتَّى ألقَى الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه وَعِيد للكانزين الَّذين لَا يؤدون الزَّكَاة، وَيفهم مِنْهُ الَّذِي يُؤَدِّيهَا لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الكانز الْمُسْتَحق للوعيد، وَلَا الَّذِي مَعَه يُسمى كنزا، لِأَنَّهُ أدّى زَكَاته فَدخل تَحت التَّرْجَمَة من هَذَا الْوَجْه. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ مر فِي كتاب الْغسْل فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى أَبُو مُحَمَّد السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة. الثَّالِث: سعيد(8/263)