يُؤذن غير أَذَان وَاحِد) ، وَفِيه أَيْضا عَن الْحسن: (النداء الأول يَوْم الْجُمُعَة الَّذِي يكون عِنْد خُرُوج الإِمَام، وَالَّذِي يكون قبل ذَلِك مُحدث) . وَكَذَا قَالَ ابْن عمر فِي رِوَايَة عَنهُ: الْأَذَان الأول يَوْم الْجُمُعَة بِدعَة، وَعَن الزُّهْرِيّ: أول من أحدث الْأَذَان الأول عُثْمَان، يُؤذن لأهل الْأَسْوَاق. وَفِي لفظ: (فأحدث عُثْمَان التأذينة الثَّالِثَة على الزَّوْرَاء ليجتمع النَّاس) . وَوَقع فِي (تَفْسِير جُوَيْبِر) : عَن الضَّحَّاك عَن برد بن سِنَان عَن مَكْحُول (عَن معَاذ بن عمر، هُوَ الَّذِي زَاد: فَلَمَّا كَانَت خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكثر السلمون أَمر مؤذنين أَن يؤذنا للنَّاس بِالْجمعَةِ خَارِجا فِي الْمَسْجِد حَتَّى يسمع النَّاس الْأَذَان، وَأمر أَن يُؤذن بَين يَدَيْهِ كَمَا كَانَ يفعل الْمُؤَذّن بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين يَدي أبي بكر، ثمَّ قَالَ عمر أما الْأَذَان الأول فَنحْن ابتدعناه لِكَثْرَة الْمُسلمين فَهُوَ سنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاضِيَة) . وَقيل: إِن أول من أحدث الْأَذَان الأول بِمَكَّة: الْحجَّاج، وبالبصرة: زِيَاد. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان) أَرَادَ أَنه لما صَار خَليفَة. قَوْله: (وَكثر النَّاس) أَي: بِمَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة الْمَاجشون، وَظَاهر هَذَا أَن عُثْمَان أَمر بذلك فِي ابْتِدَاء خِلَافَته، لَكِن فِي رِوَايَة أبي حَمْزَة عَن يُونُس عِنْد أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) أَن ذَلِك كَانَ بعد مُضِيّ مُدَّة خِلَافَته. قَوْله: (زَاد النداء الثَّالِث) إِنَّمَا سمي ثَالِثا بِاعْتِبَار كَونه مزيدا، لِأَن الأول هُوَ الْأَذَان عِنْد جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر، وَالثَّانِي هُوَ الْإِقَامَة للصَّلَاة عِنْد نُزُوله، وَالثَّالِث عِنْد دُخُول وَقت الظّهْر فَإِن قلت: هُوَ الأول لِأَنَّهُ مقدم عَلَيْهِمَا قلت: نعم هُوَ أول فِي الْوُجُود، وَلكنه ثَالِث بِاعْتِبَار شرعيته بِاجْتِهَاد عُثْمَان وموافقة سَائِر الصَّحَابَة بِهِ بِالسُّكُوتِ وَعدم الْإِنْكَار، فَصَارَ إِجْمَاعًا سكوتيا وَإِنَّمَا أطلق الْأَذَان على الْإِقَامَة لِأَنَّهَا إِعْلَام كالأذان، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَين كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ) . وَيَعْنِي بِهِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَإِنَّمَا أولناه هَكَذَا حَتَّى لَا يلْزم أَن يكون الْأَذَان ثَلَاثًا، وَلم يكن كَذَلِك، وَلَا يلْزم أَيْضا أَن يكون فِي الزَّمن الأول أذانان، وَلم يكن إلاّ أَذَان وَاحِد، فالأذان الثَّالِث الَّذِي زَاده عُثْمَان هُوَ الأول الْيَوْم، فَيكون الأول: هُوَ الْأَذَان الَّذِي كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزمن أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عِنْد الْجُلُوس على الْمِنْبَر، وَالثَّانِي: هُوَ الْإِقَامَة. وَالثَّالِث: الْأَذَان الَّذِي زَاده عُثْمَان، فَأذن بِهِ على الزَّوْرَاء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قيل اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث على الْجُلُوس على الْمِنْبَر قبل الْخطْبَة، قَالَ بَعضهم: خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) قَوْله: (إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر) هَذَا سنة، وَعَلِيهِ عَامَّة الْعلمَاء، خلافًا لأبي حنيفَة، كَذَا قَالَه ابْن بطال وَتَبعهُ ابْن التِّين. وَقَالا: خَالف الحَدِيث قلت: هما خالفا الحَدِيث حَيْثُ نسبا إِلَيْهِ مَا لم يقل، لِأَن مذْهبه مَا ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) . وَإِذا صعد الإِمَام على الْمِنْبَر جلس وَأذن الْمُؤَذّن بَين يَدي الْمِنْبَر، بذلك جرى التَّوَارُث. انْتهى. وَاخْتلف أَن جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر قبل الْخطْبَة هَل هُوَ للأذان أَو لراحة الْخَطِيب؟ فعلى الأول لَا يسن فِي الْعِيد، لِأَنَّهُ لَا أَذَان لَهُ. وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْأَذَان قبل الْخطْبَة وَأَن الْخطْبَة قبل الصَّلَاة. وَمِنْه: أَن التأذين كَانَ بِوَاحِد، وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلف الْفُقَهَاء هَل يُؤذن بَين يَدي الإِمَام وَاحِد أَو مؤذنون؟ فَذكر ابْن عبد الحكم عَن مَالك: إِذا جلس على الْمِنْبَر ونادى الْمُنَادِي منع النَّاس من البيع تِلْكَ السَّاعَة، هَذَا يدل على أَن النداء عِنْده وَاحِد بَين يَدي الإِمَام، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي، وَيشْهد لَهُ حَدِيث السَّائِب: (لم يكن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بِلَالًا لمواظبته على الْأَذَان دون ابْن أم مَكْتُوم وَغَيره، وَعَن ابْن الْقَاسِم، عَن مَالك: إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر وَأخذ المؤذنون فِي الْأَذَان حرم البيع، فَذكر المؤذنون بِلَفْظ الْجَمَاعَة، وَيشْهد لهَذَا حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ: (أَنهم كَانُوا فِي زمن عمر بن الْخطاب يصلونَ يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى يخرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَجلسَ على الْمِنْبَر وَأذن المؤذنون. .) الحَدِيث، وَهَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، قَالَ ابْن عمر: وَمَعْلُوم عِنْد النَّاس أَنه جَائِز أَن يكون المؤذنون وَاحِدًا وَجَمَاعَة فِي كل صَلَاة إِذا كَانَ ذَلِك مترادفا لَا يمْنَع من إِقَامَة الصَّلَاة فِي وَقتهَا، وَعَن الدَّاودِيّ: كَانُوا يُؤذنُونَ فِي أَسْفَل الْمَسْجِد لَيْسُوا بَين يَدي الإِمَام، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جعل من يُؤذن على الزَّوْرَاء، وَهِي كالصومعة، فَلَمَّا كَانَ هِشَام جعل المؤذنين أَو بَعضهم يُؤذنُونَ بَين يَدَيْهِ، فصاروا ثَلَاثَة، فَسُمي فعل عُثْمَان ثَالِثا لذَلِك. فَإِن قلت: قد مر عَن السَّائِب: (لم يكن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (لم يكن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن غير وَاحِد) ، فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ يُؤذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلذَلِك قَالَ: (فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تسمعوا(6/211)
تأذين ابْن أم مَكْتُوم) ، وَكَانَ من مؤذنيه أَيْضا سعد الْقرظ وَأَبُو مَحْذُورَة والْحَارث الصدائي، فَمَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: أَرَادَ السَّائِب بقوله: (لم يكن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مُؤذن وَاحِد) ، يَعْنِي فِي الْجُمُعَة، فَلم ينْقل أَن غَيره كَانَ يُؤذن للْجُمُعَة، فَالَّذِي ورد عَنهُ التأذين يَوْم الْجُمُعَة، بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم ينْقل أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ يُؤذن للْجُمُعَة. وَأما سعد الْقرظ فَكَانَ جعله مُؤذنًا بقباء، وَأما أَبُو مَحْذُورَة جعله مُؤذنًا بِمَكَّة، شرفها الله تَعَالَى، وَأما الْحَارِث، فَإِنَّهُ تعلم الْأَذَان حَتَّى يُؤذن لِقَوْمِهِ.
قَالَ أبُو عُبَيْدِ الله الزَّوْرَاءُ مَوْضِعٌ بالسُّوقِ بالمَدِينَةِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، والزوراء، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا رَاء ممدودة، وَقد فَسرهَا البُخَارِيّ بقوله: مَوضِع بِالسوقِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ حجر كَبِير عِنْد بَاب الْمَسْجِد. قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ ممدودة ومتصلة بِالْمَدِينَةِ، وَبهَا كَانَ مَال أحيحة بن الجلاح، وَهِي الَّتِي عنيت بقوله:
(إِنِّي مُقيم على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الْكَرِيم على الإخوان ذُو المَال)
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَمَوِيّ: هِيَ قرب الْجَامِع مُرْتَفعَة كالمنارة، وَيفرق بَينهَا وَبَين أَرض أحيحة وَفِي (فَتَاوَى ابْن يَعْقُوب الخاصي) : هِيَ المأذنة، وَفِيه نظر. وَلم يكن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مأذنة الَّتِي يُقَال لَهَا: المنارة، نعم كل مَوضِع مُرْتَفع عَال يشبه بالمنارة، وَعند ابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة بِلَفْظ: (زَاد النداء الثَّالِث على دَار فِي السُّوق يُقَال لَهَا: الزَّوْرَاء) ، وَعند الطَّبَرَانِيّ: (فَأمر بالنداء الأول على دَار لَهُ يُقَال لَهَا الزَّوْرَاء) .
22 - (بابٌ المُؤَذِّنُ الوَاحِدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: الْمُؤَذّن الْوَاحِد يَوْم الْجُمُعَة، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا رقي الْمِنْبَر وَجلسَ أذن المؤذنون، وَكَانُوا ثَلَاثَة وَاحِدًا بعد وَاحِد، فَإِذا فرغ الثَّالِث قَامَ فَخَطب) . وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْن حبيب.
913 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سَلَمَةَ المَاجِشُونُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ أنَّ الَّذِي زَادَ التَّأذِينَ الثَّالِثَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حينَ كَثُرَ أهْلُ المَدِينَةِ ولَمْ يَكُنْ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذِّنٌ غَيْرُ وَاحِدٍ وكانَ التَّأذِينْ يوْمَ الجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمامُ يَعْنِي عَلَى المِنْبَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث أخرجه فِي الْبَاب الَّذِي قبله عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَأخرجه هَهُنَا لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة للزِّيَادَة الَّتِي فِيهِ، وَهِي قَوْله: (وَلم يكن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن غير وَاحِد) ، عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن عبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة، بِفَتْح اللَّام الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.
وَفِيه أَن عُثْمَان هُوَ الَّذِي زَاد الْأَذَان الثَّالِث الَّذِي هُوَ الأول فِي الْوُجُود، كَمَا ذكرنَا وَجهه مستقصىً وَذكرنَا أَيْضا وَجه قَوْله: (وَلم يكن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذن غير وَاحِد) . وَفِيه: أَن الْمُسْتَحبّ أَن يجلس الإِمَام على الْمِنْبَر بعد صُعُوده، إِمَّا للأذان أَو للاستراحة، كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وَأَن الْمُسْتَحبّ الْخطْبَة على الْمِنْبَر، فَإِن لم يكن فعلى مَوضِع عَال مشرفٍ، وَسمي الْمِنْبَر أَيْضا بِهِ لِأَنَّهُ من النبر وَهُوَ الِارْتفَاع، وَالْقِيَاس فِيهِ فتح الْمِيم، وَلَكِن المسموع كسرهَا. فَافْهَم.
23 - (بابٌ يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى المِنْبَرِ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته يُجيب الإِمَام وَهُوَ على الْمِنْبَر إِذا سمع النداء أَي: الْأَذَان، وَإِنَّمَا أطلق الْأَذَان عَلَيْهِ. وَإِن كَانَ جَوَابا لَهُ، لِأَن صورته صُورَة الْأَذَان. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: يُؤذن، بدل: يُجيب، فَكَأَنَّهُ سَمَّاهُ أذانا لكَونه بِلَفْظِهِ.(6/212)
914 - حدَّثنا بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا أَبُو بَكْرِ بنُ عُثْمَانَ بنُ سَهلِ بنِ حُنَيْفٍ عَن أبي أمامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بنَ أبِي سُفْيَانَ وَهْوَ جالِسٌ عَلى المِنْبَرِ أذَّنَ المُؤذنُ قَالَ ألله أكبرُ الله أكبرُ قَالَ مُعَاوِيةُ الله أكبرُ الله أكْبَرُ قالَ أشهَدُ أنُ لَا إلَهَ إلاَّ الله فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأنا فَقَالَ أشهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رَسولُ الله فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَأَنا فلَمَّا أنْ قَضَى التَّأذِين قَالَ يَا أيُّها النَّاسُ إنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى هَذَا المَجْلِسِ حِينَ أذَّنَ المُؤَذَّنُ يقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي. (انْظُر الحَدِيث 612 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي المجاور بِمَكَّة، ثِقَة صَاحب حَدِيث، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: أَبُو بكر بن عُثْمَان بن سهل بن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء. الرَّابِع: أَبُو أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة: واسْمه أسعد بن سهل بن حنيف. الْخَامِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، واسْمه: صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه، وَهِي رِوَايَة أبي بكر عَن أبي أُمَامَة. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: عَن أبي أُمَامَة. وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة. وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة مروزيان والاثنان مدنيان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور. وَأخرج البُخَارِيّ أَيْضا حَدِيث أبي أُمَامَة بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: فِي بَاب وَقت الْعَصْر، وتكلمنا فِي حَدِيث الْبَاب مستقصىً فِي: بَاب مَا يَقُول إِذا سمع الْمُنَادِي.
قَوْله: (وَهُوَ جَالس على الْمِنْبَر) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أَنا) أَي: وَأَنا أشهد أَيْضا بِهِ، أَو وَأَنا أَيْضا أَقُول مثله. قَوْله: (فَلَمَّا أَن قضى) كلمة: أَن، زَائِدَة وَسَقَطت فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَمَعْنَاهُ: فَلَمَّا فرغ. وَفِي راية الْكشميهني: (فَلَمَّا أَن انْقَضى) أَي: انْتهى.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: تعلم الْعلم وتعليمه من الإِمَام وَهُوَ على الْمِنْبَر. وَفِيه: إِجَابَة الْخَطِيب للمؤذن وَهُوَ على الْمِنْبَر. وَفِيه: قَول الْمُجيب: وَأَنا كَذَلِك، وَنَحْوه. وَظَاهره أَن هَذَا الْمِقْدَار يَكْفِي، وَلَكِن الأولى أَن يَقُول مثل قَول الْمُؤَذّن. وَفِيه: إِبَاحَة الْكَلَام قبل الشُّرُوع فِي الْخطْبَة. وَفِيه: الْجُلُوس قبل الْخطْبَة.
24 - (بابُ الجُلُوسِ عَلَى المِنْبَرِ عِنْدَ التَّأذِينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جُلُوس الْخَطِيب على الْمِنْبَر عِنْد التأذين، أَي: عِنْد الْأَذَان أَو عِنْد تأذين الْمُؤَذّن بَين يَدَيْهِ.
915 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيثُ عَن عُقَيلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ السَّائبَ ابنَ يزِيدَ أخبرَهُ أنَّ التَّأذينَ الثَّاني يَومَ الجُمُعَةِ أمرَ بهِ عُثمانُ حِينَ كثُرَ أهْلُ المسْجدِ وكانَ التأذِينُ يومَ الجُمُعة حينَ يَجلِس الإمامُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ التأذين يَوْم الْجُمُعَة. .) إِلَى آخِره. وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول: بَاب التأذين يَوْم الْجُمُعَة حِين يجلس الإِمَام على الْمِنْبَر، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، و: عقيل، بِضَم الْعين الْمُهْملَة: ابْن خَالِد، وَقد تقدم مَا فِيهِ من المباحث.
52 - (بابُ التَّأذِينِ عِنْدَ الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التأذين عِنْد الْخطْبَة أَي: قبلهَا عِنْد إرادتها.(6/213)
916 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ يَقُولُ إنَّ الأذَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ كانَ أوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإمامُ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فلَمَّا كانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وكَثَرُوا أمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِالأذَانِ الثَّالِثِ فَأذِنَ بهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ فثَبَتَ الأمرُ علَى ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حِين يجلس الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَيُونُس ابْن يزِيد. قَوْله: (كَانَ أَوله) ، أَي: أول الْأَذَان أَي: قبل أَمر عُثْمَان بِهِ. قَوْله: (وكثروا) أَي: النَّاس. قَوْله: (أَمر) جَوَاب: (فَلَمَّا) . قَوْله: (بِالْأَذَانِ الثَّالِث) قد مر وَجه ذَلِك، وتسميته بالثالث. قَوْله: (فَأذن بِهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التأذين. قَوْله: (فَثَبت الْأَمر) أَي: أَمر الْأَذَان على ذَلِك، أَي: على أذانين وَإِقَامَة كَمَا أَن الْيَوْم الْعَمَل عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَمْصَار اتبَاعا للخلف وَالسَّلَف.
26 - (بابُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخطْبَة على الْمِنْبَر، يَعْنِي مشروعيتها عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لم يقل يَوْم الْجُمُعَة ليتناول الْجُمُعَة وَغَيرهَا.
وَقَالَ أنسٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ خطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى المِنْبَرِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام، وَفِي الْفِتَن مطولا، وَفِيه قصَّة عبد الله بن حذافة، وَحَدِيث أنس أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء فِي قصَّة الَّذِي قَالَ: هلك المَال، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
917 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ القَارِيُّ القُرَشِيُّ اْلإسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو حازِمِ بنُ دِينارٍ أنَّ رِجالاً أتَوْا سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وقَدِ امْتَرَوْا فِي المِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ فَسَألُوهُ عنْ ذالِكَ فقالَ وَالله إِنِّي لاَعْرِفُ مِمَّا هُوَ ولَقَدْ رَأَيْتُهُ أوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ يَوْمَ جَلَسَ عَلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى فُلاَنَةَ امْرَأةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أنْ يَعْمَلَ لِي أعْوَادا أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفاءِ الغَابَةِ ثُمَّ جاءَ بِهَا إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هاهُنا ثُمَّ رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى عَلَيْهَا وكَبَّرَ وَهْوَ عَلَيْهَا ثُمَّ رَكعَ وَهْوَ عَلَيْهَا ثُمَّ نَزَلَ القَهْقَرَى فَسَجدَ فِي أصْلِ المِنْبَرِ ثُمَّ عادَ فَلَمَّا فَرَغَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فقالَ أيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا صَنَعْتُ هذَا لتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعَلَّمُوا صَلاتِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا كلمت النَّاس) إِذْ الْعَادة أَن الْخَطِيب لَا يتَكَلَّم على الْمِنْبَر، إِلَّا بِالْخطْبَةِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن هُوَ الْقَارِي، بِالْقَافِ وبالراء المخففة وبياء النِّسْبَة إِلَى القارة، وَهِي قَبيلَة. وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْقرشِي، لِأَنَّهُ حَلِيف بني زهرَة، و: الْمدنِي، لِأَن أَصله من الْمَدِينَة، و: الاسكندراني لِأَنَّهُ سكن فِيهَا وَمَات بهَا سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي، واسْمه سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج. الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ بلخي، والإثنان مدنيان، والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، جَمِيعهم عَن قُتَيْبَة.(6/214)
ذكر مَعْنَاهُ: قد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر والسطوح والخشب، وَلَكِن نذْكر هَهُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ زِيَادَة للْبَيَان وَإِن وَقع فِيهِ بعض تكْرَار، فَنَقُول: قَوْله: (إِن رجَالًا) لم يسموا من هم. قَوْله: (وَقد امتروا) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من: الامتراء. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ الشَّك، وَقَالَ بَعضهم: من المماراة: وَهِي المجادلة، وَالَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب. قَوْله: (وَالله إِنِّي لَا أعرف مِمَّا هُوَ) أَي: من أَي شَيْء هُوَ، أَي: عوده، وَإِنَّمَا أَتَى بالقسم مؤكدا بِالْجُمْلَةِ الإسمية وبكلمة: أَن، الَّتِي للتحقيق، وبلام التَّأْكِيد فِي الْخَبَر لإِرَادَة التَّأْكِيد فِيمَا قَالَه للسامع. قَوْله: (وَلَقَد رَأَيْته أول يَوْم وضع) أَي: لقد رَأَيْت الْمِنْبَر فِي أول يَوْم وضع فِي مَوْضِعه، وَهُوَ زِيَادَة على السُّؤَال، وَكَذَا قَوْله: (وَأول يَوْم جلس عَلَيْهِ) ، أَي: أول يَوْم جلس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، وَفَائِدَة هَذِه الزِّيَادَة الْمُؤَكّدَة بِاللَّامِ وَكلمَة: قد للإعلام بِقُوَّة مَعْرفَته بِمَا سَأَلُوهُ. قَوْله: (ارسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الى آخِره شرح جَوَابه لَهُم وَبَيَانه فَلذَلِك فَصله عَمَّا قبله وَلم يذكرهُ بعطف قَوْله (إِلَى فُلَانَة) ، فلَان للمذكر وفلانة للمؤنث، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ خَاص غاالب، وَيُقَال فِي غير النَّاس الفلان والفلانة، وَالْمَانِع من صرفه، وجود العلتين: العلمية والتأنيث. وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الصَّلَاة على الْمِنْبَر، مَا قَالُوا فِي إسمها، وَكَذَلِكَ ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي صانع الْمِنْبَر على أَقْوَال كَثِيرَة مستقصاة، وَفِي حَدِيث سهل الْمَذْكُور وَهُنَاكَ: عمله فلَان مولى فُلَانَة، وَهَهُنَا قَوْله: (مري غلامك) تَقْدِيره: أرسل إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: مري غلامك، وَهُوَ أَمر من: أَمر يَأْمر، وَأَصله: أؤمري، على وزن افعلي، فاجتمعت همزتان فنقلتا فحذفت الثَّانِيَة واستغنيت عَن همزَة الْوَصْل فَصَارَ مري على وزن: عَليّ، لِأَن الْمَحْذُوف فَاء الْفِعْل. قَوْله: (غلامك النجار) بِنصب النجار لِأَنَّهُ صفة للغلام، وَقد سَمَّاهُ عَبَّاس بن سهل بِأَن اسْمه مَيْمُون، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من رَوَاهُ، وَيُقَال اسْمه: مينا، ذكره إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَبِيه، قَالَ: عمل الْمِنْبَر غُلَام لامْرَأَة من الْأَنْصَار من بني سَلمَة أَو بني سَاعِدَة أَو امْرَأَة لرجل مِنْهُم يُقَال لَهُ مينا. وأشبه الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي صانع الْمِنْبَر بِالصَّوَابِ قَول من قَالَ: هُوَ مَيْمُون، لكَون الْإِسْنَاد فِيهِ من طَرِيق سهل بن سعد، وَبَقِيَّة الْأَقْوَال بأسانيد ضَعِيفَة بل فِيهَا شَيْء واه.
فَإِن قلت: كَيفَ يكون طَرِيق الْجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال وَهِي سَبْعَة على مَا ذكرنَا فِي: بَاب الصَّلَاة على الْمِنْبَر؟ قلت: لَا طَرِيق فِي هَذَا إِلَّا أَن يحمل على وَاحِد بِعَيْنِه مَا هُوَ فِي صَنعته والبقية أعوانه. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الْكل قد اشْتَركُوا فِي الْعَمَل؟ قلت: جَاءَ فِي رِوَايَات كَثِيرَة أَنه لم يكن بِالْمَدِينَةِ إلاّ نجار وَاحِد. فَإِن قلت: مَتى كَانَ عمل هَذَا الْمِنْبَر؟ قلت: ذكر ابْن سعد أَنه كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، لَكِن يردهُ ذكر الْعَبَّاس وَتَمِيم فِيهِ، وَكَانَ قدوم الْعَبَّاس بعد الْفَتْح فِي آخر سنة ثَمَان، وقدوم تَمِيم سنة تسع، وَذكر ابْن النجار بِأَنَّهُ كَانَ فِي سنة ثَمَان، وَيَردهُ أَيْضا مَا ورد فِي حَدِيث الْإِفْك فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: فثار الْحَيَّانِ الْأَوْس والخزرج حَتَّى كَادُوا أَن يقتتلوا، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، فحفضهم حَتَّى سكتوا) . وَعَن الطُّفَيْل بن أبي ابْن كَعْب عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إِلَى جذع إِذْ كَانَ الْمَسْجِد عَرِيشًا، وَكَانَ يخْطب إِلَى ذَلِك الْجذع. فَقَالَ رجل من أَصْحَابه: يَا رَسُول الله! هَل لَك أَن نجْعَل لَك منبرا تقوم عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة وَتسمع النَّاس يَوْم الْجُمُعَة خطبتك؟ قَالَ: نعم، فَصنعَ لَهُ ثَلَاث دَرَجَات هِيَ على الْمِنْبَر، فَلَمَّا صنع الْمِنْبَر وضع مَوْضِعه الَّذِي وَضعه فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقوم فيخطب عَلَيْهِ، فَمر إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَازَ الْجذع الَّذِي كَانَ يخْطب إِلَيْهِ خار حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ، فَنزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع صَوت الْجذع فمسحه بِيَدِهِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَر) . وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (لما وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده على الْجذع وسكنه غَار الْجذع فَذهب) . وَقيل: لما سكن لم يزل على حَاله، فَلَمَّا هدم الْمَسْجِد أَخذ ذَلِك أبي بن كَعْب فَكَانَ عِنْده إِلَى أَن بلي وأكلته الأَرْض، فَعَاد رفاتا، رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَابْن مَاجَه. وَفِي رِوَايَة: لما وضع يَده على الْجذع سكن حنينه، وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (لَو لم أفعل ذَلِك لحن إِلَى قيام السَّاعَة) . فَإِن قلت: حكى بعض أهل السّير أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب على مِنْبَر من طين قبل أَن يتَّخذ الْمِنْبَر الَّذِي من خشب. قلت: يردهُ الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسْتَند إِلَى الْجذع إِذا خطب.
ثمَّ إعلم أَن الْمِنْبَر لم يزل على حَاله ثَلَاث دَرَجَات حَتَّى زَاده مَرْوَان فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سِتّ دَرَجَات من أَسْفَله، وَكَانَ سَبَب ذَلِك مَا حَكَاهُ الزبير بن بكار فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: بعث مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان وَهُوَ عَامله على الْمَدِينَة أَن يحمل الْمِنْبَر إِلَيْهِ فَأمر بِهِ فَقلع: فأظلمت الْمَدِينَة، فَخرج مَرْوَان فَخَطب فَقَالَ:(6/215)
إنماأمرني أَمِير المأمنين أَن أرفعه، فَدَعَا نجارا وَكَانَ ثَلَاث دَرَجَات فَزَاد فِيهِ الزِّيَادَة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْم. وَرَوَاهُ من وَجه آخر، قَالَ: فكسفت الشَّمْس حَتَّى رَأينَا النُّجُوم، قَالَ: وَزَاد فِيهِ سِتّ دَرَجَات، وَقَالَ: إِنَّمَا زِدْت فِيهِ حِين كثر النَّاس. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما بدن قَالَ لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ: (أَلا اتخذ لَك منبرا يَا رَسُول الله يجمع أَو يحمل عظامك؟ قَالَ: بلَى، فَاتخذ لَهُ منبرا مرقاتين) أَي: اتخذ لَهُ منبرا دَرَجَتَيْنِ، فبينه وَبَين مَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه ثَلَاث دَرَجَات مُنَافَاة. قلت: الَّذِي قَالَ: مرقاتين، لم يعْتَبر الدرجَة الَّتِي كَانَ يجلس عَلَيْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن النجار وَغَيره: اسْتمرّ على ذَلِك إِلَّا مَا أصلح مِنْهُ إِلَى أَن أحترق مَسْجِد الْمَدِينَة سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة، فَاحْتَرَقَ ثمَّ جدد المظفر صَاحب الْيمن سنة سِتّ وَخمسين منبرا ثمَّ أرسل الظَّاهِر بيبرس رَحمَه الله بعد عشر سِنِين منبرا، فأزيل مِنْبَر المظفر فَلم يزل ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَصْر، فَأرْسل الْملك الْمُؤَيد شيخ، رَحمَه الله، فِي سنة عشْرين وثمان مائَة منبرا جَدِيدا، وَكَانَ أرسل فِي سنة ثَمَانِي عشرَة منبرا جَدِيدا إِلَى مَكَّة أَيْضا.
قَوْله: (وأجلس) ، بِالرَّفْع والجزم، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: أما الرّفْع فعلى تَقْدِير: وَأَنا أَجْلِس، وَأما الْجَزْم فَلِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، قَوْله: (من طرفاء الغابة) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي حَازِم: من أثل الغابة. الطرفاء، بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبعد الرَّاء فَاء ممدودة، وَهُوَ شجر من شجر الْبَادِيَة، وَاحِدهَا طرفَة، بِفَتْح الْفَاء مثل قَصَبَة وقصباء، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: الطرفاء وَأحمد وَجمع. والأثل بِسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ الْقَزاز: هُوَ ضرب من الشّجر يشبه الطرفاء، وَقَالَ الْخطابِيّ، هُوَ الشَّجَرَة الطرفاء. قلت: فعلى هَذَا لَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَتَيْنِ، والغاية، بالغين الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة: وَهِي أَرض على تِسْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة كَانَت إبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقِيمَة بهَا للمرعى، وَبهَا وَقعت قصَّة العرنيين الَّذِي أَغَارُوا على سرحه، وَقَالَ ياقوت: بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة أَرْبَعَة أَمْيَال. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الغابة بريد من الْمَدِينَة من طَرِيق الشَّام. وَفِي (الْجَامِع) : كل شجر ملتف فَهُوَ غابة. وَفِي (الْمُحكم) : الغابة الأجمة الَّتِي طَالَتْ وَلها أَطْرَاف مُرْتَفعَة باسقة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ أجمة الْقصب. قَالَ: وَقد جعلت جمَاعَة الشّجر غابا مأخوذا من الغيابة، وَالْجمع غابات وَغَابَ. قَوْله: (فَأرْسلت) أَي: الْمَرْأَة تعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ فرغ. قَوْله: (فَأمر بهَا فَوضعت) أنث الضَّمِير فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَار الأعواد والدرجات. قَوْله: (عَلَيْهَا) أَي: على الأعواد. قَوْله: (وَهُوَ عَلَيْهَا) ، جملَة حَالية. قَوْله: (ثمَّ نزل الْقَهْقَرَى) ، وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى خلف. قيل: يُقَال رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَلَا يُقَال: نزل الْقَهْقَرَى، لِأَنَّهُ نوع من الرُّجُوع لَا من النُّزُول. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما كَانَ النُّزُول رُجُوعا من فَوق إِلَى تَحت صَحَّ ذَلِك، وَكَانَ الْحَامِل على ذَلِك الْمُحَافظَة على اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة الْقيام بعد الرُّكُوع وَلَا الْقِرَاءَة بعد التَّكْبِير، وَقد بَين ذَلِك فِي رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي حَازِم، وَلَفظه: (كبر فَقَرَأَ وَركع ثمَّ رفع رَأسه ثمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن سعد عَن أبي حَازِم عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (فَخَطب النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَكبر وَهُوَ على الْمِنْبَر) . قَوْله: (فِي أصل الْمِنْبَر) أَي: على الأَرْض إِلَى جنب الدرجَة السُّفْلى مِنْهُ. قَوْله: (ثمَّ عَاد) ، وَزَاد مُسلم من رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (حَتَّى فرغ من آخر صلَاته) . قَوْله: (ولتعلموا) ، بِكَسْر اللَّام وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد اللَّام، وَأَصله: لتتعلموا، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَعرف مِنْهُ أَن الْحِكْمَة فِي صلَاته فِي أَعلَى الْمِنْبَر ليراه من قد يخفى عَلَيْهِ رُؤْيَته إِذا صلى على الأَرْض. وَقَالَ ابْن حزم، وبكيفية هَذِه الصَّلَاة قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَأهل الظَّاهِر. وَمَالك وَأَبُو حنيفَة لَا يجيزانها، وَقَالَ ابْن التِّين: الْأَشْبَه أَن ذَلِك كَانَ لَهُ خَاصَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن من فعل شَيْئا يُخَالف الْعَادة بَين حكمته لأَصْحَابه، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى هَذِه الصَّلَاة بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّة وَكَانَ ذَلِك لمصْلحَة بيناها، فَنَقُول: إِذا كَانَ مثل ذَلِك لمصْلحَة يَنْبَغِي أَن لَا تفْسد صلَاته وَلَا تكره أَيْضا، كَمَا فِي مَسْأَلَة من انْفَرد خلف الصَّفّ وَحده، فَإِن لَهُ أَن يجذب وَاحِدًا من الصَّفّ إِلَيْهِ ويصطفان، فَإِن المجذوب لَا تبطل صلَاته وَلَو مَشى خطْوَة أَو خطوتين، وَبِه صرح أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْفِعْل الْكثير بالخطوات وَغَيرهَا إِذا تفرق لَا يبطل الصَّلَاة، لِأَن النُّزُول عَن الْمِنْبَر والصعود تكَرر، وَجُمْلَته كَثِيرَة، وَلَكِن أَفْرَاده المتفرقة كل وَاحِد مِنْهَا قَلِيل. وَفِيه: اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمِنْبَر لكَونه أبلغ فِي مُشَاهدَة الْخَطِيب وَالسَّمَاع مِنْهُ، وَيسْتَحب أَن يكون الْمِنْبَر على يَمِين الْمِحْرَاب مُسْتَقْبل الْقبْلَة فَإِن لم يكن مِنْبَر فموضع عَال، وإلاّ فَإلَى خَشَبَة لِلِاتِّبَاعِ فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب إِلَى جذع قبل اتِّخَاذ الْمِنْبَر، فَلَمَّا صنع تحول إِلَيْهِ، وَيكرهُ الْمِنْبَر الْكَبِير جدا الَّذِي يضيق على الْمُصَلِّين إِذا لم يكن الْمَسْجِد متسعا. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِافْتِتَاح بِالصَّلَاةِ فِي كل شَيْء جَدِيد، إِمَّا شكرا وَإِمَّا تبركا.(6/216)
918 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبرنِي يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ أنَسٍ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ كانَ جِذْعٌ يَقُومُ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا وُضِعَ لَهُ المنْبَرُ سَمِعْنَا لَلْجِذْعِ مِثْلَ أصْواتِ العِشَارِ حَتَّى نزَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (حَتَّى نزل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، لِأَن نزُول كَانَ بعد صعودة إِلَى الْمِنْبَر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير ضد قَلِيل الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ابْن أنس، هُوَ حَفْص بن عبيد الله بن أنس، وَقد بَينه باسمه فِي الرِّوَايَة الْمُعَلقَة الَّتِي تَأتي عَن قريب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مَجْهُول، فَصَارَ الْإِسْنَاد بِهِ من بَاب الرِّوَايَة عَن المجاهيل، ثمَّ أجَاب عَنهُ بِأَن يحيى لما كَانَ لَا يروي إلاّ عَن الْعدْل الضَّابِط فَلَا بَأْس بِهِ، أَو لما علم من الطَّرِيق الَّذِي بعده أَنه حَفْص بن عبيد الله بن أنس، فَاكْتفى بِهِ. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي (الْأَطْرَاف) : إِنَّمَا أبهم البُخَارِيّ حفصا لِأَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير يَقُول: عبيد الله بن حَفْص فيقبله، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق مُحَمَّد بن مِسْكين عَن ابْن أبي مَرْيَم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق عَن يحيى بن سعيد، وَلَكِن أخرجه من طَرِيق أبي الْأَحْوَص مُحَمَّد بن الْهَيْثَم عَن ابْن أبي مَرْيَم، فَقَالَ: عَن حَفْص بن عبيد الله على الصَّوَاب. وَقَالَ: الصَّوَاب فِيهِ حَفْص بن عبيد الله. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : قَالَ بَعضهم: عبد الله بن حَفْص، وَلَا يَصح. وَفِي نُسْخَة أبي ذَر: حَفْص بن عبد الله بتكبير العَبْد وَصَوَابه: عبيد الله، بِالتَّصْغِيرِ. وَحَفْص هَذَا روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم روى عَن جده وَجَابِر بن عبد الله وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يثبت لَهُ السماع إلاّ من جده. وَفِي البُخَارِيّ فِي (عَلَامَات النُّبُوَّة) : عَن جَابر مُصَرحًا بِهِ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة عَن مَجْهُول صُورَة، وَبينا وَجهه. وَفِيه: لَيْسَ لِابْنِ أنس عَن جَابر فِي البُخَارِيّ إلاّ هَذَا الحَدِيث، قَالَه الْحميدِي فِي جمعه. وَفِيه: إِطْلَاق الابْن على ابْن ابْنه مجَازًا. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مصري والإثنان مدنيان، وَالرَّابِع بَصرِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جذع) ، بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة. قَالَه الْجَوْهَرِي: وَاحِد جُذُوع النّخل. قَوْله: (يقوم عَلَيْهِ) ويروى: (يقوم إِلَيْهِ. قَوْله: (مثل أصوات العشار) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا شين مُعْجمَة، قَالَه الْجَوْهَرِي: العشار جمع عشراء، بِالضَّمِّ، ثمَّ الْفَتْح، وَهِي النَّاقة الْحَامِل الَّتِي مَضَت لَهَا عشرَة أشهر وَلَا يزَال ذَلِك إسمها، إِلَى أَن تَلد. وَفِي (الْمطَالع) : العشار النوق الْحَوَامِل. قَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الَّتِي مَعهَا أَوْلَادهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ الَّتِي قاربت الْولادَة. يُقَال: نَاقَة عشراء ونوق عشار على غير قِيَاس، وَنقل ابْن التِّين: أَنه لَيْسَ فِي الْكَلَام فعلاء على فعال، غير: نفسَاء وعشراء، وَيجمع على: عشراوات ونفساوات. وَمثل: صَوت الْجذع بِأَصْوَات العشار عِنْد فِرَاق أَوْلَادهَا، وَفِيه علم عَظِيم من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَلِيل على صِحَة رسَالَته، وَهُوَ حنين الجماد، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى جعل للجذع حَيَاة حن بهَا، وَهَذَا من بَاب الإفضال من الرب، جلّ جَلَاله، الَّذِي يحيي الْمَوْتَى بقوله: {كن فَيكون} . (الْبَقَرَة: 217، آل عمرَان: 47 لأ 59، الْأَنْعَام: 273، النَّحْل: 240، مَرْيَم: 35، ي س: 83، وغافر: 68) . وَفِيه: الرَّد على الْقَدَرِيَّة، لِأَن الصياح ضرب من الْكَلَام وهم لَا يجوزون الْكَلَام إِلَّا مِمَّن لَهُ فَم ولسان.
قَالَ سُلَيْمَانُ عنْ يَحْيى أخبَرَني حَفْصُ بنُ عُبَيْدِ الله بنِ أنَسٍ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله
هَذَا التَّعْلِيق عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد إِلَى آخِره، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزعم بَعضهم أَنه سُلَيْمَان بن كثير(6/217)
لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد، ورد بِأَن سُلَيْمَان بن كثير قَالَ فِيهِ: عَن يحيى عَن سعيد بن الْمسيب عَن جَابر، كَذَلِك أخرجه الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن أَخِيه سُلَيْمَان فَإِن كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فليحيى بن سعيد فِيهِ شَيْخَانِ، وَقَالَ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : ذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف إِن سُلَيْمَان الَّذِي اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة هُوَ ابْن بِلَال، وَذكر أَن سُلَيْمَان بن كثير أَيْضا رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد عَن حَفْص بن عبد الله بن أنس، كَمَا قَالَ سُلَيْمَان وَالَّذِي ذكره الذهلي وَالدَّارَقُطْنِيّ أَن سُلَيْمَان بن كثير رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
919 - حدَّثنا آدمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عَن سالِمٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ علَى المِنْبَرِ فَقَالَ منْ جاءَ إلَى الجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ. (انْظُر الحَدِيث 877 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلأَجل هَذَا الْمِقْدَار أوردهُ هَهُنَا لأجل التَّرْجَمَة. وَأخرج بَقِيَّته فِي: بَاب فضل الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل) . وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب هَل على من لم يشْهد الْجُمُعَة غسل؟ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ وحَدثني سَالم بن عبد الله أَنه سمع عبد الله بن عمر يَقُول: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من جَاءَ مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل) ، وَهَهُنَا أخرجه عَن آدم عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
والمستفاد مِنْهُ أَن الْخطْبَة يَنْبَغِي أَن تكون على الْمِنْبَر إِن وجد، وإلاّ فعلى مَوضِع مشرف.
27 - (بابُ الخُطْبةِ قائِما)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْخطْبَة قَائِما، أَي: يكون الْخَطِيب فِيهَا قَائِما، هَذَا التَّقْدِير على كَون الْبَاب مُضَافا إِلَى الْخطْبَة، وَيجوز أَن يَنْقَطِع عَن الْإِضَافَة وينون على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَيكون لفظ: الْخطْبَة، مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء، وَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب تَرْجَمته الْخطْبَة يخطبها الْخَطِيب حَال كَونه قَائِما. فانتصاب قَائِما على الْوَجْه الأول بِكَوْنِهِ خبر: يكون، وعَلى الْوَجْه الثَّانِي على أَنه حَال من الْخَطِيب، وَهَذَا كُله لَا يَخْلُو عَن تعسف لأجل التعسف فِي تركيب التَّرْجَمَة.
وَقَالَ أنَسٌ بَيْنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ قائِما
هَذَا التَّعْلِيق مُوَافق للتَّرْجَمَة، وَهُوَ طرف من حَدِيث الاسْتِسْقَاء على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقد مر غير مرّة أَن: بَينا، أَصله: بَين، فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَت ألفا. وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة من مُبْتَدأ وَخبر، وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، وَجَوَابه: فِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء.
والمستفاد مِنْهُ أَن يكون الْخَطِيب قَائِما، لَكِن على أَي وَجه؟ نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
920 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ القَوَارِيرِيُّ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ قائِما ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ كمَا تَفْعَلُونَ الآنَ. . (الحَدِيث 920 طرفه فِي: 928) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عمر بن ميسرَة الْبَصْرِيّ أَبُو سعيد القواريري، والقواريري، بِالْقَافِ: نِسْبَة لمن يعْمل الْقَوَارِير أَو يَبِيعهَا. الثَّانِي: خَالِد بن الْحَارِث بن سليم الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَمر ذكره فِي: بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْقرشِي. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن نصف رُوَاته بَصرِي وَالنّصف الآخر مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن القواريري وَأبي كَامِل فُضَيْل بن الْحُسَيْن الجحدري. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن خَالِد بن الْحَارِث وروى أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَاة عَن الحكم، (عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه:(6/218)
كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ يقْعد ثمَّ يقوم ثمَّ يخْطب) ، اللَّفْظ لِأَحْمَد وَأبي يعلى. قَوْله: (ثمَّ يقْعد) أَي: بعد الْخطْبَة الأولى ثمَّ يقوم للخطبة الثَّانِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْإِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يخْطب قَائِما. قَالَ شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : فِي اشْتِرَاط الْقيام فِي الْخطْبَتَيْنِ إلاّ عِنْد الْعَجز، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة. انْتهى. قلت: لَا يدل الحَدِيث على الِاشْتِرَاط، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يدل على السّنيَّة. وَفِي (التَّوْضِيح) : الْقيام للقادر شَرط لصحتها، وَكَذَا الْجُلُوس بَينهمَا عِنْد الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه. فَإِن عجز عَنهُ اسْتخْلف، فَإِن خطب قَاعِدا أَو مُضْطَجعا للعجز جَازَ قطعا كَالصَّلَاةِ، وَيصِح الِاقْتِدَاء بِهِ حِينَئِذٍ، وَعِنْدنَا وَجه: أَنَّهَا تصح قَاعِدا للقادر، وَهُوَ شَاذ، نعم هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ عَنْهُم، قاسوه على الْأَذَان. وَحكى ابْن بطال عَن مَالك كالشافعي، وَعَن ابْن الْقصار كَأبي حنيفَة، وَنقل ابْن التِّين عَن القَاضِي أبي مُحَمَّد أَنه مسيىء، وَلَا يبطل حجَّة الشَّافِعِي حَدِيث الْبَاب. قلت: حَدِيث الْبَاب لَا يدل على الِاشْتِرَاط، وَاسْتدلَّ بَعضهم للشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا فِي (صَحِيح مُسلم) : (أَن كَعْب بن عجْرَة دخل الْمَسْجِد وَعبد الرَّحْمَن بن أبي الحكم يخْطب قَاعِدا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَطِيب يخْطب قَاعِدا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكُوك قَائِما} (الْجُمُعَة: 11) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : (قَالَ كَعْب: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ إِمَام يؤم الْمُسلمين يخْطب وَهُوَ جَالس، يَقُول ذَلِك مرَّتَيْنِ) . وَأجِيب: عَنهُ بِأَن إِنْكَار كَعْب عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لتَركه السّنة، وَلَو كَانَ الْقيام شرطا لما صلوا مَعَه مَعَ ترك الْفَرْض. فَإِن قلت: روى مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة سماك بن حَرْب عَن جَابر ابْن سَمُرَة قَالَ: (كَانَت للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطبتان يجلس بَينهمَا يقْرَأ الْقُرْآن وَيذكر النَّاس) وَفِي رِوَايَة: (كَانَ يخْطب قَائِما ثمَّ يجلس ثمَّ يقوم فيخطب قَائِما، فَمن نبأك أَنه كَانَ يخْطب جَالِسا فقد كذب، فقد وَالله صليت مَعَه أَكثر من ألفي صَلَاة) . قلت: هَذَا مَحْمُول على الْمُبَالغَة، لِأَن هَذَا الْقدر من الْجمع إِنَّمَا يكمل فِي نَيف وَأَرْبَعين سنة، وَهَذَا الْقدر لم يصله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد الصَّلَوَات الْخمس لَا الْجمع، لِأَنَّهُ غير مُمكن. قلت: سِيَاق الْكَلَام يُنَافِي هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن الْكَلَام فِي الْجمع لَا فِي الصَّلَوَات الْخمس، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا ذكره ابْن أبي شيبَة عَن طَاوُوس، قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان قيَاما، وَأول من جلس على الْمِنْبَر مُعَاوِيَة، قَالَ الشّعبِيّ: حِين كثر شَحم بَطْنه ولحمه) . وَرَوَاهُ ابْن حزم عَن على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا، وَالْجَوَاب عَنهُ وَعَن كل حَدِيث ورد فِيهِ الْقيام فِي خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن قَوْله: {وَتَرَكُوك قَائِما} (الْجُمُعَة: 11) . بِأَن ذَلِك إِخْبَار عَن حَالَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْد انقضاضهم، وَبِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يواظب على الشَّيْء الْفَاضِل مَعَ جَوَاز غَيره، وَنحن نقُول بِهِ، وَمن أقوى الْحجَج لِأَصْحَابِنَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس ذَات يَوْم على الْمِنْبَر وَجَلَسْنَا حوله) ، على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَحَدِيث سهل: (مري غلامك يعْمل لي أعوادا أَجْلِس عَلَيْهِنَّ إِذا كلمت النَّاس) .
28 - (بابُ يَسْتَقْبِلُ الإمامُ القومَ وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإمَامَ إِذا خَطَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال النَّاس الإِمَام، والاستقبال مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْإِمَام بِالنّصب مفعول لَهُ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: بَاب يسْتَقْبل الإِمَام الْقَوْم واستقبال النَّاس الإِمَام إِذا خطب.
وَاسْتَقْبَلَ ابنُ عُمَرَ وَأنسٌ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الإمَامَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما أثر عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم، قَالَ: ذكرت اللَّيْث بن سعد فَأَخْبرنِي عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ يفرغ من سبحته يَوْم الْجُمُعَة قبل خُرُوج الإِمَام، فَإِذا خرج لم يقْعد الإِمَام حَتَّى يستقبله، وَأما أثر أنس بن مَالك فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عبد الصَّمد (عَن المستمر بن رَيَّان، قَالَ: رَأَيْت أنسا إِذا أَخذ الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة فِي الْخطْبَة يستقبله بِوَجْهِهِ حَتَّى يفرغ الإِمَام من خطبَته) . وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من وَجه آخر: (عَن أنس أَنه جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة فاستند إِلَى الْحَائِط واستقبل الإِمَام) . قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم فِي ذَلِك خلافًا بَين الْعلمَاء، وَحكى غَيره: (عَن سعيد بن الْمسيب أَنه كَانَ لَا يسْتَقْبل هِشَام بن إِسْمَاعِيل إِذا خطب، فَوكل بِهِ هِشَام شرطيا يعطفه إِلَيْهِ) . وَهِشَام هَذَا هُوَ هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن الْوَلِيد بن(6/219)
الْمُغيرَة المَخْزُومِي، كَانَ واليا بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي ضرب سعيد بن الْمسيب أفضل التَّابِعين بالسياط، فويل لَهُ من ذَلِك، وَفِي (الْمُغنِي) : رُوِيَ عَن الْحسن أَنه اسْتقْبل الْقبْلَة وَلم ينحرف إِلَى الإِمَام، وروى التِّرْمِذِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَوَى على الْمِنْبَر استقبلناه بوجوهنا) . وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن الْفضل، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ ضَعِيف ذَاهِب الحَدِيث عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغَيرهم يستحبون اسْتِقْبَال الإِمَام إِذا خطب، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء. وروى ابْن مَاجَه عَن عدي بن ثَابت عَن أَبِيه: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ على الْمِنْبَر استقبله النَّاس) . وَفِي (سنَن الْأَثر) : عَن مُطِيع أبي يحيى الْمُزنِيّ عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ على الْمِنْبَر أَقبلنَا بوجوهنا إِلَيْهِ) . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: أخبرنَا هشيم أخبرنَا عبد الحميد بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ بِإِسْنَاد لَا أحفظه، قَالَ: (كَانُوا يجيؤن يَوْم الْجُمُعَة يَجْلِسُونَ حول الْمِنْبَر ثمَّ يقبلُونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوُجُوهِهِمْ) ، وَفِي (الْمَبْسُوط) : كَانَ أَبُو حنيفَة إِذا فرغ الْمُؤَذّن من أَذَانه أدَار وَجهه إِلَى الْأَمَام، وَهُوَ قَول شُرَيْح وطاووس وَمُجاهد وَسَالم وَالقَاسِم وزادان وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَابْن جَابر وَيزِيد بن أبي مَرْيَم وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهَذَا كالإجماع.
921 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عَن هلاَل بنِ أبي مَيْمُونةَ قَالَ حدَّثنا عَطاءُ بنُ يَسَارٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلَسَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وجَلَسْنَا حَوْلَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن جلوسهم حول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون إلاّ وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ عين الِاسْتِقْبَال.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: معَاذ بن فضَالة أَبُو زيد الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن هِلَال، وَهُوَ هِلَال بن عَليّ، تقدم ذكره فِي أول كتاب الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك مَشْهُور باسمه وكنيته.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن الأول من الروَاة بَصرِي. وَالثَّانِي أهوازي، وَالثَّالِث يماني وَالرَّابِع وَالْخَامِس مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح وَفِي الزَّكَاة عَن معَاذ بن فضَالة أَيْضا وَفِي الرقَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَعَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب عَن ابْن علية بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة عِيسَى ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دنا من منبره يَوْم الْجُمُعَة سلم على من عِنْده، فَإِذا صعده اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ) . لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَضَعفه، وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ: (فَإِذا صعد الْمِنْبَر توجه إِلَى النَّاس وَسلم عَلَيْهِم) ، وَعِيسَى بن عبد الله فِيهِ مقَال، وَعَن عدي بن ثَابت عَن أَبِيه أخرجه ابْن مَاجَه، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن مُطِيع أبي يحيى عَن أَبِيه عَن جده أخرجه الْأَثْرَم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَعَن الْبَراء من طَرِيق أبان بن عبد الله البَجلِيّ أخرجه ابْن خُزَيْمَة، وَقَالَ: إِنَّه مَعْلُول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الْحِكْمَة فِي استقبالهم للخطيب أَن يتفرغوا لسَمَاع موعظته وتدبر كَلَامه وَلَا يشتغلوا بِغَيْرِهِ. قَالَ الْفُقَهَاء: إِنَّمَا استدبر الْقبْلَة لِأَنَّهُ إِذا اسْتَقْبلهَا فَإِن كَانَ فِي صدر الْمَسْجِد كَانَ مستديرا للْقَوْم، واستدبارهم وهم المخاطبون قَبِيح خَارج عَن عرف المخاطبات، وَإِن كَانَ فِي آخِره فإمَّا أَن يستقبله الْقَوْم فَيَكُونُوا مستدبرين الْقبْلَة، واستدبار وَاحِد أَهْون من استدبار الْجَمَاعَة، وَإِمَّا أَن يستدبروه فتلزم الْهَيْئَة القبيحة، وَلَو خَالف الْخَطِيب فاستدبرهم واستقبل الْقبْلَة كره وَصحت خطبَته، وَحكى الشَّاشِي وَجها شاذا: أَنه لَا يَصح. فَإِن قلت: مَا المُرَاد باستقبال النَّاس الْخَطِيب؟ هَل المُرَاد من يواجهه؟ أَو المُرَاد جَمِيع أهل(6/220)
الْمَسْجِد حَتَّى أَن من هُوَ فِي الصَّفّ الأول وَالثَّانِي وَإِن طَالَتْ الصُّفُوف ينحرفون بأبدانهم أَو بِوُجُوهِهِمْ لسَمَاع الْخطْبَة؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد بذلك من يسمع الْخطْبَة دون من بعد فَلم يسمع فاستقبال الْقبْلَة أولى بِهِ من توجهه لجِهَة الْخَطِيب، ثمَّ إِن الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ جزما باستحباب ذَلِك، وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب بِوُجُوب ذَلِك، ثمَّ بَقِي هُنَا اسْتِقْبَال الْخَطِيب للنَّاس فَذكر الرَّافِعِيّ: أَنه من سنَن الْخطْبَة، وَلَو خطب مستدبرا للنَّاس جَازَ، وَإِن خَالف السّنة. وَحكى فِي (الْبَيَان) وَغَيره وَجه: أَنه لَا يجْزِيه، كَمَا ذكرنَا عَن قريب عَن الشَّاشِي. فَإِن قلت: حول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَهره إِلَى النَّاس فِي خطْبَة الاسْتِسْقَاء؟ قلت: كَانَ ذَلِك تفاؤلاً بِتَغَيُّر الْحَال، كَمَا قلب رِدَاءَهُ فِيهَا تفاؤلاً بذلك، فَأَما فِي الْجُمُعَة فَلم ينْقل ذَلِك مَعَ كَونه قد استسقى فِي خطْبَة الْجُمُعَة وَلم يحول وَجهه فِي الدُّعَاء للْقبْلَة، وكل مِنْهُمَا أصل بِنَفسِهِ لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، واستنبط الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن الْخَطِيب لَا يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالاً حَالَة الْخطْبَة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : اتّفق الْعلمَاء على كَرَاهَة ذَلِك، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْبدع الْمُنكرَة، خلافًا لأبي حنيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: يلْتَفت يمنة ويسرة كالأذان، نَقله الشَّيْخ أَبُو حَامِد. قلت: فِي هَذَا النَّقْل عَن أبي حنيفَة نظر، وَلَا يَصح ذَلِك عَنهُ، وَمن السّنة عندنَا أَن يتْرك الْخَطِيب السَّلَام من وَقت خُرُوجه إِلَى دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام أَيْضا، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: السّنة إِذا صعد الْمِنْبَر أَن يسلم على الْقَوْم إِذا أقبلهم بِوَجْهِهِ، كَذَا رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: هَذَا الحَدِيث أوردهُ ابْن عدي من حَدِيث ابْن عمر فِي تَرْجَمَة عِيسَى بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ضعفه ابْن حبَان. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن مجَالد: (عَن الشّعبِيّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صعد الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة اسْتقْبل النَّاس فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم. .) قلت: هَذَا مُرْسل فَلَا يحْتَج بِهِ عِنْدهم، وَقَالَ عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) : هُوَ مُرْسل، وَإِن أسْندهُ أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن لَهِيعَة فَهُوَ مَعْرُوف فِي الضُّعَفَاء، فَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الحَدِيث لَيْسَ بِقَوي.
29 - (بابُ مَنْ قالَ فِي الخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أمَّا بَعْدُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد الثَّنَاء عَن الله عز وَجل كلمة: أما بعد، وَكَانَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله، لم يجد فِي صفة خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة حَدِيثا على شَرطه، فاقتصر على ذكر الثَّنَاء وَاللَّفْظ وضع للفصل بَينه وَبَين مَا بعده من موعظة وَنَحْوهَا، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس عَن سِيبَوَيْهٍ: معنى أما بعد، مهما يكن من شَيْء، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: إِذا كَانَ رجل فِي حَدِيث وَأَرَادَ أَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ قَالَ: أما بعد، وَأَجَازَ الْفراء: أما بعدا، بِالنّصب والتنوين، و: أما بعد، بِالرَّفْع والتنوين، وَأجَاب هِشَام: أما بعد، بِفَتْح الدَّال. وَاعْلَم أَن: بعد وَقبل، من الظروف الَّتِي قطعت عَن الْإِضَافَة، فَإِذا أُرِيد مِنْهُمَا الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمُتَعَيّن بعد الْقطع يبْنى وَلَا يعرب، وَيكون بناؤهما على الضَّم لِأَن بناءهما عَارض يَزُول بِالْإِضَافَة، فَكَانَت الْحَرَكَة ضمة لِأَنَّهَا لَا توهم إعرابا، لِأَن الضَّم لَا يدخلهما مضافين. وَفِي (الْمُحكم) : مَعْنَاهُ أما بعد دعائي لَك. وَفِي (الْجَامِع) : يَعْنِي بعد الْكَلَام الْمُتَقَدّم، أَو بعد مَا بَلغنِي من الْخَبَر.
وَاخْتلف فِي أول من قَالَهَا. فَقيل: دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَفِي اسناده ضعف، وَقيل: قس بن سَاعِدَة. وَقيل: يعرب بن قحطان. وَقيل: كَعْب بن لؤَي جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: سحبان بن وَائِل. وَفِي (غرائب مَالك) للدارقطني بِسَنَد ضَعِيف: (لما جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ يَعْقُوب فِي جملَة كَلَامه: أما بعد، فَإنَّا أهل بَيت مُوكل بِنَا الْبلَاء) ، وَذكر الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عبد الله الرهاوي أَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رووا هَذِه اللَّفْظَة عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم: سعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الله وَالْفضل ابْنا الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وعدي بن حَاتِم وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ وَعقبَة بن عَامر والطفيل بن سَخْبَرَة وَجَرِير بن عبد الله البَجلِيّ وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَزيد بن أَرقم وَأَبُو بكرَة وَأنس بن مَالك وَزيد بن خَالِد وقرة بن دعموص والمسور بن مخرمَة وَجَابِر بن سَمُرَة وَعَمْرو بن ثَعْلَبَة ورزين بن أنس السّلمِيّ وَالْأسود بن سريع وَأَبُو شُرَيْح بن عَمْرو وَعَمْرو بن حزم وَعبد الله ابْن عليم وَعقبَة بن مَالك وَأَسْمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.(6/221)
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى القَوْل بِكَلِمَة: أما بعد، فِي الْخطْبَة عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي آخر هَذَا الْبَاب: عَن إِسْمَاعِيل بن أبان عَن ابْن الغسيل عَن عِكْرِمَة: (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِنْبَر) الحَدِيث.
45 - (وَقَالَ مَحْمُود حَدثنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة قَالَ أَخْبَرتنِي فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر قَالَت دخلت على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَالنَّاس يصلونَ قلت مَا شَأْن النَّاس فَأَشَارَتْ برأسها إِلَى السَّمَاء فَقلت آيَة فَأَشَارَتْ برأسها أَي نعم قَالَت فَأطَال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جدا حَتَّى تجلاني الغشي وَإِلَى جَنْبي قربَة فِيهَا مَاء ففتحتها فَجعلت أصب مِنْهَا على رَأْسِي فَانْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد تجلت الشَّمْس فَخَطب النَّاس وَحمد الله بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ قَالَ أما بعد قَالَت ولغط نسْوَة من الْأَنْصَار فَانْكَفَأت إلَيْهِنَّ لأسكتهن فَقلت لعَائِشَة مَا قَالَ قَالَت قَالَ من شَيْء لم أكن أريته إِلَّا قد رَأَيْته فِي مقَامي هَذَا حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار وَإنَّهُ قد أُوحِي إِلَيّ أَنكُمْ تفتنون فِي الْقُبُور مثل أَو قَرِيبا من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال يُؤْتى أحدكُم فَيُقَال لَهُ مَا علمك بِهَذَا الرجل فَأَما الْمُؤمن أَو قَالَ الموقن شكّ هِشَام فَيَقُول هُوَ رَسُول الله هُوَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهدى فَآمَنا وأجبنا وَاتَّبَعنَا وصدقنا فَيُقَال لَهُ نم صَالحا قد كُنَّا نعلم أَن كنت لتؤمن بِهِ وَأما الْمُنَافِق أَو قَالَ المرتاب شكّ هَاشم فَيُقَال لَهُ مَا علمك بِهَذَا الرجل فَيَقُول لَا أَدْرِي سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فَقلت قَالَ هِشَام فَلَقَد قَالَت لي فَاطِمَة فأوعيته غير أَنَّهَا ذكرت مَا يغلط عَلَيْهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي قَوْله " ثمَّ قَالَ أما بعد ". (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مَحْمُود بن غيلَان أحد مشايخه مر فِي بَاب النّوم قبل الْعشَاء. الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام امْرَأَة هِشَام بن عُرْوَة. الْخَامِس أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق أم عبد الله بن الزبير وَعُرْوَة أُخْت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه قَالَ مَحْمُود وَلم يقل حَدثنَا مَحْمُود أَو أخبرنَا لِأَن الظَّاهِر أَنه ذكره لَهُ محاورة ومذاكرة لَا نقلا وتحميلا لَكِن كَلَام أبي نعيم فِي الْمُسْتَخْرج يشْعر بِأَنَّهُ قَالَ حَدثنَا مَحْمُود وَفِيه رِوَايَة الرجل عَن بنت عَمه وَزَوجته وَفِيه رِوَايَة التابعية عَن الصحابية وَفِيه رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية وَفِيه شيخ البُخَارِيّ مروزي وَشَيْخه كُوفِي والبقية مَدَنِيَّة (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع قد بَيناهُ فِي بَاب من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد وَالرَّأْس فِي كتاب الْعلم وَقد ذكرنَا أَيْضا من أخرجه غير البُخَارِيّ وَذكرنَا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ وَنَذْكُر هَهُنَا مُخْتَصرا عَمَّا قد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَمَا لم نذكرهُ قَوْله " وَالنَّاس يصلونَ " جملَة حَالية قَوْله " مَا شَأْن النَّاس " أَي قَائِمين فزعين قَوْله " فَأَشَارَتْ " أَي عَائِشَة قَوْله " فَقلت آيَة " أَصله بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام أَي آيَة وارتفاعها على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي أَهِي آيَة أَي(6/222)
عَلامَة لعذاب النَّاس كَأَنَّهَا مُقَدّمَة لَهُ قَوْله " حَتَّى تجلاني " بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْجِيم وَتَشْديد اللَّام وَأَصله تجللني أَي علاني وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة هُنَاكَ قَوْله " الغشي " بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف مُخَفّفَة من غشي عَلَيْهِ غشية وغشيا وغشيانا فَهُوَ مغشي عَلَيْهِ واستغشى بِثَوْبِهِ وتغشى أَي تغطى بِهِ قَوْله " وَقد تجلت الشَّمْس " جملَة حَالية أَي انكشفت قَوْله " ثمَّ قَالَ أما بعد " هَذَا لم يذكر هُنَاكَ قَالَ الْكرْمَانِي كلمة أما لَا بُد لَهَا من أُخْت فَمَا هِيَ إِذا وَقعت بعد الثَّنَاء على الله كَمَا هُوَ الْعَادة فِي ديباجة الرسائل والكتب بِأَن يُقَال الْحَمد لله وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُول الله أما بعد وَأجَاب بِأَن الثَّنَاء أَو الْحَمد مقدم عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ أما الثَّنَاء على الله فَكَذَا وَأما بعد فَكَذَا وَلَا يلْزم فِي قسيمه أَن يُصَرح بِلَفْظِهِ بل يَكْتَفِي مَا يقوم مقَامه قيل هِيَ من أفْصح الْكَلَام وَهُوَ فصل بَين الثَّنَاء على الله وَبَين الْخَبَر الَّذِي يُرِيد الْخَطِيب إِعْلَام النَّاس بِهِ وَمثل هَذِه الْكَلِمَة تسمى بفصل الْخطاب الَّذِي أُوتِيَ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ فصل مَا تقدم وَقَالَ الْحسن هِيَ فصل الْقَضَاء وَهِي " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر " قَوْله " لغط نسْوَة من الْأَنْصَار " اللَّغط بِالتَّحْرِيكِ الْأَصْوَات الْمُخْتَلفَة الَّتِي لَا تفهم قَالَ ابْن التِّين ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الْغَيْن وَبَعْضهمْ بِكَسْرِهَا وَهُوَ عِنْد أهل اللُّغَة بِالْفَتْح قَوْله " فَانْكَفَأت " أَي ملت بوجهي وَرجعت إلَيْهِنَّ لأسكتهن وَأَصله من كفأت الْإِنَاء إِذا أملته وكببته قَوْله " مَا من شَيْء " كلمة مَا للنَّفْي وَكلمَة من زَائِدَة لتأكيد النَّفْي وَشَيْء اسْم مَا وَقَوله " لم أكن أريته " جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لشَيْء وَهُوَ مَرْفُوع فِي الأَصْل وَإِن كَانَ جر بِمن الزَّائِدَة وَاسم أكن مستتر فِيهِ وأريته بِضَم الْهمزَة جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر لم أكن قَوْله " إِلَّا وَقد رَأَيْته " اسْتثِْنَاء مفرغ وَتَحْقِيق الْكَلَام قد ذَكرْنَاهُ قَوْله " حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار " يجوز فيهمَا الرّفْع على أَن تكون حَتَّى ابتدائية وَرفع الْجنَّة على الِابْتِدَاء مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره حَتَّى الْجنَّة مرئية وَالنَّار عطف عَلَيْهَا وَيجوز فيهمَا النصب على أَن تكون حَتَّى عاطفة على الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رَأَيْته وَيجوز الْجَرّ أَيْضا على أَن تكون حَتَّى جَارة قَوْله " أُوحِي إِلَيّ " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " أَنكُمْ " بِفَتْح الْهمزَة قَوْله " مثل أَو قَرِيبا " أَصله مثل فتْنَة الدَّجَّال أَو قَرِيبا من فتْنَة الدَّجَّال وتحقيقه قد مر قَوْله " يُؤْتى " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " الموقن " أَي الْمُصدق بنبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو الموقن بنبوته قَوْله " صَالحا " أَي مُنْتَفعا بأعمالك قَوْله " أَن كنت " أَن هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة أَي أَن الشَّأْن كنت وَهِي مكسوة وَدخلت اللَّام فِي قَوْله " لموقنا " لتفرق بَين أَن هَذِه وَبَين أَن النافية قَوْله " الْمُنَافِق " هُوَ الْمظهر خلاف مَا يبطن والمرتاب الشاك وَهُوَ فِي مُقَابلَة الموقن وَهَذَا اللَّفْظ مُشْتَرك فِيهِ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالْفرق تقديري قَوْله " فأوعيته " الأَصْل فِي مثل هَذَا أَن يُقَال وعيته يُقَال وعيت الْعلم وأوعيت الْمَتَاع وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي حَدِيث الْإِسْرَاء ذكر فِي كل سَمَاء أَنْبيَاء قد سماهم فأوعيت مِنْهُم إِدْرِيس فِي الثَّانِيَة هَكَذَا رُوِيَ فَإِن صَحَّ فَيكون مَعْنَاهُ أدخلته فِي وعَاء قلبِي يُقَال أوعيت الشَّيْء فِي الْوِعَاء إِذا أدخلته فِيهِ وَلَو روى وعيت بِمَعْنى حفظت لَكَانَ أبين وَأظْهر يُقَال وعيت الحَدِيث أعيه وعيا فَأَنا واع إِذا حفظته وفهمته وَفُلَان أوعى من فلَان أَي أحفظ وَأفهم وَهَهُنَا كَذَلِك إِن صحت الرِّوَايَة فَيكون مَعْنَاهُ أدخلته فِي وعَاء قلبِي وَإِلَّا فَالْقِيَاس وعيته بِدُونِ الْهمزَة فَافْهَم وَفِي بعض النّسخ فوعيته على الأَصْل قَوْله " مَا يغلظ عَلَيْهِ " ويروى " مَا يغلظ فِيهِ " (وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) الافتتان فِي الْقَبْر وَهُوَ الاختبار وَلَا فتْنَة أعظم من هَذِه الْفِتْنَة وَقد وَردت فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا قبر الْمَيِّت أَو قَالَ أحدكُم أَتَاهُ ملكان أسودان أزرقان يُقَال لأَحَدهمَا الْمُنكر وَللْآخر النكير فَيَقُولَانِ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول مَا كَانَ يَقُول هُوَ عبد الله وَرَسُوله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول هَذَا ثمَّ يفسح لَهُ فِي قَبره سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي سبعين ثمَّ ينور لَهُ فِيهِ ثمَّ يُقَال لَهُ نم فَيَقُول أرجع إِلَى أَهلِي فَأخْبرهُم فَيَقُولَانِ نم كنومة الْعَرُوس الَّذِي لَا يوقظه إِلَّا أحب أَهله إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك فَإِن كَانَ منافقا قَالَ سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ فَقلت مثله لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ قد كُنَّا نعلم أَنَّك تَقول ذَلِك فَيُقَال للْأَرْض التئمي عَلَيْهِ فتلتئم عَلَيْهِ فتختلف أضلاعه فَلَا يزَال فِيهَا معذبا حَتَّى يَبْعَثهُ الله من مضجعه ذَلِك " انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه وَله طَرِيق آخر من رِوَايَة(6/223)
سعيد بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه ابْن مَاجَه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِن الْمَيِّت يصير إِلَى الْقَبْر فيجلس الرجل الصَّالح فِي قَبره غير فزع وَلَا مشغوب ثمَّ يُقَال لَهُ فيمَ كنت فَيَقُول كنت فِي الْإِسْلَام فَيُقَال لَهُ مَا هَذَا الرجل فَيَقُول مُحَمَّد رَسُول الله جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ من عِنْد الله فَصَدَّقْنَاهُ فَيُقَال لَهُ هَل رَأَيْت الله فَيَقُول مَا يَنْبَغِي لأحد أَن يرى الله فتفرج لَهُ فُرْجَة قبل النَّار فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا بَعْضًا فَيُقَال لَهُ انْظُر إِلَى مَا وقاك الله ثمَّ يفرج لَهُ فُرْجَة قبل الْجنَّة فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا فَيُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك وَيُقَال لَهُ على الْيَقِين كنت وَعَلِيهِ مت وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله وَيجْلس الرجل السوء فِي قَبره فَزعًا مشغوبا فَيُقَال لَهُ فيمَ كنت فَيَقُول لَا أَدْرِي فَيُقَال لَهُ مَا هَذَا الرجل فَيَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ قولا فقلته فيفرج لَهُ قبل الْجنَّة فَينْظر إِلَى زهرتها وَمَا فِيهَا فَيُقَال لَهُ انْظُر إِلَى مَا صرف الله عَنْك ثمَّ يفرج لَهُ فُرْجَة إِلَى النَّار فَينْظر إِلَيْهَا يحطم بَعْضهَا بَعْضًا فَيُقَال لَهُ هَذَا مَقْعَدك على الشَّك كنت عَلَيْهِ ومت وَعَلِيهِ تبْعَث إِن شَاءَ الله " وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى فِي التَّفْسِير وَفِي الْمَلَائِكَة من هَذَا الْوَجْه وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس وَفِيه قَالَ " إِن الْمُؤمن إِذا وضع فِي قَبره أَتَاهُ ملك فَيَقُول لَهُ مَا كنت تعبد فَإِن الله إِذا هداه قَالَ كنت أعبد الله فَيُقَال لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول هُوَ عبد الله وَرَسُوله وَمَا يسْأَل عَن شَيْء غَيرهَا فَينْطَلق بِهِ إِلَى بَيت كَانَ لَهُ فِي النَّار فَيُقَال لَهُ هَذَا بَيْتك كَانَ فِي النَّار وَلَكِن الله عصمك ورحمك فأبدلك بِهِ بَيْتا فِي الْجنَّة فَيَقُول دَعونِي حَتَّى أذهب فأبشر أَهلِي فَيُقَال لَهُ اسكن وَإِن الْكَافِر إِذا وضع فِي قَبره أَتَاهُ ملك فيهزه فَيَقُول لَهُ مَا كنت تعبد فَيَقُول لَا أَدْرِي فَيَقُول لَهُ لَا دَريت وَلَا تليت فَيُقَال لَهُ مَا كنت تَقول فِي هَذَا الرجل فَيَقُول كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس فيضربه بمطراق من حَدِيد بَين أُذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا الْخلق غير الثقلَيْن " وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث الْبَراء على اخْتِلَاف طرقه وَفِيه " ثمَّ يقيض لَهُ أعمى أبكم مَعَه مرزبة من حَدِيد لَو ضرب بهَا جبل لصار تُرَابا قَالَ فَيضْرب ضَرْبَة يسْمعهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب إِلَّا الثقلَيْن فَيصير تُرَابا ثمَّ يُعَاد فِيهِ الرّوح ". وَأخرج أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَدِيث الْبَراء بن عَازِب " يَقُول العَبْد هُوَ رَسُول الله " الحَدِيث " وَفِيه يمثل لَهُ عمله فِي هَيْئَة رجل حسن الْوَجْه طيب الرّيح حسن الثِّيَاب فَيَقُول أبشر بِمَا أعد الله لَك أبشر برضوان الله تَعَالَى وجنات فِي نعيم مُقيم فَيَقُول بشرك الله بِخَير من أَنْت فوجهك الَّذِي جَاءَ بِالْخَيرِ فَيَقُول هَذَا يَوْمك الَّذِي كنت توعد أَنا عَمَلك الصَّالح ". وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا " فيأتيه الْملكَانِ أعينهما مثل قدور النّحاس " وَفِي رِوَايَة معمر " أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف مَعَهُمَا مرزبة من حَدِيد لَو اجْتمع عَلَيْهَا أهل الأَرْض لم يقلوها ". وَعند الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ " خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين وَلَا خلق الْمَلَائِكَة وَلَا خلق الطير وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق الْهَوَام بل هما خلق بديع " الحَدِيث وروى أَبُو نعيم من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " إِن ابْن آدم لفي غَفلَة عَمَّا خلقه الله عز وَجل " الحَدِيث وَفِيه " فَإِذا أَدخل حفرته رد الرّوح فِي جسده ثمَّ يرْتَفع ملك الْمَوْت ثمَّ جَاءَهُ ملكا الْقَبْر فامتحناه " وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث. وَقد رُوِيَ فِي عَذَاب الْقَبْر عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم أَبُو هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالْبُخَارِيّ وَزيد بن ثَابت عِنْد مُسلم وَابْن عَبَّاس عِنْد السِّتَّة وَأَبُو أَيُّوب عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَالنَّسَائِيّ وَأنس عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَجَابِر عِنْد ابْن مَاجَه وَعَائِشَة عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو سعيد عِنْد ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره وَابْن عمر عِنْد النَّسَائِيّ وَعمر بن الْخطاب عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَسعد عِنْد البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَسْعُود عِنْد الطَّحَاوِيّ وَزيد بن أَرقم عِنْد مُسلم وَأَبُو بكرَة عِنْد النَّسَائِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَعبد الله بن عَمْرو عِنْد النَّسَائِيّ وَأَسْمَاء بنت أبي بكر عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأَسْمَاء بنت يزِيد عِنْد النَّسَائِيّ وَأم مُبشر عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَأم خَالِد عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ
46 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن معمر قَالَ حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن جرير بن حَازِم قَالَ سَمِعت الْحسن يَقُول حَدثنَا عَمْرو بن تغلب أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِي بِمَال أَو سبي فَقَسمهُ فَأعْطى رجَالًا(6/224)
وَترك رجَالًا فَبَلغهُ أَن الَّذين ترك عتبوا فَحَمدَ الله ثمَّ أثنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فوَاللَّه إِنِّي لأعطي الرجل وأدع الرجل وَالَّذِي أدع أحب إِلَيّ من الَّذِي أعطي وَلَكِن أعطي أَقْوَامًا لما أرى فِي قُلُوبهم من الْجزع والهلع وَأكل أَقْوَامًا إِلَى مَا جعل الله فِي قُلُوبهم من الْغنى وَالْخَيْر فيهم عَمْرو بن تغلب فوَاللَّه مَا أحب أَن لي بِكَلِمَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حمر النعم " مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " ثمَّ قَالَ أما بعد ". (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن معمر بِفَتْح الميمين أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ الْعَبْسِي الْمَعْرُوف بالبحراني ضد البراني. الثَّانِي أَبُو عَاصِم النَّبِيل واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّالِث جرير بِفَتْح الْجِيم وتكرار الراءين ابْن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي. الرَّابِع الْحسن الْبَصْرِيّ. الْخَامِس عَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن تغلب بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة الْعَبْدي التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ رُوِيَ لَهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حديثان رَوَاهُمَا البُخَارِيّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين فِي الروَاة وَفِي مَوضِع آخر عَن الصَّحَابِيّ وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون وَفِيه أَن هَذَا الحَدِيث من إِفْرَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه أَيْضا فِي الْخمس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي النُّعْمَان وَقَالَ عبد الْغَنِيّ لم يرو عَن عَمْرو بن تغلب غير الْحسن الْبَصْرِيّ فِيمَا قَالَه غير وَاحِد (قلت) لَعَلَّ مُرَاده فِي الصَّحِيح وَإِلَّا فقد قَالَ ابْن عبد الْبر أَن الحكم بن الْأَعْرَج روى عَنهُ أَيْضا كَمَا نبه عَلَيْهِ الْمزي رَحمَه الله (فَإِن قلت) قَالَ الحكم وَعَلِيهِ الْجُمْهُور أَن شَرط البُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَن لَا يذكر إِلَّا حَدِيثا رَوَاهُ صَحَابِيّ مَشْهُور عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَله راويان ثقتان فَأكْثر ثمَّ يرويهِ عَنهُ تَابِعِيّ مَشْهُور وَله أَيْضا راويان ثقتان فَأكْثر ثمَّ كَذَلِك فِي كل دَرَجَة وَهَذَا الحَدِيث لم يروه عَن عَمْرو بن تغلب إِلَّا راو وَاحِد وَهُوَ الْحسن (قلت) قد ذكرت لَك أَن الحكم بن الْأَعْرَج روى عَنهُ أَيْضا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى بِالْمَالِ أَو بِشَيْء " بالشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا همزَة ويروى بسبي بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف ويروى " أَو سبي " بِدُونِ حرف الْبَاء وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَتَى بِمَال من الْبَحْرين " قَوْله " فَبَلغهُ أَن الَّذين ترك " كَذَا بِخَط الْحَافِظ الدمياطي وَقَالَ الْحَافِظ قطب الدّين الَّذِي فِي أصل روايتنا " أَن الَّذِي ترك " (قلت) الضَّمِير الَّذِي فِي ترك يرجع إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره أَن الَّذين تَركهم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عتبوا حَيْثُ حرمُوا عَن الْعَطاء وَأما وَجه أَن الَّذِي بإفراد الْمَوْصُول فعل تَقْدِير أَن الصِّنْف الَّذِي تَركه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " أما بعد " أَي أما بعد الْحَمد لله تَعَالَى وَالثنَاء عَلَيْهِ قَوْله " وَإِنِّي أعطي الرجل " أعطي بِلَفْظ الْمُتَكَلّم لَا بِلَفْظ الْمَجْهُول من الْمَاضِي قَوْله " وأدع الرجل " أَي الرجل الآخر وأدع بِلَفْظ الْمُتَكَلّم أَيْضا أَي أترك قَوْله " من الَّذِي أعطي " على لفظ الْمُتَكَلّم أَيْضا ومفعول أعطي الَّذِي هُوَ صلَة الْمَوْصُول مَحْذُوف قَوْله " لما أرى " من نظر الْقلب لَا من نظر الْعين قَوْله " من الْجزع " بِالتَّحْرِيكِ ضد الصَّبْر يُقَال جزع جزعا وجزوعا فَهُوَ جزع وجازع وَقَالَ يَعْقُوب الْجزع الْفَزع وَقَالَ ابْن سَيّده وجزع وجزاع قَوْله " والهلع " بِالتَّحْرِيكِ أَيْضا وَهُوَ أفحش الْفَزع وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر لِأَحْمَد بن يحيى مَا الهلوع فَقَالَ قد فسره الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} بقوله {إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} وَيُقَال الْهَلَع والهلاع والهلعان الْجُبْن عِنْد اللِّقَاء وَفِي أمالي ثَعْلَب الهلواعة الرجل الجبان وَفِي تَهْذِيب أبي مَنْصُور قَالَ الْحسن بن أبي الْحسن الهلوع الشره وَعَن الْفراء الضجور وَقَالَ أَبُو إِسْحَق الهلوع الَّذِي يفزع ويجزع من الشَّرّ وَقَالَ الْقَزاز الْهَلَع سوء الْجزع وَرجل هلعته مِثَال همزَة إِذا كَانَ يجزع سَرِيعا قَوْله " من الْغنى وَالْخَيْر " أَي أتركهم مَعَ مَا وهب الله تَعَالَى لَهُم من غنى النَّفس فصبروا وتعففوا عَن الْمَسْأَلَة والشره قَوْله " بِكَلِمَة رَسُول الله " مثل هَذِه الْبَاء تسمى بِالْبَاء الْبَدَلِيَّة وباء الْمُقَابلَة نَحْو اعتضت بِهَذَا الثَّوْب خير مِنْهُ أَي مَا أحب أَن حمر النعم لي بدل(6/225)
كلمة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي يقابلها أَي هَذِه الْكَلِمَة كَانَت أحب إِلَيّ مِنْهَا وَكَيف لَا وَالْآخِرَة خير وَأبقى والحمر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم (تَابعه يُونُس) لم يُوجد هَذَا فِي كثير من النّسخ وَيُونُس هُوَ ابْن عبيد الله بن دِينَار الْعَبْدي الْمصْرِيّ وَوَصله أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ عَنهُ عَن الْحسن عَن عَمْرو بن ثَعْلَب -
924 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فصلى فِي المَسْجِدِ فصَلَّى رِجَال بِصَلاتِهِ فأصْبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثُوا فاجْتَمَعَ أكْثَرُ مِنْهُم فصَلُّوا معَهُ فأصْبَحَ النَّاسُ فتَحدَّثُوا فكثُرَ أهْلُ المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلُّوا بِصَلاتِهِ فلَمَّا كانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عجَزَ المَسْجدُ عَنْ أهْلِهِ حتَّى خَرَجَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ فلَمَّا قَضَى الفَجْرَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسَ فتشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّهُ لَمْ يَخْفَ علَيَّ مَكانَكُمْ لَكِنِّي خَشيتُ أنْ تُفْرَضَ علَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتشهد ثمَّ قَالَ: أما بعد) ، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة هُوَ القَوْل فِي الْخطْبَة بِكَلِمَة: أما بعد، وَلَا ذكر للخطبة هَهُنَا؟ قلت: معنى قَوْله: (فَتشهد) ، هُوَ التَّشَهُّد فِي صدر الْخطْبَة، وَنَظِير هَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب إِذا كَانَ بَين الإِمَام وَالْقَوْم حَائِط أَو ستْرَة. أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد عَن عَبدة عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل فِي حجرته. .) الحَدِيث. وَأخرجه فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب فضل من قَامَ رَمَضَان بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه: عَن يحيى ابْن بكير عَن اللَّيْث بن سعد عَن عقيل بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة إِلَى آخِره. . نَحوه، وَفِي آخِره: (فَتوفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَمر على ذَلِك) ، وَقد مضى بعض الْكَلَام هُنَاكَ، وَسَتَأْتِي الْبَقِيَّة فِي الصَّوْم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
تابَعَهُ يُونُسُ
يُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد وَصله مُسلم من طَرِيقه عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق عَن عبد الله بن الْحَارِث عَن يُونُس، وَقَالَ خلف: قَوْله: (تَابعه يُونُس) أَي: فِي قَوْله: (أما بعد) وَتَبعهُ الْمزي على ذَلِك. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِنَّه روى جَمِيع الحَدِيث فَلَا يخْتَص: بأما بعد، فَقَط.
925 - حدَّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرَوة عنْ أبي حُمَيْدٍ هُو السَّاعِدِيُّ أنَّهُ أخبرهُ أنَّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ عَشِيَّةَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فتَشَهَّدَ وأثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَأَبُو حميد اسْمه: عبد الرَّحْمَن وَقيل: غير ذَلِك، وَقد مر غير مرّة، وَهَذَا بعض حَدِيث ذكره فِي الزَّكَاة وَترك الْحِيَل وَالِاعْتِكَاف وَالنُّذُور (اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الأزد يُقَال لَهُ: ابْن اللتيبة على الصَّدَقَة، فَلَمَّا قدم قَالَ: هَذَا لكم وَهَذَا أهْدى لي، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر، فَقَالَ: أما بعد، فَإِنِّي اسْتعْمل الرجل مِنْكُم) . وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن مُحَمَّد الناقذ وَابْن أبي عمر، وَأخرجه أَيْضا من وُجُوه كَثِيرَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجراح عَن أبي الطَّاهِر بن سرح وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي خلف، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ(6/226)
تابَعَهُ أبُو مُعَاوِيَة وأبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي حُمَيْدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أمَّا بَعْدُ
أما مُتَابعَة أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير الْكُوفِي فأخرجها مُسلم فِي المغاوي عَن أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَأما مُتَابعَة أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة فأخرجها البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة.
وتابَعَهُ العَدَنِيُّ عنْ سُفْيَانَ فِي أمَّا بَعْدُ
الْعَدنِي هُوَ: مُحَمَّد بن يحيى، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأخرج مُسلم مُتَابعَة الْعَدنِي عَنهُ عَن هِشَام، قيل: يحْتَمل أَن يكون الْعَدنِي هُوَ: عبد الله بن الْوَلِيد، وسُفْيَان هُوَ: الثَّوْريّ، وَمن هَذَا الْوَجْه وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِيه: قَوْله: أما بعد. قلت: الَّذِي ذكره مُسلم هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب. قَوْله: (فِي: أما بعد) أَي: تَابعه فِي مُجَرّد كلمة: أما بعد، لَا فِي تَمام هَذَا الحَدِيث.
927 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ الغَسِيلِ قَالَ حدَّثنا عِكْرِمَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ صَعِدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المِنْبَرَ وكانَ آخِرُ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَهِ قَدْ عَصَبَ رَاسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أيُّهَا النَّاسُ إلَيَّ فَثَابُوا إلَيْهِ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ هاذا الحَيَّ مِنَ الأنْصَارِ يَقِلُّونَ ويَكْثُرُ النَّاسُ فَمَنْ وُلِيَ شَيْئا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَطَاعَ أنْ يُضِرَّ فِيهِ أحدا أوْ يَنْفَعَ فِيهِ أحدا فلْيَقُلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ ويتَجاوَزْ عنْ مُسِيئِهِمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: أَبُو إِسْحَاق الْوراق الْأَزْدِيّ الْكُوفِي. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن الغسيل، هُوَ: عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر الراهب الْمَعْرُوف بِابْن الغسيل الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، مَاتَ سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة، وحَنْظَلَة هُوَ غسيل الْمَلَائِكَة، اسْتشْهد بِأحد وغسلته الْمَلَائِكَة، فسألوا امْرَأَته فَقَالَت: سمع الهيعة وَهُوَ جنب فَلم يتَأَخَّر للاغتسال. الثَّالِث: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الرَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي والبقية مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن أبي نعيم، وَفِي فَضَائِل الْأَنْصَار عَن أَحْمد بن يَعْقُوب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل: عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن وَكِيع عَنهُ مُخْتَصرا.(6/227)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (متعطفا) أَي: مرتديا، يُقَال: تعطفت بالعطاف أَي: ارتديت بالرداء، والتعطف التردي بالرداء، وَسمي الرِّدَاء: عطافا، لوُقُوعه على عطف الرجل، وهما ناحيتا عُنُقه ومنكب الرجل عطفه، وَكَذَلِكَ الْعَطف، وَقد اعتطف بِهِ وَتعطف ذكره الْهَرَوِيّ، وَفِي (الْمُحكم) : الْجمع الْعَطف، وَقيل: المعاطف: الأردية لَا وَاحِد لَهَا. قَوْله: (ملحفة) ، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الْإِزَار الْكَبِير. قَوْله: (على مَنْكِبه) ، ويروى: مَنْكِبَيْه، بالتثنية. قَوْله: (بعصابة دسمة) ، وَفِي رِوَايَة: (دسما) ، ذكرهَا فِي اللبَاس، وَضبط صَاحب (الْمطَالع) : دسمة، بِكَسْر السِّين. وَقَالَ: الدسماء السَّوْدَاء، وَقيل: لَونه لون الدسم كالزيت، وَشبهه من غير أَن يخالطها شَيْء من الدسم، وَقيل: متغيرة اللَّوْن من الطّيب والغالية، وَزعم الدَّاودِيّ أَنَّهَا على ظَاهرهَا من عرقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَرَض، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الدسمة غبرة فِيهَا سَواد، والعصابة: الْعِمَامَة، سميت عِصَابَة لِأَنَّهَا تعصب الرَّأْس أَي: تربطه، وَمِنْه الحَدِيث: (أمرنَا أَن نمسح على العصائب) . قَوْله: (إِلَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: تقربُوا إِلَيّ. قَوْله: (فتابوا إِلَيْهِ) أَي: اجْتَمعُوا إِلَيْهِ، من: ثاب، بالثاء الْمُثَلَّثَة: يثوب إِذا رَجَعَ وَهُوَ رُجُوع إِلَى الْأَمر بالمبادرة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس} (الْبَقَرَة: 125) . أَي: مرجعا ومجتمعا. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: أما بعد) أَي: بعد الْحَمد لله وَالثنَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار) ، وهم الَّذين نصروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهل الْمَدِينَة. قَوْله: (يقلون) ، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاس بِمَنْزِلَة الْملح فِي الطَّعَام) ، هُوَ من معجزاته وإخباره عَن المغيبات، فَإِنَّهُم الْآن فيهم الْقلَّة. قَوْله: (فليقبل من محسنهم) ، أَي: الْحَسَنَة (ويتجاوز) أَي: يعف، وَذَلِكَ فِي غير الْحُدُود.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي الموعظة طلع الْمِنْبَر فيتأسى بِهِ. وَفِيه: الْخطْبَة بِالْوَصِيَّةِ. وَفِيه: فَضِيلَة الْأَنْصَار. وَفِيه: الْبدَاءَة بِالْحَمْد وَالثنَاء. وَفِيه: الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ، لِأَن الْأَنْصَار قلوا وَكثر النَّاس. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْخلَافَة لَيست فِي الْأَنْصَار، إِذْ لَو كَانَت فيهم لأوصاهم وَلم يوص بهم. وَفِيه: من جَوَامِع الْكَلم، لِأَن الْحَال منحصر فِي الضّر أَو النَّفْع والشخص فِي المحسن والمسيىء.
30 - (بابُ القَعْدَةِ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقعدَة الكائنة بَين الْخطْبَتَيْنِ يَوْم الْجُمُعَة، إِنَّمَا لم يبين حكم هَذِه الْقعدَة، هَل هِيَ وَاجِبَة أم سنة؟ لِأَن الحَدِيث حِكَايَة حَال وَلَا عُمُوم لَهُ.
928 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا. (انْظُر الحَدِيث 920) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْعد بَين الْخطْبَتَيْنِ.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَرَوَاهُ مُسلم عَن عبيد الله بن عمر القواريري، وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَابْن مَاجَه عَن يحيى بن خلف، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق بِلَفْظ: (كَانَ يخْطب خطبتين بَينهمَا جلْسَة) ، وَفِي لفظ: (مرَّتَيْنِ) مَكَان: (خطبتين) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب خطبتين كَانَ يجلس إِذا صعد الْمِنْبَر حَتَّى يفرغ، أرَاهُ الْمُؤَذّن، ثمَّ يقوم فيخطب ثمَّ يجلس وَلَا يتَكَلَّم، ثمَّ يقوم فيخطب) . وَاسْتدلَّ بِهِ على مَشْرُوعِيَّة الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ، وَلَكِن هَل هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب أَو على سَبِيل النّدب؟ فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَن ذَلِك على سَبِيل الْوُجُوب، وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى أَنَّهَا سنة، وَلَيْسَت بواجبة، كجلسة الاسْتِرَاحَة فِي الصَّلَاة عِنْد من يَقُول باستحبابها. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: ذهب مَالك والعراقيون وَسَائِر فُقَهَاء الْأَمْصَار إلاّ الشَّافِعِي: إِلَى أَن الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ سنة لَا شَيْء على من تَركهَا، وَذهب بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى أَن الْمَقْصُود الْفَصْل، وَلَو بِغَيْر الْجُلُوس، حَكَاهُ صَاحب (الْفُرُوع) . وَقيل: الجلسة بِعَينهَا لَيست مُعْتَبرَة، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر حُصُول الْفَصْل، سَوَاء حصل بجلسة أَو بسكتة أَو بِكَلَام من غير مَا هُوَ فِيهِ. وَقَالَ القَاضِي ابْن كج: إِن هَذَا الْوَجْه غلط، وَقَالَ ابْن قدامَة: هِيَ مُسْتَحبَّة لِلِاتِّبَاعِ وَلَيْسَت بواجبة فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، لِأَنَّهَا جلْسَة لَيْسَ فِيهَا ذكر مَشْرُوع، فَلم تكن وَاجِبَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَصرح إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَن الطُّمَأْنِينَة بَينهمَا وَاجِبَة، وَهُوَ خَفِيف جدا قدر قِرَاءَة سُورَة الْإِخْلَاص تَقْرِيبًا. وَفِي وَجه شَاذ: يَكْفِي السُّكُوت فِي حق الْقَائِم، لِأَنَّهُ فصل. وَذكر ابْن التِّين: أَن مقدارها كالجلسة بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَعَزاهُ لِابْنِ الْقَاسِم،(6/228)
وَجزم الرَّافِعِيّ وَغَيره أَن يكون بِقدر سُورَة الْإِخْلَاص، وَحكي وَجه بِوُجُوب هَذَا الْمِقْدَار، حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن رِوَايَة الرَّوْيَانِيّ، وَلَفظ الرَّوْيَانِيّ: وَلَا يجوز أقل من ذَلِك، نَص عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث الْبَاب دَال على السّنيَّة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَفْعَله، وَلم يقل: لَا يجْزِيه غَيره، لِأَن الْبيَاض فرض عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يقل بِوُجُوب الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ غير الشَّافِعِي، قيل: حكى القَاضِي عِيَاض عَن مَالك رِوَايَة كمذهب الشَّافِعِي؟ قلت: لَيست هَذِه الرِّوَايَة عَنهُ صَحِيحَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث أَن خطْبَة الْجُمُعَة خطبتان وَفِيه الْجُلُوس بَينهمَا لاستراحة الْخَطِيب وَنَحْوهَا، وهما واجبتان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) قلت: هَذَا أصل لَا يتَنَاوَل الْخطْبَة لِأَنَّهَا لَيست بِصَلَاة حَقِيقَة، وَقَالَ أَحْمد: رُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق أَنه قَالَ: رَأَيْت عليا يخْطب على الْمِنْبَر فَلم يجلس ختى فرغ، وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَفِيه اشْتِرَاط خطبتين لصِحَّة الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَته الْمَشْهُورَة عَنهُ، وَعند الْجُمْهُور: يَكْتَفِي بِخطْبَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وَأبي ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
31 - (بابُ الاسْتِمَاعِ إِلَى الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاسْتِمَاع، أَي: الإصغاء إِلَى الْخطْبَة، والإصغاء من: صغى يصغو ويصغي صغوا، أَي: مَال، وأصغيت إِلَى فلَان: إِذا أملت بسمعك نَحوه، وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله: الِاسْتِمَاع الإصغاء للسماع، والتوجه لَهُ وَالْقَصْد إِلَيْهِ، وكل مستمع سامع دون الْعَكْس. قلت: الِاسْتِمَاع من بَاب الافتعال، وَفِيه تكلّف واعتمال، بِخِلَاف السماع.
929 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي عَبْدِ الله الأَغَرِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةَ وقَفَتِ المَلاَئِكَةُ عَلى بابِ المَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فالأوَّلَ ومَثَلُ المهَجَّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كالَّذِي يُهْدِي بَقَرةً ثُمَّ كَبْشا ثُمَّ دَجاجَةً ثُمَّ بَيْضَةً فَإِذا خرجَ الإمامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ ويَستَمِعُونَ الذِّكْرَ. (الحَدِيث 929 طرفه فِي: 3211) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويستمعون الذّكر) أَي: الْخطْبَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي أياس. الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو عبد الله، واسْمه سلمَان الْجُهَنِيّ مَوْلَاهُم، مَعْدُود فِي أهل الْمَدِينَة، وَأَصله من أصفهان، ولقبه الْأَغَر، بِفَتْح الْهمزَة والغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ولقبه وَالْآخر بنسبته إِلَى جده وَالْآخر بنسبته إِلَى قبيلته. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه خراساني سكن عسقلان، والبقية مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الْجُمُعَة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى وَعَمْرو بن سَواد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن نصر بن عَليّ وَفِي الْمَلَائِكَة عَن أَحْمد بن عَمْرو الْحَارِث بن مِسْكين وَعَمْرو بن سَواد وَعَن سُوَيْد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وَأخرج أَيْضا فيهمَا عَن مُحَمَّد بن خَالِد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (المهجر) أَي: المبكر إِلَى الْمَسْجِد. قَوْله: (يهدي: أَي: يقرب) .
وَقد اسْتَوْفَيْنَا مَعْنَاهُ فِي: بَاب فضل الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ روى عَن أبي هُرَيْرَة قَرِيبا من هَذَا الحَدِيث عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح السمان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْإِنْصَات إِلَى الْخطْبَة وَهُوَ مَطْلُوب بالِاتِّفَاقِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : والجديد الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يحرم الْكَلَام وَيسن الْإِنْصَات، وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَدَاوُد، وَالْقَدِيم أَنه يحرم، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأحمد، رَحِمهم الله. وَقَالَ ابْن بطال: اسْتِمَاع الْخطْبَة وَاجِب وجوب سنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء، وَمِنْهُم من جعله فَرِيضَة، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد، أَنه قَالَ: لَا يجب الْإِنْصَات لِلْقُرْآنِ إِلَّا فِي موضِعين: فِي الصَّلَاة(6/229)
وَالْخطْبَة. ثمَّ نقل عَن أَكثر الْعلمَاء أَن الْإِنْصَات وَاجِب على من سَمعهَا وَمن لم يسْمعهَا، وَأَنه قَول مَالك، وَقد قَالَ عُثْمَان: للمنصت الَّذِي لَا يسمع من الْأجر مثل مَا للمنصت الَّذِي يسمع. وَكَانَ عُرْوَة لَا يرى بَأْسا بالْكلَام إِذا لم يسمع الْخطْبَة. وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس أَن يذكر الله وَيقْرَأ من لم يسمع الْخطْبَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف عَلمته بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي وجوب الْإِنْصَات لَهَا على من سَمعهَا.
وَاخْتلف فِيمَن لم يسْمعهَا. قَالَ: وَجَاء فِي هَذَا الْمَعْنى خلاف عَن بعض التَّابِعين، فَروِيَ عَن الشّعبِيّ وَسَعِيد ابْن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَابْن بردة: أَنهم كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ وَالْإِمَام يخْطب إِلَّا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْخطْبَة خَاصَّة، لقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} (الْأَعْرَاف: 204) . وفعلهم مَرْدُود عِنْد أهل الْعلم، وَأحسن أَحْوَالهم أَنهم لم يبلغهم الحَدِيث فِي ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قلت لصاحبك أنصت. .) الحَدِيث، لِأَنَّهُ حَدِيث انْفَرد بِهِ أهل الْمَدِينَة، وَلَا علم لمتقدمي أهل الْعرَاق بِهِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم بن مهَاجر وَأَبُو بردة وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ يَتَكَلَّمُونَ وَالْحجاج يخْطب. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا اشْتغل الإِمَام بِالْخطْبَةِ يَنْبَغِي للمستمع أَن يجْتَنب مَا يجتبه فِي الصَّلَاة لقَوْله عز وَجل: {فَاسْتَمعُوا إِلَيْهِ وأنصتوا} (الْأَعْرَاف: 204) . وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قلت لصاحبك أنصت. .) الحَدِيث، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكره لَهُ رد السَّلَام وتشميت الْعَاطِس إلاّ فِي قَول جَدِيد للشَّافِعِيّ: إِنَّه يرد ويشمت، وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام: وَالأَصَح أَنه يشمت، وَفِي (المجتبي) : قيل: وجوب الِاسْتِمَاع مَخْصُوص بِزَمن الْوَحْي، وَقيل: فِي الْخطْبَة الأولى دون الثَّانِيَة لما فِيهَا من مدح الظلمَة، وَعَن أبي حنيفَة: إِذا سلم عَلَيْهِ يردهُ بِقَلْبِه، وَعَن أبي يُوسُف: يرد السَّلَام ويشمت الْعَاطِس فِيهَا، وَعَن مُحَمَّد: يرد ويشمت بعد الْخطْبَة وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قلبه، وَاخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ فِيمَن كَانَ بَعيدا لَا يسمع الْخطْبَة، فَقَالَ مُحَمَّد بن سَلمَة: الْمُخْتَار السُّكُوت وَهُوَ الْأَفْضَل، وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي. وَقَالَ نصر بن يحيى: يسبخ وَيقْرَأ الْقُرْآن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَأَجْمعُوا أَنه لَا يتَكَلَّم. وَقيل: الِاشْتِغَال بِالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن أفضل من السُّكُوت. وَأما دراسة الْفِقْه وَالنَّظَر فِي كتب الْفِقْه وكتابته، فَقيل: يكره، وَقيل: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام: الِاسْتِمَاع إِلَى خطْبَة النِّكَاح والختم وَسَائِر الْخطب وَاجِب، وَفِي (الْكَامِل) : وَيَقْضِي الْفجْر إِذا ذكره فِي الْخطْبَة وَلَو تغذى بعد الْخطْبَة أَو جَامع فاغتسل يُعِيد الْخطْبَة، وَفِي الْوضُوء فِي بَيته لَا يُعِيد.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي وَقت الْإِنْصَات، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: خُرُوج الإِمَام يقطع الْكَلَام وَالصَّلَاة جَمِيعًا، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا خرج الإِمَام طَوَوْا صُحُفهمْ ويستمعون الذّكر. .) وَقَالَت طَائِفَة: لَا يجب الْإِنْصَات إلاّ عِنْد ابْتِدَاء الْخطْبَة، وَلَا بَأْس بالْكلَام قبلهَا، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: يحرم الْكَلَام من ابْتِدَاء خُرُوج الإِمَام وَورد فِيهِ حَدِيث ضَعِيف. قلت: حَدِيث الْبَاب هُوَ حجَّة للحنفية وَحجَّة عَلَيْهِم بِالتَّأَمُّلِ يدرى.
32 - (بَاب إذَا رأى الإمامُ رَجُلاً جاءَ وَهْوَ يَخْطُبُ أمَرَهُ أنْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا رأى الإِمَام. . إِلَى آخِره. قَوْله: (جَاءَ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لرجلاً. قَوْله: (وَهُوَ يخْطب) جملَة إسمية وَقعت حَالا عَن الإِمَام. قَوْله: (أمره) جَوَاب: إِذا، وَإِنَّمَا يَأْمُرهُ إِذا كَانَ لم يصل الرَّكْعَتَيْنِ قبل أَن يرَاهُ. قَوْله: (أَن يُصَلِّي) أَي: بِأَن يُصَلِّي، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أمره بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ.
930 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ جاءَ رَجُلٌ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ الناسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فقالَ أصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فارْكعْ رَكْعَتَيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان هُوَ مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي، وَعَن أبي الرّبيع وقتيبة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، هَذَا الرجل هُوَ: سليك، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره(6/230)
كَاف: ابْن هدبة وَقيل: ابْن عمر، والغطفاني، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة وَالْفَاء: من غطفان بن سعيد بن قيس غيلَان، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذِه الْقِصَّة من رِوَايَة اللَّيْث بن سعد عَن أبي الزبير عَن جَابر وَلَفظه: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم على الْمِنْبَر، لَا فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي فَقَالَ لَهُ: أصليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) . وَمن طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر نَحوه، وَفِيه: (فَقَالَ لَهُ: يَا سليك قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا) . هَكَذَا رَوَاهُ حفاظ أَصْحَاب الْأَعْمَش عَنهُ. وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة حَفْص ابْن غياث عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر وَعَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَا: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ: أصليت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: صل رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا) . وروى النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) . وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار سمع جَابِرا، وَأَبُو الزبير سمع جَابِرا، قَالَ: (دخل سليك الْغَطَفَانِي الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، قَالَ: أصليت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فصل رَكْعَتَيْنِ) . وَأما عَمْرو فَلم يذكر سليكا. وروى أَيْضا عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَعَن أبي سُفْيَان (عَن جَابر قَالَ: جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي. .) الحَدِيث، وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش، قَالَ: سَمِعت أَبَا صَالح يحدث بِحَدِيث سليك الْغَطَفَانِي ثمَّ سَمِعت أَبَا سُفْيَان يحدث بِهِ عَن جَابر، فَظهر من هَذِه الرِّوَايَات أَن هَذِه الْقِصَّة لسليك، وَأَن من روى بِلَفْظ: رجل، غير مُسَمّى فَالْمُرَاد مِنْهُ: سليك، فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِلَفْظ: رجل، كَمَا مر، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة للنسائي كَذَلِك، وَكَذَلِكَ لِابْنِ مَاجَه فِي رِوَايَة. وَجَاء أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب من غير جَابر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي صَالح: (عَن أبي ذَر أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يخْطب فَقَالَ لأبي ذَر: صليت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا. .) الحَدِيث، وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة. وشذ بقوله: (وَهُوَ يخْطب) ، فَإِن الحَدِيث مَشْهُور: (عَن أبي ذَر أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد. .) أخرجه ابْن حبَان وَغَيره، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة مَنْصُور بن الْأسود عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان (عَن جَابر، قَالَ: دخل النُّعْمَان بن قوقل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صل رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة (عَن أنس: دخل رجل من قيس الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: كَيفَ وَجه هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: كَون معنى هَذِه الْأَحَادِيث وَاحِدًا لَا يمْنَع تعدد الْقَضِيَّة، وَأما حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَالف كَون الدَّاخِل فِيهِ من قيس أَن يكون سليكا، فَإِن سليكا غطفاني، وغَطَفَان من قيس. قَوْله: (صليت؟) أَي: أصليت؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، ويروى بِإِظْهَار الْهمزَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا صَرِيحَة فِي الدّلَالَة لمَذْهَب الشَّافِعِي، وَأحمد وَإِسْحَاق وفقهاء الْمُحدثين أَنه إِذا دخل الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب يسْتَحبّ لَهُ أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَيكرهُ الْجُلُوس قبل أَن يُصَلِّيهمَا. وَأَنه يسْتَحبّ أَن يتجوز فيهمَا ليسمع الْخطْبَة. وَحكي هَذَا الْمَذْهَب أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره من الْمُتَقَدِّمين. وَقَالَ القَاضِي: قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجُمْهُور السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ: لَا يُصَلِّيهمَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وحجتهم: الْأَمر بالإنصات للْإِمَام، وتأولوا هَذِه الْأَحَادِيث أَنه كَانَ عُريَانا فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقيامِ ليراه النَّاس ويتصدقوا عَلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل يردهُ صَرِيح قَوْله: (إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا) وَهَذَا نَص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ صَحِيحا فيخالفه. قلت: أَصْحَابنَا لم يأولوا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِهَذَا الَّذِي ذكره حَتَّى يشنع عَلَيْهِم هَذَا التشنيع، بل أجابوا بأجوبة غير هَذَا. الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنصت لَهُ حَتَّى فرغ من صلَاته، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عبيد بن مُحَمَّد الْعَبْدي: حَدثنَا مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: دخل رجل الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:(6/231)
قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ، وَأمْسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أسْندهُ عبيد بن مُحَمَّد وَوهم فِيهِ. قلت: ثمَّ أخرجه (عَن أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا مُعْتَمر عَن أَبِيه قَالَ: جَاءَ رجل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: يَا فلَان أصليت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُم فصل، ثمَّ انتظره حَتَّى صلى) . قَالَ: وَهَذَا الْمُرْسل هُوَ الصَّوَاب. قلت: الْمُرْسل حجَّة عندنَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم، قَالَ: أخبرنَا أَبُو معشر (عَن مُحَمَّد بن قيس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أمره أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أمسك عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من ركعتيه، ثمَّ عَاد إِلَى خطبَته) .
الْجَواب الثَّانِي: أَن ذَلِك كَانَ قبل شُرُوعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْخطْبَة. وَقد بوب النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) على حَدِيث سليك، قَالَ: بَاب الصَّلَاة قبل الْخطْبَة. ثمَّ أخرج عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: (جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر، فَقعدَ سليك قبل أَن يُصَلِّي. فَقَالَ لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) .
الثَّالِث: أَن ذَلِك كَانَ مِنْهُ قبل أَن ينْسَخ الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ لما نسخ فِي الصَّلَاة نسخ أَيْضا فِي الْخطْبَة لِأَنَّهَا شطر صَلَاة الْجُمُعَة أَو شَرطهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَقَد تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَات عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن من قَالَ لصَاحبه: أنصت وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فقد لَغَا، فَإِذا كَانَ قَول الرجل لصَاحبه وَالْإِمَام يخْطب: أنصت، لَغوا، كَانَ قَول الإِمَام للرجل: قُم فصل لَغوا أَيْضا، فَثَبت بذلك أَن الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَمر لسليك بِمَا أمره بِهِ إِنَّمَا كَانَ قبل النَّهْي، وَكَانَ الحكم فِيهِ فِي ذَلِك بِخِلَاف الحكم فِي الْوَقْت الَّذِي جعل مثل ذَلِك لَغوا، وَقَالَ ابْن شهَاب: خُرُوج الإِمَام يقطع الصَّلَاة، وَكَلَامه يقطع الْكَلَام، وَقَالَ ثَعْلَبَة بن أبي مَالك: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا خرج للخطبة أنصتنا. وَقَالَ عِيَاض: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان يمْنَعُونَ من الصَّلَاة عِنْد الْخطْبَة.
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الصَّلَاة حِين ذَاك حرَام من ثَلَاثَة أوجه: الأول: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرىء الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ} (الْأَعْرَاف: 204) . فَكيف يتْرك الْفَرْض الَّذِي شرع الإِمَام فِيهِ إِذا دخل عَلَيْهِ فِيهِ ويشتغل بِغَيْر فرض؟ الثَّانِي: صَحَّ عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت) . فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الاصلان المفروضان الركنان فِي الْمَسْأَلَة يحرمان فِي حَال الْخطْبَة، فالنفل أولى أَن يحرم. الثَّالِث: لَو دخل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة وَلم يرْكَع، وَالْخطْبَة صَلَاة، إِذْ يحرم فِيهَا من الْكَلَام وَالْعَمَل مَا يحرم فِي الصَّلَاة.
وَأما حَدِيث سليك فَلَا يعْتَرض على هَذِه الْأُصُول من أَرْبَعَة أوجه: الأول: هُوَ خبر وَاحِد. الثَّانِي: يحْتَمل أَنه كَانَ فِي وَقت كَانَ الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة، لأَنا لَا نعلم تَارِيخه، فَكَانَ مُبَاحا فِي الْخطْبَة، فَلَمَّا حرم فِي الْخطْبَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي هُوَ آكِد فَرضِيَّة من الِاسْتِمَاع، فَأولى أَن يحرم مَا لَيْسَ بِفَرْض. الثَّالِث: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلم سليكا وَقَالَ لَهُ: قُم فصل، فَلَمَّا كَلمه وَأمره سقط عَنهُ فرض الِاسْتِمَاع، إِذْ لم يكن هُنَاكَ قَول فِي ذَلِك الْوَقْت إلاّ مخاطبته لَهُ وسؤاله وَأمره. الرَّابِع: أَن سليكا كَانَ ذَا بذاذة، فَأَرَادَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يشهره ليرى حَاله.
وَعند ابْن بزيزة: كَانَ سليك عُريَانا فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرَاهُ النَّاس. وَقد قيل: إِن ترك الرُّكُوع حالتئذ سنة مَاضِيَة وَعمل مستفيض فِي زمن الْخُلَفَاء، وعولوا أَيْضا على حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (لَا تصلوا وَالْإِمَام يخْطب) . وَاسْتَدَلُّوا بإنكار عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عُثْمَان فِي ترك الْغسْل وَلم ينْقل أَنه أمره بالركعتين، وَلَا نقل أَنه صلاهما. وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم لما يَقُول الشَّافِعِي، فَحَدِيث سليك لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لَهُ، إِذْ مذْهبه أَن الرَّكْعَتَيْنِ تسقطان بِالْجُلُوسِ. وَفِي (اللّبَاب) : وروى عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء أَن أَبَا قلَابَة جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب، فَجَلَسَ وَلم يصل. وَعَن عقبَة بن عَامر. قَالَ: (الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة) . وَفِي (كتاب الْأَسْرَار) : لنا مَا روى الشّعبِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا صعد الإِمَام الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة، وَلَا كَلَام حَتَّى يفرغ) . وَالصَّحِيح من الرِّوَايَة: (أذا جَاءَ أحدكُم وَالْإِمَام على الْمِنْبَر فَلَا صَلَاة وَلَا كَلَام) . وَقد تصدى بَعضهم لرد مَا ذكر من الِاحْتِجَاج فِي منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ جَمِيع مَا ذَكرُوهُ مَرْدُود، ثمَّ قَالَ: لِأَن الأَصْل عدم الخصوصية. قُلْنَا: نعم، إِذا لم تكن قرينَة، وَهنا قرينَة على الخصوصية، وَذَلِكَ فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ يَقُول: (جَاءَ رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب بهيئة بذة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أصليت؟ قَالَ: لَا، قَالَ:(6/232)
صل رَكْعَتَيْنِ، وحث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ: فَألْقوا ثيابًا فَأعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّانِيَة جَاءَ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَحَث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ. فَألْقى أحد ثوبيه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَاءَ هَذَا يَوْم الْجُمُعَة بهيئة بذة فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقوا ثيابًا، فَأمرت لَهُ مِنْهَا بثوبين، ثمَّ جَاءَ الْآن فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقى أَحدهمَا، فانتهره وَقَالَ: خُذ ثَوْبك) . انْتهى. وَكَانَ مُرَاده بأَمْره إِيَّاه بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ أَن يرَاهُ النَّاس ليتصدقوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي ثوب خلق. وَقد قيل: إِنَّه كَانَ عُريَانا، كَمَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَو كَانَ مُرَاده إِقَامَة السّنة بِهَذِهِ الصَّلَاة لما قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك: أنصت، وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) . وَهُوَ حَدِيث مجمع على صِحَّته من غير خلاف لأحد فِيهِ، حَتَّى كَاد أَن يكون متواترا، فَإِذا مَنعه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ فرض فِي هَذِه الْحَالة فَمَنعه من إِقَامَة السّنة، أَو الِاسْتِحْبَاب بِالطَّرِيقِ الأولى، فَحِينَئِذٍ قَول هَذَا الْقَائِل، فَدلَّ على أَن قصَّة التَّصْدِيق عَلَيْهِ جُزْء عِلّة لَا عِلّة كَامِلَة غير موجه، لِأَنَّهُ عِلّة كَامِلَة. وَقَالَ أَيْضا: وَأما إِطْلَاق من أطلق أَن التَّحِيَّة تفوت بِالْجُلُوسِ، فقد حكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الْمُحَقِّقين أَن ذَلِك فِي حق الْعَامِد الْعَالم أما الْجَاهِل أَو النَّاسِي فَلَا. قلت: هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ، وَالِاحْتِمَال إِذا كَانَ غير ناشىء عَن دَلِيل فَهُوَ لَغْو لَا يعْتد بِهِ، وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْلهم: (إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خَاطب سليكا سكت عَن خطبَته حَتَّى فرغ سليك من صلَاته) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِمَا حَاصله أَنه مُرْسل، والمرسل حجَّة عِنْدهم. وَقَالَ أَيْضا: فِيمَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ، من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض الِاسْتِمَاع عَنهُ، إِذْ لم يكن مِنْهُ حِينَئِذٍ خطْبَة لأجل تِلْكَ المخاطبة، وَادّعى أَنه أقوى الْأَجْوِبَة. قَالَ: هُوَ من أَضْعَف الْأَجْوِبَة، لِأَن المخاطبة لما انْقَضتْ رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خطْبَة وتشاغل سليك بامتثال مَا أَمر بِهِ من الصَّلَاة. فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة. قلت: يرد مَا قَالَه من قَوْله هَذَا مَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي ذكرنَا عَنهُ أَنه قَالَ: وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وَفِيه: (وَأمْسك أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) يَعْنِي: سليك، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه يصحح الْكَلَام السَّاقِط؟ وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل شُرُوعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخطْبَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة اللَّيْث عِنْد مُسلم: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر) . وَأجِيب: بِأَن الْقعُود على الْمِنْبَر لَا يخْتَص بِالِابْتِدَاءِ، بل يحْتَمل أَن يكون بَين الْخطْبَتَيْنِ أَيْضا، قلت: الأَصْل ابْتِدَاء قعوده بَين الْخطْبَتَيْنِ، مُحْتَمل فَلَا يحكم بِهِ على الأَصْل على أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه بِأَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وسؤاله إِيَّاه هَل صليت؟ وَأمره للنَّاس بِالصَّدَقَةِ، يضيق عَن الْقعُود بَين الْخطْبَتَيْنِ، لِأَن زمن هَذَا الْقعُود لَا يطول. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون الرَّاوِي تجوز فِي قَوْله: (قَاعد) . قلت: هَذَا ترويج لكَلَامه، وَنسبَة الرَّاوِي إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز مَعَ عدم الْحَاجة والضرورة. وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ رده بقوله: إِن سليكا مُتَأَخّر الْإِسْلَام جدا، وَتَحْرِيم الْكَلَام مُتَقَدم حجدا، فَكيف يدعى نسخ الْمُتَأَخر بالمتقدم مَعَ ان النّسخ لَا يثبت بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: لم يقل أحد إِن قَضِيَّة سليك كَانَت قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن قَضِيَّة سليك كَانَت فِي حَالَة إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة قبل أَن ينْهَى عَنْهَا، أَلا يرى أَن فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَألْقى النَّاس ثِيَابهمْ، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن نزع الرجل ثَوْبه وَالْإِمَام يخْطب مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مس الْحَصَى، وَقَول الرجل لصَاحبه أنصت، كل ذَلِك مَكْرُوه، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سليكا، وَمَا أَمر بِهِ النَّاس بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ فِي حَال إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة. وَلما أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإنصات عِنْد الْخطْبَة وَجعل حكم الْخطْبَة كَحكم الصَّلَاة، وَجعل الْكَلَام فِيهَا لَغوا كَمَا كَانَ، جعله لَغوا فِي الصَّلَاة. ثَبت بذلك أَن الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، فَهَذَا وَجه قَول الْقَائِل بالنسخ، ومبنى كَلَامه هَذَا على هَذَا الْوَجْه لَا على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن منع الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يَسْتَوِي فِيهِ من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد أَو خَارجه، وَقد اتَّفقُوا على أَن من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد يمْتَنع عَلَيْهِ التَّنَفُّل حَال الْخطْبَة، فَلْيَكُن الْآتِي كَذَلِك، قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَتعقب بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، فَهُوَ فَاسد. قلت: لم يبنِ الطَّحَاوِيّ كَلَامه ابْتِدَاء على الْقيَاس حَتَّى يكون مَا قَالَه قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص، وَإِنَّمَا مدعي الْفساد لم يحرر مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، فَادّعى الْفساد، فَوَقع فِي الْفساد. وتحرير كَلَام الطَّحَاوِيّ أَنه روى أَحَادِيث عَن سُلَيْمَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأَوْس بن أَوْس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كلهَا تَأمر بالإنصات إِذا خطب الإِمَام، فتدل كلهَا أَن مَوضِع كَلَام الإِمَام لَيْسَ بِموضع للصَّلَاة، فبالنظر إِلَى ذَلِك يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي(6/233)
وَمَعَ هَذَا الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ وَافقه عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن الدَّاخِل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة تسْقط عَنهُ التَّحِيَّة. وَلَا شكّ أَن الْخطْبَة صَلَاة، فَتسقط عَنهُ فِيهَا أَيْضا، وَتعقب بِأَن الْخطْبَة لَيست صَلَاة من كل وَجه، والداخل فِي حَال الْخطْبَة مَأْمُور بشغل الْبقْعَة بِالصَّلَاةِ قبل جُلُوسه، بِخِلَاف الدَّاخِل فِي حَال الصَّلَاة، فَإِن إِتْيَانه بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَت تحصل الْمَقْصُود. قلت: هَذَا الْقَائِل لم يدع أَن الْخطْبَة صَلَاة من كل وَجه حَتَّى يرد عَلَيْهِ مَا ذكره من التعقيب، بل قَالَ: هِيَ صَلَاة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة قصرت لمكانها، فَمن حَيْثُ هَذَا الْوَجْه يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي، وَيُؤَيّد هَذَا حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة: (عَن عبد الله بن بشر، قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنبه يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ: جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت) . أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْجُلُوسِ وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ؟ فَهَذَا خلاف حَدِيث سليك فَافْهَم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على سُقُوط التَّحِيَّة عَن الإِمَام مَعَ كَونه يجلس على الْمِنْبَر، مَعَ أَن لَهُ ابْتِدَاء الْكَلَام فِي الْخطْبَة دون الْمَأْمُوم، فَيكون ترك الْمَأْمُوم التَّحِيَّة بطرِيق الأولى، وَتعقب بِأَنَّهُ أَيْضا قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَهُوَ فَاسد؟ قلت: إِنَّمَا يكون الْقيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَاسِدا إِذا كَانَ ذَلِك النَّص سالما عَن الْمعَارض، وَلم يسلم سليك عَن أُمُور ذَكرنَاهَا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، منع الصَّلَاة للداخل وَالْإِمَام يخْطب. أما الصَّحَابَة فهم: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وثعلبة ابْن أبي مَالك الْقرظِيّ وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس.
أما أثر عقبَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة. فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال! قلت: وَثَّقَهُ أَحْمد وَكفى بِهِ ذَلِك.
وَأما أثر ثَعْلَبَة بن مَالك فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر يقطع الصَّلَاة، وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن يزِيد بن عبد الله عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ قَالَ: (أدْركْت عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَكَانَ الإِمَام إِذا خرج تركنَا الصَّلَاة، فَإِذا تكلم تركنَا الْكَلَام) .
وَأما أثر عبد الله بن صَفْوَان فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ: (رَأَيْت عبد الله بن صَفْوَان ابْن أُميَّة دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، وَعبد الله بن الزبير يخْطب على الْمِنْبَر. وَعَلِيهِ ازار ورداء وَنَعْلَان وَهُوَ معتم بعمامة، فاستلم الرُّكْن ثمَّ قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، ثمَّ جلس وَلم يرْكَع.
وَأما أثر عبد الله بن عمر وَعبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا (عَن عَطاء قَالَ: كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يكرهان الْكَلَام وَالصَّلَاة إِذا خرج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة) .
وَأما التابعون فهم: الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وعلقمة وَأَبُو قلَابَة وَمُجاهد.
فأثر الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن شُرَيْح أَنه: إِذا جَاءَ وَقد خرج الإِمَام لم يصل. وَأثر الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ فِي: الرجل يدْخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب، قَالَ: يجلس وَلَا يسبح.
وَأثر عَلْقَمَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن القَاضِي بكار عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبراهيم قَالَ لعلقمة: أَتكَلّم وَالْإِمَام يخْطب وَقد خرج الإِمَام؟ قَالَ: لَا ... إِلَى آخِره.
وَأثر أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَنه: جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل. وَأثر مُجَاهِد أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ: كره أَن يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا.
فَهَؤُلَاءِ السادات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار لم يعْمل أحد مِنْهُم بِمَا فِي حَدِيث سليك، وَلَو علمُوا أَنه يعْمل بِهِ لما تَرَكُوهُ، فَحِينَئِذٍ بَطل اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض.
فَإِن قلت: روى الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي قَتَادَة السّلمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) ، فَهَذَا عَام يتَنَاوَل كل دَاخل فِي الْمَسْجِد، سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أَو غَيره. قلت: هَذَا على من دخل الْمَسْجِد فِي حَال تحل فِيهَا الصَّلَاة لَا مُطلقًا، ألاَ يرى أَن من دخل الْمَسْجِد عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، أَو عِنْد قِيَامهَا فِي كبد السَّمَاء، لَا يُصَلِّي فِي هَذِه الْأَوْقَات للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ؟ فَكَذَلِك لَا يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، لوُرُود وجوب الْإِنْصَات فِيهِ. وَالصَّلَاة حِينَئِذٍ مِمَّا يخل بالانصات. وَقَالَ أَيْضا: قيل: لَا نسلم(6/234)
أَن المُرَاد بالركعتين الْمَأْمُور بهما تَحِيَّة الْمَسْجِد، بل يحْتَمل أَن تكون صَلَاة فَائِتَة كالصبح مثلا، ثمَّ قَالَ: وَقد تولى رده ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يتَكَرَّر أمره لَهُ بذلك مرّة بعد أُخْرَى. قلت: هَذَا الْقَائِل نقل عَن ابْن الْمُنِير مَا يُقَوي القَوْل الْمَذْكُور، حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كشف لَهُ عَن ذَلِك، وَإِنَّمَا استفهمه ملاطفة لَهُ فِي الْخطاب. قَالَ: وَلَو كَانَ المُرَاد بِالصَّلَاةِ التَّحِيَّة لم يحْتَج إِلَى استفهامه، لِأَنَّهُ قد رَآهُ لما قد دخل، وَهَذِه تَقْوِيَة جَيِّدَة بإنصاف. وَمَا نَقله عَن ابْن حبَان لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن تكراره يدل على أَن الَّذِي أمره بِهِ من الصَّلَاة الْفَائِتَة، لِأَن التّكْرَار لَا يحسن فِي غير الْوَاجِب، وَمن جملَة مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد نقل حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه دخل ومروان يخْطب، فصلى الرَّكْعَتَيْنِ، فَأَرَادَ حرس مَرْوَان أَن يمنعوه فَأبى حَتَّى صلاهما، ثمَّ قَالَ: مَا كنت لأدعهما بعد أَن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بهما. انْتهى. وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك، وَنقل أَيْضا عَن شَارِح التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: كل من نقل عَنهُ منع الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب مَحْمُول على من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة. انْتهى. قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ روى عَن عقبَة بن عَامر: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة، وَكَيف يَقُول هَذَا الْقَائِل وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مَا يُخَالف ذَلِك؟ وإي مُخَالفَة تكون أقوى من هَذَا حَيْثُ جعل الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة؟ وَكَيف يَقُول الشَّارِح التِّرْمِذِيّ: لم يَقع عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِمَنْع التَّحِيَّة؟ وَأي تَصْرِيح يكون أقوى من قَول عقبَة حَيْثُ أطلق على فعل هَذِه الصَّلَاة مَعْصِيّة؟ فَلَو كَانَ قَالَ: يكره أَو لَا يفعل لَكَانَ منعا صَرِيحًا، فضلا أَنه قَالَ: مَعْصِيّة وَفعل الْمعْصِيَة حرَام، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ الْمعْصِيَة لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْوَقْت تخل بالإنصات الْمَأْمُور بِهِ، فَيكون بِفِعْلِهَا تَارِكًا لِلْأَمْرِ، وتارك الْأَمر يُسمى عَاصِيا، وَفعله يُسمى مَعْصِيّة، وَفِي الْحَقِيقَة هَذَا الْإِطْلَاق مُبَالغَة. فَإِن قلت: فِي سَنَد أثر عقبَة بن عبد الله بن لَهِيعَة؟ . قلت: مَاله، وَقد قَالَ أَحْمد: من كَانَ مثل ابْن لَهِيعَة بِمصْر فِي كَثْرَة حَدِيثه وَضَبطه وإتقانه؟ وَحدث عَنهُ أَحْمد كثيرا، وَقَالَ ابْن وهب: حَدثنِي الصَّادِق الْبَار وَالله عبد الله بن لَهِيعَة، وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: كَانَ ابْن لَهِيعَة صَحِيح الْكتاب طلابا للْعلم.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن عبد الله بن صَفْوَان أَنه دخل الْمَسْجِد وَابْن الزبير يخْطب فاستلم الرُّكْن ثمَّ سلم عَلَيْهِ ثمَّ جلس وَعبد الله بن صَفْوَان وَعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: لما لم يُنكر ابْن الزبير على ابْن صَفْوَان، وَلَا من حضرهما من الصَّحَابَة ترك التَّحِيَّة، فَدلَّ على صِحَة مَا قُلْنَاهُ، وَتعقب بِأَن تَركهم النكير لَا يدل على تَحْرِيمهَا، بل يدل على عدم وُجُوبهَا، وَلم يقل بِهِ مخالفوهم. قلت: هَذَا التعقيب متعقب لِأَنَّهُ مَا ادّعى تَحْرِيمهَا حَتَّى يرد مَا اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ، وَلم يقل هُوَ وَلَا غَيره بِالْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا دَعوَاهُم أَن الدَّاخِل يَنْبَغِي أَن يجلس وَلَا يُصَلِّي شَيْئا، وَالْحَال أَن الإِمَام يخْطب، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: هَذِه الْأَجْوِبَة الَّتِي قدمناها تنْدَفع من أَصْلهَا بِعُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث أبي قَتَادَة: (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا يجلس حَتَّى يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) . قلت: قد أجبنا عَن هَذَا بِأَنَّهُ مَخْصُوص، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا نَص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ التَّأْوِيل، وَلَا أَظن عَالما يبلغهُ هَذَا اللَّفْظ، ويعتقده صَحِيحا فيخالفه قلت: فرق بَين التَّأْوِيل والتخصيص وَلم يقل أحد من المانعين عَن الصَّلَاة وَالْإِمَام يخْطب: أَنه مؤول، بل قَالُوا: إِنَّه مَخْصُوص. وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الحَدِيث، أَعنِي: حَدِيث هَذَا الْبَاب جَوَاز صَلَاة التَّحِيَّة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، لِأَنَّهَا إِذا لم تسْقط فِي الْخطْبَة مَعَ الْأَمر بالإنصات لَهَا فغيرها أولى. قلت: من جملَة الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة وَقت طُلُوع الشَّمْس وَوقت غُرُوبهَا وَوقت استوائها، وَحَدِيث عقبَة ابْن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَهَانَا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس بازعة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب) . رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، فَإِن هَذَا الحَدِيث بِعُمُومِهِ يمْنَع سَائِر الصَّلَوَات فِي هَذِه الْأَوْقَات من الْفَرَائِض والنوافل، وَصَلَاة التَّحِيَّة من النَّوَافِل.
33 - (بابُ منْ جاءَ والإمامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من جَاءَ ... إِلَى آخِره، وَكلمَة: من، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. وَقَوله: (صلى رَكْعَتَيْنِ) خَبره. قَوْله: (وَالْإِمَام يخْطب) ، جملَة حَالية.(6/235)
931 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرٍ ووسَمِعَ جابِرا قَالَ دَخَلَ رَجلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ فَقَالَ أصلَّيْتَ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. (انْظُر الحَدِيث 930 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصل رَكْعَتَيْنِ) ، قيل: فِي التَّرْجَمَة قيد الرَّكْعَتَيْنِ، بقوله: (خفيفتين) ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث هَذَا الْقَيْد فَلم تقع الْمُطَابقَة تَامَّة. وَأجِيب: بِأَن من عَادَته أَن يُشِير إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق الحَدِيث، وَهَذَا الْقَيْد وَقع فِي سنَن أبي قُرَّة: عَن الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر بِلَفْظ: (قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، وَوَقع فِي مُسلم بِمَعْنَاهُ بِلَفْظ: (وتجوَّز فيهمَا) . وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَنه أخرج حَدِيث ذَاك الْبَاب: عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر، وَأخرج حَدِيث هَذَا الْبَاب، عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن جَابر، وَالْفرق بَينهمَا فِي بعض الْأَلْفَاظ: فَفِي حَدِيث الْبَاب الأول لم يُصَرح بِسَمَاع عَمْرو عَن جَابر، وَهَهُنَا قد صرح بقوله: عَن عَمْرو سمع جَابِرا، وَنسب عمرا إِلَى أَبِيه دِينَار فِي الحَدِيث الأول، وَهَهُنَا لم ينْسبهُ. وَقَوله: (أصليت؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا بِحَذْف الْهمزَة، كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (قَالَ: قُم فصل) هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر (قَالَ: قُم فصل) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَيَان حكم رفع الْيَدَيْنِ، فِي الْبَاب السَّابِق.
34 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الخُطْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رفع الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة.
932 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ وعنْ يُونُسَ عنْ ثابِتٍ عَن أنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إذْ قامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله هلَكَ الكُرَاعُ وهَلَكَ الشَّاءُ فادْعُ الله أنْ يَسْقِينَا فَمَدَّ يَدَيْهِ ودَعَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمد يَدَيْهِ ودعا) . فَإِن قلت: فِي التَّرْجَمَة رفع الْيَدَيْنِ، وَفِي الحَدِيث الْمَدّ، وَمن أَيْن التطابق؟ قلت: فِي الحَدِيث الَّذِي بعده: (فَرفع يَدَيْهِ) ، كَلَفْظِ التَّرْجَمَة، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَن المُرَاد بِالرَّفْع هُنَا الْمَدّ، لَا كالرفع الَّذِي فِي الصَّلَاة.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس. وَالثَّانِي: عَن مُسَدّد أَيْضا عَن حَمَّاد بن زيد عَن يُونُس بن عبيد عَن ثَابت عَن أنس، وَالرِّجَال كلهم بصريون، وَالْبُخَارِيّ أخرجه بِالطَّرِيقِ الأول أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُسَدّد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَنَحْوه عَن مُسَدّد، وبالطريق الثَّانِي أخرجه النَّسَائِيّ عَن حَمَّاد بن زيد عَن يُونُس عَن ثَابت عَن أنس، وَهَذَا طرف من حَدِيث أنس فِي الاسْتِسْقَاء أخرجه مطولا ومختصرا فِي مَوَاضِع عديدة على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (بَيْنَمَا) ، أَصله: بَين، فزيدت فِيهِ الْألف وَالْمِيم، وَقد تكَرر ذكره فِيمَا مضى، وأضيف إِلَى الْجُمْلَة بعده، وَقَوله: (إِذا قَامَ) ، وَجَوَابه وَفِي الحَدِيث الَّذِي بعده: (قَامَ أَعْرَابِي) ، وَفِي أُخْرَى: (فَقَامَ الْمُسلمُونَ) ، وَفِي أُخْرَى: (جَاءَ من نَحْو دَار الْقصار) وَفِي أُخْرَى فِي الاسْتِسْقَاء: (فَقَامَ النَّاس فصاحوا: يَا رَسُول الله قحط الْمَطَر) . قَوْله: (الكراع) ، بِضَم الْكَاف وَضَبطه بَعضهم عَن الْأصيلِيّ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ خطأ وَهُوَ اسْم لجمع الْخَيل. قَوْله: (الشَّاء) جمع شَاة وأصل الشَّاة شاهة لِأَن تصغيرها شويهة، وَالْجمع شِيَاه بِالْهَاءِ فِي الْعدَد، تَقول: ثَلَاث شِيَاه إِلَى الْعشْرَة، فَإِذا جَاوَزت فبالتاء، فَإِذا كثرت قيل هَذِه: شَاءَ كَثِيرَة، وَجمع الشَّاء: شوىً. قَوْله: (فَمد يَدَيْهِ) ، قذ ذكرنَا أَن المُرَاد من المدليس الرّفْع، كَمَا فِي الصَّلَاة.
35 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء: الاسْتِسْقَاء استفعال، وَهُوَ طلب السقيا، بِضَم السِّين وَهُوَ: الْمَطَر، يُقَال: سقى الله عباده الْغَيْث، وأسقاهم وأسقيت فلَانا، إِذا طلبت مِنْهُ أَن يسقيك، وَفِي (الْمطَالع) : يُقَال: سقى وأسقى بِمَعْنى وَاحِد. //(6/236)
56 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ حَدثنَا أَبُو عَمْرو قَالَ حَدثنِي إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس بن مَالك قَالَ أَصَابَت النَّاس سنة على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب فِي يَوْم جُمُعَة قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع الْعِيَال فَادع الله لنا فَرفع يَدَيْهِ وَمَا نرى فِي السَّمَاء قزعة فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ وَمَا وضعهما حَتَّى ثار السَّحَاب أَمْثَال الْجبَال ثمَّ لم ينزل عَن منبره حَتَّى رَأَيْت الْمَطَر يتحادر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك وَمن الْغَد وَبعد الْغَد وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَة الْأُخْرَى وَقَامَ ذَلِك الْأَعرَابِي أَو قَالَ غَيره فَقَالَ يَا رَسُول الله تهدم الْبناء وغرق المَال فَادع الله لنا فَرفع يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا فَمَا يُشِير بِيَدِهِ إِلَى نَاحيَة من السَّحَاب إِلَّا انفرجت وَصَارَت الْمَدِينَة مثل الجوبة وسال الْوَادي قناة شهرا وَلم يَجِيء أحد من نَاحيَة إِلَّا حدث بالجود) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَرفع يَدَيْهِ " لِأَنَّهُ إِنَّمَا رفعهما لكَونه استسقى فببركته وبركة دُعَائِهِ أنزل الله الْمَطَر حَتَّى سَالَ الْوَادي قناة شهرا. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة وَالْأَوْزَاعِيّ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو ونسبته إِلَى الأوزاع وَهِي من قبائل شَتَّى وَقَالَ ابْن الْأَثِير نسبته إِلَى الأوزاع بطن من ذِي الكلاع من الْيمن وَقيل نسبته إِلَى الأوزاع قَرْيَة بِدِمَشْق (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ونسبته وَفِيه أَن شَيْخه مدنِي وَاثْنَانِ بعده دمشقيان وَالَّذِي بعدهمَا مدنِي أَيْضا. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء عَن الْحسن بن بشر وَفِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن دَاوُد بن رشيد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " سنة " بِفَتْح السِّين أَي شدَّة وَجهد من الجدوبة وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} وأصل السّنة سنهة بِوَزْن جبهة فحذفت لامها ونقلت حركتها إِلَى النُّون فَبَقيت سنة لِأَنَّهَا من سنهت النّخل وتسنهت إِذا أَتَى عَلَيْهَا السنون وَقيل أَن أَصْلهَا سنوة بِالْوَاو فحذفت كَمَا حذفت الْهَاء لقَولهم تسنيت عِنْده إِذا أَقمت عِنْده سنة فَلهَذَا يُقَال على الْوَجْهَيْنِ استأجرته مسانهة ومساناة وَأما السّنة الَّتِي هِيَ أول النّوم فبكسر السِّين وَأَصله وَسن لِأَنَّهُ من الوسن بِفتْحَتَيْنِ يُقَال وَسن يوسن كعلم يعلم سنة فحذفت الْوَاو وعوضت مِنْهَا الْهَاء كَمَا فِي عدَّة قَوْله " على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي على زَمَنه قَوْله " فَبينا " قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله قَوْله " قَامَ أَعْرَابِي " الْأَعرَابِي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُ وَلَيْسَ هُوَ جمعا لعرب وَإِنَّمَا الْأَعْرَاب سكان الْبَادِيَة خَاصَّة وَالْعرب جيل من النَّاس وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ عَرَبِيّ بَين الْعرُوبَة وهم أهل الْأَمْصَار وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْأَعْرَاب ساكنوا الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أَعْرَابِي وعربي قَوْله " هلك المَال " المُرَاد بِالْمَالِ هُنَا وَمَا بعده الْحَيَوَان كَذَا فسره فِي حَدِيث الْمُوَطَّأ وَمعنى هلك المَال يَعْنِي الْحَيَوَانَات هَلَكت إِذْ لم تَجِد مَا ترعى قَوْله " والعيال " قَالَ الْجَوْهَرِي عِيَال الرجل من يعوله وَوَاحِد الْعِيَال عيل وَالْجمع عيايل مثل جيد جِيَاد وجيايد وأعال الرجل أَي كثر عِيَاله فَهُوَ معيل وَامْرَأَة معيلة قَالَ الْأَخْفَش أَي صَار ذَا عِيَال وَذكر الْجَوْهَرِي هَذِه الْمَادَّة فِي عيل فِي الْيَاء آخر الْحُرُوف وَذكره ابْن الْأَثِير فِي عول فِي الْوَاو ثمَّ قَالَ يُقَال عَال الرجل عِيَاله يعولهم إِذا قَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من قوت وَكِسْوَة وَغَيرهمَا وَقَالَ الْكسَائي يُقَال عَال الرجل يعول إِذا كثر عِيَاله واللغة الجيدة أعال يعيل قَوْله " قزعة " بِالْقَافِ وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات وَهِي الْقطعَة من السَّحَاب وَفِي الْمُحكم القزع قطع من السَّحَاب(6/237)
رقاق كَأَنَّهَا ظلّ إِذا مرت من تَحت السَّحَاب الْكَثِيرَة قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأكْثر مَا يكون ذَلِك فِي الخريف وَقَالَ يَعْقُوب عَن الْبَاهِلِيّ يُقَال مَا على السَّمَاء قزعة أَي شَيْء من غيم وَفِي تَهْذِيب الْأَزْهَرِي كل شَيْء متفرق فَهُوَ قزع قَوْله " حَتَّى ثار السَّحَاب " بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي هاج يُقَال ثار الشَّيْء يثور إِذا ارْتَفع وانتشر قَوْله " كأمثال الْجبَال " أَي لكثرتها وإطباقها وَجه السَّمَاء قَوْله " يتحادر " أَي ينزل ويقطر وَهُوَ يتفاعل من الحدور وَهُوَ ضد الصعُود وَيُقَال حدر فِي قِرَاءَته إِذا أسْرع وَكَذَلِكَ فِي أَذَانه وَهُوَ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى وأصل بَاب التفاعل للمشاركة بَين قوم وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك لِأَن تفَاعل قد تَجِيء بِمَعْنى فعل مثل توانيت أَي ونيت وَهَذَا كَذَلِك وَمَعْنَاهُ يحدر قَوْله " فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك " بِضَم الْمِيم وَكسر الطَّاء مَعْنَاهُ حصل لنا الْمَطَر يُقَال مطرَت السَّمَاء تمطر ومطرتهم تمطرهم مَطَرا وأمطرتهم أَصَابَتْهُم بالمطر وأمطرهم الله بِالْعَذَابِ خَاصَّة ذكره ابْن سَيّده وَقَالَ الْفراء قطرت السَّمَاء وأقطرت مثل مطرَت السَّمَاء وأمطرت وَفِي الْجَامِع مطرَت السَّمَاء تمطر مَطَرا فالمطر بِالسُّكُونِ الْمصدر والمصدر بالحركة الِاسْم وَفِيه لُغَة أُخْرَى مطرَت تمطر مَطَرا وَكَذَا أمْطرت السَّمَاء تمطر وَفِي الصِّحَاح مطرَت السَّمَاء وأمطرها الله وناس يَقُولُونَ مطرَت السَّمَاء وأمطرت بِمَعْنى قَوْله " يَوْمنَا " مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة يَعْنِي فِي يَوْمنَا ذَلِك قَوْله " وَمن الْغَد " كلمة من إِمَّا بِمَعْنى فِي أَي فِي الْغَد وَإِمَّا تبعيضية قَوْله " حَتَّى الْجُمُعَة الْأُخْرَى " مثل أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فِي جَوَاز الحركات الثَّلَاث فِي مدخولها أما النصب فعلى أَن حَتَّى عاطفة على الْمَنْصُوب قبله وَأما الرّفْع فعلى أَن مدخولها مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف وَأما الْجَرّ فعلى أَن حَتَّى جَارة قَوْله " حوالينا " بِفَتْح اللَّام وَفِي مُسلم " حولنا " وَكِلَاهُمَا صَحِيح يُقَال قعدوا حوله وحواله وحواليه أَي مطيفين بِهِ من جوانبه وَهُوَ ظرف مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره اللَّهُمَّ أنزل أَو أمطر حوالينا وَلَا تنزل علينا (فَإِن قلت) إِذا مطرَت حول الْمَدِينَة فالطريق ممتنعة فَإِذا لم يزل شكواهم (قلت) أَرَادَ بحوالينا الآكام والضراب وشبههما كَمَا فِي الحَدِيث فَتبقى الطّرق على هَذَا مسلوكة كَمَا سَأَلُوا قَوْله " وَلَا علينا " أَي وَلَا تمطر علينا أَرَادَ بِهِ الْأَبْنِيَة قَوْله " إِلَّا انفرجت " أَي إِلَّا انكشفت وَقَالَ ابْن الْقَاسِم مَعْنَاهُ تدورت كَمَا يَدُور جيب الْقَمِيص وَقَالَ ابْن وهب مَعْنَاهُ انْقَطَعت عَن الْمَدِينَة كَمَا يَنْقَطِع الثَّوْب وَقَالَ ابْن شعْبَان خرجت عَن الْمَدِينَة كَمَا يخرج الجيب عَن الثَّوْب قَوْله " مثل الجوبة " بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ الدَّاودِيّ أَي صَارَت مستديرة كالحوض المستدير وأحاطت بهَا الْمِيَاه وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وجفان كالجواب} وَقَالَ ابْن التِّين هَذَا عِنْدِي وهم لِأَن اشتقاق الْجَابِيَة من جبا الْعين بِكَسْر الْجِيم مَقْصُور وَهُوَ مَا جمع فِيهَا من المَاء فَيكون اسْم الفعلة مِنْهُ جبوة وَإِنَّمَا من بَاب جاب يجوب إِذا قطع من قَوْله تَعَالَى {جابوا الصخر بالواد} فالعين مِنْهُ وَاو فَتكون الفعلة مِنْهُ جوبة كَمَا فِي الحَدِيث وَقَالَ الْجَوْهَرِي الجوبة الفرجة من السَّحَاب وَالْجِبَال وَقَالَ ابْن فَارس الجوبة كالغائط من الأَرْض وَقَالَ الْخطابِيّ هِيَ الترس وَفِي حَدِيث آخر " فَبَقيت الْمَدِينَة كالترس " وَقَالَ والجوبة أَيْضا الوهدة المنقطعة عَمَّا علا عَن الأَرْض وَجَاء فِي حَدِيث آخر " مثل الإكليل " أَي دَار بهَا السَّحَاب قَوْله " الْوَادي قناة " بِفَتْح الْقَاف وَتَخْفِيف النُّون وَهُوَ علم لبقعة غير منصرف مَرْفُوع لِأَنَّهُ بدل عَن الْوَادي والوادي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل سَالَ والقناة اسْم وَاد من أَوديَة الْمَدِينَة قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات قناة بِالنّصب والتنوين فَهُوَ بِمَعْنى الْبِئْر المحفور أَي سَالَ الْوَادي مثل الْقَنَاة وَفِي بعض الرِّوَايَات قناة بِالْجَرِّ بِإِضَافَة الْوَادي إِلَيْهَا قَوْله " بالجودة " بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره دَال مُهْملَة وَهُوَ الْمَطَر الغزير الْوَاسِع يُقَال جادهم الْمَطَر يجودهم جودا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ معْجزَة ظَاهِرَة للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِجَابَة دُعَائِهِ مُتَّصِلا بِهِ فِي الدُّعَاء فَإِنَّهُ لم يسْأَل رفع الْمَطَر من أَصله بل سَأَلَ دفع ضَرَره وكشفه عَن الْبيُوت والمرافق والطرق بِحَيْثُ لَا يتَضَرَّر بِهِ سَاكن وَلَا ابْن سَبِيل وَسَأَلَ بَقَاءَهُ فِي مَوَاضِع الْحَاجة بِحَيْثُ يبْقى نَفعه وخصبه فِي بطُون الأودية وَنَحْوهَا. وَفِيه اسْتِحْبَاب طلب انْقِطَاع الْمَطَر عَن الْمنَازل إِذا كثر وتضرروا بِهِ. وَفِيه رفع الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء فكرهه مَالك فِي رِوَايَة وَأَجَازَهُ غَيره فِي كل الدُّعَاء وَبَعض الْعلمَاء جوزوه فِي الاسْتِسْقَاء فَقَط وَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء السّنة فِي دُعَاء رفع الْبلَاء أَن يرفع يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهرهما إِلَى السَّمَاء وَفِي دُعَاء سُؤال شَيْء وتحصيله يَجْعَل بطنهما إِلَى السَّمَاء وَعَن مَالك بن يسَار أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ ببطون أكفكم وَلَا تسألوه بظهورها " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ سلمَان الْفَارِسِي(6/238)
من عِنْد التِّرْمِذِيّ محسنا " إِن الله حَيّ كريم يستحيي أَن يرفع الرجل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا " قَالَ التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ بَعضهم فَلم يرفعهُ وَعَن أبي يُوسُف إِن شَاءَ رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء وَإِن شَاءَ أَشَارَ بإصبعيه وَفِي الْمُحِيط بإصبعه السبابَة وَفِي التَّجْرِيد من يَده الْيُمْنَى وَقَالَ ابْن بطال رفع الْيَدَيْنِ فِي الْخطْبَة فِي معنى الضراعة إِلَى الْجَلِيل والتذلل لَهُ وَقَالَ الزُّهْرِيّ رفع الْأَيْدِي يَوْم الْجُمُعَة مُحدث وَقَالَ ابْن سِيرِين أول من رفع يَدَيْهِ فِي الْجُمُعَة عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وَفِيه الاسْتِسْقَاء بِالدُّعَاءِ بِدُونِ صَلَاة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَبِه احْتج على ذَلِك وَفِيه قيام الْوَاحِد بِأَمْر الْعَامَّة. وَفِيه إتْمَام الْخطْبَة فِي الْمَطَر وَفِيه قَالَ ابْن شعْبَان فِي قَوْله " إِلَّا انفرجت " خرجت عَن الْمَدِينَة كَمَا يخرج الجيب عَن الثَّوْب وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ دَلِيل على أَن من أودع وَدِيعَة فَجَعلهَا فِي جيب قَمِيصه أَنه يضمن قَالَ وَقيل لَا يضمن قَالَ وَالْأول أحوط لهَذَا الحَدِيث -
36 - (بابُ الإنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخْطُبُ وإذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أنْصِتْ فقَدْ لَغَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِنْصَات يَوْم الْجُمُعَة فِي حَالَة خطْبَة الإِمَام. قَوْله: (وَالْإِمَام يخْطب) جملَة حَالية ذكرهَا للإشعار بِأَن الْإِنْصَات قبل شُرُوع الإِمَام فِيهَا لَا يجب، خلافًا لقوم فِي ذَلِك، وَلَكِن الأولى الْإِنْصَات من وَقت خُرُوج الإِمَام. قَوْله: (وَإِذا قَالَ لصَاحبه: انصت، فقد لَغَا) من جملَة التَّرْجَمَة، وَهُوَ لفظ حَدِيث الْبَاب فِي بعض طرقه، وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قَالَ الرجل لصَاحبه يَوْم الْجُمُعَة، وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا) وَبِهَذَا السَّنَد روى التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث إِلَى آخِره، وَلَفظه: (من قَالَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا) . قَوْله: (لصَاحبه) المُرَاد بِهِ، جليسه، وَقيل: الَّذِي يخاطبه بذلك مُطلقًا، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ الصاحب بِاعْتِبَار أَنه صَاحبه فِي الْخطاب أَو الْجُلُوس. قَوْله: (أنصت) أَمر من أنصت ينصب إنصاتا. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) : نصت ينصت إِذا سكت، وأنصت لُغَتَانِ أَي: اسْتمع يُقَال: انصته وأنصت لَهُ وينشد:
(اذا قَالَت حذام فأنصتوها)
ويروى: فصدقوها، وَفِي (الْمُحكم) : أنصت أَعلَى، والنصتة الِاسْم من الْإِنْصَات. وَفِي (الْجَامِع) : وَالرجل ناصت ومنصت. وَفِي (الْمُجْمل) و (الْمغرب) : الْإِنْصَات السُّكُوت للاستماع وَأنْشد الرَّاغِب فِي المجالسات:
(السّمع للإنصات والإنصات للأذن)
وَقد مر عَن قريب: بَاب الِاسْتِمَاع إِلَى الْخطْبَة، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الِاسْتِمَاع هُوَ الإصغاء، وَيعلم الْفرق بَين الِاسْتِمَاع والإنصات مِمَّا ذكرنَا الْآن، فَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ تَرْجَمَة للاستماع وترجمة للانصات. قَوْله: (فقد لَغَا) اللَّغْو واللغاء: السقط وَمَا لَا يعْتد بِهِ من كَلَام وَغَيره، وَلَا يحصل مِنْهُ على فَائِدَة وَلَا نفع واللغو فِي الْأَيْمَان: لَا وَالله وبلى وَالله، وَقيل: مَعْنَاهُ الْإِثْم، ولغا فِي القَوْل يَلْغُو ويلغى لَغوا ولغا وملغاة: أخطا، ولغا يَلْغُو لَغوا: تكلم ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : اللَّغْو: الْبَاطِل، تَقول: لغيت ألغى لغيا ولغىً بِمَعْنى، ولغا الطَّائِر يَلْغُو لَغوا: إِذا صَوت. وَفِي (التَّهْذِيب) : لغوت اللَّغْو والغى ولغى، ثَلَاث لُغَات، واللغو: كل مَا لَا يجوز. وَقَالَ الْأَخْفَش، اللَّغْو السَّاقِط من القَوْل، وَقيل: الْميل عَن الصَّوَاب. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل، معنى لغوت خبت من الْأجر. وَقيل: بطلت فَضِيلَة جمعتك، وَقيل: صَارَت جمعتك ظهرا. وَقيل: تَكَلَّمت بِمَا لَا يَنْبَغِي.
وقالَ سَلْمَانُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنْصِت إذَا تكَلَّمَ الإمَامُ
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث سلمَان الَّذِي أخرجه فِي: بَاب الدّهن للْجُمُعَة، وَفِي: بَاب لَا يفرق بَين إثنين يَوْم الْجُمُعَة.
934 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيثُ عَن عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أخبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قُلْتَ لِصاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أنْصِتْ والإمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَعقيل: بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَنهُ بِهِ. وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب عَن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب(6/239)
عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك: أنصت، وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من قَالَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب: انصت، فقد لَغَا) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث إِلَى آخِره،، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شَبابَة بن سوار عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك: أنصت يَوْم الْجُمُعَة، وَالْإِمَام يخْطب، فقد لغوت) وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيثه. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن أبي أوفى وَجَابِر بن عبد الله، أما حَدِيث ابْن أبي أوفى فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن السكْسكِي، قَالَ: سَمِعت ابْن أبي أوفى قَالَ: (ثَلَاث من سلم مِنْهُنَّ غفر لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى: من أَن يحدث حَدثا، يَعْنِي: أَذَى، أَو أَن يتَكَلَّم أَو أَن يَقُول: صه) . وَرِجَاله ثِقَات، وَهَذَا، وَإِن كَانَ مَوْقُوفا، فَمثله لَا يُقَال من قبل الرَّأْي، فَحكمه الرّفْع. وَأما حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) من رِوَايَة مجَالد بن سعيد عَن عَامر (عَن جَابر، قَالَ: قَالَ سعد لرجل يَوْم الْجُمُعَة: لَا صَلَاة لَك، قَالَ: فَذكر ذَلِك الرجل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن سَعْدا قَالَ: لَا صَلَاة لَك، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِمَ يَا سعد؟ قَالَ: إِنَّه كَانَ يتَكَلَّم وَأَنت تخْطب قَالَ: صدق سعد) . اللَّفْظ لِابْنِ أبي شيبَة، وَقَالَ أَبُو يعلى وَالْبَزَّار: سَمِعت سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ومجالد ضعفه الْجُمْهُور؟
قلت: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَأبي ذَر وَأبي الدَّرْدَاء وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَمْرو وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار فِي (مسنديهما) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة مجَالد عَن عَامر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من تكلم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَهُوَ كالحمار يحمل أسفارا، وَالَّذِي يَقُول لَهُ: أنصت، لَيْسَ لَهُ جُمُعَة) . وَأما حَدِيث أبي ذَر وَأبي الدَّرْدَاء فرواهما الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة أنس ابْن عِيَاض عَن شريك عَن عَطاء بن يسَار (عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة على الْمِنْبَر سُورَة، فغمز أَبُو الدَّرْدَاء أبي بن كَعْب، فَقَالَ: مَتى أنزلت هَذِه السُّورَة. . فَإِنِّي لم أسمعها إِلَّا الْآن؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن: اسْكُتْ. فَلَمَّا انصرفوا قَالَ أبي: لَيْسَ لَك من صَلَاتك إِلَّا مَا لغوت، فَأخْبر أَبُو الدَّرْدَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا قَالَ أبي، فَقَالَ: صدق أبي) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة الركين بن الرّبيع عَن أَبِيه عَن عبد الله، قَالَ: (كفى لَغوا، إِذا صعد الإِمَام الْمِنْبَر أَن تَقول لصاحبك: أنصت) وَرِجَاله ثِقَات فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع، لِأَنَّهُ لَا يُقَال من قبل الرَّأْي. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُسَدّد وَأَبُو كَامِل قَالَا: حَدثنَا يزِيد عَن حبيب الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يحضر الْجُمُعَة ثَلَاثَة نفر: رجل حضرها بلغو فَهُوَ حَظه مِنْهَا، وَرجل حضرها يَدْعُو فَهُوَ رجل دَعَا الله عز وَجل إِن شَاءَ أعطَاهُ وَإِن شَاءَ مَنعه، وَرجل حضرها بإنصات وسكوت وَلم يتخط رَقَبَة مُسلم وَلم يؤذ أحدا فَهِيَ كَفَّارَة إِلَى الْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَذَلِكَ بِأَن الله تَعَالَى يَقُول: من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا) . وَأما حَدِيث عَليّ فَأخْرجهُ أَحْمد مَرْفُوعا. (وَمن قَالَ: صه، فقد تكلم، وَمن تكلم فَلَا جُمُعَة لَهُ.
قَوْله: (لصاحبك) المُرَاد مِنْهُ: الجليس، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَالْإِمَام يخْطب) جملَة حَالية. قَوْله: (فقد لغوت) ، قد مر تَفْسِيره. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: لغيت، وَظَاهر الْقُرْآن يَقْتَضِي هَذِه اللُّغَة، قَالَ الله تَعَالَى: {والغوا فِيهِ} (فصلت: 26) . وَهَذَا من لغى يلغي، إِذْ لَو كَانَ من لغى يَلْغُو لقَالَ: والغوا بِضَم الْغَيْن.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن فِيهِ: النَّهْي عَن جَمِيع الْكَلَام حَال الْخطْبَة، وَنبهَ بِهَذَا على مَا سواهُ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: أنصت، وَهُوَ فِي الأَصْل أَمر بِمَعْرُوف، وَسَماهُ لَغوا، فَغَيره أولى. قيل: ذَلِك لِأَن الْخطْبَة أُقِيمَت مقَام الرَّكْعَتَيْنِ. فَكَمَا لَا يجوز التَّكَلُّم فِي المنوب لَا يجوز فِي النَّائِب، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الِاسْتِمَاع إِلَى الْخطْبَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَوله: (وَالْإِمَام يخْطب) دَلِيل على أَن وجوب الْإِنْصَات وَالنَّهْي عَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي حَال الْخطْبَة، وَهَذَا مَذْهَبنَا وَمذهب مَالك وَالْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب الْإِنْصَات بِخُرُوج الإِمَام قلت: أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الصَّلَاة وَالْكَلَام بعد خُرُوج الإِمَام.(6/240)
37 - (بابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السَّاعَة الَّتِي الدعْوَة فِيهَا مستجابة فِي يَوْم الْجُمُعَة.
935 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقَالَ فيهِ ساعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ وَهْوَ قائِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ الله تَعَالَى شيْئا إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ وأشَارَ بِيَدِهِ ويُقَلِّلُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ ذكر السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، فَفِي كل من الحَدِيث والترجمة السَّاعَة مُبْهمَة، وَقد بيّنت فِي أَحَادِيث أُخْرَى كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجُمُعَة عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وروى هَذَا الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة ابْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهَمَّام وَمُحَمّد بن زِيَاد وَأَبُو سعيد المَقْبُري وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَأَبُو رَافع وَأَبُو الْأَحْوَص وَأَبُو بردة وَمُجاهد وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن. أما طَرِيق ابْن عَبَّاس فأخرجها النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَأما طَرِيق أبي مُوسَى فَذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله. وَأما طَرِيق ابْن سِيرِين فأخرجها البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما طَرِيق أبي سَلمَة فأخرجها أَبُو دَاوُد حَدثنَا القعْنبِي عَن مَالك عَن يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خير يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة) ، الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وفيهَا سَاعَة لَا يصادفها عبد مُسلم وَهُوَ يُصَلِّي يسْأَل الله حَاجَة إلاّ أعطَاهُ إِيَّاهَا) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن حَدثنَا مَالك بن أنس إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه النَّسَائِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ: حَدثنَا بكر وَهُوَ ابْن مُضر عَن ابْن الْهَاد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (أتيت الطّور فَوجدت فِيهِ كَعْبًا) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وفيهَا سَاعَة لَا يصادفها عبد مُؤمن وَهُوَ فِي الصَّلَاة يسْأَل الله تَعَالَى شَيْئا إلاّ أعطَاهُ إِيَّاه) . وَأما طَرِيق همام فأخرجها مُسلم. وَأما طَرِيق مُحَمَّد بن زِيَاد فأخرجها مُسلم أَيْضا. وَأما طَرِيق أبي سعيد المَقْبُري فأخرجها النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَأما طَرِيق سعيد بن الْمسيب فأخرجها النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَأما طَرِيق عَطاء من أبي رَبَاح فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: وَهُوَ مَوْقُوف. وَمن رَفعه فقد وهم. وَأما طَرِيق أبي رَافع فَذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي (علله) . وَأما طَرِيق أبي الْأَحْوَص فأخرجها الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَقَالَ: الْأَشْبَه عَن ابْن مَسْعُود. وَأما طَرِيق أبي بردة وَمُجاهد فذكرهما الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. وَأما طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن يَعْقُوب فَذكرهَا أَبُو عمر بن عبد الْبر وصححها.
قَوْله: (لَا يُوَافِقهَا) أَي: لَا يصادفها وَهَذِه اللَّفْظَة أَعم من أَن يقْصد لَهَا أَو يتَّفق لَهُ وُقُوع الدُّعَاء فِيهَا. قَوْله: (مُسلم) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (مُؤمن) . قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) ، مَفْهُومه أَنه لَو لم يكن قَائِما لَا يكون لَهُ هَذَا الحكم، ثمَّ أجَاب بِأَن شَرط مَفْهُوم الْمُخَالفَة أَن لَا يخرج مخرج الْغَالِب، وَهَهُنَا ورد بِنَاء على أَن الْغَالِب فِي الْمُصَلِّي أَن يكون قَائِما، فَلَا اعْتِبَار لهَذَا الْمَفْهُوم، قَوْله: (يُصَلِّي) ، جملَة فعلية حَالية. وَقَوله: (يسْأَل الله) أَيْضا جملَة حَالية من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة. وَقَالَ بَعضهم: (وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي يسْأَل الله) ، صِفَات: (لمُسلم) قلت: لَا يَصح ذَلِك لِأَن لفظ: مُسلم، وَلَفظ: صَالح، صفتان لعبد، وَالصّفة والموصوف فِي حكم شَيْء وَاحِد، والنكرة إِذا اتصفت يكون حكمهَا حكم الْمعرفَة، فَلَا يجوز وُقُوع الْجمل بعْدهَا صِفَات لَهَا، لِأَن الْجمل لَا تقع صفة للمعرفة، بل إِذا وَقعت بعْدهَا تكون حَالا كَمَا هُوَ الْمُقَرّر فِي مَوْضِعه، وَالْعجب مِنْهُ أَنه قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون: يُصَلِّي، حَالا فَلَا وَجه لذكر الِاحْتِمَال لكَونه حَالا محققا. قَوْله: (قَائِم يُصَلِّي) يحْتَمل الْحَقِيقَة، أَعنِي حَقِيقَة الْقيام، وَيحْتَمل: الدُّعَاء(6/241)
وَيحْتَمل الِانْتِظَار وَيحْتَمل الْمُوَاظبَة على الشَّيْء لَا الْوُقُوف من قَوْله تَعَالَى: {مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} (آل عمرَان: 75) . يَعْنِي: مواظبا وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ بَعضهم: معنى (يُصَلِّي) ، يَدْعُو، وَمعنى: (قَائِم) ، ملازم ومواظب، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الِاحْتِمَالَات لِئَلَّا يرد الْإِشْكَال بأصح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي تعْيين السَّاعَة الْمَذْكُورَة، وهما حديثان: أَحدهمَا من جُلُوس الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِلَى انْصِرَافه من الصَّلَاة. وَالْآخر: من بعد الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، فَفِي الأول حَال الْخطْبَة كُله، وَلَيْسَت صَلَاة حَقِيقَة وَفِي الثَّانِي: لَيست سَاعَة صَلَاة أَلا ترى أَن أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما روى حَدِيثه الْمَذْكُور قَالَ: (فَلَقِيت عبد الله بن سَلام، فَذكرت لَهُ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: أَنا أعلم تِلْكَ السَّاعَة، فَقلت: أَخْبرنِي بهَا وَلَا تضنن بهَا عَليّ {قَالَ: هِيَ بعد الْعَصْر إِلَى أَن تغرب الشَّمْس. قلت: وَكَيف تكون بعد الْعَصْر وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم وَهُوَ يُصَلِّي) ، وَتلك السَّاعَة لَا يُصَلِّي فِيهَا؟ قَالَ عبد الله ابْن سَلام: أَلَيْسَ قد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من جلس مَجْلِسا ينْتَظر الصَّلَاة فَهُوَ فِي صَلَاة؟ قلت: بلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَاك) انْتهى. فَهَذَا دلّ على أَن المُرَاد من الصَّلَاة الدُّعَاء وَمن الْقيام الْمُلَازمَة والمواظبة لَا حَقِيقَة الْقيام، وَلِهَذَا سقط قَوْله: (قَائِم) ، من رِوَايَة أبي مُصعب وَابْن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة، وأثبتها الْبَاقُونَ. قَالَ أَبُو عمر: وَهَذِه زِيَادَة مَحْفُوظَة عَن أبي الزِّنَاد من رِوَايَة مَالك وورقاء وَغَيرهمَا عَنهُ، وَكَانَ مُحَمَّد بن وضاح يَأْمر بِحَذْف هَذِه الزِّيَادَة من الحَدِيث لأجل أَنه كَانَ يسْتَشْكل بالإشكال الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَلَكِن الْجَواب مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (شَيْئا) أَي: مِمَّا يَلِيق أَن يَدْعُو بِهِ الْمُسلم وَيسْأل الله، وَفِي رِوَايَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق: (يسْأَل الله خيرا) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (مَا لم يسْأَل حَرَامًا) . وَعند أَحْمد فِي حَدِيث سعد بن عبَادَة: (مَا لم يسْأَل إِثْمًا أَو قطيعة رحم) ، فَإِن قلت: قطيعة رحم من جملَة الْإِثْم. قلت: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام للاهتمام بِهِ. قَوْله: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ) ، أَي: وَأَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن مَالك. قَوْله: (يقللها) ، جملَة وَقعت حَالا، وَهُوَ من التقليل خلاف التكثير، يُرِيد أَن السَّاعَة لَحْظَة خَفِيفَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (يزهدها) ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ،، وَفِي لفظ: (وَهِي سَاعَة خَفِيفَة) ، وللطبراني فِي (الْأَوْسَط) فِي حَدِيث أنس: (وَهِي قدر هَذَا) ، يَعْنِي قَبْضَة. ثمَّ بَقِي الْكَلَام هُنَا فِي بَيَان السَّاعَة الْمَذْكُورَة وَبَيَان مَا فِيهَا من الْأَقْوَال وَهُوَ مُشْتَمل على وُجُوه:
الأول: فِي حَقِيقَة السَّاعَة، وَهِي: اسْم لجزء مَخْصُوص من الزَّمَان وَيرد على أنحاء: أَحدهَا يُطلق على جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ، وَهِي مَجْمُوع الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَتارَة تطلق مجَازًا على جُزْء مَا غير مُقَدّر من الزَّمَان. فَلَا يتَحَقَّق. وَتارَة تطلق على الْوَقْت الْحَاضِر، ولأرباب النُّجُوم والهندسة وضع آخر، وَذَلِكَ أَنهم يقسمون كل نَهَار وكل لَيْلَة بِاثْنَيْ عشر قسما سَوَاء كَانَ النَّهَار طَويلا أَو قَصِيرا، وَكَذَلِكَ اللَّيْل، ويسمون كل سَاعَة من هَذِه الْأَقْسَام سَاعَة، فعلى هَذَا تكون السَّاعَة تَارَة طَوِيلَة وَتارَة قَصِيرَة على قدر النَّهَار فِي طوله وقصره، ويسمون هَذِه السَّاعَات المعوجة، وَتلك الأول: مُسْتَقِيمَة.
الثَّانِي: إِن فِي هَذِه السَّاعَة اخْتِلَافا هَل هِيَ بَاقِيَة أَو رفعت؟ فَزعم قوم أَنَّهَا رفعت، حَكَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر وزيفه، وَقَالَ عِيَاض: رده السّلف على قَائِله، وَاحْتج أَبُو عمر فِيهِ بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن دَاوُد بن أبي عَاصِم (عَن عبد الله بن يحنس مولى مُعَاوِيَة، قَالَ: قلت لأبي هُرَيْرَة: زَعَمُوا أَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة قد رفعت؟ قَالَ: كذب من قَالَ ذَلِك. قلت: فَهِيَ بَاقِيَة فِي كل جُمُعَة اسْتَقْبلهَا؟ قَالَ: نعم) . إِسْنَاده قوي، قَالَ أَبُو عمر على هَذَا تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار. وَفِي (صَحِيح الْحَاكِم) من حَدِيث أبي سَلمَة: (قلت: يَا أَبَا سعيد، إِن أَبَا هُرَيْرَة حَدثنَا عَن السَّاعَة الَّتِي فِي يَوْم الْجُمُعَة، هَل عنْدك فِيهَا علم؟ فَقَالَ: سَأَلنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا، فَقَالَ: إِنِّي كنت أعلمها ثمَّ أنسيتها كَمَا أنسيت لَيْلَة الْقدر) . ثمَّ قَالَ: صَحِيح. وخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَفِي (كتاب ابْن زَنْجوَيْه) : عَن مُحَمَّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ أَن كَلْبا مر بعد الْعَصْر فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رجل من الصَّحَابَة: اللَّهُمَّ اقتله، فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد وَافق هَذَا السَّاعَة الَّتِي إِذا دعِي اسْتُجِيبَ.
الثَّالِث: أَنَّهَا لما ثَبت أَنَّهَا بَاقِيَة، هَل هِيَ فِي كل جُمُعَة أَو فِي جُمُعَة وَاحِدَة من كل سنة؟ قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: فِي كل سنة يَوْم، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، بلَى فِي كل جُمُعَة} قَالَ: فَقَرَأَ كَعْب التَّوْرَاة، فَقَالَ: صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ، فَرجع كَعْب إِلَيْهِ.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي بَيَان وَقتهَا، وَهُوَ على أَقْوَال، فَقيل: هِيَ مخفية فِي جَمِيع الْيَوْم كليلة الْقدر، قَالَه ابْن قدامَة، وَحَكَاهُ القَاضِي(6/242)
عِيَاض وَغَيره، وَنَقله ابْن الصّباغ عَن كَعْب الْأَحْبَار. وَالْحكمَة فِي إخفائها الْجد وَالِاجْتِهَاد فِي طلبَهَا فِي كل الْيَوْم كَمَا أخْفى أولياءه فِي خلقه تحسينا للظن بالصالحين. وَقيل: إِنَّهَا تنْتَقل فِي يَوْم الْجُمُعَة وَلَا تلْزم سَاعَة مُعينَة لَا ظَاهِرَة وَلَا مخفية، قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا أشبه الْأَقْوَال، وَجزم بِهِ ابْن عَسَاكِر وَغَيره. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: إِنَّه هُوَ الْأَظْهر. وَقيل: إِذا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْغَدَاة، ذكره ابْن أبي شيبَة. وَقيل: من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس، وَرَوَاهُ ابْن عَسَاكِر من طَرِيق أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن لَيْث بن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة، قَوْله: وَقيل مثله، وَزَاد: وَمن الْعَصْر إِلَى الْغُرُوب، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن خلف بن خَليفَة عَن لَيْث ابْن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة، وَتَابعه فُضَيْل بن عِيَاض عَن لَيْث عَن ابْن الْمُنْذر، وَقيل مثله وَزَاد: وَمَا بَين أَن ينزل الإِمَام من الْمِنْبَر إِلَى أَن يكبر، رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه فِي (التَّرْغِيب) لَهُ من طَرِيق عَطاء بن قُرَّة عَن عبد الله بن سَمُرَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: التمسوا السَّاعَة الَّتِي يُجَاب فِيهَا الدُّعَاء يَوْم الْجُمُعَة فِي هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة، فَذكرهَا. وَقيل: إِنَّهَا أول سَاعَة بعد طُلُوع الشَّمْس، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ. وَقيل: عِنْد طُلُوع الشَّمْس، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) وَقيل: فِي آخر الثَّالِثَة من النَّهَار، لما رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يَوْم الْجُمُعَة فِيهِ طبعت طِينَة آدم، وَفِي آخِره ثَلَاث سَاعَات مِنْهُ سَاعَة، من دعى الله تَعَالَى فِيهَا اسْتُجِيبَ لَهُ) . وَفِي إِسْنَاده فَرح بن فضَالة وَهُوَ ضَعِيف، وَعلي لم يسمع من أبي هُرَيْرَة. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى أَن يصير الظل نصف ذِرَاع، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (الْأَحْكَام) وَقيل: مثله لَكِن قَالَ إِلَى أَن يصير الظل ذِرَاعا، حَكَاهُ عِيَاض والقرطبي وَالنَّوَوِيّ. وَقيل: بعد زَوَال الشَّمْس بشبر إِلَى ذِرَاع، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر وَابْن عبد الْبر بِإِسْنَاد قوي إِلَى الْحَارِث بن يزِيد الْحَضْرَمِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن حجيرة عَن أبي ذَر أَن امْرَأَته سَأَلته عَنْهَا فَقَالَ ذَلِك. وَقيل: إِذا زَالَت الشَّمْس، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي الْعَالِيَة، وروى ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) : عَن عبيد الله بن نَوْفَل نَحوه، وروى ابْن عَسَاكِر من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة قَالَ: كَانُوا يرَوْنَ السَّاعَة المستجاب فِيهَا الدُّعَاء إِذا زَالَت الشَّمْس. وَقيل: إِذا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: يَوْم الْجُمُعَة مثل يَوْم عَرَفَة تفتح فِيهِ أَبْوَاب السَّمَاء، وَفِيه سَاعَة لَا يسْأَل الله فِيهَا العَبْد شَيْئا إلاّ أعطَاهُ. قيل: أَيَّة سَاعَة؟ قَالَت: إِذا أذن الْمُؤَذّن لصَلَاة الْجُمُعَة، وَالْفرق بَينه وَبَين القَوْل الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن الْأَذَان قد يتَأَخَّر عَن الزَّوَال. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى أَن يدْخل الرجل فِي الصَّلَاة، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن أبي السوار الْعَدوي، وَحَكَاهُ ابْن الصّباغ بِلَفْظ: إِلَى أَن يدْخل الإِمَام. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى خُرُوج الإِمَام، حَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ: وَقيل: من الزَّوَال إِلَى غرُوب الشَّمْس، حُكيَ عَن الْحسن وَنَقله صَاحب (التَّوْضِيح) . وَقيل: مَا بَين خُرُوج الإِمَام إِلَى أَن تُقَام الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن. وَقيل: عِنْد خُرُوج الإِمَام، رُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن. وَقيل: مَا بَين خُرُوج الإِمَام إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن الشّعبِيّ. قَوْله: (من طَرِيق مُعَاوِيَة) بن قُرَّة عَن أبي بردة لبن ابي مُوسَى، قَوْله: (وَفِيه أَن ابْن عمر استصوب ذَلِك) . وَقيل: مَا بَين أَن يحرم البيع إِلَى أَن يحل، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر عَن الشّعبِيّ. قَوْله: (وَقيل مَا بَين الْأَذَان إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة) ، رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه عَن ابْن عَبَّاس، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) عَنهُ. وَقيل: مَا بَين أَن يجلس الإِمَام على الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة، رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن أبي بردة بن أبي مُوسَى أَن ابْن عمر سَأَلَهُ عَمَّا سمع من أَبِيه فِي سَاعَة الْجُمُعَة، فَقَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وسلمد، يَقُول، فَذكره. . وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا وَالْقَوْلَان اللَّذَان قبله متحدة. وَقيل: عِنْد التأذين، وَعند تذكير الإِمَام، وَعند الْإِمَامَة، رَوَاهُ حميد بن زَنْجوَيْه من طَرِيق سليم بن عَامر عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: مثله لَكِن قَالَ: إِذا أذن وَإِذا رقي الْمِنْبَر، وَإِذا أُقِيمَت الصَّلَاة، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن أبي أُمَامَة الصَّحَابِيّ. قَوْله. وَقيل: من حِين يفْتَتح الإِمَام الْخطْبَة حَتَّى يفرغها، رَوَاهُ ابْن عبد الْبر من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقيل: إِذا بلغ الْخَطِيب الْمِنْبَر وَأخذ فِي الْخطْبَة، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) . وَقيل: عِنْد الْجُلُوس بَين الْخطْبَتَيْنِ حَكَاهُ الطَّيِّبِيّ عَن بعض شرَّاح (المصابيح) . وَقيل: عِنْد نزُول الإِمَام عَن الْمِنْبَر، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَحميد بن زَنْجوَيْه وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة قَوْله. وَقيل: حِين تُقَام الصَّلَاة حَتَّى يقوم الإِمَام فِي مقَامه، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن(6/243)
أَيْضا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد نَحوه مَرْفُوعا بِإِسْنَاد ضَعِيف. وَقيل: من إِقَامَة الصَّلَاة إِلَى تَمام الصَّلَاة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا، وَفِيه قَالُوا: (أَيَّة سَاعَة يَا رَسُول الله؟ قَالَ: حِين تُقَام الصَّلَاة إِلَى الِانْصِرَاف مِنْهَا) . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (مَا بَين أَن ينزل الإِمَام من الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق مُغيرَة عَن وَاصل الأحدب عَن أبي بردة قَوْله، وَإِسْنَاده قوي، وَفِيه أَن ابْن عمر اسْتحْسنَ ذَلِك مِنْهُ. وبرك عَلَيْهِ وَمسح على رَأسه، وَرَوَاهُ ابْن جرير وَسَعِيد بن مَنْصُور عَن ابْن سِيرِين نَحوه. وَقيل: هِيَ السَّاعَة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهَا الْجُمُعَة، رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن سِيرِين. وَقيل: من صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَمن طَرِيق صَفْوَان بن سليم عَن أبي سَلمَة عَن أبي سعيد مَرْفُوعا بِلَفْظ: (فالتمسوها بعد الْعَصْر) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق مُوسَى بن وردان عَن أنس مَرْفُوعا بِلَفْظ: بعد الْعَصْر إِلَى غيبوبة الشَّمْس، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقيل: فِي صَلَاة الْعَصْر، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن عمر بن أبي ذَر عَن يحيى بن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا. وَقيل: بعد الْعَصْر إِلَى آخر وَقت الِاخْتِيَار، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي (الْأَحْيَاء) . وَقيل: بعد الْعَصْر مُطلقًا، رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق مُحَمَّد بن سَلمَة الْأنْصَارِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن سعيد مَرْفُوعا بِلَفْظ: (وَهِي بعد الْعَصْر) ، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُجَاهِد مثله. وَقيل: من حِين تصفر الشَّمْس إِلَى أَن تغيب، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن كيسَان عَن طَاوُوس قَوْله. وَقيل: آخر سَاعَة بعد الْعَصْر، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا، وَلَفظه: (يَوْم الْجُمُعَة ثنتا عشرَة، يُرِيد سَاعَة لَا يُوجد مُسلم يسْأَل الله شَيْئا إلاّ أَتَاهُ الله، فالتمسوها آخر السَّاعَة يَوْم الْجُمُعَة) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم. وَقيل: من حِين يغيب نصف قرص الشَّمْس إِلَى أَن يتكامل غُرُوبهَا، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) و (فَضَائِل الْأَوْقَات) من طَرِيق زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: (حَدَّثتنِي مرْجَانَة مولاة فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: حَدَّثتنِي فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن أَبِيهَا ... فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (قلت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي سَاعَة هِيَ؟ قَالَ: إِذا تدلى نصف الشَّمْس للغروب، فَكَانَت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ...
فَهَذِهِ أَرْبَعُونَ قولا، وَكثير من هَذِه الْأَقْوَال يُمكن اتحاده مَعَ غَيره. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أصح الْأَحَادِيث فِيهَا حَدِيث أبي مُوسَى، وَأشهر الْأَقْوَال فِيهَا قَول عبد الله بن سَلام. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُسلم أَنه قَالَ: حَدِيث أبي مُوسَى أَجود شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وأصحه، وَبِذَلِك قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ وَجَمَاعَة آخَرُونَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هُوَ نَص فِي مَوضِع الْخلاف فَلَا يلْتَفت إِلَى غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح بل الصَّوَاب، وَجزم فِي (الرَّوْضَة) أَنه هُوَ الصَّوَاب، وَرجح أَيْضا بِكَوْنِهِ مَرْفُوعا صَرِيحًا فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ، وَذهب الأخرون إِلَى تَرْجِيح قَول عبد الله بن سَلام، فَحكى التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: أَكثر الْأَحَادِيث على ذَلِك. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه أثبت شَيْء فِي هَذَا الْبَاب قلت: حَدِيث أبي مُوسَى أخرجه مُسلم من رِوَايَة مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: (قَالَ لي عبد الله بن عمر: أسمعت أَبَاك؟ . .) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَلما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس وَأبي هُرَيْرَة قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي مُوسَى وَأبي ذَر وسلمان وَعبد الله بن سَلام وَأبي أُمَامَة وَسعد بن عبَادَة. قلت: وَفِيه أَيْضا: عَن جَابر وَعلي بن أبي طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَفَاطِمَة بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَيْمُونَة بنت سعد. فَحَدِيث أبي مُوسَى عِنْد مُسلم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَحَدِيث أبي ذَر عِنْد. وَحَدِيث سلمَان عِنْد وَحَدِيث عبد الله بن سَلام عِنْد ابْن مَاجَه. وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن مَاجَه أَيْضا. وَحَدِيث سعد بن عبَادَة عِنْد أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث جَابر عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عِنْد الْبَزَّار. وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد أَحْمد. وَحَدِيث فَاطِمَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . وَحَدِيث مَيْمُونَة بنت سعد عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) [/ ح.
وَقَالَ شَيخنَا شَارِح التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَصَحهَا وَلَيْسَ بَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَبَين حَدِيث أبي مُوسَى اخْتِلَاف وَلَا تبَاين،(6/244)
وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف بَين حَدِيث أبي مُوسَى وَبَين الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد الْعَصْر أَو آخر سَاعَة مِنْهُ، فإمَّا أَن يُصَار إِلَى الْجمع أوالترجيح، فَأَما الْجمع فَإِنَّمَا يُمكن بِأَن يُصَار إِلَى القَوْل بالانتقال، وَإِن لم يقل بالانتقال يكون الْأَمر بالترجيح، فَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَونهَا بعد الْعَصْر أرجح لكثرتها واتصالها بِالسَّمَاعِ، وَلِهَذَا لم يخْتَلف فِي رَفعهَا، والاعتضاد بِكَوْنِهِ قَول أَكثر الصَّحَابَة فَفِيهَا أوجه من وُجُوه التَّرْجِيح.
وَفِي حَدِيث أبي مُوسَى وَجه وَاحِد من وُجُوه التَّرْجِيح، وَهُوَ كَونه فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ دون بَقِيَّة الْأَحَادِيث، وَلَكِن عَارض كَونه فِي أحد الصَّحِيحَيْنِ أَمْرَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ مُتَّصِلا بِالسَّمَاعِ بَين مخرمَة بن بكير وَبَين أَبِيه بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مخرمَة ثِقَة وَلم يسمع من أَبِيه، وَقَالَ عَبَّاس الدوري عَن ابْن معِين: مخرمَة ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء، يَقُولُونَ: إِن حَدِيثه عَن أَبِيه كتاب. وَالْأَمر الثَّانِي: أَن أَكثر الروَاة جَعَلُوهُ من قَول أبي بردة مَقْطُوعًا، وَأَنه لم يرفعهُ غير مخرمَة عَن أَبِيه، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا استدركه الدَّارَقُطْنِيّ على مُسلم.
38 - (بابٌ إذَا نَفَرَ النَّاسُ عنُ الإمَامِ فِي صَلاَةِ الجُمُعَةِ فَصَلاَةُ الإمَامِ ومَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا نفر النَّاس عَن الإِمَام ... إِلَى آخِره، يَعْنِي خَرجُوا عَن مجْلِس الإِمَام وذهبوا. قَوْله: (فَصَلَاة الإِمَام) كَلَام إضافي مُبْتَدأ. قَوْله: (وَمن بَقِي) ، عطف عَلَيْهِ، أَي: وَصَلَاة منبقي من الْقَوْم مَعَ الإِمَام. قَوْله: (جَائِزَة) خبر الْمُبْتَدَأ. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: تَامَّة. وَظَاهر هَذِه التَّرْجَمَة يدل على أَن البُخَارِيّ، رَحمَه الله، لَا يرى اسْتِمْرَار الْجُمُعَة الَّذين تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة إِلَى تَمامهَا شرطا فِي صِحَة الْجُمُعَة، وَسَيَجِيءُ بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ مفصلا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
936 - حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ عنْ حُصَيْنٍ عنْ سَالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ قَالَ حدَّثنا جابِرُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ بَيْنَما نَحْنُ نُصَلِّي معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذْ أقْبلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَاما فالْتَفَتُوا إلَيْهَا حَتَّى مَا بقِيَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ اثْنا عشَرَ رَجُلاً فنَزلَتْ هاذِهِ الآيَةُ وَإِذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انفًضُّوا إِلَيْهَا وترَكُوكَ قَائِما. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّحَابَة لما انْفَضُّوا حِين إقبال العير وَلم يبْق مِنْهُم إلاّ اثْنَا عشر نفسا أتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْجُمُعَة بهم، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه أعَاد الظّهْر، فَدلَّ على التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، أَصله كُوفِي، مَاتَ فِي جمادي الأولى سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعدهَا نون: ابْن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ. الرَّابِع: سَالم بن أبي الْجَعْد وَاسم أبي الْجَعْد رَافع الْكُوفِي. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هُنَا عَن مُعَاوِيَة بن عمر وَبلا وَاسِطَة وروى فِي مَوَاضِع عَنهُ بِوَاسِطَة عبد الله بن المسندي وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم وَأحمد بن أبي رَجَاء. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي وواسطي، وَقد علم ذَلِك مِمَّا سلف. وَفِيه: أَن مدَار هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ على حُصَيْن الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ تَارَة يرويهِ عَن سَالم بن أبي الْجَعْد وَحده كَمَا هُنَا، وَهِي رِوَايَة أَكثر أَصْحَابه، وَتارَة عَن أبي سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع وَحده، وَهِي رِوَايَة قيس بن الرّبيع وَإِسْرَائِيل عِنْد ابْن مرْدَوَيْه، وَتارَة جمع بَينهمَا عَن جَابر وَهِي رِوَايَة خَالِد بن عبد الله عِنْد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، وَعند مُسلم وَكَذَا رِوَايَة هشيم عِنْده أَيْضا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن طلق بن غَنَّام عَن زَائِدَة وَعَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل وَفِي التَّفْسِير عَن حَفْص بن عمر عَن خَالِد بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن رِفَاعَة بن الْهَيْثَم وَعَن إِسْمَاعِيل بن سَالم. وَأخرجه(6/245)
التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر غير مرّة أَن أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: الْألف وَالْمِيم، وأضيف إِلَى الْجُمْلَة بعده. وَقَوله: (إِذا أَقبلت) جَوَابه، ويروى: (بَينا) بِدُونِ الْمِيم. قَوْله: (نَحن نصلي) ظَاهره أَن انفضاضهم كَانَ بعد دُخُولهمْ فِي الصَّلَاة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة خَالِد بن عبد الله عِنْد أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : (بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الصَّلَاة) . وَلَكِن وَقع عِنْد مُسلم: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب) وَله فِي رِوَايَة: (بَينا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِم) وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقه: (يخْطب) . فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الْكَلَامَيْنِ؟ قلت: قَالُوا: قَوْله: (نصلي) أَي: نَنْتَظِر الصَّلَاة، وَهُوَ معنى: قَوْله: (فِي الصَّلَاة) فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي الْخطْبَة، وَهُوَ من تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا قاربه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ انتظارها فِي حَال الْخطْبَة ليُوَافق رِوَايَة مُسلم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَعْنَاهُ حَضَرنَا الصَّلَاة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْمئِذٍ قَائِما، وَبَين هَذَا فِي حَدِيث جَابر أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخْطب قَائِما. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْأَشْبَه أَن يكون الصَّحِيح رِوَايَة من روى أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخطْبَة. قلت: إِخْرَاج كَلَام جَابر الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ يُؤَدِّي إِلَى عدم مطابقته للتَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ وضع التَّرْجَمَة فِي نفور الْقَوْم عَن الإِمَام وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَمَا ذكره يدل على أَنهم نفروا وَالْإِمَام يخْطب. قَوْله: (عير) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهِي الْإِبِل الَّتِي تحمل التِّجَارَة طَعَاما كَانَت أَو غَيره، وَهِي مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأذن مُؤذن أيتها العير} (يُوسُف: 70) . إِنَّهَا الْإِبِل الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَال لِأَنَّهَا تعير أَي: تذْهب وتجيء. وَقيل: هِيَ قافلة الْحمير، ثمَّ كثر حَتَّى قيل لكل قافلة: عير، كَأَنَّهَا جمع: عير، بِفَتْح الْعين وَالْمرَاد: أَصْحَاب العير، فعلى هَذَا إِسْنَاد الإقبال إِلَى العير مجَاز وَفِي (الْمُحكم) : وَالْجمع: عيرات وعير، وَنقل عبد الْحق فِي جمعه: أَن البُخَارِيّ لم يخرج قَوْله: (إِذا أَقبلت عير تحمل طَعَاما) ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ ثَبت هُنَا وَفِي أَوَائِل الْبيُوع، نعم سقط ذَلِك فِي التَّفْسِير. وَزَاد البُخَارِيّ فِي الْبيُوع، أَنَّهَا أَقبلت من الشَّام، وَمثله لمُسلم من طَرِيق جرير عَن حُصَيْن فَإِن قلت: لمن كَانَت العير الْمَذْكُورَة؟ قلت: فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ أَن الَّذِي قدم بهَا من الشَّام هُوَ دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ، وَقَالَ السُّهيْلي: ذكر أهل الحَدِيث أَن دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ قدم من الشَّام بعير لَهُ تحمل طَعَاما وَبرا، وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك مُحْتَاجين، فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتركُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: جائت عير لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: قيل جمع بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن التِّجَارَة كَانَت لعبد الرَّحْمَن وَكَانَ دحْيَة السفير فِيهَا. قلت: يحْتَمل أَن يَكُونَا مشتركين فَصحت نسبتها لكل مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَار. قَوْله: (فالتفتوا إِلَيْهَا) أَي: إِلَى العير، وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل فِي الْبيُوع: (فانفض النَّاس) أَي: فَتفرق النَّاس، وَهُوَ مُوَافق لنَصّ الْقُرْآن، فَدلَّ هَذَا على أَن المُرَاد من الِالْتِفَات: الِانْصِرَاف، وَبِهَذَا يرد على من حمل الِالْتِفَات على ظَاهره حَيْثُ قَالَ: لَا يفهم من هَذَا الِانْصِرَاف عَن الصَّلَاة وقطعها، وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم مِنْهُ التفاتهم بِوُجُوهِهِمْ أَو بقلوبهم، وَيرد هَذَا أَيْضا قَوْله: (حَتَّى مَا بَقِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا اثْنَا عشر رجلا) فَإِن بَقَاء اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم يدل على أَن البَاقِينَ مَا بقوا مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي قَوْله: (فالتفتوا) ، الْتِفَات لِأَن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول: فالتفتنا، وَكَأن النُّكْتَة فِي عدُول جَابر عَن ذَلِك أَنه هُوَ لم يكن مِمَّن الْتفت. قلت: لَيْسَ فِيهِ الْتِفَات، لِأَن جَابِرا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ من الاثْنَي عشر، على مَا جَاءَ أَنه قَالَ: وَأَنا فيهم، فَيكون هَذَا إِخْبَارًا عَن الَّذين انْفَضُّوا، فَلَا عدُول فِيهِ عَن الأَصْل. قَوْله: (إلاّ اثْنَا عشر) اسْتثِْنَاء من الضَّمِير الَّذِي فِي لَفظه: بَقِي، الَّذِي يعود إِلَى الْمُصَلِّي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، وَجَاءَت الرِّوَايَة بهما، وَلَا يُقَال: إِن الِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَيتَعَيَّن الرّفْع لِأَن إعرابه على حسب العوامل، لِأَن مَا ذكر يمْنَع أَن يكون مفرغا. وَهنا وَجه آخر لجَوَاز الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فَيكون الْمُسْتَثْنى فِيهِ محذوفا تَقْدِيره: مَا بَقِي أحد مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ عدد كَانُوا اثْنَي عشر رجلا، وَأما النصب فلإعطاء اثْنَي عشر حكم أخواته الَّتِي هِيَ ثَلَاثَة عشر وَأَرْبَعَة عشر وَغَيرهمَا، لِأَن الأَصْل فِيهَا الْبناء لتضمنها الْحَرْف. فَافْهَم.
ثمَّ تعْيين عدد الَّذين بقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا هُوَ فِي (الصَّحِيح) وهم: اثْنَي عشر، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ لَيْسَ مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ أَرْبَعِينَ رجلا أَنا فيهم، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يقل كَذَلِك(6/246)
إلاّ عَليّ بن عَاصِم عَن حُصَيْن، وَخَالفهُ أَصْحَاب حُصَيْن فَقَالُوا: اثْنَي عشر رجلا، وَفِي (الْمعَانِي) للفراء إلاّ ثَمَانِيَة نفر، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: إلاّ سَبْعَة. وَوَقع فِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) وَابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى قَتَادَة (قَالَ: قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كم أَنْتُم؟ فعدوا أنفسهم فَإِذا اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة) . وَفِي تَفْسِير إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي: وَامْرَأَتَانِ، وَلابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وَسبع نسْوَة، لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف.
وَأما تسميتهم فَوَقع فِي رِوَايَة خَالِد الطَّحَّان عِنْد مُسلم أَن جَابِرا قَالَ: أَنا فيهم، وَله فِي رِوَايَة هشيم: فيهم أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَفِي تَفْسِير إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي: أَن سالما مولى أبي حُذَيْفَة مِنْهُم، روى الْعقيلِيّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن مِنْهُم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَابْن مَسْعُود وأناس من الْأَنْصَار، وَحكى السُّهيْلي أَن أَسد بن عَمْرو روى بِسَنَد مُنْقَطع أَن الاثْنَي عشر هم: الْعشْرَة المبشرة وبلال وَابْن مَسْعُود. قَالَ: وَفِي رِوَايَة: عمار، بدل: ابْن مَسْعُود. وأهمل جَابِرا، وَهُوَ مِنْهُم. كَمَا ذكر فِي الصَّحِيح.
قَوْله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) ظَاهر هَذَا أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة قدوم العير الْمَذْكُورَة، وَفِي (مَرَاسِيل أبي دَاوُد) : حَدثنَا مَحْمُود بن خَالِد حَدثنَا الْوَلِيد أَخْبرنِي بكير بن مَعْرُوف أَنه سمع مقَاتل بن حبَان قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْجُمُعَة قبل الْخطْبَة مثل الْعِيدَيْنِ، حَتَّى كَانَ يَوْم جُمُعَة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، وَقد صلى الْجُمُعَة فَدخل رجل فَقَالَ: إِن دحْيَة قدم بتجارته، وَكَانَ دحْيَة إِذا قدم تَلقاهُ أَهله بِالدُّفُوفِ، فَخرج النَّاس لم يَظُنُّوا إلاّ أَنه لَيْسَ فِي ترك الْخطْبَة شَيْء، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . الْآيَة، فَقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة وَأخر الصَّلَاة، فَكَانَ أحد لَا يخرج لرعاف أَو حدث بعد النَّهْي حَتَّى يسْتَأْذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُشِير إِلَيْهِ بإصبعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام، فَيَأْذَن لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُشِير إِلَيْهِ بِيَدِهِ) قَالَ السُّهيْلي: هَذَا، وَإِن لم ينْقل من وَجه ثَابت، فالظن الْجَمِيل بالصحابة يُوجب أَن يكون صَحِيحا. وَقَالَ عِيَاض: وَقد أنكر بَعضهم كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب قطّ بعد صَلَاة الْجُمُعَة، وَفِي (سنَن الشَّافِعِي) رَحمَه الله: عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (حَدثنِي جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَت لَهُم سوق يُقَال لَهَا: الْبَطْحَاء، كَانَت بَنو سليم يجلبون إِلَيْهَا الْخَيل وَالْإِبِل وَالسمن، وَقدمُوا فَخرج إِلَيْهِم النَّاس وَتركُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ لَهُم لَهو إِذا تزوج أحد من الْأَنْصَار يضربونه، يُقَال لَهُ: الْكبر، فعيرهم الله بذلك فَقَالَ: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا} (الْجُمُعَة: 11) . وَهُوَ مُرْسل، لِأَن مُحَمَّد الباقر من التَّابِعين، وَوَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والطبري يذكر جَابِرا فِيهِ: أَنهم كَانُوا إِذْ نكحوا تضرب لَهُم الْجَوَارِي بالمزامير فيشتد النَّاس إِلَيْهِم وَيدعونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمقائما، فَنزلت هَذِه الْآيَة، وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد: حَدثنَا يعلى عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس: قدم دحْيَة بِتِجَارَة فَخَرجُوا ينظرُونَ إلاّ سَبْعَة نفر، وَأَخْبرنِي عَمْرو بن عَوْف عَن هشيم عَن يُونُس، (عَن الْحسن قَالَ: فَلم يبْق مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ رَهْط مِنْهُم: أَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَا يبْقى معي أحد مِنْكُم لَسَالَ بكم الْوَادي نَارا) . حَدثنَا يُونُس عَن شَيبَان (عَن قَتَادَة قَالَ: ذكر لنا أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ يَوْم جُمُعَة فخطبهم، فَقيل: جَاءَت عير، فَجعلُوا يقومُونَ حَتَّى بقيت عِصَابَة مِنْهُم، فَقَالَ: كم أَنْتُم فعدوا أنفسهم فَإِذا اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة، ثمَّ قَامَ الْجُمُعَة الثَّانِيَة فخطبهم ووعظهم فَقيل: جَاءَت عير، فَجعلُوا يقومُونَ حَتَّى بقيت مِنْهُم عِصَابَة، فَقيل لَهُم: كم أَنْتُم فعدوا أنفسهم فَإِذا اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة. فَقَالَ: وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو اتبع آخركم أولكم لألهب الْوَادي عَلَيْكُم نَارا، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهَا مَا تَسْمَعُونَ: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . الْآيَة) . حَدثنَا شَيبَان عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لَهو} (الْجُمُعَة: 11) . قَالَ: كَانَ رجال يقومُونَ إِلَى نواضحهم وَإِلَى السّفر يقدمُونَ يتبعُون التِّجَارَة وَاللَّهْو. وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : جمع إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن أبان (عَن أنس: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِذْ سمع أهل الْمَسْجِد صَوت الطبول والمزامير، وَكَانَ أهل الْمَدِينَة إِذا قدمت عَلَيْهِم العير من الشَّام بِالْبرِّ وَالزَّبِيب استقبلوها فَرحا بالمعازف، فَقدمت عير لدحية وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فتركوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَرجُوا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من هَهُنَا؟ فَقَالَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة. . فَإِذا اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَتَانِ. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو اتبع آخركم أولكم لاضطرم الْوَادي عَلَيْكُم نَارا، وَلَكِن الله تطول على بكم(6/247)
فَرفع الْعقُوبَة بكم عَمَّن خرج، فَنزلت الْآيَة. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَكَانُوا إِذا أَقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وَهُوَ المُرَاد باللهو، وَفِيه أَيْضا: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، إِذْ قدم دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ ثمَّ أحد بني الْخَزْرَج ثمَّ أحد بني زيد بن مَنَاة من الشَّام بِتِجَارَة، وَكَانَ إِذا قدم لم يبْق بِالْمَدِينَةِ عاتق، وَكَانَ يقدم إِذا قدم بِكُل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من دَقِيق أَو بر أَو غَيره، فَنزل عِنْد أَحْجَار الزَّيْت، وَهُوَ مَكَان فِي سوق الْمَدِينَة، ثمَّ يضْرب الطبل ليؤذن النَّاس بقدومه فَيخرج إِلَيْهِ النَّاس ليبتاعوا مِنْهُ، فَقدم ذَات يَوْم جُمُعَة، وَكَانَ ذَلِك قبل أَن يسلم، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم على الْمِنْبَر يخْطب، فَخرج إِلَيْهِ النَّاس فَلم يبْق فِي الْمَسْجِد إلاّ اثْنَا عشر رجلا وَامْرَأَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كم بَقِي فِي الْمَسْجِد؟ فَقَالُوا: اثْنَي عشر رجلا وَامْرَأَة. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْلَا هَؤُلَاءِ لقد سومت لَهُم الْحِجَارَة من السَّمَاء، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة) .
قَوْله: (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) من الانفضاض، وَهُوَ التَّفَرُّق. يُقَال: فضضت الْقَوْم فَانْفَضُّوا أَي: فرقتهم فَتَفَرَّقُوا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَيفَ قَالَ: إِلَيْهَا، وَقد ذكر شَيْئَيْنِ؟ قلت: تَقْدِيره إِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحذف أَحدهمَا لدلَالَة الْمَذْكُور عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَة من قَرَأَ: انْفَضُّوا إِلَيْهِ، وَقِرَاءَة من قَرَأَ لهوا أَو تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا. وقرىء: إِلَيْهِمَا. انْتهى. وَقيل: أُعِيد الضَّمِير إِلَى التِّجَارَة فَقَط لِأَنَّهَا كَانَت أهم إِلَيْهِم. وَقَالَ الزّجاج: يجوز فِي الْكَلَام: انْفَضُّوا إِلَيْهِ وإليها وإليهما، وَلِأَن الْعَطف إِذا كَانَ ضميرا فقياسه عوده إِلَى أَحدهمَا لَا إِلَيْهِمَا، وَأَن الضَّمِير أُعِيد إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ أَي: انْفَضُّوا إِلَى الرُّؤْيَة الَّتِي رأوها، أَي: مالوا إِلَى طلب مَا رَأَوْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد من ظَاهر حَدِيث الْبَاب أَن الْقَوْم إِذا نفروا عَن الإِمَام وَهُوَ فِي صَلَاة الْجُمُعَة فَصَلَاة من بَقِي وَصَلَاة الإِمَام على حَالهَا، فَلذَلِك ترْجم البُخَارِيّ الْبَاب بقوله: بَاب إِذا نفر النَّاس. . إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الإِمَام يفْتَتح صَلَاة الْجُمُعَة بِجَمَاعَة ثمَّ يتفرقون، فَقَالَ الثَّوْريّ: إِذا ذَهَبُوا إلاّ رجلَيْنِ صلى رَكْعَتَيْنِ، وَإِن بَقِي وَاحِد صلى أَرْبعا. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: يُصليهَا جُمُعَة. انْتهى. قلت: إِذا اقْتدى النَّاس بِالْإِمَامِ فِي صَلَاة الْجُمُعَة ثمَّ عرض للنَّاس عَارض أداهم إِلَى النفور فنفروا وَبَقِي الإِمَام وَحده، وَذَلِكَ قبل أَن يرْكَع وَيسْجد اسْتقْبل الظّهْر عِنْد أبي حنيفَة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: إِن نفروا عَنهُ بَعْدَمَا افْتتح الصَّلَاة صلى الْجُمُعَة، وَإِن بَقِي وَحده. وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ: فِي قَول، وَإِن نفروا عَنهُ بَعْدَمَا ركع وَسجد سَجْدَة بنى على الْجُمُعَة، فِي قَوْلهم جَمِيعًا، خلافًا لزفَر، فَعنده: يُصَلِّي الظّهْر، وَعند مَالك: ان انْفَضُّوا بعد الْإِحْرَام ويئس من رجوعهم بنى على إِحْرَامه أَرْبعا، وإلاّ جعلهَا نَافِلَة وانتظرهم، وَإِن انْفَضُّوا بعد رَكْعَة، قَالَ أَشهب وَعبد الْوَهَّاب: يُتمهَا جُمُعَة، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُزنِيّ. وَقَالَ سَحْنُون: هُوَ كَمَا بعد الْإِحْرَام، فتشترط إِلَى الِانْتِهَاء. وَقَالَ إِسْحَاق: إِن بَقِي مَعَه اثْنَا عشر صلى الْجُمُعَة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد اسْتِدَامَة الْأَرْبَعين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَو أحرم بالأربعين الْمَشْرُوطَة ثمَّ انْفَضُّوا، فَفِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَصَحهَا: يُتمهَا ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أَحدهمَا: يُتمهَا جُمُعَة وَحده، وَالثَّانِي: إِن صلى رَكْعَة بسجدتيها أتمهَا جُمُعَة. وَقيل: إِن بَقِي مَعَه وَاحِد أتمهَا جُمُعَة، نَص عَلَيْهِ فِي الْقَدِيم وَذكر ابْن الْمُنْذر: إِن بَقِي مَعَه اثْنَان أتمهَا جُمُعَة. وَهِي رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّقْرِيب) : يحْتَمل أَن يَكْتَفِي بِالْعَبدِ وَالْمُسَافر، وَأقَام الْمَاوَرْدِيّ الصَّبِي وَالْمَرْأَة مقامهما، فَالْحَاصِل بَقَاء الْأَرْبَعين فِي كل الصَّلَاة، هَل هُوَ شَرط أم لَا؟ قَولَانِ: فَإِن قُلْنَا: لَا، فَهَل يشْتَرط بَقَاء عدد أم لَا؟ فَقَوْلَانِ: فَإِن قُلْنَا: لَا. فَهَل يفصل بَين الرَّكْعَة الأولى وَالثَّانيَِة أم لَا؟ قَولَانِ، فَإِن قُلْنَا: نعم فكم يشْتَرط؟ قَولَانِ: أَحدهمَا: ثَلَاثَة، وَالْآخر، إثنان فَإِذا أردْت اخْتِصَار ذَلِك؟ قلت: فِي الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: يُتمهَا ظهرا كَيفَ مَا كَانَ، وَهُوَ الصَّحِيح. وَالثَّانِي: جُمُعَة كَيفَ مَا كَانَ. وَالثَّالِث: إِن بَقِي مَعَه إثنان أتمهَا جُمُعَة. وإلاّ ظهرا. الرَّابِع: إِن بَقِي مَعَه وَاحِد أتمهَا جُمُعَة. وَالْخَامِس: إِن انْفَضُّوا أَو بَعضهم بعد تَمام الرَّكْعَة بسجدتيها أتمهَا جُمُعَة وإلاّ ظهرا.
قلت: الأَصْل أَن الْجَمَاعَة من شَرَائِط الْجُمُعَة لِأَنَّهَا مُشْتَقَّة مِنْهَا. وأجمعت الْأمة على أَن الْجُمُعَة لَا تصح من الْمُنْفَرد إلاّ مَا ذكر ابْن حزم فِي (الْمحلى) عَن بعض النَّاس: أَن الْفَذ يُصَلِّي الْجُمُعَة كالظهر. ثمَّ أقل الْجَمَاعَة عِنْد أبي حنيفَة ثَلَاثَة سوى الإِمَام، وَبِه قَالَ زفر وَاللَّيْث بن سعد، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري فِي قَول وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ الْمُزنِيّ وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: اثْنَان سوى الإِمَام. وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالثَّوْري فِي قَول: وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، ثمَّ الْجَمَاعَة للْجُمُعَة شَرط تأحكد العقد بِالسَّجْدَةِ عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا للشروع، وَعند زفر يشْتَرط دوامها كالوقت(6/248)
وَالطَّهَارَة، وَفَائِدَة الْخلاف تظهر فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَنْهُم الْآن.
وَفِي الْعدَد الَّذِي تصح بِهِ الْجُمُعَة أَرْبَعَة عشر قولا. ثَلَاثَة سوى الإِمَام عِنْد أبي حنيفَة، وإثنان سواهُ عِنْدهمَا، وَوَاحِد سواهُ عِنْد النَّخعِيّ وَالْحسن بن حَيّ وَجَمِيع الظَّاهِرِيَّة، وَسَبْعَة عَن عِكْرِمَة، وَتِسْعَة وَاثنا عشر عَن ربيعَة، وَثَلَاثَة عشر وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ عَن مَالك فِي رِوَايَة ابْن حبيب، وَأَرْبَعُونَ موَالِي عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَأَرْبَعُونَ أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لَا يظعنون صيفا وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة عِنْد الشَّافِعِي، وَأحمد فِي ظَاهر قَوْله، وَخَمْسُونَ رجلا عَن أَحْمد فِي رِوَايَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي رِوَايَة، وَثَمَانُونَ ذكره الْمَازرِيّ وَغير مَحْدُود بِعَدَد ذكره الْمَازرِيّ أَيْضا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي الحَدِيث دَلِيل لمَالِك حَيْثُ قَالَ: تَنْعَقِد الْجُمُعَة بإثني عشر، وَأجَاب الشَّافِعِي بِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنهم رجعُوا أَو رَجَعَ مِنْهُم تَمام أَرْبَعِينَ، فَأَتمَّ بهم الْجُمُعَة. قلت: فِي اسْتِدْلَال مَالك نظر، وَكَذَا فِي جَوَاب الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ لم يرد أَنه أتم الصَّلَاة، وَيحْتَمل أَنه أتمهَا ظهرا. وَقيل: إِن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه ذهب إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِذا تفَرقُوا بعد الِانْعِقَاد يشْتَرط بَقَاء اثْنَي عشر، وَتعقب بِأَنَّهَا وَاقعَة عين لَا عُمُوم لَهَا، وَقَالَ بَعضهم: ترجح كَون انفضاض الْقَوْم وَقع فِي الْخطْبَة لَا فِي الصَّلَاة،، وَهُوَ اللَّائِق بالصحابة تحسينا للظن بهم. وَقَالَ الْأصيلِيّ: وصف الله تَعَالَى الصَّحَابَة بِخِلَاف هَذَا فَقَالَ: {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} (النُّور: 37) . قلت: قيل: إِن نزُول الْآيَة بعد وُقُوع هَذَا الْأَمر على أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة تَصْرِيح بنزولها فِي الصَّحَابَة، وَلَئِن سلمنَا فَلم يكن تقدم لَهُم نهي عَن ذَلِك، فَلَمَّا نزلت آيَة الْجُمُعَة وفهموا مِنْهَا ذمّ ذَلِك اجتنبوه فوصفوا بعد ذَلِك بِآيَة النُّور.
39 - (بابُ الصَّلاةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ وقَبْلَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كمية الصَّلَاة بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَقبلهَا.
9337 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي قبْلَ الظُّهْرِ ركْعَتَيْنِ وبعْدَهَا ركْعَتَيْنِ وبَعْدَ المغْرِبِ ركْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وبَعْدَ العِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ وكانَ لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ حَتَّى ينْصَرِفَ فَيُصَلِّي ركْعَتَيْنِ ...
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ لَا يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة. .) إِلَى آخِره. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على بعد الْجُمُعَة وَقبلهَا، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إلاّ بعْدهَا؟ قلت: أُجِيب عَنهُ من وُجُوه: الأول: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث الْبَاب وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان من طَرِيق أَيُّوب، (عَن نَافِع قَالَ: كَانَ ابْن عمر يُطِيل الصَّلَاة قبل الْجُمُعَة وَيُصلي بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ، وَيحدث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ يفعل ذَلِك وَقد جرت عَادَته بِمثل ذَلِك) . وَالثَّانِي: أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى اسْتِوَاء الظّهْر وَالْجُمُعَة حَتَّى يدل الدَّلِيل على خِلَافه، لِأَن الْجُمُعَة بدل الظّهْر، وَكَانَت عنايته بِحكم الصَّلَاة بعْدهَا أَكثر، فَلذَلِك ذكره فِي التَّرْجَمَة مقدما على خلاف الْعَادة فِي تَقْدِيم الْقبل على الْبعد. وَالثَّالِث: وُرُود الْخَبَر فِي الْبعد صَرِيح، وَأَشَارَ إِلَى الَّذِي فِيهِ الْقبل، فَذكر الَّذِي فِيهِ الْبعد صَرِيحًا، وَأَشَارَ الَّذِي فِيهِ الْقبل.
وَأما رجال الحَدِيث فقد ذكرُوا غير مرّة.
وَأما من أخرجه غَيره: فقد أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق مَالك عَن نَافِع إِلَى آخِره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنه كَانَ يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ) . وَأخرجه ابْن ماجة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا) . وَفِي (سنَن سعيد ابْن مَنْصُور) : عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ: (علمنَا ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن نصلي بعد الْجُمُعَة أَرْبعا، فَلَمَّا قدم علينا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، علمنَا أَن نصلي سِتا. .) . وروى ابْن حبَان من حَدِيث عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من صَلَاة مَفْرُوضَة إلاّ وَبَين يَديهَا رَكْعَتَانِ) . وَعند أبي دَاوُد، وَقَالَ: هُوَ مُرْسل: (عَن أبي قَتَادَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره الصَّلَاة نصف النَّهَار إلاّ يَوْم الْجُمُعَة) . وَقَالَ: (إِن جَهَنَّم تسجر إلاّ يَوْم الْجُمُعَة) . وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله، رَوَاهُ(6/249)
الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم شَيْخه. وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيث ابْن عُبَيْدَة عَن أَبِيه (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ يُصَلِّي قبل الْجُمُعَة أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا) . وَعند ابْن مَاجَه بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْكَع قبل الْجُمُعَة أَرْبعا لَا يفصل فِي شَيْء مِنْهُنَّ) ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) : بِرِجَال ابْن مَاجَه، وَهِي رِوَايَة بَقِيَّة عَن مُبشر بن عبيد عَن حجاج بن أَرْطَاة عَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، فَزَاد فِيهِ: (وَبعدهَا أَرْبعا) . قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : هَذَا حَدِيث بَاطِل اجْتمع فِيهِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة وهم ضعفاء، ومبشر وضَّاع صَاحب أباطيل. قلت: بَقِيَّة بن الْوَلِيد موثق وَلكنه مُدَلّس، وحجاج صَدُوق روى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وعطية مَشاهُ يحيى بن معِين فَقَالَ فِيهِ: صَالح وَلَكِن ضعفهما الْجُمْهُور.
قَوْله: (حَتَّى ينْصَرف) أَي: إِلَى الْبَيْت. قَوْله: (فَيصَلي) بِالرَّفْع لَا بِالنّصب.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن صَلَاة النَّوَافِل فِي الْبَيْت أولى، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أعَاد ابْن عمر ذكر الْجُمُعَة بعد ذكر الظّهْر من أجل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي سنة الْجُمُعَة فِي بَيته، بِخِلَاف الظّهْر، قَالَ: وَالْحكمَة فِيهِ أَن الْجُمُعَة لما كَانَت بدل الظّهْر وَاقْتصر فِيهَا على رَكْعَتَيْنِ ترك التَّنَفُّل بعْدهَا فِي الْمَسْجِد خشيَة أَن يظنّ أَنَّهَا الَّتِي حذفت. انْتهى. وَقد أجَاز مَالك الصَّلَاة بعد الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد للنَّاس وَلم يجز للْأمة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الصَّلَاة بعد الْجُمُعَة، فَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته كالتطوع بعد الظّهْر، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعمْرَان بن حُصَيْن وَالنَّخَعِيّ، وَقَالَ مَالك: إِذا صلى الإِمَام الْجُمُعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يرْكَع فِي الْمَسْجِد، لما رُوِيَ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه: كَانَ ينْصَرف بعد الْجُمُعَة وَلم يرْكَع فِي الْمَسْجِد، حَتَّى قَالَ: وَمن خَلفه أَيْضا إِذا سلمُوا، فَأحب أَن ينصرفوا، وَلَا يركعوا فِي الْمَسْجِد، وَإِن ركعوا فَذَاك وَاسع. وَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَرْبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر وَأبي مُوسَى، وَهُوَ قَول عَطاء وَالثَّوْري وَأبي يُوسُف إلاّ أَن أَبَا يُوسُف اسْتحبَّ أَن تقدم الْأَرْبَع قبل الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: مَا أَكثر الْمُصَلِّي بعد الْجُمُعَة من التَّطَوُّع فَهُوَ أحب إِلَيّ. وَقَالَت طَائِفَة: يُصَلِّي بعْدهَا أَرْبعا لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وعلقمة وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَإِسْحَاق.
حجَّة الْأَوَّلين حَدِيث ابْن عمر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة إلاّ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته) . قَالَ الْمُهلب: وهما الركعتان بعد الظّهْر. وَحجَّة الطَّائِفَة الثَّانِيَة مَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق (عَن عَطاء قَالَ: صليت مَعَ ابْن عمر الْجُمُعَة، فَلَمَّا سلم قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ صلى أَربع رَكْعَات ثمَّ انْصَرف) . وَجه قَول أبي يُوسُف مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن سُلَيْمَان بن مسْهر عَن حرشة بن الْحر: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كره أَن تصلي بعد صَلَاة مثلهَا. وَحجَّة الطَّائِفَة الثَّالِثَة مَا رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من كَانَ مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا) . وَقد مر ذكره.
وَبَقِي الْكَلَام فِي سنة الظّهْر وَالْمغْرب وَالْعشَاء. أما سنة الظّهْر فَسَيَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما سنة الْمغرب، فقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: (مَا أحصي مَا سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الْفجْر. {بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و {قل هُوَ الله أحد} وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا من رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (حفظت من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عشر رَكْعَات) الحَدِيث. وَفِيه: (رَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب فِي بَيته) . وَاتفقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ من رِوَايَة يحيى بن سعيد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَفِي هَذَا الْبَاب عَن عبد الله بن جَعْفَر عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عَبَّاس عِنْد أبي دَاوُد وَأبي أُمَامَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَأبي هُرَيْرَة عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: وَهَاتَانِ الركعتان بعد الْمغرب من السّنَن الْمُؤَكّدَة، وَبَالغ بعض التَّابِعين فيهمَا، فروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن وَكِيع عَن جرير بن حَازِم عَن عِيسَى بن عَاصِم الْأَسدي عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: لَو تركت الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب لَخَشِيت أَن لَا يغْفر لي، وَقد شَذَّ الْحسن الْبَصْرِيّ فَقَالَ بوجوبهما، وَلم يقل مَالك بِشَيْء من التوابع للفرائض إلاّ رَكْعَتي الْفجْر، وروى ابْن أبي شيبَة (عَن ابْن عمر، قَالَ: من صلى بعد الْمغرب أَرْبعا كَانَ كَالْمُعَقبِ غَزْوَة بعد غَزْوَة) . وَرُوِيَ أَيْضا عَن مَكْحُول، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى رَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب) ، يَعْنِي: قبل أَن يتَكَلَّم (رفعت صلَاته فِي عليين) . قَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا لَا يَصح لإرساله، وَأَيْضًا فَلَا يدْرِي من الْقَائِل، يَعْنِي: قبل أَن يتَكَلَّم.(6/250)
قلت: رَوَاهُ مُتَّصِلا أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي كتاب (الثَّوَاب وفضائل الْأَعْمَال) من رِوَايَة مقَاتل عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: (مَا من صَلَاة أحب إِلَى الله من الْمغرب) . الحَدِيث، وَفِيه: (فَمن صلاهَا ثمَّ صلى بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يتَكَلَّم جليسه رفعت صلَاته فِي أَعلَى عليين) . قلت: يَصح هَذَا مُسْتَندا لِأَصْحَابِنَا فِي استحبابهم إِيصَال السّنَن للفرائض. وَقَالَ شَارِح التِّرْمِذِيّ: وَله وَجه فِي الْمغرب بِسَبَب ضيق وَقتهَا على القَوْل بِأَن وَقتهَا ضيق على قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، ثمَّ الْمُسْتَحبّ فِي رَكْعَتي الْمغرب أَن تَكُونَا فِي بَيته لظَاهِر الحَدِيث، وَكَذَلِكَ سَائِر النَّوَافِل التابعة للفرائض أَن تكون فِي الْبَيْت عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، للْحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ: (أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة) . وَعند الثَّوْريّ وَمَالك: نوافل النَّهَار كلهَا فِي الْمَسْجِد أفضل، وَذهب ابْن أَلِي ليلى إِلَى أَن سنة الْمغرب لَا يجزىء فعلهَا فِي الْمَسْجِد. وَأما سنة الْعشَاء، وهما الركعتان بعْدهَا، فَمن السّنَن الْمُؤَكّدَة، وَقد صَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يدعهما. وَعَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى رَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء الْآخِرَة يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِفَاتِحَة الْكتاب وَعشْرين مرّة. {قل هُوَ الله أحد} بنى الله عز وَجل لَهُ قصرا فِي الْجنَّة) . رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان.
40 - (باُ قَوْلِ الله تعالَى فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المُرَاد من ذكر قَول الله عز وَجل: {فَإِذا قضيت} (الْجُمُعَة: 10) . وَأَرَادَ بِذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة هُنَا الْإِشَارَة إِلَى أَن الْأَمر فِي قَوْله: {فَانْتَشرُوا} (الْجُمُعَة: 10) . وَالْأَمر فِي قَوْله: {وابتغوا} (الْجُمُعَة: 10) . للْإِبَاحَة لَا للْوُجُوب، لأَنهم منعُوا عَن الانتشار فِي الأَرْض للتكسب وَقت النداء يَوْم الْجُمُعَة، لأجل إِقَامَة صَلَاة الْجُمُعَة، فَلَمَّا صلوا وفرغوا أمروا بالانتشار فِي الأَرْض والابتغاء من فضل الله، وَهُوَ رزقه، وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْأَمر للْإِبَاحَة لِأَنَّهُ لمَنْفَعَة لنا، فَلَو كَانَ للْوُجُوب لعاد علينا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} (الْمَائِدَة: 2) . فَإِنَّهُ حرم عَلَيْهِم الصَّيْد وهم محرمون، فَلَمَّا خَرجُوا عَن الْإِحْرَام أحل لَهُم الصَّيْد، كَمَا كَانَ أَولا. وَقَالَ ابْن التِّين: جمَاعَة أهل الْعلم على أَن هَذَا إِبَاحَة بعد الْحَظْر، وَقيل: هُوَ أَمر على بَابه. وَعَن الدَّاودِيّ: هُوَ إِبَاحَة لمن كَانَ لَهُ كفاف وَلَا يُطيق التكسب، وَفرض على من لَا شَيْء لَهُ، ويطيق التكسب. وَقَالَ غَيره: من تعطف عَلَيْهِ بسؤال أَو غَيره لَيْسَ طلب التكسب عَلَيْهِ بفريضة. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} (الْجُمُعَة: 10) . فرغ مِنْهَا {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} (الْجُمُعَة: 10) . للتِّجَارَة وَالتَّصَرُّف فِي حَوَائِجكُمْ. {وابتغوا من فضل الله} (الْجُمُعَة: 10) . أَي: الرزق، ثمَّ أطلق لَهُم مَا حظر عَلَيْهِم بعد قَضَاء الصَّلَاة من الانتشار، وابتغاء الرِّبْح مَعَ التوصية بإكثار الذّكر وَأَن لَا يلهيهم شَيْء من التِّجَارَة وَلَا غَيرهَا عَنهُ، وهما أَمر إِبَاحَة وتخيير كَمَا فِي قَوْله: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} (الْمَائِدَة: 2) . وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَول الله: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} (الْجُمُعَة: 10) . لَيْسَ لطلب دنياكم، وَلَكِن عِيَادَة مَرِيض وَحُضُور جَنَازَة وزيارة أَخ فِي الله. وَقيل: صَلَاة تطوع. وَقَالَ الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير ومحكول: وابتغوا من فضل الله، هُوَ طلب الْعلم، وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وابتغوا من فضل الله يَوْم السبت.
938 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أبُو غسَّانَ قَالَ حدَّثني أبُو حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ كانَتْ فِينَا امْرأةٌ تَجْعَلُ عَلى أرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعةٍ لَها سِلْقا فَكانَتْ إذَا كانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تنْزِعُ أصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدِرٍ ثُمَّ تجْعَلُ عَليْهِ قَبْضةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا فتَكُونُ اصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ وكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَرِّبُ ذالِكَ الطَّعَامَ إلَيْنَا فنَلْعَقُهُ وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذالِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ آيَة من الْقُرْآن الْكَرِيم من حَيْثُ إِن فِي الْآيَة الانتشار بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة، وَهُوَ الِانْصِرَاف مِنْهَا، وَفِي الحَدِيث أَيْضا: كَانُوا يَنْصَرِفُونَ بعد فراغهم من صَلَاة الْجُمُعَة، وَفِي الْآيَة الابتغاء من فضل الله الَّذِي هُوَ الرزق(6/251)
وَفِي الحَدِيث أَيْضا: كَانُوا بعد انصرافهم مِنْهَا يَبْتَغُونَ مَا كَانَت تِلْكَ الْمَرْأَة تهيؤه من أصُول السلق، وَهُوَ أَيْضا رزق سَاقه الله إِلَيْهِم. ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: أَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة: هُوَ مُحَمَّد بن مطرف الْمدنِي. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: هُوَ سَلمَة بن دِينَار. الرَّابِع: سُهَيْل بن سعيد بن مَالك الْأنْصَارِيّ والساعدي. .
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: راويان مذكوران بالكنية. وَفِيه: أَن رِجَاله مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ مصري.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (امْرَأَة) ، لم يعلم اسْمهَا. قَوْله: (تجْعَل) بِالْجِيم وَالْعين الْمُهْملَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تحقل، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف أَي: تزرع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحقل الزَّرْع إِذا تشعب ورقه قبل أَن يغلظ سوقه، تَقول مِنْهُ: أحقل الزَّرْع، وَمِنْه: المحاقلة، وَهُوَ بيع الزَّرْع وَهُوَ فِي سنبله. قَوْله: (على أربعاء) ، جمع: ربيع، كأنصباء جمع نصيب. وَهُوَ الجداول، وَذكر ابْن سَيّده أَن الرّبيع هُوَ الساقية الصَّغِيرَة تجْرِي إِلَى النّخل مجاريه، وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ الساقية. وَقيل: النَّهر الصَّغِير. وَقَالَ عبد الْملك: هُوَ حافات الأحواض ومجاري الْمِيَاه. الجداول: جمع جدول، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير، قَالَه الْجَوْهَرِي. قَوْله: (فِي مزرعة) بِفَتْح الرَّاء، وَحكى ابْن مَالك جَوَاز تثليثها. قَوْله: (سلقا) ، بِكَسْر السِّين وَهُوَ مَعْرُوف، وانتصابه على أَنه مفعول تجْعَل أَو تحقل على الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وسلق، بِالرَّفْع مُبْتَدأ خَبره: لَهَا، أَو مفعول مَا لم يسم فَاعله على تَقْدِير أَن يَجْعَل بِلَفْظ الْمَجْهُول، وَبِالنَّصبِ إِن كَانَ بِلَفْظ الْمَعْرُوف، وَحِينَئِذٍ الأَصْل فِيهِ أَن يكْتب بِالْألف، لَكِن جَازَ على اللُّغَة الربيعية أَن يسكن بِدُونِ الْألف لأَنهم يقفون على الْمَنْصُوب الْمنون بِالسُّكُونِ، فَلَا يحْتَاج الْكَاتِب على لغتهم إِلَى الْألف، وَمثله كثير فِي هَذَا الصَّحِيح، نَحْو: سَمِعت أنس، وَرَأَيْت سَالم. انْتهى. قلت: تصرفه فِي إِعْرَاب: سلقا، تعسف مَعَ عدم مَجِيء الرِّوَايَة على الرّفْع، وَهُوَ مَنْصُوب قطعا على مَا ذكرنَا. قَوْله: (تطحنها) من الطَّحْن، وَمحله النصب على الْحَال من: شعير، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن شَرط ذِي الْحَال أَن يكون معرفَة وَالْجُمْلَة بعد النكرَة صفة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (تطبخها) من الطَّبْخ. قَوْله: (عرقه) ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْقَاف بعْدهَا هَاء الضَّمِير أَي: عرق الطَّعَام الَّذِي تطبخه الْمَرْأَة من أصُول السلق، وَقَالَ بَعضهم أَي: عرق الطَّعَام وَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لم يمض ذكره، وَلَفظ الطَّعَام قد ذكر فِيمَا بعده، والعرق اللَّحْم الَّذِي على الْعظم، يُقَال: عرقت الْعظم عرقا إِذا أكلت مَا عَلَيْهِ من اللَّحْم، وَالْمرَاد: أَن أصُول السلق كَانَت عوضا عَن اللَّحْم. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (غرقة) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَبعد الْقَاف هَاء تَأْنِيث بِمَعْنى: مغروقة، يَعْنِي السلق يغرق فِي المرقة لشدَّة نضجه. قَوْله: (فنلعقه) ، من: لعق يلعق من بَاب: علم يعلم، وَاخْتِيَار ثَعْلَب فِي الفصيح هَكَذَا، بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الْمُسْتَقْبل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز السَّلَام على النسْوَة الْأَجَانِب واستحباب التَّقَرُّب بِالْخَيرِ وَلَو بالشَّيْء الحقير. وَفِيه: قناعة الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَشدَّة الْعَيْش وَعدم حرصهم على الدُّنْيَا ولذاتها. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى الطَّاعَة.
939 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي حازِمٍ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلٍ بهاذا وَقَالَ مَا كُنَّا نَقِيلُ ولاَ نَتَغَدَّى إلاّ بَعْدَ الجُمُعَةِ. .
عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: هُوَ القعْنبِي، وَابْن أبي حَازِم هُوَ عبد الْعَزِيز ابْن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْمدنِي، مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَهُوَ ساجد. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: مَاتَ فَجْأَة يَوْم الْجُمُعَة فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور. قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي قبله، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أَبَا غَسَّان وَعبد الْعَزِيز الْمَذْكُور اشْتَركَا فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن أبي حَازِم، وَزَاد عبد الْعَزِيز قَوْله: مَا كُنَّا نقِيل وَلَا نتغدى إلاّ بعد الْجُمُعَة. قَوْله: (نقِيل) بِفَتْح النُّون من: قَالَ يقيل قيلولة فَهُوَ قَائِل، والقيلولة: الاسْتِرَاحَة نصف النَّهَار، وَإِن لم يكن مَعهَا نوم، وَكَذَلِكَ: المقيل، وَأَصله أجوف يائي. قَوْله: (وَلَا نتغدى) بالغين الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْملَة من: الْغَدَاء، وَهُوَ الطَّعَام الَّذِي يُؤْكَل أول النَّهَار، واستدلت الْحَنَابِلَة بِهَذَا الحَدِيث لِأَحْمَد على جَوَاز صَلَاة الْجُمُعَة قبل الزَّوَال، ورد عَلَيْهِم بِمَا قَالَه ابْن بطال: بِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِيهِ على هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يُسمى بعد الْجُمُعَة وَقت الْغَدَاء، بل فِيهِ أَنهم كَانُوا يتشاغلون عَن الْغَدَاء والقائلة بالتهيىء(6/252)
للْجُمُعَة ثمَّ بِالصَّلَاةِ ثمَّ يَنْصَرِفُونَ فيقيلون ويتغدون، فَتكون قائلتهم وغداؤهم بعد الْجُمُعَة عوضا عَمَّا فاتهم فِي وقته من أجل بكورهم، وعَلى هَذَا التَّأْوِيل جُمْهُور الْأَئِمَّة وَعَامة الْعلمَاء، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب وَقت الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس.
41 - (بابُ القَائِلَةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم القائلة بعد صَلَاة الْجُمُعَة، والقائلة على وزن الفاعلة بِمَعْنى: القيلولة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
940 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُقْبَةَ الشِّيبَانِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو إسْحَاقَ الفَزَارِيُّ عنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنسا يقُولُ كُنَّا نُبَكِّرُ إلَى الجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ (انْظُر الحَدِيث 905) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن ظَاهر الحَدِيث أَنهم كَانُوا يصلونَ الْجُمُعَة ثمَّ يقيلون.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن عقبَة أَبُو عبد الله الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، أَخُو الْوَلِيد. الثَّانِي: أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَزارِيّ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء، المصِّيصِي بإهمال الصادين، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: حميد بِضَم الْحَاء: ابْن أبي حميد الطَّوِيل الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كُوفِي ومصيصي وبصري.
قَوْله: (نبكر) من التبكير وَهُوَ الْإِسْرَاع إِلَى الشَّيْء.
وَفِيه: نوم القائلة وَهُوَ مُسْتَحبّ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} (النُّور: 58) . أَي: من القائلة.
941 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أبُو غسَّانَ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ. قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجُمُعَةَ ثُمَّ تَكُونُ القائِلَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف، وَقد مر فِي الْبَاب السَّابِق، وَكَذَلِكَ أَبُو حَازِم وَهُوَ: سَلمَة بن دِينَار. قَوْله: (ثمَّ تكون القائلة) أَي: تقع القيلولة، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر عَن قريب مُسْتَوفى.
هَذَا آخر كتاب الْجُمُعَة
12 - (كتاب الْخَوْف)
1 - أبْوَابُ صَلاَةِ الخَوْفِ وقَوْلِ الله تَعَالَى: {وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمْ الذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكَافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأتِ طائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وأسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفَلُونَ عنْ أسْلِحَتِكُمْ وَأمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ولاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كانَ بِكُم أذا مِنْ مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ الله أعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابا مُهِينا} (النِّسَاء: 101 و 102) [/ ح.
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْخَوْف، كَذَا وَقع لَفْظَة أَبْوَاب بِصِيغَة الْجمع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: بَاب، بِالْإِفْرَادِ، وَسقط فِي رِوَايَة البَاقِينَ. قَوْله: (وَقَول الله) بِالْجَرِّ، عطف على مَا قبله، وَثبتت الْآيَتَانِ بتمامهما إِلَى قَوْله: {عذَابا مهينا} فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ اقْتصر على قَوْله: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فيس عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} ثمَّ قَالَ: إِلَى قَوْله: {عذَابا مهينا} وَأما فِي رِوَايَة، أبي ذَر فساق الْآيَة الأولى بِتَمَامِهَا، وَمن الْآيَة الثَّانِيَة سَاق إِلَى قَوْله: {مَعَك} ثمَّ قالإلى قَوْله (عذبا مهينا) وَإِنَّمَا ذكر هَاتين الْآيَتَيْنِ الكريمتين فِي هَذِه التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَن صَلَاة الْخَوْف فِي هَيْئَة خَارِجَة عَن هيئات بَقِيَّة الصَّلَوَات، إِنَّمَا ثبتَتْ بِالْكتاب، وَأما بَيَان صورتهَا على اختلافها فبالسنة.(6/253)
قَوْله: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} الضَّرْب فِي الأَرْض السّفر، وَيُقَال: ضربت فِي الأَرْض إِذا سَافَرت، وَتَأْتِي هَذِه الْمَادَّة لمعان كَثِيرَة. قَوْله: {جنَاح} أَي: إِثْم. قَوْله: {أَن تقصرُوا} ظَاهره التَّخْيِير بَين الْقصر والإتمام، وَأَن الْإِتْمَام أفضل، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَعَن أبي حنيفَة: الْقصر فِي السّفر عَزِيمَة غير رخصَة، لَا يجوز غَيره. وقرىء: إِن تقصرُوا، بِضَم التَّاء من: الإقصار، وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ ان تقصرُوا، بِالتَّشْدِيدِ، وَالْقصر ثَابت بِنَصّ الْكتاب فِي حَال الْخَوْف خَاصَّة. وَهُوَ قَوْله: {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} وَأما فِي حَال الْأَمْن فبالسنة، وَاحْتج الشَّافِعِي أَيْضا بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة عَن يعلى بن أُميَّة. قَالَ: قلت لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} فقد أَمن النَّاس، قَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (صَدَقَة تصدق الله تَعَالَى بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته) . فقد علق الْقصر بِالْقبُولِ وَسَماهُ صَدَقَة والمتصدق عَلَيْهِ مُخَيّر فِي قبُول الصَّدَقَة، فَلَا يلْزمه الْقبُول حتما.
وَلنَا أَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر، وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) . رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: (فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) . رَوَاهُ مُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الضُّحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْجَوَاب عَن حَدِيث يعلى بن أُميَّة أَنه دليلنا لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ وَالْأَمر للْوُجُوب.
قَوْله: (أَن يَفْتِنكُم) ، المُرَاد من الْفِتْنَة هَهُنَا الْقِتَال والتعرض لما يكره. قَوْله: (وَإِذا كنت فيهم) تعلق بِهِ أَبُو يُوسُف وَذهب إِلَى أَن صَلَاة الْخَوْف غير مَشْرُوعَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ الْحسن بن زِيَادَة والمزني وَإِبْرَاهِيم بن علية، فعلل الْمُزنِيّ بالنسخ فِي زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أَخّرهَا يَوْم الخَنْدَق، وَعلل أَبُو يُوسُف بِأَن الله شَرط كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم لإقامتها، ورد مَا قَالَه الْمُزنِيّ بِمَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب بعد الخَنْدَق، وَالْخَنْدَق مقدم على الْمَشْهُور، فَكيف ينْسَخ الْمُتَأَخر؟ ذكره النَّوَوِيّ وَغَيره، ورد مَا قَالَه أَبُو يُوسُف بِأَن الصَّحَابَة فَعَلُوهَا بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن سَببهَا الْخَوْف وَهُوَ مُتَحَقق بعده، كَمَا فِي حَيَاته، ثمَّ إعلم أَن الْخَوْف لَا يُؤثر فِي نُقْصَان عدد الرَّكْعَات إلاّ عِنْد ابْن عَبَّاس وَالْحسن الْبَصْرِيّ وطاووس حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهَا رَكْعَة، وروى مُسلم من حَدِيث مُجَاهِد، (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَرْبعا وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) . وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا، وَإِلَيْهِ ذهب أَيْضا عَطاء وطاووس وَمُجاهد وَالْحكم بن عتيبة وَقَتَادَة وَإِسْحَاق وَالضَّحَّاك. وَقَالَ ابْن قدامَة: وَالَّذِي قَالَ مِنْهُم: رَكْعَة، إِنَّمَا جعلهَا عِنْد شدَّة الْقِتَال، وَرُوِيَ مثله عَن زيد بن ثَابت وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر، قَالَ جَابر: إِنَّمَا الْقصر رَكْعَة عِنْد الْقِتَال، وَقَالَ إِسْحَاق: يجْزِيك عَن الشدَّة رَكْعَة تومىء إِيمَاء فَإِن لم تقدر فسجدة وَاحِدَة، فَإِن لم تقدر فتكبيرة لِأَنَّهَا ذكر الله تَعَالَى. وَعَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: رَكْعَة، فَإِن لم تقدر كبر تَكْبِيرَة حَيْثُ كَانَ وَجهك،. وَقَالَ القَاضِي: لَا تَأْثِير للخوف فِي عدد الرَّكْعَات، وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَسَائِر أهل الْعلم من عُلَمَاء الْأَمْصَار لَا يجيزون رَكْعَة.
942 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سألْتُهُ هَلْ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي صلاَةَ الخَوْفِ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا العَدُوَّ فصَافَفْنَا لَهُمْ فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي لَنَا فقَامَتْ طائِفَةٌ مَعهُ تُصَلِّي وَأقْبَلَتْ طائِفَةٌ عَلَى العَدُوِّ ورَكَعَ رسولْ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَنْ مَعَهُ وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فجَاؤُا فرَكَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِمْ رَكْعَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فقامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وسَجدَ سَجْدتَيْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهَا مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الْخَوْف، والْحَدِيث فِيهِ كَذَلِك مَعَ بَيَان صفتهَا.
ذكر(6/254)
رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة حمصيان والإثنين بعدهمَا مدنيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد ابْن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد بن عبد الْملك عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن كثير ابْن عبيد عَن بَقِيَّة عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل عَن يحيى بن آدم عَن سُفْيَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر وَحُذَيْفَة وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود سهل ابْن أبي حثْمَة وَأبي عَيَّاش الزرقي، واسْمه زيد بن صَامت وَأبي بكرَة. قلت: وَفِيه أَيْضا عَن على وَعَائِشَة وخوات بن جُبَير وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. فَحَدِيث جَابر عِنْد مُسلم مَوْصُولا، وَعند البُخَارِيّ مُعَلّقا فِي الْمَغَازِي. وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث زيد بن ثَابت عِنْد النَّسَائِيّ. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة. وَحَدِيث ابْن مَسْعُود عِنْد أبي دَاوُد. وَحَدِيث سهل بن أبي حثْمَة عِنْد التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث أبي عَيَّاش عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث أبي بكرَة عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وَحَدِيث عَليّ عِنْد الْبَزَّار. وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد. وَحَدِيث خَوات بن جُبَير عِنْد ابْن مَنْدَه فِي (معرفَة الصَّحَابَة) وَحَدِيث أَبُو مُوسَى عِنْد ابْن الْبر فِي (التَّمْهِيد) [/ ح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلته) السَّائِل هُوَ: شُعَيْب، أَي: سَأَلت الزُّهْرِيّ. قَوْله: (هَل صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) وَفِي رِوَايَة السراج: عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ: (سَأَلته هَل صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْخَوْف وَكَيف صلاهَا إِن كَانَ صلاهَا؟ قَوْله: (قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، أَي: جِهَة نجد، والنجد كل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهَذِه الْغَزْوَة هِيَ غَزْوَة ذَات الرّقاع. وَقَالَ ابْن أسْحَاق: أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ بعد غَزْوَة بني النَّضِير شَهْري ربيع وَبَعض جُمَادَى، ثمَّ غزا نجدا يُرِيد بني محَارب وَبني ثَعْلَبَة من غطفان، وَاسْتعْمل على الْمَدِينَة أَبَا ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن هِشَام: وَيُقَال: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَسَار حَتَّى نزل نجدا وَهِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، قلت: ذكرهَا فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَكَانَت فِيهَا غَزْوَة بني النَّضِير أَيْضا، وَهِي الَّتِي أنزل الله تَعَالَى فِيهَا سُورَة الْحَشْر، وَحكى البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة أَنه قَالَ: كَانَت غَزْوَة بني النَّضِير أَيْضا بعد بدر بِسِتَّة أشهر قبل أحد، وَكَانَت غَزْوَة أحد فِي شَوَّال سنة ثَلَاث.
وَاخْتلفُوا فِي أَي سنة نزل بَيَان صَلَاة الْخَوْف؟ فَقَالَ الْجُمْهُور: إِن أول مَا صليت فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، قَالَه مُحَمَّد بن سعد وَغَيره. وَاخْتلف أهل السّير فِي أَي سنة كَانَت؟ فَقيل: سنة أَربع، وَقيل: سنة خمس، وَقيل: سنة سِتّ، وَقيل: سنة سبع، فَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق كَانَت أول مَا صليت قبل بدر الْموعد، وَذكر ابْن إِسْحَاق وَابْن عبد الْبر أَن بدر الْموعد كَانَت فِي شعْبَان من سنة أَربع. وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: وَكَانَت ذَات الرّقاع فِي جمادي الأولى، وَكَذَا قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: إِنَّهَا فِي جُمَادَى الأولى سنة أَربع. فَإِن قلت: قَالَ الْغَزالِيّ فِي (الْوَسِيط) وَتَبعهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ: إِن غَزْوَة ذَات الرّقاع آخر الْغَزَوَات. قلت: هَذَا غير صَحِيح، وَقد أنكر عَلَيْهِ ابْن الصّلاح فِي (مُشكل الْوَسِيط) وَقَالَ: لَيست آخرهَا وَلَا من أواخرها، وَإِنَّمَا آخر غَزَوَاته: تَبُوك، وَهُوَ كَمَا ذكره أهل السّير، وَإِن أَرَادَ أَنَّهَا آخر غزَاة صلى فِيهَا صَلَاة الْخَوْف فَلَيْسَ بِصَحِيح أَيْضا، فقد صلى مَعَه صَلَاة الْخَوْف أَبُو بكرَة، وَإِنَّمَا نزل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة الطَّائِف، تدلى ببكرة فكنى بهَا، وَلَيْسَ بعد غَزْوَة الطَّائِف إلاّ غَزْوَة تَبُوك، وَلِهَذَا قَالَ ابْن حزم: إِن صفة صَلَاة الْخَوْف فِي حَدِيث أبي بكرَة أفضل صَلَاة الْخَوْف، لِأَنَّهَا آخر فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا.
قَوْله: (فوازينا الْعَدو) أَي: قابلنا من الموازاة، وَهِي الْمُقَابلَة والمحاذاة وَأَصله من الإزاء: بِالْهَمْزَةِ، فِي أَوله يُقَال: هُوَ بإزائه: أَي: بحذائه، وَقد آزيته إِذا حاذيته. وَلَا تقل: وازيته، قَالَه الْجَوْهَرِي. قلت: فعلى هَذَا أصل. قَوْله: (فوازينا) أَي: فآزينا(6/255)
قلبت الْهمزَة واوا كَمَا أَن الوار تقلب همزَة فِي مَوَاضِع مِنْهَا: أواقي أَصله وواقي. قَوْله: (فصاففناهم) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: (فصاففنا لَهُم) ، ويروى: (فصففناهم) . قَوْله: (يُصَلِّي لنا) ، أَي: لأجلنا أَو يُصَلِّي بِنَا. قَوْله: (رَكْعَة وسجدتين) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ: مثل نصف صَلَاة الصُّبْح، وَهَذِه الزِّيَادَة تدل على أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة كَانَت غير الصُّبْح: فَتكون ربَاعِية، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مَا يدل على أَنَّهَا كَانَت صَلَاة الْعَصْر، وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث جَابر بالعصر، وَفِي حَدِيث أبي بكرَة بِالظّهْرِ. قَوْله: (ثمَّ انصرفوا مَكَان الطَّائِفَة الَّتِي لم تصل) أَي: فَقَامُوا فِي مكانهم، وَصرح فِيهِ فِي رِوَايَة بَقِيَّة عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن النَّسَائِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث حجَّة لِأَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّة فِي صَلَاة الْخَوْف، وَحَدِيث ابْن مَسْعُود أَيْضا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عمرَان بن ميسرَة حَدثنَا ابْن فُضَيْل حَدثنَا خصيف عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْخَوْف فَقَامُوا صفا خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصف مُسْتَقْبل الْعَدو، فصلى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَة ثمَّ جَاءَ الْآخرُونَ فَقَامُوا مقامهم فَاسْتقْبل هَؤُلَاءِ الْعَدو فصلى بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَة ثمَّ سلم فَقَامَ هَؤُلَاءِ فصلوا الأنفسهم رَكْعَة ثمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مقَام أُولَئِكَ مستقبلي الْعَدو، وَرجع أُولَئِكَ إِلَى مقامهم فصلوا لأَنْفُسِهِمْ رَكْعَة ثمَّ سلمُوا) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَقَالَ: أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه، وخصيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ. قلت: أَبُو عُبَيْدَة أخرج لَهُ البُخَارِيّ محتجا بِهِ فِي غير مَوضِع، وروى لَهُ مُسلم، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ أَبُو عُبَيْدَة يَوْم مَاتَ أَبوهُ ابْن سبع سِنِين مُمَيّزا، وَابْن سبع سِنِين يحْتَمل السماع وَالْحِفْظ، وَلِهَذَا يُؤمر الصَّبِي ابْن سبع سِنِين بِالصَّلَاةِ تخلقا وتأدبا، وخصيف، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَالْعجلِي وَابْن معِين وَابْن سعد، وَقَالَ النَّسَائِيّ: صَالح، وَجعل الْمَازرِيّ حَدِيث ابْن عمر قَول الشَّافِعِي وَأَشْهَب، وَحَدِيث جَابر قَول أبي حنيفَة، وَهُوَ سَهْو فيهمَا، بل أَخذ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأَشْهَب بِرِوَايَة ابْن عمر، وَالشَّافِعِيّ بِرِوَايَة سهل بن أبي حثْمَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَو فعل مثل رِوَايَة ابْن عمر فَفِي صِحَّته قَولَانِ، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور صِحَّته. قَالَ: وَقَول الْغَزالِيّ قَالَه بعض أَصْحَابنَا، بعيد وَغلط فِي شَيْئَيْنِ أَحدهمَا: نسبته إِلَى بعض الْأَصْحَاب، بل نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي (الْجَدِيد) وَفِي (الرسَالَة) وَفِي الثَّانِي: تَضْعِيفه انْتهى. قلت: هم يَقُولُونَ: قَالَ الشَّافِعِي: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي، وَأي شَيْء يكون أصح من حَدِيث ابْن عمر وَقد خرجته الْجَمَاعَة؟ وَقَالَ الْقَدُورِيّ فِي (شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي) وَأَبُو نصر الْبَغْدَادِيّ فِي (شرح مُخْتَصر الْقَدُورِيّ) : الْكل جَائِز، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الأولى.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: صَلَاة الْخَوْف أَنْوَاع صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام مُخْتَلفَة وأشكال متباينة يتحَرَّى فِي كلهَا مَا هُوَ أحوط للصَّلَاة وأبلغ فِي الخراسة، فَهِيَ على اخْتِلَاف صورها متفقة الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) : رُوِيَ فِي صَلَاة الْخَوْف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُجُوه كَثِيرَة فَذكر مِنْهَا سِتَّة أوجه: الأول: مَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر، قَالَ بِهِ من الْأَئِمَّة الْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب. قلت: قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه على مَا ذكرنَا. الثَّانِي: حَدِيث صَالح بن خَوات عَن سهل بن أبي حثْمَة، قَالَ بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر. الثَّالِث: حَدِيث ابْن مَسْعُود قَالَ بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إلاّ أَبَا يُوسُف. الرَّابِع: حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي، قَالَ بِهِ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري. الْخَامِس: حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ بِهِ الثَّوْريّ فِي (مجيزه) وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: حُذَيْفَة وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله. السَّادِس: حَدِيث أبي بكرَة أَنه صلى بِكُل طَائِفَة رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يُفْتِي بِهِ، وَقد حكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي: أَنه لَو صلى فِي الْخَوْف بطَائفَة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم فصلى بالطائفة الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم كَانَ جَائِزا. قَالَ: وَهَكَذَا صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطن نخل، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَرُوِيَ أَن صلَاته هَكَذَا كَانَت يَوْم ذَات الرّقاع، وَذكر أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) لصَلَاة الْخَوْف ثَمَانِيَة صور، وَذكرهَا ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) تِسْعَة أَنْوَاع، وَذكر القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) لصَلَاة الْخَوْف ثَلَاثَة عشر وَجها، وَذكر الثَّوْريّ أَنَّهَا تبلغ سِتَّة عشر وَجها، وَلم يبين شَيْئا من ذَلِك. وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : قد جمعت طرق الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صَلَاة الْخَوْف فبلغت سَبْعَة عشر وَجها، وبيّنها، لَكِن يُمكن التَّدَاخُل فِي بَعْضهَا. وَحكى ابْن الْقصار الْمَالِكِي: أَن(6/256)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا عشر مَرَّات، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: صلاهَا أَرْبعا وَعشْرين مرّة وبيّن القَاضِي عِيَاض تِلْكَ المواطن، فَقَالَ: وَفِي حَدِيث ابْن أبي حثْمَة وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر أَنه صلاهَا فِي يَوْم ذَات الرّقاع سنة خمس من الْهِجْرَة، وَفِي حَدِيث أبي عَيَّاش الزرقي أَنه صلاهَا بعسفان وَيَوْم بني سليم، وَفِي حَدِيث جَابر فِي غزَاة جُهَيْنَة وَفِي غزَاة بني محَارب بِنَخْل، وروى أَنه صلاهَا فِي غَزْوَة نجد يَوْم ذَات الرّقاع، وَهِي غَزْوَة نجد وغزوة غطفان. وَقَالَ الْحَاكِم فِي (الإكليل) حِين ذكر غَزْوَة ذَات الرّقاع: وَقد تسمى هَذِه الْغَزْوَة غَزْوَة محَارب، وَيُقَال: غَزْوَة خصفة، وَيُقَال: غَزْوَة ثَعْلَبَة، وَيُقَال: غطفان، وَالَّذِي صَحَّ أَنه صلى بهَا صَلَاة الْخَوْف من الْغَزَوَات: ذَات الرّقاع وَذُو قرد وَعُسْفَان وغزوة الطَّائِف، وَلَيْسَ بعد غَزْوَة الطَّائِف إلاّ تَبُوك وَلَيْسَ فِيهَا لِقَاء الْعَدو، وَالظَّاهِر أَن غَزْوَة نجد مَرَّتَانِ، وَالَّذِي شَهِدَهَا أَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَة هِيَ غَزْوَة نجد الثَّانِيَة لصِحَّة حديثيهما فِي شهودها.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من حَدِيث الْبَاب من قَوْله: (طَائِفَة) أَنه لَا فرق بَين أَن تكون إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَكثر من الْأُخْرَى عددا أَو تساوى عددهما، لِأَن الطَّائِفَة تطلق على الْقَلِيل وَالْكثير حَتَّى على الْوَاحِد، فَلَو كَانُوا ثَلَاثَة وَوَقع عَلَيْهِم الْخَوْف جَازَ لأَحَدهم أَن يُصَلِّي بِوَاحِد ويحرس وَاحِد، ثمَّ يُصَلِّي الآخر، وَهُوَ أقل مَا يتَصَوَّر فِي صَلَاة الْخَوْف جمَاعَة، على القَوْل: بِأَن أقل الْجَمَاعَة ثَلَاثَة، لَكِن الشَّافِعِي قَالَ: أكره أَن تكون كل طَائِفَة أقل من ثَلَاثَة، لِأَنَّهُ أعَاد عَلَيْهِم ضمير الْجمع بقوله: (أسلحتهم) ، ذكره النَّوَوِيّ.
وَمن ذَلِك أَنهم كَانُوا مسافرين، فَلَو كَانُوا مقيمين فحكمهم حكم الْمُسَافِرين عِنْد الْخَوْف، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَعنهُ: لَا تجوز صَلَاة الْخَوْف فِي الْحَضَر. وَقَالَ أَصْحَابه: تجوز خلافًا لِابْنِ الْمَاجشون، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجوز، وَنقل النَّوَوِيّ عَن مَالك عدم الْجَوَاز فِي الْحَضَر على الْإِطْلَاق غير صَحِيح، لِأَن الْمَشْهُور عَنهُ الْجَوَاز.
2 - (بابُ صَلاَةِ الخَوْفِ رِجَالاً ورُكْبَانا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْخَوْف حَال كَون الْمُصَلِّين رجَالًا وركبانا، فالرجال جمع: راجل، والركبان جمع: رَاكب، وَذَلِكَ عِنْد الِاخْتِلَاط وَشدَّة الْخَوْف، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الصَّلَاة لَا تسْقط عِنْد الْعَجز عَن النُّزُول عَن الدَّابَّة فَإِنَّهُم يصلونَ ركبانا فُرَادَى يومئون بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود إِلَى أَي جِهَة شاؤا. وَفِي (الذَّخِيرَة) : إِذا اشْتَدَّ الْخَوْف صلوا رجَالًا قيَاما على أَقْدَامهم أَو ركبانا مستقبلي الْقبْلَة وَغير مستقبليها. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) : لَا يجوز ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِيهَا عِنْد أبي حنيفَة وَهَذَا غير صَحِيح، وَلَا تجوز بِجَمَاعَة عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَابْن أبي لَيْلَة، وَعَن مُحَمَّد: تجوز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَإِذا لم يقدروا على الصَّلَاة على مَا وَصفنَا أخروها وَلَا يصلونَ صَلَاة غير مَشْرُوعَة، وَعَن مُجَاهِد وطاووس وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: يصلونَ رَكْعَة وَاحِدَة لَا بإيماء، وَعَن الضَّحَّاك: فَإِن لم يقدروا يكبرُونَ تكبيرتين حَيْثُ كَانَت وُجُوههم، وَقَالَ إِسْحَاق: إِن لم يقدروا على الرَّكْعَة فسجدة وَاحِدَة، وإلاّ فتكبيرة وَاحِدَة.
رَاجِلٌ قائِمٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن رجَالًا فِي التَّرْجَمَة جمع: راجل، لَا جمع: رجل. وَالثَّانِي: أَن الراجل بِمَعْنى الْمَاشِي، كَمَا فِي سُورَة الْحَج {يأتوك رجَالًا} (الْحَج: 27) .
943 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيى بنِ سعِيدٍ القُرَشِيُّ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ نَحْوا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إذَا اخْتَلَطُوا قِياما. وزَادَ ابنُ عُمَرَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذالِكَ فَلْيُصلُّوا قِياما ورُكْبَانا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ الْقرشِي، يكنى أَبَا عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ فِي النّصْف من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ يحيى بن سعيد الْمَذْكُور، قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنِي سعيد بن يحيى أَنه قَالَ: مَاتَ أبي فِي النّصْف من شعْبَان سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش، مولى الزبير بن الْعَوام، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد بن عمر السابعمجاهد بن جُبَير.(6/257)
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَهِي قَوْله: حَدثنِي أبي، ويروى بِصِيغَة الْجمع أَيْضا. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بغدادي وَأَبوهُ كُوفِي وَابْن جريج وَمُجاهد مكيان ومُوسَى وَنَافِع مدنيان. وَفِيه: أَن أحد الروَاة مَنْسُوب إِلَى جده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَالنَّسَائِيّ عَن عبد الْأَعْلَى بن وَاصل، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن آدم عَن سُفْيَان عَن مُوسَى بن عقبَة، فَذكر صَلَاة الْخَوْف نَحْو سِيَاق الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ ابْن عمر، فَإِذا كَانَ الْخَوْف أَكثر من ذَلِك فَليصل رَاكِبًا أَو قَائِما يومىء إِيمَاء، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن عَن مُوسَى بن عقبَة مَوْقُوفا، كُله، لَكِن قَالَ فِي آخِره: وَأخْبرنَا نَافِع أَن عبد الله بن عمر كَانَ يخبر بِهَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاقْتضى ذَلِك رَفعه كُله، وَرَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع كَذَلِك، لَكِن قَالَ فِي آخِره: قَالَ نَافِع: لَا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذَلِك إلاّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد فِي آخِره: مستقبلي الْقبْلَة أَو غير مستقبليها.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن نَافِع عَن ابْن عمر نَحوا من قَول مُجَاهِد) أَي: روى نَافِع عَن ابْن عمر مثل قَول مُجَاهِد، وَقَول مُجَاهِد هُوَ قَوْله: إِذا اختلطوا، بيّن ذَلِك الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن مُحَمَّد عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن كثير عَن مُجَاهِد: إِذا اختلطوا فَإِنَّمَا الأشارة بِالرَّأْسِ هُوَ الذّكر، وَإِشَارَة الرَّأْس، وكل وَاحِد من قَول ابْن عمر وَقَول مُجَاهِد مَوْقُوف، أما رِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر فَإِنَّهَا مَوْقُوفَة على ابْن عمر، وَأما قَول مُجَاهِد فَإِنَّهُ مَوْقُوف على نَفسه، لِأَنَّهُ لم يروه عَن ابْن عمر، وَلَا عَن غَيره، وَقَالَ ابْن بطال: أما صَلَاة الْخَوْف رجَالًا وركبانا فَلَا تكون إلاّ إِذا اشْتَدَّ الْخَوْف واختلطوا فِي الْقِتَال، وَهَذِه الصَّلَاة تسمى: بِصَلَاة المسايفة، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك ابْن عمر، وَإِن كَانَ خوفًا شَدِيدا صلوا قيَاما على أَقْدَامهم أَو ركبانا مستقبلي الْقبْلَة أَو غير مستقبليها، وَهُوَ قَول مُجَاهِد: روى ابْن جريج عَن مُجَاهِد قَالَ: إِذا اختلطوا فَإِنَّمَا هُوَ الذّكر وَالْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، فمذهب مُجَاهِد أَنه يجْزِيه الأيماء عِنْد شدَّة الْقِتَال كمذهب ابْن عمر، وَقَول البُخَارِيّ: وَزَاد ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فليصلوا قيَاما وركبانا) أَرَادَ بِهِ أَن ابْن عمر رَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ من رَأْيه، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْند، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام، وَلَيْسَ أحد من الشُّرَّاح غير ابْن بطال أعْطى لهَذَا الحَدِيث حَقه. قَوْله: (إِذا اختلطوا قيَاما) أَي: قَائِمين، وانتصابه على الْحَال، وَذُو الْحَال مَحْذُوف تَقْدِيره: يصلونَ قيَاما، وَالْمرَاد من الِاخْتِلَاط: اخْتِلَاط الْمُسلمين بالعدو. قَوْله: (وَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك) أَي: وَإِن كَانَ الْعَدو أَكثر عِنْد اشتداد الْخَوْف. وَقَوله: (من ذَلِك) أَي: من الْخَوْف الَّذِي لَا يُمكن مَعَه الْقيام فِي مَوضِع وَلَا إِقَامَة صف فليصلوا حِينَئِذٍ قيَاما وركبانا. وانتصابهما على الْحَال، وَمعنى: ركبانا أَي: على رواحلهم، لِأَن فرض النُّزُول سقط. وَقَالَ الطخاوي: ذهب قوم إِلَى أَن الرَّاكِب لَا يُصَلِّي الْفَرِيضَة على دَابَّته وَإِن كَانَ فِي حَال لَا يُمكنهُ فِيهَا النُّزُول، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْم الخَنْدَق رَاكِبًا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن حُذَيْفَة قَالَ: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَوْم الخَنْدَق: شغلونا عَن صَلَاة الْعَصْر، قَالَ: وَلم يصلها يَوْمئِذٍ حَتَّى غربت الشَّمْس، مَلأ الله قُبُورهم نَارا وَقُلُوبهمْ نَارا وَبُيُوتهمْ نَارا) . هَذَا لفظ الطَّحَاوِيّ. قلت: وَأَرَادَ الطَّحَاوِيّ بالقوم: ابْن أبي ليلى وَالْحكم بن عتيبة وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم: الثَّوْريّ وَأَبا حنيفَة وَأَبا يُوسُف ومحمدا وَزفر ومالكا وَأحمد، فَإِنَّهُم قَالُوا: إِن كَانَ الرَّاكِب فِي الْحَرْب يُقَاتل لَا يُصَلِّي وَإِن كَانَ رَاكِبًا لَا يُقَاتل وَلَا يُمكنهُ النُّزُول يُصَلِّي، وَعند الشَّافِعِي: يجوز لَهُ أَن يُقَاتل وَهُوَ يُصَلِّي من غير تتَابع الضربات والطعنات، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر حِينَئِذٍ أَن يُصَلِّي رَاكِبًا، دلّ على ذَلِك حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: حبسنا يَوْم الخَنْدَق حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب بهوي من اللَّيْل حَتَّى كفينا، وَذَلِكَ قَول الله عز وَجل: {وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} (الْأَحْزَاب: 25) . قَالَ: فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَالًا فَأَقَامَ الظّهْر فَأحْسن صلَاتهَا كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعَصْر فَصلاهَا كَذَلِك، ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا كَذَلِك، وَذَلِكَ قبل أَن ينزل الله عز وَجل فِي صَلَاة الْخَوْف: {فرجالاً أَو ركبانا} (الْبَقَرَة: 239) . فَأخْبر أَبُو سعيد أَن تَركهم للصَّلَاة يَوْمئِذٍ ركبانا إِنَّمَا كَانَ قبل أَن يُبَاح لَهُم ذَلِك، ثمَّ أُبِيح لَهُم بِهَذِهِ الْآيَة.(6/258)
3 - (بابٌ يحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضا فِي صَلاةِ الخَوْفِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يحرس بعض الْمُصَلِّين بَعْضًا فِي صَلَاة الْخَوْف. قَالَ ابْن بطال: وَمحل هَذِه الصُّورَة إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة فَلَا يفترقون بِخِلَاف الصُّورَة الْمَاضِيَة فِي حَدِيث ابْن عمر، قَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ بِخِلَاف الْقُرْآن لجَوَاز إِن يكون قَوْله تَعَالَى: {ولتأت طَائِفَة أُخْرَى} (النِّسَاء: 102) . إِذا كَانَ الْعَدو فِي غير الْقبْلَة، وَذَلِكَ ببيانه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بيّن كَيْفيَّة الصَّلَاة إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة.
67 - (حَدثنَا حَيْوَة بن شُرَيْح قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَامَ النَّاس مَعَه فَكبر وَكَبرُوا مَعَه وَركع وَركع نَاس مِنْهُم ثمَّ سجد وسجدوا مَعَه ثمَّ قَامَ للثَّانِيَة فَقَامَ الَّذين سجدوا وحرسوا إخْوَانهمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى فركعوا وسجدوا مَعَ وَالنَّاس كلهم فِي صَلَاة وَلَكِن يحرس بَعضهم بَعْضًا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " حرسوا إخْوَانهمْ ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول حَيْوَة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره هَاء ابْن شُرَيْح بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة أَبُو الْعَبَّاس الْحِمصِي الْحَضْرَمِيّ وَهُوَ حَيْوَة الْأَصْغَر مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي مُحَمَّد بن حَرْب ضد الصُّلْح الْخَولَانِيّ الْحِمصِي الْمَعْرُوف بالأبرش مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ يكنى أَبَا الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي والزبيدي بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الدَّال الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى زبيد وَهُوَ مُنَبّه بن صَعب وَهَذَا هُوَ زبيد الْأَكْبَر. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عبيد الله بِضَم الْعين ابْن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ ابْن عتبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مَسْعُود الهزلي أَبُو عبد الله الْمدنِي الْفَقِيه الْأَعْمَى أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين. السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه عَن الزبيدِيّ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا الزبيدِيّ وَفِيه أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة حمصيون والاثنان بعدهمْ مدنيان وَفِيه الِاثْنَان مِنْهُم مذكوران بِالنِّسْبَةِ وَفِيه أحدهم اسْمه مصغر. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَنهُ بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَركع نَاس مِنْهُم " زَاد الْكشميهني " مَعَه " قَوْله " ثمَّ قَامَ للثَّانِيَة " أَي للركعة الثَّانِيَة وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي " ثمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة فَتَأَخر الَّذين سجدوا مَعَه " قَوْله " وَأَتَتْ الطَّائِفَة الْأُخْرَى " أَي الَّذين لم يركعوا وَلم يسجدوا مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولى قَوْله " فركعوا وسجدوا " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي " فركعوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " كلهم فِي صَلَاة " زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ " يكبرُونَ " وَلم يَقع فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ هَذِه هَل أكملوا الرَّكْعَة الثَّانِيَة أم لَا وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن أبي الجهم عَن شَيْخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة فَزَاد فِي آخِره وَلم يقضوا وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي اقتصارهم على كل رَكْعَة رَكْعَة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) هَذَا الحَدِيث فِي صُورَة مَا إِذا كَانَ الْعَدو بَينه وَبَين الْقبْلَة فيصف النَّاس صفّين فيركع بالصف الَّذِي يَلِيهِ وَيسْجد مَعَه والصف الثَّانِي قَائِم يحرس فَإِذا قَامَ من سُجُوده إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة تقدم الصَّفّ الثَّانِي وَتَأَخر الأول فَرَكَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهم وأكمل الرَّكْعَة وهم كلهم فِي صَلَاة وَقد رُوِيَ الحَدِيث من طَرِيق آخر " عَن ابْن عَبَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بهم صَلَاة الْخَوْف بِذِي قرد وَالْمُشْرِكُونَ بَينه وَبَين الْقبْلَة " وَقد روى نَحوه أَبُو عَيَّاش الزرقي وَجَابِر بن عبد الله مَرْفُوعا وَبِه قَالَ ابْن(6/259)
عَبَّاس إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة أَن يُصَلِّي على هَذِه الصّفة وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَحكى ابْن الْقصار عَن الشَّافِعِي نَحوه وَقَالَ الطَّحَاوِيّ ذهب أَبُو يُوسُف إِلَى أَن الْعَدو إِذا كَانَ فِي الْقبْلَة فَالصَّلَاة هَكَذَا وَإِذا فِي غَيرهَا فَالصَّلَاة كَمَا روى ابْن عمر وَغَيره قَالَ وَبِهَذَا تتفق الْأَحَادِيث قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِخِلَاف التَّنْزِيل لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قَوْله (ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم يصلوا فليصلوا مَعَك) إِذا كَانَ الْعَدو فِي غير الْقبْلَة ثمَّ أُوحِي إِلَيْهِ بعد ذَلِك كَيفَ حكم الصَّلَاة إِذا كَانُوا فِي الْقبْلَة فَفعل الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا جَاءَ الخبران وَترك مَالك وَأَبُو حنيفَة الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث لمُخَالفَته لِلْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْله {ولتأت طَائِفَة أُخْرَى} الْآيَة وَالْقُرْآن يدل على مَا جَاءَت بِهِ الرِّوَايَات فِي صَلَاة الْخَوْف عَن ابْن عمر وَغَيره من دُخُول الطَّائِفَة الثَّانِيَة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَلم يَكُونُوا صلوا قبل ذَلِك وَقَالَ أَشهب وَسَحْنُون إِذا كَانَ الْعَدو فِي الْقبْلَة لَا أحب أَن يصلى بالجيش أجمع لِأَنَّهُ يتَعَرَّض أَن يفتنه الْعَدو ويشغلوه وَيصلى بطائفتين شبه صَلَاة الْخَوْف وَالله تَعَالَى أعلم -
4 - (بابُ الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الحُصُونِ وَلِقَاءِ العَدُوِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة عِنْد مناهضة الْحُصُون. يُقَال: ناهضته أَي: قاومته، وتناهض الْقَوْم فِي الْحَرْب: إِذا نَهَضَ كل فريق إِلَى صَاحبه، وثلاثيه من بَاب: فعل يفعل بِالْفَتْح فيهم، يُقَال: نَهَضَ ينْهض نهضا ونهوضا ونهوا أَي: قَامَ، وأنهضته أَنا فانتهض واستنهضته لأمر كَذَا، إِذا أَمرته بالنهوض. والحصون جمع: حصن، بِكَسْر الْحَاء، وَقد فسر الْجَوْهَرِي: القلعة بالحصن، حَيْثُ قَالَ: القلعة الْحصن على الْجَبَل، وَالظَّاهِر أَن بَينهمَا فرق بِاعْتِبَار الْعرف، فَإِن القلعة تكون أكبر من الْحصن، وَتَكون على الْجَبَل والسهل، والحصن غَالِبا يكون على الْجَبَل وألطف من القلعة. وأصل معنى الْحصن: الْمَنْع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يمْنَع من فِيهِ مِمَّن يَقْصِدهُ. قَوْله: (ولقاء الْعَدو) أَي: وَالصَّلَاة عِنْد لِقَاء الْعَدو، واللقاء: الملاقاة، وَهَذَا الْعَطف من عطف الْعَام على الْخَاص.
وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ إنْ كانَ تَهَيَّأ الفَتْحَ ولَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صلَّوْا إيمَاءً كْلُّ امْرِىءٍ لِنَفْسِهِ فإنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإيمَاءِ أخَّرَ الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ أوْ يأمَنُوا فَيُصَلُّوًّ رَكْعَتَيْنِ فإنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلُّوْا رَكْعَةً وسَجْدَتَيْنِ فَإنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَلاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ ويُؤَخِّرُوها حَتَّى يَأْمَنُوا
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَذْهَب عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ أَنه إِن كَانَ تهَيَّأ الْفَتْح، أَي: تمكن فتح الْحصن. وَالْحَال أَنهم لم يقدروا على الصَّلَاة، أَي: على إِتْمَامهَا أفعالاً وأركانا. وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: إِن كَانَ بهَا الْفَتْح، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وهاء الضَّمِير، قيل: إِنَّه تَصْحِيف. قَوْله: (صلوا إِيمَاء) أَي: صلوا مومئين إِيمَاء. قَوْله: (كل امرىء لنَفسِهِ) أَي: كل شخص يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ مُنْفَردا بِدُونِ الْجَمَاعَة. قَوْله: (لنَفسِهِ) أَي: لأجل نَفسه دون غَيره بِأَن لَا يكون أماما لغيره. قَوْله: (فَإِن لم يقدروا على الْإِيمَاء) أَي: بِسَبَب اشْتِغَال الْقلب والجوارح، لِأَن الْحَرْب إِذا اشْتَدَّ غَايَة الاشتداد لَا يبْقى قلب الْمقَاتل وجوارحه إلاّ عِنْد الْقِتَال، ويتعذر عَلَيْهِ الْإِيمَاء. وَقيل: يحْتَمل أَن الْأَوْزَاعِيّ كَانَ يرى اسْتِقْبَال الْقبْلَة شرطا فِي الْإِيمَاء، فيعجز عَن الْإِيمَاء إِلَى جِهَة الْقبْلَة. فَإِن قلت: كَيفَ يتَعَذَّر الْإِيمَاء مَعَ حُصُول الْعقل؟ قلت: عِنْد وُقُوع الدهشة يُغلب الْعقل فَلَا يعْمل عمله. قَوْله: (أَو يأمنوا) اسْتشْكل فِيهِ ابْن رشيد بِأَنَّهُ جعل الْأَمْن قسيم الانكشاف، وَبِه يحصل الْأَمْن فَكيف يكون قسيمه؟ وَأجَاب الْكرْمَانِي عَن هَذَا فَقَالَ: قد ينْكَشف وَلَا يحصل الْأَمْن لخوف المعاودة، وَقد يَأْمَن لزِيَادَة الْقُوَّة وإيصال المدد مثلا، وَلم يكن منكشفا بعد. قَوْله: (فَإِن لم يقدروا) يَعْنِي: على صَلَاة رَكْعَتَيْنِ صلوا رَكْعَة وسجدتين، فَإِن لم يقدروا على صَلَاة رَكْعَة وسجدتين يؤخرون الصَّلَاة، فَلَا يجزيهم التَّكْبِير. وَقَالَ الثَّوْريّ: يجزيهم التَّكْبِير، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي البخْترِي فِي آخَرين، قَالُوا: إِذا التقى الزحفان وَحَضَرت الصَّلَاة فَقَالُوا: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إلاّ الله وَالله أكبر، فَتلك صلَاتهم بِلَا إِعَادَة. وَعَن مُجَاهِد وَالْحكم: إِذا كَانَ عِنْد الطراد والمسايفة يجزىء أَن تكون صَلَاة الرجل تَكْبِيرا، فَإِن لم يُمكن إلاّ تَكْبِيرَة أَجْزَأته ايْنَ كَانَ وَجهه. وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: تجزىء عِنْد المسايفة رَكْعَة وَاحِدَة يومىء بهَا إِيمَاء فَإِن لم يقدر فسجدة، فَإِن لم يقدر فتكبيرة. قَوْله: (حَتَّى يأمنوا) أَي: حَتَّى يحصل لَهُم الْأَمْن التَّام، وَحجَّة الْأَوْزَاعِيّ فِيمَا قَالَه حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى(6/260)
عَنهُ: إِن لم يقدر على الْإِيمَاء أخر الصَّلَاة حَتَّى يُصليهَا كَامِلَة، وَلَا يجزىء عَنْهَا تَسْبِيح وَلَا تهليل، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَخّرهَا يَوْم الخَنْدَق. وَهَذَا اسْتِدْلَال ضَعِيف، لِأَن آيَة صَلَاة الْخَوْف لم تكن نزلت قبل ذَلِك.
وبِهِ قالَ مَكْحُولٌ
أَي: بقول الْأَوْزَاعِيّ قَالَ مَكْحُول أَبُو عبد الله الدِّمَشْقِي فَقِيه أهل الشَّام التَّابِعِيّ، ولد مَكْحُول بكابل لِأَنَّهُ من سبيه، فَرفع إِلَى سعيد بن الْعَاصِ فوهب لأِمرأة من هُذَيْل فأعتقته، وَقيل غير ذَلِك. وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة. قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة، وروى لَهُ البُخَارِيّ فِي (كتاب الْأَدَب) و (الْقِرَاءَة خلف الإِمَام) وروى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: وَبِه قَالَ مَكْحُول، يحْتَمل أَن يكون من تَتِمَّة كَلَام الْأَوْزَاعِيّ، وَأَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه تَعْلِيق وَصله عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَنهُ من غير طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ بِلَفْظ: إِذا لم يقدر الْقَوْم على أَن يصلوا على الأَرْض صلوا على ظهر الدَّوَابّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فَإِن لم يقدروا أخروا الصَّلَاة حَتَّى يأمنوا فيصلوا بِالْأَرْضِ.
وَقَالَ أنَسٌ حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إضَاءَةِ الفَجْرِ واشْتَدَّ اشْتِعَالُ القِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ نُصَلِّ إلاّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاها مَعَ أبِي مُوسى فَفُتِحَ لَنَا. وقالَ أنَسٌ وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق قَتَادَة عَنهُ، وَقَالَ خَليفَة بن خياط فِي (تَارِيخه) : حَدثنَا ابْن زُرَيْع عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ: لم نصل يَوْمئِذٍ الْغَدَاة حَتَّى انتصف النَّهَار. قَالَ خَليفَة: وَذَلِكَ فِي سنة عشْرين. قَوْله: (تستر) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الثَّانِيَة وَفِي آخِره رَاء: وَهِي مَدِينَة مَشْهُورَة من كور الأهوار بخورستان، وَهِي بِلِسَان الْعَامَّة: ششتر، بشينين أولاهما مَضْمُومَة وَالثَّانيَِة سَاكِنة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. إعلم أَن تستر فتحت مرَّتَيْنِ الأولى: صلحا، وَالثَّانيَِة عنْوَة. قَالَ ابْن جرير: كَانَ ذَلِك فِي سنة سبع عشرَة فِي قَول سيف، وَقَالَ غَيره: سنة سِتّ عشرَة، وَقيل: فِي سنة تسع عشرَة. قَالَ الْوَاقِدِيّ: لما فرغ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من فتح السوس صَار إِلَى تستر فَنزل عَلَيْهَا وَبهَا يَوْمئِذٍ الهرمزان، وَفتحت على يَدَيْهِ، ومسك الهرمزان وَأرْسل بِهِ إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَلم يقدروا على الصَّلَاة) إِمَّا للعجز عَن النُّزُول أَو عَن الإيما، وَجزم الْأصيلِيّ بِأَن سَببه أَنهم لم يَجدوا إِلَى الْوضُوء سَبِيلا من شدَّة الْقِتَال. قَوْله: (إِلَّا بعد ارْتِفَاع النَّهَار) وَفِي رِوَايَة عمر بن أبي شيبَة: (حَتَّى انتصف النَّهَار) . قَوْله: (مَا يسرني بِتِلْكَ الصَّلَاة) الْبَاء فِيهَا للمقابلة والبدلية، أَي: بدل تِلْكَ الصَّلَاة ومقابلتها. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: من تِلْكَ الصَّلَاة. قَوْله: (الدُّنْيَا) فَاعل: (مَا يسرني) ، وَقيل: مَعْنَاهُ لَو كَانَت فِي وَقتهَا كَانَت أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي رِوَايَة خَليفَة: (الدُّنْيَا كلهَا) بدل: (الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) .
945 - حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا وَكِيعٌ عنْ عَلِيِّ بنِ المُبَارَكِ عنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ جاءَ عُمَرُ يَوْمَ الخَنْدَقِ فجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ويَقُولُ يَا رسُولَ الله مَا صَلَّيْتُ العَصْرَ حَتَّى كادَت الشَّمْسُ أنْ تَغِيبَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا وَالله مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قالَ فنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتوَضَّأَ وصَلَّى العَصْرَ بَعْدما غَابَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى المغْرِبَ بَعْدَهَا. .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة. وَهُوَ قَوْله: (ولقاء الْعَدو) ، وَكَانَ الحكم فِيهِ من جملَة الْأَحْكَام الَّتِي ذَكرنَاهَا تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى وَقت الْأَمْن. وَفِي هَذَا الحَدِيث أَيْضا: أخرت الصَّلَاة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن عمر وَغَيرهمَا: حَتَّى نزلُوا إِلَى بطحان، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: وادٍ بِالْمَدِينَةِ، فصلواها فِيهِ. وَصرح هَهُنَا بِأَن الْفَائِتَة هِيَ صَلَاة الْعَصْر، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : الظّهْر وَالْعصر. وَفِي النَّسَائِيّ: الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء. وَفِي التِّرْمِذِيّ: أَربع صلوَات. وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث(6/261)
من سَائِر الْوُجُوه فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ جمَاعَة بعد ذهَاب الْوَقْت، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، وَهَهُنَا أخرجه: عَن يحيى بن جَعْفَر، والنسخ مُخْتَلفَة فِيهِ فَفِي أَكثر الرِّوَايَات: حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَكِيع، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: يحيى بن مُوسَى، وَوَقع فِي نُسْخَة صَحِيحَة بعلامة الْمُسْتَمْلِي: يحيى بن جَعْفَر، وَوَقع فِي بعض النّسخ: يحيى ابْن مُوسَى بن جَعْفَر، وَهُوَ غلط. وَالنُّسْخَة الْمُعْتَمد عَلَيْهَا: يحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ يحيى البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأما يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم فَهُوَ الملقب: بخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ أَيْضا من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَالْحج ومواضع، وَقَالَ: مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي سَبَب تَأْخِير الصَّلَاة يَوْم الخَنْدَق، فَقَالَ بَعضهم: اخْتلفُوا هَل كَانَ نِسْيَانا أَو عمدا، وعَلى الثَّانِي: هَل كَانَ للشغل بِالْقِتَالِ أَو لتعذر الطَّهَارَة؟ أَو قبل نزُول آيَة الْخَوْف؟ انْتهى. قلت: الْأَحْسَن فِي ذَلِك مَعَ مُرَاعَاة الْأَدَب هُوَ الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ: وَقد يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل يَوْمئِذٍ يَعْنِي: يَوْم الخَنْدَق لِأَنَّهُ كَانَ يُقَاتل، فالقتال عمل وَالصَّلَاة لَا يكون فِيهَا عمل، وَقد يجوز أَن يكون: لم يصل يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر حِينَئِذٍ أَن يُصَلِّي رَاكِبًا. وَأما الْقِتَال فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ يبطل الصَّلَاة عندنَا، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يبطل، وَالله تَعَالَى أعلم.
5 - (بابُ صَلاَةِ الطَّالِبِ والمَطْلُوبِ رَاكبا وَإيمَاءً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الطَّالِب وَصَلَاة الْمَطْلُوب. قَوْله: (رَاكِبًا) حَال. قَوْله: (وَقَائِمًا) عطف عَلَيْهِ، وَفِي بعض النّسخ: أَو قَائِما، من الْقيام بِالْقَافِ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (رَاكِبًا وإيماء) أَي: حَال كَونه موميا.
وقالَ الوَلِيدُ ذَكَرْتُ لِلأوزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بنِ السِّمْطِ وأصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ كذالِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إذَا تُخُوِّفَ الفَوْتَ واحْتَجَّ الوَلِيدُ بِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلاّ فِي بَنِي قرَيْظَةَ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن شُرَحْبِيل وَمن مَعَه كَانُوا ركبانا، وَالْإِجْمَاع على أَن الْمَطْلُوب لَا يُصَلِّي إلاّ رَاكِبًا، فَكَانُوا مطلوبين راكبين، وَلَو كَانُوا طَالِبين أَيْضا فالمطابقة حَاصِلَة، والوليد، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ ابْن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي الدِّمَشْقِي يكنى أَبَا الْعَبَّاس،، وَقَالَ كَاتب الْوَاقِدِيّ: حج سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. ثمَّ انْصَرف فَمَاتَ فِي الطَّرِيق قبل أَن يصل إِلَى دمشق، وَالْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وشرحبيل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن السمط، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْمِيم، على وزن: الْكَتف، قَالَه الغساني. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْمِيم: ابْن الْأسود بن جبلة بن عدي بن ربيعَة بن مُعَاوِيَة الأكرمين بن الْحَارِث بن مُعَاوِيَة بن ثَوْر بن مرتع بن كِنْدَة الْكِنْدِيّ أَبُو يزِيد، وَيُقَال: أَبُو السمط الشَّامي، مُخْتَلف فِي صحبته، ذكره فِي (الْكَمَال) من التَّابِعين. وَقَالَ: وَيُقَال: لَهُ صُحْبَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيُقَال: لَا صُحْبَة لَهُ، وَذكره مُحَمَّد بن سعد فِي الطَّبَقَة الرَّابِعَة: وَقَالَ: جاهلي إسلامي، وَفد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأسلم، وَقد شهد الْقَادِسِيَّة وَولي حمص، وَهُوَ الَّذِي افتتحها وَقسمهَا منَازِل، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَغْدَادِيّ صَاحب (تَارِيخ الحمصيين) : توفّي بسلمية سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَيُقَال: سنة أَرْبَعِينَ، وَيُقَال: مَاتَ بصفين، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ فِي غير هَذَا الْموضع، وَهُوَ تَعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَابْن عبد الْبر من وَجه آخر: (عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: قَالَ شُرَحْبِيل بن السمط لأَصْحَابه: لَا تصلوا الصُّبْح إلاّ على ظهر، فَنزل الأشتر يَعْنِي: النَّخعِيّ فصلى على الأَرْض، فَقَالَ شُرَحْبِيل: مُخَالف خَالف الله بِهِ) . وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا ابْن عون (عَن رَجَاء بن حَيْوَة الْكِنْدِيّ، قَالَ: كَانَ ثَابت بن السمط أَو السمط بن ثَابت فِي مسير فِي خوف، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلوا ركبانا، فَنزل الأشتر، فَقَالَ مَاله؟ فَقَالُوا: نزل يُصَلِّي. قَالَ: مَاله خَالف؟ خُولِفَ بِهِ) انْتهى. وَذكر ابْن حبَان أَن ثَابت بن السمط أَخُو شُرَحْبِيل بن السمط، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيُشبه أَن يَكُونَا كَانَا فِي ذَلِك الْجَيْش فنسب إِلَى كل مِنْهُمَا، وَقد ذكر شُرَحْبِيل جمَاعَة فِي الصَّحَابَة، وثابتا فِي التَّابِعين، وَقَالَ ابْن بطال: طلبت قصَّة شُرَحْبِيل بن السمط بِتَمَامِهَا(6/262)
لأتبيّن هَل كَانُوا طَالِبين أم لَا؟ فَذكر الْفَزارِيّ فِي (السّنَن) عَن ابْن عون: (عَن رَجَاء عَن ثَابت بن السمط أَو السمط بن ثَابت قَالَ: كَانُوا فِي السّفر فِي خوف فصلوا ركبانا، فَالْتَفت فَرَأى الأشتر قد نزل للصَّلَاة، فَقَالَ: خَالف خُولِفَ بِهِ، فجرح الأشتر فِي الْفِتْنَة) . قَالَ: فَبَان بِهَذَا الْخَبَر أَنهم كَانُوا حِين صلوا ركبانا لِأَن الْإِجْمَاع حَاصِل على أَن الْمَطْلُوب لَا يُصَلِّي إلاّ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الطَّالِب فَقَالَ ابْن التِّين: صَلَاة ابْن السمط ظَاهرهَا إِنَّهَا كَانَت فِي الْوَقْت، وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى: {رجَالًا أَو ركبانا} (الْبَقَرَة: 239) [/ ح.
قَوْله: (كَذَلِك الْأَمر) أَي: أَدَاء الصَّلَاة على ظهر الدَّابَّة بِالْإِيمَاءِ، وَهُوَ الشان وَالْحكم عِنْد خوف فَوَات الْوَقْت أَو فَوَات الْعَدو أَو فَوَات النَّفس. قَوْله: (وَاحْتج الْوَلِيد) أَي: الْوَلِيد الْمَذْكُور، وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَن الْوَلِيد قوى مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ فِي مَسْأَلَة الطَّالِب بِهَذِهِ الْقِصَّة. قلت: لَا يفهم من احتجاج الْوَلِيد بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَة مَا ذهب إِلَيْهِ الْأَوْزَاعِيّ صَرِيحًا وَإِنَّمَا وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ بطرِيق الْأَوْلَوِيَّة، لِأَن الَّذين أخروا الصَّلَاة حَتَّى وصلوا إِلَى بني قُرَيْظَة لم يعنفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَونهم فوتوا الْوَقْت، فَصَلَاة من لَا يفوت الْوَقْت بِالْإِيمَاءِ أَو كَيفَ مَا تمكن، أولى من تَأْخِير الصَّلَاة حَتَّى يخرج وَقتهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: احتجاج الْوَلِيد بِحَدِيث بني قُرَيْظَة لَيْسَ فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف قَالَ: وَقيل: إِنَّمَا صلى شُرَحْبِيل على ظهر الدَّابَّة لِأَنَّهُ طمع فِي فتح الْحصن، فصلى إِيمَاء ثمَّ فَتحه. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما اسْتِدْلَال الْوَلِيد بِقصَّة بني قُرَيْظَة على صَلَاة الطَّالِب رَاكِبًا، فَلَو وجد فِي بعض طرق الحَدِيث أَن الَّذين صلوا فِي الطَّرِيق صلوا ركبانا لَكَانَ بَينا، وَلما لم يُوجد ذَلِك احْتمل أَن يُقَال: إِنَّه يسْتَدلّ بِأَنَّهُ كَمَا سَاغَ للَّذين صلوا فِي بني قُرَيْظَة مَعَ ترك الْوَقْت، وَهُوَ فرض، كَذَلِك سَاغَ للطَّالِب أَن يُصَلِّي فِي الْوَقْت رَاكِبًا بِالْإِيمَاءِ، وَيكون تَركه للرُّكُوع وَالسُّجُود كَتَرْكِ الْوَقْت وَيُقَال: لَا حجَّة فِي حَدِيث بني قُرَيْظَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَرَادَ سرعَة سيرهم، وَلم يَجْعَل لَهُم بني قُرَيْظَة موضعا للصَّلَاة، ومذاهب الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْبَاب، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: إِذا كَانَ الرجل مَطْلُوبا فَلَا بَأْس بِصَلَاتِهِ سائرا، وَإِن كَانَ طَالبا فَلَا. وَقَالَ مَالك وَجَمَاعَة من أَصْحَابه: هما سَوَاء، كل وَاحِد مِنْهُمَا يُصَلِّي على دَابَّته. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين كَقَوْل أبي حنيفَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن وَالثَّوْري وَأحمد وَأبي ثَوْر وَعَن الشَّافِعِي: إِن خَافَ الطَّالِب فَوت الْمَطْلُوب أَوْمَأ وإلاّ فَلَا.
69 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء قَالَ حَدثنَا جوَيْرِية عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لنا لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة فَأدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق فَقَالَ بَعضهم لَا نصلي حَتَّى نأتيها. وَقَالَ بَعضهم بل نصلي لم يرد منا ذَلِك فَذكر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يدل على أَن الْمَطْلُوب إِذا صلى فِي الْوَقْت بِالْإِيمَاءِ جَازَ كَمَا أَن الَّذين صلوا فِي بني قُرَيْظَة مَعَ ترك الْوَقْت جَازَ لَهُم ذَلِك وَلِهَذَا لم يعنفهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلى هَذَا فالجواز فِي الْمَطْلُوب أقوى (فَإِن قلت) فِيهِ ترك الرُّكُوع وَالسُّجُود وهما فرضان (قلت) كَذَلِك فِي صلَاتهم فِي بني قُرَيْظَة ترك الْوَقْت وَالْوَقْت فرض وَلما ذكر البُخَارِيّ احتجاج الْوَلِيد بِحَدِيث قصَّة بني قُرَيْظَة ذكره مُسْندًا عَقِيبه ليعلم صِحَة الحَدِيث عِنْده وَصِحَّة الِاسْتِدْلَال بِهِ فَافْهَم. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد بن مُخَارق الضبعِي الْبَصْرِيّ ابْن أخي جوَيْرِية الْمَذْكُور وَهُوَ مصغر جَارِيَة بِالْجِيم ابْن أَسمَاء روى عَنهُ مُسلم أَيْضا مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي جوَيْرِية بن أَسمَاء يكنى أَبَا مِخْرَاق الْبَصْرِيّ. الثَّالِث نَافِع مولى ابْن عمر. الرَّابِع عبد الله بن عمر. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن النّصْف الأول من الروَاة بصريان وَالنّصف الثَّانِي مدنيان وَفِيه رِوَايَة الرجل عَن عَمه وَفِيه اسْم أحد الروَاة بِالتَّصْغِيرِ وَالْحَال أَن أصل وَضعه للْأُنْثَى. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن شيخ البُخَارِيّ عَن جوَيْرِية بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من الْأَحْزَاب " هِيَ غَزْوَة الخَنْدَق وَقد أنزل الله فِيهَا سُورَة الْأَحْزَاب وَكَانَت فِي شَوَّال(6/263)
سنة خمس من الْهِجْرَة نَص على ذَلِك ابْن إِسْحَاق وَعُرْوَة بن الزبير وَقَتَادَة وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ ثمَّ كَانَت الْأَحْزَاب فِي شَوَّال سنة أَربع وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك بن أنس فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد عَن مُوسَى بن دَاوُد عَنهُ وَالْجُمْهُور على قَول ابْن إِسْحَق وَسميت بالأحزاب لِأَن الْكفَّار تألفوا من قبائل الْعَرَب وهم عشرَة آلَاف نفس وَكَانُوا ثَلَاثَة عَسَاكِر وَجَنَاح الْأَمر إِلَى أبي سُفْيَان وَسميت أَيْضا بغزوة الخَنْدَق لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سمع بهم وَمَا جمعُوا لَهُ من الْأَمر ضرب الخَنْدَق على الْمَدِينَة قَالَ ابْن هِشَام يُقَال أَن الَّذِي أَشَارَ بِهِ سلمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ الطَّبَرِيّ والسهيلي أول من حفر الْخَنَادِق منوجهر بن أيرج وَكَانَ فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَذكر ابْن إِسْحَق لما انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الخَنْدَق رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة والمسلمون قد وضعُوا السِّلَاح فَلَمَّا كَانَ الظّهْر أَتَى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لَهُ مَا وضعت الْمَلَائِكَة السِّلَاح بعد وَإِن الله يَأْمُرك أَن تسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَائِد إِلَيْهِم فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا فَأذن فِي النَّاس من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يصلين الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة قَالَ ابْن سعد ثمَّ سَار إِلَيْهِم وهم ثَلَاثَة آلَاف وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء لتسْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة عقيب الخَنْدَق قَوْله " لَا يصلين " بالنُّون الثَّقِيلَة الْمُؤَكّدَة قَوْله " فِي بني قُرَيْظَة " بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره هَاء وهم فرقة من الْيَهُود وَقُرَيْظَة وَالنضير والنحام وَعَمْرو وَهُوَ هدل بَين الْخَزْرَج بن الصَّرِيح بن نومان بن السمط يَنْتَهِي إِلَى إِسْرَائِيل بن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ ابْن دُرَيْد الْقرظ ضرب من الشّجر يدبغ بِهِ يُقَال أَدِيم مقروظ وتصغيره قُرَيْظَة وَبِه سمي الْبَطن من الْيَهُود وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ التَّنْصِيص على الْعَصْر وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ الْعَصْر وَفِي صَحِيح مُسلم التَّنْصِيص على الظّهْر وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن حبَان ومستخرج أبي نعيم قبل التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ إِن هَذَا الْأَمر كَانَ بعد دُخُول وَقت الظّهْر وَقد صلى الظّهْر بَعضهم دون بعض فَقيل للَّذين لم يصلوا الظّهْر لَا تصلوا الظّهْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وللذين صلوها بِالْمَدِينَةِ لَا تصلوا الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وَقيل يحْتَمل أَنه قَالَ للْجَمِيع لَا تصلوا الْعَصْر وَلَا الظّهْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وَقيل يحْتَمل أَنه قيل للَّذين ذَهَبُوا أَولا لَا تصلوا الظّهْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة وللذين ذَهَبُوا بعدهمْ لَا تصلوا الْعَصْر إِلَّا بهَا قَوْله " فَأدْرك بَعضهم " الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى لفظ أحد وَفِي بَعضهم الثَّانِي وَالثَّالِث إِلَى الْبَعْض قَوْله " لم يرد منا " على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع أَي المُرَاد من قَوْله " لَا يصلين أحد " لَازمه وَهُوَ الاستعجال فِي الذّهاب إِلَى بني قُرَيْظَة لَا حَقِيقَة ترك الصَّلَاة أصلا وَلم يُعِنْهُمْ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مُخَالفَة النَّهْي لأَنهم فَهموا مِنْهُ الْكِنَايَة عَن العجلة وَلَا التاركين للصَّلَاة المؤخرين عَن أول وَقتهَا لحملهم النَّهْي على ظَاهره (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) من ذَلِك مَا استنبط مِنْهُ ابْن حبَان معنى حسنا حَيْثُ قَالَ لَو كَانَ تَأْخِير الْمَرْء للصَّلَاة عَن وَقتهَا إِلَى أَن يدْخل وَقت الصَّلَاة الْأُخْرَى يلْزمه بذلك اسْم الْكفْر لما أَمر الْمُصْطَفى بذلك. وَمِنْه مَا قَالَه السُّهيْلي فِيهِ دَلِيل على أَن كل مُخْتَلفين فِي الْفُرُوع من الْمُجْتَهدين مُصِيب إِذْ لَا يَسْتَحِيل أَن يكون الشَّيْء صَوَابا فِي حق إِنْسَان خطأ فِي حق غَيره فَيكون من اجْتهد فِي مَسْأَلَة فأداه اجْتِهَاده إِلَى الْحل مصيبا فِي حلهَا وَكَذَا الْحُرْمَة وَإِنَّمَا الْمحَال أَن يحكم فِي النَّازِلَة بحكمين متضادين فِي حق شخص وَاحِد وَإِنَّمَا عسر فهم هَذَا الأَصْل على طائفتين الظَّاهِرِيَّة والمعتزلة أما الظَّاهِرِيَّة فَإِنَّهُم عَلقُوا الْأَحْكَام بالنصوص فاستحال عِنْدهم أَن يكون النَّص يَأْتِي بحظر وَإِبَاحَة مَعًا إِلَّا على وَجه النّسخ وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم عَلقُوا الْأَحْكَام بتقبيح الْعقل وتحسينه فَصَارَ حسن الْفِعْل عِنْدهم أَو قبحه صفة عين فاستحال عِنْدهم أَن يَتَّصِف فعل بالْحسنِ فِي حق زيد والقبح فِي حق عَمْرو كَمَا يَسْتَحِيل ذَلِك فِي الألوان وَغَيرهَا من الصِّفَات الْقَائِمَة بالذوات وَأما مَا عدا هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ فَلَيْسَ الْحَظْر عِنْدهم وَالْإِبَاحَة بِصِفَات أَعْيَان وَإِنَّمَا هِيَ صِفَات أَحْكَام وَزعم الْخطابِيّ أَن قَول الْقَائِل فِي هَذَا كل مُجْتَهد مُصِيب لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ ظَاهر خطاب خص بِنَوْع من الدَّلِيل أَلا ترَاهُ قَالَ بل نصلي لم يرد منا ذَلِك يُرِيد أَن طَاعَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا أمره بِهِ من إِقَامَة الصَّلَاة فِي بني قُرَيْظَة لَا يُوجب تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا على عُمُوم الْأَحْوَال وَإِنَّمَا هُوَ كَأَنَّهُ قَالَ صلوا فِي بني قُرَيْظَة إِلَّا أَن يدرككم وَقتهَا قبل أَن تصلوا إِلَيْهَا وَكَذَا الطَّائِفَة الْأُخْرَى فِي تأخيرهم الصَّلَاة كَأَنَّهُ قيل لَهُم صلوا الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا إِلَّا أَن يكون لكم عذر فأخروها إِلَى آخر وَقتهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى لَا احتجاج فِيهِ(6/264)
على إِصَابَة كل مُجْتَهد لِأَنَّهُ لم يُصَرح بِإِصَابَة الطَّائِفَتَيْنِ بل بِإِصَابَة ترك تعنيفهما وَلَا خلاف فِي ترك تعنيف الْمُجْتَهد وَإِن أَخطَأ إِذا بذل وَسعه وَأما اخْتلَافهمْ فسببه أَن الْأَدِلَّة تَعَارَضَت فَإِن الصَّلَاة مَأْمُور بهَا فِي الْوَقْت وَالْمَفْهُوم من " لَا يصلين " الْمُبَادرَة بالذهاب إِلَيْهِم فَأخذ بَعضهم بذلك فصلوا حِين خَافُوا فَوت الْوَقْت وَالْآخرُونَ بِالْآخرِ فأخروها وَيُقَال اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْمُبَادرَة بِالصَّلَاةِ عِنْد ضيق وَقتهَا وتأخيرها سَببه أَن أَدِلَّة الشَّرْع تَعَارَضَت عِنْدهم فَإِن الصَّلَاة مَأْمُور بهَا فِي الْوَقْت مَعَ أَن الْمَفْهُوم من قَوْله " لَا يصلين أحد إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " الْمُبَادرَة بالذهاب إِلَيْهِ وَأَن لَا يشْتَغل عَنهُ بِشَيْء لَا أَن تَأْخِير الصَّلَاة مَقْصُود فِي نَفسه من حَيْثُ أَنه تَأْخِير فَأخذ بعض الصَّحَابَة بِهَذَا الْمَفْهُوم نظرا إِلَى الْمَعْنى لَا إِلَى اللَّفْظ فصلوا حِين خَافُوا فَوَات الْوَقْت وَأخذ آخَرُونَ بِظَاهِر اللَّفْظ وَحَقِيقَته وَلم يعنف الشَّارِع وَاحِدًا مِنْهُمَا لأَنهم مجتهدون فَفِيهِ دَلِيل لمن يَقُول بِالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاس ومراعاة الْمَعْنى وَلمن يَقُول بِالظَّاهِرِ أَيْضا (قلت) هَذَا القَوْل مثل مَا قَالَ النَّوَوِيّ مَعَ بعض زِيَادَة فِيهِ وَقَالَ الدَّاودِيّ فِيهِ أَن المتؤول إِذا لم يبعد فِي التَّأْوِيل لَيْسَ بمخطىء وَأَن السُّكُوت على فعل أَمر كالقول بإجازته -
6 - (بابُ التَّكْبِيرِ والغَلَسِ بِالصُّبْحِ والصَّلاَةِ عِنْدَ الإغَارَةِ والحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّكْبِير من كبر يكبر تَكْبِيرا، وَهُوَ قَول: الله أكبر، هَكَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: التبكير، بِتَقْدِيم الْبَاء الْمُوَحدَة من: بكر يبكر تبكيرا إِذا أسْرع وبادر، و: الْغَلَس، بِفتْحَتَيْنِ: الظلمَة آخر اللَّيْل، وَالْمرَاد مِنْهُ التغليس بِصَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (عِنْد الإغارة) يتَعَلَّق بِالتَّكْبِيرِ، وَمَا عطف عَلَيْهِ، والإغارة، بِكَسْر الْهمزَة فِي الأَصْل: الْإِسْرَاع فِي الْعَدو، وَيُقَال: أغار يُغير إغارة، وَكَذَلِكَ الْغَارة، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: الهجوم على الْعَدو على وَجه الْغَفْلَة، فَهُوَ من الأجوف الواوي. فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة ذكر هَذَا الْبَاب فِي كتاب صَلَاة الْخَوْف؟ قلت: قيل: أَشَارَ بذلك إِلَى أَن صَلَاة الْخَوْف لَا يشْتَرط فِيهَا التَّأْخِير إِلَى آخر الْوَقْت، كَمَا شَرطه من شَرطه فِي صَلَاة شدَّة الْخَوْف عِنْد التحام الْقِتَال، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون للْإِشَارَة إِلَى تعْيين الْمُبَادرَة إِلَى الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا. قلت: هَذَا وَجه بعيد لَا يخفى ذَلِك، لِأَن مَحل ذَلِك فِي كتاب الصَّلَاة.
947 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ البُنَانِيِّ عَن أنَسِ بنِ مالَكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ الله أكْبَرُ خَرِبتْ خَيْبَرُ إنَّا إِذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فسَاءَ صَبَاحُ المُنْذِرِينَ فَخَرَجُوا يسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ ويقُولُونَ مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ قَالَ والخمِيسُ الجَيْشُ فظَهَرَ علَيْهِمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَتَلَ المُقَاتِلَةَ وسَبَى الذرَارِيَّ فصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ وصارَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا فقالَ عَبْدُ العَزِيزِ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أأنْتَ سَأَلْتَ أنَسا مَا أمْهَرَهَا قَالَ أمْهَرَهَا نَفْسَهَا فتَبَسَّمَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صلى الصُّبْح بِغَلَس ثمَّ ركب فَقَالَ الله أكبر) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ، بأطول مِنْهُ، وَأتم عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وتكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.
قَوْله: (بِغَلَس) أَي: فِي أول الْوَقْت. وَقيل: التغليس بالصبح سنة سفرا أَو حضرا، وَكَانَ من عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك. قلت: إِنَّمَا غلس هُنَا لأجل مبادرته إِلَى الرّكُوب، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة بِالْأَمر بالإسفار. قَوْله: (فَقَالَ: الله أكبر) فِيهِ: أَن التَّكْبِير عِنْد الإشراف على المدن والقرى سنة، وَكَذَا عِنْد مَا يسر بِهِ من ذَلِك عِنْد رُؤْيَة الْهلَال، وَكَذَا رفع الصَّوْت بِهِ إِظْهَارًا لعلو دين الله تَعَالَى، وَظُهُور أمره. قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) ، يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وَفِيه التفاؤل، وبخرابه سَعَادَة الْمُسلمين فَهُوَ من الفأل الْحسن لَا من الطَّيرَة. قَوْله: (بِسَاحَة قوم) قَالَ ابْن التِّين: الساحة الْموضع، وَقيل: ساحة الدَّار. قَوْله: (فسَاء صباح الْمُنْذرين) أَي: أَصَابَهُم السوء من الْقَتْل على الْكفْر(6/265)
والاسترقاق. قَوْله: (يسعون) جملَة حَالية. قَوْله: (فِي السكَك) ، بِكَسْر السِّين: جمع سكَّة. وَهِي الزقاق. قَوْله: (وَالْخَمِيس) سمي الْجَيْش خميسا لانقسامه إِلَى خَمْسَة أَقسَام: الميمنة والميسرة وَالْقلب والمقدمة والساقة. قَوْله: (الْمُقَاتلَة) أَي: النُّفُوس الْمُقَاتلَة، وهم الرِّجَال. والذراري: جمع الذُّرِّيَّة وَهِي الْوَلَد، وَيجوز فِيهَا تَخْفيف الْيَاء وتشديدها، كَمَا فِي العواري وكل جمع مثله. قَوْله: (فَصَارَت صَفِيَّة لدحية الْكَلْبِيّ، وَصَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ظَاهره أَنَّهَا صَارَت لَهما جَمِيعًا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل صَارَت أَولا لدحية ثمَّ صَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعلى هَذَا: الْوَاو، فِي: وَصَارَت، بِمَعْنى: ثمَّ، أَي: ثمَّ صَارَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تكون بِمَعْنى: الْفَاء، والحروف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَيجوز أَن يكون هُنَا مُقَدّر للقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ، تَقْدِيره: فَصَارَت صَفِيَّة أَولا لدحية وَبعده صَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيْفِيَّة الصيرورتين قد مَضَت فِي ذَلِك الْبَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: النِّسَاء لَيست داخلات تَحت لفظ الذَّرَارِي، فَكيف قَالَ: فَصَارَت صَفِيَّة لدحية؟ ثمَّ أجَاب: بِأَن المُرَاد بِالذَّرَارِيِّ غير الْمُقَاتلَة بِدَلِيل أَنه قسيمه. قَوْله: (وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا) لِأَنَّهَا كَانَت بنت ملك، وَلم يكن مهرهَا إلاّ كثيرا، وَلم يكن بِيَدِهِ مَا يرضيها فَجعل صَدَاقهَا عتقهَا، لِأَن عتقهَا عِنْدهَا كَانَ أعز من الْأَمْوَال الْكَثِيرَة. قَوْله: (فَقَالَ عبد الْعَزِيز) ، هُوَ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْمَذْكُور. قَوْله: (لِثَابِت) هُوَ الْبنانِيّ. قَوْله: (أَأَنْت؟) بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وَفَائِدَة هَذَا السُّؤَال مَعَ علمه ذَلِك بقوله: (وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا) للتَّأْكِيد، أَو كَانَ استفسره بعد الرِّوَايَة ليصدق رِوَايَته. قَوْله: (مَا أمهرها) قَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: مهرت الْمَرْأَة وأمهرتها إِذا جعلت لَهَا مهْرا، وَإِذا سقت إِلَيْهَا مهْرا، وَهُوَ: الصَدَاق: وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) : صَوَابه مهرهَا يَعْنِي بِحَذْف الْألف، وبخط الْحَافِظ الدمياطي، مثل مَا قَالَه ابْن الْأَثِير، وَأنكر أَبُو حَاتِم: أمهرت، إِلَّا فِي لُغَة ضَعِيفَة، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَصَححهُ أَبُو زيد، وَقيل: مهرت، ثلاثي أفْصح وأعرب.
13 - (كِتَابُ العِيدَيْنِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أُمُور الْعِيدَيْنِ: عيد الْفطر وَعِيد الْأَضْحَى وأصل الْعِيد: عود لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من: عَاد يعود عودا. وَهُوَ الرُّجُوع، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، كالميزان والميقات من الْوَزْن وَالْوَقْت، وَيجمع على: أعياد، وَكَانَ من حَقه أَن يجمع على أَعْوَاد، لِأَنَّهُ من الْعود كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن جمع بِالْيَاءِ للزومها فِي الْوَاحِد، أَو للْفرق بَينه وَبَين أَعْوَاد الْخَشَبَة، وسميا عيدين لِكَثْرَة عوائد الله تَعَالَى فيهمَا، وَقيل: لأَنهم يعودون إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى. وَفِي بعض النّسخ: أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ أَي: هَذِه أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ أَي: فِي بيانهما. وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره: بَاب الْعِيدَيْنِ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
1 - (بابٌ فِي العِيدَيْنِ والتَّجَمُّلِ فِيهِ)
لَيست فِي رِوَايَة أبي ذَر الْبَسْمَلَة، وَلما ذكر الْكتاب شرع يذكر الْأَبْوَاب الَّتِي يتضمنها الْكتاب وَاحِدًا بعد وَاحِد: أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعِيدَيْنِ وَبَيَان التجمل فِيهِ، أَي: التزين. قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي كل وَاحِد من الْعِيدَيْنِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فيهمَا) ، أَي: فِي الْعِيدَيْنِ، وَهِي على الأَصْل وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْعِيدَيْنِ بِدُونِ كلمة فِي، وَفِي بَعْضهَا: بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِيدَيْنِ.
948 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ قَالَ أخَذَ عُمَرَ جُبَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأخَذَهَا فأتَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله ابْتع هاذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ والوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا هاذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خلاَقَ لَهُ فَلَبِثَ عُمَرُ مَا شاءَ الله أنْ يَلْبَثَ ثُمَّ أرْسلَ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِجُبَّةِ ديبَاجٍ فأقْبَلَ بِهَا عُمَرُ فَأتَى بِهَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله إنَّكَ قُلْتَ إنَّمَا هاذِه(6/266)
ِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ وأرْسلْتَ إلَيَّ بِهاذِهِ الجُبَّةِ فَقَالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبِيعُهَا وتُصِيبُ بِهَا حاجَتَكَ. .
مطابقته للجزء الْأَخير من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله بِهَذَا النسق قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع وَالزهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزِّينَة عَن عبيد الله بن فضَالة عَن أبي الْيَمَان بِهِ، وَقد مر أَكثر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب مَا يلبس أحسن مَا يجد. 1 قَوْله: (أَخذ عمر) ، بِهَمْزَة وخاء وذال معجمتين، كَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات، وَفِي بعض النّسخ: (وجد عمر) ، بواو وجيم، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) وَغير وَاحِد من طرق إِلَى أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ، فِيهِ. قيل: هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَرَادَ من أَخذ ملزومه وَهُوَ الشِّرَاء، قلت: الشِّرَاء لم يَقع وَلَكِن إِن أَرَادَ بِهِ السّوم فَلهُ وَجه. قَوْله: (جُبَّة) الْجُبَّة، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء، مَعْرُوفَة وَجَمعهَا: جباب. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْجبَاب مَا يلبس من الثِّيَاب. قَوْله: (من استبرق) الاستبرق، بِكَسْر الْهمزَة: الغليظ من الديباج، والديباج: الثِّيَاب المتخذة من الإبريسم فَارسي مُعرب، وَقد تفتح داله وَيجمع على: دياييج ودبابيج بِالْيَاءِ وَالْبَاء، لِأَن أَصله دباج، بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (تبَاع فِي السُّوق) جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لاستبرق. قَوْله: (فَأَخذهَا) أَي: عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَهَذَا من الْأَخْذ بِلَا خلاف، وَفَائِدَة التّكْرَار التَّأْكِيد إِذا كَانَ الْأَخْذ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاء، وَأما على نُسْخَة: وجد، فَلَا يَجِيء معنى التَّأْكِيد. قَوْله: (ابْتَاعَ هَذِه) إِشَارَة إِلَى الْجُبَّة الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه إِشَارَة إِلَى نوع تِلْكَ الْجُبَّة لَا إِلَى شخصها. قلت: ظَاهر التَّرْكِيب يشْهد لصِحَّة مَا ذكرته. وَقَوله: (ابْتَاعَ) أَمر وَقِيَاسه حذف الْألف، وَلَكِن بعض الروَاة أشْبع فَتْحة التَّاء فَصَارَ: ابْتَاعَ، وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والسرخسي، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين: ابتع، بِحَذْف الْألف على الأَصْل، وعَلى الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (تجمل) ، مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وأصل: تجمل تتجمل، بتاءين، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَارا تلظَّى} (اللَّيْل: 14) . أَصله: تتلظى، وَقيل: آبتاع؟ بِهَمْزَة اسْتِفْهَام ممدودة على صِيغَة لفظ الْمُتَكَلّم، وَمَعْنَاهُ: أأشتري؟ فعلى هَذَا يكون: تجمل، مَرْفُوعا. قَوْله: (للعيد والوفود) وَتقدم فِي كتاب الْجُمُعَة للْجُمُعَة بدل الْعِيد، وَهِي رِوَايَة نَافِع، وَالَّتِي هُنَا رِوَايَة سَالم، وَكَانَ ابْن عمر ذكرهمَا مَعًا، فَأخذ كل راوٍ وَاحِدًا مِنْهُمَا، والوفود جمع وَفد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقِصَّة وَاحِدَة وَالْجُمُعَة أَيْضا عيد. قَوْله: (تبيعها وتصيب بهَا حَاجَتك) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَو تصيب) ، وَمعنى الأول تنْتَفع بِثمنِهَا، وَمعنى الثَّانِي تجعلها لبَعض نِسَائِك مثلا.
وَمن فَوَائده: اسْتِحْبَاب التجمل بالثياب فِي أَيَّام الأعياد وَالْجمع، وملاقاة النَّاس، وَلِهَذَا لم يُنكر الشَّارِع إلاّ كَونهَا حَرِيرًا، وَهَذَا على خلاف بعض المتقشفين، وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه خرج يَوْمًا وَعَلِيهِ حلَّة يمَان، وعَلى فرقد جُبَّة صوف، فَجعل فرقد ينظر ويمس حلَّة الْحسن ويسبح، فَقَالَ لَهُ: يَا فرقد ثِيَابِي ثِيَاب أهل الْجنَّة وثيابك ثِيَاب أهل النَّار يَعْنِي القسيسين والرهبان، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا فرقد التَّقْوَى لست فِي هَذَا الكساء، وَإِنَّمَا التَّقْوَى مَا وقر فِي الصَّدْر وَصدقه الْعَمَل. وَفِيه: اسْتِفْهَام الصَّحَابَة عِنْد اخْتِلَاف القَوْل وَالْفِعْل ليعلموا الْوَجْه الَّذِي ينْصَرف إِلَيْهِ الْأَمر. وَفِيه: ائتلاف الصَّحَابَة بالعطاء وَقبُول الْعَطِيَّة إِذا لم يجر عَن مَسْأَلَة وَفضل الكفاف. وَفِيه: جَوَاز بيع الْحَرِير للرِّجَال وَالنِّسَاء وهبته، وَهَذَا الحَدِيث أغْلظ حَدِيث جَاءَ فِي لبس الْحَرِير.
2 - (بابُ الحِرَابِ والدَّرَق يَوْمَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر الحراب والدرق اللَّذين جَاءَ ذكرهمَا فِي الحَدِيث يَوْم الْعِيد، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن يَوْم الْعِيد يَوْم انبساط وانشراح يغْتَفر فِيهِ مَا لَا يغْتَفر فِي غَيره، والحراب، بِكَسْر الْحَاء: جمع حَرْبَة، والدرق بِفتْحَتَيْنِ: جمع درقة وَهِي الترس الَّذِي يتَّخذ من الْجُلُود
2 - (حَدثنَا أَحْمد قَالَ حَدثنَا ابْن وهب قَالَ أخبرنَا عَمْرو أَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن(6/267)
الْأَسدي حَدثهُ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعِنْدِي جاريتان تُغنيَانِ بغناء بُعَاث فاضطجع على الْفراش وحول وَجهه وَدخل أَبُو بكر فَانْتَهرنِي وَقَالَ مزمارة الشَّيْطَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأقبل عَلَيْهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ دعهما فَلَمَّا غفل غمزتهما فخرجتا وَكَانَ يَوْم عيد يلْعَب السودَان بالدرق والحراب فإمَّا سَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِمَّا قَالَ أتشتهين تنظرين فَقلت نعم فأقامني وَرَاءه خدي على خَدّه وَهُوَ يَقُول دونكم يَا بني أرفدة حَتَّى إِذا مللت قَالَ حَسبك قلت نعم قَالَ فاذهبي) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِيهِ لفظ الدرق والحراب وَهَذِه الْمُنَاسبَة فِي مُجَرّد الذّكر لِأَن التَّرْجَمَة مَا وضعت لبَيَان حكمه وَلِهَذَا قَالَ ابْن بطال لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج بأصحاب الحراب مَعَه يَوْم الْعِيد وَلَا أَمر أَصْحَابه بالتأهب بِالسِّلَاحِ فَلَا يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة وَقد ذكرنَا وَجهه فَلَا يحْتَاج إِلَى مُطَابقَة تَامَّة بل أدنى الِاسْتِئْنَاس فِي ذَلِك كَاف. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول أَحْمد بن عِيسَى بن حسان أَبُو عبد الله التسترِي مصري الأَصْل مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ تكلم فِيهِ يحيى بن معِين هَكَذَا وَقع أَحْمد بن عِيسَى فِي رِوَايَة أبي ذَر وَابْن عَسَاكِر وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَقع حَدثنَا أَحْمد غير مَنْسُوب وَقَالَ أَبُو عَليّ بن السكن كل مَا فِي البُخَارِيّ حَدثنَا أَحْمد غير مَنْسُوب فَهُوَ أَحْمد بن صَالح وَقَالَ الْحَاكِم رُوِيَ فِي كتاب الصَّلَاة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع عَن أَحْمد عَن ابْن وهب فَقيل أَنه أَحْمد بن صَالح وَقيل أَحْمد بن عِيسَى التسترِي وَلَا يَخْلُو أَن يكون وَاحِدًا مِنْهُمَا فقد رُوِيَ عَنْهُمَا فِي جَامعه ونسيهما فِي مَوَاضِع وَذكر الكلاباذي عَن أبي أَحْمد الْحَافِظ أَحْمد عَن ابْن وهب فِي جَامع البُخَارِيّ هُوَ ابْن أخي ابْن وهب قَالَ الْحَاكِم وَهَذَا وهم وَغلط وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْمَشَايِخ الَّذين ترك أَبُو عبد الله الرِّوَايَة عَنْهُم فِي الصَّحِيح قد رُوِيَ عَنْهُم فِي سَائِر تصانيفه كَابْن صَالح وَغَيره وَلَيْسَ عَن ابْن أخي وهب رِوَايَة فِي مَوضِع فَهَذَا يدلك على أَنه لم يكْتب عَنهُ أَو كتب عَنهُ ثمَّ ترك الرِّوَايَة عَنهُ أصلا وَقَالَ ابْن مندة كل مَا فِي البُخَارِيّ حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب فَهُوَ ابْن صَالح وَلم يخرج البُخَارِيّ عَن ابْن أخي ابْن وهب فِي صَحِيحه شَيْئا وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نسبه الثَّانِي عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ الثَّالِث عَمْرو بن الْحَارِث وَقد تكَرر ذكره الرَّابِع مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل بن الْأسود الْأَسدي الْقرشِي الْمدنِي يَتِيم عُرْوَة دخل مصر فِي زمن بني أُميَّة وَمَات سنة سبع عشرَة وَمِائَة الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن الشّطْر الأول من الروَاة مصريون وَالثَّانِي مدنيون رَحِمهم الله. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَأخرجه أَيْضا عقيب هَذَا الْبَاب وَفِي بَاب نظر الْمَرْأَة إِلَى الْحَبَشَة وَفِي بَاب إِذا قَامَ العَبْد يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَفِي حسن الْعشْرَة مَعَ الْأَهْل وَفِي بَاب أَصْحَاب الحراب فِي الْمَسْجِد فَهَذِهِ سَبْعَة أَبْوَاب وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " دخل على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَاد فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة " فِي أَيَّام منى " قَوْله " جاريتان " تَثْنِيَة جَارِيَة وَالْجَارِيَة فِي النِّسَاء كالغلام فِي الرِّجَال وَيُقَال على من دون الْبلُوغ مِنْهُمَا وَسَيَجِيءُ فِي الْبَاب الَّذِي بعده من جواري الْأَنْصَار وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أم سَلمَة أَن إِحْدَاهمَا كَانَت لحسان بن ثَابت فِي الْعِيدَيْنِ لِابْنِ أبي الدُّنْيَا من طَرِيق فليح عَن هِشَام بن عُرْوَة " وحمامة وصاحبتها تُغنيَانِ " وَإِسْنَاده صَحِيح وَلم يذكر أحد من مصنفي أَسمَاء الصَّحَابَة حمامة هَذِه وَذكر الذَّهَبِيّ فِي التَّجْرِيد حمامة أم بِلَال رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اشْتَرَاهَا أَبُو بكر وأعتقها(6/268)
قَوْله " تُغنيَانِ " جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لجاريتين وَزَاد فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ " تدففان " بفاءين أَي تضربان بالدف وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن هِشَام " تُغنيَانِ بدف " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ " دَفِين " والدف بِضَم الدَّال وَفتحهَا وَالضَّم أشهر وَيُقَال لَهُ أَيْضا الكربال بِكَسْر الْكَاف وَهُوَ الَّذِي لَا جلاجل فِيهِ فَإِن كَانَت فِيهِ فَهُوَ المزهر وَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بعده " تُغنيَانِ بِمَا تقاولت الْأَنْصَار يَوْم بُعَاث " أَي قَالَ بَعضهم لبَعض من فَخر أَو هجاء وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَة " بِمَا تعازفت " بِعَين مُهْملَة وزاي وَفَاء من العزف وَهُوَ الصَّوْت الَّذِي لَهُ دوِي وَفِي رِوَايَة " تقاذفت " بقاف بدل الْعين وذال مُعْجمَة بدل الزَّاي من الْقَذْف وَهُوَ هجاء بَعضهم لبَعض وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام " تذكران يَوْم بُعَاث " يَوْم قتل فِيهِ صَنَادِيد الْأَوْس والخزرج قَوْله " بغناء بُعَاث " الْغناء بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالمد قَالَ الْجَوْهَرِي الْغناء بِالْكَسْرِ من السماع وبالفتح النَّفْع وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَلما يرد بِهِ الْغناء الْمَعْرُوف من أهل اللَّهْو واللعب وَقد رخص عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي غناء الْأَعْرَاب وَهُوَ صَوت كالحداء وبعاث بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة وَالْمَشْهُور أَنه لَا ينْصَرف وَنقل عِيَاض عَن أبي عُبَيْدَة بالغين الْمُعْجَمَة وَنقل ابْن الْأَثِير عَن صَاحب الْعين خَلِيل كَذَلِك وَكَذَا حكى عَنهُ الْبكْرِيّ فِي مُعْجم الْبلدَانِ وَجزم أَبُو مُوسَى فِي ذيل الْغَرِيب بِأَنَّهُ تَصْحِيف وَتَبعهُ صَاحب النِّهَايَة وَقَالَ أَبُو مُوسَى وَصَاحب النِّهَايَة هُوَ اسْم حصن لِلْأَوْسِ وَفِي كتاب أبي الْفرج الْأَصْفَهَانِي فِي تَرْجَمَة أبي قيس بن الأسلت هُوَ مَوضِع فِي ديار بني قُرَيْظَة فِيهِ أَمْوَالهم وَكَانَ مَوضِع الْوَقْعَة فِي مزرعة لَهُم هُنَاكَ وَقَالَ الْخطابِيّ يَوْم بُعَاث يَوْم مَشْهُور من أَيَّام الْعَرَب كَانَت فِيهِ مقتلة عَظِيمَة لِلْأَوْسِ على الْخَزْرَج وَبقيت الْحَرْب مائَة وَعِشْرُونَ سنة إِلَى الْإِسْلَام على مَا ذكره ابْن اسحق وَغَيره وَكَانَ أول هَذِه الْوَقْعَة فِيمَا ذكره ابْن اسحق وَهِشَام ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيرهمَا أَن الْأَوْس والخزرج لما نزلُوا الْمَدِينَة وجدوا الْيَهُود مستوطنين بهَا فحالفوهم وَكَانُوا تَحت قهرهم ثمَّ غلبوا على الْيَهُود لعنهم الله بمساعدة أبي جبلة ملك غَسَّان فَلم يزَالُوا على اتِّفَاق بَينهم حَتَّى كَانَت أول حَرْب وَقعت بَينهم حَرْب سمير بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء بِسَبَب رجل يُقَال لَهُ كَعْب من بني ثَعْلَبَة نزل على مَالك بن العجلان الخزرجي فحالفه فَقتله رجل من الْأَوْس يُقَال لَهُ سمير فَكَانَ ذَلِك سَبَب الْحَرْب بَين الْحَيَّيْنِ ثمَّ كَانَت بَينهم وقائع من أشهرها يَوْم السرارة بمهملات وَيَوْم فارع بفاء وَرَاء وَعين مُهْملَة وَيَوْم الْفجار الأول وَالثَّانِي وَحرب حُصَيْن بن الأسلت وَحرب حَاطِب بن قيس إِلَى أَن كَانَ آخر ذَلِك يَوْم بُعَاث وَكَانَ رَئِيس الْأَوْس فِيهِ حضير وَالِد أسيد وَكَانَ يُقَال لَهُ حضير الْكَتَائِب وجرح يَوْمئِذٍ ثمَّ مَاتَ بعد مُدَّة من جراحته وَكَانَ رَئِيس الْخَزْرَج عَمْرو بن النُّعْمَان وجاءه سهم فِي الْقِتَال فصرعه فهزموا بعد أَن كَانُوا قد استظهروا ولحسان وَغَيره من الْخَزْرَج وَكَذَا لقيس بن الْحطيم وَغَيره من الْأَوْس فِي ذَلِك أشعار كَثِيرَة مثبتة فِي دواوينهم قَوْله " فاضطجع على الْفراش " وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ " أَنه تغشى بِثَوْبِهِ " وَفِي رِوَايَة لمُسلم " تسجى " أَي التف بِثَوْبِهِ قَوْله " وَدخل أَبُو بكر " ويروى " وَجَاء أَبُو بكر " وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة فِي الْبَاب الَّذِي بعده " وَدخل على أَبُو بكر وَكَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لَهَا بعد أَن دخل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيته " (قلت) يُمكن أَن يكون مَجِيئه لمَنعه الجاريتين المذكورتين عَن الْغناء قَوْله " فَانْتَهرنِي " أَي زجرني وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ " فانتهرهما " أَي الجاريتين والتوفيق بَينهمَا أَنه نهر عَائِشَة لتقريرها ذَلِك ونهرهما لفعلهما ذَلِك فِي بَيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " مزمارة الشَّيْطَان " بِكَسْر الْمِيم يَعْنِي الْغناء أَو الدُّف وهمزة الِاسْتِفْهَام قبلهَا مقدرَة وَهِي مُشْتَقَّة من الزمير وَهُوَ الصَّوْت الَّذِي لَهُ صفير وَسميت بِهِ الْآلَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي يرمز بهَا وإضافتها إِلَى الشَّيْطَان من جِهَة أَنَّهَا تلهي وتشغل الْقلب عَن الذّكر وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عِنْد أَحْمد " فَقَالَ يَا عباد الله المزمور عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ الْقُرْطُبِيّ " المزمور " الصَّوْت وَضَبطه عِيَاض بِضَم الْمِيم وَحكى فتحهَا وَقَالَ ابْن سَيّده يُقَال زمر يزمر زميرا وزمرانا غنى فِي الْقصب وَامْرَأَة زامرة وَلَا يُقَال رجل زامر إِنَّمَا هُوَ زمار وَقد حكى بَعضهم رجل زامر وَفِي الْجَامِع فِي الحَدِيث " نهى عَن كسب الزمارة " يُرِيد الْفَاجِرَة وَفِي الصِّحَاح وَلَا يُقَال للْمَرْأَة زمارة وَفِي كتاب ابْن التِّين الزمر الصَّوْت الْحسن وَيُطلق على الْغناء أَيْضا وَجمع المزمار مَزَامِير قَوْله " فَأقبل عَلَيْهِ " أَي على أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ " فكشف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن وَجهه " وَفِي رِوَايَة فليح " فكشف رَأسه " وَقد مضى أَنه كَانَ ملتفا قَوْله " فَقَالَ دعهما " أَي فَقَالَ(6/269)
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بكر دع الجاريتين أَي اتركهما وَفِي رِوَايَة هِشَام " يَا أَبَا بكر إِن لكل قوم عيدا وَهَذَا عيدنا " هَذَا تَعْلِيل لنَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بقوله " دعهما " وَبَيَان لخلاف مَا ظَنّه أَبُو بكر من أَنَّهُمَا فعلتا ذَلِك بِغَيْر علمه لكَونه دخل فَوجدَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مغطى بِثَوْبِهِ نَائِما وَلَا سِيمَا كَانَ الْمُقَرّر عِنْده منع الْغناء وَاللَّهْو فبادر إِلَى إِنْكَار ذَلِك قيَاما عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأوضح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَال وَبَينه بقوله " إِن لكل قوم عيدا " أَي أَن لكل طَائِفَة من الْملَل الْمُخْتَلفَة عيدا يسمونه باسم مثل النيروز والمهرجان وَإِن هَذَا الْيَوْم يَوْم عيدنا وَهُوَ يَوْم سرُور شَرْعِي فَلَا يُنكر مثل هَذَا على أَن ذَلِك لم يكن بِالْغنَاءِ الَّذِي يهيج النُّفُوس إِلَى أُمُور لَا تلِيق وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة " وليستا بمغنيتين " يَعْنِي لم تتخذا الْغناء صناعَة وَعَادَة وروى النَّسَائِيّ وَابْن حبَان بِإِسْنَاد صَحِيح " عَن أنس قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة وَلَهُم يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فيهمَا فَقَالَ قد أبدلكم الله تَعَالَى بهما خيرا مِنْهُمَا يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى " قَوْله " غمزتهما " جَوَاب " لما " الغمز بالمعجمتين الْإِشَارَة بِالْعينِ والحاجب أَو الْيَد وَالرَّمْز كَذَلِك قَوْله " فخرجتا " بفاء الْعَطف وَالْمَشْهُور خرجتا بِدُونِ الْفَاء قَالَ الْكرْمَانِي خرجتا بِدُونِ الْفَاء بدل أَو اسْتِئْنَاف قَوْله " وَكَانَ يَوْم عيد " أَي كَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم عيد وَكَانَ الْقَائِل بذلك عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَيدل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة الجوزقي فِي هَذَا الحَدِيث " وَقَالَت عَائِشَة كَانَ يَوْم عيد " وَبِهَذَا يظْهر أَيْضا أَنه مَوْصُول كَغَيْرِهِ قَوْله " يلْعَب فِيهِ " أَي فِي ذَلِك الْيَوْم قَوْله " فَأَما سَأَلت " أَي التمست من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النّظر إِلَيْهِم وَكلمَة أما فِيهِ تدل على ترددها فِيمَا كَانَ وَقع مِنْهَا هَل كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لَهَا فِي ذَلِك ابْتِدَاء مِنْهُ من غير سُؤال مِنْهَا أَو كَانَ عَن سُؤال مِنْهَا إِيَّاه فِي ذَلِك قيل هَذَا بِنَاء على أَن " سَأَلت " بِسُكُون اللَّام على أَنه كَلَامهَا وَيحْتَمل أَن يكون بِفَتْح اللَّام كَلَام الرَّاوِي (قلت) سُكُون اللَّام يدل على أَنه لفظ الْمُتَكَلّم وَحده وَفتح اللَّام يدل على أَنه فعل مَاض مُفْرد مؤنث وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره يبعده قَوْله " فَقلت نعم " لَا يدرى إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ على أَن جعله من كَلَامهَا أولى من جعله من كَلَام الرَّاوِي لِأَن كَلَام الرَّاوِي لَيْسَ من الحَدِيث فَافْهَم قَوْله " تشتهين " كلمة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة وَكَذَلِكَ أَن المصدرية مقدرَة فِي قَوْله " تنظرين " وَالتَّقْدِير أتشتهين النّظر إِلَى السودَان وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَنْهَا فِي ذَلِك فَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق يزِيد بن رُومَان عَنْهَا " سمعنَا لَغطا وَصَوت صبيان فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذا حبشية تزفن " أَي ترقص " وَالصبيان حولهَا فَقَالَ يَا عَائِشَة تعالي فانظري " فَهَذَا يدل على أَنه سَأَلَهَا وَفِي رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عَنْهَا عِنْد مُسلم " أَنَّهَا قَالَت للعابين وددت أَنِّي أَرَاهُم " فَفِي هَذَا يحْتَمل أَن يكون السَّائِل هُوَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَن تكون عَائِشَة لَا كَمَا جزم بِهِ الْبَعْض أَنَّهَا سَأَلته وَرِوَايَة للنسائي من طَرِيق أبي سَلمَة عَنْهَا " دخل الْحَبَشَة الْمَسْجِد يَلْعَبُونَ فَقَالَ لي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا حميراء تحبين أَن تنظري إِلَيْهِم فَقلت نعم " إِسْنَاده صَحِيح قَالَ بَعضهم وَلم أر فِي حَدِيث صَحِيح ذكر الْحُمَيْرَاء إِلَّا فِي هَذَا (قلت) رُوِيَ من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه " عَن عَائِشَة قَالَت استخنت مَاء فِي الشَّمْس فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تفعلي يَا حميراء فَإِنَّهُ يُورث البرص " وَهَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا فَفِيهِ ذكر الْحُمَيْرَاء وَفِي مُسْند السراج من حَدِيث أنس " أَن الْحَبَشَة كَانَت تزفن بَين يَدي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويتكلمون بِكَلَام لَهُم فَقَالَ مَا يَقُولُونَ قَالَ يَقُولُونَ مُحَمَّد عبد صَالح " قَوْله " خدي على خَدّه " جملَة حَالية بِلَا وَاو كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} وَقَول الْقَائِل كَلمته فوه إِلَى فِي (قلت) قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) حقق لي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِن الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكَشَّاف تَارَة يَجْعَلهَا حَالا بِدُونِ الْوَاو فصيحا وَأُخْرَى ضَعِيفا (قلت) إِذا أمكن وضع مُفْرد مقامهما استفحصه كَقَوْلِه تَعَالَى {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} أَي اهبطوا معادين وَهَهُنَا أَيْضا مُمكن إِذْ تَقْدِيره أقامني متلاصقين انْتهى (قلت) كل جملَة أَي جملَة كَانَت لَا يكتسى محلهَا إعرابا إِلَّا إِذا وَقعت موقع الْمُفْرد فَلَا يحْتَاج إِلَى تَفْصِيل وَالظَّاهِر أَن الْكرْمَانِي لم يمعن نظره فِي هَذَا الْموضع وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا اللَّفْظ فَفِي رِوَايَة مُسلم عَن هِشَام عَن أَبِيه " فَوضعت رَأْسِي على مَنْكِبَيْه " وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة " فَوضعت ذقني على عَاتِقه وأسندت وَجْهي إِلَى خَدّه " وَفِي رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عَنْهَا " أنظر بَين أُذُنَيْهِ وعاتقه " وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة الَّتِي تَأتي بعد " فيسترني وَأَنا أنظر " وَقد مضى فِي أَبْوَاب الْمَسَاجِد بِلَفْظ " يسترني بردائه " قَوْله " وَهُوَ يَقُول " جملَة اسمية وَقعت حَالا قَوْله " دونكم " بِالنّصب(6/270)
على الظَّرْفِيَّة وَهُوَ كلمة الإغراء بالشَّيْء والمغرى بِهِ مَحْذُوف أَي الزموا مَا أَنْتُم فِيهِ وَعَلَيْكُم بِهِ وَالْعرب تغري بعليك وعندك وأخواتهما وشأنها أَن يتَقَدَّم الِاسْم كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث وَقد جَاءَ تَأْخِيرهَا شاذا كَقَوْلِه
(يَا أَيهَا المانح دلوي دونكا ... إِنِّي رَأَيْت النَّاس يمدونكا)
قَوْله " يَا بني أرفدة " بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْفَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر أشهر وَهُوَ لقب للحبشة أَو اسْم أَبِيهِم الأقدم وَقيل جنس مِنْهُم يرقصون وَقيل الْمَعْنى يَا بني الآماء وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة " فزجرهم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمنا بني أرفدة " وَبَين الزُّهْرِيّ أَيْضا عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة وَجه الزّجر حَيْثُ قَالَ " فَأَهوى إِلَى الْحَصْبَاء فحصبهم بهَا فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دعهم يَا عمر " وَسَيَأْتِي فِي الْجِهَاد وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه فِيهِ " فَإِنَّهُم بَنو أرفدة " كَأَنَّهُ يَعْنِي أَن هَذَا شَأْنهمْ وطريقتهم وَهُوَ من الْأُمُور الْمُبَاحَة فَلَا إِنْكَار عَلَيْهِم قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِيهِ تَنْبِيه على أَنهم يغْتَفر لَهُم مَا لم يغْتَفر لغَيرهم لِأَن الأَصْل فِي الْمَسَاجِد تنزيهها عَن اللّعب فَيقْتَصر على مَا ورد فِيهِ النَّص قَوْله " أمنا بني أرفدة " مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي ائمنوا أمنا وَلَا تخافوا وَيجوز أَن يكون أمنا الَّذِي هُوَ مصدر أقيم مقَام الصّفة كَقَوْلِك رجل عدل أَي عَادل وَالْمعْنَى آمِنين بني أرفدة وَقَالَ ابْن التِّين وَضبط فِي بعض الْكتب آمنا على وزن فَاعِلا وَيكون أَيْضا بِمَعْنى آمِنين قَوْله " حَتَّى إِذا مللت " بِكَسْر اللَّام الأولى من الْملَل وَهُوَ السَّآمَة وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ " حَتَّى أكون أَنا الَّذِي أسأم " وَلمُسلم من طَرِيقه " حَتَّى أكون أَنا الَّذِي أنصرف " وَفِي رِوَايَة يزِيد بن رُومَان عِنْد النَّسَائِيّ " أما شبعت أما شبعت فَجعلت أَقُول لَا لأنظر منزلتي عِنْده " وَله من رِوَايَة أبي سَلمَة عَنْهَا " قلت يَا رَسُول الله لَا تعجل فَقَامَ لي ثمَّ قَالَ حَسبك قلت لَا تعجل قلت وَمَا بِي حب النّظر إِلَيْهِم وَلَكِن أَحْبَبْت أَن تبلغ النِّسَاء مقَامه لي ومكانه مني " قَوْله " حَسبك " الِاسْتِفْهَام مُقَدّر أَي أحسبك وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي أكافيك هَذَا الْقدر (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول الْكَلَام فِي الْغناء قَالَ الْقُرْطُبِيّ أما الْغناء فَلَا خلاف فِي تَحْرِيمه لِأَنَّهُ من اللَّهْو واللعب المذموم بالِاتِّفَاقِ فَأَما مَا يسلم من الْمُحرمَات فَيجوز الْقَلِيل مِنْهُ فِي الأعراس والأعياد وشبههما وَمذهب أبي حنيفَة تَحْرِيمه وَبِه يَقُول أهل الْعرَاق وَمذهب الشَّافِعِي كَرَاهَته وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك وَاسْتدلَّ جمَاعَة من الصُّوفِيَّة بِحَدِيث الْبَاب على إِبَاحَة الْغناء وسماعه بِآلَة وَبِغير آلَة وَيرد عَلَيْهِم بِأَن غناء الجاريتين لم يكن إِلَّا فِي وصف الْحَرْب والشجاعة وَمَا يجْرِي فِي الْقِتَال فَلذَلِك رخص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ وَأما الْغناء الْمُعْتَاد عَن المشتهرين بِهِ الَّذِي يُحَرك السَّاكِن ويهيج الكامن الَّذِي فِيهِ وصف محَاسِن الصّبيان وَالنِّسَاء وَوصف الْخمر وَنَحْوهَا من الْأُمُور الْمُحرمَة فَلَا يخْتَلف فِي تَحْرِيمه وَلَا اعْتِبَار لما أبدعته الجهلة من الصُّوفِيَّة فِي ذَلِك فَإنَّك إِذا تحققت أَقْوَالهم فِي ذَلِك وَرَأَيْت أفعالهم وقفت على آثَار الزندقة مِنْهُم وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا مُجَرّد الْغناء وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهِ مَعْصِيّة حَتَّى قَالُوا اسْتِمَاع الْقُرْآن بالألحان مَعْصِيّة والتالي وَالسَّامِع آثمان وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} جَاءَ فِي التَّفْسِير أَن المُرَاد بِهِ الْغناء وَفِي فردوس الْأَخْبَار " عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ إحذروا الْغناء فَإِنَّهُ من قبل إِبْلِيس وَهُوَ شرك عِنْد الله وَلَا يُغني إِلَّا الشَّيْطَان " وَلَا يلْزم من إِبَاحَة الضَّرْب بالدف فِي الْعرس وَنَحْوه إِبَاحَة غَيره من الْآلَات كالعود وَنَحْوه وَسُئِلَ أَبُو يُوسُف عَن الدُّف أتكرهه فِي غير الْعرس مثل الْمَرْأَة فِي منزلهَا وَالصَّبِيّ قَالَ فَلَا كَرَاهَة وَأما الَّذِي يَجِيء مِنْهُ اللّعب الْفَاحِش والغناء فَإِنِّي أكرهه. الثَّانِي فِيهِ جَوَاز اللّعب بِالسِّلَاحِ للتدريب على الْحَرْب والتنشيط عَلَيْهِ. وَفِيه جَوَاز المسايفة لما فِيهَا من تمرين الْأَيْدِي على آلَات الْحَرْب. الثَّالِث فِيهِ جَوَاز نظر النِّسَاء إِلَى فعل الرِّجَال الْأَجَانِب لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكره لَهُنَّ النّظر إِلَى المحاسن والاستلذاذ بذلك وَنظر الْمَرْأَة إِلَى وَجه الرجل الْأَجْنَبِيّ إِن كَانَ بِشَهْوَة فَحَرَام اتِّفَاقًا وَإِن كَانَ بِغَيْر شَهْوَة فَالْأَصَحّ التَّحْرِيم وَقيل هَذَا كَانَ قبل نزُول {وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} أَو كَانَ قبل بُلُوغ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (قلت) فِيهِ نظر لِأَن فِي رِوَايَة ابْن حبَان أَن ذَلِك وَقع لما قدم وَفد الْحَبَشَة وَكَانَ قدومهم سنة سبع فَيكون عمرها حِينَئِذٍ خمس عشرَة سنة. الرَّابِع فِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّوسعَة على الْعِيَال فِي أَيَّام الأعياد بأنواع مَا يحصل لَهُم بِهِ بسط النَّفس وترويح الْبدن من كلف الْعِبَادَة وَإِن الْإِعْرَاض عَن ذَلِك أولى. الْخَامِس فِيهِ أَن إِظْهَار السرُور فِي الأعياد من شَعَائِر الدّين. السَّادِس فِيهِ جَوَاز دُخُول الرجل على(6/271)
ابْنَته وَهِي عِنْد زَوجهَا إِذا كَانَت لَهُ بذلك عَادَة. السَّابِع فِيهِ الْأَب ابْنَته بِحَضْرَة الزَّوْج وَإِن تَركه الزَّوْج إِذْ التَّأْدِيب وَظِيفَة الْآبَاء والعطف مَشْرُوع من الْأزْوَاج للنِّسَاء. الثَّامِن فِيهِ الرِّفْق بِالْمَرْأَةِ واستجلاب مودتها. التَّاسِع فِيهِ أَن مَوَاضِع أهل الْخَيْر تنزه عَن اللَّهْو واللغو وَإِن لم يكن لَهُم فِيهِ إِثْم إِلَّا بإذنهم. الْعَاشِر فِيهِ أَن التلميذ إِذا رأى عِنْد شَيْخه مَا يستنكر مثله بَادر إِلَى إِنْكَاره وَلَا يكون فِي ذَلِك افتيات على شَيْخه بل هُوَ أدب مِنْهُ ورعاية لِحُرْمَتِهِ وإجلال منصبه. الْحَادِي عشر فِيهِ فَتْوَى التلميذ بِحَضْرَة شَيْخه بِمَا يعرف من طَرِيقَته وَيحْتَمل أَن أَبَا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ظن أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَام فخشي أَن يَسْتَيْقِظ فيغضب على ابْنَته فبادر إِلَى سد هَذِه الذريعة وَفِي قَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي آخر هَذَا الحَدِيث " فَلَمَّا غفل غمزتهما فخرجتا " دلَالَة على أَنَّهَا مَعَ ترخيص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهَا فِي ذَلِك راعت خاطر أَبِيهَا أَو خشيت غَضَبه عَلَيْهَا فأخرجتهما واقتناعها فِي ذَلِك بِالْإِشَارَةِ فِيمَا يظْهر للحياء من الْكَلَام بِحَضْرَة من هُوَ أكبر مِنْهَا. الثَّانِي عشر فِيهِ جَوَاز سَماع صَوت الْجَارِيَة بِالْغنَاءِ وَإِن لم تكن مَمْلُوكَة لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يُنكر على أبي بكر سَمَاعه بل أنكر إِنْكَاره واستمرت إِلَى أَن أشارت إِلَيْهِمَا عَائِشَة بِالْخرُوجِ وَلَكِن لَا يخفى أَن مَحل الْجَوَاز مَا إِذا أمنت الْفِتْنَة بذلك وَقَالَ الْمُهلب الَّذِي أنكرهُ أَبُو بكر كَثْرَة التغنيم وَإِخْرَاج الإنشاد من وَجهه إِلَى معنى التطريب بالألحان أَلا ترى أَنه لم يُنكر الإنشاد وَإِنَّمَا أنكر مشابهة الزمر بِمَا كَانَ فِي الْمُعْتَاد الَّذِي فِيهِ اخْتِلَاف النغمات وَطلب الإطراب فَهُوَ الَّذِي يخْشَى مِنْهُ وَقطع الذريعة فِيهِ أحسن وَمَا كَانَ دون ذَلِك من الإنشاد وَرفع الصَّوْت حَتَّى لَا يخفى معنى الْبَيْت وَمَا أَرَادَهُ الشَّاعِر بِشعرِهِ فَغير مَنْهِيّ عَنهُ وَقد رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه رخص فِي غناء الْأَعرَابِي وَهُوَ صَوت كالحداء يُسمى النصب إِلَّا أَنه رَقِيق. الثَّالِث عشر اسْتدلَّ بِهِ ابْن حزم وَقَالَ الْغناء واللعب واللزفن فِي أَيَّام الْعِيدَيْنِ حسن فِي الْمَسْجِد وَغَيره وَقَالَ ابْن التِّين كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام لتعلم الْقِتَال وَقَالَ أَبُو الْحسن فِي التَّبْصِرَة هُوَ مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله} الْآيَة وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ مجانينكم وَصِبْيَانكُمْ ". الرَّابِع عشر فِيهِ جَوَاز اكْتِفَاء الْمَرْأَة فِي السّتْر بِالْقيامِ خلف من تتستر بِهِ من زوج أَو ذِي محرم. الْخَامِس عشر فِيهِ بَيَان أَخْلَاق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَسَنَة ولطفه وَحسن شمائله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
3 - (بابُ سُنَّةِ العِيدَيْنِ لأِهْلِ الإسْلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سنية الدُّعَاء فِي الْعِيد، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب سنة الْعِيدَيْنِ لأهل الْإِسْلَام، وَسَنذكر وَجه الترجمتين على الْقَوْلَيْنِ.
951 - حدَّثنا حَجَّاجٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي زُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبيَّ عنِ البَرَاءِ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ فَقَالَ إنَّ أوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنُ يَوْمنَا هاذَا أَن نُصلِّي ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أصَابَ سُنَّتَنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة المروية عَن الْحَمَوِيّ فِي قَوْله: يخْطب) ، فَإِن الْخطْبَة مُشْتَمِلَة على الدُّعَاء كَمَا أَنَّهَا تشْتَمل على غَيره من بَيَان أَحْكَام الْعِيد، وَأما التَّرْجَمَة المروية عَن الْأَكْثَرين فَظَاهره، لِأَن فِيهِ بَيَان سنة الْعِيد لأهل الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله: (لأهل الْإِسْلَام) ، إيضاحا أَن سنة أهل الْإِسْلَام فِي الْعِيد خلاف مَا يَفْعَله غير أهل الْإِسْلَام، لِأَن غير أهل الْإِسْلَام أَيْضا لَهُم أعياد كَمَا ذكر فِي الحَدِيث. (إِن لكل قوم عيدا وَهَذَا عيدنا) . فَإِن قلت: الحَدِيث فِي بَيَان سنة عيد النَّحْر، فَمَا وَجه قَوْله: (سنة الْعِيدَيْنِ) بالتثنية؟ قلت: من جملَة سنة الْعِيدَيْنِ وَأَعْظَمهَا: الصَّلَاة، وَلَا يَخْلُو العيدان مِنْهَا بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: ابْن الْحَارِث اليامي الْكُوفِي(6/272)
وكل مَا فِي البُخَارِيّ: زبيد فَهُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وكل مَا فِي (الْمُوَطَّأ) فَهُوَ: بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: الْبَراء بن عَازِب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن الأول من الروَاة بَصرِي وَالثَّانِي واسطي وَالثَّالِث وَالرَّابِع كوفيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ عَن آدم وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَفِي الْعِيدَيْنِ أَيْضا عَن بنْدَار عَن شُعْبَة وَفِي الْعِيدَيْنِ أَيْضا عَن أبي نعيم وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُسَدّد وَفِي الْعِيدَيْنِ أَيْضا عَن عُثْمَان عَن جرير وَعَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص وَفِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور وَكتب إِلَيّ مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن يحيى بن يحيى عَن خَالِد وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر وَعَن عبد الله بن معَاذ وَعَن هناد وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن أبي الْأَحْوَص وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن أَحْمد بن سعيد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَضَاحِي عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص وَعَن خَالِد بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عُثْمَان ابْن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن عُثْمَان وَفِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن هناد عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يخْطب) ، جملَة فعلية فِي مَحل النصب على أَنَّهَا أحد مفعولي سَمِعت على مَذْهَب الْفَارِسِي، وَالصَّحِيح أَنه لَا يتَعَدَّى إلاّ إِلَى مفعول وَاحِد، فَحِينَئِذٍ يكون مَحل: يخْطب، نصبا على الْحَال. قَوْله: (هَذَا) أَشَارَ بِهِ إِلَى يَوْم الْعِيد، وَهُوَ عيد النَّحْر. قَوْله: (ثمَّ نرْجِع) ، بِالنّصب وَالرَّفْع، فالنصب على الْعَطف على: (أَن نصلي) ، وَالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: ثمَّ نَحن نرْجِع. قَوْله: (فَمن فعل) أَي: الِابْتِدَاء بِالصَّلَاةِ ثمَّ بعْدهَا بالنحر فقد أصَاب سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ أَن صَلَاة الْعِيد سنة وَلكنهَا مُؤَكدَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ الاصطخري من أَصْحَابه فرض كِفَايَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمَالك وَابْن أبي ليلى، وَالصَّحِيح عَن مَالك أَنه كَقَوْل الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه: وَاجِبَة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَتجب صَلَاة الْعِيد على كل من تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة. وَفِي مُخْتَصر أبي مُوسَى الضَّرِير، هِيَ فرض كِفَايَة، وَكَذَا قَالَ فِي الغزنوي، وَفِي (الْقنية) : قيل: هِيَ فرض. وَنقل الْقُرْطُبِيّ عَن الْأَصْمَعِي أَنَّهَا فرض. وَاخْتلف فِيمَن يُخَاطب بالعيد، فروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: فِي الْقرْيَة فِيهَا عشرُون رجلا أرى أَن يصلوا الْعِيدَيْنِ، وروى ابْن نَافِع عَنهُ أَنه: لَيْسَ ذَلِك إلاّ على من تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول اللَّيْث، وَأكْثر أهل الْعلم فِيمَا حَكَاهُ ابْن بطال. وَقَالَ ربيعَة: كَانُوا يرَوْنَ الفرسخ وَهُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: من آواه اللَّيْل إِلَى أَهله فَعَلَيهِ الْجُمُعَة والعيد. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب: إِن شَاءَ من لَا تلزمهم الْجُمُعَة أَن يصلوها بِإِمَام فعلوا، وَلَكِن لَا خطْبَة عَلَيْهِم، فَإِن خطب فَحسن، وَحجَّة أَصْحَابنَا فِي الْوُجُوب مواظبته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من غير ترك. وَاسْتدلَّ شيخ الْإِسْلَام على وُجُوبهَا بقوله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 185 وَالْحج: 37) . قيل: المُرَاد من صَلَاة الْعِيد، وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وانحر} (الْكَوْثَر: 2) . إِن المُرَاد بِهِ صَلَاة عيد النَّحْر، فَتجب بِالْأَمر.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن السّنة أَن يخْطب بعد الصَّلَاة، لما روى البُخَارِيّ وَمُسلم عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أَبُو بكر وَعمر يصلونَ الْعِيد قبل الْخطْبَة) . وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ أَن صَلَاة الْعِيد سنة، وَأَن النَّحْر لَا يكون إلاّ بعد الصَّلَاة، وَأَن الْخطْبَة أَيْضا بعْدهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأَخير مَمْنُوع، بل الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْخطْبَة مُقَدّمَة على الصَّلَاة. قلت: لَا نسلم مَا قَالَه لِأَنَّهُ صرح بِأَن أول مَا يبْدَأ بِهِ يَوْم الْعِيد الصَّلَاة ثمَّ النَّحْر، وَلَقَد غر الْكرْمَانِي ظَاهر قَوْله: (يخْطب، فَقَالَ: فالفاء فِيهِ تفسيرية، فسر فِي خطبَته الَّتِي خطب بهَا بعد الصَّلَاة أَن أول مَا يبْدَأ بِهِ يَوْم الْعِيد الصَّلَاة، وَلِأَنَّهَا هِيَ الْأَمر المهم، وَالْخطْبَة من التوابع، حَتَّى لَو تَركهَا لَا يضر صلَاته، بِخِلَاف خطْبَة الْجُمُعَة. فَإِن قلت: وَقع للنسائي استدلاله بِحَدِيث الْبَراء على أَن الْخطْبَة قبل الصَّلَاة، وَترْجم لَهُ: بَاب الْخطْبَة يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ فِي ذَلِك بقوله: (أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا أَن نصلي ثمَّ نَنْحَر) ، وَتَأَول أَن قَوْله: هَذَا قبل الصَّلَاة لِأَنَّهُ كَيفَ يَقُول: (أول مَا نبدأ بِهِ أَن نصلي)(6/273)
وَهُوَ قد صلى. قلت: قَالَ ابْن بطال: غلط النَّسَائِيّ فِي ذَلِك لِأَن الْعَرَب قد تضع الْفِعْل الْمُسْتَقْبل مَكَان الْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أول مَا يكون الِابْتِدَاء بِهِ فِي هَذَا الْيَوْم الصَّلَاة الَّتِي قدمنَا فعلهَا، وبدأنا بهَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نقموا مِنْهُم إلاّ أَن يُؤمنُوا بِاللَّه} (البروج: 8) . الْمَعْنى إلاّ الْإِيمَان الْمُتَقَدّم مِنْهُم، وَقد بَين ذَلِك فِي: بَاب اسْتِقْبَال الإِمَام للنَّاس فِي خطْبَة الْعِيد، فَقَالَ: إِن أول نسكنا فِي يَوْمنَا هَذَا أَن نبدأ بِالصَّلَاةِ، وللنسائي: (خطب يَوْم النَّحْر بعد الصَّلَاة) .
الْوَجْه الثَّالِث: أَن النَّحْر بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ فِيمَا بعد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
952 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو أسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيه عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ أبُو بَكْرٍ وعِنْدِي جارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ قالَتْ ولَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ أبِمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذالِكَ فِي يَوْمِ عيدٍ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدا وَهاذا عِيدُنَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة المروية عَن الْحَمَوِيّ غير ظَاهِرَة، أللهم إلاّ إِذا قُلْنَا بالتكلف، بِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَهَذَا عيدنا) ، تَقْرِير مِنْهُ لما وَقع من الجاريتين فِي هَذَا الْيَوْم الَّذِي هُوَ يَوْم السرُور والفرح، وَتَقْرِيره رِضَاهُ بذلك، والرضى مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقوم مقَام الدُّعَاء. وَأما مطابقته للتَّرْجَمَة المروية عَن الْأَكْثَرين فَلَا تتأتى إلاّ إِذا حملنَا لفظ السّنة على مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَبِهَذَا الْمِقْدَار يسْتَأْنس بِهِ وَجه الْمُطَابقَة. وَفِيه الْكِفَايَة، وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا قد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أَحْمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب عَن عَمْرو عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَهنا أخرجه: عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَمن زوائده على ذَاك قَوْله: (وليستا بمغنيتين) أَي: لَيْسَ الْغناء عَادَة لَهما وَلَا هما معروفتان بِهِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أَي: ليستا مِمَّن تغني بعادة الْمُغَنِّيَات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبب بِأَهْل الْجمال وَمَا يُحَرك النُّفُوس كَمَا قيل: الْغناء رقية الزِّنَا وليستا أَيْضا مِمَّن اشْتهر بِإِحْسَان الْغناء الَّذِي فِيهِ تمطيط وتكسير، وَعمل يُحَرك السَّاكِن وَيبْعَث الكامن، وَلَا مِمَّن اتَّخذهُ صَنْعَة وكسبا. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ الَّتِي اتَّخذت الْغناء صناعَة، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيق بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما الترنم بِالْبَيْتِ والبيتين وتطريب الصَّوْت بذلك مِمَّا لَيْسَ فِيهِ فحش أَو ذكر مَحْظُور فَلَيْسَ مِمَّا يسْقط الْمُرُوءَة، وَحكم الْيَسِير مِنْهُ خلاف حكم الْكثير. قَوْله: (أبمزامير؟) ويروى: (أمزامير؟) بِدُونِ الْبَاء أَي: أتلتبسون أَو تشتغلون بهَا، وَهُوَ جمع: مزمور، وَقد مر مَعْنَاهُ مستقصىً. قَوْله: (وَهَذَا عيدنا) يُرِيد بِهِ أَن إِظْهَار السرُور فِي الْعِيدَيْنِ من شَعَائِر الدّين وإعلاء أمره. قَالَه الْخطابِيّ: قيل: وَفِيه دَلِيل على أَن الْعِيد مَوْضُوع للراحات وَبسط النُّفُوس وَالْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع، أَلا ترى أَنه أَبَاحَ الْغناء من أجل عذر الْعِيد؟ /
4 - (بابُ الأكْلِ يَوْمَ الفطْرِ قَبْلَ الخُرُوجِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأكل يَوْم عيد الْفطر قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى لأجل صَلَاة الْعِيد.
953 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا هُشَيم قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله بنُ أبي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عَن أنَسٍ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يأكُلَ تَمَرَاتٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم الْمَشْهُور بالصاعقة، وَقد تقدم. الثَّانِي: سعيد بن سُلَيْمَان الملقب بسعدويه، وَقد تقدم. الثَّالِث: هشيم، بِضَم الْهَاء: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْقَاسِم ابْن دِينَار السّلمِيّ الوَاسِطِيّ. الرَّابِع: عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ ابْن أبي بكر بن أنس. الْخَامِس: جده أنس بن مَالك.(6/274)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بغدادي، وَسَعِيد وهشيم واسطيان وَعبيد الله مدنِي. وَفِيه: روى سعيد بن سُلَيْمَان عَن هشيم وَتَابعه أَبُو الرّبيع الزُّهْرِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وجبارة بن الْمُغلس عِنْد ابْن مَاجَه. قاال: حَدثنَا جبارَة بن الْمُغلس حَدثنَا هشيم عَن عبيد الله ابْن أبي بكر (عَن أنس بن مَالك قَالَ: كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يخرج يَوْم الْفطر حَتَّى يطعم تمرات) . وَرَوَاهُ عَن هشيم قُتَيْبَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَأحمد بن منيع عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة عِنْد ابْن حبَان وَعَمْرو بن عون عِنْد الْحَاكِم، فَقَالُوا كلهم: عَن هشيم عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن حَفْص بن عبيد الله ابْن أنس، وَأعله الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَن هشيما مُدَلّس، وَقد اخْتلف عَلَيْهِ. فِيهِ، وَابْن إِسْحَاق لَيْسَ من شَرط البُخَارِيّ. قلت: هشيم صرح هُنَا بالإخبار فأمن تدليسه على أَن البُخَارِيّ نزل فِيهِ دَرَجَة، لِأَن سعيد بن سُلَيْمَان من شُيُوخه، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث عَنهُ بِوَاسِطَة لكَونه لم يسمعهُ مِنْهُ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن ابْن مَاجَه أخرجه أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ لَا يَغْدُو) وَفِي لفظ ابْن مَاجَه: (لَا يخرج) ، وَفِي لفظ ابْن حبَان وَالْحَاكِم: (مَا خرج يَوْم فطر حَتَّى يَأْكُل تمرات) . قَوْله: (حَتَّى يَأْكُل تمرات) وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (حَتَّى يطعم تمرات) ، وَفِي لفظ ابْن حبَان: (حَتَّى يَأْكُل تمرات ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو سبعا أَو أقل من ذَلِك أَو أَكثر وترا) . وَفِي لفظ أَحْمد: (ويأكلهن أفرادا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن السّنة لَا يخرج إِلَى الْمصلى يَوْم عيد الْفطر إلاّ بعد أَن يطعم تمرات وترا وَله شَوَاهِد: مِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل، وَلَا يَأْكُل يَوْم الْأَضْحَى حَتَّى يرجع) . أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَفِي لفظ الْبَيْهَقِيّ: (فيأكل من كبد أضحيته) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى تغدى الصَّحَابَة من صَدَقَة الْفطر) ، أخرجه ابْن مَاجَه، وَفِي سَنَده عَمْرو بن صهْبَان وَهُوَ مَتْرُوك. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل يَوْم الْفطر قبل أَن يخرج إِلَى الْمصلى) ، أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالْبَزَّار فِي مُسْنده، وَزَاد: (فَإِذا خرج صلى رَكْعَتَيْنِ للنَّاس، وَإِذا رَجَعَ صلى فِي بَيته رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي قبل الصَّلَاة شَيْئا يَعْنِي يَوْم الْعِيد) . وروى التِّرْمِذِيّ، محسنا، عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من السّنة أَن يطعم الرجل يَوْم الْفطر قبل أَن يخرج إِلَى الْمصلى) ، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ وَعَن ابْن عَبَّاس. وَفِي (الْمُوَطَّأ) (عَن ابْن الْمسيب: أَن النَّاس كَانُوا يؤمرون بِالْأَكْلِ قبل الغدو يَوْم الْفطر) ، وَعَن الشَّافِعِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد (أَخْبرنِي صَفْوَان بن سليم أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يطعم قبل أَن يخرج إِلَى الْجَبانَة وَيَأْمُر بِهِ) . وَهَذَا مُرْسل، وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا عَن عَليّ وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِمَعْنَاهُ عَن ابْن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير (وَعَن السَّائِب بن يزِيد قَالَ: مَضَت السّنة أَن يَأْكُل قبل أَن يَغْدُو يَوْم الْفطر) وَعَن أبي إِسْحَاق (عَن رجل من الصَّحَابَة أَنه: كَانَ يَأْمر بِالْأَكْلِ يَوْم الْفطر قبل أَن يَأْتِي الْمصلى) ، وَحَكَاهُ عَن مُعَاوِيَة ابْن سُوَيْد بن مقرن وَابْن مُغفل وَعُرْوَة وَصَفوَان بن مُحرز وَابْن سِيرِين وَعبد الله بن شَدَّاد وَالْأسود بن يزِيد وَأم الدَّرْدَاء وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَتَمِيم بن سَلمَة وَأبي مخلد، وَعَن عبد الله بن نمير: (حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يخرج الى الْمصلى وَلَا يطعم شَيْئا) ، وَحدثنَا هشيم (أخبرنَا مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: إِن طعم فَحسن وَإِن لم يطعم فَلَا بَأْس) ، وَحَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن مَسْعُود (إِن شَاءَ أكل وَإِن شَاءَ لم يَأْكُل) ، وَعَن النَّخعِيّ مثله، وَكَانَ بعض التَّابِعين يَأْمُرهُم بِالْأَكْلِ فِي الطَّرِيق، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر اسْتِحْبَاب الْأكل. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي اسْتِحْبَاب التَّمْر؟ قلت: قيل: لما فِي الحلو من تَقْوِيَة الْبَصَر الَّذِي يُضعفهُ الصَّوْم، وَهُوَ أيسر من غَيره، وَمن ثمَّة اسْتحبَّ بعض التَّابِعين أَن يفْطر على الحلو مُطلقًا كالعسل، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة وَابْن سِيرِين وَغَيرهمَا، وروى فِيهِ حِكْمَة أُخْرَى عَن ابْن عون أَنه سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنَّه يحبس الْبَوْل. قلت: يحْتَمل أَن يكون التَّعْيِين فِي التَّمْر لكَونه أيسر الْمَوْجُود وَأَكْثَره وَأكْثر قوتهم مَعَ مَا فِيهِ من الحلو. وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ أَن النَّخْلَة ممثلة بِالْمُسلمِ، وَقيل: لِأَنَّهَا هِيَ الشَّجَرَة الطّيبَة. وَأما الْحِكْمَة فِي جَعلهنَّ وترا فَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوتر فِي جَمِيع أُمُوره استشعارا للوحدانية، وَأما الْحِكْمَة فِي نفس الْأكل قبل صَلَاة عيد الْفطر(6/275)
فلئلا يظنّ أَن الصّيام يلْزم يَوْم الْفطر إِلَى أَن يُصَلِّي صَلَاة الْعِيد مَعَ التأسي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ مُرَجَّى رَجاء حدَّثني عُبَيْدُ الله قَالَ حدَّثني أنسٌ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويَأكُلُهُنَّ وَتْرا
ذكر البُخَارِيّ هَذَا الْمُعَلق لإِفَادَة أَرْبَعَة أَشْيَاء: الأول: أَن فِيهِ التَّصْرِيح بِإِخْبَار عبيد الله بن أبي بكر عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن فِي الرِّوَايَة الأولى: عنعنة. وَالثَّانِي: الْإِشَارَة إِلَى أَن الْأكل مُقَيّد بالوتر للحكمة الَّتِي ذَكرنَاهَا. وَالثَّالِث: الْإِشَارَة إِلَى أَن مرجَّى قد تَابع هشيما على رِوَايَته عَن عبيد الله بن أبي بكر. وَالرَّابِع: أَن مرجَّى، ضم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَتَشْديد الْجِيم الْمَفْتُوحَة وَالْيَاء الْمَقْصُورَة، ورجاء، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْجِيم وبالمد: السَّمرقَنْدِي.
5 - (بابُ الأكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأكل يَوْم عيد النَّحْر، وَلم يذكر الْأكل هُنَا فِي وَقت معِين كَمَا ذكره معينا فِي بَاب الْأكل يَوْم الْفطر، فَإِنَّهُ قَيده بقوله: قبل الْخُرُوج، يَعْنِي إِلَى الْمصلى، لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب: فَقَامَ رجل فَقَالَ: هَذَا يَوْم يشتهى فِيهِ اللَّحْم، وَلم يُقيد بِوَقْت، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الْبَراء: (إِن الْيَوْم يَوْم أكل وَشرب) ، وَلَكِن يُمكن أَن يكون المُرَاد من الْيَوْم بعض الْيَوْم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} (سُورَة: {} ) . ثمَّ إِن هَذَا الْبَعْض مُجمل، وَقد فسره فِي حَدِيث بُرَيْدَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، فَإِنَّهُ بَين فِيهِ أَن وَقت الْأكل فِي هَذَا الْيَوْم بعد الصَّلَاة، كَمَا بَين أَن وقته فِي عيد الْفطر قبل الصَّلَاة.
954 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أنَسٍ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ فقامَ رَجُلٌ فَقَالَ هاذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيِهِ اللَّحْمُ وذَكَرَ منْ جِيرَانِهِ فكأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَّقَهُ قالَ وَعِنْدِي جذَعَةٌ أحَب ألَيَّ مِنْ شَاتِي لَحْمٍ فَرَخَّصَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ أدْرِي أبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أمْ لاَ؟ .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (هَذَا يَوْم يَشْتَهِي فِيهِ اللَّحْم) ، فَإِنَّهُ أطلق ذكر الْيَوْم، وَكَذَلِكَ فِي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن مُسَدّد، وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَعَن صَدَقَة بن الْفضل، وَفِي صَلَاة الْعِيد عَن حَامِد بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن يحيى بن أَيُّوب وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن علية بِهِ، وَعَن زِيَاد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة، وَفِي الْأَضَاحِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَضَاحِي عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من ذبح قبل الصَّلَاة فليعد) ، أَي: من ذبح أضحيته قبل صَلَاة عيد الْأَضْحَى فليعد أضحيته، لِأَن الذّبْح للتضحية لَا يَصح قبل الصَّلَاة. قَوْله: (فَقَامَ رجل) هُوَ أَبُو بردة بن نيار كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعده وَهُوَ خَال الْبَراء بن عَازِب. قَوْله: (فَقَالَ هَذَا يَوْم يُشتهى فِيهِ اللَّحْم) ، وَهَذَا يدل على أَنه يَوْم فطر. قَوْله: (وَذكر من جِيرَانه) ، يَعْنِي: ذكر مِنْهُم فَقرهمْ واحتياجهم، كَمَا يَجِيء هَذَا الْمَعْنى فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي: بَاب كَلَام الإِمَام وَالنَّاس فِي خطْبَة الْعِيد، وَفِي لفظ: (وَذكره هنة من جِيرَانه، وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَة شَيْخه قطب الدّين، وبخط الدمياطي. وَذكر) : (من جِيرَانه) بِدُونِ لفظ: هنة، كَمَا هُوَ الْمَذْكُور هَهُنَا، والهنة: الْحَاجة والفقر، وَحكى الْهَرَوِيّ عَن بَعضهم شدّ النُّون فِي: هن وهنة، وَأنْكرهُ الْأَزْهَرِي، وَقَالَ الْخَلِيل: من الْعَرَب من يسكنهُ يجريه مجْرى: من، وَمِنْهُم من ينونه فِي الْوَصْل، قَالَ ابْن قرقول: وَهُوَ أحسن من الإسكان. قَوْله:(6/276)
(فَكَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقه) أَي: فِيمَا قَالَ عَنْهُم. قَوْله: (جَذَعَة) ، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة: الطاعنة فِي السّنة الثَّانِيَة، وَالذكر الْجذع، وَعَن الْأَصْمَعِي: الْجذع من الْمعز لسنة وَمن الضان لثمانية أشهر أَو تِسْعَة. وَفِي (الصِّحَاح) : وَالْجمع جذعات. وَفِي (الْمُحكم) الْجذع الصَّغِير السن. وَقيل: الْجذع من الْغنم، تَيْسًا كَانَ أَو كَبْشًا: الدَّاخِل فِي السّنة الثَّانِيَة، وَقيل: الْجذع من الْغنم لسنة وَالْجمع جذعات وجذعان وجذاع وَالِاسْم: الجذوعة، وَقيل: الجذوعة فِي الدَّوَابّ والأنعام قبل أَن يثنى بِسنة، وَفِي (الموعب) : الْجَذعَة السمينة من الضان، وَالْجمع: جذع، وَعَن عِيَاض: الْجذع مَا قوي من الْغنم قبل أَن يحول عَلَيْهِ الْحول فَإِذا تمّ لَهُ حول صَار ثنيا. قَوْله: (فَلَا أَدْرِي) أَي: هَذَا الحكم كَانَ خَاصّا بِهِ أَو عَاما لجَمِيع الْمُكَلّفين، وَهَذَا يدل على أَن أنسا لم يبلغهُ. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تذبحوا إلاّ مُسِنَّة) . قَوْله: (الرُّخْصَة) أَي: فِي تضحية الْجَذعَة، وَالْمرَاد مِنْهَا: جَذَعَة الْمعز، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (عنَاقًا جَذَعَة) ، والعناق من أَوْلَاد الْمعز.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن من ذبح أضحيته قبل صَلَاة الْعِيد فَإِنَّهُ لَا يجوز، وَوقت الْأُضْحِية يدْخل بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر، وَقَالَ إِسْحَاق وَأحمد وَابْن الْمُنْذر: إِذا مضى من نَهَار يَوْم الْعِيد قدر مَا تحل فِيهِ الصَّلَاة والخطبتان جَازَت الْأُضْحِية، سَوَاء صلى الإِمَام أَو لم يصل، وَسَوَاء كَانَ فِي الْمصر أَو فِي الْقرى، وَعِنْدنَا: لَا يجوز لأهل الْأَمْصَار أَن يضحوا حَتَّى يُصَلِّي الإِمَام الْعِيد، فَأَما أهل السوَاد فَيذبحُونَ بعد الْفجْر، وَلَا يشْتَرط فيهم صَلَاة الإِمَام، وَاشْترط الشَّافِعِي فرَاغ الإِمَام عَن الْخطْبَة، وَاشْترط مَالك نحر الإِمَام، وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِي الإِمَام الَّذِي لَا يجوز أَن يُضحي قبل تضحيته، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَمِير الْبَلَد، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاة الْعِيد. وَفِيه: مواساة الْجِيرَان بِالْإِحْسَانِ. وَفِيه: أَن جَوَاز التَّضْحِيَة بالجذعة من الْمعز اخْتصَّ لأبي بردة، وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْجَذعَة من الْمعز لَا تجوز بِخِلَاف جَذَعَة الضَّأْن، وَقد قُلْنَا: إِن المُرَاد من الْجَذعَة فِي الحَدِيث الْجَذعَة من الْمعز لَا الْجَذعَة من الضان، لما فِي رِوَايَة مُسلم: (لَا تذبحوا إلاّ مُسِنَّة) ، وَهِي التَّثْنِيَة من كل شَيْء، فَفِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ: لَا تجوز الْجَذعَة من غير الضَّأْن، وَحكي عَن الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء جَوَاز الْجذع من كل حَيَوَان حَتَّى الْمعز، وَكَأن الحَدِيث لم يبلغهما. وَفِيه: حجَّة لأبي حنيفَة على وجوب الْأُضْحِية لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِعَادَة أضْحِية من ذَبحهَا قبل الصَّلَاة، وَلَو لم تكن وَاجِبَة لما أَمر بإعادتها عِنْد وُقُوعهَا فِي غير محلهَا.
955 - حدَّثنا عُثْمَانُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ الشَّعْبيِّ عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خطَبَنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَالَ منْ صَلى صَلاَتَنَا أوْ نَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أصِابَ النُّسْكَ ومَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فإنَّهُ قَبْلَ الصَّلاَةِ ولاَ نُسُكَ لَهُ فقالَ أبُو بُرْدَةَ ابنُ نِيَارٍ خالُ البَرَاءِ يَا رسولَ الله فَإنِّي نَسَكْتُ شاتِي قَبْلَ الصَّلاَةِ وعَرَفْتُ أنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أكْلٍ وشُرْبٍ وأحْبَبْتُ أنْ تَكُونَ شاتِي أوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي فَذَبَحْتُ شاتِي وتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أنْ آتِيَ الصَّلاَةَ قَالَ شاتُكَ شاةُ لَحْمٍ قَالَ يَا رسولَ الله فإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقا لَنَا جَذَعَةً هِيَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أفَتَجْزِي عَنِّي قَالَ نَعَمْ ولَنْ تَجْزِيَ عنْ أحَدٍ بَعْدَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَعرفت أَن الْيَوْم يَوْم أكل وَشرب) ، وَلِهَذَا إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعنف أَبَا بردة لما قَالَ لَهُ: (تغديت قبل أَن آتِي الصَّلَاة) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة إسمه إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي، أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، مَاتَ فِي الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد الضَّبِّيّ، أَبُو عبد الله الرَّازِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر الْكُوفِي. الرَّابِع: الشّعبِيّ عَامر ابْن شرَاحِيل. الْخَامِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي(6/277)
موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون، وَجَرِير أَصله من الْكُوفَة. وَفِيه: أَنه ذركر شَيْخه بِلَا نِسْبَة لشهرته، وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ونسك نسكنا) ، يُقَال: نسك ينْسك من بَاب: نصر ينصر، نسكا بِفَتْح النُّون: إِذا ذبح، والنسيكة الذَّبِيحَة، وَجَمعهَا: نسك، وَمعنى: (من نسك نسكنا) أَن من ضحى مثل ضحيتنا. وَفِي (الْمُحكم) : نسك، بِضَم السِّين عَن اللحياني، والنسك الْعِبَادَة، وَقيل لثعلب: هَل يُسمى الصَّوْم نسكا؟ فَقَالَ: كل حق لله عز وَجل يُسمى نسكا، والمنسك والمنسك شرعة النّسك، وَرجل ناسك أَي: عَابِد، وتنسك: إِذا تعبد. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: النّسك، حَاصِل الْمَعْنى أَن من نسك قبل الصَّلَاة فَلَا اعْتِدَاد بنسكه، وَلَفظ: (وَلَا نسك لَهُ) كالتوضيح وَالْبَيَان لَهُ. قَوْله: (أَبُو بردة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء: واسْمه هانىء، بالنُّون ثمَّ بِالْهَمْز: ابْن عَمْرو بن عبيد البلوي الْمدنِي، وَقيل: اسْمه الْحَارِث بن عَمْرو، وَيُقَال: مَالك بن هُبَيْرَة، وَالْأول أصح، ونيار، بِكَسْر النُّون وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف رَاء. قَوْله: (أول شَاة) بِالْإِضَافَة، ويروى بِدُونِ الْإِضَافَة مَفْتُوحًا ومضموما. أما الضَّم فَلِأَنَّهُ من الظروف المقطوعة عَن الْإِضَافَة، نَحْو: قبل وَبعد، وَأما الْفَتْح فَلِأَنَّهُ من الْمُضَاف إِلَى الْجُمْلَة، فَيجوز أَن يُقَال: إِنَّه مَبْنِيّ على الْفَتْح، أَو: إِنَّه مَنْصُوب، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ خبر الْكَوْن. قَوْله: (شَاتك شَاة لحم) ، أَي: لَيست أضْحِية وَلَا ثَوَاب فِيهَا، بل هِيَ لحم لَك تنْتَفع بِهِ. قيل: هُوَ كَقَوْلِهِم: خَاتم فضَّة، كَأَن الشَّاة شَاتَان شَاة تذبح لأجل اللَّحْم، وَشاء تذبح لأجل التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (لنا جَذَعَة) ، هما صفتان للعناق، وَلَا يُقَال: عناقة، لِأَنَّهُ مَوْضُوع للْأُنْثَى من ولد الْمعز، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّاء الفارقة بَين الْمُذكر والمؤنث. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْجمع عنوق وأعنق، وَعَن ابْن دُرَيْد: وعنق. قَوْله: (أحب إِلَيّ من شَاتين) يَعْنِي: من جِهَة طيب لَحمهَا وسمنها وَكَثْرَة قيمتهَا. قَوْله: (أفتجرىء؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (وَلنْ تجزي) قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بِفَتْح التَّاء، هَكَذَا الرِّوَايَة فِيهِ فِي جَمِيع الْكتب، وَمَعْنَاهُ: لن تَكْفِي كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} . (الْبَقَرَة: 48، 23) . {وَلَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده} (لُقْمَان: 33) . وَفِي (التَّوْضِيح) : هُوَ من جزى يَجْزِي بِمَعْنى: قضى، وأجزى يجزى بِمَعْنى: كفى. قَوْله: (بعْدك) أَي: غَيْرك، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد فِي تضحية الْمعز من الثني وَهَذَا من خَصَائِص أبي بردة، كَمَا أَن قيام شَهَادَة خُزَيْمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مقَام شهادتين من خَصَائِص خُزَيْمَة، وَمثله كثير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْخطْبَة يَوْم الْعِيد بعد الصَّلَاة. وَفِيه: أَن يَوْم النَّحْر يَوْم أكل إلاّ أَنه لَا يسْتَحبّ فِيهِ الْأكل قبل الْمُضِيّ إِلَى الصَّلَاة. قَالَ ابْن بطال: وَلَا ينْهَى عَنهُ، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث لم يحسن أكل الْبَراء وَلَا عنفه عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَجَابَهُ عَمَّا بِهِ الْحَاجة إِلَيْهِ من سنة الذّبْح، وعذره فِي الذّبْح لما قَصده من إطْعَام جِيرَانه لحاجتهم وفقرهم، وَلم ير صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخيب فعلته الْكَرِيمَة، فَأجَاز لَهُ أَن يُضحي بالجذعة من الْمعز، وَقد مرت بَقِيَّة الْكَلَام فِيمَا مضى عَن قريب.
6 - (بابُ الخُرُوجِ إِلَى المُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَر)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خُرُوج الإِمَام إِلَى مصلى صَلَاة الْعِيد بِغَيْر مِنْبَر أَرَادَ أَن يبين أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج إِلَى الْجَبانَة يَوْم عيد الْأَضْحَى وَالْفطر لأجل الصَّلَاة وَكَانَ يخْطب قَائِما بِغَيْر مِنْبَر وَذَلِكَ لأجل تواضعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
956 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أخبرَني زيْدٌ عنْ عِيَاضِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي سَرْحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأضْحَى إلَى المُصَلَّى فَأوَّلُ شيءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ والنَّاسُ جُلُوسٌ عَلى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظَهُمْ ويُوصِيهِمْ ويَأمُرُهُمْ فإنْ كانَ يُريدُ أنْ يَقْطَعَ بعْثا قَطَعَهُ أوْ يَأْمُرَ بِشَيءٍ أمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أبُو سَعِيدٍ فَلَمْ يَزَلِ (النَّاسُ عَلى ذالِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهْوَ أمِيرُ المَدِينَةِ فِي أضْحًى أوْ فِطْرٍ فلَمَّا أتَيْنَا المُصَلَّى اذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بنُ الصَّلْتِ فإذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أنْ يُصَلَّيَ فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فجَبَذَنِي فارْتَفَعَ فَخطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ(6/278)
فقُلْتُ لَهُ غَيَّرْتُمْ وَالله فَقَالَ أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ فَقُلْتُ مَا أعْلَمُ وَالله خَيْرٌ مِمَّا لاَ أعْلَمُ فَقالَ إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَجَعَلْتُهَا قَبلَ الصَّلاَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مصلى الْعِيد بِغَيْر مِنْبَر يحمل مَعَه وَلَا معد لَهُ هُنَاكَ قبل خُرُوجه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم لِأَن الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد تقدم فِي: بَاب ترك الْحَائِض الصَّوْم، لِأَنَّهُ ذكر أول الحَدِيث هُنَاكَ مُخْتَصرا. وَمُحَمّد بن جَعْفَر هُوَ ابْن أبي كثير. وَرِجَاله كلهم مدنيون. وَقَوله: عَن أبي سعيد، فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: عَن دَاوُد بن قيس عَن عِيَاض، قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد، وَكَذَا أخرجه أَبُو عوَانَة من طَرِيق ابْن وهب عَن دَاوُد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِلَى الْمصلى) ، بِضَم الْمِيم: هُوَ مَوضِع بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوف، بَينه وَبَين بَاب الْمَسْجِد ألف ذِرَاع، قَالَه عمر ابْن شيبَة فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) عَن أبي غَسَّان الكتاني صَاحب مَالك، رَحمَه الله. قَوْله: (فَأول شَيْء) ارْتِفَاع أول على أَنه مُبْتَدأ وَقَوله: (الصَّلَاة) ، خَبره وَلَفظ: أول، وَإِن كَانَ نكرَة فقد تخصص بِالْإِضَافَة، وَالْأولَى أَن تكون: الصَّلَاة، مُبْتَدأ. وَأول، خَبره، وَقَوله: (يبْدَأ بِهِ) جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لشَيْء. قَوْله: (ثمَّ ينْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (فَيقوم مُقَابل النَّاس) أَي: مواجها لَهُم، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان من طَرِيق دَاوُد بن قيس: (فَيَنْصَرِف إِلَى النَّاس قَائِما فِي مُصَلَّاهُ) . وروى ابْن خُزَيْمَة فِي مُخْتَصره: (خطب يَوْم عيد على رجلَيْهِ) . قَوْله: (وَالنَّاس جُلُوس) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، و: جُلُوس، جمع جَالس. قَوْله: (فيعظهم) من: وعظ يعظ وعظا وعظة، و: (يوصيهم) من: وصّى يُوصي توصية، وَمعنى: يَعِظهُمْ: يخوفهم بعواقب الْأُمُور، وَمعنى يوصيهم فِي حق الْغَيْر: لينصحوا لَهُم، وَمعنى: (يَأْمُرهُم) يَأْمر بالحلال وَالْحرَام. قَوْله: (فَإِن كَانَ يُرِيد) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَانَ يُرِيد فِي ذَلِك الْوَقْت (أَن يقطع بعثا) أَي: أَن يفرد قوما من غَيرهم بَعثهمْ إِلَى الْغَزْو، والبعث، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة بِمَعْنى الْمَبْعُوث وَهُوَ: الْجَيْش. قَوْله: (قطعه) أَي: أفرده، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى الْبَعْث. قَوْله: (أَو يَأْمر بِشَيْء) بِالنّصب أَي: أَو إِن كَانَ يُرِيد أَن يَأْمر بِشَيْء مِمَّا يتَعَلَّق بِالْبَعْثِ لأمر بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بتكرار لِأَن مَعْنَاهُ غير معنى الأول على مَا لَا يخفى. قَوْله: (ثمَّ ينْصَرف) أَي: ثمَّ هُوَ ينْصَرف إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله: (قَالَ أَبُو سعيد) هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ الرَّاوِي واسْمه: سعد بن مَالك. قَوْله: (على ذَلِك) أَي: على الِابْتِدَاء بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة بعْدهَا. قَوْله: (حَتَّى خرجت مَعَ مَرْوَان) وَهُوَ ابْن الحكم كَانَ مُعَاوِيَة اسْتَعْملهُ على الْمَدِينَة، وَقد مر ذكره فِي: بَاب البزاق فِي الْمَسْجِد، وَزَاد عبد الرَّزَّاق عَن دَاوُد ابْن قيس وَهُوَ بيني وَبَين أبي مَسْعُود، يَعْنِي: عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، يَعْنِي: مَرْوَان بيني وَبَين أبي مَسْعُود. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: ومروان، وَالْوَاو للْحَال. قَوْله: (أَو فطر) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (إِذا مِنْبَر) كلمة: إِذا، للمفاجأة وارتفاع: مِنْبَر، على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (بناه مَرْوَان) ، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر محذوفا تَقْدِيره: إِذا مِنْبَر هُنَاكَ، وَيكون (بِنَاء كثير) ، جملَة حَالية، وَالْعَامِل فِي: إِذا، معنى المفاجأة، وَالْمعْنَى: فاجأنا الْمِنْبَر زمَان الْإِتْيَان. وَقيل: إِذا، حرف لَا يحْتَاج إِلَى عَامل. قَوْله: (كثير بن الصَّلْت) ، كثير ضد الْقَلِيل والصلت، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ كثير بن الصَّلْت بن مُعَاوِيَة الْكِنْدِيّ، ولد فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقدم الْمَدِينَة هُوَ وأخوته بعده، فسكنها وحالف بني جميح، وروى ابْن سعد بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى نَافِع قَالَ: كَانَ إسم كثير بن الصَّلْت قَلِيلا، فَسَماهُ عمر كثيرا، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فوصله بِذكر ابْن عمر وَرَفعه بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأول أصح. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : كثير بن الصَّلْت بن معدي كرب الْكِنْدِيّ أَخُو زبيد، ولد فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم روى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن كثير بن الصَّلْت كَانَ اسْمه: قَلِيلا فَسَماهُ النَّبِي كثيرا. الْأَصَح أَن الَّذِي سَمَّاهُ كثيرا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. انْتهى. وَقد صَحَّ سَماع كثير من عَمْرو من بعده. وَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ تَابِعِيّ مدنِي ثِقَة. وَكَانَ لَهُ شرف وَحَال جميلَة فِي نَفسه، وَله دَار كَبِيرَة بِالْمَدِينَةِ فِي الْمصلى وقبلة الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ إِلَيْهَا، وَكَانَ كَاتبا لعبد الْملك بن مَرْوَان على الرسائل، وَهُوَ ابْن أخي جمد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم أَو فتحهَا: أحد مُلُوك كِنْدَة الَّذين قتلوا فِي الرِّدَّة، وَقد ذكر ابْن مَنْدَه: الصَّلْت، فِي الصَّحَابَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: والصلت أَبُو زبيد الْكِنْدِيّ مُخْتَلف فِي صحبته، وروى عَنهُ ابْنه زبيد، وَكثير. قَوْله: (أَن يرتقيه) أَي: يُرِيد أَن يصعد إِلَيْهِ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (فجبذت بِثَوْبِهِ) الجابذ هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ إِنَّمَا جبذه ليبدأ بِالصَّلَاةِ قبل(6/279)
الْخطْبَة على الْعَادة. قَوْله: (فارتفع) أَي: مَرْوَان على الْمِنْبَر. قَوْله: (غيرتم) خطاب لمروان وَأَصْحَابه، أَي: غيرتم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه فَإِنَّهُم كَانُوا يقدمُونَ الصَّلَاة على الْخطْبَة. قَوْله: (مَا أعلم) أَي: الَّذِي أعلمهُ خير لِأَنَّهُ هُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يكون غَيره خيرا مِنْهُ؟ قَوْله: (وَالله) قسم معترض بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. قَوْله: (فجعلتها) أَي: الْخطْبَة، فالقرينة تدل على هَذَا، وَإِن لم يمض ذكر الْخطْبَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخْطب فِي الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ وَهُوَ وَاقِف وَلم يكن على الْمِنْبَر وَلم يكن فِي الْمصلى فِي زَمَانه مِنْبَر، وَمُقْتَضى قَول أبي سعيد: إِن أول من اتخذ الْمِنْبَر فِي الْمصلى مَرْوَان، وَقد رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من رِوَايَة عِيَاض: (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج يَوْم الْأَضْحَى. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فَخرجت محاضرا مَرْوَان حَتَّى أَتَيْنَا الْمصلى، فَإِذا كثير بن الصَّلْت قد بنى منبرا من طين وَلبن. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلف فِي أول من فعل ذَلِك. فَقيل: عمر بن الْخطاب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَهُوَ شَاذ. وَقيل: عُثْمَان، وَلَيْسَ لَهُ أصل. وَقيل: مُعَاوِيَة، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض. وَقيل: زِيَاد بِالْبَصْرَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، حَكَاهُ عِيَاض أَيْضا. بل الصَّوَاب أَن أول من فعله مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا اخْتصَّ كثير بن الصَّلْت بِبِنَاء الْمِنْبَر بالمصلى لِأَن دَاره كَانَت مجاورة بالمصلى على مَا يَجِيء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْعلم الَّذِي عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت. قَالَ ابْن سعيد: كَانَت دَار كثير بن الصَّلْت قبْلَة الْمصلى فِي الْعِيدَيْنِ وَهِي تطل على بطحان الْوَادي الَّذِي فِي وسط الْمَدِينَة. وَفِيه: الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَإِن كَانَ الْمُنكر عَلَيْهِ واليا، أَلا يرى أَن أَبَا سعيد كَيفَ أنكر على مَرْوَان وَهُوَ والٍ بِالْمَدِينَةِ. وَفِيه: أَن الصَّلَاة قبل الْخطْبَة، وَلِهَذَا أنكر أَبُو سعيد على مَرْوَان خطبَته قبل الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي والمغيرة وَأَبُو مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر وَإِسْحَاق وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَعند الْحَنَفِيَّة والمالكية: لَو خطب قبلهَا جَازَ وَخَالف السّنة وَيكرهُ، وَلَا يكره الْكَلَام عِنْدهَا. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لمروان تَغْيِير السّنة؟ قلت: تَقْدِيم الصَّلَاة فِي الْعِيد لَيْسَ وَاجِبا فَجَاز تَركه. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّه لَيْسَ تغييرا للسّنة لما فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْجُمُعَة، وَلِأَن الْمُجْتَهد قد يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَى ترك الأولى إِذا كَانَ فِيهِ الْمصلحَة. انْتهى. قلت: حمل أَبُو سعيد فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّعْيِين، وَحمله مَرْوَان على الْأَوْلَوِيَّة وَاعْتذر عَن ترك الأولى بِمَا ذكره من تغير حَال النَّاس، فَرَأى أَن الْمُحَافظَة على أصل السّنة وَهُوَ اسْتِمَاع الْخطْبَة أولى من الْمُحَافظَة على هَيْئَة لَيست من شَرطهَا. فَإِن قلت: وَقع عِنْد مُسلم من طَرِيق طَارق بن شهَاب، قَالَ: أول من بَدَأَ بِالْخطْبَةِ يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة مَرْوَان، فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ: الصَّلَاة قبل الْخطْبَة، فَقَالَ: قد ترك مَا هُنَالك. فَقَالَ أَبُو سعيد: أما هَذَا فقد قضى مَا عَلَيْهِ، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه غير أبي سعيد. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون هُوَ أَبَا مَسْعُود الَّذِي وَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق أَنه كَانَ مَعَهُمَا، وَيحْتَمل تعدد الْقَضِيَّة. فَإِن قلت: روى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنِي دَاوُد بن الْحصين عَن عبد الله بن يزِيد الخطمي: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا يبدأون بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة حَتَّى قدم مُعَاوِيَة فَقدم مُعَاوِيَة الْخطْبَة) ، وَهَذَا يدل على أَن ذَلِك لم يزل إِلَى آخر زمن عُثْمَان، وَعبد الله صَحَابِيّ، وَإِنَّمَا قدم مُعَاوِيَة فِي حَال خِلَافَته. وَحَدِيث أبي سعيد هَذَا: أول من قدمهَا مَرْوَان. قلت: يُمكن الْجمع بِأَن مَرْوَان كَانَ أَمِيرا على الْمَدِينَة لمعاوية فَأمره مُعَاوِيَة بتقديمها، فنسب أَبُو سعيد التَّقْدِيم إِلَى مَرْوَان لمباشرته التَّقْدِيم، وَنسبه عبد الله إِلَى مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَمر بِهِ. وَفِيه: بُنيان الْمِنْبَر، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا أَن يكون بِاللَّبنِ والطين لَا من الْخشب لكَونه يتْرك بالصحراء فِي غير حرز فَلَا يخَاف عَلَيْهِ من النَّقْل، بِخِلَاف مَنَابِر الْجَوَامِع. وَفِيه: إِخْرَاج الْمِنْبَر إِلَى الْمصلى فِي الأعياد، قِيَاسا على الْبناء، وَعَن بَعضهم: لَا بَأْس بِإِخْرَاج الْمِنْبَر، وَعَن بَعضهم: كره بُنْيَانه فِي الْجَبانَة، ويخطب قَائِما أَو على دَابَّته. وَعَن أَشهب: إِخْرَاج الْمِنْبَر إِلَى الْعِيدَيْنِ وَاسع، وَعَن مَالك: لَا يخرج فيهمَا، من شَأْنه أَن يخْطب إِلَى جَانِبه، وَإِنَّمَا يخْطب على الْمِنْبَر الْخُلَفَاء. وَفِيه: إِن الْمِنْبَر لم يكن قبل بِنَاء كثير بن الصَّلْت. وَفِيه: مُوَاجهَة الْخَطِيب للنَّاس، وَأَنَّهُمْ بَين يَدَيْهِ. وَفِيه:(6/280)
البروز إِلَى الْمصلى وَالْخُرُوج إِلَيْهِ، وَلَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلاّ عَن ضَرُورَة، وروى ابْن زِيَاد عَن مَالك، قَالَ: السّنة الْخُرُوج إِلَى الْجَبانَة إِلَّا لأهل مَكَّة، فَفِي الْمَسْجِد، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : بلغنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج فِي الْعِيدَيْنِ إِلَى الْمصلى بِالْمَدِينَةِ وَكَذَا من بعده إِلَّا من عذر مطر وَنَحْوه، وَكَذَا عَامَّة أهل الْبلدَانِ إلاّ مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى. وَفِيه: جَوَاز عمل الْعَالم بِخِلَاف الأولى، لِأَن أَبَا سعيد حضر الْخطْبَة وَلم ينْصَرف فيستدل بِهِ على أَن الْبدَاءَة بِالصَّلَاةِ فِيهَا لَيست بِشَرْط فِي صِحَّتهَا. وَفِيه: وعظ الإِمَام فِي صَلَاة الْعِيد ووصيته وتخويفه عَن عواقب الْأُمُور، وَفِيه: أَن الزَّمَان تغير فِي زمن مَرْوَان.
7 - (بابُ المَشْي والرُّكُوبِ إِلَى العِيدِ والصَّلاَةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ بِغَيْرِ أذَانٍ ولاَ إقَامَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَشْي وَالرُّكُوب إِلَى صَلَاة الْعِيد، وَبَيَان حكم الصَّلَاة قبل الْخطْبَة بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة.
759 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله كانَ يُصَلِّي فِي الأضْحَى والفِطْرِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاَةِ. (الحَدِيث 957 طرفه فِي: 963) .
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، وَهُوَ: الصَّلَاة قبل الْخطْبَة، ولترجمة الْبَاب ثَلَاثَة أَجزَاء: الأول: فِي صفة التَّوَجُّه، وَالثَّانِي: فِي تَأْخِير الْخطْبَة عَن الصَّلَاة، وَالثَّالِث: فِي ترك النداء فِيهَا. وطابق قَوْله: (كَانَ يُصَلِّي ثمَّ يخْطب) ، الْجُزْء الثَّانِي من التَّرْجَمَة صَرِيحًا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله، أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي: نِسْبَة إِلَى حزَام أحد أجداده، واشتبه بالحرامي، بِفَتْح الْحَاء وَتَخْفِيف الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ. الثَّانِي: أنس بن عِيَاض أَبُو ضَمرَة وَلَيْسَ هُوَ بأخي يزِيد بن عِيَاض، وَلَيْسَ بَينهمَا قرَابَة. الثَّالِث: عبد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم مدنيون.
وروى مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا عبد بن سُلَيْمَان وَأَبُو أُسَامَة عَن عبيد الله عَن نَافِع، (عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر كَانُوا يصلونَ الْعِيدَيْنِ قبل الْخطْبَة) .
958 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوساى قَالَ أخبرنَا هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءٌ عنْ جَابِرِ ابنِ عَبْدِ الله. قَالَ سَمِعْتُهُ يقُولُ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ فبَدَأ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ.
960 - وَأَخْبرنِي عَطَاءٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وعنْ جَابِرِ ابنِ عَبْدِ الله قالاَ لَمْ يَكُنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ الفِطْرِ وَلاَ يَوْمَ الأضْحَى.
961 - وعَنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُهُ يقُولُ إنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ فَبَدأ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ بَعْدُ فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَزَلَ فأتَى النِّسَاءَ فَذَكَرَهُنَّ وَهْوَ يتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ وبِلاَلٌ باسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءَ صَدَقةً قَالَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ أتَرَى حَقَّا عَلَى الإمامِ الآنَ أنْ يَأتِيَ النِّسَاءُ فَيُذَكِّرَهُنَّ حِينَ يَفْرَغُ قَالَ إِن ذالكَ لَحَق عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ أنْ لاَ يَفْعَلُوا. (انْظُر الحَدِيث 958 وطرفه) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للجزء الثَّانِي وَالثَّالِث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأما مطابقته فِي الثَّانِي فَفِي قَوْله: (فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة) ، وَفِي قَوْله: (قَامَ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثمَّ خطب النَّاس) ، وَأما مطابقته فِي الثَّالِث فَفِي قَوْله: (لم يكن يُؤذن بِالصَّلَاةِ يَوْم الْفطر وَلَا يَوْم الْأَضْحَى) ، وَبَقِي الْجُزْء الأول خَالِيا عَن حَدِيث يدل عَلَيْهِ ظَاهرا، وَلِهَذَا اعْترض ابْن التِّين فَقَالَ، لَيْسَ فِيمَا ذكره من الْأَحَادِيث(6/281)
مَا يدل على مشي وَلَا ركُوب. وَأجِيب: بِأَن عدم ذَلِك مشْعر بتسويغ كل مِنْهُمَا، وَأَنه لَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَلَكِن يسْتَأْنس فِي ذَلِك من قَوْله: (وَهُوَ يتَوَكَّأ على يَد بِلَال) لِأَن فِيهِ تَخْفِيفًا عَن مشقة الْمَشْي، فَكَذَلِك فِي الرّكُوب هَذَا الْمَعْنى، فَفِي كل من التوكىء وَالرُّكُوب ارتفاق، وَإِن كَانَ الرّكُوب أبلغ فِي ذَلِك.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة بِالْيمن. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس. السَّابِع: عبد الله ابْن الزبير.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي أَرْبَعَة مواضة. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه رازي وَالثَّانِي من الروَاة يماني وَالثَّالِث وَالرَّابِع مكيان. وَفِيه: أَن هشاما من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن رَافع، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عبد الرَّزَّاق وَمُحَمّد بن بكر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِلَى ابْن الزبير) ، وَهُوَ عبد الله ابْن الزبير. قَوْله: (فِي أول مَا بُويِعَ لَهُ) أَي: لِابْنِ الزبير بالخلافة، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ، عقيب موت يزِيد بن مُعَاوِيَة. قَوْله: (لم يكن يُؤذن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التأذين أَي: لم يكن يُؤذن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير فِي (أَنه) ، وَفِي: (لم يكن) ، للشأن. قَوْله: (قَالَ: وَأَخْبرنِي عَطاء) وَالْقَائِل هُوَ ابْن جريج فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الْمَذْكُور، وَكَذَا قَوْله: (وَعَن جَابر بن عبد الله) مَعْطُوف أَيْضا. قَوْله: (وَإِنَّمَا الْخطْبَة بعد الصَّلَاة) ، كَذَا للأكثرين. وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (وَأما) بدل: (وَإِنَّمَا) . قيل: إِنَّه تَصْحِيف؟ قلت: دَعْوَى التَّصْحِيف مَا لَهَا وَجه لِأَن الْمَعْنى صَحِيح. قَوْله: (فَذَكرهنَّ) ، بالتشدد من التَّذْكِير أَي: وعظهن. قَوْله: (وَهُوَ يتَوَكَّأ) جملَة حَالية أَي: يعْتَمد على يَد بِلَال، وَكَذَا الْوَاو فِي: وبلال، للْحَال. قَوْله: (يلقِي) بِضَم الْيَاء من الْإِلْقَاء وَهُوَ: الرَّمْي. قَوْله: (أَن يَأْتِي النِّسَاء) مفعول أول للرؤية. قَوْله: (حَقًا) ، مفعول ثَان. قَوْله: (مَا لَهُم أَن لَا يَفْعَلُوا؟) يُرِيد بذلك التأسي بهم. فَإِن قلت: كلمة: مَا، هَذِه مَا هِيَ؟ قلت: يحْتَمل أَن تكون نَافِيَة، وَأَن تكون استفهامية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْخُرُوج إِلَى الْمصلى. وَفِيه: أَن الصَّلَاة قبل الْخطْبَة. وَفِيه: أَن لَا أَذَان لصَلَاة الْعِيدَيْنِ وَلَا إِقَامَة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: (صليت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْعِيدَيْنِ غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث طَاوُوس (عَن بن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان) . وَأخرجه ابْن مَاجَه، وروى الْبَزَّار من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي يَوْم الْأَضْحَى بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير: من حَدِيث مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا يُصَلِّي بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن مهْدي: (عَن سماك، قَالَ: رَأَيْت الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَالضَّحَّاك وزيادا يصلونَ يَوْم الْفطر والأضحى بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة) . وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن بردة عَن مَكْحُول نه كَانَ يَقُول: لَيْسَ فِي الْعِيدَيْنِ أَذَان وَلَا إِقَامَة، وَكَذَلِكَ قَالَه عِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم وَأَبُو وَائِل. وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحكم: هُوَ بِدعَة، وَقَالَ مُحَمَّد: وَبِسَنَد صَحِيح عَن ابْن الْمسيب: أول من أحدثه مُعَاوِيَة. وَحدثنَا ابْن أويس عَن حُصَيْن: أول من أذن فِي الْعِيد زِيَاد، وَفِي (الْوَاضِحَة) لِابْنِ حبيب: أول من فعله هِشَام. وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَرْوَان، وَعند الشَّافِعِي وَغَيره: يُنَادي لَهما: الصَّلَاة جَامِعَة، بِنصب الأولى على الإغراء وَنصب الثَّانِي على الْحَال. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) لِلْحَافِظِ زين الدّين، قَالَ الشَّافِعِي: وَاجِب أَن يَأْمر الإِمَام الْمُؤَذّن أَن يَقُول فِي الأعياد وَمَا جمع النَّاس من الصَّلَاة: الصَّلَاة جَامِعَة، أَو الصَّلَاة. فَإِن قَالَ: هلموا إِلَى الصَّلَاة لم نكرهه، فَإِن قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، فَلَا بَأْس بِهِ. وَنقل الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: فَإِن قَالَ: هلموا إِلَى الصَّلَاة، أَو: حَيّ على الصَّلَاة، أَو: قد قَامَت الصَّلَاة كرهنا لَهُ ذَلِك، وأجزأه. وَحكى ابْن الرّفْعَة عَن القَاضِي حُسَيْن أَنه يَقُول: الصَّلَاة الصَّلَاة، وَلَا يَقُول: جَامِعَة. وَفِيه: الْأَمر بِالصَّدَقَةِ للنِّسَاء، وخصهن بذلك فِي قَول بعض الْعلمَاء (لقد رأيتكن أَكثر أهل(6/282)
النَّار) . وَفِيه: الْحجَّة لأبي حنيفَة فِي وجوب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ، وَأما الْمَشْي إِلَى الْعِيد فَفِي التِّرْمِذِيّ (عَن عَليّ: من السّنة أَن يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا) وَعند ابْن مَاجَه (عَن سعد الْقرظ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا) ، وَعند ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا وَيرجع مَاشِيا) وَإِسْنَاده ضَعِيف جدا وَعند الْبَزَّار من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخرج إِلَى الْعِيد مَاشِيا وَيرجع فِي طَرِيق غير الطَّرِيق الَّذِي خرج مِنْهُ) .
8 - (بابُ الخُطْبَةِ بَعْدَ العيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْخطْبَة تكون بعد صَلَاة الْعِيد. فَإِن قلت: كَون الْخطْبَة بعد صَلَاة الْعِيد، علم من حَدِيث عبد الله بن عمر وَحَدِيث جَابر بن عبد الله الْمَذْكُورين فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَكَذَلِكَ علم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الْمَذْكُور فِي بَاب الْخُرُوج إِلَى الْمصلى بِغَيْر مِنْبَر، فَلم كرر هَذَا؟ وَمَا فَائِدَة إِعَادَة هَذَا الحكم؟ قلت: لشدَّة الاعتناء بِهِ، وَمَا هَذَا شَأْنه يذكر بطرِيق الِاسْتِقْلَال والاستبداد، وَالْمَذْكُور فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة، وَإِن كَانَ فِي بَعْضهَا تَصْرِيح بِهِ، وَلكنه بطرِيق التّبعِيَّة. وَالَّذِي يذكر بطرِيق التّبعِيَّة لَا يكون مثل الَّذِي يذكر بطرِيق الِاسْتِقْلَال.
962 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي الحَسَنُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ. قَالَ شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فكُلُّهُمْ كانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الخُطْبَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الصَّلَاة إِذا كَانَت قبل الْخطْبَة تكون الْخطْبَة بعْدهَا ضَرُورَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: الشَّيْبَانِيّ النَّبِيل الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: الْحسن ابْن مُسلم، بِضَم الْمِيم: من الْإِسْلَام ابْن يناق، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَشْديد النُّون وَبعد الْألف قَاف. الرَّابِع: طَاوُوس بن كيسَان. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وَكَذَلِكَ بِصِيغَة الْإِخْبَار فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والراوي الثَّانِي وَالثَّالِث مكيان وَالرَّابِع يماني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة الممتحنة عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج إِلَى آخِره مطولا. وَأخرج أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس من طَرِيق عَطاء (أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج يَوْم فطر فصلى ثمَّ خطب. .) الحَدِيث، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.
963 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا أبُو أسَامَةَ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلُّونَ العِيدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ. (انْظُر الحَدِيث 957) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي أَبُو يُوسُف، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله بن عمر ابْن حَفْص، وَقد مر عَن قريب. وَأخرجه مُسلم عَن ابْن أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان وَأبي أُسَامَة عَن عبيد الله عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر كَانُوا يصلونَ الْعِيدَيْنِ قبل الْخطْبَة) .
964 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَدِيِّ بنِ ثابِتٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا ولاَ بَعْدَهُمَا ثُمَّ أتَى النِّسَاءَ ومَعَهُ بِلاَلٌ فأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ تُلْقِي المَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا.(6/283)
مطابقته للتَّرْجَمَة تَأتي بالتكلف من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على الْعِيد، وَالْمرَاد مِنْهُ: صَلَاة الْعِيد، وَأَشَارَ بِالْحَدِيثِ إِلَى أَن صَلَاة الْعِيد رَكْعَتَانِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يدل على التَّرْجَمَة؟ قلت: كَأَنَّهُ جعل أَمر النِّسَاء بِالصَّدَقَةِ من تَتِمَّة الْخطْبَة، وَتَبعهُ بَعضهم على هَذَا. قلت: الَّذِي ذكرته من الْوَجْه فِي الدّلَالَة على التَّرْجَمَة قد استبعدته، وذكرته بالتعسف، فَالَّذِي ذكره الْكرْمَانِي أبعد من ذَلِك.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن عرْعرة وحجاج بن منهال فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن بنْدَار وَأبي بكر بن نَافِع كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تلقي الْمَرْأَة) فَائِدَة التّكْرَار فِيهِ أَنه ذكر الْإِلْقَاء أَولا مُجملا ثمَّ ذكره مفصلا، وَهَذَا أوقع فِي الْقُلُوب، لِأَنَّهُ يكون علمين: علم إجمالي وَعلم تفصيلي، والعلمان خير من علم وَاحِد. قَوْله: (خرصها) الْخرص، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسرهَا: القرط بِحَبَّة وَاحِدَة، وَقيل: هِيَ الْحلقَة من الذَّهَب أَو الْفضة، وَالْجمع: خرصة، والخرصة لُغَة فِيهَا وَفِي (الصِّحَاح) : الْخرص بِالضَّمِّ وبالكسر وَالْجمع: خرصان. قَوْله: (وسخابها) ، بِكَسْر السِّين وبالخاء الْمُعْجَمَة الْخَفِيفَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة، وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ قلادة تتَّخذ من طيب وَغَيره لَيْسَ فِيهَا جَوْهَر، وَرُبمَا عمل من خَرَزَات أَو نوى الزَّيْتُون، وَالْجمع: سخب، مثل كتاب وَكتب. وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ قلادة تتَّخذ من قرنفل وسك ومحلب. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: وَيكون من الطّيب والجوهر والخرز. وَقيل: هُوَ خيط فِيهِ خرز، وَسمي سخابا لصوت خرزه عِنْد الْحَرَكَة، مَأْخُوذ من السخب وَهُوَ اخْتِلَاط الْأَصْوَات، يُقَال: بالصَّاد وبالسين.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَن صَلَاة الْعِيد رَكْعَتَانِ، قَالَ ابْن بزيزة: انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن صَلَاة الْعِيد رَكْعَتَانِ لَا أَكثر إلاّ مَا رُوِيَ عَن عَليّ فِي (الْجَامِع) : أَربع، فَإِن صليت فِي الْمصلى فَهِيَ رَكْعَتَانِ كَقَوْل الْجُمْهُور.
الثَّانِي: أَن الحَدِيث يدل على أَن لَا تنفل قبل صَلَاة الْعِيد وَلَا بعْدهَا، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري إِلَى أَنه يجوز التَّنَفُّل بعد صَلَاة الْعِيد، وَلَا يتَنَفَّل قبلهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَنَفَّل قبلهَا وَبعدهَا، وروى ابْن وهب وَأَشْهَب عَن مَالك: لَا يتَنَفَّل قبلهَا وَيُبَاح بعْدهَا. وَفِي (البدرية) : يجوز فِي بَيته. وَعَن ابْن حبيب: قَالَ قوم: هِيَ سبْحَة ذَلِك الْيَوْم يقْتَصر عَلَيْهَا إِلَى الزَّوَال، قَالَ: وَهُوَ أحب إِلَيّ. وَفِي (الذَّخِيرَة) : لَيْسَ قبل صَلَاة الْعِيد صَلَاة، كَذَا ذكره مُحَمَّد بن الْحسن فِي الأَصْل، وَإِن شَاءَ تطوع قبل الْفَرَاغ من الْخطْبَة، يَعْنِي: لَيْسَ قبلهَا صَلَاة مسنونة لَا إِنَّهَا تكره إلاّ أَن الْكَرْخِي نَص على الْكَرَاهَة قبل الْعِيد حَيْثُ قَالَ: يكره لمن حضر الْمصلى التَّنَفُّل قبل صَلَاة الْعِيد. وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : كَانَ مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي يَقُول: لَا بَأْس بِصَلَاة الضُّحَى قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى، وَإِنَّمَا تكره فِي الْجَبانَة، وَعَامة الْمَشَايِخ على الْكَرَاهَة مُطلقًا. وَعَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَابْن أبي أوفى أَنهم كَانُوا لَا يرونها قبل وَلَا بعد، وَهُوَ قَول ابْن عمر ومسروق وَالشعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَسَالم وقاسم وَالزهْرِيّ وَمعمر وَابْن جريج وَأحمد، وَقَالَ أنس وَالْحسن وَسَعِيد بن أبي الْحسن وَابْن زيد وَعُرْوَة وَالشَّافِعِيّ: يُصَلِّي قبلهَا وَبعدهَا، وَزَاد ابْن أبي شيبَة: أَبَا الشعْثَاء وَأَبا بردة الْأَسْلَمِيّ ومكحولاً وَالْأسود وَصَفوَان بن مُحرز ورجالاً من الصَّحَابَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي غير (الْأُم) : وَقَالَ أَبُو مَسْعُود البدري: لَا يُصَلِّي قبلهَا وَيُصلي بعْدهَا، وَهُوَ قَول عَلْقَمَة وَالْأسود وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن أبي ليلى. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ، بعد أَن أخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقد رأى طَائِفَة من أهل الْعلم الصَّلَاة بعد صَلَاة الْعِيد وَقبلهَا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم، وَالْقَوْل الأول أصح. وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عبد الله بن عمر وَأبي سعيد؟ قلت: قد أخرج ابْن مَاجَه حَدِيث عبد الله بن عمر وَمن حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا) ، وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ ابْن مَاجَه. وَأما حَدِيث أبي سعيد فقد أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا، وَانْفَرَدَ بِهِ من حَدِيث عَطاء بن يسَار: (عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُصَلِّي قبل الْعِيد شَيْئا، فَإِذا(6/284)
رَجَعَ إِلَى منزله صلى رَكْعَتَيْنِ) . قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب وَأبي مَسْعُود وَكَعب بن عجْرَة وَعبد الله بن أبي أوفى، فَحَدِيث عَليّ عِنْد الْبَراء فِي حَدِيث طَوِيل، وَفِيه: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا، فَمن شَاءَ فعل وَمن شَاءَ ترك) . وَحَدِيث أبي مَسْعُود عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير (عَن أبي مَسْعُود، قَالَ: لَيْسَ من السّنة الصَّلَاة قبل خُرُوج الإِمَام يَوْم الْعِيد) . وَحَدِيث كَعْب بن عجْرَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي حَدِيث وَفِيه: (إِن هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ سبْحَة هَذَا الْيَوْم حَتَّى تكون الصَّلَاة تدعوك) ، وَحَدِيث ابْن أبي أوفى عِنْده أَيْضا من رِوَايَة قَائِد أبي الورقاء، قَالَ: قدت عبد الله بن أبي أوفى فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْجَبانَة فَقَالَ: أدنني من الْمِنْبَر، فأدنيته فَجَلَسَ فَلم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا، وَأخْبر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل قبلهَا وَلَا بعْدهَا، وقائد مَتْرُوك.
الْوَجْه الثَّالِث: إِتْيَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء بعد خطبَته وأمرهن بِالصَّدَقَةِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب عظتهن وتذكيرهن الْآخِرَة وحثهن على الصَّدَقَة، وَهَذَا إِذا لم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مفْسدَة وَخَوف على الْوَاعِظ والموعوظ أَو غَيرهمَا، وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة صرح بهَا ظَاهر الحَدِيث. وَفِيه: أَيْضا أَن صَدَقَة التَّطَوُّع لَا تحْتَاج إِلَى إِيجَاب وَقبُول بل يَكْفِي فِيهَا المعاطاة، لِأَنَّهُنَّ ألقين الصَّدَقَة فِي ثوب بِلَال من غير كَلَام مِنْهُنَّ وَلَا من بِلَال وَلَا من غَيره، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَأكْثر الْعِرَاقِيّين قَالُوا: تفْتَقر إِلَى الْإِيجَاب وَالْقَبُول بِاللَّفْظِ كَالْهِبَةِ. وَفِيه: جَوَاز خُرُوج النِّسَاء للعيدين، وَاخْتلف السّلف فِي ذَلِك، فَرَأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا عَلَيْهِنَّ مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر، وَغَيرهم وَقَالَ أَبُو قلَابَة: (قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَت الكواعب تخرج لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفطر والأضحى) . وَكَانَ عَلْقَمَة وَالْأسود يخرجَانِ نِسَاءَهُمْ فِي الْعِيد ويمنعانهن الْجُمُعَة، وروى ابْن نَافِع عَن مَالك أَنه: لَا بَأْس أَن يخرج النِّسَاء إِلَى الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة وَلَيْسَ بِوَاجِب،. وَمِنْهُم من مَنعهنَّ ذَلِك، مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَالنَّخَعِيّ وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة مرّة وَمنعه مرّة، وَقَول: من رأى خروجهن أصح بِشَهَادَة السّنة الثَّابِتَة لَهُ. قلت: الْغَالِب فِي هَذَا الزَّمَان الْفِتْنَة وَالْفساد فَيَنْبَغِي أَن يمنعهن عَن ذَلِك مُطلقًا. وَفِيه: إِن النِّسَاء إِذا حضرن صَلَاة الرِّجَال ومجامعهم يكن بمعزل عَنْهُم خوفًا من الْفِتْنَة وَالْفساد. وَفِيه: جَوَاز صَدَقَة الْمَرْأَة من مَالهَا، وَعَن مَالك: لَا يجوز الزِّيَادَة على ثلث مَالهَا إلاّ برضى زَوجهَا.
965 - حدَّثنا آدَمْ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا زُبَيْدٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عنِ البَرَاءِ بنَ عازِبٍ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أوَّلَ مَا نَبْدَأ بهِ فِي يَوْمِنَا هاذا أنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذالِكَ فقَدْ أصَابَ سُنَّتَنَا ومَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأِهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النّسْكِ فِي شَيءٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يُقالُ لَهُ أبُو بُرْدَةَ بنَ نِيَارٍ يَا رسولَ الله ذَبَحْتُ وعِنْدِي جَذَعَةٌ خُيْرٌ منْ مُسِنَّةٍ فقالَ اجْعَلْهُ مكانَهُ ولَنْ تُوفِيَ أوْ تَجْزِيَ عنْ أحَدٍ بَعْدَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد ذكر الحَدِيث فِي: بَاب سنة الْعِيدَيْنِ لأهل الْإِسْلَام، غير أَنه رُوِيَ هُنَاكَ: عَن حجاج عَن شُعْبَة وَهَهُنَا عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة إِلَى آخِره نَحوه. وَزَاد هَهُنَا: (وَمن نحر قبل الصَّلَاة) إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: (ذبحت) أَي: قبل الصَّلَاة. قَوْله: (مُسِنَّة) ، هِيَ الَّتِي تدلت أسنانها، قَالَه الدَّاودِيّ، وَقَالَ غَيره: هِيَ الثَّنية. قَوْله: (إجعله مَكَانَهُ) ، إِنَّمَا ذكر الضميرين مَعَ أَنَّهُمَا يرجعان إِلَى الْمُؤَنَّث اعْتِبَارا لمسماهما، إِذْ الْجَذعَة عبارَة عَن معز ذِي سنة، والمسنة عَن معز ذِي سنتَيْن. قَوْله: (وَلنْ توفّي أَو تجزي) ، شكّ من الْبَراء. قَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: وفى وأوفى بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال جزى يَجْزِي هَهُنَا مهموزا، لِأَن المهموز لَا يسْتَعْمل مَعَه: عَن، عِنْد الْعَرَب، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: هَذَا يَجْزِي من هَذَا، أَي: يكون مَكَانَهُ، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: أَجْزَأَ يجزىء بِالْهَمْزَةِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَخْصِيص لعين من الْأَعْيَان بِحكم مُنْفَرد وَلَيْسَ من بَاب النّسخ فَإِن الْمَنْسُوخ إِنَّمَا يَقع للْأمة عَامَّة غير خَاص لبَعْضهِم.(6/285)
9 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاَحِ فِي العِيدِ والحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الَّذِي يكره من حمل السِّلَاح، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. أعترض بِأَن هَذِه التَّرْجَمَة تخَالف التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: بَاب الخراب والدرق يَوْم الْعِيد. بَيَان ذَلِك أَن التَّرْجَمَة تدل على الْإِبَاحَة وَالنَّدْب لدلَالَة حَدِيثهَا عَلَيْهَا، وَهَذِه التَّرْجَمَة تدل على الْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم، لقَوْل عبد الله بن عمر فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي: من أَمر بِحمْل السِّلَاح فِي يَوْم لَا يحل فِيهِ حمله. . وَأجِيب: بِأَن حَدِيث التَّرْجَمَة الأولى يدل على وُقُوعهَا مِمَّن حملهَا بالتحفظ عَن إِصَابَة أحد من النَّاس، وَطلب السَّلامَة من إِيصَال الْإِيذَاء إِلَى أحد، وَحَدِيث هَذِه التَّرْجَمَة يدل على قلَّة مبالاة حامله وَعدم احترازه عَن إِيصَال الْأَذَى إِلَى أحد مِنْهُ، بل الظَّاهِر أَن حمله إِيَّاه هَهُنَا لم يكن إلاّ بطرا وأشرا، وَلَا سِيمَا عِنْد مزاحمة النَّاس والمسالك الضيقة.
وقالَ الحَسَنُ نُهُوا أنْ يَحْمِلُوا السِّلاَحَ يَوْمَ عِيدٍ إلاّ أَن يَخَافُوا عدُوّا
الْحسن: هُوَ الْبَصْرِيّ وَقَوله: (نوا) بِضَم النُّون وَأَصله: نهيوا، مثل نفوا أَصله: نفيوا. استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حَرَكَة مَا قبلهَا ثمَّ حذفت الْيَاء لالتقاء الساكنين. وَجه النَّهْي خوفًا من إِيصَال أَذَى لأحد، وَوجه الِاسْتِثْنَاء أَن الْخَوْف من الْعَدو يُبِيح مَا حرم من حمل السِّلَاح للضَّرُورَة، وروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد مُرْسل، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرج بِالسِّلَاحِ يَوْم الْعِيد) ، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يلبس السِّلَاح فِي بِلَاد الْإِسْلَام فِي الْعِيدَيْنِ إلاّ أَن يَكُونُوا بِحَضْرَة الْعَدو) .
966 - حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى أبُو السُّكَيْنِ قَالَ حدَّثنا المُحَارِبِيُّ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سُوقَةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابنِ عُمَرَ حِينَ أصابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أخْمَصِ قَدَمِهِ فلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ فنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذالِكَ بِمِنىً فبَلَغَ الحَجَّاجُ فجَعَلَ يَعُودُهُ فقالَ الحَجِّاجُ لَوْ نَعْلَمُ منْ أصابَكَ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ أنْتَ أصَبْتَنِي قَالَ وكَيْفَ قَالَ حَمَلْتَ السِّلاَحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ وأدْخَلْتَ السِّلاَحَ الحَرَمَ ولَمْ يَكُنْ السِّلاَحُ يُدْخَلُ الحَرَمَ (الحَدِيث 966 طرفه فِي: 967) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لم يكن يحمل فِيهِ) إِلَى آخر الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر الطَّائِي الْكُوفِي، وكنيته أَبُو السكين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون، وَقد مر فِي أول كتاب التَّيَمُّم. الثَّانِي: الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد يكنى أَبَا مُحَمَّد، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن سوقة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْقَاف: أَبُو بكر الغنوي الْكُوفِي. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، لِأَن مُحَمَّد بن سوقة تَابِعِيّ صَغِير من أجلة النَّاس.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ عَن أَحْمد بن يَعْقُوب عَن إِسْحَاق بن سعيد عَن مُحَمَّد بن سوقة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَخْمص قدمه) ، بِإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة، قَالَ ثَابت فِي (كتاب خلق الْإِنْسَان) : وَفِي الْقدَم الأخمص وَهُوَ خصر بَاطِنهَا الَّذِي يتجافى عَن الأَرْض لَا يُصِيبهَا إِذا مَشى الْإِنْسَان. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ بَاطِن الْقدَم، وَمَا رق من أَسْفَلهَا. قَوْله: (فنزعتها) ، أَي: فنزعت السنان، وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير إِمَّا بِاعْتِبَار السِّلَاح لِأَنَّهُ مؤنث، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنَّهَا حَدِيدَة، أَو يكون الضَّمِير رَاجعا إِلَى: الْقدَم، فَيكون من بَاب الْقلب كَمَا يُقَال: أدخلت الْخُف فِي الرجل. قَوْله: (وَذَلِكَ بمنى) أَي: مَا ذكر وَقع فِي منى، وَهُوَ يصرف وَيمْنَع، سمي بهَا لِأَن الدِّمَاء تمنى فِيهَا أَي: تراق، أَو لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لما أَرَادَ مُفَارقَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام،(6/286)
قَالَ لَهُ: تمن فَقَالَ: أَتَمَنَّى الْجنَّة، أَو لتقدير الله فِيهَا الشعائر من منى الله أَي: قدره. قَوْله: (فَبلغ الْحجَّاج) أَي: ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَكَانَ إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْحجاز، وَذَلِكَ بعد قتل عبد الله بن الزبير بِسنة، وَكَانَ عَاملا على الْعرَاق عشْرين سنة وَفعل فِيهَا مَا فعل من سفك الدِّمَاء والإلحاد فِي حرم الله وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد، مَاتَ بواسط سنة خمس وَتِسْعين وَدفن بهَا، وَعفى قَبره وَأجْرِي عَلَيْهِ المَاء. قَوْله: (فجَاء) ، أَي: الْحجَّاج (يعودهُ) أَي: يعود عبد الله بن عمر، وَهِي جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. وَقَوله: (فجَاء) ، رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ (فآتاه) وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَجعل يعودهُ) ، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة الَّتِي وضعت للدلالة على الشُّرُوع فِي الْعَمَل، وَيعود خَبره. قَوْله: (لَو نعلم) ، بنُون الْمُتَكَلّم، (مَا أَصَابَك) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (لَو نعلم من أَصَابَك) ، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لجازيناه أَو عزرناه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن سعد عَن ابي نعيم عَن إِسْحَاق بن سعيد، فَقَالَ فِيهِ: (لَو نعلم من أَصَابَك عاقبناه) . وَله من وَجه آخر قَالَ: لَو أعلم الَّذِي أَصَابَك لضَرَبْت عُنُقه، وَيجوز أَن تكون كلمة: لَو، لِلتَّمَنِّي، فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَاعْلَم أَن الْإِصَابَة تسْتَعْمل متعدية إِلَى مفعول نَحْو أَصَابَهُ سِنَان الرمْح، وَإِلَى مفعولين نَحْو أَنْت أصبتني أَي سنانه. قَوْله: (أَنْت أصبتني) خطاب ابْن عمر للحجاج، وَفِيه نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الْآمِر بِشَيْء يتسبب مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل، لَكِن حكى الزبير فِي (الْأَنْسَاب) : أَن عبد الْملك لما كتب إِلَى الْحجَّاج: أَن لَا يُخَالف ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، شقّ عَلَيْهِ، فَأمر رجلا مَعَه حَرْبَة، يُقَال: إِنَّهَا مَسْمُومَة، فلصق ذَلِك الرجل بِهِ، فَأمر الحربة على قدمه فَمَرض مِنْهَا أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ. وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين. قَوْله: (قَالَ: وَكَيف؟) أَي: قَالَ الْحجَّاج: وَكَيف أصبتك. قَالَ ابْن عمر: حملت السِّلَاح فِي يَوْم أَي فِي يَوْم الْعِيد لم يكن يحمل فِيهِ سلَاح، وأدخلت السِّلَاح فِي حرم مَكَّة وخالفت السّنة من وَجْهَيْن: لِأَنَّهُ حمل السِّلَاح فِي غير مَكَانَهُ وَغير زَمَانه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن منى من الْحرم. وَفِيه: الْمَنْع من حمل السِّلَاح فِي الْحرم للأمن الَّذِي جعله الله لجَماعَة الْمُسلمين فِيهِ لقَوْله تَعَالَى: {وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97) . وَحمل السِّلَاح فِي الْمشَاهد الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَى الْحَرْب فِيهَا مَكْرُوه لما يخْشَى فِيهَا من الْأَذَى والعقر عِنْد تزاحم النَّاس، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذي رَآهُ يحمل: (أمسك بنصالها لَا تعقرن بهَا مُسلما) . فَإِن خَافُوا عدوا فمباح حملهَا، كَمَا قَالَ الْحسن: وَقد أَبَاحَ الله تَعَالَى حمل السِّلَاح فِي الصَّلَاة فِي الْخَوْف. فَإِن قلت: ذكر فِي كتاب الصريفيني، لما أنكر عبد الله على الْحجَّاج نصب المنجنيق يَعْنِي: على الْكَعْبَة، وَقتل عبد الله بن الزبير، أَمر الْحجَّاج بقتْله، فَضَربهُ بِهِ رجل من أهل الشَّام ضَرْبَة، فَلَمَّا أَتَاهُ الْحجَّاج يعودهُ قَالَ لَهُ عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني؟ كفى الله حكما بيني وَبَيْنك؟ هَذَا صَرِيح بِأَنَّهُ أَمر بقتْله وَهُوَ قَاتله، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني؟ وَفِيمَا حَكَاهُ الزبير فِي (الْأَنْسَاب) الْأَمر بِالْقَتْلِ غير صَرِيح، وروى ابْن سعد من وَجه آخر أَن الْحجَّاج دخل على ابْن عمر يعودهُ لما أُصِيبَت رجله، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن هَل تَدْرِي من أصَاب رجلك؟ قَالَ: لَا. قَالَ أما وَالله لَو علمت من أَصَابَك لقتلته! قَالَ: فَأَطْرَقَ ابْن عمر، فَجعل لَا يكلمهُ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، فَوَثَبَ كالمغضب. قلت: يحْتَمل تعدد الْوَاقِعَة وتعدد السُّؤَال، وَأما أَمر عبد الله مَعَه فَثَلَاثَة أَحْوَال: الأولى: عرض بِهِ، وَالثَّانيَِة: صرح بِهِ، وَالثَّالِثَة: أعرض عَنهُ وَلم يتَكَلَّم بِشَيْء. وَفِيه: ميل من البُخَارِيّ إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ: كَانَ يفعل كَذَا، على صِيغَة الْمَجْهُول حكم مِنْهُ بِرَفْعِهِ.
967 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يَعْقُوبَ قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ سَعيدٍ بنِ عَمْرِو بنِ سعِيدِ بنِ العَاصِي عنْ أبِيهِ قَالَ دَخَلَ الحجَّاجُ عَلَى ابنِ عُمَرَ وَأنَا عِنْدَهُ فَقَالَ كَيْفَ هُوَ فَقَالَ صالِحٌ فَقَالَ منْ أصَابَكَ قَالَ أصَابَنِي مَنْ أمَرَ بِحَمْلِ السِّلاَحِ فِي يَوْمٍ لاَ يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ يَعْنِي الحَجَّاجَ. (انْظُر الحَدِيث 966) .
مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله: (من أَمر بِحمْل السِّلَاح. .) إِلَخ، وَأحمد بن يَعْقُوب أَبُو يَعْقُوب المَسْعُودِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِسْحَاق بن سعيد هُوَ أَخُو خَالِد بن سعيد الْأمَوِي الْقرشِي، مَاتَ سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة، وَأَبُو سعيد بن عَمْرو بن سعيد ابْن الْعَاصِ الْقرشِي الْأمَوِي، يكنى أَبَا عُثْمَان، مر فِي: بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (يَعْنِي: الْحجَّاج) بِالنّصب على المفعولية، وقائله هُوَ ابْن عمر، وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي هَذِه الطَّرِيق قَالَ: لَو عَرفْنَاهُ لعاقبناه، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن النَّاس(6/287)
نفروا عَشِيَّة وَرجل من أَصْحَاب الْحجَّاج عَارض حربته، فَضرب ظهر قدم ابْن عمر فَأصْبح وَهنا مِنْهَا ثمَّ مَاتَ.
10 - (بابُ التَّبْكِيرِ إلَى العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التبكير للعيد، من بكَّر إِذا بَادر وأسرع، وَكَذَا هُوَ للأكثرين: بِالْبَاء، الْمُوَحدَة قبل الْكَاف، وَكَذَا شَرحه الشارحون، وَوَقع للمستملي: بَاب التَّكْبِير، بِتَقْدِيم الْكَاف. قيل: هُوَ تَحْرِيف، وَفِي بعض النّسخ: بَاب التَّكْبِير إِلَى الْعِيد.
وقالَ عَبْدُ الله بنُ بُسْرٍ إنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هاذِهِ السَّاعَةِ وَذالِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ
عبد الله بن بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: أَبُو صَفْوَان السّلمِيّ الْمَازِني الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ، مَاتَ بحمص فَجْأَة وَهُوَ يتَوَضَّأ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالشَّام، وَهُوَ مِمَّن صلى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا صَفْوَان حَدثنَا يزِيد بن خمير الرَّحبِي قَالَ: (خرج عبد الله بن بسر صَاحب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ النَّاس فِي يَوْم عيد فطر أَو أضحى، فَأنْكر إبطاء الإِمَام، وَقَالَ: إِن كُنَّا قد فَرغْنَا ساعتنا هَذِه وَذَلِكَ حِين التَّسْبِيح) . وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا. قلت: أَبُو الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج الْحِمصِي الشَّامي، وخمير، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم: أَبُو عمر الشَّامي الرَّحبِي نِسْبَة إِلَى رحبة، بِفَتْح الرَّاء والحاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ رحبة بن زرْعَة بن سبأ الْأَصْفَر. بطن من حمير.
قَوْله: (إِن كُنَّا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِنَّا كُنَّا) ، وَكلمَة: إِن، هَهُنَا هِيَ المخففة من الثَّقِيلَة، وَأَصله:
إِنَّه، بضمير الشان. قَوْله: (وَذَلِكَ حِين التَّسْبِيح) أَي: حِين صَلَاة السبحة، وَهِي صَلَاة الضُّحَى، وَذَلِكَ إِذا مضى وَقت الْكَرَاهَة. وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة للطبراني: (وَذَلِكَ حِين تَسْبِيح الضُّحَى) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حِين التَّسْبِيح أَي: حِين صَلَاة الضُّحَى أَو حِين صَلَاة الْعِيد، لِأَن صَلَاة الْعِيد سبْحَة ذَلِك الْيَوْم.
968 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ زُبَيْدٍ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ البَرَاءِ قَالَ خطَبَنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ إنَّ أوَّلَ مَا يبْدَأ بِهِ فِي يَوْمِنَا هاذا أنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذالِكَ فَقَدْ أصَابَ سُنَّتَنَا ومَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ فإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأِهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ فقامَ خَالِي أبُو بُرْدَةَ بنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله أنَا ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أُصَلِّيَ وعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ اجْعَلْهَا مَكانَها أَو قالَ اذْبَحْهَا ولَنْ تَجْزِيَ جَذَعَةٌ عنْ أحَدٍ بَعْدَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة حَيْثُ إِن الِابْتِدَاء بِالصَّلَاةِ يَوْم الْعِيد والمبادرة إِلَيْهَا قبل الِاشْتِغَال بِكُل شَيْء غير التأهب لَهَا، وَمن لَوَازِم ذَلِك التبكير إِلَيْهَا، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب الْأكل يَوْم النَّحْر عَن قريب. وَأخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان عَن جرير عَن مَنْصُور عَن الشّعبِيّ ... إِلَى آخِره، فَانْظُر إِلَى التَّفَاوُت الَّذِي بَينهمَا فِي الْأَلْفَاظ. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الْخطْبَة بعد الْعِيد، عَن آدم عَن شُعْبَة عَن زبيد. . ألى آخِره، وَهَذَا الْإِسْنَاد وَإسْنَاد حَدِيث الْبَاب وَاحِد غير الْمُغَايرَة فِي شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ.
وَالِاخْتِلَاف فِي متنيهما قَلِيل، وَفِي حَدِيث هَذَا الْبَاب: (وَمن ذبح) وَهُنَاكَ: (وَمن نحر) . وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمَشْهُور أَن النَّحْر فِي الْإِبِل وَالذّبْح فِي غَيره. وَقَالُوا: النَّحْر فِي اللب مثل الذّبْح فِي الْحلق، وَهنا أطلق النَّحْر على الذّبْح بِاعْتِبَار أَن كلا مِنْهُمَا إنهار الدَّم، وَاخْتلفُوا فِي وَقت الغدو إِلَى الْعِيد، فَكَانَ ابْن عمر يُصَلِّي الصُّبْح ثمَّ يَغْدُو، وكما هُوَ إِلَى الْمصلى، وَفعله سعيد بن الْمسيب، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يصلونَ الْفجْر وَعَلَيْهِم ثِيَابهمْ يَوْم الْعِيد، وَعَن أبي مجلز مثله، وَعَن رَافع بن خديج: أَنه كَانَ يجلس فِي الْمَسْجِد بنيه، فَإِذا طلعت الشَّمْس صلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يذهبون إِلَى الْفطر والأضحى، وَكَانَ عُرْوَة لَا يَأْتِي الْعِيد حَتَّى تشعل الشَّمْس، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشعْبِيّ. وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : عَن مَالك يَغْدُو من دَاره أَو من الْمَسْجِد إِذا طلعت الشَّمْس. وَقَالَ عَليّ بن زِيَاد عَنهُ: وَمن غَدا إِلَيْهَا قبل الطُّلُوع فَلَا(6/288)
بَأْس، وَلَكِن لَا يكبر حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا يَنْبَغِي أَن يَأْتِي الْمُصَلِّي حَتَّى تحين الصَّلَاة، وَقَالَ الشَّافِعِي يَأْتِي إِلَى الْمصلى حِين تبرز الشَّمْس فِي الْأَضْحَى، وَيُؤَخر الغدو فِي الْفطر قَلِيلا.
11 - (بابُ فَضْلِ العَمَلَ فِي أيَّامِ التَّشْرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعَمَل فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ مصدر من شَرق اللَّحْم إِذا بَسطه فِي الشَّمْس ليجف، وَسميت بذلك أَيَّام التَّشْرِيق لِأَن لُحُوم الْأَضَاحِي كَانَت تشرق فِيهَا بمنى، وَقيل: سميت بِهِ لِأَن الْهَدْي والضحايا لَا تنحر حَتَّى تشرق الشَّمْس، أَي: تطلع. وَكَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: أشرق ثبير كَيْمَا نغير، و: ثبير، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ جبل بمنى، أَي: أَدخل أَيهَا الْجَبَل فِي الشروق، وَهُوَ ضوء الشَّمْس، كَيْمَا نغير أَي: ندفع للنحر، وَذكر بَعضهم أَن أَيَّام التَّشْرِيق سميت بذلك، وَقيل: التَّشْرِيق صَلَاة الْعِيد لِأَنَّهَا تُؤدِّي عِنْد إشراق الشَّمْس وارتفاعها، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: (لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) . أخرجه أَبُو عبيد بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا، وَمَعْنَاهُ: لَا صَلَاة جُمُعَة وَلَا صَلَاة عيد. وَفِي (الْخُلَاصَة) : أَيَّام النَّحْر ثَلَاثَة، وَأَيَّام التَّشْرِيق ثَلَاثَة، ويمضي ذَلِك فِي أَرْبَعَة أَيَّام، فَإِن الْعَاشِر من ذِي الْحجَّة نحر خَاص، وَالثَّالِث عشر تَشْرِيق خَاص، وَمَا بَينهمَا اليومان للنحر والتشريق جَمِيعًا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وَاذْكُرُوا الله فِي أيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أيامُ العَشْرِ والأيَّامُ المَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشْرِيقِ
قَالَ ابْن عَبَّاس: واذْكُرُوا الله ... إِلَى آخِره، رِوَايَة كَرِيمَة وَابْن شبويه وَرِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: {ويذكروا الله فِي أَيَّام معدودات} (الْحَج: 28) . وَرِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني: {ويذكروا الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 203) . الْحَاصِل من ذَلِك إِن ابْن عَبَّاس لَا يُرِيد بِهِ لفظ الْقُرْآن، إِذْ لَفظه هَكَذَا: {ويذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات} (الْحَج: 28) . وَمرَاده أَن الْأَيَّام المعلومات هِيَ: الْعشْر الأول من ذِي الْحجَّة وَالْأَيَّام المعدودات الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات} (الْحَج: 28) . هِيَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة هِيَ: الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة الْمُسَمّى بِيَوْم النَّفر، وَالثَّانِي عشر وَالثَّالِث عشر المسميان بالنفر الأول والنفر الثَّانِي.
وَالتَّعْلِيق الْمَذْكُور وَصله عبد الله بن حميد فِي تَفْسِيره: حَدثنَا قبيصَة عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج: (عَن عَمْرو بن دِينَار: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: اذْكروا الله فِي أَيَّام معدودات: الله أكبر، واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات: الله أكبر الْأَيَّام المعدودات أَيَّام التَّشْرِيق وَالْأَيَّام المعلومات الْعشْر) . وَاخْتلف السّلف فِي الْأَيَّام المعدودات والمعلومات، فالأيام المعلومات الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة، رَوَاهُ عَنهُ الْكَرْخِي، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَن المعلومات هِيَ: ثَلَاثَة أَيَّام النَّحْر، والمعدودات: أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد: سميت معدودات لقلتهن ومعلومات لجزم النَّاس على علمهَا لأجل فعل الْمَنَاسِك فِي الْحَج، وَقَالَ الشَّافِعِي: من الْأَيَّام المعلومات النَّحْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعمر: يَوْم النَّحْر ويومان بعده، وَبِه قَالَ مَالك. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَإِلَيْهِ أذهب لقَوْله تَعَالَى: {لِيذكرُوا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 28) . وَهِي أَيَّام النَّحْر، وَسميت معدودات لقَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 203) . وَسميت أَيَّام التَّشْرِيق معدودات لِأَنَّهُ إِذا زيد عَلَيْهَا فِي الْبَقَاء كَانَ حصرا. لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يبْقين مُهَاجِرِي بِمَكَّة بعد قَضَاء نُسكه فَوق ثَلَاث) .
وكانَ ابنُ عُمَرَ وأبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلَى السُّوقِ فِي أيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ ويُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا
كَذَا ذكره الْبَغَوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة مُعَلّقا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أخرجه الشَّافِعِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد أَخْبرنِي عبيد الله عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمصلى يَوْم الْفطر إِذا طلعت الشَّمْس فيكبر حَتَّى يَأْتِي الْمصلى يَوْم الْعِيد، ثمَّ يكبر بالمصلى حَتَّى إِذا جلس الإِمَام ترك التَّكْبِير) . زَاد فِي (المُصَنّف) : (وَيرْفَع صَوته حَتَّى يبلغ الإِمَام) . قلت: الَّذِي(6/289)
رَوَاهُ الشَّافِعِي لَيْسَ بمطابق لما علقه البُخَارِيّ، فَكيف يَقُول صَاحب (التَّوْضِيح) : أخرجه الشَّافِعِي؟ وَلِهَذَا قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) الَّذِي هُوَ عمدته فِي شَرحه: قَالَ الشَّافِعِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم ... إِلَى آخِره، وَلم يقل: أخرجه وَلَا وَصله، وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن إِبْنِ عمر مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رفع الصَّوْت بالتهليل وَالتَّكْبِير حَتَّى يَأْتِي الْمصلى، وروى فِي ذَلِك عَن عَليّ وَغَيره من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأَعْتَرِض: على البُخَارِيّ فِي ذكر هَذَا الْأَثر فِي تَرْجَمَة الْعَمَل فِي أَيَّام التَّشْرِيق وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ كثيرا يذكر التَّرْجَمَة ثمَّ يضيف إِلَيْهَا مَا لَهُ أدنى مُلَابسَة بهَا اسْتِطْرَادًا.
وكَبَّرَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، الْمَعْرُوف بالباقر، مر فِي: بَاب من لم ير الْوضُوء إلاّ من المخرجين. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الدَّارَقُطْنِيّ فِي (المؤتلف) من طَرِيق معن بن عِيسَى الْقَزاز: أخبرنَا أَبُو وهنة رُزَيْق الْمدنِي، قَالَ: رَأَيْت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ يكبر بمنى فِي أَيَّام التَّشْرِيق خلف النَّوَافِل، و: أَبُو وهنة، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْهَاء وبالنون. ورزيق بِتَقْدِيم الرَّاء مُصَغرًا. وَقَالَ السفاقسي: لم يُتَابع مُحَمَّدًا على هَذَا أحد، وَعَن بعض الشَّافِعِيَّة: يكبر عقيب النَّوَافِل والجنائز على الْأَصَح. وَعَن مَالك قَولَانِ، وَالْمَشْهُور أَنه: مُخْتَصّ بالفرائض. قَالَ ابْن بطال: وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَسَائِر الْفُقَهَاء لَا يرَوْنَ التَّكْبِير إلاّ خلف الْفَرِيضَة. وَفِي (الْأَشْرَاف) : التَّكْبِير فِي الْجَمَاعَة مَذْهَب ابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يكبر الْمُنْفَرد، وَالصَّحِيح مَذْهَب أبي حنيفَة: إِن التَّكْبِير وَاجِب. وَفِي (قاضيخان) : سنة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَاخْتلف الْمَشَايِخ على قَول أبي حنيفَة: هَل يشْتَرط على إِقَامَتهَا الْحُرِّيَّة أم لَا؟ وَالأَصَح أَنَّهَا لَيست بِشَرْط عِنْده، وَكَذَا السُّلْطَان لَيْسَ بِشَرْط عِنْده، وَلَيْسَ على جمَاعَة النِّسَاء إِذا لم يكن مَعَهُنَّ رجل، فَإِذا كَانَ يجب عَلَيْهِنَّ بطرِيق التّبعِيَّة.
969 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ مَا العَمَلُ فِي أيَّامِ العَشْرِ أفْضَلَ مِنَ العَمَلِ فِي هاذِهِ قالُوا وَلاَ الجِهَادُ قَالَ وَلاَ الجِهَادُ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ ومالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيءٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إِن كَانَ المُرَاد من قَوْله: (فِي هَذِه) أَيَّام التَّشْرِيق. فَإِن قلت: المُرَاد مِنْهُ أَيَّام الْعشْر، بِدَلِيل أَن التِّرْمِذِيّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور من حَدِيث الْأَعْمَش: عَن مُسلم عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: (مَا من أيامٍ العملُ الصَّالح فيهم أحب إِلَى الله من هَذِه الْأَيَّام الْعشْر) الحَدِيث، فَحِينَئِذٍ لَا يكون الحَدِيث مطابقا للتَّرْجَمَة. قلت: يحْتَمل أَن البُخَارِيّ زعم أَن قَوْله: (فِي هَذِه) ، إِشَارَة إِلَى أَيَّام التَّشْرِيق وَفسّر الْعَمَل بِالتَّكْبِيرِ لكَونه أورد الْآثَار الْمَذْكُورَة الْمُتَعَلّقَة بِالتَّكْبِيرِ فَقَط. فَإِن قلت: الْأَكْثَرُونَ من الروَاة على أَن قَوْله: (فِي هَذِه) على الْإِبْهَام، إلاّ رِوَايَة كَرِيمَة عَن الْكشميهني: (مَا الْعَمَل فِي أَيَّام الْعشْر أفضل من الْعَمَل فِي هَذِه) . قلت: هَذَا مِمَّا يُقَوي مَا زَعمه البُخَارِيّ. فَإِن قلت: رِوَايَة كَرِيمَة شَاذَّة مُخَالفَة لما رَوَاهُ أَبُو ذَر، وَهُوَ من الْحفاظ عَن الْكشميهني شيخ كَرِيمَة بِلَفْظ: (مَا الْعَمَل فِي أَيَّام أفضلُ مِنْهَا فِي هَذَا الْعشْر) ، وَكَذَا أخرجه أَحْمد وَغَيره عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة فَقَالَ: (فِي أَيَّام أفضل مِنْهُ فِي عشر ذِي الْحجَّة) ، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارمِيّ عَن سعيد بن الرّبيع عَن شُعْبَة، وروى أَبُو عوَانَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث جَابر: (مَا من أيامٍ أفضل عِنْد الله من أَيَّام عشر ذِي الْحجَّة) ، فَظهر من هَذَا كُله أَن المُرَاد بِالْأَيَّامِ فِي حَدِيث الْبَاب أَيَّام عشر ذِي الْحجَّة، فعلى هَذَا لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. قلت: الشَّيْء يشرف بمجاورته للشَّيْء الشريف، وَأَيَّام التَّشْرِيق تقع تلو أَيَّام الْعشْر، وَقد ثَبت بِهَذَا الحَدِيث أَفضَلِيَّة أَيَّام الْعشْر، وَثَبت أَيْضا بذلك أَفضَلِيَّة أَيَّام التَّشْرِيق، وَأَيْضًا قد ذكرنَا أَن من جملَة صَنِيع البُخَارِيّ فِي جَامعه أَنه يضيف إِلَى تَرْجَمَة شَيْئا من غَيرهَا لأدنى مُلَابسَة بهَا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عرْعرة، بِفَتْح الْعَينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وتكرير الرَّاء، وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: سُلَيْمَان(6/290)
الْأَعْمَش. الرَّابِع: مُسلم، بِلَفْظ الْفَاعِل من الْإِسْلَام، وَهُوَ مُسلم بن أبي عمرَان الْكُوفِي، والبطين، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون: وَهُوَ صفة لمُسلم، لقب بذلك لعظم بَطْنه. الْخَامِس: سعيد بن جُبَير، وَقد تكَرر ذكره. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَالثَّانِي من الروَاة بسطامي والبقية كوفيون. وَفِيه: أَن الْأَعْمَش يروي عَن البطين بالعنعنة، وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ عَن الْأَعْمَش سَمِعت مُسلما، وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة وَكِيع عَن الْأَعْمَش، فَقَالَ: عَن مُسلم وَمُجاهد وَأبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أما طَرِيق مُجَاهِد فقد رَوَاهُ أَبُو عوَانَة من طَرِيق مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن مُجَاهِد، فَقَالَ: عَن ابْن عمر بدل عَن ابْن عَبَّاس. وَأما طَرِيق أبي صَالح فقد رَوَاهَا أَبُو عوَانَة أَيْضا من طَرِيق مُوسَى بن أعين عَن الْأَعْمَش فَقَالَ: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْمَحْفُوظ فِي هَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِيه اخْتِلَاف آخر عَن الْأَعْمَش، رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن الْأَعْمَش، فَقَالَ: عَن أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود أخرجه الطَّبَرَانِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصّيام عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن الْأَعْمَش. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد، وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي مُعَاوِيَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا الْعَمَل) ، قَالَ ابْن بطال: الْعَمَل فِي أَيَّام التَّشْرِيق هُوَ التَّكْبِير الْمسنون، وَهُوَ أفضل من صَلَاة النَّافِلَة، لِأَنَّهُ لَو كَانَ هَذَا الْكَلَام حضا على الصَّلَاة وَالصِّيَام فِي هَذِه الْأَيَّام لعارضه مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب) . وَقد نهى عَن صِيَام هَذِه الْأَيَّام، وَهَذَا يدل على تَفْرِيغ هَذِه الْأَيَّام للْأَكْل وَالشرب، فَلم يبْق تعَارض إِذا عَنى بِالْعَمَلِ التَّكْبِير، ورد عَلَيْهِ بِأَن الَّذِي يفهم من الْعَمَل عِنْد الْإِطْلَاق: الْعِبَادَة، وَهِي لَا تنَافِي اسْتِيفَاء حَظّ النَّفس من الْأكل وَسَائِر مَا ذكر، فَإِن ذَلِك لَا يسْتَغْرق الْيَوْم وَاللَّيْلَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْعَمَل فِي أَيَّام التَّشْرِيق لَا ينْحَصر فِي التَّكْبِير، بل الْمُتَبَادر مِنْهُ إِلَى الذِّهْن أَنه هُوَ الْمَنَاسِك من: الرَّمْي وَغَيره، الَّذِي يجْتَمع بِالْأَكْلِ وَالشرب، مَعَ أَنه لَو حمل على التَّكْبِير لم يبْق لقَوْله بعده: بَاب التَّكْبِير أَيَّام منى، معنى، وَيكون تَكْرَارا مَحْضا. ورد عَلَيْهِ بَعضهم: بِأَن التَّرْجَمَة الأولى لفضل التَّكْبِير، وَالثَّانيَِة لمشروعيته أَو صفته. أَو أَرَادَ تَفْسِير الْعَمَل الْمُجْمل فِي الأولى بِالتَّكْبِيرِ الْمُصَرّح بِهِ فِي الثَّانِيَة، فَلَا تكْرَار. قلت: الَّذِي يدل على فضل التَّكْبِير يدل على مشروعيته أَيْضا بِالضَّرُورَةِ، والمجمل والمفسر فِي نفس الْأَمر شَيْء وَاحِد. قَوْله: (مِنْهَا) أَي: فِي هَذِه الْأَيَّام أَي: فِي أَيَّام التَّشْرِيق على تَأْوِيل من أَوله بِهَذَا، وَلَكِن الَّذِي يدل عَلَيْهِ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: أَنَّهَا أَيَّام الْعشْر، كَمَا ذَكرْنَاهُ مُبينًا عَن قريب. قَوْله: (وَلَا الْجِهَاد) أَي: وَلَا الْجِهَاد أفضل مِنْهَا. وَفِي رِوَايَة سَلمَة بن كهيل: (فَقَالَ رجل: وَلَا الْجِهَاد) ، وَفِي رِوَايَة غنْدر عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: (وَلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، مرَّتَيْنِ) . قَوْله: (إلاّ رجلٌ) فِيهِ حذف أَي: إلاّ جهادُ رجلٍ. قَوْله: (يخاطر بِنَفسِهِ) ، جملَة حَالية أَي: يكافح الْعَدو بِنَفسِهِ وسلاحه وجواده فَيسلم من الْقَتْل أَو لَا يسلم، فَهَذِهِ المخاطرة وَهَذَا الْعَمَل أفضل من هَذِه الْأَيَّام وَغَيرهَا، مَعَ أَن هَذَا الْعَمَل لَا يمْنَع صَاحبه من إتْيَان التَّكْبِير والإعلان بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (وَلَا الْجِهَاد إلاّ من خرج يخاطر) . قَوْله: (فَلم يرجع بِشَيْء) أَي: من مَاله وَيرجع هُوَ وَيحْتَمل أَن لَا يرجع هُوَ وَلَا مَاله فيرزقه الله الشَّهَادَة، وَقد وعد الله عَلَيْهَا الْجنَّة. قيل: قَوْله: (فَلم يرجع بِشَيْء) يسْتَلْزم أَنه يرجع بِنَفسِهِ، وَلَا بُد ورد بِأَن. قَوْله: (بِشَيْء) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، فتعم مَا ذكر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (بِشَيْء) أَي: لَا بِنَفسِهِ وَلَا بِمَالِه كليهمَا، أَو لَا بِمَالِه إِذْ صدق هَذِه السالبة يحْتَمل أَن يكون بِعَدَمِ الرُّجُوع، وَأَن يكون بِعَدَمِ المرجوع بِهِ. وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن حميد عَن شُعْبَة بِلَفْظ: (إِلَّا من عقر جَوَاده وَأُهْرِيقَ دَمه) ، وَله فِي رِوَايَة الْقَاسِم بن أبي أَيُّوب: (إِلَّا من لَا يرجع بِنَفسِهِ وَلَا مَاله) . وَفِي طَرِيق سَلمَة بن كهيل، فَقَالَ: (لَا إلاّ أَن لَا يرجع) وَفِي حَدِيث جَابر: (إلاّ من عفر وَجهه فِي التُّرَاب) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَعْظِيم قدر الْجِهَاد وتفاوت درجاته، وَأَن الْغَايَة القصوى فِيهِ بذل النَّفس لله تَعَالَى. وَفِيه: تَفْضِيل بعض الْأَزْمِنَة على بعض، كالأمكنة، وَفضل أَيَّام عشر ذِي الْحجَّة على غَيرهَا من أَيَّام السّنة، وَتظهر فَائِدَة ذَلِك فِيمَن نذر الصّيام أَو علق عملا من الْأَعْمَال بِأَفْضَل الْأَيَّام، فَلَو أفرد يَوْمًا مِنْهَا تعين يَوْم عَرَفَة لِأَنَّهُ على الصَّحِيح أفضل أَيَّام الْعشْر(6/291)
الْمَذْكُور، فَإِن أَرَادَ أفضل أَيَّام الْأُسْبُوع تعين يَوْم الْجُمُعَة جمعا بَين حَدِيث الْبَاب وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (خير يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة) . رَوَاهُ مُسلم. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لم يرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذِه الْأَيَّام خير من يَوْم الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ قد يكون فِيهَا يَوْم الْجُمُعَة فَيلْزم تَفْضِيل الشَّيْء على نَفسه، ورد بِأَن المُرَاد أَن كل يَوْم من أَيَّام الْعشْر أفضل من غَيره من أَيَّام السّنة، سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة أم لَا، وَيَوْم الْجُمُعَة فِيهِ أفضل من يَوْم الْجُمُعَة فِي غَيره. لِاجْتِمَاع الفضيلتين فِيهِ، وَالله أعلم.
12 - (بابُ التَّكْبِيرِ أيَّامَ مِنًى وإذَا غَدَا إلَى عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّكْبِير أَيَّام منى، وَهِي يَوْم الْعِيد وَالثَّلَاثَة بعده. قَوْله: (وَإِذا غَدا إِلَى عَرَفَة) أَي: صَبِيحَة يَوْم التَّاسِع.
وكانَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنىً فَيَسْمَعُهُ أهْلُ المَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ ويُكَبِّرُ أهْلُ الأسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تكْبِيرا
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ تَعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر، قَالَ: (كَانَ عمر يكبر فِي قُبَّته بمنى وَيكبر أهل الْمَسْجِد وَيكبر أهل السُّوق حَتَّى ترتج منى تَكْبِيرا) . قَوْله: (فِي قُبَّته) د الْقبَّة بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة من الْخيام: بَين صَغِير مستدير، وَهُوَ من بيُوت الْعَرَب. قَوْله: (حَتَّى ترتج) يُقَال: ارتج الْبَحْر، بتَشْديد الْجِيم إِذا اضْطربَ، والرج: التحريك. قَوْله: (منى) فَاعل: ترتج. قَوْله: (تَكْبِيرا) نصب على التَّعْلِيل، أَي: لأجل التَّكْبِير، وَهُوَ مُبَالغَة فِي إجتماع رفع الْأَصْوَات.
وكانَ ابنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمنىً تِلْكَ الأيَّامُ وخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وعَلَى فِرَاشِهِ وفِي فُسْطَاطِهِ ومَجْلِسِهِ ومَمْشَاهُ تِلْكَ الأيَّامُ جَمِيعا
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ تَعْلِيق وَصله ابْن الْمُنْذر، والفاكهي فِي (أَخْبَار مَكَّة) من طَرِيق ابْن جريج: أَخْبرنِي نَافِع أَن ابْن عمر ... فَذكره سَوَاء، ذكره الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. قَوْله: (تِلْكَ الْأَيَّام) أَي: أَيَّام منى. قَوْله: (خلف الصَّلَوَات) ظَاهره يتَنَاوَل الْفَرَائِض والنوافل. قَوْله: (وعَلى فرشه) ، ويروى (فرَاشه) . قَوْله: (وَفِي فسطاطه) فِيهِ سِتّ لُغَات: فسطاط وفستاط وفساط بتَشْديد السِّين أَصله فسساط فأدغمت السِّين وأصل فسساط فستاط قلبت التَّاء سينا وأدغمت السِّين فِي السِّين لِاجْتِمَاع المثلثين وبضم الْفَاء وَكسرهَا. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بَيت من الشّعْر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ ضرب من الْأَبْنِيَة فِي السّفر دون السرادق، وَبِه سميت الْمَدِينَة الَّتِي فيهمَا مُجْتَمع النَّاس، وكل مَدِينَة فسطاط. وَيُقَال لمصر وَالْبَصْرَة: الْفسْطَاط، وَيُقَال: الْفسْطَاط الْخَيْمَة الْكَبِيرَة. قَوْله: (وممشاه) ، بِفَتْح الْمِيم الأولى مَوضِع الْمَشْي، وَيجوز أَن يكون مصدرا ميميا بِمَعْنى الْمَشْي. قَوْله: (تِلْكَ الْأَيَّام) أَي: فِي تِلْكَ الْأَيَّام، وَإِنَّمَا كَرَّرَه للتَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة، وأكده أَيْضا بِلَفْظ (جَمِيعًا) ويروى: (وَتلك الْأَيَّام) بواو الْعَطف، وَبِدُون الْوَاو رِوَايَة أبي ذَر على أَن يكون ظرفا للمذكورات.
وكانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ
مَيْمُونَة: هِيَ بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة سِتّ من الْهِجْرَة، توفيت بسرف وَهُوَ مَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة حَيْثُ بنى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَخمسين، وَصلى عَلَيْهَا عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا تَكْبِير مَيْمُونَة يَوْم النَّحْر.
وكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أبانَ بنِ عُثْمَانَ وعُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ لَيالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: ابْن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ فَقِيها مُجْتَهدا، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة خمس وَمِائَة، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَقد تقدم فِي أول كتاب الْإِيمَان. قَوْله:(6/292)
(وَكَانَ النِّسَاء) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَكن النِّسَاء) على لُغَة: أكلوني البراغيث، وَقد دلّت هَذِه الْآثَار الْمَذْكُورَة على اسْتِحْبَاب التَّكْبِير أَو وُجُوبه على الِاخْتِلَاف فِي أَيَّام التَّشْرِيق ولياليها عقيب الصَّلَاة.
وَفِيه اخْتِلَاف من وُجُوه:
الأول: إِن تَكْبِير التَّشْرِيق وَاجِب عِنْد أَصْحَابنَا، وَلَكِن عِنْد أبي حنيفَة عقيب الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة على المقيمين فِي الْأَمْصَار فِي الْجَمَاعَة المستحبة، فَلَا يكبر عقيب الْوتر وَصَلَاة الْعِيد وَالسّنَن والنوافل، وَلَيْسَ على الْمُسَافِرين وَلَا على الْمُنْفَرد، وَهُوَ مَذْهَب ابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ، وَهُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: على كل من صلى الْمَكْتُوبَة، سَوَاء كَانَ مُقيما أَو مُسَافِرًا أَو مُنْفَردا أَو بِجَمَاعَة. وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك، وَعند الشَّافِعِي: يكبر فِي النَّوَافِل والجنائز على الْأَصَح، وَلَيْسَ على جمَاعَة النِّسَاء إِذا لم يكن مَعَهُنَّ رجل، وَلَا على الْمُسَافِرين إِذا لم يكن مَعَهم مُقيم.
الثَّانِي: فِي وَقت التَّكْبِير فَعِنْدَ أَصْحَابنَا يبْدَأ بعد صَلَاة الْفجْر يَوْم عَرَفَة وَيخْتم عقيب الْعَصْر يَوْم النَّحْر، عِنْد أبي حنيفَة، وَهُوَ قَول عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وعلقمة وَالْأسود وَالنَّخَعِيّ، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يخْتم عقيب صَلَاة الْعَصْر من آخر أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن عَبَّاس، وَبِه قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَفِي (التَّحْرِير) ذكر عُثْمَان مَعَهم، وَفِي (الْمُفِيد) : وَأَبا بكر، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، وَهَهُنَا تِسْعَة أَقْوَال وَقد ذكرنَا الْقَوْلَيْنِ. الثَّالِث: يخْتم بعد ظهر يَوْم النَّحْر، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود، فعلى هَذَا يكبر فِي سبع صلوَات، وعَلى قَوْله: الأول فِي ثَمَان صلوَات، وعَلى قَوْلهمَا: فِي ثَلَاث وَعشْرين صَلَاة. الرَّابِع: يكبر من ظهر يَوْم النَّحْر وَيخْتم فِي صبح آخر أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور، وَيحيى الْأنْصَارِيّ. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف. الْخَامِس: من ظهر عَرَفَة إِلَى عصر آخر أَيَّام التَّشْرِيق، حكى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير. السَّادِس: يبْدَأ من ظهر يَوْم النَّحْر إِلَى ظهر يَوْم النَّفر الأول، وَهُوَ قَول بعض أهل الْعلم. السَّابِع: حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عُيَيْنَة، وَاسْتَحْسنهُ أَحْمد: إِن أهل منى يبدأون من ظهر يَوْم النَّحْر، وَأهل الْأَمْصَار من صبح يَوْم عَرَفَة، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو ثَوْر. الثَّامِن: من ظهر عَرَفَة إِلَى ظهر يَوْم النَّحْر، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر. التَّاسِع: من مغرب لَيْلَة النَّحْر عِنْد بَعضهم، قَالَه قاضيخان وَغَيره.
الثَّالِث: فِي صفة التَّكْبِير، وَهُوَ أَن يَقُول مرّة وَاحِدَة: الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه لَا الله وَالله كبر الله كبر وَللَّه الْحَمد. وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ النوري وَأحمد وإسخاق. وَفِيه أَقْوَال أخر: الأول: قَول الشَّافِعِي: إِنَّه يكبر ثَلَاثًا نسقا وَهُوَ قَول ابْن جُبَير. الثَّانِي: قَول مَالك، إِنَّه يقف على الثَّانِيَة ثمَّ يقطع فَيَقُول: الله كبر، لَا إِلَه إِلَّا الله، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ عَنهُ. الثَّالِث: عَن ابْن عَبَّاس: الله كبر الله كبر الله أكبر وَأجل الله أكبر وَللَّه الْحَمد. الرَّابِع: الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر. الْخَامِس: عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إلاّ الله هُوَ الْحَيّ القيوم يحيي وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير. السَّادِس: عَن عبد الرَّحْمَن: الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إلاّ الله الله أكبر الْحَمد لله، ذكره فِي (الْمحلى) . السَّابِع: أَنه لَيْسَ فِيهِ شَيْء مُؤَقّت، قَالَه الْحَاكِم وَحَمَّاد، وَقَول أَصْحَابنَا أولى لِأَن عَلَيْهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يثبت فِي شَيْء من ذَلِك حَدِيث وَأَصَح مَا ورد فِيهِ عَن الصَّحَابَة قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه: من صبح يَوْم عَرَفَة إِلَى آخر أَيَّام منى، أخرجهُمَا ابْن الْمُنْذر وَغَيره.
970 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ بنُ أنَسٍ قَالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ الثَّقَفِي قالَ سألْتُ أنَسا وَنَحْنُ غادِيَانِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ عنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ يُلَبِّي المُلَبِّي لاَ يُنْكَره عَلَيْهِ ويُكَبِّرُ المُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ (الحَدِيث 970 طرفه فِي: 1659) .
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيكبر المكبر) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: أَبُو نعيم، الْفضل بن دُكَيْن تكَرر ذكره، وَمُحَمّد بن أبي بكر بن عَوْف بن رَبَاح الثَّقَفِيّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف المفتوحتين.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن يحيى بن(6/293)
يحيى عَن مَالك وَعَن شُرَيْح بن يُونُس عَن عبد الله بن رَجَاء. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي نعيم بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن عبد الله بن رَجَاء بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت أنسا) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (سَأَلت أنس بن مَالك) . قَوْله: (وَنحن) الْوَاو للْحَال، قَوْله: (غاديان) ، من غَدا يَغْدُو غدوا، وَالْمعْنَى: نَحن سائران من منى متوجهان إِلَى عَرَفَات. قَوْله: (عَن التَّلْبِيَة) ، يتَعَلَّق بقوله: (سَأَلت) . قَوْله: (كَانَ) أَي: الشان. قَوْله: (لَا يُنكر عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّكْبِير الْمَذْكُور من نوع من الذّكر، أدخلهُ الملبي فِي خلال التَّلْبِيَة من غير ترك لِلتَّلْبِيَةِ، لِأَن الْمَرْوِيّ عَن الشَّارِع أَنه لم يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، قَالَ مَالك: يقطع إِذا زَالَت الشَّمْس، وَقَالَ مرّة أُخْرَى: إِذا وقف، وَقَالَ أَيْضا: إِذا رَاح إِلَى مَسْجِد عَرَفَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: السّنة الْمَشْهُورَة فِيهِ أَن لَا يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرْمِي أول حَصَاة من جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر، وَعَلَيْهَا الْعَمَل. وَأما قَول أنس هَذَا فقد يحْتَمل أَن يكون تَكْبِير المكبر مِنْهُم شَيْئا من الذّكر يدخلونه فِي خلال التَّلْبِيَة الثَّابِتَة فِي السّنة من غير ترك التَّلْبِيَة.
971 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا عُمَر بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي عنْ عاصِمٍ عنْ حَفْصَةَ عنْ أمِّ عطيَّةَ قالَتْ كُنَّا نُؤْمَرُ أنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نخْرِجَ الحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ ويدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذالِكَ اليَوْمَ وطُهْرَتَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن يَوْم الْعِيد يَوْم مشهود كأيام منى، فَكَمَا أَن التَّكْبِير فِي أَيَّام منى، فَكَذَلِك فِي أَيَّام الأعياد، وَالْجَامِع بَينهمَا كَونهَا أَيَّامًا مشهودات.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد، ذكر فِي بعض النّسخ غير مَنْسُوب، قَالَ أَبُو عَليّ: كَذَا رَوَاهُ أَبُو ذَر، وَكَذَلِكَ أخرجه أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي كِتَابه: مُحَمَّد عَن عمر، قَالَ أَبُو عَليّ: وَفِي روايتنا: عَن أبي عَليّ بن السكن وَأبي أَحْمد وَأبي زيد حَدثنَا عمر بن حَفْص، لم يذكرُوا مُحَمَّدًا قبل عمر، وَيُشبه أَن يكون مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْحَاكِم فِي هَذَا الْموضع. وَأما خلف والطرقي فذكرا أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن عمر بن حَفْص، لم يذكرَا مُحَمَّدًا قبل عمر، وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن عمر بن حَفْص، فعلى هَذَا لَا وَاسِطَة بَين البُخَارِيّ وَبَين عمر بن حَفْص فِيهِ، وَقد حدث البُخَارِيّ عَن عمر ابْن حَفْص كثيرا بِغَيْر وَاسِطَة، وَرُبمَا أَدخل بَينه وَبَينه الْوَاسِطَة أَحْيَانًا، قيل الرَّاجِح سُقُوط الْوَاسِطَة بَينهمَا فِي هَذَا الْإِسْنَاد. قلت: لم يبين وَجه الرجحان، والموضع مَوضِع الِاحْتِمَال، والكرماني جزم بالواسطة، فَقَالَ مُحَمَّد: أَي ابْن يحيى الذهلي، بِضَم الذَّال وَسُكُون الْهَاء: أَبُو عبد الله النَّيْسَابُورِي الْحَافِظ، مَاتَ بعد موت البُخَارِيّ سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عمر بن حَفْص بن غياث النَّخعِيّ الْكُوفِي. الثَّالِث: أَبُو حَفْص النَّخعِيّ، وَقد تقدما فِي: بَاب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْجَنَابَة. الرَّابِع: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، وَقد مر أَيْضا. الْخَامِس: حَفْصَة بنت سِيرِين أم الْهُذيْل الْأَنْصَارِيَّة، أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين. السَّادِس: أم عَطِيَّة، وَاسْمهَا: نسيبة بنت كَعْب الْأَنْصَارِيَّة، وَقد تقدّمت فِي: بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه غير مَنْسُوب على الِاخْتِلَاف فِيهِ. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: أَن شَيْخه نيسابوري على تَقْدِير كَونه الذهلي، وَالثَّانِي من الروَاة وَالثَّالِث كوفيان، وَالرَّابِع وَالْخَامِس بصريان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: قد أخرج البُخَارِيّ بعضه فِي حَدِيث مطول فِي: بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ، عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ: عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن عبد الله الحَجبي عَن حَمَّاد، وَفِي الْحَج عَن مُؤَمل بن هِشَام، أربعتهم عَن أَيُّوب، وَذكرنَا أَيْضا أَن بَقِيَّة السِّتَّة أَخْرجُوهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كُنَّا نؤمر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه الصِّيغَة تعد من الْمَرْفُوع كَمَا قد ذكرنَا غير مرّة، وَقد جَاءَ(6/294)
ذَلِك صَرِيحًا كَمَا سَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (أَن نخرج) بنُون الْمُتَكَلّم، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: بِأَن نخرج، أَي: بِالْإِخْرَاجِ. قَوْله: (حَتَّى نخرج الْبكر) كلمة: حَتَّى، للغاية و: حَتَّى الثَّانِيَة غَايَة الْغَايَة أَو عطف على الْغَايَة الأولى. وَالْوَاو مَحْذُوف مِنْهَا وَهُوَ جَائِز عِنْدهم. قَوْله: (من خدرها) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة: وَهُوَ ستر يكون فِي نَاحيَة الْبَيْت تقعد الْبكر وَرَاءه. وَقيل: هُوَ الهودج، وَقيل: سَرِير عَلَيْهِ ستر. وَقيل: هُوَ الْبَيْت، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ. قَوْله: (الْحيض) بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، جمع حَائِض. قَوْله: (فيكبرن) أَي: النِّسَاء، وَيدعونَ كَذَلِك وَهَذِه اللَّفْظَة مُشْتَركَة بَين الْجمع الْمُذكر وَالْجمع الْمُؤَنَّث، وَالْفرق تقديري، فوزن الْجمع الْمُذكر: يَفْعَلُونَ، وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث: يفعلن. قَوْله: (يرجون بركَة ذَلِك الْيَوْم) ، هَذَا شَأْن الْمُؤمن يَرْجُو عِنْد الْعَمَل وَلَا يقطع وَلَا يدْرِي مَا يحدث لَهُ. قَوْله: (وطهرته) ، بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء أَي: طهرة ذَلِك الْيَوْم أَي طَهَارَته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ وَابْن بطال: معنى التَّكْبِير فِي هَذِه الْأَيَّام أَن الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يذبحون لطواغيتها فَجعلُوا التَّكْبِير استشعارا للذبح لله تَعَالَى حَتَّى لَا يذكر فِي أَيَّام الذّبْح غَيره. وَفِيه: تَأْخِير النِّسَاء عَن الرِّجَال. وَفِيه: تَسَاوِي النِّسَاء وَالرِّجَال فِي التَّكْبِير وَالدُّعَاء. وَفِيه: إِخْرَاج النِّسَاء يَوْم الْعِيد إِلَى الْمصلى حَتَّى الْحيض مِنْهُنَّ، ولكنهن، يعتزلن الْمصلى، وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّكْبِير يَوْم الْعِيد، وَكَذَا فِي ليلته فِي طَرِيق الْمصلى، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كبر يَوْم الْأَضْحَى حَتَّى أَتَى الْجَبانَة، وَعَن أبي قَتَادَة: أَنه كَانَ يكبر يَوْم الْعِيد حَتَّى يبلغ الْمصلى، وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكبر فِي الْعِيد حَتَّى يبلغ الْمصلى وَيرْفَع صَوته بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ مَالك: يكبر فِي الْمصلى إِلَى أَن يخرج الإِمَام، فَإِذا خرج قطعه وَلَا يكبر إلاّ إِذا رَجَعَ. وَقَالَ الشَّافِعِي: أحب إِظْهَار التَّكْبِير لَيْلَة النَّحْر، وَإِذا غدوا إِلَى الْمصلى حَتَّى يخرج الإِمَام لَيْلَة الْفطر عقيب الصَّلَوَات فِي الْأَصَح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكبر يَوْم الْأَضْحَى، يخرج فِي ذَهَابه وَلَا يكبر يَوْم الْفطر، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَمن كبر يَوْم الْفطر تَأَول فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 185، وَالْحج: 37،) . وَتَأَول ذَلِك زيد بن أسلم، وَيجْعَل ذَلِك تَعْظِيم الله بالأفعال والأقوال كَقَوْلِه: {وَكبره تَكْبِيرا} (الْإِسْرَاء: 111) . وَالْقِيَاس أَن يكبر فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، لِأَن صَلَاتي الْعِيدَيْنِ لَا تختلفان فِي التَّكْبِير فيهمَا، وَالْخطْبَة بعدهمَا وَسَائِر سنتهما، وَكَذَلِكَ التَّكْبِير فِي الْخُرُوج إِلَيْهِمَا.
13 - (بابُ الصَّلاَةِ إلَى الحَرْبَةِ يَوْمَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة إِلَى الحربة، يَعْنِي: يُصَلِّي والحربة بَين يَدَيْهِ، والحربة دون الرمْح العريض النصل. قَوْله: (يَوْم الْعِيد) ، من زَوَائِد الْكشميهني.
972 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوهَّابِ قَالَ حدَّثنا عَبْيدُ الله عنْ نافَعٍ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ تُرْكَزُ الحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الفِطْرِ والنَّحْرِ ثُمَّ يُصَلِّي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق عَن عبد الله بن نمير عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا خرج يَوْم الْعِيد أَمر بالحربة فتوضع بَين يَدَيْهِ. .) الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب الصَّلَاة إِلَى الحربة: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب ستْرَة الإِمَام، جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ.
14 - (بابْ حَمْلِ العَنْزَةِ أَو الحَرْبَةِ بَيْنَ يَدَيِ الإمَامِ يَوْمَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حمل العنزة، وَهِي أقصر من الرمْح وَفِي طرفها زج.
973 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا أبُو عَمْرٍ وَقَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْدُو إلَى المُصَلَّى والعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ(6/295)
بالمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إليْهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر تقدم عَن قريب فِي: بَاب الْمَشْي وَالرُّكُوب إِلَى الْعِيد، والحزامي، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي، والوليد هُوَ ابْن مُسلم، وَالْأَوْزَاعِيّ هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو. والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن هِشَام ابْن عمار عَن عِيسَى بن يُونُس وَعَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب ستره الإِمَام.
قَوْله: (فصلى) ، ويروى (يصلى) ، ويروى: (فيصلى) . فَإِن قلت: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى إِلَى غير جِدَار، رَوَاهُ ابْن عَبَّاس؟ قلت: ذَلِك ليبين أَن الستْرَة لَيست شرطا بل سنة، أَو كَانَ ذَلِك نَادرا مِنْهُ، وَالَّذِي واظب عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طول دهره: الصَّلَاة إِلَى ستْرَة.
15 - (بابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ وَالحُيَّضِ إلَى المُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم خُرُوج النِّسَاء الطاهرات وَالنِّسَاء الْحيض إِلَى الْمصلى يَوْم الْعِيد، وَالْحيض، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء: جمع حَائِض، وَهُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام.
23 - (حَدثنَا عبد الله بن عبد الْوَهَّاب قَالَ حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أم عَطِيَّة قَالَت أمرنَا أَن نخرج الْعَوَاتِق وَذَوَات الْخُدُور) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " خُرُوج النِّسَاء فَقَط " وَهُوَ الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة وَحَدِيث أَيُّوب عَن حَفْصَة يُطَابق الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله " وَالْحيض " وَقد مر حَدِيث أم عَطِيَّة هَذِه فِي بَاب التَّكْبِير أَيَّام منى عَن قريب قَوْله " حَمَّاد بن زيد " كَذَا وَقع بِالنِّسْبَةِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة حَدثنَا حَمَّاد بِلَا نِسْبَة قَوْله " أمرنَا " بِفَتْح الرَّاء كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والحموي وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ " أمرنَا " بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول بِدُونِ لفظ نَبينَا وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد " قَالَت أمرنَا " يَعْنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " الْعَوَاتِق " جمع العاتق وَهِي الَّتِي بلغت وَسميت بهَا لِأَنَّهَا عتقت عَن أمهاتها فِي الْخدمَة أَو عَن قهر أَبَوَيْهَا يُقَال عتقت الْجَارِيَة فَهِيَ عاتق مثل حَاضَت فَهِيَ حَائِض والعتيق الْقَدِيم وَقَالَ ابْن الْأَثِير ويروى فِي حَدِيث أم عَطِيَّة " أمرنَا أَن نخرج فِي الْعِيدَيْنِ الْحيض والعتيق " والخدور جمع خدر وَهُوَ السّتْر وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي فِي كتاب الْحيض فِي بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ
(وَعَن أَيُّوب عَن حَفْصَة بِنَحْوِهِ) هُوَ مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الْمَذْكُور وَالْحَاصِل أَن حمادا روى عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة وروى أَيْضا عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة بنت سِيرِين عَن أم عَطِيَّة بِنَحْوِهِ أَي بِنَحْوِ مَا روى أَيُّوب عَن مُحَمَّد وكلتا الرِّوَايَتَيْنِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد أما الأولى فرواها عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب وَيُونُس وحبِيب وَيحيى بن عَتيق وَهِشَام فِي آخَرين " عَن مُحَمَّد أَن أم عَطِيَّة قَالَت أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نخرج ذَوَات الْخُدُور يَوْم الْعِيد " الحَدِيث وَأما الثَّانِيَة فرواها عَن مُحَمَّد بن عبيد حَدثنَا حَمَّاد حَدثنَا أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أم عَطِيَّة بِهَذَا الْخَبَر قَالَ وَحدث عَن حَفْصَة عَن امْرَأَة تحدثه امْرَأَة أُخْرَى أَي حدث مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أُخْته حَفْصَة بنت سِيرِين وَيُقَال هَذَا كَانَ فِي ذَلِك الزَّمَان لأمنهن عَن الْمفْسدَة بِخِلَاف الْيَوْم وَلِهَذَا صَحَّ " عَن عَائِشَة لَو رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل " فَإِذا كَانَ الْأَمر قد تغير فِي زمن عَائِشَة حَتَّى قَالَت هَذَا القَوْل فَمَاذَا يكون الْيَوْم الَّذِي عَم الْفساد فِيهِ وفشت الْمعاصِي من الْكِبَار وَالصغَار فنسأل الله الْعَفو والتوفيق
(وَزَاد فِي حَدِيث حَفْصَة قَالَ أَو قَالَت الْعَوَاتِق وَذَوَات الْخُدُور ويعتزلن الْحيض الْمصلى) أَي وَزَاد أَيُّوب فِي حَدِيث حَفْصَة فِي رِوَايَة عَنْهَا قَالَ أَو قَالَت حَفْصَة يَعْنِي شكّ أَيُّوب فِي أَنَّهَا قَالَت نخرج الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور على أَن ذَوَات الْخُدُور تكون صفة للعواتق أَو قَالَت وَذَوَات الْخُدُور بواو الْعَطف وَمَعْنَاهَا صَوَاحِب الْخُدُور(6/296)
وإعراب ذَوَات كإعراب مسلمات قَوْله " ويعتزلن الْحيض " من بَاب أكلوني البراغيث وَالْأَمر بالاعتزال إِمَّا لِئَلَّا يلْزم الِاخْتِلَاف بَين النَّاس من صَلَاة بَعضهم وَترك الصَّلَاة لبَعْضهِم أَو لِئَلَّا تنجس الْمَوَاضِع أَو لِئَلَّا تؤذي جارتها إِن حصل أَذَى مِنْهَا -
16 - (بابُ خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إلَى المُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خُرُوج الصّبيان إِلَى مصلى الْعِيد مَعَ الْقَوْم، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى الْمصلى، وَلم يقل: إِلَى صَلَاة الْعِيد ليشْمل من يَتَأَتَّى مِنْهُ الصَّلَاة وَمن لَا يَتَأَتَّى.
975 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاس قَالَ خَرَجْتُ معَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ فطْرٍ أوْ أضْحَى فَصَلَّى العِيدَ ثُمَّ خطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهُنَّ وأمَرَهُنَّ بالصَّدَقَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عَبَّاس كَانَ وَقت خُرُوجه مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَلَاة الْعِيد طفْلا، لِأَنَّهُ عِنْد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يشْعر بِكَوْن ابْن عَبَّاس طفْلا حِينَئِذٍ؟ قلت: سَيَأْتِي فِي: بَاب الْعلم الَّذِي بالمصلى، قَالَ: (وَلَوْلَا مَكَاني من الصغر مَا شهدته) ، فجرت عَادَته فِي التراجم أَنه يترجم بِمَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو بن عَبَّاس أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ، وَعَمْرو بِالْوَاو، وعباس، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة، وَقد تقدم ذكره. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان الْأَزْدِيّ الْعَنْبَري. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن عَابس، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة، تقدم فِي آخر كتاب الصَّلَاة. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ بَصرِي وَشَيْخه كَذَلِك، وسُفْيَان كُوفِي وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس كَذَلِك، وَفِيه: سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن، وَصرح يحيى الْقطَّان عَنهُ بِأَن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور حَدثهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن عَليّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْعِيدَيْنِ عَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن كثير، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَو أضحى) ، شكّ من الرَّاوِي، وَالظَّاهِر أَن الشَّك من عبد الرَّحْمَن بن عَابس. قَوْله: (فوعظهن) الْوَعْظ: الْإِنْذَار بالعقاب. قَوْله: (وذكرهن) ، بتَشْديد الْكَاف: من التَّذْكِير، وَهُوَ الْإِخْبَار بالثواب، وَيجوز أَن تكون هَذِه الْجُمْلَة تَفْسِيرا لقَوْله: (وعظهن) أَو تَأْكِيدًا لَهَا. وَقيل: التَّذْكِير لأمر علم سَابِقًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: خُرُوج الصّبيان إِلَى الْمصلى وَلَكِن بِشَرْط التَّمْيِيز، أَلا يرى أَن ابْن عَبَّاس كَيفَ ضبط الْقِصَّة؟ وَفِيه: خُرُوج النِّسَاء أَيْضا، وَسَوَاء فِيهِ الطاهرات وَالْحيض، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث السَّابِق. وَفِيه: أَن الصَّلَاة قبل الْخطْبَة. وَفِيه: الْوَعْظ للنِّسَاء وَالْأَمر لَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ دون الرِّجَال، لِأَنَّهُنَّ أَكثر أهل النَّار، وَالله أعلم.
71 - (بابُ اسْتِقْبَالِ الإمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال الإِمَام النَّاس وَقت خطبَته بعد صَلَاة الْعِيد. فَإِن قلت: قد تقدم فِي كتاب الْجُمُعَة: بَاب اسْتِقْبَال النَّاس الإِمَام إِذا خطب، وَعلم من ذَلِك أَن الِاسْتِقْبَال سنة فِي الْخطْبَة فَيكون هَذَا تَكْرَارا. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة لدفع وهم من يتَوَهَّم أَن الْعِيد يُخَالف الْجُمُعَة فِي ذَلِك، لِأَن اسْتِقْبَال الإِمَام فِي الْجُمُعَة ضَرُورِيّ لِأَنَّهُ يخْطب على مِنْبَر، بِخِلَاف الْعِيد فَإِنَّهُ يخْطب فِيهِ على رجلَيْهِ كَمَا تقدم فِي بَاب خطْبَة الْعِيد.(6/297)
قَالَ أبُو سَعِيدٍ قَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقَابِلَ النَّاسِ
هَذَا طرف من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب الْخُرُوج إِلَى الْمصلى بِغَيْر مِنْبَر، قاال: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج يَوْم الْفطر والأضحى إِلَى الْمصلى، فَأول شَيْء يبْدَأ بِهِ الصَّلَاة ثمَّ ينْصَرف فَيقوم مُقَابل النَّاس. .) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قَامَ فَأقبل على النَّاس. .) الحَدِيث.
18 - (بابُ العَلَمِ الَّذِي بالمُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعلم الَّذِي هُوَ بمصلى الْعِيد، وَالْعلم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ الشَّيْء الَّذِي عمل من بِنَاء أَو وضع حجر أَو نصب عَمُود وَنَحْو ذَلِك ليعرف بِهِ الْمصلى.
977 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قل حدَّثنا يَحْيى عَن سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لهُ أشَهِدْتَ العِيدَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ ولَوْلاَ مَكانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ حَتَّى أتَى العَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بنِ الصَّلْتِ فَصلَّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ أتَى النِّسَاءَ ومَعَهُ بِلالٌ فَوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهِنَّ وأمَرَهُنَّ بالصَّدَقَةِ فَرَأيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وبِلاَلٌ إلاى بَيْتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى أَتَى الْعلم الَّذِي عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت) ، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب وضوء الصّبيان وَمَتى يجب عَلَيْهِم الْغسْل وَالطهُور، قبل كتاب الْجُمُعَة بأَرْبعَة أَبْوَاب. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن سُفْيَان، وَهنا أخرجه: عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَيحيى هُوَ الْقطَّان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، ولنذكر هُنَا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (قيل لَهُ) ، أَي: لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُنَاكَ: (وَقَالَ لَهُ رجل) . قَوْله: (أشهدت؟) أَي: أحضرت؟ والهمزة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (وَلَوْلَا مَكَاني من الصغر مَا شهدته) ، فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير(6/298)
وَحذف تَقْدِيره: وَلَوْلَا مَكَاني من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم أشهده لأجل الصغر، وَكلمَة: من، للتَّعْلِيل، والْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَاكَ يُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى. وَهُوَ قَوْله: (لَوْلَا مَكَاني مِنْهُ مَا شهدته) أَي: لَوْلَا مَكَاني من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حَضرته أَي: الْعِيد، وَفسّر الرَّاوِي هُنَاكَ عِلّة عدم الْحُضُور بقوله: (يَعْنِي من صغره) ، فالصغر عِلّة لعدم الْحُضُور، وَلَكِن قرب ابْن عَبَّاس مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومكانه عِنْده كَانَ سَببا لحضوره. قَوْله: (حَتَّى أَتَى الْعلم) ، بِفتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْعَلامَة الَّتِي عملت عِنْد دَار كثير بن الصَّلْت، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب وضوء الصّبيان، و: كلمة: حَتَّى، للغاية وَلَكِن فِيهِ مُقَدّر تَقْدِيره: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَى الْعلم. قَوْله: (وَمَعَهُ بِلَال) أَي: مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (يهوين) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف من: أَهْوى يهوي إهواءً. يُقَال: أَهْوى الرجل بِيَدِهِ إِلَى الشَّيْء ليتناوله وَيَأْخُذهُ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: أَهْوى بِيَدِهِ إِلَيْهِ أَي: مدها نَحوه، وأمالها إِلَيْهِ، يُقَال أَهْوى يَده وَبِيَدِهِ إِلَى الشَّيْء ليأخذه، وَالْمعْنَى هُنَا يمددن أَيْدِيهنَّ بِالصَّدَقَةِ ليتناولها بِلَال، وَفَسرهُ بَعضهم بقوله: أَي: يلقين، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن لفظ: (يلقين) تَفْسِير قَوْله: (يقذفنه، وَإِذا فسر: يهوين بيلقين يكون قَوْله: (يقذفنه) تَكْرَارا بِلَا فَائِدَة، وَمحل: (يقذفنه) من الْإِعْرَاب النصب لِأَنَّهَا وَقعت حَالا، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْمُتَصَدّق بِهِ، يدل عَلَيْهِ لفظ الصَّدَقَة. وَبَقِيَّة فَوَائده ذكرت هُنَاكَ.
19 - (بابُ مَوْعِظَةِ الإمَامِ النِّسَاءِ يَوْمَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الإِمَام النِّسَاء يَوْم الْعِيد إِذا لم يسمعن الْخطْبَة مَعَ الرِّجَال.
978 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ نَصْرٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُهُ يقُولُ قَامَ النبيُّ يَوْمَ الفِطْرِ فَصَلَّى فَبَدأ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فأتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ وبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ زكاةَ يَوْمَ الفِطْرِ قالَ لاَ ولاكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ حِينَئِذٍ تُلْقى فَتَخَهَا ويُلْقِينَ قُلْتُ أتُرَى حَقّا عَلَى الإمَامِ ذالِكَ ويُذَكِّرُهُنَّ قَالَ إنَّهُ لَحَق علَيْهِمْ وَمَا لهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ. (انْظُر الحَدِيث 958 وطرفه) .
979 - قالَ ابنُ جُرَيْجٍ وأخْبرَنِي الحسَنُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ شَهِدْتُ الفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الخُطْبَةِ ثُمَّ يخْطبُ بَعْدُ خَرِجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأنِّي أنْظُرُ إليْهِ حِينَ يُجْلِسُ بِيَدِهِ ثُمَّ أقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جاءَ النِّسَاءَ مَعَهُ بِلاَلٌ فَقَالَ يَا أيُّهَا النَّبِي إذَا جاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ الآيَةَ ثُمَّ قَالَ حِينَ فرَغَ مِنْهَا آنْتُنَّ عَلَى ذالِكَ قالَتِ امْرَأةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُها نَعَمْ لاَ يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ قَالَ فتَصَدَّقْنَ فبَسَطَ بِلالٌ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَلُمَّ لَكُنَّ فِدَاءُ أبي وأمِّي فيُلْقِينَ الفَتَخَ والخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ، قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الفتخ الخَوَاتِيمُ العِظَامُ كانَتْ فِي الجَاهِلِيَّةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأتى النِّسَاء فَذَكرهنَّ) .
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: إِسْحَاق بن نصر: هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ البُخَارِيّ. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام صَاحب (الْمسند) و (المُصَنّف) . الثَّالِث: عبد الْملك ابْن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ. السَّادِس: الْحسن بن مُسلم بن يناق الْمَكِّيّ. السَّابِع: طَاوُوس بن كيسَان. الثَّامِن: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. .
ذكر(6/299)
لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي تِسْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: إِن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَن نسبته إِلَى جده وَهُوَ رِوَايَة الْأصيلِيّ فَإِنَّهُ روى عَنهُ فِي كِتَابه فِي مَوَاضِع، فَمرَّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر فينسبه إِلَى جده، وَمرَّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فينسبه إِلَى أَبِيه. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري سكن الْمَدِينَة وَالثَّانِي يماني وَالثَّالِث وَالرَّابِع مكيان وَالسَّادِس كَذَلِك وَالسَّابِع يماني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَلم يذكر حَدِيث عَطاء عَن جَابر، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن خَلاد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَلَمَّا فرغ) أَي: عَن الْخطْبَة، نزل قيل: فِيهِ إِشْعَار أَنه كَانَ يخْطب على مَكَان مُرْتَفع، لِأَن النُّزُول يدل على ذَلِك. (وَاعْترض عَلَيْهِ) بِأَن تقدم فِي: بَاب الْخُرُوج إِلَى الْمصلى، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب فِي الْمصلى على الأَرْض. وَأجِيب: بِأَن الرَّاوِي لَعَلَّه ضمن النُّزُول معنى الِانْتِقَال قلت: يحْتَمل تعدد الْقَضِيَّة. قَوْله: (وَهُوَ يتَوَكَّأ) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَلِكَ: الْوَاو فِي: (وبلال) . قَوْله: (تلقي) بِضَم التَّاء من الإقاء، وَالنِّسَاء بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (قلت لعطاء) الْقَائِل هُوَ ابْن جريج، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (زَكَاة يَوْم الْفطر) ، كَلَام إضافي مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مَعَ تَقْدِير الِاسْتِفْهَام أَي: أَهِي زَكَاة يَوْم الْفطر؟ وَأطلق على صَدَقَة الْفطر اسْم: الزَّكَاة، فَدلَّ أَنَّهَا وَاجِبَة. قَوْله: (وَلَكِن صَدَقَة) أَي: وَلَكِن هِيَ صَدَقَة، فارتفاعها على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. قَوْله: (تلقي) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من الْإِلْقَاء أَي: تلقي النِّسَاء، وَالنِّسَاء، وَإِن كَانَ جمعا للْمَرْأَة من غير لَفظه، وَلكنه مُفْرد لفظا. قَوْله: (فتخها) ، بِالنّصب مفعول: تلقي، الفتخ، بِفَتْح الْفَاء وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع فتخة، وَهُوَ خَوَاتِم بِلَا فصوص كَأَنَّهَا حلق، وَسَيَأْتِي تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله: (يلقين) ، من الْإِلْقَاء أَيْضا وَإِنَّمَا كرر ليُفِيد الْعُمُوم. وَقَالَ بَعضهم: الْمَعْنى تلقي الْوَاحِدَة وَكَذَلِكَ الْبَاقِيَات. قلت: التَّرْكِيب لَا يَقْتَضِي هَذَا على مَا لَا يخفى، ومفعول: (يلقين) ، مَحْذُوف وَهُوَ: كل نوع من أَنْوَاع حليهن. قَوْله: (قلت لعطاء) الْقَائِل هُوَ ابْن جريج أَيْضا والمسؤول عَطاء. قَوْله: (أَتَرَى حَقًا على الإِمَام ذَلِك؟) الْهمزَة فِيهِ للإستفهام، و: حَقًا، مَنْصُوب على أَنه مفعول: ترى، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الْوَعْظ للنِّسَاء وَالْأَمر إياهن بِالصَّدَقَةِ، وَالظَّاهِر أَن عَطاء يرى وجوب ذَلِك، وَلِهَذَا قَالَ عِيَاض: لم يقل بذلك غَيره، وَالنَّوَوِيّ وَغَيره حملوه على الِاسْتِحْبَاب.
قَوْله: (قَالَ ابْن جريج: وَأَخْبرنِي حسن بن مُسلم) مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَقد أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث وَلكنه قدم الثَّانِي على الأول، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن رَافع، قَالَ ابْن رَافع: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عَطاء (عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: سمعته يَقُول: إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَامَ يَوْم الْفطر فصلى فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة ثمَّ خطب النَّاس، فَلَمَّا فرغ نَبِي الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نزل فَأتى النِّسَاء فَذَكرهنَّ وَهُوَ يتَوَكَّأ على يَد بِلَال، وبلال باسط ثَوْبه، يلقين النِّسَاء صَدَقَة. قلت لعطاء: زَكَاة الْفطر؟ قَالَ: لَا وَلَكِن صَدَقَة يتصدقن بهَا حِينَئِذٍ، تلقي الْمَرْأَة فتخها ويلقين. قلت لعطاء: أحقا على الإِمَام الْآن إِن يَأْتِي النِّسَاء حِين يفرغ فيذكرهن؟ قَالَ: أَي لعمري إِن ذَلِك لحق عَلَيْهِم، وَمَا لَهُم لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك؟ قَوْله: (ثمَّ يخْطب بعد) لفظ: (يخْطب) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ: ثمَّ يخْطب كل وَاحِد، فعلى تَفْسِيره هُوَ على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَبعد مَبْنِيّ على الضَّم أَي: بعد إِن يصلوا. قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا وَقع بِدُونِ حرف الْعَطف. قيل: قد حذف مِنْهُ حرف الْعَطف وَأَصله: وَخرج. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك، لِأَن هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من ابْن عَبَّاس. قَوْله: (حِين يجلس بِيَدِهِ) ، بتَشْديد اللَّام الْمَكْسُورَة من: التجليس، ومفعوله مَحْذُوف أَي: حِين يجلس النَّاس بِيَدِهِ، وتفسره رِوَايَة مُسلم قَالَ: (فَنزل نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ حِين يجلس الرِّجَال بِيَدِهِ) . وَذَلِكَ لأَنهم أَرَادوا الِانْصِرَاف فَأَمرهمْ بِالْجُلُوسِ حَتَّى يفرغ من حَاجته ثمَّ ينصرفوا جَمِيعًا، أَو، أَنهم: أَرَادوا أَن يتبعوه فَمَنعهُمْ وَأمرهمْ بِالْجُلُوسِ. قَوْله: (يشقهم) ، أَي: يشق صُفُوف الرِّجَال الجالسين. قَوْله: (مَعَه بِلَال) جملَة حَالية وَقعت بِلَا وَاو قَوْله: (فَقَالَ: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات} ) (الممتحنة: 12) . أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: تَلا هَذِه الْآيَة. وَفِي صَحِيح مُسلم: (فَتلا هَذِه الْآيَة حَتَّى فرغ) مِنْهَا، وَهَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الممتحنة: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} (الممتحنة: 1) . ثمَّ الْآيَة الْمَذْكُورَة(6/300)
هِيَ: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن واستغفر لَهُنَّ الله إِن الله غَفُور رَحِيم} (الممتحنة: 12) . وَإِنَّمَا تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة ليذكرهن الْبيعَة الَّتِي وَقعت بَينه وَبَين النِّسَاء لما فتح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فرغ من أَمر الْفَتْح اجْتمع النَّاس لِلْبيعَةِ، فَجَلَسَ بهم على الصَّفَا، وَلما فرغ من بيعَة الرِّجَال بَايع النِّسَاء وَذكر لَهُنَّ مَا ذكر الله فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (انتن على ذَلِك) مقول القَوْل، وَالْخطاب للنِّسَاء أَي: انتن على مَا ذكر فِي هَذِه الْآيَة. قَوْله: (فَقَالَت امْرَأَة وَاحِدَة مِنْهُنَّ) أَي: من النِّسَاء. قَوْله: (نعم) ، مقول القَوْل أَي: نعم نَحن على ذَلِك. قَوْله: (لَا يدْرِي حسن من هِيَ) أَي: لَا يدْرِي حسن بن مُسلم الرَّاوِي عَن طَاوُوس الْمَذْكُور فِيهِ من هِيَ الْمَرْأَة المجيبة، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَحده: (لَا يدْرِي حِينَئِذٍ من هِيَ) ، هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع نسخ مُسلم، وَكَذَا نَقله القَاضِي عَن جَمِيع النّسخ. قَالَ: هُوَ وَغَيره، وَهُوَ تَصْحِيف وَصَوَابه: (لَا يدْرِي حسن من هِيَ) ، كَمَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ قيل: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْمَرْأَة هِيَ: أَسمَاء بنت يزِيد بن السكن الَّتِي تعرف بخطيبة النِّسَاء فَإِنَّهَا رَوَت أصل هَذِه الْقِصَّة فِي حَدِيث أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَغَيره من طَرِيق شهر بن حَوْشَب: (عَن أَسمَاء بنت يزِيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى النِّسَاء، وَأَنا مَعَهُنَّ، فَقَالَ: يَا معشر النِّسَاء إنكن أَكثر حطب جَهَنَّم، فناديت رَسُول الله، وَكنت عَلَيْهِ جريئة: لِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لأنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير) . فَلَا يبعد أَن تكون هِيَ الَّتِي أَجَابَتْهُ أَولا: بنعم، فَإِن الْقِصَّة وَاحِدَة. قلت: هَذَا تخمين وحسبان، وَيحْتَمل إِن يكون غَيرهَا، وَبَاب الِاحْتِمَال وَاسع. قَوْله: (قَالَ: فتصدقن) هَذِه صِيغَة الْأَمر أمرهن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّدَقَةِ، وَهَذِه الصِّيغَة تشترك فِيهَا جمَاعَة النِّسَاء من الْمَاضِي، وَمن الْأَمر لَهُنَّ وَيفرق بَينهمَا بِالْقَرِينَةِ. فَإِن قلت: مَا هَذِه الْفَاء فِيهَا؟ قلت: يجوز أَن تكون للجواب لشرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن كنتن على ذَلِك فتصدقن، وَيجوز أَن تكون للسَّبَبِيَّة. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: هَلُمَّ) أَي: ثمَّ قَالَ بِلَال: وَلَفظ: هَلُمَّ من أَسمَاء الْأَفْعَال المتعدية نَحْو: هَلُمَّ زيدا: أَي: هاته وقربه، وَهُوَ مركب من: الْهَاء، و: لم، من: لممت الشَّيْء جمعته، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع والمذكر والمؤنث. تَقول: هَلُمَّ يَا رجل، هَلُمَّ يَا رجلَانِ، هَلُمَّ يَا رجال، هَلُمَّ يَا امْرَأَة، هَلُمَّ يَا امْرَأَتَانِ، هَلُمَّ يَا نسْوَة. هَذِه لُغَة أهل الْحجاز، وَأما بَنو تَمِيم فَيَقُولُونَ: هَلُمَّ هلما هلموا هَلُمِّي هلما هلممن، وَالْأولَى أفْصح، وَيَجِيء لَازِما أَيْضا، قَالَ تَعَالَى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الْأَحْزَاب: 18) . قَوْله: (لَكِن) ، بِضَم الْكَاف وَتَشْديد النُّون، لِأَنَّهُ خطاب للنِّسَاء، فَإِذا وَقع لفظ: هَلُمَّ، مُتَعَدِّيا تدخل عَلَيْهِ اللَّام، وَيُقَال: هَلُمَّ لَك هَلُمَّ لَكمَا هَلُمَّ لكم هَلُمَّ لكِ بِكَسْر الْكَاف، هَلُمَّ لَكمَا هَلُمَّ لَكِن. قَوْله: (فدَاء) إِذا كسر الْفَاء يمد وَيقصر، وَإِذا فتح فَهُوَ مَقْصُور، وَالْفِدَاء: فكاك الْأَسير. يُقَال: فدَاه يفْدِيه فدَاء وفدىً وفاداه يفاديه مفاداة، إِذا أعْطى فداءه وأنقذه، وفداه بِنَفسِهِ وفداه إِذا قَالَ لَهُ: جعلت فدَاك. وَقيل: المفاداة أَن يفتك الإسير بأسير مثله. قَوْله: (فدَاء) مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْله: (أبي وَأمي) عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: أبي وَأمي مفدىً لَكِن. قَوْله: (فيلقين) ، بِضَم الْيَاء من الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي. قَوْله: (الفتخ) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: (يلقين) . قَوْله: (وَالْخَوَاتِيم) عطف عَلَيْهِ، والفتخ، بِفتْحَتَيْنِ: جمع فتخة، وَقد فسرناها عَن قريب، وفسرها عبد الرَّزَّاق بِمَا ذكره فِي الْكتاب، وَلَكِن لم يذكر فِي أَي شَيْء كَانَت تلبس، وَقد ذكر ثَعْلَب أَنَّهُنَّ كن يلبسنها فِي أَصَابِع الأرجل، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهَا: الخواتيم، لِأَنَّهَا عِنْد الْإِطْلَاق تَنْصَرِف إِلَى مَا يلبس فِي الْأَيْدِي، وَقد ذكرنَا عَن الْخَلِيل أَن: الفتخ: الخواتيم الَّتِي لَا فصوص لَهَا، فعلى هَذَا يكون هَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، وَالْخَوَاتِيم جمع: ختام، أَو خاتام، وهما لُغَتَانِ فِي: خَاتم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب وعظ النِّسَاء وتعليمهن أَحْكَام الْإِسْلَام وتذكيرهن بِمَا يجب عَلَيْهِنَّ، وَمَا يسْتَحبّ، وحثهن على الصَّدَقَة وتخصيصهن بذلك فِي مجْلِس مُنْفَرد، وَمحل ذَلِك كُله إِذا أمنت الْفِتْنَة والمفسدة. وَقَالَ ابْن بطال: أما إِتْيَانه إِلَى النِّسَاء ووعظهن فَهُوَ خَاص بِهِ عِنْد الْعلمَاء، لِأَنَّهُ أَب لَهُنَّ وهم مجمعون أَن الْخَطِيب لَا يلْزمه خطْبَة أُخْرَى للنِّسَاء وَلَا يقطع خطبَته ليتمها عِنْد النِّسَاء. وَفِيه: جَوَاز التفدية بِالْأَبِ وَالأُم. وَفِيه: ملاطفة الْعَامِل على الصَّدَقَة بِمن يَدْفَعهَا إِلَيْهِ. وَفِيه: أَن الصَّدَقَة من دوافع الْعَذَاب لِأَنَّهُ أمرهن بِالصَّدَقَةِ ثمَّ علل بأنهن أَكثر أهل النَّار لما يَقع مِنْهُنَّ من كفران النعم وَغير ذَلِك. وَفِيه: بذل النَّصِيحَة والإغلاظ بهَا لمن احْتِيجَ فِي حَقه إِلَى ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز طلب الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء للمحتاجين. وَفِيه: مبادرة تِلْكَ النسْوَة إِلَى الصَّدَقَة بِمَا يعز عَلَيْهِنَّ من حليهن، مَعَ ضيق الْحَال فِي ذَلِك الْوَقْت، وَفِي ذَلِك(6/301)
دلَالَة على علو مقامهن فِي الدّين وحرصهن على أَمر الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن قَول الْمُخَاطب: نعم، يقوم مقَام الْخطاب. وَفِيه: أَن جَوَاب الْوَاحِد كَاف عَن الْجَمَاعَة. وَفِيه: بسط الثَّوْب لقبُول الصَّدَقَة. وَفِيه: أَن الصَّلَاة يَوْم الْعِيد مُقَدّمَة على الْخطْبَة.
20 - (بابٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال الْمَرْأَة إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي الْعِيد، وَلم يذكر جَوَاب الشَّرْط اعْتِمَادًا على مَا ورد فِي حَدِيث الْبَاب، وَالتَّقْدِير: إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي يَوْم الْعِيد تلبسها صاحبتها من جلبابها، كَمَا ذكر فِي متن الحَدِيث، وَيجوز أَن يقدر هَكَذَا، إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي يَوْم الْعِيد تستعير من غَيرهَا جلبابا فَتخرج فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: تعيرها من جنس ثِيَابهَا، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: تشركها مَعهَا فِي ثوبها، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي دَاوُد: (تلبسها صاحبتها طَائِفَة من ثوبها) . وَيُؤْخَذ مِنْهُ: جَوَاز اشْتِمَال الْمَرْأَتَيْنِ فِي ثوب وَاحِد. قلت: الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَائِل لم يقل بِهِ أحد مِمَّن لَهُ ذوق من مَعَاني التَّرْكِيب. وَإنَّهُ ظن أَن معنى قَوْله فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (طَائِفَة من ثوبها) ، بَعْضًا من ثوبها بِأَن تدْخلهَا فِي ثوبها حَتَّى تصير كلتاهما فِي ثوب وَاحِد، وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد، ويعسر ذَلِك عَلَيْهِمَا جدا فِي الْحَرَكَة، وَإِنَّمَا معنى: طَائِفَة من ثوبها، يَعْنِي: قِطْعَة من ثِيَابهَا من الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَيْهَا، مثل الجلباب والخمار والمقنعة، وَنَحْو ذَلِك. وَكَذَا فسروا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث الْبَاب: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، يَعْنِي: لتعيرها جلبابا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ، والجلباب: ثوب أقصر وَأعْرض من الْخمار. قَالَ النَّضر: هُوَ المقنعة. وَقيل: ثوب وَاسع يُغطي صدرها وظهرها، وَقيل: هُوَ كالملحفة. وَقيل: الْإِزَار. وَقيل: الْخمار.
980 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سيرِينَ قالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ جَوَارِينَا أنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ العِيدِ فَجَاءَتْ امْرَأةٌ فنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فأتَيْتُهَا فَحَدَّثَتْ أنَّ زَوْجَ اخْتِهَا غَزَا معَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً فَكانَتْ أُخْتُهَا مَعَهُ فِي سَتِّ غزَوَاتٍ فقَالَتْ فَكُنَّا نَقُومُ عَلَى المَرْضَى وَنُدَاوِي الكَلْمَى فقَالَتْ يَا رسولَ الله عَلَى إحْدَانَا بَأْسٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أنْ لاَ تَخْرُجَ فَقَالَ لِتُلْبِسْهَا صاحِبتُهَا منْ جِلْبَابِهَا فَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ قالَتْ حَفْصَةُ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أتَيْتُهَا فسَألْتُهَا أسَمِعْتِ فِي كَذَا وكذَا قالَتْ نَعَمْ بِأبِي وَقَلَّمَا ذَكَرَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ قالَتْ بِأبِي قَالَ لِيَخْرُجِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ أوْ قَالَ العَوَاتِقُ وذَوَاتُ الخُدُورِ شَكَّ أيُّوبُ والحُيَّضُ ويَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى ولْيَشْهَدْنَ الخيْرِ ودَعْوَةَ المُؤمِنِينَ قالَتْ فَقُلْتُ لَهَا آلحُيَّضُ قالَتْ نَعَمْ ألَيْسَ الحَائِضُ تَشْهَدُ عَرَفَاتٍ وتَشْهَدُ كَذَا وتَشْهَدُ كَذَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي أول: بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة، وَأخرجه هُنَا: عَن أبي معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله ابْن عَمْرو المقعد عَن عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: (قصر بني خلف) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام: هُوَ بِالْبَصْرَةِ مَنْسُوب إِلَى خلف جد طَلْحَة بن عبد الله بن خلف، جمع: الكليم، وَهُوَ الْمَجْرُوح. قَوْله: (أسمعت؟) بِهَمْزَة الإستفهام. قَوْله: (قَالَت: نعم، بِأبي) أَي: مفدى بِأبي، أَو: أفديه بِأبي، وَهَذِه رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي الْوَقْت. وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (قَالَت: نعم بأبا) ، وَقد ذكرنَا أَن فِيهِ أَربع رِوَايَات: الأولى: هَذِه، وَالثَّانيَِة:(6/302)
بأبا، وَالثَّالِثَة: بيبي. وَالرَّابِعَة: بيبا. قَوْله: (لتخرج الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَو قَالَ: الْعَوَاتِق وَذَوَات الْخُدُور) . شكّ أَيُّوب، هَل هُوَ بواو الْعَطف أَو لَا؟ . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الْكَلَام مَوْقُوف عَلَيْهَا أَو مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: مَرْفُوع، إِذْ معنى قَوْلهَا: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لتخرج الْعَوَاتِق. قَوْله: (فَقلت لَهَا) القائلة الْمَرْأَة، وَالْمقول لَهَا: أم عَطِيَّة، قيل: يحْتَمل أَن تكون القائلة حَفْصَة وَالْمقول لَهَا امْرَأَة، وَهِي أُخْت أم عَطِيَّة. قَوْله: (وَتشهد كَذَا وَتشهد كَذَا) يُرِيد: مُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار.
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ تَأْكِيد خروجهن إِلَى الْعِيد لِأَنَّهُ إِذا أَمر من لَا جِلْبَاب لَهَا، فَمن لَهَا جِلْبَاب بِالطَّرِيقِ الأولى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الملازمات الْبيُوت لَا يخْرجن. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْأَمر فِي أول الْإِسْلَام والمسلمون قَلِيل، فَأُرِيد التكثير بحضورهن ترهيبا لِلْعَدو، فَأَما الْيَوْم فَلَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ مَرْدُود لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى معرفَة تَارِيخ الْوَقْت، والنسخ لَا يثبت إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَأَيْضًا فَإِن التَّرْهِيب لَا يحصل بهم، وَلذَلِك لم يلزمهن الْجِهَاد. قلت: رده مَرْدُود. وَقَوله: فَإِن التَّرْهِيب لَا يحصل بِهن غير مُسلم، لِأَنَّهُنَّ يكثرن السوَاد، والعدو يخَاف من كَثْرَة السوَاد، بل فِيهِنَّ من هِيَ أقوى قلبا من كثير من الرِّجَال الَّذين لَيْسَ لَهُم ثبات عِنْد الْحَرْب. وَقَوله: وَلذَلِك لم يلزمهن الْجِهَاد. قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك، فَعِنْدَ النفير الْعَام يلْزم سَائِر النَّاس حَتَّى تخرج الْمَرْأَة من غير إِذن زَوجهَا، وَالْعَبْد من غير إِذن مَوْلَاهُ، على مَا عرف فِي بَابه. وَقَالَ بَعضهم: وَقد أفتت بِهِ أم عَطِيَّة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمدَّة، وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مخالفتها فِي ذَلِك، والاستنصار بِالنسَاء والتكثر بِهن فِي الْحَرْب دَال على الضعْف. قلت: هَذِه عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، صَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: (لَو رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن عَن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل) . فَإِذا كَانَ الْأَمر فِي خروجهن إِلَى الْمَسَاجِد هَكَذَا، فبالأحرى أَن يكون ذَلِك فِي خروجهن إِلَى الْمصلى، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: لم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة مخالفتها، وَأَيْنَ أم عَطِيَّة من عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا؟ وَلم يكن فِي حضورهن الْمصلى فِي ذَلِك الْوَقْت استنصار بِهن، بل كَانَ الْقَصْد تَكْثِير السوَاد أثرا فِي إرهاب الْعَدو. أَلا ترى أَن أَكثر الصَّحَابَة كَيفَ كَانُوا يَأْخُذُونَ نِسَاءَهُمْ مَعَهم فِي بعض الفتوحات لتكثير السوَاد؟ بل وَقع مِنْهُنَّ فِي بعض الْمَوَاضِع نصْرَة لَهُم بقتالهن وتشجيعهن الرِّجَال، وَهَذَا لَا يخفى على من لَهُ اطلَاع فِي السّير والتواريخ.
21 - (بابُ اعْتِزَالِ الحُيَّضِ المُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اعتزال الْحيض الْمصلى، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء: جمع حَائِض، يَعْنِي: يعتزلن مصلى الْعِيد، وَإِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ أَن مَضْمُون حَدِيثهَا قد تقدم فِي الْبَاب السَّابِق للاهتمام بِهِ مَعَ التَّنْبِيه على اخْتِلَاف الروَاة.
981 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا ابنُ ابي عَدِيٍّ عنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ مُحَمَّدٍ. قَالَ قالَتْ أمُّ عَطِيَّةَ أمِرْنَا أنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الحُيَّضَ والعَوَاتِقَ وذَوَاتِ الخُدُورِ قَالَ ابنُ عَوْنٍ أوْ العَواتِقَ ذَوَاتِ الخُدُورِ فأمَّا الحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ ودَعْوَتَهُمْ ويَعْتَزِلْنَ مُصَلاَّهُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويعتزلن مصلاهم) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ، وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، مر ذكره فِي: إِذا جَامع ثمَّ عَاد، فِي كتاب الْغسْل، وَابْن عون هُوَ: عبد الله بن عون مر فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مبلغ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
قَوْله: (وَقَالَ ابْن عون: أَو الْعَوَاتِق) شكّ فِيهِ، هُوَ كَمَا شكّ أَيُّوب فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: عَن مَنْصُور بن زادان عَن ابْن سِيرِين: (نخرج الْأَبْكَار والعواتق وَذَوَات الْخُدُور) .
وَفِيه: من الْفَوَائِد: جَوَاز مداواة الْمَرْأَة للرِّجَال الْأَجَانِب. وَفِيه: من شَأْن الْعَوَاتِق والمخدرات عدم البروز إلاّ فِيمَا أذن لَهُنَّ فِيهِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب إعداد الجلباب للْمَرْأَة ومشروعية عَارِية الثِّيَاب. قيل: وَفِيه اسْتِحْبَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى شُهُود الْعِيدَيْنِ، سَوَاء كن شواب أَو ذَوَات هيئات أم لَا. قلت: فِي هَذَا الزَّمَان لَا يُفْتِي بِهِ لظُهُور الْفساد وَعدم الْأَمْن، مَعَ أَن جمَاعَة من السّلف منعُوا(6/303)
ذَلِك، وهم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة فِي رِوَايَة وَأَبُو يُوسُف. وَمنع الشَّافِعِيَّة ذَوَات الهيئات والمستحسنات لغَلَبَة الْفِتْنَة، وَكَذَلِكَ الثَّوْريّ منع خروجهن الْيَوْم.
22 - (بَاب النَّحْرِ والذبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالمُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّحْر. . إِلَى آخِره. قَالُوا: النَّحْر فِي الْإِبِل وَالذّبْح فِي غَيره، والنحر فِي اللبة وَالذّبْح فِي الْحلق، وَإِنَّمَا ذكر النَّحْر وَالذّبْح كليهمَا ليفهم أَنَّهُمَا مشتركان فِي الحكم، وليعلم أَنه لَا يمْنَع أَن يجمع يَوْم النَّحْر بَين النُّسُكَيْنِ أَحدهمَا مِمَّا ينْحَر، وَالْآخر مِمَّا يذبح.
982 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني كَثِيرُ بنُ فَرْقَدٍ عنْ نافَعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَنْحَرُ أوْ يَذْبَحَ بِالمُصَلَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ النَّحْر وَالذّبْح مَعًا، وَإِن كَانَ بالتردد، وَكثير ضد قَلِيل خَلِيل بن فرقد، بِالْفَاءِ وَالرَّاء وَالْقَاف: نزيل مصر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن يحيى بن بكير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك وَالذّبْح بالمصلى للإعلام بِذبح الإِمَام ليترتب عَلَيْهِ ذبح النَّاس، وَلِأَن الْأُضْحِية من الْقرب الْعَامَّة وإظهارها أفضل لِأَن فِيهِ إحْيَاء لسنتها. وَقد أَمر ابْن عمر نَافِعًا أَن يذبح أضحيته بالمصلى، وَكَانَ مَرِيضا لم يشْهد الْعِيد، أخرجه فِي (الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ ابْن حبيب: يسْتَحبّ الإعلان بهَا لكَي تعرف وَيعرف الْجَاهِل سنيتها، وَكَانَ ابْن عمر إِذا ابْتَاعَ أضحيته يَأْمر غُلَامه بحملها فِي السُّوق، يَقُول: هَذِه أضْحِية ابْن عمر، وَهَذَا الْمَعْنى يَسْتَوِي فِيهِ الإِمَام وَغَيره. وَقَالَ ابْن بطال: لما كَانَت أَفعَال الْعِيد وَالْجَمَاعَات إِلَى الإِمَام وَجب أَن يكون مُتَقَدما فِيهَا، وَالنَّاس لَهُ تبع. وَلِهَذَا قَالَ مَالك: لَا يذبح أحد حَتَّى يذبح الإِمَام، وَلم يَخْتَلِفُوا أَن من رمى الْجَمْرَة حل لَهُ الذّبْح، وَإِن لم يذبح الإِمَام إلاّ بعده، فَالْمَعْنى المتعبد بِهِ الْوَقْت لَا الْفِعْل، واجمعوا أَن الإِمَام لَو لم يذبح أصلا وَدخل وَقت الذّبْح أَن الذّبْح حَلَال.
23 - (بابُ كَلاَمِ الإمامِ والنَّاسِ فِي خُطْبَةِ العِيدِ، وإذَا سُئِلَ الإمَامُ عنْ شَيْءٍ وَهْوَ يَخْطُبُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم كَلَام الإِمَام، وَالْحَال أَنه وَالنَّاس مَعَه فِي خطْبَة الْعِيد، هَذِه تَرْجَمَة. وَقَوله: (وَإِذا سُئِلَ الإِمَام. .) الخ، تَرْجَمَة أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي ذَلِك تكْرَار وَإِن كَانَ يرى ذَلِك بِحَسب الظَّاهِر، لِأَن التَّرْجَمَة الأولى أَعم من الثَّانِيَة، وَلم يذكر جَوَاب الشَّرْط فِي التَّرْجَمَة الثَّانِيَة اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَلَيْسَ الْكَلَام فِي خطْبَة الْعِيد كَالْكَلَامِ فِي خطْبَة الْجُمُعَة. وَقَالَ شُعْبَة: كلمني الحكم بن عُيَيْنَة يَوْم عيد وَالْإِمَام يخْطب، مَعَ أَنه إِذا كَانَ الْكَلَام من أَمر الدّين للسَّائِل والمسؤول عَنهُ فَإِنَّهُ جَائِز، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذين قتلوا ابْن أبي الْحقيق، دخلُوا عَلَيْهِ يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ يخْطب: أفلحت الْوُجُوه، وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ على الْمِنْبَر: أملكوا الْعَجِين، فَإِنَّهُ أحد رُوَاة هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَلَكِن كره الْعلمَاء كَلَام النَّاس وَالْإِمَام يخْطب، رُوِيَ ذَلِك عَن عَطاء وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ مَالك: لينصت للخطبة وليستقبل.
983 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو الأحْوَصِ قَالَ حدَّثنا منْصُورُ بنِ المُعْتَمِرِ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قَالَ خَطَبَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فقالَ مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا ونَسَكَ نُسْكَنَا فَقَدْ أصَابَ النسُكَ ومَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَتِلْكَ شاةُ لَحْمٍ فقامَ أبُو بُرْدَةَ بنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله وَالله لَقَدْ نسَكْتُ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ إلَى الصَّلاَةِ وعَرَفْتُ أنَّ اليَوْمَ يَوْمَ أكْلٍ وشُرْبٍ فَتَعَجَّلْتُ وأكَلْتُ وأطْعَمْتُ أهْلِي وجِيرَانِي فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ(6/304)
شاةُ لَحْمٍ قَالَ فَإِن عِنْدِي عَنَاقَ جَذَعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَهَلْ تَجْزِي عَنِّي قَالَ نَعمْ ولَنْ تَجْزِي عنْ أحَدٍ بَعْدَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ: كَلَام الإِمَام فِي الْخطْبَة. وَفِيه: أَن الإِمَام سُئِلَ وَأجَاب، والْحَدِيث قد مر غير مرّة، وَأَبُو الْأَحْوَص هُوَ سَلام بن سليم الْحَنَفِيّ الْكُوفِي، مَاتَ هُوَ مَالك وَحَمَّاد وخَالِد الطَّحَّان كلهم فِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
984 - حدَّثنا حامِدُ بنُ عُمَرَ عنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ فأمَرَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أنْ يُعِيدَ ذَبْحَهُ فقامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فقالَ يَا رسُولَ الله جِيرَانٌ لي إمَّا قَالَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وإمَّا قَالَ بِهِمْ فَقْرٌ وَإنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ الصَّلاَةِ وعِنْدِي عَنَاقٌ لِي أحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر الحَدِيث، وحامد بن عمر هُوَ البكراوي من ولد أبي بكرَة قَاضِي كرمان، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين. قَوْله: (ذبحه) بِكَسْر الذَّال، أَي: مذبوحه. وَقَوله: (جيران) مُبْتَدأ وَقَوله: (لي) صفته، وَالْجُمْلَة بعد خَبره، (والخصاصة) الْجُوع.
985 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأسْوَدِ عنْ جُنْدَبٍ قَالَ صلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ ذبَحَ فَقَالَ منْ ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكانَهَا ومَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ باسْمِ الله. .
مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: (من ذبح) ، من جملَة الْخطْبَة وَلَيْسَ مَعْطُوفًا على قَوْله: (ثمَّ ذبح) ، لِئَلَّا يلْزم تخَلّل الذّبْح بَين الْخطْبَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي، مَوْلَاهُم، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الْأسود بن قيس الْعَبْدي، بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة الْكُوفِي: وَهُوَ لَيْسَ بأسود بن يزِيد، لِأَن شُعْبَة لم يلْحق الْأسود بن يزِيد. الرَّابِع: جُنْدُب، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَضم الدَّال الْمُهْملَة وَفتحهَا وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن عبد الله بن سُفْيَان البَجلِيّ العلقي، بِالْعينِ الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَفتح اللَّام أَيْضا وبالقاف، مَاتَ بعد فتْنَة ابْن الزبير.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه واسطي الْأسود كُوفِي. وَفِيه: راويان مذكوران بِلَا نِسْبَة، وَفِي الثَّانِي يحْتَاج إِلَى التيقظ للاشتباه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن آدم وَفِي النذور عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَفِي التَّوْحِيد عَن حَفْص بن عمر وَفِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة عَن أبي عوَانَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَضَاحِي عَن أَحْمد بن يُونُس وَيحيى ابْن يحيى، كِلَاهُمَا عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَعَن أبي بكر وَعَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق وَابْن أبي عمر عَن عبد الله بن معَاذ وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَضَاحِي وَفِي الْقُنُوت عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن هناد عَن أبي الْأَحْوَص بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَضَاحِي عَن هِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَقَالَ: من ذبح) هُوَ من جملَة الْخطْبَة كَمَا ذكرنَا عَن قريب. قَوْله: (فليذبح باسم الله) ، قيل: الْبَاء، بِمَعْنى: اللَّام، أَي: فليذبح لله، وَيجوز أَن تتَعَلَّق الْبَاء بِمَحْذُوف أَي: فليذبح متبركا باسم الله، وَإِنَّمَا كرر هَذَا للتَّأْكِيد، فَعَن هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة بِوُجُوب الْأُضْحِية، وَبِه قَالَ مُحَمَّد وَزفر وَالْحسن وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَرَبِيعَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَعَن أبي يُوسُف: إِنَّهَا سنة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَذكر الطَّحَاوِيّ: إِن على قَول أبي حنيفَة وَاجِبَة، وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد: سنة مُؤَكدَة، وَجه السّنيَّة مَا رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة من حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي(6/305)
الله تَعَالَى عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من رأى هِلَال ذِي الْحجَّة مِنْكُم، وَأَرَادَ أَن يُضحي فليمسك عَن شعره وأظفاره) ، وَالتَّعْلِيق بالإرادة يُنَافِي الْوُجُوب، ولوجه الْوُجُوب أَحَادِيث مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَ لَهُ سَعَة وَلم يضح فَلَا يقربن مصلانا) ، وَرَوَاهُ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو يعلى وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نسخ الْأَضْحَى كل ذبح، ورمضان كل صَوْم) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده ضَعِيف بِمرَّة، وَفِي إِسْنَاده: الْمسيب بن شريك وَهُوَ مَتْرُوك. وَمِنْهَا: مَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، (قَالَت: يَا رَسُول الله أستدين وأضحي؟ قَالَ: نعم، وَإنَّهُ دين مقضي) وَفِي إِسْنَاده: هدير بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ ضَعِيف، وَلم يدْرك عَائِشَة.
24 - (بابُ مَنْ خالَفَ الطَّرِيقَ إذَا رَجَعَ يَوْمَ العِيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من خَالف الطَّرِيق الَّتِي توجه فِيهَا إِذا رَجَعَ يَوْم الْعِيد.
986 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا أبُو تُمَيْلَةَ يحْيى بنُ وَاضِحٍ عنْ فُلَيْحِ بنِ سُلَيْمَانَ عنْ سَعِيدِ بنِ الحَارِثِ عنْ جابِرٍ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا كانَ يَوْمُ عِيدٍ خالَفَ الطَّرِيقَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، كَذَا وَقع للأكثرين غير مَنْسُوب، وَفِي رِوَايَة ابي عَليّ بن السكن: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام، وَكَذَا للحفصي، وَجزم بِهِ الكلاباذي، وَكَذَا ذكره أَبُو الْفضل بن طَاهِر، وَكَذَا الْكرْمَانِي فِي شَرحه، وَذكر فِي أَطْرَاف خلف أَنه وجد حَاشِيَة هُوَ: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّانِي: أَبُو تُمَيْلة بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف واسْمه يحيى بن وَاضح الْأنْصَارِيّ الْمروزِي. الثَّالِث: فليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، تقدم فِي أول كتاب الْعلم. الرَّابِع: سعيد بن الْحَارِث بن الْمُعَلَّى الْأنْصَارِيّ الْمدنِي قاضيها. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه غير مَنْسُوب على الِاخْتِلَاف. وَفِيه: الثَّانِي من الروَاة مروزي وَالثَّالِث وَالرَّابِع مدنيان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا كَانَ) ، كَانَ هَذِه تَامَّة. وَقَوله: (يَوْم عيد) اسْمه فَلَا يحْتَاج إِلَى خبر. وَقَوله: خَالف الطَّرِيق) جَوَاب الشَّرْط مَعْنَاهُ: كَانَ الرُّجُوع فِي غير طَرِيق الذّهاب إِلَى الْمصلى، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (كَانَ إِذا خرج إِلَى الْعِيد رَجَعَ من غير الطَّرِيق الَّذِي ذهب فِيهِ) .
وَالْحكمَة فِيهِ على مَا ذكره أَكثر الشُّرَّاح أَنه ينتهى إِلَى عشرَة أوجه، وَلَكِن أَكثر من ذَلِك، بل رُبمَا ذكرُوا فِيهِ مَا يَنْتَهِي إِلَى عشْرين وَجها. الأول: ى نه فعل ذَلِك لتشهد لَهُ الطريقان. الثَّانِي: ليشهد لَهُ الْإِنْس وَالْجِنّ من سكان الطَّرِيق. الثَّالِث: ليسوي بَينهمَا فِي مرتبَة الْفضل بمرورة. الرَّابِع: لِأَن طَرِيقه إِلَى الْمصلى كَانَت على الْيَمين فَلَو رَجَعَ مِنْهَا لرجع على جِهَة الشمَال، فَرجع من غَيرهَا. الْخَامِس: لإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام فيهمَا. السَّادِس: لإِظْهَار ذكر الله تَعَالَى. السَّابِع: ليغيظ الْمُنَافِقين أَو الْيَهُود. الثَّامِن: ليرهبهم بِكَثْرَة من مَعَه. التَّاسِع: للحذر من كيد الطَّائِفَتَيْنِ أَو من إِحْدَاهمَا. الْعَاشِر: ليعم أهل الطَّرِيقَيْنِ بالسرور بِهِ. الْحَادِي عشر: ليتبركوا بمروره وبرؤيته. الثَّانِي عشر: ليقضي حَاجَة من يحْتَاج إِلَيْهَا من نَحْو صَدَقَة أَو استرشاد إِلَى شَيْء أَو استشفاع وَنَحْو ذَلِك. الثَّالِث عشر: ليجيب من يستفتي فِي أَمر دينه. الرَّابِع عشر: ليسلم عَلَيْهِم فَيحصل لَهُم أجر الرَّد. الْخَامِس عشر: ليزور أَقَاربه الْأَحْيَاء والأموات. السَّادِس عشر: ليصل رَحمَه. السَّابِع عشر: ليتفاءل بِتَغَيُّر الْحَال إِلَى الْمَغْفِرَة والرضى. الثَّامِن عشر: لِأَنَّهُ كَانَ يتَصَدَّق فِي ذَهَابه، فَإِذا رَجَعَ لم يبْق مَعَه شَيْء فَيرجع فِي طَرِيق أُخْرَى لِئَلَّا يرد من سَأَلَهُ. التَّاسِع عشر: فعل ذَلِك لتخفيف الزحام. الْعشْرُونَ: لِأَنَّهُ كَانَ طَرِيقه الَّتِي يتَوَجَّه مِنْهَا أبعد من الَّتِي يرجع فِيهَا، فَأَرَادَ تَكْثِير الْأجر بتكثير الخطى فِي الذّهاب، وَقَالَ بَعضهم: ثَبت من هَذِه الْأَوْجه مَا كَانَ الواهي مِنْهَا، وَنقل عَن القَاضِي عبد الْوَهَّاب: أَن أَكْثَرهَا دعاوى فارغة. قلت: هَذِه كلهَا اختراعات جَيِّدَة فَلَا تحْتَاج إِلَى دَلِيل، وَلَا إِلَى تَصْحِيح وتضعيف.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ اسْتِحْبَاب مُخَالفَة الطَّرِيق يَوْم الْعِيد فِي الذّهاب إِلَى الْمصلى وَالرُّجُوع مِنْهُ، فجمهور الْعلمَاء(6/306)
على اسْتِحْبَاب ذَلِك، قَالَ مَالك: وأدركنا الْأَئِمَّة يَفْعَلُونَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْتَحبّ لَهُ ذَلِك، فَإِن لم يفعل فَلَا حرج عَلَيْهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: أَخذ بِهَذَا بعض أهل الْعلم فاستحبه للْإِمَام، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي، وَذكر فِي (الْأُم) : أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام وَالْمَأْمُوم، وَبِه قَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: لم يتَعَرَّض فِي (الْوَجِيز) إلاّ للْإِمَام، وبالتعميم قَالَ أَكثر أهل الْعلم، وَمِنْهُم من قَالَ: إِن علم الْمَعْنى وَثبتت الْعلَّة بَقِي الحكم، وإلاّ انْتَفَى بانتفائها، فَإِن لم يعلم الْمَعْنى بَقِي الِاقْتِدَاء. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يبْقى الحكم وَلَو انْتَفَت الْعلَّة للاقتداء، كَمَا فِي الرمل وَغَيره.
تابَعَهُ يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ عنْ فُلَيْحٍ عنْ سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وحَدِيثُ جَابِرٍ أصَحُّ
أَي: تَابع أَبَا تُمَيْلة يُونُس بن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب، وَقد مر فِي: بَاب الْوضُوء مرَّتَيْنِ، ومتابعته إِيَّاه فِي رِوَايَته عَن فليح عَن سعيد الْمَذْكُور عَن أبي هُرَيْرَة، هَكَذَا وَقع عِنْد جُمْهُور رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق الْفربرِي، وَلَكِن فِيهِ إِشْكَال وَاعْتِرَاض على البُخَارِيّ، لِأَن قَوْله: (وَحَدِيث جَابر أصح) يُنَافِي قَوْله: (تَابعه) ، لِأَن الْمُتَابَعَة تَقْتَضِي الْمُسَاوَاة، فَكيف تَقْتَضِي الأصحية؟ لِأَن قَوْله: أصح، أفعل التَّفْضِيل، فَيَقْتَضِي زِيَادَة على الْمفضل عَلَيْهِ، وَيَزُول الْإِشْكَال بِأحد الْوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: بِمَا ذكره أَبُو عَليّ الجبائي: إِنَّه سقط قَوْله: وَحَدِيث جَابر أصح من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن معقل النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ. وَالْآخر: بِمَا ذكره أَبُو مَسْعُود فِي كِتَابه، قَالَ قَالَ: البُخَارِيّ فِي كتاب الْعِيدَيْنِ: قَالَ مُحَمَّد بن الصَّلْت: عَن فليح عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة بِنَحْوِ حَدِيث جَابر، فَقَالَ الغساني: لم يَقع لنا فِي (الْجَامِع) حَدِيث مُحَمَّد بن الصَّلْت إلاّ من طَرِيق أبي مَسْعُود، وَلَا غنى بِالْبَابِ عَنهُ لقَوْل البُخَارِيّ: وَحَدِيث جَابر أصح. قلت: حِينَئِذٍ تظهر الأصحية، لِأَنَّهُ يكون حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيحا وَيكون حَدِيث جَابر أصح مِنْهُ، أَلا ترى أَن التِّرْمِذِيّ روى فِي (جَامعه) : حَدثنَا عبد الْأَعْلَى وَأَبُو زرْعَة، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن الصَّلْت عَن فليح ابْن سُلَيْمَان عَن سعيد بن الْحَارِث عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج يَوْم الْعِيد فِي طَرِيق رَجَعَ من غَيره) ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة غَرِيب، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا فِي مستخرجه بِمَا يزِيل الْإِشْكَال بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ: أخرجه البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد عَن أبي تُمَيْلة، وَقَالَ: تَابعه يُونُس بن مُحَمَّد عَن فليح، وَقَالَ مُحَمَّد بن الصَّلْت: عَن فليح عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث جَابر أصح. وَبِهَذَا أَشَارَ البرقاني أَيْضا. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَنه وَقع كَذَلِك فِي بعض النّسخ، وَقد اعْترض على البُخَارِيّ أَيْضا بِوَجْهَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: هُوَ الَّذِي اعْتَرَضَهُ أَبُو مَسْعُود فِي (الْأَطْرَاف) على قَوْله: (تَابعه يُونُس) فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَاهُ يُونُس بن مُحَمَّد عَن فليح عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، إلاّ جَابر. وَالْآخر: أَن البُخَارِيّ روى حَدِيث جَابر الْمَذْكُور وَحكم بِأَنَّهُ أصح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، مَعَ كَون البُخَارِيّ قد أَدخل أَبَا تُمَيْلة فِي كِتَابه فِي الضُّعَفَاء. وَأجِيب عَن الأول: بِمَنْع الْحصْر، فَإِن الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبا نعيم أخرجَا فِي (مستخرجيهما) من طَرِيق أبي بكر بن أبي شيبَة: عَن يُونُس عَن فليح عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة. وَعَن الثَّانِي: بِأَن أَبَا حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: تحول أَبُو تُمَيْلة فِي كِتَابه فِي الضُّعَفَاء، فَإِنَّهُ ثِقَة، وَكَذَا وَثَّقَهُ يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ وَمُحَمّد بن سعد، وَاحْتج بِهِ مُسلم وَبَقِيَّة السِّتَّة. وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين، مدَار هَذَا الحَدِيث مَعَ هَذَا الِاخْتِلَاف على فليح بن سُلَيْمَان، وَهُوَ، إِن احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، فقد قَالَ فِيهِ ابْن معِين: لَا يحْتَج بحَديثه. وَقَالَ فِيهِ مرّة، لَيْسَ هَذَا بِثِقَة، وَقَالَ مرّة: ضَعِيف، وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يحْتَج بحَديثه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ السَّاجِي: ثِقَة، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
25 - (بابٌ إذَا فاتَهُ العِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا فَاتَت الرجل صَلَاة الْعِيد مَعَ الإِمَام يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَفهم من هَذِه التَّرْجَمَة حكمان: أَحدهمَا: أَن صَلَاة الْعِيد إِذا فَاتَت الرجل مَعَ الْجَمَاعَة فَإِنَّهُ يُصليهَا، سَوَاء كَانَ الْفَوْت بِعَارِض أَو غَيره. وَالْآخر: أَنَّهَا تقضي رَكْعَتَيْنِ كَأَصْلِهَا، وَفِي كل وَاحِد من الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَاف الْعلمَاء.
أما الْوَجْه الأول: فقد قَالَ قوم: لَا قَضَاء عَلَيْهِ أصلا وَبِه قَالَ مَالك وَأَصْحَابه، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ، وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة كَذَلِك: لَا يَقْضِيهَا إِذا فَاتَت عَن الصَّلَاة مَعَ الإِمَام، وَأما إِذا فَاتَت عَنهُ مَعَ الإِمَام فَإِنَّهُ يُصليهَا مَعَ الْجَمَاعَة فِي الْيَوْم الثَّانِي. وَفِي قاضيخان: إِذا تَركهَا بِغَيْر عذر لَا يَقْضِيهَا أصلا، وبعذر يَقْضِيهَا فِي الْيَوْم الثَّانِي فِي وَقتهَا، وَبِه قَالَ(6/307)
الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول: فَإِن تَركهَا فِي الْيَوْم الثَّانِي بِعُذْر أَو بِغَيْر عذر لَا يُصليهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: من فَاتَتْهُ صَلَاة الْعِيد يُصَلِّي وَحده كَمَا يُصَلِّي مَعَ الإِمَام، وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمُنْفَرد: هَل يُصَلِّي صَلَاة الْعِيد؟ عندنَا لَا يُصَلِّي، وَعِنْده يُصَلِّي. وَقَالَ السَّرخسِيّ: وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، الْأَصَح قَضَاؤُهَا، فَإِن أمكن جمعهم فِي يومهم صلى بهم، وإلاّ صلاهَا من الْغَد، وَهُوَ فرع قَضَاء النَّوَافِل عِنْده، وعَلى القَوْل الآخر: هِيَ كَالْجُمُعَةِ يشْتَرط لَهَا الْجَمَاعَة وَالْأَرْبَعُونَ وَدَار الْإِقَامَة، وَفعله فِي الْغَد إِن قُلْنَا أَدَاء لَا يُصليهَا فِي بَقِيَّة الْيَوْم، وإلاّ صلاهَا فِي بَقِيَّته، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، وتأخرها عَنهُ لَا يسْقط أبدا. وَقيل: إِلَى آخر الشَّهْر.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فقد قَالَت طَائِفَة: إِذا فَاتَت صَلَاة الْعِيد يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، إلاّ أَن مَالِكًا اسْتحبَّ لَهُ ذَلِك من غيرإيجاب، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يجْهر بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يكبر تَكْبِير الإِمَام، وَلَيْسَ بِلَازِم. وَقَالَت طَائِفَة: يُصليهَا إِن شَاءَ أَرْبعا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأحمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَاءَ صلى وَإِن شَاءَ لم يصل، فَإِن شَاءَ صلى أَرْبعا، وَإِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاق: إِن صلى فِي الْجَبانَة صلى كَصَلَاة الإِمَام، فَإِن لم يصلِ فِيهَا صلى أَرْبعا.
وكَذالِكَ النِّسَاءُ
أَي: وَكَذَلِكَ النِّسَاء اللَّاتِي لم يحضرن الْمصلى مَعَ الإِمَام يصلين صَلَاة الْعِيد، والآن يَأْتِي دَلِيله.
ومَنْ كانَ فِي البُيُوتِ والقُرَى
وَكَذَلِكَ يُصَلِّي الْعِيد من كَانَ فِي الْبيُوت من الَّذين لَا يحْضرُون الْمصلى. قَوْله: (والقرى) أَي: وَكَذَلِكَ يُصَلِّي الْعِيد من كَانَ فِي الْقرى.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذا عِيدُنَا أهْلَ الإسْلاَمِ
هَذَا دَلِيل لما تقدم من الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة. وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه أضَاف إِلَى كل أمة الْإِسْلَام من غير فرق بَين من كَانَ مَعَ الإِمَام أَو لم يكن. وَقَوله: (هَذَا عيدنا) قد مضى فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فِي قصَّة المغنيتين. وَأما قَوْله: (أهل الْإِسْلَام) ، فَقَالَ بعض الشُّرَّاح: كَأَنَّهُ من البُخَارِيّ، وَقيل: لَعَلَّه مَأْخُوذ من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا: (أَيَّام منى عيدنا أهل الْإِسْلَام) ، وَهُوَ فِي (السّنَن) : وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة: (وَأهل الْإِسْلَام) ، بِالنّصب على أَنه منادى مُضَاف حذف مِنْهُ حرف النداء، أَو بِتَقْدِير: أَعنِي أَو أخص.
وأمَرَ أنَسُ بنُ مالَكٍ مَوْلاَهُمُ ابنَ عُتْبَةَ بِالزَّاوِيَةِ فَجَمَعَ أهْلَهُ وبَنِيهِ وَصَلَّى كَصَلاةِ أهْلِ المِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ
هَذَا التَّعْلِيق ذكره ابْن أبي شيبَة فَقَالَ: حَدثنَا ابْن علية عَن يُونُس، قَالَ: حَدثنِي بعض آل أنس بن مَالك أَن أنسا كَانَ رُبمَا جمع أَهله وحشمه يَوْم الْعِيد فَيصَلي بهم عبد الله بن أبي غنية رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : أخبرنَا أَبُو الْحسن الْفَقِيه وَأَبُو الْحسن بن أبي سيد الإسفرايني حَدثنَا ابْن سهل بشر بن أَحْمد حَدثنَا حَمْزَة بن مُحَمَّد الْكَاتِب حَدثنَا نعيم بن حَمَّاد حَدثنَا هشيم عَن عبد الله بن أبي بكر بن أنس بن مَالك، (قَالَ: كَانَ أنس بن مَالك إِذا فَاتَتْهُ صَلَاة الْعِيد مَعَ الإِمَام جمع أَهله يُصَلِّي بهم مثل صَلَاة الإِمَام فِي الْعِيد) . قَالَ: وَيذكر عَن أنس أَنه كَانَ إِذا كَانَ بمنزله بالزاوية فَلم يشْهد الْعِيد بِالْبَصْرَةِ جمع موَالِيه وَولده ثمَّ يَأْمر مَوْلَاهُ عبد الله بن أبي غنية فَيصَلي بهم كَصَلَاة أهل الْمصر رَكْعَتَيْنِ، وَيكبر بهم كتكبيرهم. وَبِه قَالَ فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة وَمُجاهد وَابْن الْحَنَفِيَّة وَإِبْرَاهِيم وَابْن سِيرِين وَحَمَّاد وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي. قَوْله: (وَأمر أنس مَوْلَاهُ) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (مَوْلَاهُم) . قَوْله: (ابْن أبي غنية) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ الْأَكْثَر الْأَشْهر. قَوْله: (بالزاوية) بالزاي، مَوضِع على فرسخين من الْبَصْرَة كَانَ بهَا قصر وَأَرْض لأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ يُقيم هُنَاكَ كثيرا، وَكَانَت بالزاوية وقْعَة عَظِيمَة بَين الْحجَّاج والأشعث. قَوْله: (بعض آل أنس بن مَالك، المُرَاد: عبيد الله بن أبي بكر بن أنس.(6/308)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ أهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي العِيدِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ كمَا يَصْنَعُ الإمَامُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فَقَالَ: حَدثنَا غنْدر عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ فِي الْقَوْم يكونُونَ فِي السوَاد وَفِي السّفر فِي يَوْم عيد فطر أَو أضحى، قَالَ: يَجْتَمعُونَ فيصلون ويؤمهم أحدهم.
وقالَ عَطَاءٌ إذَا فَاتَهُ العِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
عَطاء بن أبي رَبَاح، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَكَانَ عَطاء، وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ فِي (مُصَنفه) عَن الثَّوْريّ عَن ابْن جريج: (عَن عَطاء قَالَ: من فَاتَهُ الْعِيد فَليصل رَكْعَتَيْنِ) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي فصل: من فَاتَتْهُ صَلَاة الْعِيد لم يصل، حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج، (عَن عَطاء قَالَ: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيكبر) . وَقَوله: (وَيكبر) ، إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا تقضي كهيئتها لَا أَن الرَّكْعَتَيْنِ مُطلق نفل.
26 - (بابُ الصَّلاَةِ قَبْلَ العِيدِ وبَعْدَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة قبل صَلَاة الْعِيد وَبعدهَا، وَلم يذكر حكم ذَلِك لِأَن الْأَثر الَّذِي ذكره عَن ابْن عَبَّاس(6/309)
يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ منع التَّنَفُّل أَو منع الرَّاتِبَة، وعَلى الْوَجْهَيْنِ هَل هُوَ لكَونه وَقعت كَرَاهَة أَو الْأَعَمّ من ذَلِك؟ وَلَكِن قَوْله فِي الْأَثر: (قبل الْعِيد) يدل على أَن المُرَاد منع التَّنَفُّل مُطلقًا.
وَقَالَ أبُو المُعَلَّى سَمِعْتُ سَعِيدا عنِ ابنِ عَبَّاسٍ كَرِهَ الصَّلاَةَ قَبْلَ العِيدِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مَعَ بَيَان الحكم فِيهِ، وَأَبُو الْمُعَلَّى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: اسْمه يحيى ابْن دِينَار الْعَطَّار، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) يحيى بن مَيْمُون الْعَطَّار: سَمَّاهُ الْحَاكِم أَبُو أَحْمد، وَمُسلم وَلَيْسَ لَهُ عِنْد البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَقد سمع من سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس.
989 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ ابنَ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا ولاَ بَعْدَهَا ومَعَهُ بِلاَلٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي مُطَابقَة أثر ابْن عَبَّاس، وَقد ذكر البُخَارِيّ الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس فِي بَاب الْخطْبَة بعد الْعِيد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَأَبُو الْوَلِيد: هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. قَوْله: (قبلهَا) أَي: قبل صَلَاة الْعِيد الَّتِي عبر عَنْهَا بالركعتين، ويروى: (قبلهمَا) أَي: قبل الرَّكْعَتَيْنِ الَّتِي هِيَ صَلَاة الْعِيد.
كمل بعون الله، جلت قدرته، الْجُزْء السَّادِس من عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح البُخَارِيّ، ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء السَّابِع ومطلعه: (كتاب الْوتر) ، نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق لإتمامه، وَمَا توفيقي إلاّ بِاللَّه، عَلَيْهِ توكلت. وَإِلَيْهِ أنيب.(6/310)
41 - (كتابُ الوتْرِ)
1 - (أبْوَابُ الوِتْرِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب الْوتر: أَي: فِي بَيَان أَحْكَامهَا، هَكَذَا هُوَ عِنْد الْمُسْتَمْلِي، وَعند البَاقِينَ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْوتر، وَسَقَطت الْبَسْمَلَة عِنْد ابْن شيبويه والأصيلية وكريمة، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْوتر. والمناسبة بَين أَبْوَاب الْوتر وأبواب الْعِيد كَون كل وَاحِد من صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَالْوتر وَاجِبا ثبوتهما بِالسنةِ. وَالْوتر بِالْكَسْرِ الْفَرد، وَالْوتر بِالْفَتْح الدخل، هَذِه لُغَة أهل الْعَالِيَة. وَأما لُغَة أهل الْحجاز فبالضد مِنْهُم، وَأما تَمِيم فبالكسر فيهمَا، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ غير عَاصِم {وَالشَّفْع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) . بِكَسْر الْوَاو، وَقَالَ يُونُس فِي كتاب (اللُّغَات) : وترت الصَّلَاة، مثل: أوترتها.
099 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ وعَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رَجُلاً سألَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإذَا خشِيَ أحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (توتر لَهُ مَا قد صلى) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد الله بن دِينَار، وَكِلَاهُمَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) ، وَقع فِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) هُوَ: ابْن عمر، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الله بن شَقِيق: (عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَأَنا بَينه وَبَين السَّائِل) ، فَذكر الحَدِيث، وَذكر مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب (أَحْكَام الْوتر) من رِوَايَة عَطِيَّة: عَن ابْن عمر أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ؟ قلت: إِذا حمل الْأَمر على تعدد السَّائِل لَا اعْتِرَاض فِيهِ، وَيجوز أَن يكون ابْن عمر عبر عَن السَّائِل تَارَة برجلاً، وَتارَة بأعرابيا، وَيجوز أَن يكون هُوَ السَّائِل مَعَ سُؤال الرجل. قَوْله: (عَن صَلَاة اللَّيْل) أَي: عَن عَددهَا، لِأَن جَوَابه بقوله: (مثنى) يدل على ذَلِك، لِأَن من شَأْن الْجَواب أَن يكون مطابقا للسؤال. قَوْله: (مثنى) مَرْفُوع بِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ، وَهُوَ قَوْله: (صَلَاة اللَّيْل) وَهُوَ بِدُونِ التَّنْوِين لِأَنَّهُ غير منصرف لتكرر الْعدْل فِيهِ، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ غَيره: للعدل وَالْوَصْف، والتكرير للتَّأْكِيد لِأَنَّهُ فِي معنى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، أَربع مَرَّات، وَقد فسره ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث، فَقَالَ مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: سَمِعت عقبَة بن حُرَيْث قَالَ: (سَمِعت ابْن عمر يحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، فَإِذا رَأَيْت الصُّبْح يدركك فأوتر بِوَاحِدَة(7/2)
فَقيل لِابْنِ عمر: مَا معنى مثنى مثنى؟ قَالَ: تسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ) ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ رد على من زعم من الْحَنَفِيَّة أَن معنى: اثْنَيْنِ، أَن يتَشَهَّد بَين كل رَكْعَتَيْنِ، لِأَن رَاوِي الحَدِيث أعلم بالمراد بِهِ، وَمَا فسره هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الرّبَاعِيّة مثلا، أَنَّهَا: مثنى. قلت: زعم هَذَا الْحَنَفِيّ بِمَا ذكر لَا يسْتَلْزم نفي السَّلَام، ومقصوده أَن لَا بُد من التَّشَهُّد بَين كل رَكْعَتَيْنِ، وَأما أَنه يسلم أَو لَا يسلم فَهُوَ بحث آخر. وَيجوز أَن يُقَال فِي الرّبَاعِيّة: مثنى مثنى، بِالنّظرِ إِلَى أَن كل رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا مثنى، مَعَ قطع النّظر عَن السَّلَام، قَوْله: (فَإِذا خشِي أحدكُم الصُّبْح) أَي: فَوَات صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (توتر لَهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى مَا فِيمَا قد صلى، وَالْمعْنَى: تصير بِهِ تِلْكَ الرَّكْعَة الْوَاحِدَة وترا. وَبِه احْتج الشَّافِعِي، على أَن الإيتار بِرَكْعَة وَاحِدَة جَائِز، وسنتكلم فِيهِ مَبْسُوطا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه الأول: احْتج بِهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَهُوَ أَن يسلم فِي آخر كل رَكْعَتَيْنِ، وَأما صَلَاة النَّهَار فأربع عِنْدهمَا، وَعند أبي حنيفَة: أَربع فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، وَعند الشَّافِعِي فيهمَا. مثنى مثنى، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ الْأَرْبَعَة من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وَبِمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَلأبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي اللَّيْل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث زُرَارَة بن أوفى، (عَن عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوف اللَّيْل، فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة، ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: فِي سَماع زُرَارَة عَن عَائِشَة نظر، ثمَّ أخرجه عَن زُرَارَة عَن سعيد بن هِشَام عَن عَائِشَة، قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ المحفوظة عِنْدِي. وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) : عَن عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْعشَاء ركع أَربع رَكْعَات وأوتر بِسَجْدَة، ثمَّ نَام حَتَّى يُصَلِّي بعْدهَا صلَاته من اللَّيْل) . فَإِن قلت: أخرج مُسلم عَن عبد الله بن شَقِيق، (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي بَيْتِي. .) الحَدِيث، وَفِيه: (وَيُصلي بِالنَّاسِ الْعشَاء ثمَّ يدْخل بَيْتِي وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ) ، فَهَذَا مُخَالف لحديثها الْمُتَقَدّم. قلت: قد وَقع عَن عَائِشَة اخْتِلَاف كثير فِي أعداد الرَّكْعَات فِي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّيْل، فَهَذَا إِمَّا من الروَاة عَنْهَا، وَإِمَّا مِنْهَا بِاعْتِبَار أَنَّهَا أخْبرت عَن حالات، مِنْهَا مَا هُوَ الْأَغْلَب من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَادِر، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِحَسب اتساع الْوَقْت وضيقه، وَلأبي حنيفَة فِي النَّهَار مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كم كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) . وَفِي رِوَايَة: (وَيزِيد مَا شَاءَ) ، وروى أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من حَدِيث عمْرَة (عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة تَقول: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي الضُّحَى أَربع رَكْعَات لَا يفصل بَينهُنَّ بِكَلَام) . (وَالْجَوَاب) : من حَدِيث الْأَرْبَعَة الَّذِي فِيهِ ذكر النَّهَار إِن التِّرْمِذِيّ لما رَوَاهُ سكت عَنهُ إلاّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم، وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ. وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) : إِسْنَاده جيد إلاّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار، مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وطاووس، والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) غير مَحْفُوظ، وَإِنَّمَا تعرف صَلَاة النَّهَار عَن يعلى بن عَطاء عَن عَليّ الْبَارِقي عَن ابْن عمر، وَقد خَالفه نَافِع وَهُوَ أحفظ مِنْهُ فَذكر إِن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى وَالنَّهَار أَرْبعا. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: سُئِلَ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ عَن حَدِيث الْبَارِقي هَذَا: أصحيح هُوَ؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه زِيَادَة من ثِقَة فَهِيَ مَقْبُولَة. قلت: لَو كَانَ هَذَا صَحِيحا لخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَقَالَ يحيى: كَانَ شُعْبَة يَنْفِي هَذَا الحَدِيث، وَرُبمَا لم يرفعهُ، وروى إِبْرَاهِيم الحنيني عَن مَالك والنمري عَن نَافِع عَن ابْن عمر، يرفعهُ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) . وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة الحنيني خطأ، وَلم يُتَابِعه عَن مَالك أحد.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن الشَّافِعِي احْتج بِهِ على أَن الإيتار بِرَكْعَة وَاحِدَة جَائِز، وَاحْتج أَيْضا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،(7/3)
قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل عشر رَكْعَات ويوتر بِسَجْدَة وَيسْجد بسجدتي الْفجْر، فَذَلِك ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح الإيتار بِوَاحِدَة وَلَا تكون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة صَلَاة قطّ، وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ترد عَلَيْهِ قلت: مَعْنَاهُ يُوتر بِسَجْدَة أَي: بِرَكْعَة وَرَكْعَتَيْنِ قبله فَيصير وتره ثَلَاثًا ونفله ثمانيا، والركعتان للفجر، وَلأبي حنيفَة أَيْضا أَحَادِيث صَحِيحَة ترد عَلَيْهِ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسلم فِي رَكْعَتي الْوتر) ، وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر بِثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ) . وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلم يخرجَاهُ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَن الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن ابْن يزِيد النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وتر اللَّيْل ثَلَاث كوتر النَّهَار صَلَاة الْمغرب) . فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه عَن الْأَعْمَش مَرْفُوعا غير يحيى بن زَكَرِيَّا وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ الثَّوْريّ وَعبد الله بن نمير وَغَيرهمَا عَن الْأَعْمَش فوقفوه. قلت: لَا يضرنا كَونه مَوْقُوفا على مَا عرف، مَعَ أَن الدَّارَقُطْنِيّ أخرج عَن عَائِشَة أَيْضا نَحوه مَرْفُوعا. وَأخرج النَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة عَن الفضيل بن عِيَاض عَن هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن ابْن عمر، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة الْمغرب وتر صَلَاة النَّهَار فأوتروا صَلَاة اللَّيْل) . وَهَذَا السَّنَد على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وروى الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا روح بن الْفرج حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدثنَا بكر بن مُضر عَن جَعْفَر بن ربيعَة (عَن عقبَة بن مُسلم، قَالَ: سَأَلت عبد الله بن عمر عَن الْوتر، فَقَالَ: أتعرف وتر النَّهَار؟ فَقلت: نعم صَلَاة الْمغرب، قَالَ: صدقت وأحسنت) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَعَلِيهِ يحمل حَدِيث ابْن عمر (أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاة اللَّيْل) إِلَى آخر حَدِيث الْبَاب، قَالَ: مَعْنَاهُ: صل رَكْعَة فِي ثِنْتَيْنِ قبلهَا وتتفق بذلك الْأَخْبَار. حَدثنَا أَبُو بكرَة حَدثنَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا أَبُو خَالِد: سَأَلت أَبَا الْعَالِيَة عَن الْوتر. فَقَالَ: علمنَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْوتر مثل صَلَاة الْمغرب، هَذَا وتر اللَّيْل، وَهَذَا وتر النَّهَار. وروى الطَّحَاوِيّ عَن أنس قَالَ: الْوتر ثَلَاث رَكْعَات. وروى أَيْضا عَن الْمسور بن مخرمَة، قَالَ: دفنا أَبَا بكر لَيْلًا فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لم أوتر، فَقَامَ وصففنا وَرَاءه فصلى بِنَا ثَلَاث رَكْعَات لم يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا حَفْص بن عمر عَن الْحسن، قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْوتر ثَلَاثَة لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ. وَقَالَ الْكَرْخِي: أجمع الْمُسلمُونَ ... إِلَى آخِره، نَحوه، ثمَّ قَالَ: وأوتر سعد بن أبي وَقاص بِرَكْعَة فَأنْكر عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود، وَقَالَ: مَا هَذِه البتيراء الَّتِي لَا نعرفها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَعَن عبد الله بن قيس، قَالَ: (قلت لعَائِشَة: بكم كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر؟ قَالَت: كَانَ يُوتر بِأَرْبَع وَثَلَاث، وست وَثَلَاث وثمان وَثَلَاث، وَعشر وَثَلَاث، وَلم يكن يُوتر بِأَقَلّ من سبع وَلَا بِأَكْثَرَ من عشرَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فقد نصت على الْوتر بِثَلَاثَة وَلم تذكر الْوتر بِوَاحِدَة، فَدلَّ على أَنه لَا اعْتِبَار للركعة البتيراء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ أَصْحَابنَا: لم يقل أحد من الْعلمَاء: إِن الرَّكْعَة الْوَاحِدَة لَا يَصح الإيتار بهَا إلاّ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمن تابعهما قلت: عجبا للنووي كَيفَ ينْقل هَذَا النَّقْل الْخَطَأ وَلَا يردهُ مَعَ علمه بخطئه، وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ أَن الإيتار بِثَلَاث، وَلَا تجزى الرَّكْعَة الْوَاحِدَة. وروى الطَّحَاوِيّ: عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه أثبت الْوتر بِالْمَدِينَةِ بقول الْفُقَهَاء: ثَلَاث لَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ، واتفاق الْفُقَهَاء بِالْمَدِينَةِ على اشْتِرَاط الثَّلَاث بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة يبين لَك خطأ نقل النَّاقِل اخْتِصَاص ذَلِك بِأبي حنيفَة وَالثَّوْري وأصحابهما. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا خشيت الصُّبْح فأوتر بِرَكْعَة؟) قلت: مَعْنَاهُ مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا، وَلذَلِك قَالَ: (توتر لَك مَا قبلهَا) ، وَمن يقْتَصر على رَكْعَة وَاحِدَة كَيفَ توتر لَهُ مَا قبلهَا وَلَيْسَ قبلهَا شَيْء؟ فَإِن قلت: رُوِيَ أَنه قَالَ: (من شَاءَ أوتر بِرَكْعَة، وَمن شَاءَ أوتر بِثَلَاث أَو بِخمْس) قلت: هُوَ هُوَ مَحْمُول على أَنه كَانَ قبل استقرارها، لِأَن الصَّلَاة المستقرة لَا يُخَيّر فِي أعداد ركعاتها، وَكَذَا قَول عَائِشَة: (كَانَ يسلم بَين كل رَكْعَتَيْنِ ويوتر بِوَاحِدَة) ، يُعَارضهُ مَا روى ابْن مَاجَه عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه كَانَ يُوتر بِسبع أَو بِخمْس لَا يفصل بَينهُنَّ بِتَسْلِيم وَلَا كَلَام، فَيحمل على أَنه كَانَ قبل اسْتِقْرَار الْوتر، وَمِمَّا يدل على مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ حَدِيث النَّهْي عَن البتيراء: أَن يُصَلِّي الرجل وَاحِدَة يُوتر بهَا. أخرجه ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) عَن أبي سعيد: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن البتيراء، وَمِمَّنْ قَالَ: يُوتر بِثَلَاث لَا يفصل بَينهُنَّ: عمر وعَلى وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَأبي بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَأنس وَأَبُو أُمَامَة(7/4)
وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة وَأهل الْكُوفَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: ذهب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم إِلَيْهِ. وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح (عَن ابي بن كَعْب: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد وَلَا يسلم إلاّ فِي آخِرهنَّ) . وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحَارِث: (عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُوتر بِثَلَاث) .
الْوَجْه الثَّالِث: فِي وَقت الْوتر، وَوَقته وَقت الْعشَاء، فَإِذا خرج وقته لَا يسْقط عَنهُ بل يَقْضِيه. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : جُمْهُور الْعلمَاء على أَن وَقت الْوتر يخرج بِطُلُوع الْفجْر، وَقيل: إِنَّه يَمْتَد بعد الْفجْر إِلَى أَن يصلى الْفجْر. قَالَ ابْن بزيزة: ومشهور مَذْهَب مَالك أَن يصليه بعد طُلُوع الْفجْر مَا لم يصل الصُّبْح، والشاذ من مذْهبه إِنَّه لَا يُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر. قَالَ: وبالمشهور من مذْهبه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَمن السّلف: ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعبادَة بن الصَّامِت وَحُذَيْفَة وَأَبُو الدَّرْدَاء وَعَائِشَة. وَقَالَ طَاوُوس: يُصَلِّي الْوتر بعد صَلَاة الصُّبْح، وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن وَاللَّيْث: يُصَلِّي وَلَو طلعت الشَّمْس، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يُوتر من الْقَابِلَة، وَفِي (المُصَنّف) : عَن الْحسن قَالَ: لَا وتر بعد الْغَدَاة، وَفِي لفظ: (إِذا طلعت الشَّمْس فَلَا وتر) ، وَقَالَ الشّعبِيّ: من صلى الْغَدَاة وَلم يُوتر فَلَا وتر عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَه مَكْحُول وَسَعِيد بن جُبَير.
199 - وعَنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ كانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ والرَّكْعَتَيْنِ فِي الوِتْرِ حَتَّى يَأمُرَ بِبَعْضِ حاجَتِهِ.
قَالَ بَعضهم: وَهُوَ مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلّق، وَلَو كَانَ مُسْندًا لم يفرقه، وَإِنَّمَا فرقه لأمرين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ سمع كلا مِنْهُمَا مفترقا عَن الآخر. وَالْآخر: أَنه أَرَادَ الْفرق بَين الحَدِيث والأثر، وَهَذَا مَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع أَن ابْن عمر ... إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن أبي وهب عَن مَالك، وَأخرجه أَيْضا عَن صَالح بن عبد الرَّحْمَن عَن سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا هشيم عَن مَنْصُور (عَن بكر بن عبد الله، قَالَ: صلى عمر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام أرحل لنا، ثمَّ قَامَ فأوتر بِرَكْعَة) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَفِي هَذِه الْآثَار أَنه كَانَ يُوتر بِثَلَاث، وَلَكِن يفصل بَين الْوَاحِدَة والاثنتين. فَإِن قلت: هَذَا يُؤَيّد مَذْهَب من قَالَ: إِن الْوتر رَكْعَة وَاحِدَة. قُلْنَا: إِن ابْن عمر لما سَأَلَهُ عقبَة بن مُسلم عَن الْوتر فَقَالَ: أتعرف وتر النَّهَار؟ فَقَالَ: نعم، صَلَاة الْمغرب. قَالَ: صدقت، أَو أَحْسَنت، فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الْوتر كَانَ عِنْد ابْن عمر ثَلَاث رَكْعَات كَصَلَاة الْمغرب، فَالَّذِي روى عَنهُ مِمَّا ذكرنَا فعله، وَهَذَا قَوْله وَالْأَخْذ بالْقَوْل أولى لِأَنَّهُ أقوى، وَقد قُلْنَا: إِن الْحسن الْبَصْرِيّ حكى إِجْمَاع الْمُسلمين على الثَّلَاث بِدُونِ الْفَصْل.
299 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ مَخْرَمَةَ بنِ سُلَيْمَانَ عنْ كُرَيْبٍ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ باتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهْيَ خالَتُهُ فاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الوِسَادَةِ واضْطَجَعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أوْ قَرِيبا مِنْهُ فاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آياتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَى شَنٍّ مُعَلقَةٍ فَتَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأسِي وَأخَذَ بِأذُنِي يَفْتِلُهَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جاءَهُ المُؤَذِّنُ فقامَ فَصلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ..
إِنَّمَا ذكر هَذَا الحَدِيث هَهُنَا بعد أَن ذكره فِي عدَّة مَوَاضِع فِي: الْعلم وَالطَّهَارَة وَالْأَمَانَة والمساجد وَغَيرهَا، لِأَن فِيهِ تعلقا بالوتر، وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ أوتر) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، ولنذكر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ. قَوْله: (أَنه بَات عِنْد مَيْمُونَة) ، وَزَاد شريك بن أبي نمر: (عَن كريب عِنْد مُسلم فرقبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ يُصَلِّي) . وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه)(7/5)
من هَذَا الْوَجْه: بِاللَّيْلِ، وَلمُسلم من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (بَعَثَنِي الْعَبَّاس إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) وَزَاد النَّسَائِيّ من طَرِيق حبيب بن أبي ثَابت (عَن كريب: فِي إبل أعطَاهُ إِيَّاهَا من الصَّدَقَة) . وَلأبي عوَانَة من طَرِيق عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه: (أَن الْعَبَّاس بَعثه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَاجَة فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي الْمَسْجِد، فَلم استطع أَن ُأكَلِّمهُ، فَلَمَّا صلى الْمغرب قَامَ فَرَكَعَ حَتَّى أذن الْمُؤَذّن بِصَلَاة الْعشَاء) ، وَلابْن خُزَيْمَة من طَرِيق طَلْحَة بن نَافِع عَنهُ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد الْعَبَّاس ذودا من الْإِبِل، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ بعد الْعشَاء وَكَانَ فِي بَيت مَيْمُونَة) . فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف مَا قبله؟ قلت: يحْتَمل على أَنه لما لم يكلمهُ فِي الْمَسْجِد أَعَادَهُ إِلَيْهِ بعد الْعشَاء. ولمحمد بن نصر فِي (كتاب قيام اللَّيْل) من طَرِيق مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن نويفع، (عَن كريب من الزِّيَادَة، فَقَالَ لي: يَا بني، بت اللَّيْلَة عندنَا) . وَفِي رِوَايَة حبيب بن أبي ثَابت: (فَقلت: لَا أَنَام حَتَّى أنظر إِلَى مَا يصنع) ، أَي فِي صَلَاة اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن مخرمَة (فَقلت لميمونة: إِذا قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأيقظيني) . قَوْله: (فِي عرض الوسادة) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْمَذْكُورَة: (وسَادَة من أَدَم حشوها لِيف) ، وَفِي رِوَايَة طَلْحَة ابْن نَافِع الْمَذْكُور: (ثمَّ دخل مَعَ امْرَأَته فِي فراشها) ، وَزَاد: (أَنَّهَا كَانَت ليلتئذ حَائِضًا) ، وَفِي رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن كريب فِي (التَّفْسِير) : (فَتحدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَهله سَاعَة) . وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الوسادة المخدة وَالْجمع الوسائد، وَفِي (الْمطَالع: وَقد قَالُوا: إساد ووساد، والوساد مَا يتوسد إِلَيْهِ للنوم. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَالظَّاهِر أَنه لم يكن عِنْدهمَا فرَاش غَيره، فَلذَلِك باتوا جَمِيعًا فِيهِ. وَالْعرض، بِفَتْح الْعين ضد الطول، وَفِي (الْمطَالع) : وَبَعْضهمْ يضمها وَالْفَتْح أشهر، وَهُوَ النَّاحِيَة والجانب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهِي الْفراش وَشبهه. قَالَ: وَكَانَ وَالله أعلم مُضْطَجعا عِنْد رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عِنْد رَأسه. قَوْله: (حَتَّى انتصف اللَّيْل أَو قَرِيبا مِنْهُ) وَجزم شريك بن أبي نمر فِي رِوَايَته الْمَذْكُورَة: بِثلث اللَّيْل الْأَخير. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: يحمل على أَن الاستيقاظ وَقع مرَّتَيْنِ، فَفِي الأول: نظر إِلَى السَّمَاء ثمَّ تَلا الْآيَات ثمَّ عَاد لمضجعه فَنَامَ، وَفِي الثَّانِيَة: أعَاد ذَلِك ثمَّ تَوَضَّأ وَصلى، وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ: عَن سَلمَة بن كهيل عَن كريب فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (فَقَامَ من اللَّيْل فَأتى حَاجته ثمَّ غسل وَجهه وَيَديه ثمَّ قَامَ فَأتى الْقرْبَة. .) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَسْرُوق عَن سَلمَة عِنْد مُسلم: (ثمَّ قَامَ قومة أُخْرَى) ، وَعِنْده من رِوَايَة شُعْبَة عَن سَلمَة: (فَبَال) ، بدل: (فَأتى حَاجته) . فَإِن قلت: قَرِيبا مَنْصُوب بِمَاذَا؟ قلت: بعامل مُقَدّر نَحْو: صَار اللَّيْل قَرِيبا من الانتصاف. قَوْله: (من آل عمرَان) أَي: من خاتمتها وَهِي {إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 091) . إى آخرهَا. قَوْله: (ثمَّ قَامَ إِلَى شن، زَاد مُحَمَّد بن الْوَلِيد: (ثمَّ استفرغ من الشن فِي إِنَاء ثمَّ تَوَضَّأ) . قَوْله: (معلقَة) إِنَّمَا أنثها بِاعْتِبَار أَن الشن فِي معنى الْقرْبَة. قَوْله: (فَأحْسن الْوضُوء) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد وَطَلْحَة بن نَافِع جَمِيعًا: (فأسبغ الْوضُوء) ، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن كريب: (فَتَوَضَّأ وضُوءًا خَفِيفا) ، وَلمُسلم من طَرِيق عِيَاض عَن مخرمَة: (فأسبغ الْوضُوء وَلم يمس من المَاء إلاّ قَلِيلا، وَزَاد فِيهَا: (فَتَسَوَّكَ) ، وَفِي رِوَايَة شريك عَن كريب: (فاستن) . قَوْله: (ثمَّ قَامَ يُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد: (ثمَّ أَخذ بردا لَهُ حضرميا فتوشحه، ثمَّ دخل الْبَيْت فَقَامَ يُصَلِّي) . قَوْله: (فَأخذ بأذني) زَاد مُحَمَّد بن الْوَلِيد فِي رِوَايَته: (فَعرفت أَنه إِنَّمَا صنع ذَلِك ليؤنسني بِيَدِهِ فِي ظلمَة اللَّيْل) . وَفِي رِوَايَة الضَّحَّاك بن عُثْمَان: (فَجعلت إِذا أغفيت أَخذ بشحمة أُذُنِي) . قَوْله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب ذكر الرَّكْعَتَيْنِ سِتّ مَرَّات، ثمَّ قَالَ: (ثمَّ أوتر) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنه صلى ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، وَصرح بذلك فِي رِوَايَة سَلمَة الْآتِيَة فِي الدَّعْوَات، حَيْثُ قَالَ: (فتتامت) ، وَلمُسلم: (فتكاملت صلَاته ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَظَاهر هَذَا أَنه فصل بَين كل رَكْعَتَيْنِ، وَوَقع التَّصْرِيح بذلك فِي رِوَايَة طَلْحَة بن نَافِع حَيْثُ قَالَ فِيهَا: (يسلم بَين كل رَكْعَتَيْنِ) ، وَلمُسلم من رِوَايَة عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس التَّصْرِيح بِالْفَصْلِ أَيْضا، وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة بروايات مُخْتَلفَة، وَكَذَلِكَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِذا جمعت مَعَاني هَذِه الْأَحَادِيث تذل على أَن وتره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَلَاث رَكْعَات. قَوْله: (ثمَّ اضْطجع حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ) ، قَالَ القَاضِي: فِيهِ أَن الِاضْطِجَاع كَانَ قبل رَكْعَتي الْفجْر، وَفِيه رد على الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَذهب مَالك وَالْجُمْهُور إِلَى أَنه بِدعَة. قَوْله: (ثمَّ خرج) أَي: إِلَى الْمَسْجِد فصلى الصُّبْح بِالْجَمَاعَة.(7/6)
399 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهَبٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وأنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ ابنَ القَاسِمِ حدَّثَهُ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فإِذَا أرَدْتَ أنْ تَنْصَرِفَ فارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا صَلَّيْتَ..
قد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي بَاب مَا جَاءَ فِي الْوتر: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد الله بن دِينَار كِلَاهُمَا عَن ابْن عمر، وَهَهُنَا أخرجه عَن يحيى بن سُلَيْمَان أبي سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزيل مصر، وَهُوَ من أَفْرَاده، يرْوى عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَالَ القاسِمُ: ورَأيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ أدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلاثٍ وَإنْ كُلاًّ لَوَاسِعٌ أرْجُو أنْ لاَ يَكُونَ بِشَيءٍ منْهُ بَأْسٌ
الْقَاسِم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمَذْكُور آنِفا فِي الحَدِيث. قَالَ بَعضهم: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور كَذَلِك أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) وَوهم من زعم أَنه مُعَلّق. قلت: الصَّوَاب مَعَ من ادّعى التَّعْلِيق لِأَنَّهُ فَصله عَمَّا قبله، فَجعله ابْتِدَاء كَلَام، وَلَا يلْزم من اسْتِخْرَاج أبي نعيم إِيَّاه مَوْصُولا أَن يكون هَذَا مَوْصُولا. قَوْله: (مُنْذُ أدركنا) أَي: مُنْذُ زمَان بلوغنا الْعقل والحلم. قَوْله: (يوترون بِثَلَاث) ، أَي: بِثَلَاث رَكْعَات. قَوْله: (وَإِن كلا) أَي: وَإِن كل وَاحِد من الرَّكْعَة وَالثَّلَاث وَاسع، يَعْنِي: لَا حرج فِي فعل أَيهمَا شَاءَ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: من الرَّكْعَة وَالثَّلَاث وَالْخمس والسبع وَالتسع والإحدى عشرَة لجائز. قلت: الْكَلَام فِي الْوتر الَّذِي هُوَ رَكْعَة وَاحِدَة أم ثَلَاث رَكْعَات وَمَا فَوق الثَّلَاث من الأوتار لَيْسَ فِيهِ خلاف، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَن الْقَاسِم فهم من قَوْله: (فاركع رَكْعَة) أَي: مُنْفَرِدَة مُنْفَصِلَة، وَدلّ ذَلِك على أَنه لَا فرق عِنْده بَين الْوَصْل والفصل فِي الْوتر. قلت: الْقَاسِم صَاحب لِسَان وَفهم وَعلم، كَيفَ ينْسب إِلَيْهِ مَا لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ؟ فَإِن قَوْله: (فاركع رَكْعَة) يَعْنِي: رَكْعَة وَاحِدَة، وَهُوَ أَعم من أَن تكون مُتَّصِلَة أَو مُنْفَصِلَة، وَلَكِن قَوْله: (توتر لَك مَا صليت) ، يدل على أَنه يوصلها بالركعتين اللَّتَيْنِ قبلهَا حَتَّى يكون مَا صلاه وترا ثَلَاث رَكْعَات، لِأَن المُرَاد من قَوْله: (مَا صليت) ، هُوَ الَّذِي صلاه قبل هَذِه الرَّكْعَة، وَلَا يكون هَذَا وترا إلاَّ إِذا انضمت إِلَيْهِ هَذِه الرَّكْعَة الْوَاحِدَة من غير فصل، فَإِذا فصل لَا يكون الْوتر إلاّ هَذِه الرَّكْعَة وَهِي وَاحِدَة، والواحدة بتيراء، وَقد نهى عَنْهَا على مَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
499 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ إخْبَرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّي إحْدَى عَشْرَةَ ركْعَةً كانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ تَعْنِي بِاللَّيْلِ فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذالِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَة قَبْلَ أنْ يَرْفَعَ رَأسَهُ ويرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يأتِيهِ المُؤذِّنُ لِلصَّلاَةِ..
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بَاب طول السُّجُود فِي قيام اللَّيْل، بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن بعينهما، وَأَبُو الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. قَوْله: (كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عشرَة رَكْعَة) ، وَرُوِيَ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خلاف مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَنهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، ثمَّ يُصَلِّي إِذا سمع النداء رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) أخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ عَن يُونُس بن عبد على عَن ابْن وهب عَن مَالك نَحوه، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَا: حَدثنَا أبان عَن يحيى عَن أبي سَلمَة (عَن عَائِشَة عَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ(7/7)
يُصَلِّي من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، كَانَ يُصَلِّي ثَمَانِي رَكْعَات ويوتر بِرَكْعَة، ثمَّ يُصَلِّي. قَالَ مُسلم: بعد الْوتر رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَاعد، فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع قَامَ فَرَكَعَ، وَيُصلي بَين أَذَان الْفجْر وَالْإِقَامَة رَكْعَتَيْنِ) . وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، قَالَت: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل عشر رَكْعَات ويوتر بِسَجْدَة، وَيسْجد سَجْدَتي الْفجْر، فَذَلِك ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَأخرج أَيْضا من حَدِيث الْأسود بن يزِيد: (أَنه دخل على عَائِشَة فَسَأَلَهَا عَن صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاللَّيْلِ فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاث عشرَة رَكْعَة من اللَّيْل، ثمَّ إِنَّه يُصَلِّي إِحْدَى عشرَة رَكْعَة وَيتْرك رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قبض حِين قبض وَهُوَ يُصَلِّي من اللَّيْل تسع رَكْعَات آخر صلَاته من اللَّيْل الْوتر) . وروى أَيْضا من حَدِيث سعد بن هِشَام فِي حَدِيث طَوِيل: أَنه سَأَلَ عَائِشَة قَالَ: (قلت حدثيني عَن قيام اللَّيْل! فَأخْبرت بِهِ ثمَّ قَالَ: حدثيني عَن وتر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: كَانَ يُوتر بثمان رَكْعَات لَا يجلس إلاّ فِي الثَّامِنَة والتاسعة، وَلَا يسلم إلاّ فِي التَّاسِعَة، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس، فَتلك إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، يَا بني، فَلَمَّا أسن وَأخذ اللَّحْم أوتر بِسبع رَكْعَات لم يجلس إلاّ فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة، وَلم يسلم إلاّ فِي السَّابِعَة، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس، فَتلك تسع رَكْعَات يَا بني) . إعلم أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أطلقت على جَمِيع صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي اللَّيْل الَّتِي كَانَ فِيهَا الْوتر: وترا، فجملتها إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، وَهَذَا كَانَ قبل أَن يبدن وَيَأْخُذ اللَّحْم، فَلَمَّا بدن وَأخذ اللَّحْم أوتر بِسبع رَكْعَات، وَهَهُنَا أَيْضا أطلقت على الْجَمِيع: وترا، وَالْوتر مِنْهَا ثَلَاث رَكْعَات، أَربع قبله من النَّفْل وَبعده رَكْعَتَانِ، فالجميع تسع رَكْعَات. فَإِن قلت: قد صرحت فِي الصُّورَة الأولى بقولِهَا: (لَا يجلس إلاّ فِي الثَّامِنَة وَلَا يسلم إلاّ فِي التَّاسِعَة) ، وصرحت فِي الصُّورَة الثَّانِيَة بقولِهَا: (لم يجلس إلاّ فِي السَّادِسَة وَالسَّابِعَة، وَلم يسلم إلاّ فِي السَّابِعَة) . قلت: هَذَا اقْتِصَار مِنْهَا على بَيَان جُلُوس الْوتر وَسَلَامه، لِأَن السَّائِل إِنَّمَا سَأَلَ عَن حَقِيقَة الْوتر وَلم يسْأَل عَن غَيره، فأجابت مبينَة بِمَا فِي الْوتر من الْجُلُوس على الثَّانِيَة بِدُونِ سَلام، وَالْجُلُوس أَيْضا على الثَّالِثَة بِسَلام وَهَذَا عين مَذْهَب أبي حنيفَة، وَسكت عَن جُلُوس الرَّكْعَات الَّتِي قبلهَا وَعَن السَّلَام فِيهَا، كَمَا أَن السُّؤَال لم يَقع عَنْهَا، فجوابها قد طابق سُؤال السَّائِل، غير أَنَّهَا أطلقت على الْجَمِيع: وترا فِي الصُّورَتَيْنِ لكَون الْوتر فِيهَا، وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ مَا روى الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث يحيى بن أَيُّوب عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتر بعدهمَا: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَيقْرَأ فِي الْوتر: قل هُوَ الله أحد، وَقل أعوذ بِرَبّ الفلق، وَقل أعوذ بِرَبّ النَّاس) . وَأخرج من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يقْرَأ فِي الْوتر فِي الرَّكْعَة الأولى: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَة: قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَة: قل هُوَ الله أحد) . وَقد وَقع الِاخْتِلَاف فِي أعداد رَكْعَات صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاللَّيْلِ من سبع وتسع وَإِحْدَى عشرَة وَثَلَاث عشرَة إِلَى سبع عشرَة رَكْعَة، وَقدر عدد رَكْعَات الْفَرْض فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: كل وَاحِد من الروَاة مثل عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَزيد بن خَالِد وَغَيرهم أخبر بِمَا شَاهده، وَأما الِاخْتِلَاف عَن عَائِشَة فَقيل: هُوَ من الروَاة عَنْهَا، وَقيل: هُوَ مِنْهَا: وَيحْتَمل أَنَّهَا أخْبرت عَن حالات: مِنْهَا: مَا هُوَ الْأَغْلَب من فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهَا: مَا هُوَ نَادِر: وَمِنْهَا: مَا هُوَ اتّفق من اتساع الْوَقْت وضيقه على مَا ذَكرْنَاهُ.
2 - (بابُ ساعاتِ الوِتْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَاعَات الْوتر، أَي: أوقاته.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ أوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ
مطابقته هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قبل النّوم سَاعَة من سَاعَات الْوتر، وساعات الْوتر هُوَ اللَّيْل كُله، غير أَن أَوله من مغيب الشَّفق على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن لَا يجوز تَقْدِيمه على صَلَاة الْعشَاء. وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أوردهُ البُخَارِيّ من طَرِيق أبي عُثْمَان عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (وَأَن أوتر قبل أَن نَام) . وَوجه أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالوتر لأبي هُرَيْرَة قبل النّوم خشيَة أَن يستولي عَلَيْهِ النّوم، فَأمره بِالْأَخْذِ بالثقة، وَبِهَذَا وَردت الْأَخْبَار عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا: حَدِيث(7/8)
عَائِشَة: (من خَافَ أَن لَا يَسْتَيْقِظ آخر اللَّيْل فليوتر أول اللَّيْل، وَمن علم أَن يَسْتَيْقِظ آخر اللَّيْل فَإِن صلَاته آخر اللَّيْل محضورة، وَذَلِكَ أفضل) .
599 - حدَّثنا أبُو النعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ سِيرِينَ قَالَ قُلْتُ لابنِ عُمَرَ أرَأيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الغَدَاةِ نُطِيلُ فِيهِمَا القِرَاءَةَ فَقَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ ويُصَلِّي الرَّكّعَتِيْنِ قَبّلَ صَلاَةَ الغَدَاةِ وَكَانَ الأذَانَ بِأُذُنَيْهِ قَالَ حَمَّادٌ أيْ سُرْعَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُصَلِّي من اللَّيْل) ، فَإِن قَوْله: (من اللَّيْل) مَجْمُوع اللَّيْل لِأَنَّهُ مُبْهَم يصلح لجَمِيع أَجزَاء اللَّيْل حَيْثُ لم يعين بَعْضًا مِنْهُ، وَهُوَ سَاعَات الْوتر، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَيْسَ للوتر وَقت معِين لَا يجوز فِي غَيره، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوتر كل اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي: الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: أنس بن سِيرِين أَخُو مُحَمَّد بن سِيرِين أَبُو حَمْزَة، مَاتَ بعد أَخِيه مُحَمَّد، وَمَات مُحَمَّد سنة عشر وَمِائَة. الرَّابِع: عب الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن خلف بن هِشَام وَأبي كَامِل الجحدري عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أريت؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي. قَوْله: (نطيل) ، بنُون الْجمع من: أَطَالَ يُطِيل إِذا طول، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أطيل) ، بِهَمْزَة الْمُتَكَلّم وَحده. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (أطيل) بِلَفْظ مَجْهُول الْمَاضِي ومعروف الْمُضَارع. قلت: لَا أَدْرِي مَجْهُول الْمَاضِي رِوَايَة أم لَا؟ قَوْله: (وَكَانَ) ، بتَشْديد النُّون. قَوْله: (بأذنيه) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال وَضمّهَا تَثْنِيَة أذن، ويروى: (بِإِذْنِهِ) بِالْإِفْرَادِ وَقَوله: (وَكَأن الْأَذَان بأذنه) عبارَة عَن سرعته بركعتي الْفجْر، وَالْمرَاد من الْأَذَان الْإِقَامَة، وَالْحَاصِل أَنه: كَانَ يُخَفف الْقِرَاءَة فِي رَكْعَتي الْفجْر مثل من كَانَ يسمع إِقَامَة الصَّلَاة ويسرع خشيَة فَوَات الْوَقْت عَنهُ. وَقَالَ الْمُهلب: وَكَأن الْأَذَان بِإِذْنِهِ يُرِيد الْإِقَامَة من أجل التغليس بِالصَّلَاةِ. قَوْله: قَالَ حَمَّاد) ، وَهُوَ ابْن زيد الرَّاوِي. قيل: وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قلت: وَفِيه نظر. قَوْله: (بِسُرْعَة) بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت وَابْن شبويه، وَفِي رِوَايَة غَيرهم (سرعَة) بِغَيْر الْبَاء وَهُوَ تَفْسِير من الرَّاوِي لقَوْله: (كَأَن الْأَذَان بأذنيه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: أَن صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي على أَن الْوتر رَكْعَة وَاحِدَة، وَقد ذكرنَا الْجَواب عَنهُ مستقصىً فِي الْبَاب الَّذِي قبله. الثَّالِث: فِيهِ الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الصُّبْح. الرَّابِع: تَخْفيف الْقِرَاءَة فيهمَا.
699 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ كُلَّ اللَّيْلِ أوْتَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على أَن كل اللَّيْل سَاعَات الْوتر، وأولها من بعد صَلَاة الْعشَاء، وَآخِرهَا إِلَى طُلُوع الْفجْر الصَّادِق. وَقد روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث خَارِجَة: أَن وقته مَا بَين الْعشَاء وطلوع الْفجْر، وَاسْتَغْرَبَهُ التِّرْمِذِيّ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة أَبُو عَمْرو النَّخعِيّ الْكُوفِي، قاضيها. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى الْكُوفِي. الْخَامِس: مَسْرُوق بن عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال: ابْن الأجدع، وَهُوَ لقب عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.(7/9)
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض وهم: الْأَعْمَش وَمُسلم ومسروق.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كل اللَّيْل) ، يجوز فِي: كل، الرّفْع وَالنّصب. أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَالْجُمْلَة بعده خَبره، وَأما النصب فعلى الظَّرْفِيَّة لقَوْله: (أوتر) ، وَالْمرَاد مِنْهُ أَنه أوتر فِي جَمِيع اللَّيْل أَو فِي جَمِيع سَاعَات اللَّيْل، يَعْنِي: إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ جزئيات اللَّيْل أَو أجزاؤه. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن مَسْرُوق، (عَن عَائِشَة قَالَت: من كل اللَّيْل قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وانْتهى وتره إِلَى السحر) . وَله عَن عَائِشَة: (من كل اللَّيْل، قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من أول اللَّيْل وأوسطه وَآخره، فَانْتهى وتره إِلَى السحر) ، وَله فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَت: (كل اللَّيْل قد أوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْتهى وتره إِلَى آخر اللَّيْل) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مَسْرُوق قَالَ: قلت لعَائِشَة: مَتى كَانَ يُوتر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت: كل ذَلِك قد فعل: أوتر أول اللَّيْل وأوسطه وَآخره، وَلَكِن انْتهى وتره حِين مَاتَ إِلَى السحر) . انْتهى. قلت: قد يكون أوتر من أَوله لشكوى حصلت، وَفِي وَسطه لاستيقاظه إِذْ ذَاك وَآخره غَايَة لَهُ، وَمعنى قَوْله: وانْتهى وتره إِلَى السحر أَي: كَانَ آخر أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخر الْوتر إِلَى آخر اللَّيْل، وَيُقَال: فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول اللَّيْل وأوسطه، بَيَان للْجُوَاز، وتأخيره إِلَى آخر اللَّيْل تَنْبِيه على الْأَفْضَل لمن يَثِق بالانتباه، وَكَانَ بعض السّلف يوترون أول اللَّيْل، مِنْهُم: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَأَبُو هُرَيْرَة وَرَافِع بن خديج، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبَعْضهمْ يوترون آخر اللَّيْل مِنْهُم: عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهم من التَّابِعين، وَأما أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة بالوتر قبل النّوم فَهُوَ اخْتِيَار مِنْهُ لَهُ حِين خشِي عَلَيْهِ من اسْتِيلَاء النّوم، فَأمره بِالْأَخْذِ بالثقة، وَالتَّرْغِيب فِي الْوتر فِي آخر اللَّيْل هُوَ لمن قوي عَلَيْهِ، وَلم تكن عَادَته أَن تغلبه عَيناهُ، وَعند ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث أبي قَتَادَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر، مَتى توتر؟ قَالَ: قبل أَن أَنَام. وَقَالَ لعمر: مَتى توتر؟ فَقَالَ: أَنَام ثمَّ أوتر. فَقَالَ لأبي بكر أخذت بالحزم أَو بالوثيقة، وَقَالَ لعمر: أخذت بِالْقُوَّةِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن هِشَام حَدثنَا الديري عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن شهَاب عَن ابْن الْمسيب: (أَن أَبَا بكر وَعمر تذاكرا الْوتر عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَبُو بكر: أما أَنا فَإِنِّي أَنَام على وتر فَإِن استيقظت صليت شفعا حَتَّى الصَّباح. وَقَالَ عمر: لَكِن أَنَام على شفع ثمَّ أوتر فِي السحر. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر: حذر هَذَا، ولعمر: قوي هَذَا) . وَفِي فَوَائِد سمويه من حَدِيث ابْن عقيل (عَن جَابر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأبي بكر: أَي حِين توتر؟ قَالَ: أول اللَّيْل بعد الْعَتَمَة) . وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي أول وَقت الْوتر، وَآخره فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
3 - (بابُ إيقَاظِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْلَهُ بالوِتْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إيقاظ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والإيقاظ مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: (أَهله) بِالنّصب مَفْعُوله، قَوْله: (بالوتر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (للوتر) ، بِاللَّامِ.
799 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثني أبي عنْ عائِشَةَ قَالتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَأَنا رَاقِدَةٌ مُعْترِضَةً عَلَى فِرَاشِهِ فإذَا أرَادَ أنْ يُوتِرَ أيْقَظَنِي فأوْتَرْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَفَائِدَة وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحبّ لكل أحد أَن يوقظ امْرَأَته لأجل صَلَاة الْوتر إِذا نَامَتْ قبل الإيتار. وَفِيه تَأْكِيد لأمر الْوتر والامتثال لقَوْله تَعَالَى: {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} (طه: 231) . وَفِيه مَشْرُوعِيَّة الْوتر فِي حق النِّسَاء.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، وَقد ذكر(7/10)
البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن جَمِيعًا فِي: بَاب الصَّلَاة خلف النَّائِم، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فأوترت) الْفَاء فِيهِ تسمى: فَاء الفصيحة، فتقديره: فَقُمْت وتوضأت فأوترت.
4 - (بابٌ لِيَجْعَلَ آخِرَ صلاَتِهِ وِتْرا)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته ليجعل إِلَى آخِره أَي: ليجعل الْمُصَلِّي آخر صلَاته بِاللَّيْلِ صَلَاة الْوتر.
899 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة مَأْخُوذَة مِنْهُ. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله ابْن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَفِي رِوَايَته بعد قَوْله: (وترا، فَإِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْمر بذلك) .
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ حكمان: الأول: اسْتِحْبَاب تَأْخِير الْوتر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على وجوب الْوتر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: إِن الْعلمَاء كَافَّة قَالَت: إِنَّه سنة، حَتَّى أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَحده: هُوَ وَاجِب وَلَيْسَ بِفَرْض. وَقَالَ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه: الْوتر سنة مُؤَكدَة لَيْسَ بِفَرْض وَلَا وَاجِب، وَبِه قَالَت الإئمة كلهَا إلاّ أَبَا حنيفَة. وَقَالَ بَعضهم: وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث بعض من قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَتعقب بِأَن صَلَاة اللَّيْل لَيست وَاجِبَة ... إِلَى آخِره، وَبِأَن الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيله. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا مَا يشبه هَذَا. قلت: هَذَا كُله من آثَار التعصب، فَكيف يَقُول القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَبُو حَامِد، وهما إمامان مشهوران، بِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا قريب من الصِّحَّة؟ وَأَبُو حنيفَة لم ينْفَرد بذلك، هَذَا القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ ذكر عَن سَحْنُون وَأصبغ بن الْفرج وُجُوبه، وَحكى ابْن حزم أَن مَالِكًا قَالَ: من تَركه أُدِّبَ، وَكَانَت جرحه فِي شَهَادَته، وَحَكَاهُ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) عَن أَحْمد، وَفِي (المُصَنّف) عَن مُجَاهِد بِسَنَد صَحِيح: هُوَ وَاجِب وَلم يكْتب، وَعَن ابْن عمر بِسَنَد صَحِيح: مَا أحب أَنِّي تركت الْوتر وَأَن لي حمر النعم، وَحكى ابْن بطال وُجُوبه عَن أهل الْقُرْآن عَن ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن يُوسُف بب خَالِد السَّمْتِي شيخ الشَّافِعِي وُجُوبه، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود وَالضَّحَّاك. انْتهى.
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، كَيفَ يجوز لأبي الطّيب وَلأبي حَامِد أَن يدعيا هَذِه الدَّعْوَى الْبَاطِلَة؟ فَهَذَا يدل على عدم اطلاعهما، فِيمَا ذكرنَا، فجهل الشَّخْص بالشَّيْء لَا يَنْفِي علم غَيره بِهِ.
وَقَول من ادّعى التعقب بِأَن: صَلَاة اللَّيْل لَيست بواجبة. . إِلَى آخِره، قَول واهٍ لِأَن الدَّلَائِل قَامَت على وجوب الْوتر. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّالقَانِي حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي (عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَهَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلِهَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ. فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده أَبُو الْمُنِيب عبيد الله بن عبد الله، وَقد تكلم فِيهِ البُخَارِيّ وَغَيره. قلت: قَالَ الْحَاكِم: وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: هُوَ صَالح الحَدِيث، وَأنكر على البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي الضُّعَفَاء، فَهَذَا ابْن معِين إِمَام هَذَا الشَّأْن وَكفى بِهِ حجَّة فِي توثيقه إِيَّاه. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قد دلّت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة على أَنه لم يرد بِالْحَقِّ الْوُجُوب الَّذِي لَا يسع غَيره. مِنْهَا: خبر عبَادَة بن الصَّامِت لما بلغه أَن أَبَا مُحَمَّد، رجلا من الْأَنْصَار، يَقُول: (الْوتر حق، فَقَالَ: كذب أَبُو مُحَمَّد، ثمَّ روى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي عدد الصَّلَوَات الْخمس. وَمِنْهَا: خبر طَلْحَة بن عبيد الله فِي سُؤال الْأَعرَابِي. وَمِنْهَا: خبر أنس بن مَالك فِي فرض الصَّلَوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء قلت: سُبْحَانَ الله مَا أقرب هَذَا الْكَلَام، إِلَى السُّقُوط، فَمِنْهُ يشم أثر التعصب، وَكَيف لَا يكون وَاجِبا والشارع يَقُول الْوتر حق، أَي: وَاجِب ثَابت، وَالدَّلِيل على هَذَا الْمَعْنى. قَوْله: (فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا؟) وَهَذَا وَعِيد شَدِيد، وَلَا يُقَال مثل هَذَا إلاّ فِي حق تَارِك فرض أَو وَاجِب، وَلَا سِيمَا وَقد تَأَكد ذَلِك بالتكرار ثَلَاث مَرَّات، وَمثل هَذَا الْكَلَام بِهَذِهِ التأكيدات لم يَأْتِ فِي حق السنين، فَسقط بذلك مَا قَالَه الْخطابِيّ(7/11)
وَسقط أَيْضا قَوْله: الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيله، فَهَذَا الْقَائِل وقف على دَلِيله وَلَكِن اتبع هَوَاهُ لغيره، فَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالْجَوَاب عَن خبر عبَادَة أَنه إِنَّمَا كذب الرجل فِي قَوْله كوجوب الصَّلَاة، وَلم يقل أحد: أَن الْوتر وَاجِب كوجوب الصَّلَاة. فَإِن قلت: قَالَ النَّجْم النَّسَفِيّ صَاحب الْمَنْظُومَة.
(وَالْوتر فرض وبدا بِذكرِهِ ... فِي فجره فَسَاد فرض فجره)
قلت: مَعْنَاهُ: فرض عملا، سنة سَببا وَاجِب علما. وَأما خبر طَلْحَة بن عبيد الله فَكَأَنَّهُ قبل وجوب الْوتر بِدَلِيل أَنه لم يذكر فِيهِ الْحَج، فَدلَّ على أَنه مُتَقَدم على وجوب الْحَج، وَلَفْظَة: (زادكم صَلَاة) مشعرة بتأخر وجوب الْوتر، وَأما خبر أنس فَلَا نزاع فِيهِ أَنه كَانَ قبل الْوُجُوب، وَمن الدَّلِيل على وُجُوبه مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أخبرنَا عِيسَى عَن زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أهل الْقُرْآن أوتروا فَإِن الله وتر يحب الْوتر) ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن وَقَوله: (أوتروا) أَمر، وَهُوَ للْوُجُوب. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: تَخْصِيصه أهل الْقُرْآن بِالْأَمر فِيهِ يدل على أَن الْوتر غير وَاجِب، وَلَو كَانَ وَاجِبا لَكَانَ عَاما، وَأهل الْقُرْآن فِي عرف النَّاس هم الْقُرَّاء والحفاظ دون الْعَوام. قلت: أهل الْقُرْآن بِحَسب اللُّغَة يتَنَاوَل كل من مَعَه شَيْء من الْقُرْآن وَلَو كَانَ آيَة، فَيدْخل فِيهِ الْحفاظ وَغَيرهم، على أَن الْقُرْآن كَانَ فِي زَمَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مفرقا بَين الصَّحَابَة: وَبِهَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد لَا يبطل مُقْتَضى الْأَمر الدَّال على الْوُجُوب، وَلَا سِيمَا تَأَكد الْأَمر بالوتر بمحبة الله إِيَّاه بقوله: (فَإِن الله وتر يحب الْوتر) .
وَمِنْهَا: مَا أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث عَن يزِيد ابْن أبي حبيب عَن عبد الله بن رَاشد عَن عبد الله بن أبي مرّة: عَن خَارِجَة بن حذافة الْعَدوي، أَنه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله قد أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم، مَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر الْوتر الْوتر، مرَّتَيْنِ) وَهَذَا سَنَد صَحِيح. فَإِن قلت: كَيفَ تَقول: صَحِيح، وَفِيه ابْن لَهِيعَة وَفِيه مقَال؟ قلت: ذكر ابْن لَهِيعَة فِي هَذَا وَعدم ذكره سَوَاء، والعمدة على اللَّيْث بن سعد، وَلِهَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ وَلم يذكر ابْن لَهِيعَة، فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الله بن رَاشد الزرقي (عَن خَارِجَة بن حذافة، قَالَ: خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (إِن الله أمدكم بِصَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم: الْوتر، جعله الله لكم فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى أَن يطلع الْفجْر) . وَقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث خَارِجَة بن حذافة حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاّ من حَدِيث يزِيد بن أبي حبيب، وَقد وهم بعض الْمُحدثين فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ عبد الله بن رَاشد الزرقي: وَهُوَ وهم. وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ لِتَفَرُّد التَّابِعِيّ من الصَّحَابِيّ قلت: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن خَارجه تفرد عَنهُ ابْن أبي مرّة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَبَا عبيد الله مُحَمَّد بن الرّبيع الجيزي فِي (كتاب الصَّحَابَة) تأليفه، روى عَنهُ أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن جُبَير، قَالَ: وَلم يرو عَنهُ غير أهل مصر، وَقَالَ أَبُو زيد فِي (كتاب الْأَسْرَار) : هُوَ حَدِيث مَشْهُور، وَلما أخرجه أَبُو دَاوُد سكت عَنهُ، وَمن عَادَته إِذا سكت عَن حَدِيث أخرجه يدل على صِحَّته عِنْده وَرضَاهُ بِهِ، فَإِن قلت: أعل ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث بِعَبْد الله بن رَاشد، وَنقل عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه ضعفه، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا نَعْرِف لإسناد هَذَا الحَدِيث سَماع بَعضهم من بعض. قلت: عبد الله بن رَاشد وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ أخرج حَدِيثه هَذَا وَلم يتَعَرَّض إِلَيْهِ بِشَيْء، وَإِنَّمَا تعرض للْحَدِيث الَّذِي أخرجه عَن ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف حَدثنَا أَبُو يحيى الْحمانِي عبد الحميد حَدثنَا النَّضر أَبُو عمر عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَيْهِم يرى الْبشر وَالسُّرُور فِي وَجهه، فَقَالَ: إِن الله أمدكم بِصَلَاة وَهِي الْوتر) . النَّضر أَبُو عمر الخراز ضَعِيف، وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا يُقَوي حَدِيث خَارِجَة الْمَذْكُور ويزيده قُوَّة فِي صِحَّته. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ. قَوْله: (أمدكم بِصَلَاة) ، يدل على أَنَّهَا غير لَازِمَة لَهُم، وَلَو كَانَت وَاجِبَة لخرج الْكَلَام فِيهِ على صِيغَة لفظ الْإِلْزَام، فَيَقُول: ألزمكم، أَو: فرض عَلَيْكُم أَو نَحْو ذَلِك وَقد روى أَيْضا فِي الحَدِيث: (إِن الله قد زادكم صَلَاة لم تَكُونُوا تصلونها قبل ذَلِك على تِلْكَ الصُّورَة والهيئة وَهِي الْوتر) . قلت: لَا نسلم أَن قَوْله: (أمدكم بِصَلَاة) ، يدل على أَنَّهَا غير لَازِمَة، بل يدل على أَنَّهَا لَازِمَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نسب ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، فَلَا يكون ذَلِك إلاّ وَاجِبا. وَتَعْيِين الْعبارَة لَيْسَ بِشَرْط فِي الْوُجُوب قَوْله: وَمَعْنَاهُ(7/12)
الزِّيَادَة فِي النَّوَافِل غير صَحِيح، لِأَن الزِّيَادَة عَن الله تَعَالَى لَا تكون نفلا، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا كَانَ من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَرْط عدم الْمُوَاظبَة.
وَمِنْهَا حَدِيث أبي بصرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، واسْمه: حميل بن بصرة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم، وَقيل: جميل، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْمِيم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا يَصح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري حَدثنَا ابْن لَهِيعَة أَن أَبَا تَمِيم عبد الله بن مَالك الجيشاني أخبرهُ أَنه سمع عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول: أَخْبرنِي رجل من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله قد زادكم صَلَاة فصلوها فِيمَا بَين الْعشَاء إِلَى صَلَاة الصُّبْح: الْوتر، أَلا وَإنَّهُ أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، قَالَ أَبُو تَمِيم: فَكنت أَنا وَأَبُو ذَر قَاعِدين. .) الحَدِيث، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير: نَحوه، وَعبد الله بن لَهِيعَة ثِقَة عِنْد أَحْمد والطَّحَاوِي.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عمر وَأخرجه أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة فحافظوا عَلَيْهَا وَهِي الْوتر) ، فَقَالَ عَمْرو بن شُعَيْب: نرى أَن يُعَاد الْوتر وَلَو بعد شهر.
وَمِنْهَا حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه أَبُو دَاوُود وَقد ذَكرْنَاهُ وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنهُ وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة أخرجه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) أَنَّهَا قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوتروا يَا أهل الْقُرْآن، فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نَام عَن وتر أَو نَسيَه فليصله إِذا أصبح أَو ذكره) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَنقل تَصْحِيحه ابْن الْحصار أَيْضا عَن شَيْخه، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن الله وتر يحب الْوتر فأوتروا يَا أهل الْقُرْآن، فَقَالَ أَعْرَابِي: مَا تَقول؟ فَقَالَ: لَيْسَ لَك ولأصحابك) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ بن جبل أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة عبيد الله بن زحر عَن عبد الرحمن بن رَافع التنوخي قَاضِي أفريقية أَن معَاذ بن جبل قدم الشَّام وَأهل الشَّام لَا يوترون، فَقَالَ: وواجب ذَلِك عَلَيْهِم؟ قَالَ: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (زادني رَبِّي، عز وَجل، صَلَاة وَهِي الْوتر فِيمَا بَين الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر) . قلت: عبيد الله بن زحر ضَعِيف جدا، وَمُعَاوِيَة لم يتأمر فِي حَيَاة معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بَرزَة أخرجه أَبُو عمر فِي (الاستذكار) عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْوتر حق وَاجِب) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سُلَيْمَان بن صرد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استاكوا وتنظفوا وأوتروا فَإِن الله وتر يحب الْوتر) . وَفِي سَنَده إِسْمَاعِيل بن عَمْرو، وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَضَعفه الدَّارَقُطْنِيّ. حَدِيث عقبَة بن عَامر وَعَمْرو بن الْعَاصِ فأخرجهما الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِمَا عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة هِيَ خير لكم من حمر النعم: الْوتر، وَهِي فِيمَا بَين صَلَاة الْعشَاء إِلَى طُلُوع الْفجْر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله ابْن أبي أوفى أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) من رِوَايَة أَحْمد بن مُصعب: حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى حَدثنَا أَبُو حنيفَة عَن أبي يَعْفُور عَن عبد الله بن أبي أوفى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِن الله زادكم صَلَاة وَهِي الْوتر) .
5 - (بابُ الوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوتر على الدَّابَّة، وَلم يلْزم بِبَيَان حكمه اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَالْمرَاد من الدَّابَّة هُنَا دَابَّة يركب عَلَيْهَا.
999 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أبي بَكْرِ بنِ عُمَرَ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ عنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ أنَّهُ قَالَ كُنْتُ أسيرُ مَعَ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقَالَ سَعِيدٌ فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نزَلْتُ فأوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهِ فقالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ أيْنَ كُنْتَ(7/13)
فَقُلْتُ خَشِيتُ الصُّبْحَ فنَزَلْتُ فأوْتَرْتُ فَقَالَ عَبْدُ الله ألَيْسَ لَكَ فِي رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَقُلْتُ بَلَى وَالله قَالَ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُوتِرُ عَلَى البَعِيرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (كَانَ يُوتر على الْبَعِير) ، وَهُوَ بَين حكم التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا كَانَت مُبْهمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي إويس، وَاسم أبي أويس عبد الله وَهُوَ ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: أَبُو بكر بن عمر، لَا يعرف اسْمه، وَقَالَ ابْن حبَان: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ لَا يُسمى. الرَّابِع: سعيد بن يسَار ضد الْيَمين أَبُو الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الأولى، من عُلَمَاء الْمَدِينَة، مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَة. الْخَامِس: عبد الله ابْن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن أَبَا بكر لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَكَذَلِكَ فِي (صَحِيح مُسلم) وَفِيه: أَن أَبَا بكر قيل فِيهِ إِنَّه ابْن عَبَّاس بن عبد الرَّحْمَن بِإِسْقَاط عمر بَينهمَا، وَالصَّحِيح إثْبَاته.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد بن سِنَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خشيت الصُّبْح) ، أَي: طلوعه. قَوْله: (أُسوة) بِكَسْر الْهمزَة وَضمّهَا، مَعْنَاهُ: الِاقْتِدَاء. قَوْله: (حَسَنَة) بِالرَّفْع صفة للأسوة. قَوْله: (بلَى وَالله) تَأْكِيد لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَهُ. قَوْله: (على الْبَعِير) الْبَعِير: الْجمل الْبَاذِل، وَقيل: الْجذع، وَقد تكون للْأُنْثَى. وَحكي عَن بعض الْعَرَب: شربت من لبن بَعِيري، وصرعتني بعير لي. وَفِي (الْجَامِع) : الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس إِذا رَأَيْت جملا على الْبعد قلت: هَذَا بعير، فَإِذا استثبته قلت: جمل أَو نَاقَة. وَتجمع على أَبْعِرَة وأباعرة. وأباعير وبعران وبعران فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بالدابة، وَفِي الحَدِيث لفظ: الْبَعِير قلت: ترْجم بهَا تَنْبِيها على أَن لَا فرق بَينهَا وَبَين الْبَعِير فِي الحكم، وَالْجَامِع بَينهمَا أَن الْفَرْض لَا يجزىء على وَاحِدَة مِنْهُمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ عَطاء وَابْن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَالم بن عبد الله وَنَافِع مولى ابْن عمر وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: على أَن للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي الْوتر على دَابَّته. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه صلى على رَاحِلَته فأوتر عَلَيْهَا، وَقَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر على رَاحِلَته، ويروى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَكَانَ مَالك يَقُول: لَا يُصَلِّي على الرَّاحِلَة إِلَّا فِي سفر يقصر فِيهِ الصَّلَاة، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: قصير السّفر وطويله فِي ذَلِك سَوَاء، يُصَلِّي على رَاحِلَته. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : ويوتر الْمَرْء قَائِما وَقَاعِدا لغير عذر إِن شَاءَ، وعَلى دَابَّته. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: عَن عُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يجوز الْوتر إلاّ على الأَرْض، كَمَا فِي الْفَرَائِض، ويروى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله فِي رِوَايَة ذكرهَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) . وَقَالَ الثَّوْريّ: صل الْفَرْض وَالْوتر بِالْأَرْضِ، وَإِن أوترت على راحلتك فَلَا بَأْس، وَاحْتج أهل الْمقَالة الثَّانِيَة بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يزِيد بن سِنَان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم، قَالَ: حَدثنَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته ويوتر بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك كَانَ يفعل) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَهُوَ خلاف حَدِيث الْبَاب، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أبي بكرَة، بكار القَاضِي، عَن عُثْمَان بن عمر وَبكر بن بكار، كِلَاهُمَا عَن عمر بن ذَر (عَن مُجَاهِد: أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر على بعيره أَيْنَمَا توجه بِهِ، فَإِذا كَانَ فِي السّفر نزل فأوتر) . رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا هشيم، قَالَ: حَدثنَا حُصَيْن (عَن مُجَاهِد، قَالَ: صَحِبت ابْن عمر من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَكَانَ يُصَلِّي على دَابَّته حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ، فَإِذا كَانَت الْفَرِيضَة نزل فصلى) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعيد بن جُبَير (أَن ابْن عمر كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته تَطَوّعا، فَإِذا أَرَادَ أَن يُوتر نزل فأوتر على الأَرْض) . وَحَدِيث حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يدل على شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا فعل ابْن عمر إِنَّه كَانَ يُوتر بِالْأَرْضِ، وَالْآخر أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يفعل كَذَلِك، وَحَدِيث الْبَاب كَذَلِك يدل على الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورين فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال للطائفتين بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين غير أَن لأهل الْمقَالة الثَّانِيَة أَن يَقُولُوا: إِن ابْن عمر(7/14)
يحْتَمل أَنه كَانَ لَا يرى بِوُجُوب الْوتر، وَكَانَ الْوتر عِنْده كَسَائِر التطوعات، فَيجوز فعله على الدَّابَّة وعَلى الأَرْض، لِأَن صلَاته إِيَّاه على الأَرْض لَا يَنْفِي أَن يكون لَهُ أَن يُصَلِّي على الرَّاحِلَة. وَأما إيتاره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الرَّاحِلَة فَيجوز أَن يكون ذَلِك قبل أَن يلفظ امْر الْوتر ثمَّ أحكم من بعد وَلم يرخص فِي تَركه، فالتحق بالواجبات فِي هَذَا الْأَمر بالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي الْبَاب السَّابِق، وَوجه النّظر وَالْقِيَاس أَيْضا يَقْتَضِي عدم جَوَازه على الرَّاحِلَة، بَيَان ذَلِك أَن الأَصْل الْمُتَّفق عدم جَوَاز صَلَاة الرجل وتره على الأَرْض قَاعِدا، وَهُوَ يقدر على الْقيام، فالنظر على ذَلِك أَن لَا يصليه فِي السّفر على رَاحِلَته وَهُوَ يُطيق النُّزُول. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَمن هَذِه الْجِهَة عِنْدِي ثَبت نسخ الْوتر على الرَّاحِلَة. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي ذَلِك وَمَا وَجهه؟ قلت: وَجه ذَلِك أَن يكون بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للْمَنْع وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة، فَإِن التَّعَارُض بَين الْحَدِيثين الْمَذْكُورين ظَاهر، ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون النَّص الْمُوجب للْمَنْع مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة، فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى وأحق. فَإِن قلت: كَيفَ يكون النّسخ بِمَا ذكرت وَقد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُوتر على رَاحِلَته بعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل ذَلِك؟ قلت: قد قُلْنَا: إِنَّه كَانَ يجوز أَن يكون الْوتر عِنْده كالتطوع، فَحِينَئِذٍ يكون لَهُ الْخِيَار فِي الصَّلَاة على الرَّاحِلَة وعَلى الأَرْض كَمَا فِي التَّطَوُّع، على أَن مُجَاهدًا قد روى عَنهُ أَنه كَانَ ينزل للوتر، على مَا ذكرنَا، فعلى هَذَا يجوز أَن يكون مَا فعله من وتره على الرَّاحِلَة قبل علمه بالنسخ، ثمَّ لما علمه رَجَعَ إِلَيْهِ وَترك الْوتر على الرَّاحِلَة، وَبِهَذَا التَّقْرِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ بَطل مَا قَالَه ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أَي: حَدِيث الْبَاب حجَّة على أبي حنيفَة فِي إِيجَابه الْوتر، لِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه لَا يجوز أَن يُصَلِّي الْوَاجِب رَاكِبًا فِي غير حَال الْعذر، وَلَو كَانَ الْوتر وَاجِبا مَا صلاه رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ بَطل مَا قَالَه الْكرْمَانِي. فَإِن قيل: روى مُجَاهِد أَن ابْن عمر نزل فأوتر قُلْنَا: نزل طلبا للأفضل، لَا أَن ذَلِك كَانَ وَاجِبا، وَبَطل أَيْضا مَا قَالَه بَعضهم: إِن هَذَا الحَدِيث يدل على كَون الْوتر نفلا، فيا للعجب من هَؤُلَاءِ كَيفَ تركُوا الْأَحَادِيث الدَّالَّة على وجوب الْوتر، وَتركُوا الْإِنْصَاف، وسلكوا طَرِيق التعسف لترويج مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من غير برهَان قَاطع.
6 - (بابُ الوِتْرِ فِي السَّفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوتر فِي السّفر، قيل: إِنَّه أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِن الْوتر لَا يسن فِي السّفر. وَقَالَ ابْن بطال: الْوتر سنة مُؤَكدَة فِي السّفر والحضر، وَهَذَا رد على الضَّحَّاك فِيمَا قَالَ: إِن الْمُسَافِر لَا وتر عَلَيْهِ.
0001 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرَةُ بنُ أسمَاءٍ عنِ ابْن عُمَرَ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِىءُ إيمَاءً صَلاَةَ اللَّيْل إلاَّ الفَرَائِضَ ويُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويوتر على رَاحِلَته) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: جوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم ابْن أَسمَاء، بِفَتْح الْهمزَة وبالمد على وزن: حَمْرَاء، مر فِي كتاب الْغسْل فِي: بَاب الْجنب يتَوَضَّأ. الثَّالِث: نَافِع مولى ابْن عمر. الرَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا وَالثَّالِث مدنِي، وَهُوَ من الرباعيات، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على رَاحِلَته) الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَكَذَلِكَ الرحول، وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّاحِلَة من الْإِبِل: الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال، وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء، وَالْهَاء فِيهَا للْمُبَالَغَة، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر،(7/15)
فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت. قَوْله: (يومىء) جملَة فعلية مضارعية وَقعت حَالا، (وإيماءً) مَنْصُوب على المصدرية. قَوْله: (صَلَاة اللَّيْل) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: (يُصَلِّي) قَوْله: (إلاّ الْفَرَائِض) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي: لَكِن الْفَرَائِض لم تكن تصلى على الرَّاحِلَة، وَلَا يجوز أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد اسْتثِْنَاء فَرِيضَة اللَّيْل فَقَط، إِذْ لَا تصلى فَرِيضَة أصلا على الرَّاحِلَة ليلية أَو نهارية. قَوْله: (ويوتر) عطف على قَوْله: (يُصَلِّي) ، أَرَادَ أَنه بعد فَرَاغه من صَلَاة اللَّيْل يُوتر على رَاحِلَته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: احْتج بِهِ قوم على جَوَاز صَلَاة الْوتر على الرَّاحِلَة فِي السّفر، وَمنعه آخَرُونَ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى فِي الْبَاب السَّابِق. الثَّانِي: تجوز صَلَاة النَّفْل على الرَّاحِلَة بِالْإِيمَاءِ فِي السّفر حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ دَابَّته، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلفُوا فِي الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي السّفر الَّذِي لَا تقصر فِي مثله الصَّلَاة، فَقَالَ جمَاعَة: يُصَلِّي فِي قصير السّفر وطويلة، وَعَن مَالك: لَا يُصَلِّي أحد على دَابَّته فِي سفر لَا تقصر فِي مثله الصَّلَاة. وَقَالَ الْقَدُورِيّ: وَمن كَانَ خَارج الْمصر يتَنَفَّل على دَابَّته. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَالتَّقْيِيد بِخَارِج الْمصر يَنْفِي اشْتِرَاط السّفر، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون سفرا أَو غير سفر، وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَن جَوَاز التَّطَوُّع على الدَّابَّة، للْمُسَافِر خَاصَّة، وَالصَّحِيح أَن الْمُسَافِر وَغَيره سَوَاء بعد أَن يكون خَارج الْمصر، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْبعد عَن الْمصر، وَالْمَذْكُور فِي الأَصْل مِقْدَار فرسخين أَو ثَلَاثَة، وَقدر بَعضهم بالميل وَمنع الْجَوَاز فِي أقل مِنْهُ، وَعند الشَّافِعِي: يجوز فِي طَوِيل السّفر وقصيره. الثَّالِث: لَا تجوز صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بِلَا ضَرُورَة، وَفِي (خُلَاصَة الفتاوي) : أما صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بالعذر فجائزة، وَمن الْأَعْذَار: الْمَطَر، عَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ الرجل فِي السّفر فأمطرت السَّمَاء فَلم يجد مَكَانا يَابسا ينزل للصَّلَاة فَإِنَّهُ يقف على الدَّابَّة مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ إِذا أمكنه إيقاف الدَّابَّة، فَإِن لم يُمكنهُ يُصَلِّي مستدبر الْقبْلَة، وَهَذَا إِذا كَانَ الطين بِحَال يغيب وَجهه فِيهِ، وإلاّ صلى هُنَاكَ. وَمن الْأَعْذَار: اللص وَالْمَرَض وَكَونه شَيخا كَبِيرا لَا يجد من يركبه إِذا نزل، وَالْخَوْف من السَّبع. وَفِي (الْمُحِيط) : تجوز الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي هَذِه الْأَحْوَال وَلَا تلْزمهُ الْإِعَادَة بعد زَوَال الْعذر، وَحكم السّنَن الرَّوَاتِب كَحكم التَّطَوُّع، وَعَن أبي حنيفَة: أَنه ينزل لسنة الْفجْر، وَلِهَذَا لَا يجوز فعلهَا قَاعِدا عِنْده لكَونهَا وَاجِبَة عِنْده فِي رِوَايَة، وَعَن الشَّافِعِي وَأحمد أَنَّهَا آكِد من الْوتر. الرَّابِع: قَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِحَدِيث الْبَاب على أَن الْوتر لَيْسَ بِفَرْض، وعَلى أَنه لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجوب الْوتر عَلَيْهِ قلت: نَحن أَيْضا نقُول: إِنَّه لَيْسَ بِفَرْض، وَلكنه وَاجِب للدلائل الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمن لم يفرق بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب فقد صادم اللُّغَة، وَالْمعْنَى اللّغَوِيّ مراعى فِي الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، وَقد مر فِي حَدِيث أبي قَتَادَة التَّصْرِيح بِالْوُجُوب، وَفِي (موطأ مَالك) : أَنه بلغه أَن ابْن عمر سُئِلَ عَن الْوتر أواجب هُوَ؟ فَقَالَ عبد الله: قد أوتر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون، وَفِيه دلَالَة ظَاهِرَة على وُجُوبه، إِذْ كَلَامه يدل على أَنه صَار سَبِيلا للْمُسلمين، فَمن تَركه فقد دخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 51) . وَقَول هَذَا الْقَائِل: وعَلى أَنه لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجوب الْوتر عَلَيْهِ، مَعْنَاهُ: وَاسْتدلَّ أَيْضا على أَن الْوتر لَيْسَ من خَصَائِص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ ابْن عقيل: صَحَّ أَنه كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ، وَقَول الْقَرَافِيّ فِي (الذَّخِيرَة) : الْوتر فِي السّفر لَيْسَ وَاجِبا عَلَيْهِ، وَصلَاته إِيَّاه على الرَّاحِلَة كَانَت فِي السّفر قَول بِغَيْر استناد إِلَى سنة صَحِيحَة وَلَا ضَعِيفَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا نعلم فِي تَخْصِيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْوُجُوب حَدِيثا صَحِيحا. قلت: عدم علمه لَا يسْتَلْزم نفي علم غَيره، وَلَكِن نقُول: الحَدِيث الَّذِي ورد بِهِ من رِوَايَة الْحَاكِم، فِي مُسْنده أَبُو جناب يحيى بن أبي حَيَّة، وَهُوَ ضَعِيف مُدَلّس. قلت: أَبُو جناب، بِفَتْح الْجِيم وَالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة، وَأَبُو حَيَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكَلْبِيّ الْكُوفِي، يروي عَن ابْن عمر، روى عَنهُ ابْنه يحيى بن أبي حَيَّة.
7 - (بابُ القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعَ وبَعْدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقُنُوت قبل الرُّكُوع بعد فَرَاغه من الْقِرَاءَة وَبعد الرُّكُوع أَيْضا، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه ورد فِي الْحَالين جَمِيعًا، كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَيْضا إِلَى مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، ردا على من قَالَ: إِنَّه بِدعَة، كَابْن عمر. وَفِي (الْمُنْتَقى) لأبي عمر: عَن ابْن عمر وطاووس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيحيى بن يحيى الأندلسي.(7/16)
وَفِي (الْمُوَطَّأ) : عَن ابْن عمر أَنه لَا يقنت فِي شَيْء من الصَّلَوَات، والقنوت ورد لمعان كَثِيرَة، وَالْمرَاد هَهُنَا الدُّعَاء إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا مُقَيّدا بالأذكار الْمَشْهُورَة نَحْو: اللَّهُمَّ اهدنا فِيمَن هديت. .
1001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ قَالَ سُئِلَ أنَسٌ أقَنَتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصُّبْحِ قالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ قَالَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بعد الرُّكُوع يَسِيرا) ، وَهُوَ الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة.
وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَفِي بعض النّسخ: عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين.
قَوْله: (سُئِلَ أنس) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن أَيُّوب عِنْد مُسلم (قلت لأنس) . قَوْله: (أقنت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فَقيل لَهُ: أوقنت؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِغَيْر وَاو، وَفِي رِوَايَة الإسماعيل: (هَل قنت؟) . قَوْله: (بعد الرُّكُوع يَسِيرا) قَالَ الْكرْمَانِي أَي: زَمَانا يَسِيرا، أَي: قَلِيلا، وَهُوَ بعد الِاعْتِدَال التَّام. وَقَالَ الطرقي: أَرَادَ يَسِيرا من الزَّمَان لَا يَسِيرا من الْقُنُوت، لِأَن أدنى الْقيام يُسمى قنوتا، فاستحال أَن يُوصف بالحقارة. وَقَالَ بَعضهم: قد بَين عَاصِم فِي رِوَايَته مِقْدَار هَذَا الْيَسِير حَيْثُ قَالَ فِيهَا: إِنَّمَا قنت بعد الرُّكُوع شهرا. قلت: رِوَايَة عَاصِم رَوَاهَا البُخَارِيّ على مَا يَجِيء عَن قريب، وَرَوَاهَا أَيْضا مُسلم فِي (صَحِيحه) : حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَأَبُو كريب قَالَا: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم (عَن أنس، قَالَ: سَأَلت عَن الْقُنُوت بعد الرُّكُوع أَو قبل الرُّكُوع؟ فَقَالَ: قبل الرُّكُوع. قَالَ: قلت: فَإِن نَاسا يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قنت بعد الرُّكُوع؟ فَقَالَ: إِنَّمَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على أنَاس قتلوا أُنَاسًا من أَصْحَابه يُقَال لَهُم: الْقُرَّاء) . انْتهى. فَهَذَا صَرِيح بِأَن المُرَاد من قَوْله: (يَسِيرا) يَعْنِي شهرا، وَهُوَ يرد على الْكرْمَانِي فِيمَا قَالَه. ثمَّ إعلم أَن هَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن أنس من وُجُوه خلاف ذَلِك، فروى إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَنهُ أَنه قَالَ: (قنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاثِينَ صباحا يَدْعُو على رعل وذكوان وَعصيَّة) . وروى قَتَادَة عَنهُ نَحوا من ذَلِك، وروى عَنهُ حميد: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قنت عشْرين يَوْمًا. وروى عَنهُ عَاصِم: أَنه قنت شهرا وَأَنه قبل الرُّكُوع، وَقد ذَكرْنَاهُ الأن عَن مُسلم، فَهَؤُلَاءِ كلهم أخبروا عَن أنس خلاف مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سِيرِين عَنهُ، فَلم يجز لأحد أَن يحْتَج فِي حَدِيث أنس بِأحد الْوَجْهَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَنهُ، لِأَن لخصمه أَن يحْتَج عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنهُ مِمَّا يُخَالف ذَلِك. وأصرح من ذَلِك كُله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أنس فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة (عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قنت شهرا ثمَّ تَركه) . فَقَوله: (ثمَّ تَركه) ، يدل على أَن الْقُنُوت فِي الْفَرَائِض كَانَ ثمَّ نسخ. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله: (ثمَّ تَركه) أَي: ترك الدُّعَاء على هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل وَهِي: رعل وذكوان وَعصيَّة، أَو ترك الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات وَأَرْبع وَلم يتْركهُ فِي صَلَاة الصُّبْح. قلت: هَذَا كَلَام متحكم متعصب بِلَا تَوْجِيه وَلَا دَلِيل، فَإِن الضَّمِير فِي: تَركه، يرجع إِلَى الْقُنُوت الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ قنت، وَهُوَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع الْقُنُوت الَّذِي كَانَ فِي الصَّلَوَات، وَتَخْصِيص الْفجْر من بَينهمَا بِلَا دَلِيل من اللَّفْظ يدل عَلَيْهِ بَاطِل، وَقَوله: أَي ترك الدُّعَاء، غير صَحِيح لِأَن الدُّعَاء لم يمض ذكره، وَلَئِن سلمنَا فالدعاء هُوَ عين الْقُنُوت وَمَا ثمَّ شَيْء غَيره، فَيكون قد ترك الْقُنُوت، وَالتّرْك بعد الْعَمَل نسخ، وَقد اخْتلف الْعلمَاء هَل الْقُنُوت قبل الرُّكُوع أَو بعده؟ فمذهب أبي حنيفَة أَنه قبل الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَابْن أبي ليلى، وَبِه قَالَ: مَالك وَإِسْحَاق وَابْن الْمُبَارك، وصحيح مَذْهَب الشَّافِعِي: بعد الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فِي قَول، وَحكى أَيْضا التَّخْيِير. قبل الرُّكُوع وَبعده، عَن أنس وَأَيوب بن أبي تَمِيمَة وَأحمد بن حَنْبَل.
2001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا عاصِمٌ قَالَ سألْتُ أنَسَ بنَ مالكٍ عنِ القُنُوتِ فَال قَدْ كانَ القُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قَالَ فإنَّ فُلانا أَخْبرنِي عَنْكَ أنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرّكُوعِ فَقَالَ كَذَبَ إنَّمَا قَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرا أُرَاهُ كانَ(7/17)
بَعَثَ قَوما يُقَالُ لَهُمُ القُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رجُلاً إلَى قَوْمٍ مِنَ المُشْرِكِينَ دُونَ اولَئِكَ وكانَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَهْدٌ فقَنَتَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا يَدْعُو عَلَيْهِمْ..
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة، وَهُوَ فِي قَوْله: (قَالَ: قبله) أَي: قبل الرُّكُوع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، مر فِي: بَاب {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إلاّ قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 58) . الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الرَّابِع: أنس ابْن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي تِسْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون، وَهُوَ من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْجَنَائِز عَن عَمْرو بن عَليّ، وَفِي الْجِزْيَة عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَفِي الدَّعْوَات عَن الْحسن بن الرّبيع عَن أبي الْأَحْوَص. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْقُنُوت) مُرَاده من هَذَا السُّؤَال أَن يبين لَهُ مَحل الْقُنُوت، وَلِهَذَا قَالَ: (قلت: قبل الرُّكُوع أَو بعده) أَي: بعد الرُّكُوع، فَظن أنس أَنه كَانَ يسْأَل عَن مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، فَلذَلِك قَالَ: قد كَانَ الْقُنُوت، يَعْنِي: كَانَ مَشْرُوعا. قَوْله: (قلت: فَإِن فلَانا) ويروى: (قَالَ: فَإِن فلَانا) لم يعلم من هُوَ هَذَا الفلان، قيل: يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن سِيرِين، لِأَن فِي الحَدِيث السَّابِق: سَأَلَ مُحَمَّد بن سِيرِين أنسا، فَقَالَ: أوقنت قبل الرُّكُوع؟ . قَوْله: (قَالَ: كذب) ، أَي: قَالَ أنس: كذب فلَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا قَول الشَّافِعِيَّة حَيْثُ يقنتون بعد الرُّكُوع مُتَمَسِّكِينَ بِحَدِيث أنس الْمَذْكُور؟ وَقد قَالَ الأصوليون: إِذا كذب الأَصْل الْفَرْع لَا يعْمل بذلك الحَدِيث وَلَا يحْتَج بِهِ؟ قلت: لم يكذب أنس مُحَمَّد بن سِيرِين، بل كذب فلَانا الَّذِي ذكره عَاصِم، وَلَعَلَّه غير مُحَمَّد. انْتهى. قلت: قد تعسف الْكرْمَانِي فِي هَذَا التَّصَرُّف، بل معنى قَوْله: (كذب) : أَي: أَخطَأ، وَهِي لُغَة أهل الْحجاز، يطلقون الْكَذِب على مَا هُوَ الْأَعَمّ من الْعمد وَالْخَطَأ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) : وَمِنْه حَدِيث (صَلَاة الْوتر: كذب أَبُو مُحَمَّد) أَي: أَخطَأ، سَمَّاهُ كذبا لِأَنَّهُ يُشبههُ فِي كَونه ضد الصَّوَاب، كَمَا أَن الْكَذِب ضد الصدْق وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ النِّيَّة وَالْقَصْد، لِأَن الْكَاذِب يعلم أَن مَا يَقُوله كذب والمخطىء لَا يعلم، وَهَذَا الرجل لَيْسَ بمخبر، وَإِنَّمَا قَالَه بِاجْتِهَاد أَدَّاهُ إِلَى أَن الْوتر وَاجِب، وَالِاجْتِهَاد لَا يدْخلهُ الْكَذِب، وَإِنَّمَا يدْخلهُ الْخَطَأ، وَأَبُو مُحَمَّد صَحَابِيّ، واسْمه مَسْعُود بن زيد، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: مَسْعُود بن زيد ابْن سبيع اسْم أبي مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْقَائِل بِوُجُوب الْوتر. قَوْله: (إِنَّمَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع شهرا) كلمة: إِنَّمَا، للحصر، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَن قنوته بعد الرُّكُوع كَانَ محصورا على الشَّهْر، وَالْمَفْهُوم مِنْهُ أَنه لم يقنت بعد الرُّكُوع إلاّ شهرا ثمَّ تَركه، وتعسف الْكرْمَانِي لتمشية مذْهبه، وَأخرج الْكَلَام عَن مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنه لم يقنت إلاّ شهرا فِي جَمِيع الصَّلَوَات بعد الرُّكُوع، بل فِي الصُّبْح فَقَط، حَتَّى لَا يلْزم التَّنَاقُض بَين كلاميه، وَيكون جمعا بَينهمَا. انْتهى. قلت: لَا نسلم التَّنَاقُض لِأَن قنوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع شهرا كَانَ على قوم من الْمُشْركين، على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله، ثمَّ تَركه، وَالتّرْك يدل على النّسخ. قَوْله: (أرَاهُ كَانَ؟) أَي: قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَظن أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بعث قوما يُقَال لَهُم الْقُرَّاء، وهم طَائِفَة كَانُوا من أوزاع النَّاس، نزلُوا صفة يتعلمون الْقُرْآن، بَعثهمْ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى أهل نجد لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وليقرأوا عَلَيْهِم الْقُرْآن، فَلَمَّا نزلُوا بِئْر مَعُونَة قصدهم عَامر بن الطُّفَيْل فِي أَحيَاء، وهم: رعل وذكوان وَعصيَّة، وقاتلوهم فَقَتَلُوهُمْ وَلم ينج مِنْهُم إلاّ كَعْب بن زيد الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ ذَلِك فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَأغْرب مَكْحُول حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَت بعد الخَنْدَق، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: فَأَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: بعد أحد بَقِيَّة شَوَّال وَذي الْقعدَة وَذي الْحجَّة وَالْمحرم، ثمَّ بعث أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة فِي صفر على رَأس أَرْبَعَة أشهر من أحد، قَالَ مُوسَى بن عقبَة: وَكَانَ أَمِير الْقَوْم الْمُنْذر بن عَمْرو، وَيُقَال: مرْثَد بن أبي مرْثَد، وَقَالَ ابْن سعد: قدم أَبُو برَاء عَامر بن مَالك بن جَعْفَر الْكلابِي ملاعب الأسنة، وَفِي شعر لبيد: ملاعب الرماح، فأهدى للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يقبل مِنْهُ، وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَلم يسلم وَلم يبعد من(7/18)
الْإِسْلَام. وَقَالَ: يَا مُحَمَّد لَو بعثت معي رجَالًا من أَصْحَابك إِلَى أهل نجد رَجَوْت أَن يَسْتَجِيبُوا لَك؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنِّي أخْشَى عَلَيْهِم أهل نجد، قَالَ: أَنا لَهُم جَار إِن تعرض لَهُم أحد، فَبعث مَعَهم الْقُرَّاء وهم سَبْعُونَ رجلا. وَفِي مُسْند السراج: أَرْبَعُونَ. وَفِي المعجم: ثَلَاثُونَ، سِتَّة وَعِشْرُونَ من الْأَنْصَار، وَأَرْبَعَة من الْمُهَاجِرين، وَكَانُوا يسمون الْقُرَّاء، يصلونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى إِذا تقَارب الصُّبْح احتطبوا الْحَطب واستعذبوا المَاء فوضعوه على أَبْوَاب حجر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فبعثهم جَمِيعًا وَأمر عَلَيْهِم الْمُنْذر بن عمر وأخا بني سَاعِدَة الْمَعْرُوف: بالمعتق ليَمُوت أَي: يقدم على الْمَوْت، فسارعوا حَتَّى نزلُوا بِئْر مَعُونَة، بالنُّون، فَلَمَّا نزلوها بعثوا حرَام بن ملْحَان بِكِتَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى عَدو الله عَامر بن الطُّفَيْل، فَلَمَّا أَتَاهُ لم ينظر فِي كِتَابه حَتَّى عدا على الرجل فَقتله، ثمَّ اجْتمع عَلَيْهِ قبائل من سليم عصية وذكوان ورعل، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أخذُوا سيوفهم ثمَّ قاتلوهم حَتَّى قتلوا عَن آخِرهم إلاّ كَعْب بن زيد فَإِنَّهُم تَرَكُوهُ وَبِه رَمق، فَعَاشَ حَتَّى قتل يَوْم الخَنْدَق، شَهِيدا، وَكَانَ فِي الْقَوْم عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فَأخذ أَسِيرًا فَلَمَّا، أخْبرهُم أَنهم من مُضر أَخذه عَامر بن الطُّفَيْل فجز ناصيته وَأعْتقهُ، فَبلغ ذَلِك أَبَا برَاء، فشق عَلَيْهِ ذَلِك، فَحمل ربيعَة بن أبي برَاء على عَامر بن الطُّفَيْل فطعنه بِالرُّمْحِ فَوَقع فِي فَخذه وَوَقع عَن فرسه. قَوْله: (زهاء) ، بِضَم الزاء وَتَخْفِيف الْهَاء وبالمد: أَي: مِقْدَار سبعين رجلا. قَوْله: (دون أُولَئِكَ) يَعْنِي: غير الَّذين دَعَا عَلَيْهِم، وَكَانَ بَين الْمَدْعُو عَلَيْهِم وَبَينه عهد فغدروا وَقتلُوا الْقُرَّاء فَدَعَا عَلَيْهِم. قَوْله: (شهرا) أَي: فِي شهر، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِي: التَّصْرِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن الْقُنُوت قبل الرُّكُوع، وَأَنه حِين سَأَلَهُ عَاصِم قَالَ: قبل الرُّكُوع، وَأنكر على من نقل عَنهُ أَنه بعد الرُّكُوع وَنسبه إِلَى الْكَذِب، وَقَالَ: لم يقنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الرُّكُوع إلاّ فِي شهر وَاحِد يَدْعُو على قتلة الْقُرَّاء الْمَذْكُورين. فَإِن قلت: حَدِيث أنس الْمَذْكُور فِي الْبَاب فِي مُطلق الصَّلَاة، وَيدل عَلَيْهِ مَا روى عَاصِم أَيْضا، عَن أنس أَنه قَالَ: سَأَلت أنسا عَن الْقُنُوت فِي الصَّلَاة؟ أَي: مُطلق الصَّلَاة، وَالْمرَاد مِنْهُ جَمِيع الصَّلَوَات الْفَرْض، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: قنت رَسُول الله ت شهرا مُتَتَابِعًا فِي الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالصُّبْح فِي دبر كل صَلَاة إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِي حَدِيث أنس مَا يدل على أَنه قنت فِي الْوتر. قلت: روى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي ابْن كَعْب: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوتر فيقنت قبل الرُّكُوع) وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الْحَوْرَاء، بِالْحَاء الْمُهْملَة: واسْمه ربيعَة بن شَيبَان، قَالَ: (قَالَ الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَات أقولهن فِي الْوتر: اللَّهُمَّ اهدني فِيمَن هديت، وَعَافنِي فِيمَن عافيت، وتولني فِيمَن توليت، وَبَارك لي فِيمَا أَعْطَيْت وقني شَرّ مَا قضيت، فَإنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك، وَإنَّهُ لَا يذل من واليت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُنُوت شَيْئا أحسن من هَذَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر الْوتر) . فَإِن قلت: وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن شمر الْجعْفِيّ، أحد الْكَذَّابين الوضاعين؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يرد هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ وَالله أعلم مَا رَوَاهُ هُوَ فِي الدَّعْوَات، وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن عَليّ بن أبي طَالب: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي آخر وتره: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عُقُوبَتك، وَأَعُوذ بك مِنْك، لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك، أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك) وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وروى النَّسَائِيّ كَمَا روى ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُوتر فيقنت قبل الرُّكُوع، وروى ابْن أبي شيبَة فِي مضفة من حَدِيث ابْن مَسْعُود.
(عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ يقنت فِي الْوتر قبل الرُّكُوع) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، بِلَفْظ: (بت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنظر كَيفَ يقنت فِي وتره، فقنت قبل الرُّكُوع، ثمَّ بعثت أُمِّي، أم عبد، فَقلت: بَيْتِي مَعَ نِسَائِهِ فانظري كَيفَ يقنت فِي وتره، فأتتني فأخبرتني أَنه قنت قبل الرُّكُوع) . وروى مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر: بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَة بقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَة بقل هُوَ الله أحد ويقنت) . قَالَ مُحَمَّد بن نصر، فِي رِوَايَة أُخْرَى زَاد بعد قَوْله: (ويقنت قبل الرُّكُوع. .) والْحَدِيث عِنْد النَّسَائِيّ من طرق وَلَيْسَ(7/19)
فِي شَيْء من طرقه ذكر الْقُنُوت، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَاخْتلف أهل الْعلم فِي الْقُنُوت فِي الْوتر، فَرَأى عبد الله بن مَسْعُود الْقُنُوت فِي الْوتر فِي السّنة كلهَا، وَاخْتَارَ الْقُنُوت قبل الرُّكُوع، وَهُوَ قَول بعض أهل الْعلم، وَبِه يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَإِسْحَاق. انْتهى. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف) من رِوَايَة الْأسود عَنهُ أَنه: كَانَ يخْتَار الْقُنُوت فِي الْوتر فِي السّنة كلهَا قبل الرُّكُوع، وروى أَيْضا من رِوَايَة عَلْقَمَة أَن ابْن مَسْعُود وَأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يقنتون فِي الْوتر قبل الرُّكُوع، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر عَن ابْن مَسْعُود وَعمر أَيْضا من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن نصر من رِوَايَة الْأسود عَن عمر، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُمَا وَعَن عَليّ وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وروى السراج: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر عَن الْعَلَاء بن صَالح حَدثنَا زيد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أَنه سَأَلَهُ عَن الْقُنُوت فِي الْوتر؟ فَقَالَ: حَدثنَا الْبَراء بن عَازِب قَالَ: سنة مَاضِيَة. وَفِي (المُصَنّف) وَقَالَ إِبْرَاهِيم: كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُنُوت بعد مَا فرغ من الْقِرَاءَة فِي الْوتر، وَكَانَ سعيد بن جُبَير يَفْعَله حَدثنَا وَكِيع عَن هَارُون بن أبي إِبْرَاهِيم عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول فِي قنوت الْوتر: لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات السَّبع وَحدثنَا وَكِيع عَن الْحسن بن صَالح عَن مَنْصُور عَن شيخ يكنى أَبَا مُحَمَّد أَن الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يَقُول فِي قنوت الْوتر: اللَّهُمَّ إِنَّك ترى وَلَا تُرى، وَأَنت بالمنظر الْأَعْلَى وَأَن إِلَيْك الرجعى، وَأَن لَك الْآخِرَة وَالْأولَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من أَن نذل ونخزى، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ كُله يدل على أَن لَا قنوت فِي شَيْء من الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة، إِنَّمَا الْقُنُوت فِي الْوتر قبل الرُّكُوع.
3001 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ عنِ التَّيْمِيِّ عَن أبي مِجْلَزٍ عنْ أنَسٍ قَالَ قَنَتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهْرا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وذَكْوَانَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقُنُوت، كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر من ذَلِك الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي. الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم. وَقيل: بِفَتْحِهَا وَسُكُون الْجِيم وَفتح اللَّام، وَفِي آخِره زَاي: واسْمه لَاحق بن حميد السدُوسِي الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مَنْسُوب إِلَى جده. وَفِيه: أَن أحد الروَاة مَذْكُور بنسبته. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سُلَيْمَان ولاحق، وَسليمَان أَيْضا يروي عَن أنس بِلَا وَاسِطَة، وَهنا روى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَفِيه: أَن الإثنان الْأَوَّلَانِ من الروَاة كوفيان والإثنان الْآخرَانِ بصريان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن مقَاتل عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، أربعتهم عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، ثَلَاثَتهمْ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على رعل) ، ورعل ورعلة جَمِيعًا قَبيلَة بِالْيمن، وَقيل: هم من سليم، قَالَه ابْن سَيّده. وَفِي (الصِّحَاح) رعل، بِالْكَسْرِ، وذكوان، قبيلتان من سليم، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: رعل من الرَّعْلَة وَهِي: النَّخْلَة الطَّوِيلَة، وَالْجمع: رعال، وَهُوَ رد لما قَالَه ابْن التِّين، ضبط بِفَتْح الرَّاء، وَالْمَعْرُوف أَنه بِكَسْرِهَا، وَهُوَ فِي ضبط أهل اللُّغَة بِفَتْحِهَا، وَقَالَ الرشاطي: هُوَ رعل بن مَالك بن عَوْف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس غيلَان بن مُضر. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي (الْوَلَد) : وَلَا أعلم فِي رعل وَعصيَّة صاحبا لَهُ رِوَايَة صَحِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعصيَّة هُوَ: ابْن خفاف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم، ذكره أَبُو عَليّ الهجري فِي (نوادره) وذكوان، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْكَاف وَبعد الْألف نون، وَقد ذكرنَا أَنه قَبيلَة من سليم بِضَم السِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ الرشاطي: ذكْوَان بن ثَعْلَبَة بن بهثة بن سليم، مِنْهُم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:(7/20)
أَبُو عمر وَصَفوَان بن الْمُعَطل بن وبيصة بن المؤمل بن خزاعي بن محَارب بن هِلَال بن فالج بن ذكْوَان السّلمِيّ الذكواني، كَذَا نسبه ابْن الْكَلْبِيّ، وَعصيَّة بن خفاف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة بن سليم، مِنْهُم: بدر بن عمار بن مَالك بن يقظة بن عصية، وَالنّسب إِلَى عصية: عصوي.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن قنوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي غير الْوتر كَانَ دُعَاء على الْمُشْركين، وَأَنه إِنَّمَا قنت شهرا ثمَّ تَركه.
4001 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ القُنُوتُ فِي المَغْرِبِ والفَجْرِ.
(انْظُر الحَدِيث 897) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الْحَدِيثين السَّابِقين.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وخَالِد هُوَ الْحذاء، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: هُوَ عبد الله بن زيد الْجرْمِي.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون بِغَيْر نِسْبَة وَوَاحِد بكنيته. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي، وَشَيخ شَيْخه واسطي، وَالثَّالِث بَصرِي وَالرَّابِع شَامي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن أبي الْأسود عَن ابْن علية، وَاحْتج الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من الْقُنُوت فِي صَلَاة الْفجْر، وَاحْتج أَيْضا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْبَراء: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، زَاد ابْن معَاذ: وَصَلَاة الْمغرب. وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مُشْتَمِلًا على الصَّلَاتَيْنِ وَاحْتج أَيْضا بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّاوِي عَن الرّبيع بن أنس (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا) . وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) وَلَفظه: (عَن الرّبيع بن أنس قَالَ: قَالَ رجل لأنس بن مَالك: أقنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب؟ قَالَ: فزجره أنس، وَقَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي صَلَاة الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا) . وَفِي (الْخُلَاصَة) للنووي: صَححهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . وَقَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : على التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث أَجود أَحَادِيثهم، وَذكر جمَاعَة وثقوا أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ وَله طرق فِي كتاب الْقُنُوت لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ. قَالَ: وَإِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على أَنه مَا زَالَ يقنت فِي النَّوَازِل، أَو على أَنه مَا زَالَ يطول فِي الصَّلَاة، فَإِن الْقُنُوت لفظ مُشْتَرك بَين الطَّاعَة وَالْقِيَام والخشوع وَالسُّكُوت وَغير ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا} (النَّحْل: 21) . وَقَالَ: {أم من هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل} (الزمر: 9) . وَقَالَ: {وَمن يقنت مِنْكُن لله} (الْأَحْزَاب: 13) . وَقَالَ: {يَا مَرْيَم اقنتي} (آل عمرَان: 34) . وَقَالَ: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} (الْبَقَرَة: 832) . وَقَالَ: {كل لَهُ قانتون} (الْبَقَرَة: 611 وَالروم: 62) . وَفِي الحَدِيث: (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) ، انْتهى. وَقد ذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَن للقنوت عشرَة معَان. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَقد نظمتها فِي بَيْتَيْنِ بِقَوْلِي:
(وَلَفظ الْقُنُوت اعدد مَعَانِيه تَجدهُ ... مزيدا على عشر مَعَاني مرضية)
(دُعَاء خشوع، وَالْعِبَادَة طَاعَة ... إِقَامَتهَا إقرارنا بالعبودية)
(سكُوت صَلَاة، وَالْقِيَام، وَطوله ... كَذَاك دوَام الطَّاعَة الرابح الْقنية)
وَابْن الْجَوْزِيّ ضعف هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي (الْعِلَل المتناهية: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فَإِن أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ اسْمه عِيسَى بن ماهان. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: كَانَ يخلط. وَقَالَ يحيى: كَانَ يخطىء. وَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ يهيم كثيرا. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) ، وَسكت عَنهُ، إلاّ أَنه قَالَ: وَهُوَ معَارض بِمَا رُوِيَ عَن أنس، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قنت شهرا على أَحيَاء من الْعَرَب، ثمَّ تَركه. انْتهى. قلت: ويعارضه أَيْضا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث غَالب بن فرقد الطَّحَّان، قَالَ: كنت عِنْد أنس بن مَالك شَهْرَيْن فَلم يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة، وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي كِتَابه (الْآثَار) : أخبرنَا أَبُو حنيفَة عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لم ير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَانِتًا فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) : أَحَادِيث الشَّافِعِيَّة على أَرْبَعَة أَقسَام، مِنْهَا مَا هُوَ مُطلق، وَأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قنت. وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ، لِأَنَّهُ ثَبت أَنه قنت. وَالثَّانِي: مُقَيّد بِأَنَّهُ قنت فِي صَلَاة الصُّبْح فَيحمل(7/21)
على فعله شهرا بأدلتنا. وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْبَراء بن عَازِب، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ أَحْمد: لَا يرْوى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قنت فِي الْمغرب إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث. وَالرَّابِع: مَا هُوَ صَرِيح فِي حجتهم نَحْو مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ، وَقد ذَكرْنَاهُ، انْتهى. قلت: كَيفَ تستدل الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث وهم لَا يرَوْنَ الْقُنُوت فِي الْمغرب، فيعملون بِبَعْض الحَدِيث ويتركون بعضه، وَهَذَا تحكم.
وَقد أورد الْخَطِيب فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) أَحَادِيث أظهر فِيهَا تعصبه. فَمِنْهَا: مَا أخرجه عَن دِينَار بن عبد الله خَادِم أنس بن مَالك (عَن أنس، قَالَ: مَا زَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح حَتَّى مَاتَ) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وسكوته عَن الْقدح فِي هَذَا الحَدِيث واحتجاحه بِهِ وقاحة عَظِيمَة وعصبية بَارِدَة وَقلة دين، لِأَنَّهُ يعلم أَنه بَاطِل. وَقَالَ ابْن حبَان: دِينَار يروي عَن أنس أَشْيَاء مَوْضُوعَة لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب إلاّ على سَبِيل الْقدح فِيهَا، فواعجبا للخطيب، أما سمع فِي الصَّحِيح: (من حدث عني حَدِيثا وَهُوَ يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَذَّابين؟) وَهل مثله إلاّ مثل من أنْفق بهرجا ودلسه فَإِن أَكثر النَّاس لَا يعْرفُونَ الصَّحِيح من السقيم، وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك للنقاد، فَإِذا أورد الحَدِيث مُحدث وَاحْتج بِهِ حَافظ لم يَقع فِي النُّفُوس إلاّ أَنه صَحِيح؟ وَلَكِن عصبيته حَملته على هَذَا، وَمن نظر فِي كِتَابه الَّذِي صنفه فِي (الْقُنُوت) ، وَكتابه الَّذِي صنفه فِي (الْجَهْر بالبسملة) وَمَسْأَلَة العتم، واحتجاجه بالأحاديث الَّتِي يعلم بُطْلَانهَا، اطلع على فرط عصبيته وَقلة دينه، ثمَّ ذكر لَهُ أَحَادِيث أُخْرَى كلهَا عَن أنس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى مَاتَ، وَطعن فِي أسانيدها.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ حكم الْقُنُوت فِي الْمغرب؟ قلت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَارَة يقنت فِي جَمِيع الصَّلَوَات وَتارَة فِي طرفِي النَّهَار، لزِيَادَة شرف وقتهما حرصا على إِجَابَة الدُّعَاء حَتَّى نزل: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . فَترك إلاّ فِي الصُّبْح، كَمَا روى أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يقنت فِي الصُّبْح حَتَّى فَارق الدُّنْيَا. انْتهى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا الْمقدمِي حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا أَبُو حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصبَة وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت، وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صلَاته) . ثمَّ قَالَ: فَهَذَا ابْن مَسْعُود يخبر أَن قنوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ إِنَّمَا كَانَ من أجل من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَنه قد كَانَ ترك ذَلِك، فَصَارَ الْقُنُوت مَنْسُوخا فَلم يكن هُوَ من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت، وَكَانَ أحد من روى أَيْضا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عمر، ثمَّ أخْبرهُم أَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك حِين أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . الْآيَة، فَصَارَ ذَلِك عَن ابْن عمر مَنْسُوخا أَيْضا، فَلم يكن هُوَ يقنت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُنكر على من كَانَ يقنت، وَكَانَ أحد من روى عَنهُ الْقُنُوت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فَأخْبر فِي حَدِيثه بِأَن مَا كَانَ يقنت بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُعَاء على من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك بقوله: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (آل عمرَان: 821) . الْآيَة، فَفِي ذَلِك أَيْضا وجوب ترك الْقُنُوت فِي الْفجْر. انْتهى. فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَمن أَيْن للكرماني حَيْثُ يَقُول: إلاّ فِي الصُّبْح؟ والْحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ على ذَلِك لَا يفِيدهُ؟ لأَنا قد ذكرنَا أَن الْقُنُوت يَأْتِي لمعان كَثِيرَة مِنْهَا: الطول فِي الصَّلَاة، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) . فَإِن قلت: قد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يقنت فِي الصُّبْح بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف تكون الْآيَة ناسخة لجملة الْقُنُوت؟ وَكَذَا أنكر الْبَيْهَقِيّ ذَلِك، فَبسط فِيهِ كلَاما فِي (كتاب الْمعرفَة) فَقَالَ: وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم فِي غَزْوَة خَيْبَر وَهُوَ بعد نزُول الْآيَة بِكَثِير، لِأَنَّهَا نزلت فِي أحد، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يقنت فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعد وَفَاته؟ قلت: يحْتَمل أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن علم نزُول هَذِه الْآيَة، فَكَانَ يعْمل على مَا علم من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقنوته إِلَى أَن مَاتَ، لِأَن الْحجَّة لم تثبت عِنْده بِخِلَاف ذَلِك، أَلا ترى أَن عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لما علما بنزول الْآيَة وعلما كَونهَا ناسخة لما كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله تركا الْقُنُوت؟ وَعَن إِبْرَاهِيم بِسَنَد صَحِيح: أَنه لَا يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون وَالْأسود أَن عمر بن الْخطاب لم يقنت فِي الْفجْر، وَكَانَ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر لَا يقنتان فِيهِ، وَكَذَلِكَ ابْن الزبير وجده أَبُو بكر الصّديق وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِنَّمَا جَاءَ الْقُنُوت فِي الْفجْر من قبل الشَّام، وَعَن ابْن عمر وطاووس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَبِه قَالَت جمَاعَة، وروى التِّرْمِذِيّ (عَن أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ عَن أَبِيه عمر، قَالَ: صليت خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يقنت، وَخلف أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فَلم يقنتوا، يَا بني إِنَّه مُحدث) . وَزَاد ابْن مَنْدَه فِي (كتاب الْقُنُوت) : رَوَاهُ جمَاعَة من الثِّقَات عَن أبي مَالك، وَاسم أبي مَالك(7/22)
الْأَشْجَعِيّ: سعد بن طَارق بن أَشْيَم، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم، والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وروى الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَاس: الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح بِدعَة، وَفِي سَنَده أَبُو ليلى عبد الله بن ميسرَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مَتْرُوك، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة بشر بن حَرْب، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: أَرَأَيْت قيامهم عِنْد فرَاغ القاريء من السُّورَة بِهَذَا الْقُنُوت؟ إِنَّهَا لبدعة مَا فعلهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ بشر بن حَرْب: ضَعِيف. قلت: وَثَّقَهُ أَيُّوب، وَمَشاهُ ابْن عدي، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة وَالْأسود (عَن عبد الله ابْن مَسْعُود، قَالَ: مَا قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء من صلَاته إلاّ فِي الْوتر، وَإنَّهُ كَانَ إِذا حَارب يقنت فِي الصَّلَوَات كُلهنَّ يَدْعُو على الْمُشْركين، وَلَا قنت أَبُو بكر وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان حَتَّى مَاتُوا، وَلَا قنت عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى حَارب أهل الشَّام، وَكَانَ يقنت فِي الصَّلَوَات كُلهنَّ، وَكَانَ مُعَاوِيَة يَدْعُو عَلَيْهِ أَيْضا، يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: ابْن مَسْعُود لم يدْرك محاربة عَليّ أهل الشَّام، وَلَا موت عُثْمَان، فَإِنَّهُ مَاتَ فِي زمن عُثْمَان. قلت: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: وَلَا عُثْمَان إِلَى آخِره من كَلَام إِبْرَاهِيم أَو من عَلْقَمَة أَو من الْأسود، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أم سَلمَة، قَالَت: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقُنُوت فِي الْفجْر) . وَقد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ قد روى حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَذكر فِيهِ أَن مَا رُوِيَ من الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات مَنْسُوخ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي، وَأَبُو بكر الْبَزَّار، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة شريك عَن أبي حَمْزَة الْأَعْوَر عَن إِبْرَاهِيم (عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، قَالَ: قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت) . وَقَالَ الْبَزَّار فِي رِوَايَته: (لم يقنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ شهرا وَاحِدًا، لم يقنت قبله وَلَا بعده) . وَقَالَ: لَا نعلم روى هَذَا الْكَلَام عَن أبي حَمْزَة إلاّ شريك. قلت: بل قد رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا أَبُو معشر يُوسُف بن يزِيد بِاللَّفْظِ الأول رَوَاهُ أَبُو معِين أَيْضا، وَقَالَ الشَّيْخ زين الدّين: وَأَبُو معشر الْبَراء، وَإِن احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، فقد ضعفه ابْن معِين، وَأَبُو دَاوُد، وَأَبُو حَمْزَة الْأَعْوَر القصاب اسْمه: مَيْمُون، ضَعِيف. انْتهى. قلت: مَا انصف الشَّيْخ هَهُنَا حَيْثُ أَشَارَ بِكَلَامِهِ إِلَى تَضْعِيف الحَدِيث الْمَذْكُور لأجل مذْهبه، فَإِذا ضعف هَذَا الحَدِيث بِأبي معشر الَّذِي احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ لَا يبْقى فِي (الصَّحِيحَيْنِ) حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته إلاّ شَيْء يسير، وَكم من حَدِيث فيهمَا ضعف ابْن معِين أحد رُوَاته، وَكَذَلِكَ غير ابْن معِين، وَمَعَ هَذَا لم يلتفتوا إِلَى ذَلِك، فَكَذَلِك هَذَا. وَأَبُو حَمْزَة قد روى عَن التَّابِعين الْكِبَار مثل: الْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم، وروى عَنهُ مثل: الثَّوْريّ والحمادان وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَهُوَ من أقرانه، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ: تكلم فِيهِ من قبل حفظه، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي يكْتب حَدِيثه، وَكَذَلِكَ طعن الشَّيْخ فِي حَدِيث أم سَلمَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَالَ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعفه، لِأَن ابْن مَاجَه رَوَاهُ من رِوَايَة مُحَمَّد بن يعلى عَن عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن نَافِع عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَؤُلَاءِ ضعفاء وَلَا يَصح لنافع سَماع من أم سَلمَة. قلت: مُحَمَّد بن يعلى وَثَّقَهُ أَبُو كريب، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: لَا يرْوى عَن أم سَلمَة إلاّ بِهَذَا الْإِسْنَاد تفرد بِهِ مُحَمَّد بن يعلى، وَأما أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهَا مَاتَت فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين، وَنَافِع مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، حَكَاهُ النَّسَائِيّ عَن هَارُون بن حَاتِم. وَقَالَ الشَّيْخ أَيْضا: قَالَ أَكثر السّلف وَمن بعدهمْ أَو كثير مِنْهُم اسْتِحْبَاب الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح، سَوَاء نزلت نازلة أم لم تنزل، ثمَّ عد مِنْهُم: أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعليا وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأَبا هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس والبراء بن عَازِب، وعد من التَّابِعين: الْحسن الْبَصْرِيّ وَحميد الطَّوِيل وَالربيع بن خَيْثَم وَزِيَاد بن عُثْمَان وَسَعِيد بن الْمسيب وسُويد بن غَفلَة وطاووسا وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعبيدَة السَّلمَانِي وَعبيد بن عُمَيْر وَعُرْوَة بن الزبير وَأَبا عُثْمَان النَّهْدِيّ، وعد من الْأَئِمَّة: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، فَقِيه أهل الشَّام، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَدَاوُد. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي ابْن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر وَعبد الله بن الزبير وَأَبا مَالك الْأَشْجَعِيّ لم يَكُونُوا يقنتون وَلَا رَأَوْا الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات، وَقد ذكرنَا عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس: أَن الْقُنُوت فِي الصُّبْح بِدعَة، وَقد ذكرنَا أَن ابْن عمر كَانَ يُنكر على من يقنت، وَقد ذكرنَا من التَّابِعين الَّذين لَا يرَوْنَ الْقُنُوت: عَمْرو بن مَيْمُون وَالْأسود وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووسا حَتَّى قَالَ طَاوُوس: الْقُنُوت فِي الْفجْر بِدعَة، وَحكي عَن الزُّهْرِيّ أَيْضا، وَمن الْأَئِمَّة الَّذين(7/23)
لَا يرَوْنَ بِهِ الإِمَام أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَعبد الله بن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق وَاللَّيْث بن سعد. فَإِن قلت: فِيمَا ذكرت إِثْبَات وَنفي، فَإِذا تَعَارضا قدم الْمُثبت على النَّافِي؟ قلت: نَحن لَا نقُول: إِن هَهُنَا تَعَارضا حَتَّى نعمل بالمثبت، بل ندعي النّسخ كَمَا ذكرنَا وَجهه، وَمِمَّنْ قَالَ بالنسخ هَهُنَا الزُّهْرِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم.
51 - (كتابُ الاسْتِسْقَاء)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الاسْتِسْقَاء، وَهُوَ طلب السقيا، بِضَم السِّين: وَهُوَ الْمَطَر. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ استفعال من طلب السقيا، أَي: إِنْزَال الْغَيْث على الْبِلَاد والعباد، يُقَال: سقى الله عباده الْغَيْث، وأسقاهم، والإسم السقيا، بِالضَّمِّ، واستسقيت فلَانا طلبت مِنْهُ أَن يسقيك. وَفِي (الْمطَالع) : يُقَال: سقى وأسقى وأسقى بِمَعْنى وَاحِد. وقرىء: {نسقيكم مِمَّا فِي بطونها} (الْمُؤْمِنُونَ: 12) . بِالْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا ذكره الْخَلِيل وَابْن الْقُوطِيَّة: سقى الله الأَرْض وأسقاها. وَقَالَ آخَرُونَ: سقيته ناولته يشرب، وأسقيته جعلت لَهُ سقيا يشرب مِنْهُ، وَالِاسْتِسْقَاء الدُّعَاء لطلب السقيا.
1 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ وخُرُوجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الاسْتِسْقَاءِ)
لما قَالَ أَولا: أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء، شرع يبين هَذِه الْأَبْوَاب بَابا بَابا، فَقَالَ: بَاب الاسْتِسْقَاء أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، والنسخ هَهُنَا مُخْتَلفَة، فَوَقع للمستملي: بَاب الاسْتِسْقَاء، وَخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدُونِ الْبَسْمَلَة، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني سقط مَا قبل بَاب، وَثبتت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة ابْن شبويه.
5001 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَن عَمِّهِ قَالَ خرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي وحَوَّلَ رِدَاءَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا صيغت من نفس الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: لأوّل: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، قَاضِي الْمَدِينَة. الرَّابِع: عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ الْمَازِني. الْخَامِس: عَمه عبد الله ابْن زيد بن عَاصِم بن كَعْب بن عمر وَأَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ الْمَازِني.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا كُوفِي والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، فَإِن عبد الله بن أبي بكر روى عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي الاسْتِسْقَاء عَن آدم وَأبي الْيَمَان وعَلى ابْن عبد الله وَعبد الله بن مُحَمَّد وقتيبة وَإِسْحَاق عَن وهب وَمُحَمّد عَن عبد الْوَهَّاب، وَأخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن يحيى بن يحيى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وحرملة بن يحيى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَعنهُ عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وَسليمَان بن دَاوُد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعنهُ عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَمْرو بن عَليّ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن هِشَام بن عبد الْملك وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت عَن عبد الرَّزَّاق، وأخرجوه أَيْضا خلا ابْن مَاجَه، من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عباد بن تَمِيم. وأخرجوه، خلا التِّرْمِذِيّ، من رِوَايَة أبي بكر بن مُحَمَّد كَمَا ذكرنَا. وَأخرجه أَيْضا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عمَارَة بن غزيَّة عَن عباد بن تَمِيم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن يحيى بن مُوسَى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عباد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: إِلَى الْمصلى. قَوْله: (يَسْتَسْقِي) جملَة فعلية وَقعت حَالا، وَالتَّقْدِير: خرج(7/24)
إِلَى الصَّحرَاء حَال كَونه مرِيدا الاسْتِسْقَاء. قَوْله: (وحول رِدَاءَهُ) ، عطف على: (خرج) ، قَالَ الْخطابِيّ: اخْتلفُوا فِي صفة التَّحْوِيل، فَقَالَ الشَّافِعِي: بنكس أَعْلَاهُ أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ، ويتوخى أَن يَجْعَل مَا على شقَّه الْأَيْمن على الشمَال، وَيجْعَل الشمَال على الْيَمين، وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاق، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا كَانَ الرِّدَاء مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله وَإِن كَانَ طيلسانا مدورا قلبه وَلم ينكسه، وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِن كَانَ مربعًا يَجْعَل أَعْلَاهُ أَسْفَله، وَإِن كَانَ مدورا يَجْعَل جَانب الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن. وَقَالَ ابْن بزيزة: ذكر أهل الْآثَار أَن رِدَاءَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبرا فِي عرض ذراعين وشبر، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ طوله سِتَّة أَذْرع فِي ثَلَاثَة أَذْرع وشبر، وَإِزَاره من نسج عمان طوله أَرْبَعَة أَذْرع وشبر فِي عرض ذراعين وشبر، كَانَ يَلْبسهُمَا يَوْم الْجُمُعَة والعيد، ثمَّ يطويان. وَالْحكمَة فِي التَّحْوِيل التفاؤل بتحويل الْحَال عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ: حول رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّل الْقَحْط. قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هَذِه أَمارَة بَينه وَبَين ربه لَا على طَرِيق الفأل، فَإِن من شَرط الفأل إِن لَا يكون يقْصد، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: حول رداءك فيتحول حالك. فَإِن قلت: لَعَلَّ رِدَاءَهُ سقط فَرده، وَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا قلت: الرَّاوِي الْمشَاهد للْحَال أعرف، وَقد قرنه بِالصَّلَاةِ وَالْخطْبَة وَالدُّعَاء، فَدلَّ أَنه من السّنة، وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرط مُسلم، من حَدِيث ابْن زيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسقى وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء فَأَرَادَ أَن يَأْخُذ أَسْفَلهَا فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا فَثقلَتْ عَلَيْهِ فقلبها عَلَيْهِ الْأَيْمن على الْأَيْسَر والأيسر على الْأَيْمن. قلت: هَذَا يرشح قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ وُجُوه: الأول: أَنه احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء وَلَيْسَ فِيهِ صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن الحَدِيث لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: السّنة أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَة كَهَيئَةِ صَلَاة الْعِيد، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَذكر فِي (الْمُحِيط) قَول أبي يُوسُف مَعَ أبي حنيفَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ لم يقل أحد غير أبي حنيفَة هَذَا القَوْل. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ مثل قَول أبي حنيفَة، فروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه خرج مَعَ الْمُغيرَة بن عبد الله الثَّقَفِيّ يَسْتَسْقِي، قَالَ: فصلى الْمُغيرَة فَرجع إِبْرَاهِيم حَيْثُ رَآهُ يُصَلِّي، وروى ذَلِك أَيْضا عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن عِيسَى بن حَفْص عَن عَاصِم عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: خرجنَا مَعَ عمر ابْن الْخطاب يَسْتَسْقِي فَمَا زَاد على الاسْتِغْفَار.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنه يدل على أصل الاسْتِسْقَاء وَأَنه مَشْرُوع.
الثَّالِث: يدل على أَن تَحْويل الرِّدَاء فِيهِ سنة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : تَحْويل الرِّدَاء سنة عِنْد الْجُمْهُور، وَانْفَرَدَ أَبُو حنيفَة وَأنْكرهُ وَوَافَقَهُ ابْن سَلام. من قدماء الْعلمَاء بالأندلس وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. قلت: أَبُو حنيفَة لم يُنكر التَّحْوِيل الْوَارِد فِي الْأَحَادِيث إِنَّمَا أنكر كَونه من السّنة لِأَن تحويله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لأجل التفاؤل لينقلب حَالهم من الجدب إِلَى الخصب، فَلم يكن لبَيَان السّنة، وَمَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث ابْن زيد الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم يُقَوي مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَوقت التَّحْوِيل عندنَا عِنْد مُضِيّ صدر الْخطْبَة، وَبِه قَالَ ابْن الْمَاجشون، وَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: بعد تَمامهَا، وَقيل: بَين الْخطْبَتَيْنِ، وَالْمَشْهُور عَن مَالك: بعد تَمامهَا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَلَا يقلب الْقَوْم أرديتهم عندنَا، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَابْن عبد الْحَكِيم وَابْن وهب وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقَوْم كَالْإِمَامِ، يَعْنِي يقلبون أرديتهم، وَاسْتثنى ابْن الْمَاجشون النِّسَاء، وَفِي هَذَا الْبَاب وُجُوه كَثِيرَة يَأْتِي بَيَان ذَلِك عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2 - (بابُ دُعاءِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَلْهَا عَلَيّهِم سِنِينَ كَسِنِي يوسُفَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُنُوت على الْكَافرين بقوله: (إجعلها) أَي: اجْعَل تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي تقع فِيهَا الشدَّة، وَهِي الَّتِي قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر) ، وَهَذَا الضَّمِير هُوَ الْمَفْعُول الأول لقَوْله: (اجْعَل) ، وَقَوله: (سِنِين) ، بِالنّصب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي، وسنين جمع: سنة، وَفِيه شذوذان: أَحدهمَا: تَغْيِير مفرده من الفتحة إِلَى الكسرة. وَالْآخر: كَونه جمعا لغير ذَوي الْعُقُول، وَحكمه أَيْضا مُخَالف لسَائِر الجموع فِي أَنه يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. الأول: أَن يعرب كإعراب مُسلمين. وَالثَّانِي: أَن تجْعَل نونه متعقب الْإِعْرَاب منونا. وَالثَّالِث: أَن يكون منونا وَغير منون، منصرفا وَغير منصرف.(7/25)
قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) بِإِضَافَة سِنِين إِلَى يُوسُف، فَلذَلِك سَقَطت نون الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ مَا وَقع فِي زمَان يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْقَحْط فِي السنين السَّبع، كَمَا وَقع فِي الْقُرْآن. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء؟ قلت: للتّنْبِيه على أَنه كَمَا شرع الدُّعَاء فِي الاسْتِسْقَاء للْمُؤْمِنين، كَذَلِك شرع الدُّعَاء بِالْقَحْطِ على الْكَافرين، لِأَن فِيهِ إضعافهم وَهُوَ نفع للْمُسلمين.
6001 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا رَفَعَ رَأسهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ يقُولُ اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْج سَلمَة بن هِشَام أللَّهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينِ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا كَسِنِي يُوسُفَ وَأنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ غِفَارُ غَفَرَ الله لَهَا وأسْلَمُ سالمَهَا الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا صيغت من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف) ، وَقد مضى حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا مطولا فِي: بَاب يهوي بِالتَّكْبِيرِ حِين يسْجد، أخرجه البُخَارِيّ، هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأبي سَلمَة: أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يكثر الحَدِيث، وَفِي آخِره قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يرفع رَأسه يَقُول: سمع الله لمن حَمده رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَيَدْعُو لرجال فيسميهم بِأَسْمَائِهِمْ. فَيَقُول: اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة ابْن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف) . وَأهل الْمشرق يَوْمئِذٍ من مُضر مخالفون لَهُ. انْتهى. وَهَهُنَا أخرج بِزِيَادَة قَوْله: (وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره عَن قُتَيْبَة ابْن سعيد عَن ال مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي: الْمدنِي عَن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَقد فسرنا هُنَاكَ معنى الحَدِيث مُسْتَوفى.
قَوْله: (الْمُسْتَضْعَفِينَ) عَام بعد خَاص، وَالْوَطْأَةُ، بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: الدوس بالقدم، وسمى بهَا الإهلاك لِأَن من يطَأ على شَيْء بِرجلِهِ فقد استقصى فِي إهلاكه، وَالْمعْنَى: خذهم أخذا شَدِيدا. وَالضَّمِير فِي: (اجْعَلْهَا) ، يرجع إِلَى الْوَطْأَة. قَوْله: (كَسِنِي يُوسُف) وَجه الشّبَه غَايَة الشدَّة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد} (يُوسُف: 84) . وَقَوله: {تزرعون سبع سِنِين} (يُوسُف: 74) . وسنين جمع سنة بِالْفَتْح وَهُوَ الْقَحْط والجدب قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} (الْأَعْرَاف: 031) . قَوْله: (وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره حَدِيث آخر، وَهُوَ عِنْد البُخَارِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، فَكَأَنَّهُ سَمعه هَكَذَا، فَأوردهُ كَمَا سَمعه. وَقد أخرجه أَحْمد كَمَا أخرجه البُخَارِيّ، وروى مُسلم من حَدِيث خَيْثَم بن عرَاك عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أسلم سَالَمَهَا الله، وغفار غفر الله لَهَا، أما إِنِّي لم أقلهَا وَلَكِن قَالَهَا الله) . وروى أَيْضا عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله، وَعصيَّة عَصَتْ الله وَرَسُوله) . وروى أَيْضا عَن خفاف بن أيماء الْغِفَارِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة: (اللَّهُمَّ الْعَن بني لحيان وَرِعْلًا وذكوان وَعصيَّة عصوا الله وَرَسُوله، وغفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله) . وروى عَن جَابر أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أسلم سَالَمَهَا الله وغفار غفر الله لَهَا) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن عَليّ ابْن يزِيد عَن الْمُغيرَة بن أبي بَرزَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله) ، وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي نَحوه، وَزَاد فِي آخِره: (مَا أَنا قلته وَلَكِن الله، عز وَجل، قَالَه) وغفار، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وبالراء: أَبُو قَبيلَة من كنَانَة، وَهِي: غفار بن مليك بن ضَمرَة بن بكر بن مَنَاة بن كنَانَة، قَالَ ابْن دُرَيْد: هُوَ من غفر إِذا ستر، مِنْهُم أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ. وَأسلم، بِالْهَمْزَةِ وَاللَّام المفتوحتين قَبيلَة أَيْضا من خُزَاعَة وَهِي: أسلم بن أقْصَى، وَهُوَ خُزَاعَة بن حَارِثَة ابْن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد، مِنْهُم: سَلمَة الْأَكْوَع، وَفِي مدحج: أسلم بن أَوْس الله بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، وَفِي بجيلة: أسلم بطن، هُوَ: أسلم بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أخمس بن الْغَوْث بن بجيلة، ذكره ابْن الْكَلْبِيّ.(7/26)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: (غفار غفر الله لَهَا) ، يحْتَمل أَن يكون دُعَاء لَهَا بالمغفرة، أَو إِخْبَارًا بِأَن الله تَعَالَى قد غفر لَهَا، وَكَذَلِكَ معنى: (أسلم سَالَمَهَا الله) ، يحْتَمل أَن يكون دُعَاء لَهَا إِن يسالمها الله تَعَالَى، وَلَا يَأْمر بحربها، أَو يكون إِخْبَارًا بِأَن الله قد سَالَمَهَا وَمنع من حربها، وَإِنَّمَا خصت هَاتَانِ القبيلتان بِالدُّعَاءِ لِأَن غفارًا أَسْلمُوا قَدِيما، وَأسلم سالموا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: الدُّعَاء بِمَا يشتق من الِاسْم، كَمَا يُقَال لِأَحْمَد: أَحْمد الله عاقبتك، ولعلي أعلاك الله وَهُوَ من جناس الِاشْتِقَاق وَفِيه الدُّعَاء على الظَّالِم بِالْهَلَاكِ وَالدُّعَاء للْمُؤْمِنين بالنجاة وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانُوا منتهكين لحُرْمَة الدّين يدعى عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ، وإلاّ يدعى لَهُم بِالتَّوْبَةِ، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اهدِ دوسا وأت بهم) . وَرُوِيَ أَن أَبَا بكر وَزَوجته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَا يدعوان على عبد الرَّحْمَن ابنهما يَوْم بدر بِالْهَلَاكِ إِذا حمل على الْمُسلمين، وَإِذا أدبر يدعوان لَهُ بِالتَّوْبَةِ.
قَالَ ابنُ أبِي الزِّنَادِ عنْ أبِيهِ هاذا كُلهُ فِي الصُّبْحِ
أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان: هَذَا الحَدِيث كُله فِي صَلَاة الصُّبْح، يَعْنِي أَنه روى عَن أَبِيه هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَبين أَن الدُّعَاء الْمَذْكُور كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح، وَيدل على هَذَا قَوْله: (فِي الرَّكْعَة الْآخِرَة من الصُّبْح) ، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي الْعشَاء، وَقيل: فِي الظّهْر وَالْعشَاء، وعَلى كل حَال قد بَينا أَنه مَنْسُوخ.
7001 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنَّا عنْدَ عَبْدِ الله فَقَالَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رَأى مِنَ النَّاسِ إدْبَارا قَالَ اللَّهُمَّ سَبْعا كَسَبْعِ يُوسُفَ فأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا الجُلُودَ وَالمَيْتَةَ وَالجِيفَ وَيَنْظُرَ أحَدُهُمْ إلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الجُوعِ فأتَاهُ أبُو سُفْيَانَ فقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ الله وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإنَّ قَوْمَكَ قدْ هَلَكُوا فادْعُ الله لَهُمْ قَالَ الله تَعَالَى: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 01) . إلَى قَوْلِهِ عَائِدُونَ {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . فالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتِ الدُّخَانُ والبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وآيةُ الرُّومِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اللَّهُمَّ سبعا كسبع يُوسُف) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ عُثْمَان ابْن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن خواستي الْعَبْسِي، مَوْلَاهُم أَبُو الْحسن الْكُوفِي أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة وَالقَاسِم بن أبي شيبَة، وَكَانَ أكبر من أبي بكر، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو عَبَّاس الْكُوفِي. الرَّابِع: أَبُو الضُّحَى، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، واسْمه: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْعَطَّار. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي أَبُو عَائِشَة الْكُوفِي. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون مَا خلا جَرِيرًا فَإِنَّهُ رازي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الاسْتِسْقَاء أَيْضا عَن الْحميدِي، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن يحيى عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن يحيى عَن وَكِيع وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن بشر بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن إِسْحَاق عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي سعيد الْأَشَج وَعَن عُثْمَان عَن جرير وَعَن يحيى ابْن يحيى وَأبي كريب، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن بشر بن خَالِد بِهِ وَعَن أبي كريب بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عِنْد عبد الله) يَعْنِي ابْن مَسْعُود. قَوْله: (لما رأى من النَّاس) أَي: قُرَيْش، وَاللَّام للْعهد. قَوْله: (إدبارا) أَي: عَن الْإِسْلَام، وَفِي تَفْسِير الدُّخان: (أَن قُريْشًا لما أبطأوا عَن الْإِسْلَام) . قَوْله: (سبعا) مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر(7/27)
أَي: اجْعَل سنيهم سبعا، أَو ليكن سبعا، ويروى سبع بِالرَّفْع، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: الْبلَاء الْمَطْلُوب عَلَيْهِم سبع سِنِين، كالسنين السَّبع الَّتِي كَانَت فِي زمن يُوسُف، وَهِي السَّبع الشداد الَّتِي أَصَابَهُم فِيهَا الْقَحْط، أَو يكون الْمَعْنى: الْمَدْعُو عَلَيْهِم قحط كقحط يُوسُف، وَيجوز أَن يكون ارتفاعه على أَنه اسْم كَانَ التَّامَّة، تَقْدِيره: ليكن سبع. وَفِي الْوَجْه الأول: كَانَ، نَاقِصَة. وَجَاء فِي رِوَايَة (لما دَعَا قُريْشًا كذبوه واستعصوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف، قَوْله: (سنة) ، بِالْفَتْح: الْقَحْط والجدب. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} (الْأَعْرَاف: 031) . قَوْله: (حصت كل شَيْء) ، بحاء وصاد مهملتين مُشَدّدَة الصَّاد أَي: استأصلت وأذهبت النَّبَات، فَانْكَشَفَتْ الأَرْض، وَفِي (الْمُحكم) : سنة حصاء: جدبة قَليلَة النَّبَات. وَقيل: هِيَ الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا. قَوْله: (حَتَّى أكلُوا) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي وَعند غَيرهمَا: (حَتَّى أكلنَا) ، وَالْأول أشبه. قَوْله: (والجيف) ، بِكَسْر الْجِيم وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: جمع الجيفة، وَهِي جثة الْمَيِّت وَقد أراح، فَهِيَ أخص من الْمَيِّت لِأَنَّهَا مَا لم تلْحقهُ ذَكَاة. قَوْله: (وَينظر أحدكُم) ، ويروى: (أحدهم) ، وَهُوَ الْأَوْجه. قَوْله: (فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَان) يَعْنِي: صَخْر بن حَرْب، وَدلّ هَذَا على أَن الْقِصَّة كَانَت قبل الْهِجْرَة. قَوْله: (قَالَ الله تَعَالَى: فَارْتَقِبْ) يَعْنِي: لما قَالَ أَبُو سُفْيَان: إِن قَوْمك قد هَلَكُوا فَادع الله لَهُم، قَرَأَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . وَكَذَا فِي: بَاب إِذا استشفع الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين عِنْد الْقَحْط، فَإِن البُخَارِيّ أخرج حَدِيث الْبَاب أَيْضا هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق. قَالَ: أتيت ابْن مَسْعُود. . الحَدِيث. وَفِيه: (فجَاء أَبُو سُفْيَان فَقَالَ: يَا مُحَمَّد تَأمر بصلَة الرَّحِم وَأَن قَوْمك قد هَلَكُوا؟ فَادع الله عز وَجل فَقَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 0) . .
وَأخرج فِي تَفْسِير سُورَة الدُّخان، حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى (عَن مَسْرُوق، قَالَ: دخلت على عبد الله، فَقَالَ: إِن من الْعلم أَن تَقول لما لَا تعلم: الله أعلم، إِن الله قَالَ لنَبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين} (ص: 68) . إِن قُريْشًا لما غلبوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستعصوا عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف، فَأَخَذتهم سنة أكلُوا فِيهَا الْعِظَام وَالْميتَة من الْجهد، حَتَّى جعل أحدهم يرى مَا بَينه وَبَين السَّمَاء كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجُوع، قَالَ: {رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . فَقيل لَهُ: إِن كشفنا عَنْهُم عَادوا، فَدَعَا ربه فكشف عَنْهُم. فعادوا، فانتقم الله مِنْهُم يَوْم بدر، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان} (الدُّخان: 01) . إِلَى قَوْله، جلّ ذكره: {إِنَّا منتقمون} (الدُّخان: 61) . وَأخرج مُسلم (عَن مَسْرُوق قَالَ: جَاءَ إِلَى عبد الله رجل فَقَالَ: تركت فِي الْمَسْجِد رجلا يُفَسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ، يُفَسر هَذِه الْآيَة: {يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 21) . قَالَ: يَأْتِي النَّاس دُخان يَوْم الْقِيَامَة فَيَأْخُذ بِأَنْفَاسِهِمْ حَتَّى يَأْخُذهُمْ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، فَقَالَ عبد الله؛ من علم علما فَلْيقل بِهِ، وَمن لَا يعلم فَلْيقل: الله أعلم، فَإِن من فقه الرجل إِن يَقُول لما لَا يعلم: الله أعلم، إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَن قُريْشًا لما اسْتَعْصَتْ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا عَلَيْهِم بسنين كَسِنِي يُوسُف، فَأَصَابَهُمْ قحط وَجهد حَتَّى جعل الرجل ينظر إِلَى السَّمَاء فَيرى بَينه وَبَينهَا كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجهد، حَتَّى أكلُوا الْعِظَام، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله اسْتغْفر الله لمضر فَإِنَّهُم قد هَلَكُوا. فَقَالَ لمضر: إِنَّك لجريء، قَالَ: فَدَعَا الله لَهُم، فَأنْزل الله: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . قَالَ: فَمُطِرُوا، فَلَمَّا أَصَابَهُم الرَّفَاهِيَة، قَالَ: عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين يغشى النَّاس هَذَا عَذَاب أَلِيم يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون} (الدُّخان: 01، 11) . يَعْنِي: يَوْم بدر. انْتهى. وَقد علمت أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَذَلِكَ أَن أَبَا سُفْيَان لما قَالَ: ادْع الله لَهُم قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . كَمَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن كثير الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَصرح فِي رِوَايَة مُسلم أَنه لما دَعَا الله لَهَا أنزل الله تَعَالَى: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . فَقبل الله دعاءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمُطِرُوا، فَلَمَّا أَصَابَهُم الرَّفَاهِيَة عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) . المعني: فانتظر يَا مُحَمَّد عَذَابهمْ. ومفعول ارتقب، مَحْذُوف وَهُوَ: عَذَابهمْ.
قَوْله: (يغشى النَّاس) صفة للدخان فِي مَحل الْجَرّ يَعْنِي: يشملهم ويلبسهم. وَقيل: {يَوْم تَأتي السَّمَاء} (الدُّخان: 01) . مفعول {فَارْتَقِبْ} (الدُّخان: 01) . قَوْله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم} (الدُّخان: 11) . يَعْنِي: يمْلَأ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، يمْكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة، أما الْمُؤمن فَيُصِيبهُ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، وَأما الْكَافِر كمنزلة السَّكْرَان يخرج من مَنْخرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدبره. وَقَوله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . كل ذَلِك مَنْصُوب الْمحل بِفعل مُضْمر، وَهُوَ: يَقُولُونَ، وَيَقُولُونَ(7/28)
مَنْصُوب على الْحَال، أَي: قائلين ذَلِك. قَوْله: {إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . موعدة بِالْإِيمَان إِن كشف عَنْهُم الْعَذَاب. قَالَ الله تَعَالَى: {أنَّى لَهُم الذكرى} (الدُّخان: 31) . أَي: من أَيْن لَهُم التَّذَكُّر والاتعاظ بعد نزُول الْبلَاء وحلول الْعَذَاب؟ (و) الْحَال أَنه: {قد جَاءَهُم رَسُول} (الدُّخان: 31) . بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك وَأدْخل فِي وجوب الْأَذْكَار من كشف الدُّخان، وَهُوَ مَا ظهر على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْآيَات الْبَينَات من الْكتاب المعجز وَغَيره من المعجزات، فَلم يذكرُوا، وتولوا عَنهُ وبهتوه بِأَن عداسا، غُلَاما أعجميا لبَعض ثَقِيف، هُوَ الَّذِي علمه، ونسبوه إِلَى الْجُنُون، وَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ توَلّوا عَنهُ وَقَالُوا معلم مَجْنُون} (الدُّخان: 41) . ثمَّ قَالَ: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون} (الدُّخان: 51) . إِلَى (كفركم) ثمَّ قَالَ: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . وَهُوَ يَوْم بدر، كَمَا فِي متن حَدِيث الْبَاب، وَعَن الْحسن: البطشة الْكُبْرَى: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (فقد مَضَت) إِلَى آخِره من كَلَام ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن دحْيَة: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النّظر الصَّحِيح حمل أَمر الدُّخان على قضيتين: إِحْدَاهمَا: وَقعت وَكَانَت، وَالْأُخْرَى: ستقع قلت: فعلى هَذَا هما دخانان: أَحدهمَا: الَّذِي يمْلَأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَا يجد الْمُؤمن مِنْهُ إِلَّا كالزكمة، وَهُوَ كَهَيئَةِ الدُّخان، وهيئة الدُّخان غير الدُّخان الْحَقِيقِيّ. وَالْآخر: هُوَ الدُّخان الَّذِي يكون عِنْد ظُهُور الْآيَات والعلامات، وَيُقَال: هُوَ من آثَار جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة، وَلَا يمْتَنع إِذا ظَهرت تِلْكَ العلامات أَن يَقُولُوا: {رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} (الدُّخان: 21) . قَوْله: (وَاللزَام) ، اخْتلف فِيهِ، فَذكر ابْن أبي حَاتِم فِي تفسره: أَنه الْقَتْل الَّذِي أَصَابَهُم ببدر، روى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَمُحَمّد بن كَعْب وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: فعلى هَذَا تكون البطشة وَاللزَام وَاحِدًا. وَعَن الْحسن: اللزام يَوْم الْقِيَامَة، وَعنهُ أَنه: الْمَوْت. وَقيل: يكون ذنبكم عذَابا لَازِما لكم. وَفِي (الْمُحكم) : اللزام الْحساب. وَفِي (الصَّحِيح) : عَن مَسْرُوق عَن عبد الله قَالَ: (خمس قد مضين: الدُّخان وَاللزَام وَالروم وَالْبَطْشَة وَالْقَمَر) . قَوْله: (وَآيَة الرّوم) ، وَهُوَ أَن الْمُسلمين حِين اقْتتلَتْ فَارس وَالروم كَانُوا يحبونَ ظُهُور الرّوم على فَارس، لأَنهم أهل كتاب، وكل كفار قُرَيْش يحبونَ ظُهُور فَارس لأَنهم مجوس، وكفار قُرَيْش عَبدة أوثان، فتخاطر أَبُو بكر وَأَبُو جهل فِي ذَلِك، أَي: أخرجَا شَيْئا وَجعلُوا بَينهم مُدَّة بضع سِنِين، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْبضْع قد يكون إِلَى تسع، أَو قَالَ: إِلَى سبع فزده فِي الْمدَّة أَو فِي الخطار) . فَفعل، فَغلبَتْ الرّوم فَقَالَ تَعَالَى: {آلم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1 و 2) . يَعْنِي: الْمدَّة الأولى، قبل الْخطاب ثمَّ قَالَ: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين} (الرّوم: 3 و 4) . إِلَى قَوْله: {يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله} (الرّوم: 4 و 5) . يَعْنِي: بِغَلَبَة الرّوم فَارِسًا، وَرُبمَا أخذُوا من الخطار، وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ الْقمَار فِي ذَلِك الْوَقْت حَلَالا، وَالله تَعَالَى أعلم.
3 - (بابُ سُؤالِ النَّاسِ الإمامَ الاسْتِسْقَاءَ إذَا قَحَطُوا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال النَّاس الإِمَام. فَقَوله: (سُؤال النَّاس) ، مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: (الإِمَام) ، بِالنّصب مَفْعُوله، و (الاسْتِسْقَاء) بِالنّصب مفعول آخر. فَإِن قلت: الْفِعْل من غير أَفعَال الْقُلُوب لَا يَجِيء لَهُ مفعولان صريحان، بل يَجِيء إِذا كَانَ أَحدهمَا غير صَرِيح، وَكَيف هُوَ هَهُنَا؟ قلت: الَّذِي قلته هُوَ الْأَكْثَر، وَقد يَجِيء مُطلقًا، أَو نقُول: انتصاب الاسْتِسْقَاء بِنَزْع الْخَافِض أَي: عَن الاستسثقاء، يُقَال: سَأَلته الشَّيْء وَسَأَلته عَن الشَّيْء. قَوْله: (إِذا قحطوا) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، بِفَتْح الْقَاف والحاء، وبلفظ الْمَجْهُول يُقَال: قحط الْمَطَر قحوطا إِذا احْتبسَ. وَحكى الْفراء: قحط بِالْكَسْرِ، وَجَاء: قحط الْقَوْم، على صِيغَة الْمَجْهُول. قحطا وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا معنى الْمَعْرُوف إِذْ الْمَطَر هُوَ المحتبس لَا النَّاس؟ وَأجَاب: بِأَنَّهُ من بَاب الْقلب، أَو إِذا كَانَ هُوَ محتبسا عَنْهُم فهم محتبسون عَنهُ. قيل: لَو أَدخل البُخَارِيّ حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله لَكَانَ أنسب وأوضح. وَأجِيب: بِأَن الَّذِي سَأَلَ قد يكون مُشْركًا، وَقد يكون مُسلما، وَقد يكون من الْفَرِيقَيْنِ، والسائل فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود كَانَ مُشْركًا حِينَئِذٍ، فَنَاسَبَ أَن يذكر فِي الَّذِي بعده من يَشْمَل الْفَرِيقَيْنِ، فَلذَلِك ذكر فِي التَّرْجَمَة مَا يشملهما، وَهُوَ لفظ النَّاس.
8001 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله ابنِ دِينَارٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أبي طالِبٍ:
(وَأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)
(الحَدِيث 8001 طرفه فِي: 9001) .(7/29)
مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يستسقى الْغَمَام) لِأَن فَاعله مَحْذُوف، لِأَن تَقْدِيره: يستسقى النَّاس بالغمام، وَاعْترض بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون النَّاس فَاعِلا ليستسقى أَن يَكُونُوا سَأَلُوا الإِمَام أَن يستسقى لَهُم، فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن معنى قَول أبي طَالب هَذَا فِي الْحَقِيقَة توسل إِلَى الله عز وَجل بِنَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ حضر استسقاء عبد الْمطلب وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه، فَيكون استسقاء النَّاس الْغَمَام فِي ذَلِك الْوَقْت ببركة وَجهه الْكَرِيم، وَإِن لم يكن فِي الظَّاهِر أَن أحدا سَأَلَهُ، وَكَانُوا مستشفعين بِهِ، وَهُوَ فِي معنى السُّؤَال عَنهُ. على ان ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَا أَرَادَ مُجَرّد مَا دلّ عَلَيْهِ شعر أبي طَالب، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى قصَّة وَقعت فِي الْإِسْلَام حضرها.
قَوْله: (حَدثنِي عَمْرو بن عَليّ) وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا، بِصِيغَة الْجمع، وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَأَبُو قُتَيْبَة سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة الْخُرَاسَانِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة قَالَهَا أَبُو طَالب، وَهِي قصيدة طنانة لامية من بَحر الطَّوِيل، وَهِي مائَة بَيت وَعشر أَبْيَات، أَولهَا قَوْله:
(خليلي مَا أُذُنِي لأوّل عاذل ... 70 بصفواء فِي حق وَلَا عِنْد بَاطِل)
وَآخِرهَا قَوْله:
(وَلَا شكّ أَن الله رَافع أمره ... ومعليه فِي الدُّنْيَا وَيَوْم التجادل)
(كَمَا قد رأى فِي الْيَوْم والأمس جده ... ووالده رؤياهم غير آفل)
يذكر فِيهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من عَدَاوَة قُرَيْش إِيَّاه بِسَبَب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومدحه نَفسه وَنسبه وَذكر سيادته وحمايته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والتعرض لبني أُميَّة، وَغير ذَلِك، يعرفهَا من يقف عَلَيْهَا. وَقد تمثل عبد الله بن عمر بِالْبَيْتِ الْمَذْكُور، وَمعنى التمثل: إنشاد شعر غَيره. قَوْله: (وأبيض) ، بِفَتْح الضَّاد وَضمّهَا، وَجه الْفَتْح أَن يكون مَعْطُوفًا على قَوْله: (سيدا) فِي الْبَيْت الَّذِي قبله، وَهُوَ قَوْله:
(وَمَا ترك قوم لَا أَبَا لَك سيدا ... 70 يحوط الذمار غير ذرب مؤاكل)
و: الذمار، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا لزمك حفظه مِمَّا وَرَاءَك، وَتعلق بِهِ قَوْله: (غير ذرب) أَرَادَ بِهِ: ذرب اللِّسَان بِالشَّرِّ، وَأَصله من: ذرب الْمعدة، وَهُوَ فَسَادهَا، والمؤاكل، بِضَم الْمِيم: الَّذِي يستأكل، وَيجوز أَن يكون مَفْتُوحًا فِي مَوضِع الْجَرّ بِرَبّ الْمقدرَة، وَالْوَجْه الأول أوجه، وَوجه الضَّم هُوَ الرّفْع إِن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَهُوَ أَبيض. قَوْله: (يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ) جملَة وَقعت صفة لأبيض، ومحلها من الْإِعْرَاب النصب أَو الرّفْع على التَّقْدِيرَيْنِ. قَوْله: (ثمال الْيَتَامَى) كَلَام إضافي يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب على التَّقْدِيرَيْنِ الْمَذْكُورين، والثمال، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ مطعم لِلْيَتَامَى، يُقَال: ثملهم يثملهم إِذا كَانَ يُطعمهُمْ وَفِي (مجمع الغرائب) : يُقَال: هُوَ ثمال قومه إِذا كَانَ يقوم بأمرهم، وَفِي (الْمُحكم) : فلَان ثمال بني فلَان، أَي: عمادهم. وَقَالَ ابْن التِّين: أَي الْمطعم عِنْد الشدَّة. قَوْله: (عصمَة للأرامل) ، كَذَلِك بِالْوَجْهَيْنِ فِي الْإِعْرَاب، والأرامل جمع أرمل، وَهُوَ الَّذِي نفد زَاده، وَقَالَ ابْن سَيّده: رجل أرمل وَامْرَأَة أرملة وَهِي المحتاجة والأرامل والأراملة، كسروه تكسير الْأَسْمَاء لغلبته، وكل جمَاعَة من رجال وَنسَاء أَو رجال دون نسَاء أَو نسَاء دون رجال أرامل بعد أَن يَكُونُوا مُحْتَاجين. وَفِي (الْجَامِع) : قَالُوا: وَلَا يُقَال رجل أرمل لِأَنَّهُ لَا يكَاد يذهب زَاده بذهاب امْرَأَته، إِذْ لم تكن قيِّمة عَلَيْهِ بالمعيشة، بِخِلَاف الْمَرْأَة، وَقد زعم قوم أَنه يُقَال: رجل أرمل إِذا مَاتَت امْرَأَته، قَالَ الحطيئة:
(هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... 70 فَمن لحَاجَة هَذَا الأرمل الذّكر)
قَالَ السُّهيْلي، رَحمَه الله تَعَالَى. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ أَبُو طَالب: يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ، وَلم يره قطّ استسقى، إِنَّمَا كَانَ ذَاك من بعد الْهِجْرَة؟ وَأجَاب: بِمَا حَاصله: أَن أَبَا طَالب أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي زمن عبد الْمطلب، حَيْثُ استسقى لقريش وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه وَهُوَ غُلَام، قيل: يحْتَمل أَن يكون أَو طَالب مدحه بذلك لما رأى من مخائل ذَلِك فِيهِ، وَإِن لم يُشَاهد وُقُوعه، وَقَالَ ابْن التِّين: إِن فِي شعر أبي طَالب هَذَا دلَالَة على أَنه كَانَ يعرف نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث، لما أخبرهُ بِهِ بحيراء وَغَيره من شَأْنه. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن إِسْحَاق زعم أَن أَبَا طَالب أنشأ هَذَا الشّعْر بعد الْبَعْث. قلت: فِي هَذَا النّظر نظر، لِأَنَّهُ لما علم أَنه نَبِي بأخبار بحيراء وَغَيره أنْشد هَذَا الشّعْر بِنَاء على مَا علمه من ذَلِك قبل أَن يبْعَث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(7/30)
9001 - وقَالَ عُمَرُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثنا سالِمٌ عنْ أبِيهِ رُبَّمَا ذكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وأنَا أنْظُرُ إلَى وَجْهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كلُّ مِيزَابٍ
(وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)
وَهُوَ قولُ أبِي طالِبٍ.
(أنظر الحَدِيث 8001) .
مُنَاسبَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يستسقى) لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يخبر عَن استسقاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ينظر إِلَى وَجهه الْكَرِيم، وَلم يكن استسقاؤه فِي ذَلِك إلاّ عَن سُؤال عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ البيهي فِي (الدَّلَائِل) قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي إِسْحَاق أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم حَدثنَا جَعْفَر بن عَنْبَسَة حَدثنَا عبَادَة ابْن زِيَاد الْأَزْدِيّ عَن سعيد بن خَيْثَم عَن مُسلم الْملَائي عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَالله لقد أَتَيْنَاك وَمَا لنا بعير يئط، وَلَا صبي يغط، ثمَّ أنْشد:
(أَتَيْنَاك والعذراء يدمى لبانها ... وَقد شغلت أم الصَّبِي عَن الطِّفْل)
(وَألقى بكفيه الصَّبِي استكانة ... من الْجُوع ضعفا مَا يمر وَمَا يحلى)
(وَلَا شَيْء مِمَّا يَأْكُل النَّاس عندنَا ... سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفسل)
(وَلَيْسَ لنا إلاّ إِلَيْك فرارنا ... وَأَيْنَ فرار النَّاس إلاّ إِلَى الرُّسُل؟)
فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجر رِدَاءَهُ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا. .) الحَدِيث، وَفِيه: (فجَاء أهل البطانة يصيحون: الْغَرق الْغَرق، فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: لله در أبي طَالب لَو كَانَ حَاضرا لقرت عَيناهُ، من ينشدنا شعره؟ فَقَالَ عَليّ: يَا رَسُول الله كَأَنَّك أردْت قَوْله:
(وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ)
فَذكر أبياتا مِنْهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أجل، فَقَامَ رجل من بني كنَانَة فَأَنْشد أبياتا:
(لَك الْحَمد وَالْحَمْد مِمَّن شكر ... سقينا بِوَجْه النَّبِي الْمَطَر)
(دَعَا الله خالقه دَعْوَة ... 70 وأشخص مَعهَا إِلَيْهِ الْبَصَر)
(فَلم يَك إِلَّا كالف الردا ... 70 وأسرع حَتَّى رَأينَا الدُّرَر)
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن يكن شَاعِر أحسن فقد أَحْسَنت) . ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن مَاجَه مَوْصُولا فِي (سنَنه) : حَدثنَا أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن ابْن النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم عَن أبي عقيل، يَعْنِي عبيد الله بن عقيل الثَّقَفِيّ، حَدثنَا عمر بن حَمْزَة حَدثنَا سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: رُبمَا ذكرت قَول الشَّاعِر وَأَنا أنظر إِلَى وَجه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمِنْبَر، فَمَا نزل حَتَّى جَيش كل ميزاب بِالْمَدِينَةِ، فَذكر قَول الشَّاعِر:
وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ
إِلَى آخِره، وَعمر بن حَمْزَة هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، ابْن أخي سَالم بن عبد الله ابْن عمر، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب) أَيْضا، وَتكلم فِيهِ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَقَالَ: كَانَ يخطىء. وَقَالَ ابْن عدي: وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه، وروى لَهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. فَإِن قلت: عمر بن حَمْزَة هَذَا مُتَكَلم فِيهِ، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن دِينَار مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الموصولة، فَكيف أوردهما البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) ؟ قلت: أُجِيب بِأَن إِحْدَى الطَّرِيقَيْنِ اعتضدت بِالْأُخْرَى، وَهُوَ من أَمْثِلَة أحد قسمي (الصَّحِيح) كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه، وَفِيه نظر، لَا يخفى. قَوْله: (وَأَنا أنظر) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (يستسقى) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا، كَذَلِك. قَوْله: (حَتَّى يَجِيش) بِالْجِيم والشين الْمُعْجَمَة، من: جاش الْبَحْر إِذا هاج، وجاش الْقدر جيشانا إِذا غلت، وجاش الْوَادي إِذا زهر وامتد جدا، وجاش الشَّيْء إِذا تحرّك، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن كَثْرَة الْمَطَر، و (الْمِيزَاب) بِكَسْر الْمِيم وبالزاي مَعْرُوف، وَهُوَ مَا يسيل مِنْهُ المَاء من مَوضِع عَال، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (حَتَّى يَجِيش لَك) ، بِتَقْدِيم اللَّام على الْكَاف، وَهُوَ تَصْحِيف.
قَوْله: (يئط) أَي: يحن، ويصيح، يُرِيد: مَا لنا(7/31)
بعير أصلا، لِأَن الْبَعِير لَا بُد أَن يئط. قَوْله: (وَلَا صبي يغط) ، من الغطيط، يُقَال: غط يغط غطا وغطيطا إِذا صَاح. قَوْله: (والعذراء) وَهِي الْجَارِيَة الَّتِي لم يَمَسهَا رجل، وَهِي الْبكر. قَوْله: (يدمي لبانها) ، بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الصَّدْر، وأصل اللبان فِي الْفرس مَوضِع اللَّبن ثمَّ استعير للنَّاس، وَمعنى: يدمي لبانها يَعْنِي يدمي صدرها لامتهانها نَفسهَا فِي الْخدمَة حَيْثُ لَا تَجِد مَا تغطيه من تخدمها من الجدب وَشدَّة الزَّمَان. وَقَوله: (استكانة) أَي: خضوعا، وذلة. قَوْله: (مَا يمر) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء. قَوْله: (وَلَا يحلى) ، بِضَم الْيَاء أَيْضا. وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام، وَالْمعْنَى: مَا ينْطق بِخَير وَلَا شَرّ من الْجُوع والضعف، واشتقاق الأول: من المرارة، وَالثَّانِي: من الْحَلَاوَة، فَالْأول كِنَايَة عَن الشَّرّ، وَالثَّانِي: عَن الْخَيْر. قَوْله: (سوى الحنظل العاهي) ، الحنظل: مَعْرُوف، والعاهي: فَاعل من العاهة وَهِي: الآفة. قَوْله: (وَالْعِلْهِز) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: وَهُوَ شَيْء يتخذونه فِي سني المجاعة يخلطون الدَّم بأوبار الْإِبِل ثمَّ يشوونه بالنَّار، ويأكلونه، وَقيل: كَانُوا يخلطون فِيهِ القردان، وَيُقَال: القراد الضخم العلهز، وَقيل: العلهز شَيْء ينْبت بِبِلَاد بني سليم لَهُ أصل كأصل البرذي، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء، وَأنْشد الأبيات الْمَذْكُورَة. قَوْله: (الفسل) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ الشَّيْء الرَّدِيء الرذل، يُقَال: فسله وأفسله. قَالَه ابْن الْأَثِير، ويروى بالشين الْمُعْجَمَة، وَقَالَ فِي بَاب الشين: الفشل والفزع وَالْخَوْف والضعف، وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء:
سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفشل
أَي: الضَّعِيف يَعْنِي الفشل مدخره، وَأكله فصرف الْوَصْف إِلَى العلهز، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لآكله. قَوْله: (الدُّرَر) ، بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء الأولى، جمع درة، بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الرَّاء، يُقَال: للسحاب درة، أَي: صب واندفاق.
0101 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني أبي عَبْدُ الله بنُ المُثَنَّى عنْ ثَمامَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وإنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا قَالَ فيُسْقَوْنَ.
(الحَدِيث 0101 طرفه فِي: 0173) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول عمر: (إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك بنبينا. .) إِلَى آخِره، بَيَانه أَنهم كَانُوا إِذا استسقوا كَانُوا يستسقون بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَيَاته، وَبعده استسقى عمر بِمن مَعَه بِالْعَبَّاسِ عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجعلوه كَالْإِمَامِ الَّذِي يسْأَل فِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أمس النَّاس بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأقربهم إِلَيْهِ رحما فَأَرَادَ عمر أَن يصلها ليتصل بهَا إِلَى من كَانَ يَأْمر بصلَة الْأَرْحَام، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا إِذا قحطوا استسقوا بِأَهْل بَيت نَبِيّهم، وَزعم ابْن قدامَة أَن ذَلِك كَانَ عَام الرَّمَادَة، وَذكر ابْن سعد وَغَيره أَن عَام الرَّمَادَة كَانَ سنة ثَمَانِي عشرَة، وَكَانَ ابتداؤه مصدر الْحَاج مِنْهَا ودام تِسْعَة أشهر، والرمادة، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم: سمي الْعَام بهَا لما حصل من شدَّة الجدب، فاغبرت الأَرْض من عدم الْمَطَر، وَذكر سيف فِي (كتاب الرِّدَّة) : (عَن أبي سَلمَة: كَانَ أَبُو بكر الصّديق إِذا بعث جندا إِلَى أهل الرِّدَّة خرج ليشيعهم، وَخرج بِالْعَبَّاسِ مَعَه، قَالَ: يَا عَبَّاس استنصر وَأَنا أُؤْمِن، فَإِنِّي أَرْجُو أَن لَا يخيب دعوتك لِمَكَانِك من نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر الإِمَام أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر فِي (كتاب الاسْتِسْقَاء) من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن حُسَيْن بن عبد الله عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك الْيَوْم: اللَّهُمَّ إِن عنْدك سحابا وَإِن عنْدك مَاء فانشر السَّحَاب ثمَّ أنزل مِنْهُ المَاء، ثمَّ أنزلهُ علينا وَاشْدُدْ بِهِ الأَصْل وأطل بِهِ الْفَرْع وأدر بِهِ الضَّرع، اللَّهُمَّ شفعنا إِلَيْك عَمَّن لَا منطق لَهُ من بهايمنا وأنعامنا. اللَّهُمَّ إسقنا سقيا وَادعَة بَالِغَة طبقًا مجيبا، اللَّهُمَّ لَا نرغب إلاّ إِلَيْك وَحدك، لَا شريك لَك، اللَّهُمَّ إِنَّا نشكوا أُليك سغب كل ساغب وَعدم كل عادم وجوع كل جَائِع وعري كل عَار وَخَوف كل خَائِف. .) وَفِي حَدِيث أبي صَالح: (فَلَمَّا صعد عمر وَمَعَهُ الْعَبَّاس الْمِنْبَر، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّا توجهنا إِلَيْك بعم نبيك وصنو أَبِيه فاسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، ثمَّ قَالَ: قل يَا أَبَا الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ لم ينزل بلَاء إلاّ بذنب، وَلم يكْشف إلاّ بتوبة وَقد توجه بِي الْقَوْم إِلَيْك لمكاني(7/32)
من نبيك، وَهَذِه أَيْدِينَا إِلَيْك بِالذنُوبِ، ونواصينا بِالتَّوْبَةِ، فاسقنا الْغَيْث. قَالَ: فَأَرختْ السَّمَاء شآبيب مثل الْجبَال حَتَّى أخصبت الأَرْض وعاش النَّاس.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله ابْن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، قَاضِي الْبَصْرَة، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: أَبوهُ عبد الله بن الْمثنى الْمَذْكُور. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: تقدم فِي: بَاب من أعَاد. . الحَدِيث. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: رِوَايَة البُخَارِيّ عَن شَيْخه بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالْآخر بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا يروي عَنهُ أَيْضا كثيرا بِلَا وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب وَهِي: رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن الْمثنى، وَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ عبد الله بِالرَّفْع فِي قَوْله: (حَدثنَا أبي عبد الله) لِأَنَّهُ يشْتَبه بالكنية، وَهُوَ عطف بَيَان، وَمحل تيقظ. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه، وَهِي: رِوَايَة عبد الله بن الْمثنى عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله. وَفِيه: أَن عبد الله بن الْمثنى من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَهِي: رِوَايَة ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن أنس جده.
وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن السِّتَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قحطوا) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة أَي: أَصَابَهُم الْقَحْط. قَوْله: (استسقى بِالْعَبَّاسِ) أَي: متوسلاً بِهِ حَيْثُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا. .) إِلَى آخِره، وَصفَة مَا دَعَا بِهِ الْعَبَّاس قد ذَكرنَاهَا عَن قريب.
وَفِيه من الْفَوَائِد: اسْتِحْبَاب الاستشفاع بِأَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَأهل بَيت النُّبُوَّة. وَفِيه: فضل الْعَبَّاس وَفضل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لتواضعه للْعَبَّاس ومعرفته بِحقِّهِ. قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء والاجتماع لَا يكون إلاّ بِإِذن الإِمَام لما فِي الْخُرُوج والاجتماع من الْآفَات الدَّاخِلَة على السُّلْطَان، وَهَذِه سنَن الْأُمَم السالفة قَالَ تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه} (الْأَعْرَاف: 061) .
4 - (بابُ تحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْويل الرِّدَاء فِي الاسْتِسْقَاء.
1101 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا وَهْبٌ قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ ابنِ تَمِيمٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ زَيْدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَسْقَى فَقَلَبَ ردَاءَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَلَا يُقَال: التَّرْجَمَة بِلَفْظ التَّحْوِيل، وَفِي الحَدِيث: (فَقلب رِدَاءَهُ) لِأَن التَّحْوِيل وَالْقلب بِمَعْنى وَاحِد، مَعَ أَن لفظ الحَدِيث فِي الطَّرِيق الأولى. (وحول) ، على أَنه فِي الطَّرِيق الثَّانِيَة فِي رِوَايَة أبي ذَر: (حول) ، بدل (قلب) ، وَقَالَ بَعضهم: ترْجم لمشروعيته خلافًا لمن نَفَاهُ، ثمَّ ترْجم بعد ذَلِك لكيفيته. قلت: علم مشروعيته من الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي أول كتاب الاسْتِسْقَاء، رَوَاهُ عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عباد بن تَمِيم عَن عَمه وَهُوَ عبد الله بن زيد، وَهَهُنَا أخرجه عَن إِسْحَاق عَن وهب عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن عباد بن تَمِيم عَن عبد الله بن زيد، والْحَدِيث وَاحِد، وَفِي سَنَده مُغَايرَة، وَإِنَّمَا أعَاد هَذَا الحَدِيث لأمور ثَلَاثَة: الأول: أَنه ترْجم لَهُ هَهُنَا فِي تَحْويل الرِّدَاء، وَهُنَاكَ فِي خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاستسقاء. الثَّانِي: ليشيرا إِلَى تغاير السَّنَد وَبَعض الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن. وَالثَّالِث: صرح هَهُنَا بِعَبْد الله بن زيد وَهُنَاكَ أبهم اسْمه وَلم يذكرهُ إلاّ بِلَفْظ الْعم، وَإِسْحَاق: هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي، وَمُحَمّد: ابْن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، وَهُوَ أَخُو عبد الله بن أبي بكر الْمَذْكُور فِي السَّنَد الأول، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
2101 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي بَكْرٍ أنَّهُ سَمِعَ(7/33)
عَبَّادَ بنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ أباهُ عنْ عَمِّهِ عَبْدِ الله بن زَيْدٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ إلَى المُصَلَّى فاسْتَسْقَى فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وقَلَبَ رِدَاءَهُ وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ..
هَذِه طَريقَة أُخْرَى فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبله أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر الَّذِي يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ: عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن عباد بن تَمِيم، إِلَى آخِره. قَوْله: (عَن سُفْيَان عَن عبد الله) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي أَعنِي: بِلَفْظ: (عَن عبد الله) وَوَقع فِي رِوَايَة الآخرين، قَالَ: (حَدثنَا سُفْيَان قَالَ عبد الله بن أبي بكر) ، أَي: قَالَ: قَالَ عبد الله، وَجَرت عَادَتهم بِحَذْف إِحْدَاهمَا من الْخط. قَوْله: (يحدث أَبَاهُ) الضَّمِير فِي قَوْله: (أَبَاهُ) يعود على عبد الله بن أبي بكر، لَا على: عباد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَوضِع: أَبَاهُ، أرَاهُ أَي: أَظُنهُ، ثمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضهَا: أَبَاهُ أَي: أَبَا عبد الله، يَعْنِي: أَبَا بكر وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر فِي شَيْء من الرِّوَايَات الَّتِي اتَّصَلت لنا. انْتهى. قلت: لَا يسْتَلْزم عدم رُؤْيَته لذَلِك عدم رُؤْيَة غَيره، وَالنُّسْخَة الَّتِي اطلع عَلَيْهَا الْكرْمَانِي أوضح وَأظْهر.
وَهَذَا الحَدِيث يشْتَمل على أَحْكَام: الأول: فِيهِ خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّحرَاء للاستسقاء لِأَنَّهُ أبلغ فِي التَّوَاضُع، وأوسع للنَّاس، وَذكر ابْن حبَان: كَانَ خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمصلى للاستسقاء فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ من الْهِجْرَة. الثَّانِي: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الاسْتِسْقَاء. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِقْبَال الْقبْلَة وتحويل الرِّدَاء، وَقد ذكرنَا حكمه مستقصىً. الرَّابِع: فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى رَكْعَتَيْنِ.
وَيحْتَاج فِي بَيَان هَذَا إِلَى أُمُور:
الأول: فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْخطْبَة فِيهِ قبل الصَّلَاة، وَصرح يحيى بن سعيد فِي بَاب كَيفَ يحول ظَهره، ثمَّ صلى لنا رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مُقْتَضى حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَنْهَا، قَالَت: (شكى النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُحُوط الْمَطَر، فَأمر بمنبر فَوضع لَهُ فِي الْمصلى، ووعد النَّاس يَوْمًا يخرجُون فِيهِ، قَالَت عَائِشَة: فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين بدا حَاجِب الشَّمْس، فَقعدَ على الْمِنْبَر، فَكبر وَحمد الله، ثمَّ قَالَ: إِنَّكُم شكوتم جَدب دِيَاركُمْ واستئخار الْمَطَر عَن إبان زَمَانه عَلَيْكُم، وَقد أَمركُم الله تَعَالَى أَن تَدعُوهُ، ووعدكم أَن الله يستجيب لكم، ثمَّ قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين، الرَّحْمَن الرَّحِيم، مَالك يَوْم الدّين، لَا إِلَه إلاّ الله يفعل مَا يُرِيد، اللَّهُمَّ أَنْت الله لَا إِلَه إلاّ أَنْت الْغَنِيّ وَنحن الْفُقَرَاء، أنزل علينا الْغَيْث، وَاجعَل مَا أنزلت لنا قُوَّة وبلاغا إِلَى حِين، ثمَّ رفع يَدَيْهِ فَلم يزل فِي الرّفْع حَتَّى بدا بَيَاض إبطَيْهِ، ثمَّ حول إِلَى النَّاس ظَهره وقلب أَو حول رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ، ثمَّ أقبل على النَّاس وَنزل فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ الله سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ ثمَّ أمْطرت بِإِذن الله تَعَالَى، فَلم يَأْتِ مَسْجده حَتَّى سَالَتْ السُّيُول، فَلَمَّا رأى سُرْعَتهمْ إِلَى الْكن ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، فَقَالَ: أشهد أَن الله على كل شَيْء قدير وَإِنِّي عبد الله وَرَسُوله) . وَالْمَفْهُوم من هَذَا الحَدِيث أَن الْخطْبَة قبل الصَّلَاة، وَلَكِن وَقع عِنْد أَحْمد فِي حَدِيث عبد الله بن زيد التَّصْرِيح بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة، وَالْجمع بَينهمَا أَنه مَحْمُول على الْجَوَاز، وَالْمُسْتَحب تَقْدِيم الصَّلَاة لأحاديث أخر.
الْأَمر الثَّانِي: أَن صَلَاة الاسْتِسْقَاء رَكْعَتَانِ، وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس حَدِيثا. وَفِيه: (وَلم يخْطب خطبتكم هَذِه وَلَكِن لم يزل فِي الدُّعَاء والتضرع وَالتَّكْبِير، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيد) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه دلَالَة على أَنه يكبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَمَكْحُول وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَنه يكبر فيهمَا كَسَائِر الصَّلَوَات تَكْبِيرَة وَاحِدَة للافتتاح، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَقَالَ دَاوُد: إِن شَاءَ كبر كَمَا يكبر فِي الْعِيدَيْنِ، وَإِن شَاءَ كبر تَكْبِيرَة وَاحِدَة للاستفتاح كَسَائِر الصَّلَوَات. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن المُرَاد من قَوْله: (كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ) ، يَعْنِي فِي الْعدَد والجهر بِالْقِرَاءَةِ، وَفِي كَون الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْخطْبَة. فَإِن قلت: قد روى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَالدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) : عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أَبِيه (عَن طَلْحَة، قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى ابْن عَبَّاس اسأله عَن سنة الاسْتِسْقَاء، فَقَالَ: سنة الاسْتِسْقَاء سنة الصَّلَاة فِي الْعِيدَيْنِ إلاّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلب رِدَاءَهُ فَجعل يَمِينه على يسَاره ويساره على يَمِينه، وَصلى رَكْعَتَيْنِ كبر فِي الأولى سبع تَكْبِيرَات، وَقَرَأَ بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة: هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية، وَكبر فِيهَا خمس تَكْبِيرَات) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد(7/34)
وَلم يخرجَاهُ. قلت: أُجِيب عَنهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه ضَعِيف، فَإِن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ضَعِيف الحَدِيث لَيْسَ لَهُ حَدِيث مُسْتَقِيم، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : يروي عَن الثِّقَات المعضلات، وينفرد بالطامات عَن الْأَثْبَات حَتَّى سقط الِاحْتِجَاج بِهِ، وَقَالَ ابْن قطان فِي كِتَابه: هُوَ أحد ثَلَاثَة أخوة كلهم ضعفاء: مُحَمَّد وَعبد الله وَعمْرَان، بَنو عبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وأبوهم عبد الْعَزِيز مَجْهُول الْحَال، فاعتل الحَدِيث بهما. وَالثَّانِي: أَنه معَارض بِحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) بِإِسْنَادِهِ (عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استسقى فَخَطب قبل الصَّلَاة، واستقبل الْقبْلَة وحول رِدَاءَهُ، ثمَّ نزل فصلى رَكْعَتَيْنِ لم يكبر فيهمَا إلاّ تَكْبِيرَة) .
الْأَمر الثَّالِث: فِي أَن وَقت صَلَاة الاسْتِسْقَاء كوقت صَلَاة الْعِيدَيْنِ، كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك. فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: إِلَى أَنه يخرج لَهَا كالخروج إِلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ، وَحكى ابْن الْمُنْذر وَابْن عبد الْبر عَن الشَّافِعِي هَذَا، وَنقل ابْن الصّباغ فِي (الشَّامِل) وَصَاحب (جمع الْجَوَامِع) عَن نَص الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تخْتَص بِوَقْت، وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَالْمَاوَرْدِيّ وَابْن الصّباغ، وَصَححهُ الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر، وَنقل النَّوَوِيّ الْقطع بِهِ عَن الْأَكْثَرين، وَأَنه صَححهُ الْمُحَقِّقُونَ وَأما وَقتهَا كوقت الْعِيد، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِنَّه لم يرو لغير الشَّيْخ أبي عَليّ. قلت: لم ينْفَرد بِهِ الشَّيْخ أَبُو عَليّ، بل قَالَه أَيْضا الشَّيْخ أَبُو حَامِد والمحاملي الْبَغَوِيّ فِي (التَّهْذِيب) [/ ح.
الْأَمر الرَّابِع: فِي أَنه يقْرَأ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء بعد الْفَاتِحَة مَا يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ، أما سُورَة ق واقتربت، أَو سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى والغاشية، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي اسْتِدْلَالا بِمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور: (فصلى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ) . وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ لَا يُخَالف صَلَاة الْعِيد بِشَيْء، ونأمره أَن يقْرَأ فِيهَا مَا يقْرَأ فِي صَلَاة الْعِيد. قَالَ: وَمَا قَرَأَ بِهِ مَعَ أم الْقُرْآن أَجزَأَهُ، وَإِن اقْتصر على أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة أَجزَأَهُ، وَصدر الرَّافِعِيّ كَلَامه بِأَنَّهُ يقْرَأ فِي الأولى ق، وَفِي الثَّانِيَة: اقْتَرَبت، ثمَّ حكى عَن بعض الْأَصْحَاب أَنه يقْرَأ فِي الأولى: ق، وَفِي الثَّانِيَة: إِنَّا أرسلنَا نوحًا. وَعند أَصْحَابنَا: لَيْسَ فِي صَلَاة، أَي صَلَاة كَانَت، قِرَاءَة مُؤَقَّتَة، وَذكر فِي (الْبَدَائِع) و (التُّحْفَة) : الْأَفْضَل أَن يقْرَأ فيهمَا: سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى فِي الأولى، وَفِي الثَّانِيَة: هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية. .
الْأَمر الْخَامِس: أَنه يجْهر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء، لما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث (عبد الله بن زيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي، فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ جهر بِالْقِرَاءَةِ فيهمَا. .) الحَدِيث. وَعَن أبي يُوسُف: أحسن مَا سمعنَا فِيهِ أَن يُصَلِّي الإِمَام رَكْعَتَيْنِ جاهرا بِالْقِرَاءَةِ مُسْتَقْبلا بِوَجْهِهِ قَائِما على الأَرْض دون الْمِنْبَر، مُتكئا على قَوس يخْطب بعد الصَّلَاة خطبتين، وَعَن أبي يُوسُف: خطْبَة وَاحِدَة، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الدُّعَاء فَلَا يقطعهَا بالجلسة، وَعند مُحَمَّد: يخْطب خطبتين يفصل بَينهمَا بجلسة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
ثمَّ إعلم أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: لَيْسَ فِي الاسْتِسْقَاء صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، فَإِن صلى النَّاس وحدانا جَازَ، إِنَّمَا الاسْتِسْقَاء الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار، لقَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} (نوح: 01 و 11) . علق نزُول الْغَيْث بالاستغفار لَا بِالصَّلَاةِ، فَكَأَن الأَصْل فِيهِ الدُّعَاء والتضرع دون الصَّلَاة، وَيشْهد لذَلِك أَحَادِيث: مِنْهَا: الحَدِيث الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ الصَّلَاة. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس، على مَا يَأْتِي فِي الْبَاب الْآتِي. وَمِنْهَا: حَدِيث كَعْب بن مرّة، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة شُرَحْبِيل بن السمط، أَنه قَالَ لكعب: يَا كَعْب بن مرّة (حدِّثنا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحْذَرْ! قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، استسق الله، عز وَجل، فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إسقنا غيثا مريعا طبقًا عَاجلا غير رائث، نَافِعًا غير ضار، قَالَ: فَاجْتمعُوا حَتَّى أجِيبُوا. قَالَ: فاتوه فشكوا إِلَيْهِ الْمَطَر، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، تهدمت الْبيُوت، فَقَالَ رَسُول الله: اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا. قَالَ: فَجعل السَّحَاب يتقطع يَمِينا وَشمَالًا) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة يزِيد الْفَقِير (عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: أَتَت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بواكٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نَافِعًا غير ضار، عَاجلا غير آجل، قَالَ: فأطبقت عَلَيْهِم السَّمَاء) ، انْتهى. قَوْله: (بواك) ، جمع باكية. وَقَالَ الْخطابِيّ: بواكي، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ: مَعْنَاهُ التحامل. قَوْله: (مريعا) ، بِفَتْح(7/35)
الْمِيم وَكسر الرَّاء: أَي مخصبا ناجعا من: مرع الْوَادي مراعة، ويروى بِضَم الْمِيم من أمرع الْمَكَان إِذا أخصب، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة من: أَربع الْغَيْث إِذا أنبت الرّبيع، ويروى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: ينْبت لله فِيهِ مَا ترتع فِيهِ الْمَوَاشِي. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن زحر عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم (عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد ضحى. فَكبر ثَلَاث تَكْبِيرَات ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا، ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ ارزقنا سمنا ولبنا وشحما وَلَحْمًا، وَمَا نرى فِي السَّمَاء سحابا، فثارت ريح وغيرة ثمَّ اجْتمع سَحَاب فصبت السَّمَاء، فصاح أهل الْأَسْوَاق وثاروا إِلَى سقائف الْمَسْجِد إِلَى بُيُوتهم. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن جَراد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة يعلى قَالَ: (حَدثنَا عبد الله ابْن جَراد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ غيثا مغيثا مريئا توسع بِهِ لِعِبَادِك تغزر بِهِ الضَّرع وتحيي بِهِ الزَّرْع) . وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عمر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا استسقى قَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادك وبهائمك وانشر رحمتك واحيي بلدك الْمَيِّت) . وَمِنْهَا: حَدِيث عُمَيْر مولى أبي اللَّحْم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ابْن الْهَاد: عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم (عَن عُمَيْر مولى أبي اللَّحْم أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي عِنْد أَحْجَار الزَّيْت) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ عَنهُ، قَالَ: (قحط الْمَطَر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسألنا نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَسْتَسْقِي لنا فَاسْتَسْقَى. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي لبَابَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) من رِوَايَة عبد الله بن حَرْمَلَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر قَالَ: (استسقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر: إِن التَّمْر فِي المرابد يَا رَسُول الله، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إسقنا حَتَّى يقوم أَبُو لبَابَة عُريَانا ويسد مثقب مربده بِإِزَارِهِ، وَمَا نرى فِي السَّمَاء سحابا فأمطرت، فَاجْتمعُوا إِلَى أبي لبَابَة فَقَالُوا: إِنَّهَا لن تقلع حَتَّى تقوم عُريَانا وتسد مثقب مربدك بإزارك، فَفعل فأصحت) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَنه قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله لقد جئْتُك من عِنْد قوم مَا يتزود لَهُم رَاع وَلَا يخْطر لَهُم فَحل، فَصَعدَ الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا. .) الحَدِيث. وَمِنْهَا: حَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ أَبُو عوَانَة أَيْضا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل وَاديا لَا مَاء فِيهِ، وَسَبقه الْمُشْركُونَ إِلَى المَاء، فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين: لَو كَانَ نَبيا لاستسقى لِقَوْمِهِ، فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبسط يَدَيْهِ وَقَالَ: أللهم جللنا سحابا كثيفا قصيفا دلوتا مخلوفا زبرحاء تمطرنا مِنْهُ رذاذا قطقطا سجلاً بعاقا يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام، فَمَا رد يَدَيْهِ من دُعَائِهِ حَتَّى أظلتنا السَّحَاب الَّتِي وصف) . وَعِنْده أَيْضا: عَن عَامر بن خَارِجَة بن سعد عَن جده (أَن قوما شكوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قحط الْمَطَر، فَقَالَ: إجثوا على الركب، ثمَّ قُولُوا: يَا رب يَا رب، قَالَ: فَفَعَلُوا فسقوا حَتَّى أَحبُّوا أَن ينْكَشف عَنْهُم) .
وَمِنْهَا: حَدِيث السفا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة خَالِد بن إلْيَاس عَن أبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة عَن الشِّفَاء بنت خلف (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استسقى يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: إستغفروا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا، وحول رِدَاءَهُ) . وخَالِد بن إلْيَاس ضَعِيف، وَمن حَدِيث الْوَاقِدِيّ عَن مشايخه قَالَ: (قدم وَفد بني مرّة بن قيس وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد فشكو إِلَيْهِ السّنة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ اِسْقِهِمْ الْغَيْث. .) الحَدِيث. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَلما قدم وَفد سلامان سنة عشر فشكوا إِلَيْهِ الجدب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيدَيْهِ: اللَّهُمَّ إسقهم الْغَيْث فِي دَارهم. .) الحَدِيث. وَفِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) للبيهقي (عَن أبي وجرة: أَتَى وَفد فَزَارَة بعد تَبُوك فشكوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّنة، فَصَعدَ الْمِنْبَر وَرفع يَدَيْهِ وَكَانَ لَا يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي الاسْتِسْقَاء، قَالَ: فوَاللَّه مَا رَأَوْا الشَّمْس سبتا، فَقَامَ الرجل الَّذِي سَأَلَ الاسْتِسْقَاء. فَقَالَ: يَا رَسُول الله هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل. .) الحَدِيث. وَفِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) بِسَنَد جيد إِلَى الشّعبِيّ قَالَ: (خرج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَسْتَسْقِي فَلم يزدْ على الاسْتِغْفَار، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَاك اسْتَسْقَيْت، فَقَالَ: لقد طلبت الْغَيْث بمجاريح السَّمَاء الَّذِي يسْتَنْزل بِهِ الْمَطَر، ثمَّ قَرَأَ: {اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3، 25 و 09) . الْآيَة. . وَفِي (مَرَاسِيل أبي دَاوُد) من حَدِيث شريك: (عَن عَطاء بن يسَار أَن رجلا من نجد أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله أجدبنا وهلكنا فَادع الله، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الحَدِيث.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيث والْآثَار كلهَا تشهد لأبي حنيفَة أَن الاسْتِسْقَاء اسْتِغْفَار وَدُعَاء، وَأجِيب عَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الصَّلَاة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلهَا مرّة وَتركهَا أُخْرَى، وَذَا لَا يدل على السّنة، وَإِنَّمَا يدل على الْجَوَاز.(7/36)
قَالَ أبُو عَبْدِ الله كانَ ابنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ هُوَ صاحِبُ الأذَانِ ولاكِنَّهُ وَهَمٌ لأنَّ هاذَا عَبْدُ الله بنُ زَيْدِ بنِ عاصِمٍ المَازِنِيُّ الأنْصَارِي
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (كَانَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول هُوَ أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء صَاحب الْأَذَان، هَذَا يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا، وَيحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ سمع ذَلِك من شَيْخه عَليّ بن عبد الله الْمَذْكُور، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ وهم ابْن عُيَيْنَة فِي قَوْله فِي عبد الله بن زيد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: أَنه صَاحب الْأَذَان، يَعْنِي الَّذِي أرِي النداء، وَهُوَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثَعْلَبَة بن زيد بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وراوي حَدِيث الاسْتِسْقَاء هُوَ: عبد الله ابْن عَاصِم بن عَمْرو بن عَوْف بن مبذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن، وَهُوَ معنى قَوْله: لِأَن هَذَا، أَي: رَاوِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء عبد الله بن زيد بن عَاصِم، وَلم يذكر البُخَارِيّ مُقَابِله حَيْثُ لم يقل: وَذَاكَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه، كَأَنَّهُ اكْتفى بِالَّذِي ذكره، وَقد اتّفق كِلَاهُمَا فِي الِاسْم وَاسم الْأَب وَالنِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار، ثمَّ إِلَى الْخَزْرَج والصحبة وَالرِّوَايَة، وافترقا فِي الْجد والبطن الَّذِي من الْخَزْرَج، لِأَن حفيد عَاصِم بن مَازِن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الْخَزْرَج. قَوْله: (الْمَازِني الْأنْصَارِيّ) وَفِي بعض النّسخ: عبد الله بن زيد بن عَاصِم مَازِن الْأنْصَارِيّ، وَاحْترز بِهِ عَن مَازِن تَمِيم وَغَيره، والموازن كَثِيرَة: مَازِن فِي قيس غيلَان وَهُوَ مَازِن بن الْمَنْصُور بن الْحَارِث بن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَفِي قيس غيلَان أَيْضا: مَازِن بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن قيس غيلَان، ومازن فِي فَزَارَة وَهُوَ: مَازِن بن فَزَارَة، ومازن فِي ضبة وَهُوَ: مَازِن بن كَعْب بن ربيعَة بن ثَعْلَبَة بن سعد بن ضبة. ومازن فِي مدحج وَهُوَ: مَازِن بن ربيعَة بن زيد بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مذْحج، ومازن فِي الْأَنْصَار وَهُوَ: مَازِن بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج، ومازن فِي تَمِيم وَهُوَ: مَازِن بن مَالك بن عَمْرو بن تَمِيم، ومازن فِي شَيبَان وَهُوَ: مَازِن بن ذهل بن ثَعْلَبَة بن شَيبَان، ومازن فِي خذيل وَهُوَ: مَازِن بن مُعَاوِيَة بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل، ومازن فِي الأزد وَهُوَ: مَازِن بن الأزد. وَقَالَ الرشاطي: مَازِن فِي الْقَبَائِل كثير، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: المازن بيض النَّمْل، وَوَقع فِي (مُسْند الطَّيَالِسِيّ) وَغَيره مثل مَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهُوَ غلط.
(بَابُ انْتِقَامِ الرَّبِّ عزَّ وَجَلَّ منْ خَلْقِهِ بالقَحْطِ إذَا انْتُهِكَ مَحَارِمُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان انتقام الله، عز وَجل، من عباده بإيقاع الْقَحْط فيهم إِذا انتهك محارم الله، الانتهاك: للْمُبَالَغَة فِي خرق محارم الشَّرْع وإتيانها، وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَحده خَالِيَة من حَدِيث وَأثر، قيل: كَأَنَّهَا كَانَت فِي رقْعَة مُفْردَة أهملها الْبَاقُونَ، وَالظَّاهِر أَنه وَضعهَا ليذكر فِيهَا أَحَادِيث مُطَابقَة لَهَا، فعاقه عَن ذَلِك عائق، وَالله تَعَالَى أعلم.
6 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الاسْتِسْقَاء فِي الْمَسْجِد الْجَامِع، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن الْخُرُوج إِلَى الْمصلى لَيْسَ بِشَرْط فِي الاسْتِسْقَاء، لِأَن الْمَقْصُود فِي الْخُرُوج إِلَى الصَّحرَاء تَكْثِير النَّاس، وَذَلِكَ يحصل فِي الْجَوَامِع، وَإِنَّمَا كَانُوا يخرجُون إِلَى الصَّحرَاء لعدم تعدد الْجَوَامِع بِخِلَاف هَذَا الزَّمَان.
3101 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا أبُو ضَمْرَةَ أنَسُ بنُ عِيَاضٍ قَالَ حدَّثنا شَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله ابنِ أبِي نمِرٍ أنَّهُ سَمِعَ مالِكٍ يَذْكُرُ أنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بابٍ كانَ وِجاهَ المِنْبَرِ وَرسُولُ الله قائِمٌ يَخْطُبُ فاسْتَقْبَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِما فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ المَوَاشِي وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله يُغِيثُنَا قَالَ فَرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا قَالَ أنَسٌ وَلاَ وَالله مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ ولاَ قَزَعَةٍ ولاَ شَيْئا وَمَا بَيْنَنَا(7/37)
وبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ ولاَ دَارٍ قَالَ فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّماءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أمْطَرَتْ قَالَ وَالله مَا رأيْنَا الشَّمْسَ سِتّا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذالِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ ورَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِمٌ يَخْطُبُ فاسْتَقْبَلَهُ قائِما فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ الأمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله يُمْسِكْهَا قَالَ فرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قالَ اللَّهُمَّ حوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ والآجَامِ والظِّرَابِ والأوْدِيَةِ ومنَابِتَ الشَّجَرِ. قَالَ فانْقَطَعَتْ وخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ قَالَ شرِيكٌ فسَألْتُ أنَسا أهُوَ الرَّجُلُ الأوَّلُ قَالَ لاَ أدْرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَن رجلا دخل يَوْم الْجُمُعَة من بَاب كَانَ وجاه الْمِنْبَر وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم يخْطب) ، وَفِي قَوْله: (فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اسقنا) فَفِي الأول: ذكر الْجَامِع، وَفِي الثَّانِي: استسقاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَهُوَ على الْمِنْبَر.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام البُخَارِيّ البيكندي. الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: وَهُوَ أنس بن عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: شريك بن عبد الله بن أبي نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، مر فِي: بَاب الْقِرَاءَة على الْمُحدث. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة. وَفِيه: من هُوَ مَذْكُور بكنيته وباسمه، وَهُوَ من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء: عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَعَن القعْنبِي وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعبد الله بن يُوسُف، فرقهم، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِسْقَاء عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عِيسَى ابْن حَمَّاد عَن اللَّيْث عَن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن عِيسَى بن حَمَّاد وَعَن عَليّ بن حجر بِهِ وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) ، لم يدر اسْمه. قيل: روى الإِمَام أَحْمد من حَدِيث كَعْب بن مرّة مَا يُمكن أَن يُفَسر هَذَا الْمُبْهم بِأَنَّهُ: كَعْب، الْمَذْكُور قلت: حَدِيث كَعْب بن مرّة رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، فَانْظُر فِيهِ هَل ترى مَا قَالَه مِمَّا يُمكن من حَيْثُ التَّرْكِيب؟ فَإِن أَرَادَ الْإِمْكَان الْعقلِيّ فَلَا دخل لَهُ هَهُنَا، وَقيل: إِنَّه أَبُو سُفْيَان بن حَرْب. قلت: هَذَا غير صَحِيح لِأَن قَوْله فِي الحَدِيث: (فَقَالَ: يَا رَسُول الله) يدل على أَن السَّائِل كَانَ مُسلما، وَأَبُو سُفْيَان إِذْ ذَاك لم يكن مُسلما. قَوْله: (وَجَاء الْمِنْبَر) ، بِكَسْر الْوَاو وَضمّهَا أَي: مواجهه. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) نَاقِلا عَن ابْن التِّين، وجاه الْمِنْبَر يَعْنِي مستدبر الْقبْلَة، ثمَّ قَالَ: إِن كَانَ يُرِيد بالمستدبر الْمِنْبَر، فَصَحِيح، وَلَكِن لَا معنى لذكره، وَإِن كَانَ أَرَادَ الْبَاب فَلَا يتَّجه لباب يواجه الْمِنْبَر أَن يستدبر الْقبْلَة، وَوَقع فِي رِوَايَة اسماعيل بن جَعْفَر: من بَاب كَانَ نَحْو دَار الْقَضَاء، وَهِي دَار عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسميت: دَار الْقَضَاء، لِأَنَّهَا بِيعَتْ فِي قَضَاء دينه فَكَانَ يُقَال لَهَا: دَار قَضَاء دين عمر، ثمَّ لما طَال ذَلِك قيل لَهَا: دَار الْقَضَاء، وَقد صَارَت إِلَى مَرْوَان بعد ذَلِك وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة. وَقَالَ عِيَاض: كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أنْفق من بَيت المَال وَكتبه على نَفسه، وَأوصى ابْنه عبد الله أَن يُبَاع فِيهِ مَاله، فَإِن عجز مَاله اسْتَعَانَ ببني عدي ثمَّ بِقُرَيْش، فَبَاعَ عبد الله هَذِه الدَّار لمعاوية، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقضى دينه، وَكَانَ: ثَمَانِيَة وَعشْرين ألفا، انْتهى. وَفِي قَوْله: ثَمَانِيَة وَعشْرين ألفا، غرابة، وَالَّذِي فِي (الصَّحِيح) وَغَيره من كتب المؤرخين: كَانَ سِتَّة وَثَمَانِينَ ألفا. قَوْله: (وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَقَوله: (يخْطب) ، جملَة فعلية حَالية أَيْضا، أما حَال مترادفة أَو متداخلة. قَوْله: (هَلَكت الْمَوَاشِي) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي ذَر جَمِيعًا عَن الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهم: (هَلَكت الْأَمْوَال) ، وَالْمرَاد بالأموال: الْمَوَاشِي أَيْضا لَا الصَّامِت، وَتقدم فِي كتاب الْجُمُعَة بِلَفْظ: (قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ: يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع الْعِيَال) ، قيل: وَقد تقدم فِي كتاب الْجُمُعَة بِلَفْظ: (هلك الكراع) ، وَهُوَ بِضَم الْكَاف: يُطلق على الْخَيل وَغَيرهَا، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد(7/38)
الْآتِيَة: (هَلَكت الْمَوَاشِي هلك الْعِيَال هلك النَّاس) ، وَهُوَ من قبيل ذكر الْعَام بعد الْخَاص، وَالْمرَاد بهلاكهم عدم وجود مَا يعيشون بِهِ من الأقوات المفقودة بِحَبْس الْمَطَر. قَوْله: (وانقطعت السبل) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (وتقطعت) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الطَّاء، فَالْأول من بَاب الانفعال، وَالثَّانِي من بَاب التفعل، وَالْمرَاد من السبل: الطّرق، وَهُوَ بِضَم السِّين وَالْبَاء جمع: سَبِيل، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ فَقيل: ضعفت الْإِبِل لقلَّة الْكلأ أَن يُسَافر بهَا، وَقيل: إِنَّهَا لَا تَجِد فِي سفرها من الْكلأ مَا يبلغهَا، وَقيل: إِن النَّاس أَمْسكُوا مَا عِنْدهم من الطَّعَام وَلم يجلبوه إِلَى الْأَسْوَاق، وَقيل: نفاد مَا عِنْدهم من الطَّعَام أَو قلته فَلَا يَجدونَ مَا يحملونه إِلَى الْأَسْوَاق، وَوَقع فِي رِوَايَة قَتَادَة الْآتِيَة عَن أنس: (قحط الْمَطَر) ، أَي: قل أَو لم ينزل أصلا. وَفِي رِوَايَة ثَابت الْآتِيَة عَن أنس: (واحمرت الشّجر) ، واحمرارها كِنَايَة عَن يبس وَرقهَا لعدم شربهَا المَاء أَو لانتشاره، فَيصير الشّجر أعوادا بِغَيْر ورق، وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة قَتَادَة: (وانحلت الأَرْض) . فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل قَالَ ذَلِك كُله، وَيحْتَمل أَن يكون بعض الروَاة روى شَيْئا مِمَّا قَالَه بِالْمَعْنَى، فَإِنَّهَا مُتَقَارِبَة. قَوْله: (فَادع الله أَن يغيثنا) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين (فَادع الله يغيثنا) ، وَوَجهه أَن كلمة: أَن، مقدرَة قبل، أَي: فَهُوَ يغيثنا، وَفِيه بعد. وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل ابْن جَعْفَر الْآتِيَة للكشميهني: (يغثنا) ، بِالْجَزْمِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر.
ثمَّ إعلم أَن لفظ: يغيثنا، بِضَم الْيَاء فِي جَمِيع النّسخ، و: اللَّهُمَّ أغثنا، بِالْألف من بَاب أغاث يغيث إغاثة من مزِيد الثلاثي، وَالْمَشْهُور فِي كتب اللُّغَة أَنه يُقَال فِي الْمَطَر: غاث الله النَّاس وَالْأَرْض يغيثهم، بِفَتْح الْيَاء. قَالَ عِيَاض: قَالَ بَعضهم: هَذَا الْمَذْكُور فِي الحَدِيث من الإغاثة بِمَعْنى المعونة وَلَيْسَ من طلب الْغَيْث، وَإِنَّمَا يُقَال فِي طلب الْغَيْث: أللهم أغثنا. قَالَ أَبُو الفهل: وَيحْتَمل أَن يكون من طلب الْغَيْث، أَي: هَب لنا غيثا أَو ارزقنا غيثا، كَمَا يُقَال: سقَاهُ وأسقاه، أَي: جعل لَهُ سقيا على لُغَة من فرق بَينهمَا. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (أللهم أغثنا) أَي: فرج عَنَّا وأدركنا، فعلى هَذَا يجوز مَا وَقع فِي عَامَّة النّسخ. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي (الْمُنْتَهى) : يُقَال أغاثه الله يغيثه، والغياث مَا أغاثك الله بِهِ إسم من أغاث واستغاثني فأغثته. وَقَالَ الْقَزاز: غاثه يغوثه غوثا وأغاثه يغيثه إغاثة، فأميت: غاث، وَاسْتعْمل: أغات. وَيَقُول الْوَاقِع فِي بلية: أللهم أَغِثْنِي، أَي: فرج عني. وَقَالَ الْفراء: الْغَيْث والغوث متقاربان فِي الْمَعْنى، وَالْأَصْل، وَفِي (كتاب النَّبَات) لأبي حنيفَة: وَقد غيثت الأَرْض فَهِيَ مغيثة ومغيوثة. وَقَالَ أَبُو الْحسن اللحياني: أَرض مغيثة ومغيوثة أَي مسقية ومغيرة ومغيورة، والإسم الْغيرَة والغيث. وَقَالَ الْفراء: الْغَيْث يغورنا ويغيرنا، وَقد غارنا الله بِخَير: أغاثنا.
قَوْله: (فَرفع يَدَيْهِ) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن شريك: (فَرفع يَدَيْهِ حذاء وَجهه) ، وَتقدم فِي الْجُمُعَة بِلَفْظ: (فَمد يَدَيْهِ ودعا) ، وَزَاد فِي رِوَايَة قَتَادَة فِي الْأَدَب: (فَنظر إِلَى السَّمَاء) . قَوْله: (فَقَالَ: أللهم اسقنا ثَلَاث مَرَّات) ، وَوَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة: (اللَّهُمَّ اسقنا ثَلَاث مَرَّات) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ثَابت الْآتِيَة عَن أنس: (أللهم إسقنا مرَّتَيْنِ) . قَوْله: (فَلَا وَالله) ، بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لَا وَالله) بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة ثَابت الْآتِيَة: (وأيم الله) ، وَالتَّقْدِير: فَلَا نرى وَالله، فَحذف الْفِعْل مِنْهُ لدلَالَة الْمَذْكُور عَلَيْهِ. قَوْله: (من سَحَاب) أَي: من سَحَاب مُجْتَمع وَلَا قزعة أَي من سَحَاب متفرق، وَهُوَ بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : القزعة، مِثَال شَجَرَة قِطْعَة من السَّحَاب رقيقَة كَأَنَّهَا ظلّ إِذا مرت من تَحت السَّحَاب الْكثير. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: القزع: السَّحَاب المتفرق. وَقَالَ يَعْقُوب عَن الْبَاهِلِيّ: يُقَال: مَا على السَّحَاب قزعة أَي: شَيْء من غيم، ذكره فِي (الموعب) وَفِي (تَهْذِيب الْأَزْهَرِي) : كل شَيْء متفرق فَهُوَ قزع. وَفِي (الْمُحكم) : أَكثر مَا يكون ذَلِك فِي الخريف. قَوْله: (وَلَا شَيْئا) بِالنّصب تَقْدِيره أَي: وَلَا نرى شَيْئا من الكدورة الَّتِي تكون مَظَنَّة للمطر. قَوْله: (وَبَين سلع) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ جبل مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَوَقع عِنْد ابْن سهل، بِفَتْح اللَّام وسكونها: وَقيل: بغين مُعْجمَة، وَكله خطأ. وَفِي (الْمُحكم) و (الْجَامِع) : سلع مَوضِع، وَقيل: جبل. وَقَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل مُتَّصِل بِالْمَدِينَةِ، وَزعم الْهَرَوِيّ أَن سلعا معرفَة لَا يجوز إِدْخَال اللَّام عَلَيْهِ. قلت: وَفِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) للبيهقي، وَكتاب أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ، وَأبي سعيد الْوَاعِظ و (الإكليل) للْحَاكِم: (فطلعت سَحَابَة من وَرَاء السّلع) . قَوْله: (من بَيت وَلَا دَار) أَي: تحجبنا عَن رُؤْيَته، وَأَرَادَ بذلك أَن السَّحَاب كَانَ مفقودا لَا مستترا بِبَيْت وَلَا غَيره، وَوَقع فِي رِوَايَة ثَابت فِي (عَلَامَات النُّبُوَّة) : (وَإِن السَّمَاء لفي مثل الزجاجة أَي لشدَّة صفائها وَذَلِكَ أَيْضا مشْعر بقدم السَّحَاب أصلا قَوْله (فطلعت) أَي: ظَهرت من وَرَائه أَي من وَرَاء سلع. قَوْله: (مثل(7/39)
الترس) ، أَي: مستديرة، والتشبيه فِي الاستدارة لَا فِي الْقدر يدل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة: (فَنَشَأَتْ سَحَابَة مثل رجل الطَّائِر وَأَنا أنظر إِلَيْهَا) . فَهَذَا يشْعر بِأَنَّهَا كَانَت صَغِيرَة، وَفِي رِوَايَة ثَابت: (فهاجت ريح أنشأت سحابا ثمَّ اجْتمع) ، وَفِي رِوَايَة قَتَادَة فِي الْأَدَب: (فَنَشَأَ السَّحَاب بعضه إِلَى بعض) ، وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق الْآتِيَة: (حَتَّى ثار السَّحَاب أَمْثَال الْجبَال) أَي: لكثرته وَفِيه: (ثمَّ ينزل عَن منبره حَتَّى رَأينَا الْمَطَر يتحادر على لحيته) ، وَهَذَا يدل على أَن السّقف وكف لكَونه كَانَ من جريد النّخل. قَوْله: (فَلَمَّا توسطت السَّمَاء) أَي: بلغت إِلَى وسط السَّمَاء وَهِي على هَيْئَة مستديرة ثمَّ انتشرت. قَوْله: (ثمَّ أمْطرت) ، قد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الاسْتِسْقَاء فِي الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة. قَوْله: (مَا رَأينَا الشَّمْس سبتا) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَرَادَ بِهِ الْيَوْم الَّذِي بعد الْجُمُعَة، وَلَكِن المُرَاد بِهِ الْأُسْبُوع، وَهُوَ من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم بعضه، كَمَا يُقَال: جُمُعَة، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. فَإِن قلت: كَيفَ عبر أنس بالسبت؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ من الْأَنْصَار، وَكَانُوا قد جاوروا الْيَهُود فَأخذُوا بِكَثِير من اصطلاحهم، وَإِنَّمَا سموا الْأُسْبُوع سبتا لِأَنَّهُ أعظم الْأَيَّام عِنْدهم، كَمَا أَن الْجُمُعَة أعظم الْأَيَّام عِنْد الْمُسلمين، وَوَقع فِي رِوَايَة الدَّاودِيّ: سِتا، بِكَسْر السِّين وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَأَرَادَ بِهِ: سِتَّة أَيَّام، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ تَصْحِيف، ورد عَلَيْهِ بِأَن الدَّاودِيّ لم ينْفَرد بِهِ، فقد وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي كَذَا، يَعْنِي: سِتا، وَكَذَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن الدَّرَاورْدِي عَن شريك، وَوَافَقَهُ أَحْمد من رِوَايَة ثَابت عَن أنس. فَإِن قلت: وَجه التَّصْحِيف أَنه مستبعد لرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْآتِيَة: سبعا. قلت: لَا استبعاد فِي ذَلِك، لِأَن من روى سبعا أضَاف إِلَى السبت يَوْمًا مُلَفقًا من الجمعتين، وَوَقع فِي رِوَايَة إِسْحَاق الْآتِيَة: (فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك وَمن الْغَد وَمن بعد الْغَد وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَة الْأُخْرَى) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مَالك عَن شريك: (فمطرنا من جُمُعَة إِلَى جُمُعَة) ، وَفِي رِوَايَة قَتَادَة الْآتِيَة: (فمطرنا فَمَا كدنا نصل إِلَى مَنَازلنَا) ، أَي: من كَثْرَة الْمَطَر، وَقد تقدم فِي كتاب الْجُمُعَة من وَجه آخر: (فخرجنا نَخُوض المَاء حَتَّى أَتَيْنَا مَنَازلنَا) ، وَلمُسلم فِي رِوَايَة ثَابت: (فأمطرنا حَتَّى رَأَيْت الرجل تهمه نَفسه أَن يَأْتِي أَهله) ، وَلابْن خُزَيْمَة فِي رِوَايَة حميد: (حَتَّى أهم الشَّبَاب الْقَرِيب الدَّار الرُّجُوع إِلَى أَهله) ، وللبخاري فِي (الْأَدَب) من طَرِيق قَتَادَة: (حَتَّى سَالَتْ مثاعب الْمَدِينَة) ، المثاعب: جمع مثعب، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: مسيل المَاء. قَوْله: (ثمَّ دخل رجل من ذَلِك الْبَاب) الظَّاهِر: أَن هَذَا غير ذَاك الرجل الأول، لِأَن النكرَة إِذا أُعِيدَت نكرَة تكون غَيره، وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق عَن أنس: (فَقَامَ ذَلِك الرجل أَو غَيره) ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون هَذَا هُوَ الرجل الأول، وَلكنه شكّ فِيهِ بقوله: (أَو غَيره) ، أَي: أَو غير ذَلِك الرجل، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: (فَأتى الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله) ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن هَذَا هُوَ الأول، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق حَفْص عَن أنس بِلَفْظ: (فَمَا زلنا نمطر حَتَّى جَاءَ ذَلِك الْأَعرَابِي فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى) ، وَهَذَا أَيْضا كَذَلِك. قَوْله: (وَرَسُول الله قَائِم) ، جملَة إسمية حَالية، قَوْله: (فَاسْتَقْبلهُ قَائِما) انتصاب: قَائِما، على أَنه حَال من الضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِي: اسْتقْبل، لَا من الضَّمِير الْمَنْصُوب. قَوْله: (هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل) ، يَعْنِي: بِسَبَب كَثْرَة المياة، لِأَنَّهُ انْقَطع المرعى فَهَلَكت الْمَوَاشِي من عدم الرَّعْي، أَو لعدم مَا يكنها من الْمَطَر، وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي رِوَايَة سعيد عَن شريك أخرجهَا النَّسَائِيّ: (من كَثْرَة المَاء) ، وَفِي رِوَايَة حميد عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (وَاحْتبسَ الركْبَان) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن شريك: (تهدمت الْبيُوت) ، وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق الْآتِيَة: (هدم الْبناء وغرق المَال) . قَوْله: (فَادع الله أَن يمْسِكهَا) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني. وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَادع الله يمْسِكهَا) ، بِدُونِ كلمة: إِن، وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجزم إِمَّا الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَأما النصب فبكلمة: إِن، الْمقدرَة، وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الْأَمر، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الأمطار الَّتِي يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ أمْطرت) ، أَو إِلَى السحابة، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد عَن شريك: (أَن يمسك عَنَّا المَاء) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من طَرِيق ثَابت: (أَن يرفعها عَنَّا) ، وَفِي رِوَايَة قَتَادَة فِي الْأَدَب: (فَادع رَبك أَن يحبسها عَنَّا، فَضَحِك) . وَفِي رِوَايَة ثَابت: (فَتَبَسَّمَ) ، وَزَاد حميد: (لسرعة ملال ابْن آدم) . قَوْله: (حوالينا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حولنا) ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، والحول والحوال بِمَعْنى الْجَانِب، وَالَّذِي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: تَثْنِيَة، حوال، وَهُوَ ظرف يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، تَقْدِيره: اللَّهُمَّ أنزل أَو أمطر حوالينا وَلَا تنزل علينا. فَإِن قلت: إِذا أمْطرت حول الْمَدِينَة فالطريق تكون ممتنعة، وَإِذن لم يزل شكواهم؟ قلت: أَرَادَ بقوله: (حوالينا) : الآكام والظراب، وشبههما كَمَا فِي الحَدِيث، فَتبقى الطَّرِيق على هَذَا مسلوكة، كَمَا سَأَلُوا. وَأَيْضًا أخرج الطّرق بقوله:(7/40)
(وَلَا علينا) وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي إِدْخَال: الْوَاو، هَهُنَا معنى لطيف، وَذَلِكَ أَنه لَو أسقطها لَكَانَ مستسقيا للأكام وَمَا مَعهَا فَقَط، وَدخُول: الْوَاو، يَقْتَضِي أَن طلب الْمَطَر على الْمَذْكُورَات لَيْسَ مَقْصُودا لعَينه، وَلَكِن ليَكُون وقاية من أَذَى الْمَطَر، فَلَيْسَتْ: الْوَاو، مخلصة للْعَطْف، وَلكنهَا: للتَّعْلِيل. وَهُوَ كَقَوْلِهِم: تجوع الْحرَّة وَلَا تَأْكُل بثدييها، فَإِن الْجُوع لَيْسَ مَقْصُودا لعَينه، وَلَكِن لكَونه مَانِعا من الرَّضَاع بِأُجْرَة، إِذْ كَانُوا يكْرهُونَ ذَلِك. قَوْله: (على الأكام) ، فِيهِ بَيَان للمراد بقوله: (حوالينا) ، رُوِيَ: (الإكام) ، بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، ممدودة وَهُوَ جمع: أكمة بِفَتَحَات، قَالَ ابْن البرقي: هُوَ التُّرَاب الْمُجْتَمع. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أكبر من الكدية. وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ الَّتِي من حجر وَاحِد. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ الهضبة الضخمة. وَقيل: الْجَبَل الصَّغِير. وَقيل: مَا ارْتَفع من الأَرْض. قَوْله: (والظراب) بِكَسْر الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: جمع ظرب، بِسُكُون الرَّاء. قَالَه الْقَزاز، وَقَالَ: هُوَ جبل منبسط على الأَرْض، وَقيل بِكَسْر الرَّاء، وَيُقَال: ظراب وظرب، كَمَا يُقَال: كتاب وَكتب. وَيُقَال: ظرب، بتسكين الرَّاء. قَالُوا: أصل الظراب مَا كَانَ من الْحِجَارَة أَصله ثَابت فِي جبل أَو أَرض حزنة، وَكَانَ أَصله الثَّانِي محدودا، وَإِذا كَانَت خلقَة الْجَبَل كَذَلِك سمي ظربا. وَفِي (الْمُحكم) : الظرب كل مَا كَانَ نتأً من الْحِجَارَة وحدٌ طرفه. وَقيل: هُوَ الْجَبَل الصَّغِير. وَفِي (الْمُنْتَهى) للبرمكي: الظراب: الروابي الصغار دون الْجَبَل، وَفِي (الغريبين) : الأظراب جمع ظرب. قَوْله: (والأودية) جمع وادٍ وَفِي رِوَايَة مَالك: (بطُون الأودية) ، وَالْمرَاد بهَا مَا يتَحَصَّل فِيهِ المَاء لينْتَفع بِهِ، قَالُوا: وَلم يسمع أفعلة جمع فَاعل إلاّ أَوديَة جمع وَاد، وَزَاد مَالك فِي رِوَايَته: (ورؤوس الْجبَال) . قَوْله: (ومنابت الشّجر) أَرَادَ بِالشَّجَرِ: المرعى ومنابته الَّتِي تنْبت الزَّرْع والكلأ. قَوْله: (فَانْقَطَعت) أَي: السَّمَاء، ويروى: (فأقلعت) ، ويروى: (فانقلعت) ، وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد، وَفِي رِوَايَة مَالك: (فانجابت عَن الْمَدِينَة انجياب الثَّوْب) ، أَي: خرجت عَنْهَا كَمَا يخرج الثَّوْب عَن لابسه، وَفِي رِوَايَة سعيد عَن شريك: (فَمَا هُوَ إِلَّا أَن تكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك تمزق السَّحَاب حَتَّى مَا نرى مِنْهُ شَيْئا) ، وَالْمرَاد بقوله: (مَا نرى شَيْئا) ، أَي: فِي الْمَدِينَة، وَلمُسلم من رِوَايَة حَفْص: (فَلَقَد رَأَيْت السَّحَاب يتمزق كَأَنَّهُ الملا حِين يطوى) ، والملا، بِضَم مَقْصُور وَقد يمد جمع: ملاءة، وَهُوَ ثوب مَعْرُوف. وَفِي رِوَايَة قَتَادَة عِنْد البُخَارِيّ: (فَلَقَد رَأَيْت السَّحَاب يتقطع يَمِينا وَشمَالًا يمطرون) أَي: أهل النواحي وَلَا يمطرون أهل الْمَدِينَة، وَله فِي الْأَدَب: (فَجعل الله السَّحَاب يتصدع عَن الْمَدِينَة) ، وَزَاد فِيهِ: (يُرِيهم الله كَرَامَة نبيه وَإجَابَة دَعوته) . وَله فِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس: (فتكشطت) ، أَي: تكشفت، (فَجعلت تمطر حول الْمَدِينَة وَلَا تمطر بِالْمَدِينَةِ قَطْرَة، فَنَظَرت إِلَى الْمَدِينَة وَإِنَّهَا لفي مثل الإكليل) . وَفِي مُسْند أَحْمد من هَذَا الْوَجْه: (فتقور مَا فَوق رؤوسنا من السَّحَاب حَتَّى كأنا فِي إكليل) ، وَهُوَ بِكَسْر الْهمزَة: التَّاج، وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق عَن أنس: (فَمَا يُشِير بِيَدِهِ إِلَى نَاحيَة من السَّمَاء إِلَّا تفرجت حَتَّى صَارَت الْمَدِينَة فِي مثل الجوبة) ، والجوبة، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: هِيَ الحفرة المستديرة الواسعة، وَالْمرَاد بهَا هَهُنَا الفرجة فِي السَّحَاب، وَقَالَ الْخطابِيّ: الجوبة هُنَا الترس، وَضبط بَعضهم: الجونة بالنُّون ثمَّ فسره: بالشمس إِذا ظَهرت فِي خلل السَّحَاب. وَقَالَ عِيَاض: فقد صحف من قَالَ بالنُّون. وَفِي رِوَايَة إِسْحَاق من الزِّيَادَة أَيْضا: (وسال الْوَادي وَادي قناة شهرا) ، وَقد فسرنا هَذَا فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب الاسْتِسْقَاء فِي الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة، وَأكْثر مَا ذكرنَا هُنَا ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ، وَإِن كَانَ مكررا لزِيَادَة الْإِيضَاح ولسرعة وقُوف الطَّالِب للمعاني. قَوْله: (فَسَأَلت أنسا أهوَ الرجل الأول؟ قَالَ: لَا أَدْرِي) وَفِي مَوضِع آخر: (فَأتى الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله) ، وَفِي لفظ: (جَاءَ رجل فَقَالَ: ادْع الله يغثنا، ثمَّ جَاءَ فَقَالَ:) وَفِي لفظ فِي الأول: (قَامَ أَعْرَابِي) ، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: (فَقَامَ ذَلِك الْأَعرَابِي) ، قَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّ أنسا تذكر بعد أَو نسي بعد ذكره إِن كَانَ هَذَا الحَدِيث قبل قَوْله: (لَا أَدْرِي أهوَ الأول أم لَا؟) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز مكالمة الإِمَام فِي الْخطْبَة للْحَاجة. وَفِيه: الْقيام للخطبة، وَأَنَّهَا لَا تَنْقَطِع بالْكلَام وَلَا تقطع بالمطر وَفِيه: قيام الْوَاحِد بِأَمْر الْجَمَاعَة. وَفِيه: سُؤال الدُّعَاء من أهل الْخَيْر وَمن يُرْجَى مِنْهُ الْقبُول وإجابتهم لذَلِك. وَفِيه: تكْرَار الدُّعَاء ثَلَاثًا. وَفِيه: إِدْخَال دُعَاء الاسْتِسْقَاء فِي خطْبَة الْجُمُعَة وَالدُّعَاء على الْمِنْبَر. وَفِيه: لَا تَحْويل وَلَا اسْتِقْبَال. وَفِيه: الاجتزاء بِصَلَاة الْجُمُعَة عَن صَلَاة الاسْتِسْقَاء. وَفِيه: امْتِثَال الصَّحَابَة بِمُجَرَّد الْإِشَارَة. وَفِيه: الْأَدَب فِي الدُّعَاء حَيْثُ لم يدع بِرَفْع الْمَطَر مُطلقًا لاحْتِمَال الِاحْتِيَاج إِلَى استمراره، فاحترز فِيهِ مَا يَقْتَضِي رفع الضَّرَر وإبقاء النَّفْع. وَفِيه: أَن الدُّعَاء بِدفع الضَّرَر لَا يُنَافِي(7/41)
التَّوَكُّل. وَفِيه: الْيَمين لتأكيد الْكَلَام. وَفِيه: أَن الدُّعَاء بِرَفْع الضَّرَر لَا يُنَافِي التَّوَكُّل، وَإِن كَانَ مقَام الْأَفْضَل التَّفْوِيض. وَقَالَ ابْن بطال اسْتدلَّ على الِاكْتِفَاء بِدُعَاء الإِمَام فِي الاسْتِسْقَاء قيل: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد: (وَرفع النَّاس أَيْديهم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدعونَ) . وَفِيه: حجَّة وَاضِحَة لأبي حنيفَة أَن الاسْتِسْقَاء دُعَاء واستغفار وَلَا صَلَاة فِيهِ، قيل: مُجَرّد الدُّعَاء لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة فِيهِ. قلت: أَبُو حنيفَة لم يقل: إِن الصَّلَاة فِيهِ غير مَشْرُوعَة، بل يَقُول: إِنَّهَا لَيست بِسنة، وَمَا ورد فِي أَحَادِيث الصَّلَاة فلبيان الْجَوَاز، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
7 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ غيْرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الاسْتِسْقَاء فِي خطْبَة الْجُمُعَة حَال كَون الْخَطِيب غير مُسْتَقْبل الْقبْلَة.
4101 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ شَرِيكٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رجُلاً دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ منْ بابٍ كانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ ورَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِمٌ يَخْطُبُ فاسْتَقْبَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِما ثُمَّ قَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ الأمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله يُغِيثُنَا فَرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قالَ اللَّهُمَّ أغِثْنَا اللَّهُمَّ أغِثْنَا أللَّهُمَّ أغِثْنَا قَالَ أنَسٌ وَلاَ وَالله مَا نَرَي فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ ولاَ قَزَعَةٍ وَمَا بَيْنَنَا وبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ ولاَ دَار قَالَ فَطلعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ الترْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أمْطَرَتْ فَلاَ وَالله مَا رَأيْنَا الشَّمْسَ سِتَّا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذالِكَ البابِ فِي الجُمُعَةِ ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فاسْتَقْبَلَهُ قائِما فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ الأمْوَالُ وانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله يُمْسِكْهَا عَنَّا فَرَفَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ فأقْلَعَتْ وخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ قَالَ شَرِيكٌ سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ أهُوَ الرَّجُلُ الأوَّلُ فقالَ مَا أدْرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأعَاد حَدِيث أنس الْمَذْكُور لأجل هَذِه التَّرْجَمَة ولبيان اخْتِلَاف سَنَده فَإِنَّهُ روى أَولا: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي ضَمرَة عَن شريك بن عبد الله، وَهَذَا رَوَاهُ: عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أبي إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي عَن شريك الْمَذْكُور عَن أنس، وَهُوَ أَيْضا من الرباعيات. قَوْله: (يَوْم الْجُمُعَة) بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بالتنكير. قَوْله: (قَائِما) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (اسْتقْبل) . قَوْله: (يغيثنا) ، بِضَم الْيَاء وَقد مر بَيَانه. قَوْله: (فأقلعت) ، بِفَتْح الْهمزَة من الإقلاع، والإقلاع عَن الْأَمر: الْكَفّ عَنهُ والإمساك، يُقَال: فلَان أقلع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَوجه تأنيثها بِاعْتِبَار السحابة.
8 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ عَلَى المِنْبَرِ)
أَي: هَذَا بَاب حكم الاسْتِسْقَاء على الْمِنْبَر.
5101 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عُوانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عنْ أنَس قَالَ بيْنَمَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إذْ جَاءَ رجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله قَحَطَ المَطَرُ فادْعُ الله أنْ يَسْقِيَنَا فدَعَا فَمُطِرْنَا فَمَا كِدْنَا أنْ نَصِلَ إلَى مَنَازِلِنَا فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إلَى الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ قَالَ فقَامَ ذالِكَ الرَّجُلُ أوْ غَيْرُهُ فَقَالَ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. قَالَ(7/42)
فَلَقَدْ رَأيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينا وشِمَالاً لَا يُمْطَرُونَ ولاَ يُمْطَرُ أهْلُ المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَعَادَهُ لأجل هَذِه التَّرْجَمَة وللمغايرة فِيمَن أخرجه، لِأَنَّهُ رَوَاهُ هُنَا: عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن قَتَادَة عَن أنس. قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ غير مرّة إِذْ أَصله: بَين زيدت فِيهِ الْألف وَالْمِيم، ويضاف إِلَى الْجُمْلَة. وَقَوله: (إِذا جَاءَ) ، جَوَابه. قَوْله: (قحط) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا. قَوْله: (فمطرنا) بِضَم الْمِيم وَكسر الطَّاء. قَوْله: (فَمَا كدنا أَن نصل) كلمة: أَن نصل، خبر: لكاد مَعَ أَن، لِأَن بَينه وَبَين عَسى مُعَاوضَة فِي دُخُول أَن وَعدمهَا، وَأَرَادَ بِهِ أَنه كثر الْمَطَر بِحَيْثُ تعذر الْوُصُول إِلَى مَنَازلنَا. قَوْله: (نمطر) بِضَم النُّون وَسُكُون الْمِيم وَفتح الطَّاء. قَوْله: (يتقطع) من بَاب التفعل. قَوْله: (يمطرون) أَي: أهل الْيَمين وَأهل الشمَال، ومحلها من الْإِعْرَاب الرّفْع لِأَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم يمطرون، وَيجوز أَن يكون حَالا، أَي: السَّحَاب يتقطع حَال كَون أهل الْيَمين وَالشمَال يمطرون.
9 - (بابُ منِ اكْتَفَى بِصَلاةِ الجُمُعَةِ فِي الاسْتِسْقَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من اكْتفى بِصَلَاة الْجُمُعَة فِي حَال الاسْتِسْقَاء.
6101 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَن مالِكٍ عنْ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أنَسٍ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكَتِ المَوَاشِي وتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَدَعَا فَمُطِرْنَا مِنَ الجُمُعَةِ إلَى الجُمُعَةِ ثُمَّ جاءَ فقالَ تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ وتقطَّعَتِ السُّبُلُ وهَلَكَتِ المَوَاشِي فادْعُ الله يُمْسِكْهَا فقامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ والظِّرَابِ وَالأوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجرِ فانْجَابَتِ عنِ المَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ..
أعَاد هَذَا الحَدِيث أَيْضا لما ذكرنَا من الْوَجْهَيْنِ. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِأَن السَّائِل الْمَذْكُور عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا سَأَلَهُ وَهُوَ على الْمِنْبَر يخْطب يَوْم الْجُمُعَة؟ قلت: هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا فِي الأَصْل وَاحِد، ويفسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (فَدَعَا فمطرنا) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَادع الله) بدل (فَدَعَا) ، أَي: قَالَ الرجل: ادْع الله فَدَعَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (هَلَكت الْمَوَاشِي) أَي: من قلَّة المَاء والنبات (وتقطعت السبل) أَيْضا من قلتهما أَيْضا. وَأما الْهَلَاك والتقطع ثَانِيًا فَمن كَثْرَة المَاء. قَوْله: (فانجابت) ، بِالْجِيم وبالباء الْمُوَحدَة أَي: انكشفت، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
وَفِيه: مَا يدل على أَن الرجل الثَّانِي فِيهِ هُوَ الرجل الأول، لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: (ثمَّ جَاءَ) ، يرجع إِلَى قَوْله: (جَاءَ رجل) ، فَافْهَم، وَالله أعلم.
01 - (بابُ الدُّعَاءِ إذَا تقَطَّعَتِ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ المَطَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء إِذا انْقَطَعت السبل لأجل كَثْرَة الْمَطَر، وَفِي بعض النّسخ: إِذا انْقَطَعت.
7101 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالَكٌ عنْ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي نَمِرٍ عنْ أنَس بنِ مالِكٍ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ المَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فادْعُ الله فدَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إلَى جُمُعَةٍ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ وتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ وَهَلَكَتِ المَوَاشي فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ عَلَى رُؤُوسِ الجِبَالِ وَالآكَامِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ فانْجَابَتْ عنِ المَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ..
أعَاد هَذَا الحَدِيث أَيْضا لما ذكرنَا، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس. وَفِيه: مَا يدل على أَن الرجل الثَّانِي غير الرجل الأول، وَهَذَا ظَاهر. قَوْله: (انجياب الثَّوْب) أَي: كانجياب الثَّوْب.(7/43)
11 - (بابُ مَا قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي الاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: خبر التَّحْوِيل صَحِيح، فَكيف قَالَ بقوله: بَاب مَا قيل؟ قلت: لِأَن قَوْله فِي الحَدِيث: (وَلم يذكر أَنه حول رِدَاءَهُ) يحْتَمل أَن يكون الْقَائِل بِهِ هُوَ الرَّاوِي عَن أنس، أَو يكون من دونه، فلأجل هَذَا التَّرَدُّد ذكر بِهَذِهِ الصِّيغَة.
8101 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ بِشْرٍ قَالَ حدَّثنا مُعَافَى بنُ عِمْرَانَ عنِ الأوزَاعِيِّ عنْ إسْحَاقَ ابنِ عَبْدِ الله عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رَجُلاً شكا إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلاَكَ المَالِ وجَهْدِ العِيَالِ فدَعَا الله يَسْتَسْقِي ولَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ولاَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلم يذكر أَنه حول رِدَاءَهُ) . فَإِن قلت: كَيفَ الْمُطَابقَة وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر يَوْم الْجُمُعَة؟ قلت: هَذَا الحَدِيث بِرِوَايَة إِسْحَاق عَن أنس مُخْتَصر من حَدِيث مطول يَأْتِي ذكره بعد أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَفِيه ذكر يَوْم الْجُمُعَة على مَا تقف عَلَيْهِ، وَشَيخ البُخَارِيّ: الْحسن بن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو عَليّ البَجلِيّ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم المفتوحتين: الْكُوفِي، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، والمعافى، بِضَم الْمِيم وبالعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: وَهُوَ اسْم مفعول من المعافاة، ابْن عمرَان أَبُو مَسْعُود الْموصِلِي، قَالَ الثَّوْريّ: هُوَ ياقوتة الْعلمَاء، مَاتَ سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَالْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى أَبَا يحيى.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَفِي الاسْتِسْقَاء أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن دَاوُد بن رشيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مَحْمُود بن خَالِد.
قَوْله: (هَلَاك المَال) أَي: من قلَّة المَاء. قَوْله: (وَجهد الْعِيَال) ، أَي: من الْقَحْط، والجهد، بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا: الطَّاقَة، لَكِن الرِّوَايَة بِالْفَتْح، وَقَالَ الْفراء، بِالضَّمِّ: الطَّاقَة، وبالفتح: الْمَشَقَّة. قَوْله: (وَلم يذكر) أَي: الرَّاوِي عَن أنس، أَو من دونه، كَمَا قُلْنَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلم يذكر أَي أنس وَفِيه شَيْئَانِ: أَحدهمَا: عدم التَّحْوِيل، وَالْآخر: عدم اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عدم التَّحْوِيل والاستقبال مُتَّفق عَلَيْهِمَا إِذا كَانَ الاسْتِسْقَاء فِي غير الصَّحرَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف فِيهَا؟ قلت: عدم التَّحْوِيل كَيفَ يكون مُتَّفقا عَلَيْهِ وَفِيه خلاف أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يحْتَج بِهَذَا الحَدِيث على عدم سنية التَّحْوِيل مُطلقًا، وَالله تَعَالَى أعلم.
21 - (بابُ إذَا اسْتَشْفَعُوا إلَى الإمَامِ لِيَسْتَسْقِي لَهُمْ ولَمْ يَرُدُّهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا استشفعوا ... إِلَى آخِره، أَي: إِذا استشفع النَّاس أَو الْقَوْم إِلَى الإِمَام يَسْتَسْقِي لأجلهم، وَقَوله: يَسْتَسْقِي يجوز أَن يكون من الْأَحْوَال المنتظرة، وَفِي بعض النّسخ: ليستسقي، بلام التَّعْلِيل، وَالْوَاو فِي (وَلم يردهم) للْعَطْف، وَيصْلح أَن يكون للْحَال. فَإِن قلت: قد ذكر فِي بَاب سُؤال النَّاس الإِمَام الاسْتِسْقَاء إِذا قحطوا، فَمَا فَائِدَة هَذَا الْبَاب؟ قلت: ذَلِك لبَيَان مَا على النَّاس أَن يَفْعَلُوا إِذا احتاجوا إِلَى الاسْتِسْقَاء، وَهَذَا الْبَاب لبَيَان مَا على الإِمَام من إِجَابَة سُؤَالهمْ.
9101 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنا مالِكٌ عنْ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي نَمِرٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكَتِ المَوَاشِي وتَقَطَّعَتِ السّبُلُ فادْعُ الله فَدَعَا الله فمُطِرْنَا مِنَ الجُمُعَةِ إلَى الجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ يَا رَسُول الله تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ وتَقَطَّعَتِ السّبُلُ وهَلَكَتِ المَواشِي فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ عَلَى ظُهُورِ الجِبَالِ والآكَامِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومَنَابِتِ الشَّجَرِ فانْجَابَتْ عنِ المَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ..
أعَاد حَدِيث شريك أَيْضا لأجل هَذِه التَّرْجَمَة، ولبيان مُغَايرَة شَيْخه وَشَيخ شَيْخه. قَوْله: (اللَّهُمَّ على ظُهُور الْجبَال) أَي:(7/44)
يَا ألله أنزل الْمَطَر على ظُهُور الْجبَال. قَوْله: (منابت الشّجر) المنابت جمع منبت على وزن مفعل بِكَسْر الْعين، قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ يُمكن وُقُوع الْمَطَر عَلَيْهَا؟ ثمَّ أجَاب: بِأَن المُرَاد مَا حولهَا أَو مَا يصلح أَن يكون منبتا.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: دَلِيل على أَن للْإِمَام إِذا سُئِلَ الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء أَن يُجيب إِلَيْهِ لما فِيهِ من الضراعة إِلَى الله تَعَالَى، فِي إصْلَاح أَحول عباده، وَكَذَا فِي كل مَا فِيهِ صَلَاح الرّعية أَن يُجِيبهُمْ إِلَى ذَلِك، لِأَن الإِمَام رَاع ومسؤول عَن رَعيته فَيلْزمهُ حياطتهم.
31 - (بابٌ إذَا اسْتَشْفَعَ المُشْرِكُونَ بِالمُسْلِمِينَ عِنْدَ القَحْطِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا استشفع ... إِلَى آخِره، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، اكْتِفَاء بِمَا وَقع فِي الحَدِيث، لِأَن فِيهِ أَن أَبَا سُفْيَان استشفع بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَأَلَهُ أَن يَدْعُو الله ليرْفَع عَنْهُم مَا ابْتَلَاهُم بِهِ من الْقَحْط، وَأَبُو سُفْيَان إِذْ ذَاك كَانَ كَافِرًا. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِدُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يعلم مِنْهُ حكم الْبَاب، فَكيف الِاكْتِفَاء بِهِ؟ قلت: سَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير سُورَة ص بِلَفْظ: (فَاسْتَسْقَى لَهُم فسقوا) ، والْحَدِيث وَاحِد وَأَيْضًا صرح بذلك فِي زِيَادَة أَسْبَاط على مَا يَأْتِي الْآن، لَا يُقَال كَانَ استشفاعه عقيب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم، لأَنا نقُول: هَذَا لَا يضر بِالْمَقْصُودِ، لِأَن المُرَاد مِنْهُ استشفاع الْكَافِر بِالْمُؤمنِ مُطلقًا، وَقد وجد فِي الحَدِيث ذَلِك على أَنه لَا فرق بَين الْوَجْهَيْنِ، لِأَن فِيهِ إِظْهَار التضرع والخضوع مِنْهُم ووقوعهم فِي الذلة، وَفِيه عزة للْمُؤْمِنين. وَقَالَ بَعضهم: لَا دلَالَة فِيمَا وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْقَضِيَّة على مَشْرُوعِيَّة ذَلِك لغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الظَّاهِر أَن ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأطلاعه على الْمصلحَة فِي ذَلِك، بِخِلَاف من بعده من الْأَئِمَّة انْتهى. قلت: لَا دَلِيل هُنَا على الخصوصية، وَهِي لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ على أَن ابْن بطال قَالَ: استشفاع الْمُشْركين بِالْمُسْلِمين جَائِز إِذا رجى رجوعهم إِلَى الْحق، وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة.
0201 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ عنْ سُفْيَانَ. قَالَ حدَّثنا مَنْصُورٌ وَالأعْمَشُ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْرُوق قَالَ أتَيْتُ ابنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ إنَّ قُرَيْشا أبْطَؤا عنِ الإسْلاَمِ فَدَعَا عَلَيْهِمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخَذَتْهُم سَنةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وأكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ فَجَاءَهُ أبُو سُفْيَانَ فقالَ يَا مُحَمَّدُ جِئْتَ تَأمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وإنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا فادْعِ الله تعَالى فَقَرَأَ: {فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 01) . ثُمَّ عادُوا إلَى كُفْرِهِمْ فَذالِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} . (الدُّخان: 01) . يَوْمَ بَدْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد سلف هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إجعلها سِنِين كَسِنِي يُوسُف) ، فَإِنَّهُ أخرج هُنَاكَ: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن كثير الْعَبْدي الْبَصْرِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش، كِلَاهُمَا عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: (أتيت ابْن مَسْعُود) أَي: عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (أبطؤوا) أَي: تَأَخَّرُوا عَن الْإِسْلَام وَلم يبادروا إِلَيْهِ. قَوْله: (سنة) ، بِفَتْح السِّين. أَي: جَدب وقحط. قَوْله: (فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَان) ، يَعْنِي: وَالِد مُعَاوِيَة، وَاسم أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب الْأمَوِي، وَكَانَ مَجِيئه قبل الْهِجْرَة، لقَوْل ابْن مَسْعُود: ثمَّ عَادوا، فَذَلِك قَوْله: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . يَوْم بدر وَلم ينْقل أَن أَبَا سُفْيَان قدم الْمَدِينَة قبل بدر. قَوْله: (جِئْت تَأمر بصلَة الرَّحِم) يَعْنِي: الَّذين هَلَكُوا بدعائك من ذَوي رَحِمك، فَيَنْبَغِي أَن تصل رَحِمهم بِالدُّعَاءِ لَهُم، وَلم يَقع دعاؤه لَهُم بالتصريح فِي هَذَا السِّيَاق. قَوْله: ( {بِدُخَان مُبين. .} ) (الدُّخان: 01) . الْآيَة لَيْسَ فِي رِوَايَة ابي ذَر ذكر لفظ: الْآيَة. قَوْله: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . زَاد الْأصيلِيّ، فِي رِوَايَته بَقِيَّة الْآيَة. قَوْله: (ثمَّ عَادوا) ، يَعْنِي: لما كشف الله تَعَالَى عَنْهُم عَادوا إِلَى كفرهم فَابْتَلَاهُمْ الله بِيَوْم البطشة، أَي: يَوْم بدر.
قَالَ وزَادَ أسْبَاطٌ عنْ مَنْصُورٍ فَدَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسُقُوا الغَيْثَ فأطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعا وشَكا النَّاسُ كَثْرَةَ المَطَرِ. فقالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا فانْحَدَرَتِ السَّحَابَةُ عنْ رَأسِهِ فَسُقُوا النَّاسَ حَوْلَهُمْ(7/45)
هَذَا تَعْلِيق يَعْنِي: زَاد أَسْبَاط عَن مَنْصُور بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُور قبله إِلَى ابْن مَسْعُود، وَقد وَصله الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عَليّ بن ثَابت عَن أَسْبَاط بن نصر عَن مَنْصُور عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق (عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: لما رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من النَّاس إدبارا) فَذكر نَحْو الَّذِي قبله، وَزَاد: (فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَان وأناس من أهل مَكَّة، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد إِنَّك تزْعم أَنَّك بعثت رَحْمَة، وَأَن قَوْمك هَلَكُوا فَادع الله لَهُم، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا الْغَيْث) الحَدِيث، وأسباط، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره طاء مُهْملَة، قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَسْبَاط هَذَا هُوَ ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقَاص أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي مَوْلَاهُم الْكُوفِي، ضعفه الْكُوفِيُّونَ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين، مَاتَ فِي الْمحرم سنة مِائَتَيْنِ قلت: ذكر فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ أَنه أَسْبَاط بن نصر، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ أَسْبَاط بن نصر الْهَمدَانِي أَبُو يُوسُف، وَيُقَال: أَبُو نصر الْكُوفِي، وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَتوقف فِيهِ أَحْمد، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَاعْترض على البُخَارِيّ بِزِيَادَة أَسْبَاط هَذَا، فَقَالَ الدَّاودِيّ: أَدخل قصَّة الْمَدِينَة فِي قصَّة قُرَيْش وَهُوَ غلط، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: الَّذِي زَاده أَسْبَاط وهم واختلاط لِأَنَّهُ ركب سَنَد عبد الله ابْن مَسْعُود على متن حَدِيث أنس بن مَالك، وَهُوَ قَوْله: (فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسقوا الْغَيْث) إِلَى آخِره، وَكَذَا قَالَ الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي، وَقَالَ: وَحَدِيث عبد الله بن مَسْعُود كَانَ بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا، وَالْعجب من البُخَارِيّ كَيفَ أورد هَذَا وَكَانَ مُخَالفا لما رَوَاهُ الثِّقَات، وَقد ساعد بَعضهم البُخَارِيّ بقوله: لَا مَانع أَن يَقع ذَلِك مرَّتَيْنِ وَفِيه نظر لَا يخفى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قصَّة قُرَيْش والتماس أبي سُفْيَان كَانَت فِي مَكَّة لَا فِي الْمَدِينَة؟ قلت: الْقِصَّة مَكِّيَّة إلاّ الْقدر الَّذِي زَاد أَسْبَاط، فَإِنَّهُ وَقع فِي الْمَدِينَة. قَوْله: (فسقوا) ، بِضَم السِّين وَالْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَصله: سقيوا، استثقلت الضمة على الْيَاء بعد سلب حَرَكَة مَا قبلهَا فَصَارَ: سقوا، على وزن فعوا. قَوْله: (الْغَيْث) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان. قَوْله: (فسقوا النَّاس حَولهمْ) الْكَلَام فِي: سقوا، قد مر الْآن، و: النَّاس، مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص أَي: أَعنِي النَّاس الَّذين حول الْمَدِينَة وَأَهْلهَا، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (فاسقى النَّاس حَولهمْ) ، وَزَاد بعد هَذَا: قَالَ يَعْنِي ابْن مَسْعُود لقد مرت آيَة الدُّخان.
41 - (بابُ الدعاءِ إذَا كَثُرَ المَطَرُ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء عِنْد كَثْرَة الْمَطَر بقوله: (أللهم حوالينا وَلَا علينا) هَذَا إِذا أضيف الْبَاب إِلَى الدُّعَاء، وَيجوز قطع الْإِضَافَة، فَحِينَئِذٍ يكون الدُّعَاء مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (حوالينا) خَبره، وَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب تَرْجَمته الدُّعَاء إِذا كثر الْمَطَر حوالينا، يَعْنِي بِلَفْظ: حوالينا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون الدُّعَاء عَاملا فِي: حوالينا، وَإِن كَانَ عمل الْمصدر الْمُعَرّف بِاللَّامِ قَلِيلا، لَكِن بِشَرْط كَون الدُّعَاء مجرورا بِإِضَافَة الْبَاب إِلَيْهِ، إِذْ لَو كَانَ مُبْتَدأ: و (إِذا كثر الْمَطَر) خَبره، لزم الْفَصْل بَين الْمصدر ومعموله بأجنبي، هُوَ الْخَبَر، وَأَن يكون، حوالينا، بَيَانا للدُّعَاء أَو بَدَلا.
1201 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ ثَابِتٍ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فقَالُوا يَا رسُولَ الله قَحَطَ المَطَرُ واحْمَرَّتِ الشَّجَرُ وهَلَكَتِ البَهَائِمُ فادْعُ الله يَسْقِينَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا مَرَّتَيْنِ وايْمُ الله مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحابٍ فَنَشَأتْ سَحَابَةٌ وأمْطَرَتْ ونَزَلَ عنِ المِنْبَرِ فَصلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَلَمَّا قامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ صاحُوا إلَيْهِ تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ وانْقَطَعَتِ السُّبخلُ فادْعُ الله يَحْبِسْهَا عَنَّا فَتَبَسَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولاَ عَلَيْنَا فكَشَطَتِ المَدِينَةُ فَجَعَلَتْ تُمْطِرُ حَوْلَهَا وَلاَ تُمْطِرُ بِالمَدِينَةِ قَطْرَةً فنَظَرْتُ إلَى المَدِينَةِ وَإنَّهَا لَفِي مِثْلَ الإكْلِيلِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأعَاد حَدِيث أنس أَيْضا من طَرِيق ثَابت عَنهُ لأجل هَذِه التَّرْجَمَة، وَلأَجل مُغَايرَة الروَاة،(7/46)
وَإِنَّمَا وضع رِوَايَة ثَابت هُنَا لقَوْله: (وَمَا تمطر بِالْمَدِينَةِ قَطْرَة) لِأَن ذَلِك أبلغ فِي انكشاف الْمَطَر، وَهَذِه اللَّفْظَة لم تقع إلاّ فِي هَذِه الرِّوَايَة. قَوْله: (احْمَرَّتْ الشّجر) يَعْنِي: تغير لَوْنهَا عَن الخضرة إِلَى الْحمرَة من اليبس، وأنث الْفِعْل بِاعْتِبَار جنس الشّجر. قَوْله: (وَهَلَكت الْبَهَائِم) ، ويروى: (الْمَوَاشِي) ، وَهِي: الدَّوَابّ والأنعام. قَوْله: (مرَّتَيْنِ) ظرف لِلْقَوْلِ لَا للسقي. قَوْله: (وأيم الله) ، الْهمزَة فِيهِ همزَة الْوَصْل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. قَوْله: (قزعة من سَحَاب) أَي: قِطْعَة مِنْهُ. قَوْله: (لم يزل الْمَطَر) ويروى: (لم تزل تمطر) ، قَوْله: (تكشطت) أَي تكشفت يُقَال: كشطت الجل عَن ظهر الْفرس، والغطاء عَن الشَّيْء: إِذا كشفته عَنهُ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (فكشطت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (الإكليل) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ شَيْء مثل عِصَابَة تزين بالجواهر، وَيُسمى التَّاج إكليلاً.
51 - (بابُ الدُّعاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ قائِما)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء فِي الاسْتِسْقَاء حَال كَونه قَائِما فِي الْخطْبَة وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْخُشُوع والتواضع، وَقيل: ليراه النَّاس فيقتدوا بِهِ فِيمَا صنع.
2201 - وقَالَ لنا أبُو نُعَيْمٍ عنْ زُهَيْرٍ عنْ أبِي إسْحَاقَ خَرَجَ عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ الأنْصَارِيُّ وخَرَجَ مَعَهُ البَرَاءُ بنُ عازِبٍ وَزَيْدُ بنُ أرْقَمَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فاسْتَسْقَى فقامَ بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ فاسْتَغْفَرَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ بِالقِرَاءَةِ وَلَمْ يْؤَذِّنْ ولَمْ يُقِمْ. قَالَ أبُو إسْحَاقَ وَرَأى عَبْدُ الله ابنُ يَزِيدَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَامَ لَهُم على رجلَيْهِ من غير مِنْبَر) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْكُوفِي. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي. الرَّابِع: عبد الله بن يزِيد بن زيد بن حُصَيْن بن عَمْرو الأوسي الخطمي أَبُو مُوسَى، قَالَ الذَّهَبِيّ: شهد الْحُدَيْبِيَة وَمَات قبل ابْن الزبير. وَقَالَ أَبُو عمر: وَشهد الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة، وَكَانَ أَمِيرا على الْكُوفَة، وَشهد مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صفّين والجمل والنهروان، وَذكره ابْن طَاهِر أَيْضا فِي الصَّحَابَة الَّذين خرج لَهُم فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَقَالَ: كَانَ صَغِيرا على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أَمِير اعلى الْكُوفَة على عهد ابْن الزبير. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ فِي زمن ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ أَبُو عبيد الأجري: قلت لأبي دَاوُد: عبد الله بن يزِيد الخطمي لَهُ صُحْبَة؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَهُ رُؤْيَة، سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول، هَذَا، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت مصعبا الزبيرِي يَقُول: لَيْسَ لَهُ صُحْبَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: قَالَ البُخَارِيّ قَالَ لنا أَبُو نعيم، قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَين قَالَ لنا، وَحدثنَا: أَن القَوْل يسْتَعْمل إِذا سمع من شَيْخه فِي مقَام المذاكرة والمحاورة، والتحديث إِذا سمع فِي مقَام التحميل وَالنَّقْل. قيل: لَيْسَ اسْتِعْمَال البُخَارِيّ لذَلِك منحصرا فِي المذاكرة، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا يكون ظَاهره الْوَقْف، وَفِيمَا يصلح للمتابعات. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق بِهِ فِي حَدِيث لزيد بن أَرقم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج عبد الله بن يزِيد) يَعْنِي: خرج إِلَى الصَّحرَاء، وَذَلِكَ لما كَانَ أَمِيرا على الْكُوفَة من جِهَة عبد الله بن الزبير فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ قبل غَلَبَة الْمُخْتَار بن أبي عبيد عَلَيْهَا، ذكره ابْن سعد وَغَيره. قَوْله: (فَقَامَ) ، أَي: عبد الله بن يزِيد. قَوْله: (لَهُم) ، ويروى (بهم) ، قَوْله: (فَاسْتَغْفر) هَذِه رِوَايَة أبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَاسْتَسْقَى) ، قَوْله: (ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) ظَاهره أَنه أخر الصَّلَاة عَن الْخطْبَة، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ. قَوْله: (يجْهر) ، فِي مَوضِع النصب على الْحَال. قَوْله: (وَلم يُؤذن وَلم يقم) ، قَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن لَا أَذَان وَلَا إِقَامَة للاستسقاء. قَوْله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاق) هُوَ: أَبُو إِسْحَاق الْمَذْكُور فِي السَّنَد. قَوْله: (روى عبد الله بن يزِيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ويروى: (وَرَأى عبد الله بن يزِيد) ، قَالَ(7/47)
الْكرْمَانِي: وعَلى تَقْدِير الرِّوَايَة إِن أَرَادَ رِوَايَة مَا صدر عَنهُ من الصَّلَاة والجهر فيهمَا وَغَيرهمَا صَار مَرْفُوعا، وَإِن أَرَادَ الرِّوَايَة فِي الْجُمْلَة فَهُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ. قلت: رأى عبد الله بن يزِيد رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَرِوَايَة الْحَمَوِيّ وَحده: وروى عبد الله، وَقد أخرج يَعْقُوب بن سُفْيَان فِي (تَارِيخه) هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة قبيصَة عَن الثَّوْريّ: (عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: بعث ابْن الزبير إِلَى عبد الله بن يزِيد الخطمي: أَن استسق بِالنَّاسِ، فَخرج وَخرج النَّاس مَعَه، وَفِيهِمْ زيد بن أَرقم والبراء بن عَازِب) ، وَخَالفهُ عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ فَقَالَ فِيهِ: (ان ابْن الزبير خرج يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ. .) الحَدِيث. وَقَوله: (إِن ابْن الزبير هُوَ الَّذِي فعل ذَلِك) وهم، وَإِنَّمَا الَّذِي فعله هُوَ عبد الله بن يزِيد بِأَمْر ابْن الزبير، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) مَا يدل على أَن الَّذِي صلى بهم ذَلِك الْيَوْم هُوَ زيد بن أَرقم.
3201 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَبَّادُ بنُ تَمِيمٍ أنَّ عَمَّهُ وكانَ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبَرَهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ فقامَ فَدَعَا الله قائِما ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ القِبْلَةِ وَحَوَّلَ ردَاءَهُ فَأُسْقُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَامَ فَدَعَا الله قَائِما) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تَحْويل الرِّدَاء فِي الاسْتِسْقَاء، أخرجه هُنَا: عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عباد بن تَمِيم عَن عَمه عبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قبل الْقبْلَة) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: جِهَة الْقبْلَة. قَوْله: (فاسقوا) ، بِضَم الْهمزَة وَالْقَاف على بِنَاء الْمَجْهُول، وَأَصله: اسقيوا، استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد حذف حركتها، فَصَارَ: اسقوا، على وزن: افعوا. ويروى: (فسقوا) ، على بِنَاء الْمَجْهُول أَيْضا وإعلاله مثل إعلال: اسقوا، لَكِن الأول من الْمَزِيد وَهُوَ: الاسْتِسْقَاء، وَالثَّانِي من الْمُجَرّد وَهُوَ: السَّقْي.
61 - (بابُ الجَهْرِ بِالقِرَاءَةِ فِي الاسْتِسْقَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء.
4201 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عنْ عَمِّهِ قَالَ خَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ إلَى القِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يجْهر فيهمَا بِالْقِرَاءَةِ) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تَحْويل الرِّدَاء فِي الاسْتِسْقَاء، غير أَن هُنَا زَاد قَوْله: (ويجهر فيهمَا بِالْقِرَاءَةِ) . قَوْله: (يجْهر) فِي مَحل النصب على الْحَال وَرِوَايَة كَرِيمَة هَكَذَا: (يجْهر) بِلَفْظ الْمُضَارع، وَرِوَايَة الْأصيلِيّ (جهر) ، بِلَفْظ الْمَاضِي.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب.
وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الْخطْبَة فِي الاسْتِسْقَاء قبل الصَّلَاة لِأَن: ثمَّ، للتَّرْتِيب وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَاللَّيْث بن سعد، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن الزبير والبراء بن عَازِب وَزيد بن أَرقم. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الصَّلَاة قبل الْخطْبَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه خطب بعد الصَّلَاة، فَوَجَدنَا الْجُمُعَة فِيهَا خطْبَة وَهِي قبل الصَّلَاة، ورأينا الْعِيدَيْنِ فيهمَا الْخطْبَة وَهِي بعد الصَّلَاة، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل فَينْظر فِي خطْبَة الاسْتِسْقَاء بِأَيّ الْخطْبَتَيْنِ أشبه فنعطف حكمهَا على حكمهَا، فالجمعة فرض وَكَذَلِكَ خطبتها، وخطبة الْعِيد لَيست كَذَلِك، لِأَنَّهَا تجوز بِغَيْر الْخطْبَة، وَكَذَلِكَ صَلَاة الاسْتِسْقَاء تجوز وَإِن لم يخْطب، غير أَنه إِذا تَركهَا أَسَاءَ، فَكَانَت بِخطْبَة الْعِيدَيْنِ أشبه مِنْهَا بِخطْبَة الْجُمُعَة، فَدلَّ ذَلِك أَنَّهَا بعد الصَّلَاة. وَمن فَوَائِد الحَدِيث: الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الاسْتِسْقَاء، وَهُوَ مِمَّا أجمع عَلَيْهِ الْفُقَهَاء، وَقد مر غير مرّة.(7/48)
71 - (بابٌ كيْفَ حَوَّلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته كَيفَ حول إِلَى آخِره.
5201 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عنْ عَمِّهِ قَالَ رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ خرَجَ يَسْتَسْقِي قَالَ فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ يَدْعُو ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ..
أعَاد حَدِيث عبد الله بن زيد الْمَذْكُور لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَلأَجل مُغَايرَة شُيُوخه وَاخْتِلَاف بعض الْمَتْن. فَإِن قلت: أَيْن مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، لِأَنَّهَا فِي كَيْفيَّة التَّحْوِيل، والْحَدِيث فِي وُقُوعه فَقَط؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: مَعْنَاهُ حوله حَال كَونه دَاعيا. قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْحَال من الكيفيات، وَقيل: كي، هُنَا استفهامية لِأَنَّهُ، لما كَانَ التَّحْوِيل الْمَذْكُور لم يتَبَيَّن كَونه من نَاحيَة الْيَمين أَو الْيَسَار احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِفْهَام. قلت: يُمكن أَن تُؤْخَذ الْكَيْفِيَّة من حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي شَأْنه كُله، وَكَانَ الْمَفْهُوم من: حول، وُقُوعه وَمن: حَاله، كيفيته، وَهُوَ كَونه من الْيَمين لِأَن الْمَعْهُود مِنْهُ التَّيَمُّن فِي كل حَاله، فَافْهَم، وآدَم شَيْخه هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ عبد الرَّحْمَن، وَقد مر فِي الْبَاب السَّابِق، وَمحل التَّحْوِيل بعد فرَاغ الموعظة وَإِرَادَة الدُّعَاء.
81 - (بابُ صَلاَةِ الاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الاسْتِسْقَاء، وَأَرَادَ بِهِ بَيَان كميتها، وَأَشَارَ إِلَيْهَا بقوله: (رَكْعَتَيْنِ) على طَرِيق عطف الْبَيَان، لِأَن لفظ: الاسْتِسْقَاء، مجرور بِالْإِضَافَة. وَقيل: مجرور على الْبَدَل، وَلَا يَصح ذَلِك، لِأَن الْمُبدل مِنْهُ فِي حكم السُّقُوط فَيصير التَّقْدِير: بَاب صَلَاة رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْسَ بِصَحِيح.
6201 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عنْ عَمِّهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وقَلَبَ رِدَاءَهُ..
أعَاد الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله لأجل وضع التَّرْجَمَة، وَلأَجل مُغَايرَة شُيُوخه على مَا لَا يخفى، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
قَوْله: (عَن عَمه) ، هُوَ عبد الله بن زيد، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (عَن عَمه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (وقلب رِدَاءَهُ) عطف على: (فصلى رَكْعَتَيْنِ) ، بِالْوَاو. وَقَوله: (فصلى) عطف على: استسقى، بِالْفَاءِ، فِيهِ دَلِيل على أَن الصَّلَاة وقلب الرِّدَاء وَقعا مَعًا، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون الْقلب قبل الصَّلَاة، على مَا فِي حَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَيحْتَمل أَن يكون بعد الصَّلَاة، لِأَن: الْوَاو، لَا تدل على التَّرْتِيب، بل لمُطلق الْجمع كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
91 - (بابُ الاسْتِسْقَاءِ فِي المُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاسْتِسْقَاء فِي الْمصلى الَّذِي فِي الصَّحرَاء، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْمُسْتَحبّ أَن يُصَلِّي صَلَاة الاسْتِسْقَاء فِي الْجَبانَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التَّرْجَمَة أخص من التَّرْجَمَة الْمُتَقَدّمَة أول الْأَبْوَاب، وَهِي: بَاب الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء، وَوَقع فِي هَذَا الْبَاب تعْيين الْخُرُوج إِلَى الْمصلى، فَنَاسَبَ كل رِوَايَة ترجمتها قلت: لَا نسلم الأخصية بل كِلَاهُمَا سَوَاء، لِأَن معنى الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء هُوَ الْخُرُوج إِلَى الْمصلى، لِأَن هَذَا الْقَائِل فسر قَوْله: (خرج يَسْتَسْقِي) ، بقوله: (أَي: إِلَى الْمصلى) .
7201 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ سَمِعَ عَبَّادَ ابنِ تَمِيمٍ عنْ عَمِّهِ قَالَ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى المُصَلَّى يَسْتَسْقِي واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وقَلَبَ رِدَاءَهُ. قَالَ سُفْيَانُ فأخْبَرَني المَسْعُودِيُّ عنْ أبِي بَكْرٍ قَالَ جَعَلَ اليَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ.
.(7/49)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد هُوَ عَمْرو بن حزم.
قَوْله: (يَسْتَسْقِي) من الْأَحْوَال الْمقدرَة. قَوْله: (واستقبل) ، عطف على قَوْله: (خرج) . قَوْله: (قَالَ سُفْيَان وَأَخْبرنِي المَسْعُودِيّ) ، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة. قَوْله: (عَن أبي بكر) يَعْنِي: يروي عَن أبي بكر وَالِد عبد الله الْمَذْكُور فِيهِ، قَالَ الْحَافِظ الْمزي: هَذَا مُعَلّق، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يدْرِي عَمَّن أَخذه البُخَارِيّ، وَلِهَذَا لَا يعد أحد المَسْعُودِيّ فِي رِجَاله. وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن: الظَّاهِر أَنه أَخذه عَن شَيْخه عبد الله بن مُحَمَّد، وَلَا يلْزم من عدم عد المَسْعُودِيّ فِي رِجَاله أَن لَا يكون وصل هَذَا الْموضع عَنهُ. قلت: فِيهِ نظر لِأَن الظَّاهِر مَا قَالَه الْمزي، وَإِنَّمَا يَصح الْجَواب الْمَذْكُور أَن لَو قَالَ: وَقَالَ سُفْيَان، بواو الْعَطف، ليَكُون عطفا على الْإِسْنَاد الأول، وَإِنَّمَا قطعه عَن الأول بِالْفَصْلِ فَلَا يفهم مِنْهُ الِاتِّصَال. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أبي بكر هَذَا يدل على تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة، لِأَنَّهُ ذكر أَنه صلى قبل قلب الرِّدَاء، وَهُوَ أضبط للقصة من ابْنه عبد الله الَّذِي ذكر الْخطْبَة قبل الصَّلَاة. قُلْنَا: لَا نزاع فِي جَوَاز الْأَمريْنِ، وَإِنَّمَا النزاع فِي الْأَفْضَل. وَقَالَ ابْن بطال أَيْضا: فِيهِ دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يلبس الرِّدَاء على حسب لِبَاس أهل الأندلس ومصر وبغداد، وَهُوَ غير الاشتمال بِهِ، لِأَنَّهُ حول مَا على يَمِينه على يسَاره، وَلَو كَانَ لِبَاسه اشتمالاً لقيل: قلب أَسْفَله أَعْلَاهُ، أَو: حل رِدَاءَهُ فقلبه.
(بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الاسْتِسْقَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الدُّعَاء فِي الاسْتِسْقَاء
69 - (حَدثنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا عبد الْوَهَّاب قَالَ حَدثنَا يحيى بن سعيد قَالَ أَخْبرنِي أَبُو بكر بن مُحَمَّد أَن عباد بن تَمِيم أخبرهُ أَن عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ أخبرهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج إِلَى الْمصلى يُصَلِّي وَأَنه لما دَعَا أَو أَرَادَ أَن يَدْعُو اسْتقْبل الْقبْلَة وحول رِدَاءَهُ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " أَو اراد أَن يَدْعُو اسْتقْبل الْقبْلَة " وَأعَاد أَيْضا حَدِيث عبد الله بن زيد لما ذكرنَا من المعان فِيمَا قبل قَوْله " مُحَمَّد بن سَلام " كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بِنِسْبَة مُحَمَّد إِلَى أَبِيه وَفِي رِوَايَة غَيره حَدثنَا مُحَمَّد بِذكرِهِ مُجَردا عَن النِّسْبَة وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ قَوْله " خرج إِلَى الْمصلى يَدْعُو " هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره " خرج إِلَى الْمصلى يُصَلِّي " قَوْله " أَو أَرَادَ أَن يَدْعُو " شكّ من الرَّاوِي قيل يحْتَمل أَن يكون الشَّك من يحيى بن سعيد فقد رَوَاهُ السراج من طَرِيق ابْن أَيُّوب عَنهُ بِالشَّكِّ أَيْضا وَرَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال فَلم يشك وَقَالَ ابْن بطال سنة من خطب النَّاس معلما لَهُم وواعظا لَهُم أَن يستقبلهم لَكِن عِنْد دُعَاء الاسْتِسْقَاء يسْتَقْبل الْقبْلَة لِأَن الدُّعَاء مُسْتَقْبل الْقبْلَة أفضل وَقَالَ النَّوَوِيّ يلْحق بِالدُّعَاءِ الْوضُوء وَالْغسْل والأذكار وَالْقِرَاءَة وَسَائِر الطَّاعَات إِلَّا مَا خرج بِالدَّلِيلِ كالخطبة (قَالَ أَبُو عبد الله. ابْن زيد هَذَا مازني وَالْأول كُوفِي هُوَ ابْن يزِيد) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ هُوَ عَم عباد بن مَازِن وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله " مازني " وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب تَحْويل الرِّدَاء فِي الاسْتِسْقَاء قَوْله " وَالْأول هُوَ عبد الله بن يزِيد " بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف فِي أَوله كُوفِي وَفَسرهُ بقوله " هُوَ ابْن يزِيد " وَهَذَا أَعنِي قَوْله " قَالَ أَبُو عبد الله " إِلَى آخِره فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده وَلَيْسَ فِي رِوَايَة غَيره قيل كَانَ اللَّائِق أَن يذكر هَذَا فِي بَاب الدُّعَاء فِي الاسْتِسْقَاء قَائِما لِأَن كليهمَا مذكوران فِيهِ وَكَانَ الأولى بَيَان تغايرهما هُنَاكَ وَلَيْسَ هَهُنَا ذكر عبد الله بن يزِيد(7/50)
(بَاب رفع النَّاس أَيْديهم مَعَ الإِمَام فِي الاسْتِسْقَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن النَّاس يرفعون أَيْديهم عِنْد رفع الإِمَام يَدَيْهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرَّد على من زعم أَنه يكْتَفى بِدُعَاء الإِمَام
(وَقَالَ أَيُّوب بن سُلَيْمَان حَدثنِي أَبُو بكر بن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن هِلَال. قَالَ يحيى بن سعيد سَمِعت أنس بن مَالك قَالَ أَتَى رجل أَعْرَابِي من أهل البدو إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت الْمَاشِيَة هلك الْعِيَال هلك النَّاس فَرفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ يَدْعُو وَرفع النَّاس أَيْديهم مَعَه يدعونَ. قَالَ فَمَا خرجنَا من الْمَسْجِد حَتَّى مُطِرْنَا فَمَا زلنا نمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى فَأتى الرجل إِلَى نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله بشق الْمُسَافِر وَمنع الطَّرِيق بشق أَي مل) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة هَذَا تَعْلِيق ذكره البُخَارِيّ عَن شَيْخه أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن هِلَال وَوَصله أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ حَدثنَا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن أَحْمد حَدثنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس وَإِسْحَق الْحَرْبِيّ قَالَا حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَيُّوب عَن سُلَيْمَان حَدثنَا أَبُو بكر فَذكره وَقَالَ ذكره البُخَارِيّ فَقَالَ وَقَالَ أَيُّوب بن سُلَيْمَان بِلَا رِوَايَة وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أخبرنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان وَعِنْده " حبس الْمُسَافِر وَانْقطع الطَّرِيق " وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عبد الْخَالِق الْمُؤَذّن أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن خنب البُخَارِيّ أخبرنَا أَبُو إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَيُّوب عَن سُلَيْمَان وَفِيه " فَأتى الرجل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله بشق الْمُسَافِر وَمنع الطَّرِيق " الحَدِيث قَوْله " أَبُو بكر بن أبي أويس " هُوَ أَبُو بكر عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله ابْن أبي أويس بن مَالك بن عَامر الأصبحي الْمدنِي وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس قَوْله " عَن سُلَيْمَان " هُوَ أَبُو أَيُّوب الْمَذْكُور وَيحيى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ وَأَبُو سعيد الْمدنِي القَاضِي قَوْله " يَدْعُو " من الْأَحْوَال الْمقدرَة وَكَذَلِكَ قَوْله " يدعونَ " قَوْله " مُطِرْنَا " بِضَم الْمِيم على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " فَأتى الرجل " أَي الْمَذْكُور إِذْ اللَّام فِي مثله للْعهد عَن النكرَة السَّابِقَة قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) قد مر أَن أنسا قَالَ " لَا أَدْرِي أهوَ الرجل الأول أَو غَيره " (قلت) لَا مُنَافَاة إِذْ رُبمَا نسي ثمَّ تذكر أَو كَانَ ذَاكِرًا ثمَّ نسي قَوْله " بشق الْمُسَافِر " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره قَاف وَفَسرهُ البُخَارِيّ بقوله " بشق أَي مل " وَقَالَ الْخطابِيّ بشق لَيْسَ بِشَيْء إِنَّمَا هُوَ لثق الْمُسَافِر من اللثق بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الوحل يُقَال لثق الثَّوْب إِذا أَصَابَهُ ندى الْمَطَر ولطخ الطين وَيحْتَمل أَن يكون مشق بِالْمِيم فحسبه السَّامع بشق لتقارب مخرجي الْبَاء وَالْمِيم يُرِيد أَن الطّرق صَارَت مزلة زلقا وَمِنْه مشق الْخط وَقَالَ ابْن بطال وَذكر الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث بشق الْمُسَافِر بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَلم أجد لَهُ فِي اللُّغَة معنى وَوجدت فِي نَوَادِر اللحياني نشق بالنُّون وَكسر الشين بِمَعْنى نشب وعَلى هَذَا يَصح الْمَعْنى فِي قَوْله " وَمنع الطَّرِيق " قَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَفِيه نظر لما ذكره أَبُو مُحَمَّد فِي الْكتاب الواعي فِي الحَدِيث بشق الْمُسَافِر وَرَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ كَذَا يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَمعنى بشق مل قَالَ وَفِي المنضد لكراع بشق تَأَخّر وَلم يتَقَدَّم قَالَ فَمَعْنَى بشق الْمُسَافِر ضعف عَن السّفر وَعجز مِنْهُ لِكَثْرَة الْمَطَر كضعف الباشق وعجزه عَن التصيد لِأَنَّهُ ينفر الصَّيْد وَلَا يصيد وَقَالَ صَاحب الْمُجْمل بشق الظبي فِي الحبالة علق وَرجل بشق يَقع فِي الْأَمر لَا يكَاد يتَخَلَّص مِنْهُ قَالُوا رفع الْيَد مُسْتَحبّ فِي الاسْتِسْقَاء لِأَنَّهُ خضوع وتضرع إِلَى الله تَعَالَى رُوِيَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِن الله حييّ يستحيي إِذا رفع العَبْد إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا " وَكَانَ مَالك يرى رفع الْيَدَيْنِ فِي الاسْتِسْقَاء وبطونهما إِلَى الأَرْض وَذَلِكَ الْعَمَل عِنْد الاستكانة وَالْخَوْف وَهُوَ الرهب وَأما عِنْد الرَّغْبَة وَالسُّؤَال فَبسط الْأَيْدِي وَهُوَ الرغب وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {ويدعوننا رغبا ورهبا} وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم السّنة فِي كل دُعَاء لدفع بلَاء كالقحط أَن يرفع يَدَيْهِ وَيجْعَل ظهر كفيه إِلَى السَّمَاء فَإِذا دَعَا(7/51)
لسؤال شَيْء وتحصله جعل بطُون كفيه إِلَى السَّمَاء
(وَقَالَ الأويسي حَدثنِي مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن يحيى بن سعيد وَشريك سمعا أنسا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه رفع يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْت بَيَاض إبطَيْهِ) الأويسي بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة هُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد الله وَقد تقدم وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْمدنِي أَخُو إِسْمَاعِيل وَقد تقدم وَشريك بن عبد الله وَقد تقدم وَهَذَا التَّعْلِيق هُنَا ثَابت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَثَبت لأبي الْوَقْت وكريمة فِي آخر الْبَاب الَّذِي بعده وَسقط بِالْكُلِّيَّةِ عِنْد الْبَقِيَّة وَهُوَ مَذْكُور عِنْد الْجَمِيع فِي كتاب الدَّعْوَات وَوصل أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج هَذَا التَّعْلِيق وَسَيَأْتِي هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(بَاب رفع الإِمَام يَده فِي الاسْتِسْقَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الإِمَام يَده هَذِه التَّرْجَمَة ثبتَتْ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي قيل ذكر هَذِه التَّرْجَمَة وَإِن كَانَت التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا تتضمنها الْفَائِدَة أُخْرَى وَهِي أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يفعل ذَلِك إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَقيل الأولى لبَيَان اتِّبَاع الْمَأْمُومين الإِمَام فِي رفع الْيَدَيْنِ وَالثَّانيَِة لإِثْبَات رفع الْيَدَيْنِ للْإِمَام فِي الاسْتِسْقَاء (قلت) الأولى تَتَضَمَّن الثَّانِيَة فَلَا وَجه لهَذَا وَقيل قد قصد بِالثَّانِيَةِ كَيْفيَّة رفع الإِمَام يَده لقَوْله " حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ "
70 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا يحيى وَابْن أبي عدي عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك قَالَ كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من دُعَائِهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَإنَّهُ يرفع حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَابْن أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَأَبُو عدي كنية إِبْرَاهِيم وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِسْقَاء عَن أبي مُوسَى وَعَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى وَيحيى بن سعيد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن شُعَيْب بن يُوسُف عَن يحيى بن سعيد وَعَن حميد بن مسْعدَة وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن نصر بن عَليّ بِهِ قَوْله " أبطيه " بِسُكُون الْبَاء قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث ظَاهره يُوهم أَنه لم يرفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل قد ثَبت رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء فِي مَوَاطِن غير الاسْتِسْقَاء وَهِي أَكثر من أَن تحصى فيتؤول هَذَا الحَدِيث على أَنه لم يرفع الرّفْع البليغ بِحَيْثُ يرى بَيَاض أبطيه إِلَّا فِي الاسْتِسْقَاء أَو أَن المُرَاد لم أره يرفع وَقد رَآهُ غَيره فَتقدم رِوَايَة المثبتين فِيهِ
(بَاب مَا يُقَال إِذا مطرَت)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يُقَال إِذا مطرَت أَي السَّمَاء وَفِي بعض النّسخ إِذا مطرَت السَّمَاء بِإِظْهَار الْفَاعِل وَقَالَ الْكرْمَانِي كلمة مَا مَوْصُولَة أَو مَوْصُوفَة أَو استفهامية وَأَخذه بَعضهم فِي شَرحه وَلم يبين وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقَة هَذَا الْكَلَام فَنَقُول إِذا كَانَت مَوْصُولَة يكون التَّقْدِير بَاب فِي بَيَان الَّذِي يُقَال عِنْد الْمَطَر وَأما إِذا كَانَت مَوْصُوفَة فَيكون التَّقْدِير بَاب فِي بَيَان شَيْء يُقَال إِذا مطرَت فَيكون مَا الَّذِي بِمَعْنى شَيْء قد اتّصف بقوله يُقَال إِذا مطرَت وَذَلِكَ كَمَا فِي قَول الشَّاعِر
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحل العقال)
أَي رب شَيْء تكرره النُّفُوس وَأما الاستفهامية فَيكون التَّقْدِير بَاب فِي بَيَان أَي شَيْء يُقَال إِذا مطرَت قَوْله " مطرَت " بِلَا ألف من الثلاثي الْمُجَرّد رِوَايَة أبي ذَر وَعند الْبَقِيَّة " إِذا أمْطرت " بِالْألف من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ يُقَال مطرَت السَّمَاء تمطر ومطرتهم تمطرهم مَطَرا وأمطرتهم أَصَابَتْهُم بالمطر وأمطرهم الله فِي الْعَذَاب خَاصَّة ذكره ابْن سَيّده قَالَ الْفراء مطرَت السَّمَاء تمطر مَطَرا أَو مَطَرا فالمطر الْمصدر والمطر الِاسْم وناس يَقُولُونَ مطرَت السَّمَاء وأمطرت بِمَعْنى(7/52)
(وَقَالَ ابْن عَبَّاس كصيب الْمَطَر) أَي قَالَ ابْن عَبَّاس الصيب الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {أَو كصيب من السَّمَاء} المُرَاد مِنْهُ الْمَطَر وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا لمناسبته لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صيبا نَافِعًا " وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ الصيب الْمَطَر وَعَن قَتَادَة وَمُجاهد وَعَطَاء وَالربيع بن أنس الصيب الْمَطَر وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد {أَو كصيب من السَّمَاء} قَالَ أَو كغيث من السَّمَاء وَفِي تَفْسِير الضَّحَّاك الصيب الرزق وَقَالَ سُفْيَان الصيب الَّذِي فِيهِ الْمَطَر (وَقَالَ غَيره صاب وَأصَاب يصوب) أَي قَالَ غير ابْن عَبَّاس كَأَنَّهُ يُشِير بِهِ إِلَى أَن اشتقاقه من الأجوف الواوي وَلَكِن لَا يُقَال أصَاب يصوب وَإِنَّمَا يُقَال صاب يصوب وَأصَاب يُصِيب وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّه كَانَ فِي الأَصْل صاب وانصاب كَمَا حَكَاهُ صَاحب الْمُحكم فَسَقَطت النُّون (قلت) لَا يَزُول بِهَذَا الْإِشْكَال بل زَاد الْإِشْكَال إشْكَالًا لِأَنَّهُ لَا يُقَال انصاب يصوب بل يُقَال انصاب ينصاب انصبابا وَالظَّاهِر أَن النساخ قدمُوا لَفْظَة أصَاب على لَفْظَة يصوب وَمَا كَانَ إِلَّا صاب يصوب وَأصَاب وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الثلاثي الْمُجَرّد والمزيد فِيهِ وَقد قُلْنَا أَنه أجوف واوي وأصل صاب صوب قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا ويصوب أَصله يصوب بِسُكُون الصَّاد وَضم الْوَاو فاستثقلت الضمة على الْوَاو فنقلت إِلَى مَا قبلهَا فَصَارَ يصوب وأصل صيب صيوب اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء كسيد وميت وَيُقَال مطر صيب وصيوب وَصوب
71 - (حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ ابْن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا رأى الْمَطَر قَالَ اللَّهُمَّ صيبا نَافِعًا) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ مَا يُقَال عِنْد رُؤْيَة الْمَطَر. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي وَقد مر ذكره. الثَّانِي عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك. الثَّالِث عبيد الله بن عمر الْعمريّ. الرَّابِع نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق. السَّادِس أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أَنه بَينه بقوله هُوَ ابْن مقَاتل وَفِيه عبد الله بِالتَّكْبِيرِ وَعبيد الله بِالتَّصْغِيرِ وَفِيه أَن نَافِعًا من جملَة من روى عَن عَائِشَة وَفِيه نزل عَنْهَا وَفِيه عبيد الله من جملَة من سمع عَن الْقَاسِم وَفِيه نزل عَنهُ مَعَ أَن معمرا قد رَوَاهُ عَن عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم نَفسه بِإِسْقَاط نَافِع من السَّنَد أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنهُ وَفِيه أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه رازيان وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة مدنيون وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن خَالِد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَعَن عَبدة بن عبد الرَّحِيم وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدُّعَاء عَن هِشَام بن عمار (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " اللَّهُمَّ صيبا نَافِعًا " كَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة لَيست لَفْظَة اللَّهُمَّ وصيبا مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره يَا الله اجْعَل صيبا نَافِعًا ونافعا صفة صيبا وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات " صبا نَافِعًا " من الصب أَي اصببه صبا نَافِعًا وَاحْترز بقوله " نَافِعًا " عَن الصيب الضار وَقَالَ ابْن قرقول ضَبطه الْقَابِسِيّ صيبا بِالتَّخْفِيفِ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا رأى ناشئا فِي أفق السَّمَاء ترك الْعَمَل وَإِن كَانَ فِي صَلَاة ثمَّ يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرها فَإِن مُطِرْنَا قَالَ اللَّهُمَّ صيبا هَنِيئًا " وَعند النَّسَائِيّ " كَانَ إِذا مُطِرُوا قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سيبا نَافِعًا " وَعند ابْن مَاجَه " إِذا رأى سحابا مُقبلا من أفق من الْآفَاق ترك مَا هُوَ فِيهِ وَإِن كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يستقبله فَيَقُول اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من شَرّ من أرسل بِهِ فَإِن أمطر قَالَ اللَّهُمَّ سيبا نَافِعًا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا(7/53)
وَإِن كشفه الله تَعَالَى وَلم يمطروا حمد الله على ذَلِك " وَقَالَ الْخطابِيّ السيب الْعَطاء والسيب مجْرى المَاء وَالْجمع سيوب وَقد سَاب يسوب إِذا جرى
(تَابعه الْقَاسِم بن يحيى عَن عبيد الله وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ وَعقيل عَن نَافِع) الْقَاسِم بن يحيى بن عَطاء بن مقدم أَبُو مُحَمَّد الْهِلَالِي الوَاسِطِيّ مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْمَذْكُور وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح هَذِه الْمُتَابَعَة ذكرهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي الغرائب عَن الْمحَامِلِي حَدثنَا حَفْص بن عمر أخبرنَا يحيى عَن عبيد الله وَلَفظه " صيبا هَنِيئًا " انْتهى (قلت) لم يظْهر لي وَجه هَذِه الْمُتَابَعَة قَوْله " وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ " أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَلَفظه " هَنِيئًا " بدل " نَافِعًا " (فَإِن قلت) الْوَلِيد مُدَلّس (قلت) رُوِيَ فِي الغيلانيات من طَرِيق دُحَيْم عَن الْوَلِيد وَشُعَيْب بن إِسْحَق قَالَا حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي نَافِع وَأمن بِهَذَا عَن تَدْلِيس الْوَلِيد واستبعد صِحَة سَماع الْأَوْزَاعِيّ من نَافِع خلافًا لمن نَفَاهُ قَوْله " وَعقيل " بِالرَّفْع عطف على الْأَوْزَاعِيّ أَي وَرَوَاهُ أَيْضا عقيل بن خَالِد عَن نَافِع وَذكره الدَّارَقُطْنِيّ وَذكر فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فَمرَّة ذكر رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع وَمرَّة عَن رجل عَنهُ وَمرَّة عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن نَافِع وَذكره مرّة عَن عقيل عَن نَافِع وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) لم قَالَ أَولا تَابعه وَثَانِيا رَوَاهُ وَمَا فَائِدَة تَغْيِير الأسلوب (قلت) إِمَّا لإِرَادَة التَّعْمِيم لِأَن الرِّوَايَة أَعم من أَن تكون على سَبِيل الْمُتَابَعَة أم لَا وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا لم يرويا عَن نَافِع بِوَاسِطَة عبيد الله بِخِلَاف الْقَاسِم فَلَا يَصح عطفهما عَلَيْهِ وَالله المتعال سُبْحَانَهُ هُوَ يعلم بِحَقِيقَة الْحَال
(بَاب من تمطر فِي الْمَطَر حَتَّى يتحادر على لحيته)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من تمطر إِلَى آخِره قَوْله " تمطر " بتَشْديد الطَّاء على وزن تفعل وَبَاب تفعل يَأْتِي لمعان للتكلف كتشجع لِأَن مَعْنَاهُ كلف نَفسه الشجَاعَة وللاتخاذ نَحْو توسدت التُّرَاب أَي أَخَذته وسَادَة وللتجنب نَحْو تأثم أَي جَانب الْإِثْم وللعمل يَعْنِي فَيدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة نَحْو تجرعته أَي شربته جرعة بعد جرعة وَقَالَ بَعضهم أليق الْمعَانِي هُنَا أَنه بِمَعْنى مُوَاصلَة الْعَمَل فِي مهلة نَحْو تفكر وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه مُسلم من طَرِيق جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن ثَابت " عَن أنس قَالَ حسر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَوْبه حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَر " وَقَالَ لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بربه قَالَ الْعلمَاء مَعْنَاهُ قريب الْعَهْد بتكوين ربه فَكَأَن المُصَنّف أَرَادَ أَن يبين أَن تحادر الْمَطَر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا كَانَ قصدا فَلذَلِك ترْجم بقوله " من تمطر " أَي قصد نزُول الْمَطَر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَو لم يكن بِاخْتِيَارِهِ لنزل عَن الْمِنْبَر أول مَا وكف السّقف لكنه تَمَادى فِي خطبَته حَتَّى كثر نُزُوله بِحَيْثُ تحادر على لحيته انْتهى (قلت) الَّذِي ذكره أهل الصّرْف فِي مَعَاني تفعل هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَالَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل يقرب من الْمَعْنى الرَّابِع وَلَكِن لَا يدل على هَذَا شَيْء مِمَّا فِي حَدِيث الْبَاب وَقَوله وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى أَن مَا أخرجه مُسلم لَا يساعده لِأَن حَدِيث مُسلم لَا يدل على مُوَاصلَة الْعَمَل فِي مهلة وَإِنَّمَا الَّذِي يدل هُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كشف ثَوْبه ليصيبه الْمَطَر لما ذكره من الْمَعْنى وَهَذَا لَا يدل على أَنه وَاصل ذَلِك وَتَمَادَى فِيهِ حَتَّى يُطلق عَلَيْهِ أَنه تمطر وَقصد هَذَا الْمَعْنى فِي الحَدِيث غير صَحِيح وَلَا وضع التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة على هَذَا الْمَعْنى وَقَوله " تحادر الْمَطَر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لم يكن اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا كَانَ قصدا غَيره مُسلم من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الَّذِي تحادر على لحيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن إِلَّا من المَاء النَّازِل من وكف السّقف وَإِن كَانَ هُوَ من الْمَطَر فِي الأَصْل وَلم يكن فِي الْمَطَر الَّذِي أصَاب ثَوْبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث مُسلم حاجز بَينه وَبَين الْموضع الَّذِي وصل إِلَيْهِ وَالْآخر أَن قَوْله إِنَّمَا كَانَ قصدا دَعْوَى بِلَا برهَان وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك واستدلاله على مَا ادَّعَاهُ بقوله لِأَنَّهُ لَو لم يكن بِاخْتِيَارِهِ لنزل عَن الْمِنْبَر إِلَى آخِره لَا يساعده لِأَن لقَائِل أَن يَقُول عدم نُزُوله من الْمِنْبَر إِنَّمَا كَانَ لِئَلَّا تَنْقَطِع الْخطْبَة
72 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل قَالَ أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق بن(7/54)
عبد الله بن أبي طَلْحَة الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدثنِي أنس بن مَالك قَالَ أَصَابَت النَّاس سنة على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع الْعِيَال فَادع الله لنا أَن يسقينا قَالَ فَرفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ وَمَا فِي السَّمَاء قزعة قَالَ فثار سَحَاب أَمْثَال الْجبَال ثمَّ لم ينزل عَن منبره حَتَّى رَأَيْت الْمَطَر يتحادر على لحيته قَالَ فمطرنا يَوْمنَا ذَلِك وَفِي الْغَد وَمن بعد الْغَد وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الْجُمُعَة الْأُخْرَى فَقَامَ ذَلِك الْأَعرَابِي أَو رجل غَيره فَقَالَ يَا رَسُول الله تهدم الْبناء وغرق المَاء فَادع الله لنا فَرفع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا. قَالَ فَمَا جعل يُشِير بِيَدِهِ إِلَى نَاحيَة من السَّمَاء إِلَّا تفرجت حَتَّى صَارَت الْمَدِينَة فِي مثل الجوبة حَتَّى سَالَ الْوَادي وَادي قناة شهرا قَالَ فَلم يَجِيء أحد من نَاحيَة إِلَّا حدث بالجود) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " حَتَّى رَأَيْت الْمَطَر يتحادر على لحيته " وَلكنهَا غير ظَاهِرَة لِأَن هَذَا الْكَلَام لَا يدل على التمطر الَّذِي هُوَ من التفعل الدَّال على التَّكَلُّف وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْجُمُعَة وَكتاب الاسْتِسْقَاء مطولا ومختصرا برواة مُخْتَلفَة ومتون مُتَغَايِرَة بِزِيَادَة ونقصان وَقد استقصينا الْكَلَام فِي تَفْسِيره بِجَمِيعِ مَا يتَعَلَّق بِهِ قَوْله " بالجود " بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو الْمَطَر الْكثير
(بَاب إِذا هبت الرّيح)
أَي هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا هبت الرّيح وَجَوَاب إِذا مُقَدّر تَقْدِيره إِذا هبت الرّيح مَا يصنع من قَول أَو فعل وَوجه دُخُول هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء أَن المُرَاد من الاسْتِسْقَاء نزُول الْمَطَر وَالرِّيح فِي الْغَالِب يَأْتِي بِهِ لِأَن الرِّيَاح على أَقسَام مِنْهَا الرّيح الَّذِي يَسُوق السحب الممطرة
72 - (حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ أَخْبرنِي حميد أَنه سمع أنسا يَقُول كَانَت الرّيح الشَّدِيدَة إِذا هبت عرف ذَلِك فِي وَجه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة قَوْله " عرف ذَلِك " أَي هبوبها أَي أَثَره يَعْنِي تغير وَجهه وَظهر فِيهِ عَلامَة الْخَوْف. وَالْحَاصِل أَنه أطلق السَّبَب وَأَرَادَ الْمُسَبّب إِذْ الهبوب سَبَب الْخَوْف من أَن يكون عذَابا سلطه الله على أمته قيل كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْشَى أَن تصيبهم عُقُوبَة ذنُوب الْعَامَّة كَمَا أصَاب الَّذين قَالُوا {هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} وروى أَبُو يعلى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن قَتَادَة " عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا هَاجَتْ ريح شَدِيدَة قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير مَا أمرت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرّ مَا أمرت بِهِ " وَهَذِه زِيَادَة على رِوَايَة حميد يجب قبُولهَا لثقة رواتها وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأبي بن كَعْب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه أَنه قَالَ " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الرّيح من روح الله قَالَ سَلمَة فَروح الله عز وَجل تَأتي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذا رأيتموها فَلَا تسبوها وسلوا الله خَيرهَا واستعيذوا بِاللَّه من شَرها ". وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا هَاجَتْ ريح اسْتَقْبلهَا بِوَجْهِهِ وجثى على رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير هَذِه وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا أرْسلت بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَة وَلَا تجعلها عذَابا اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رياحا وَلَا تجعلها ريحًا ". وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ مُسلم أَنَّهَا قَالَت " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا عصفت الرّيح قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك خَيرهَا وَخير مَا فِيهَا وَخير مَا أرْسلت بِهِ وَأَعُوذ بك من شَرها وَشر مَا فِيهَا وَشر مَا أرْسلت بِهِ قَالَت فَإِذا تَخَيَّلت السَّمَاء تغير لَونه وَخرج وَدخل وَأَقْبل وَأدبر فَإِذا مطرَت(7/55)
سرى عَنهُ فَعرفت ذَلِك عَائِشَة فَسَأَلته فَقَالَ لَعَلَّه يَا عَائِشَة كَمَا قَالَ قوم عَاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} . وَأما حَدِيث أبي بن كَعْب رَضِي الله تعنه فَرَوَاهُ. وَأما حَدِيث عُثْمَان بن الْعَاصِ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا اشتدت الرّيح الشمَال قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَرّ مَا أرْسلت بِهِ ". (وَمن فَوَائِد حَدِيث الْبَاب) الاستعداد بالمراقبة لله عز وَجل والالتجاء إِلَيْهِ عِنْد اخْتِلَاف الْأَحْوَال وحدوث مَا يخَاف بِسَبَبِهِ وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
(بَاب قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نصرت بالصبا)
أَي هَذَا بَاب قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نصرت بالصبا وَذكر أَبُو حنيفَة فِي كتاب الأنواء أَن خَالِد بن صَفْوَان قَالَ الرِّيَاح أَربع الصِّبَا ومهبها فِيمَا بَين مطلع الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب ومهب الشمَال فِيمَا بَين القطب إِلَى مسْقط الشَّرْطَيْنِ وَمَا بَين مسْقط الشَّرْطَيْنِ إِلَى القطب الْأَسْفَل مهب الدبور وَمَا بَين القطب الْأَسْفَل إِلَى مطلع الشَّرْطَيْنِ مهب الْجنُوب وَحكي عَن جَعْفَر بن سعد بن سَمُرَة أَنه قَالَ الرِّيَاح سِتّ الْقبُول وَهِي الصِّبَا مخرجها مَا بَين المشرقين وَمَا بَين المغربين الدبور وَزَاد النكباء ومحوة وَقَالَ الْجَوْهَرِي الصِّبَا ريح مهبها المستوى مَوضِع مطلع الشَّمْس إِذا اسْتَوَى اللَّيْل وَالنَّهَار وَالدبور الرّيح الَّذِي يُقَابل الصِّبَا وَيُقَال الصِّبَا مَقْصُورَة الرّيح الشرقية وَالدبور بِفَتْح الدَّال الرّيح الغربية وَيُقَال الصِّبَا الَّتِي تَجِيء من ظهرك إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة وَالدبور الَّتِي تَجِيء من قبل وَجهك إِذا استقبلتها وَعَن ابْن الْأَعرَابِي أَنه قَالَ مهب الصِّبَا من مطلع الثريا إِلَى بَنَات نعش ومهب الدبور من مسْقط النسْر الطَّائِر إِلَى سُهَيْل وَالصبَا ريح الْبرد وَالدبور ريح الصَّيف وَعَن أبي عُبَيْدَة الصِّبَا للإلذاذ وَالدبور للبلاء وأهونه أَن يكون غبارا عاصفا يقذي الْأَعْين وَهِي أقلهن هبوبا وَفِي التَّفْسِير ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي حملت ريح يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل البشير إِلَيْهِ فإليها يستريح كل محزون وَالدبور هِيَ الرّيح الْعَقِيم يُقَال صبا وصبيان وصبوات وأصباء وكتابتها بِالْألف لقَولهم صبَّتْ الرّيح تصبو أصبا إِذا هبت وَقَالَ أَبُو عَليّ الصِّبَا وَالدبور يكونَانِ اسْما وَصفَة وَالدبور يجمع على دبر وأدبار ودبائر وَيجمع قبُول على قبائل يُقَال قبلت الرّيح تقبل قبولا ودبرت تدبر دبورا وَيُقَال أَقبلنَا من الْقبُول وأصبينا من الصِّبَا وأدبرنا من الدبور فَنحْن مصبون ومدبرون فَإِذا أردْت أَنَّهَا أصابتنا قلت قبلنَا فَنحْن مقبولون وصبينا فَنحْن مصبون ومصبيون ودبرنا فَنحْن مدبرون -
5301 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَة عنِ الحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن آدم وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن مُحَمَّد بن عرْعرة وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (نصرت بالصبا) ، ونصرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصبا كَانَ يَوْم الخَنْدَق، بعث الله الصِّبَا ريحًا بَارِدَة على الْمُشْركين فِي ليَالِي شَاتِيَة شَدِيدَة الْبرد، فأطفأت النيرَان وَقطعت الْأَوْتَاد والأطناب وَأَلْقَتْ الْمضَارب والأخبية، فَانْهَزَمُوا بِغَيْر قتال لَيْلًا، قَالَ الله تَعَالَى: {إِذا جاءتكم جنود فارسلنا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} (الْأَحْزَاب: 9) . وَأما عَاد فَإِنَّهُ: ابْن عوص بن أرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فتفرعت أَوْلَاده، فَكَانُوا ثَلَاث عشرَة قَبيلَة ينزلون الْأَحْقَاف وبلادها، وَكَانَت دِيَارهمْ بالدهناء وعالج وبثرين ووبار إِلَى حَضرمَوْت، وَكَانَت أخصب الْبِلَاد، فَلَمَّا سخط الله تَعَالَى عَلَيْهِم جعلهَا مفاوز، فَأرْسل الله عَلَيْهِم الدبور فأهلكتهم، وَكَانَت {عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} (الحاقة: 7) . أَي: متتابعة ابتدأت غدْوَة الْأَرْبَعَاء وسكنت فِي آخر الثَّامِن، وَاعْتَزل هود نَبِي الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ فِي حَظِيرَة لَا يصيبهم مِنْهَا إلاّ مَا يلين الْجُلُود وتلذ الْأَعْين، وَقَالَ مجاهذ: وَكَانَ قد آمن مَعَه أَرْبَعَة آلَاف، فَذَلِك(7/56)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه} (هود: 85) . وَكَانَت الرّيح تقلع الشّجر وتهدم الْبيُوت، وَمن لم يكن فِي بَيته مِنْهُم أهلكته فِي البراري وَالْجِبَال، وَكَانَت ترفع الظعينة بَين السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى ترى كَأَنَّهَا جَرَادَة، وترميهم بِالْحِجَارَةِ فتدق أَعْنَاقهم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: دخلُوا الْبيُوت وَأَغْلقُوا أَبْوَابهَا فَجَاءَت الرّيح ففتحت الْأَبْوَاب وَسَفتْ عَلَيْهِم الرمل فبقوا تَحْتَهُ سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام، وَكَانَ يسمع أنينهم تَحت الرمل، وماتوا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لم تجر الرِّيَاح قطّ بِمِكْيَال إلاّ فِي قصَّة عَاد، فَإِنَّهَا عَصَتْ عل الْخزَّان فَغَلَبَتْهُمْ فَلم يعلمُوا مِقْدَار مكيالها، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة} (الحاقة: 6) . والصرصر ذَات الصَّوْت الشَّديد {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} (الحاقة: 7) . منقعرا من أَصله.
وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث تَفْضِيل الْمَخْلُوقَات بَعْضهَا على بعض. وَفِيه: إِخْبَار الْمَرْء عَن نَفسه بِمَا فَضله الله بِهِ على جِهَة التحديث بِنِعْمَة الله وَالشُّكْر لَهُ لَا على الْفَخر. وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأُمَم الْمَاضِيَة وإهلاكها.
72 - (بابُ مَا قِيلَ فِي الزَّلاَزِلِ وَالآيَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي الزلازل، وَهُوَ جمع الزلزلة، والآيات جمع آيَة، وَهِي الْعَلامَة وَأَرَادَ بهَا: عَلَامَات الْقِيَامَة أَو عَلَامَات قدرَة الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء، لِأَن وجود الزلزلة وَنَحْوهَا يَقع غَالِبا مَعَ نزُول الْمَطَر.
6301 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ أخبرنَا أبُو الزِّنَادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ وتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ ويَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وتَظْهَرَ الفِتَنُ ويَكْثُرَ الهَرْجُ وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ حتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ فَيَفِيضُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة أَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث مطولا فِي كتاب الْفِتَن، وَذكر مِنْهُ قطعا هُنَا وَفِي الزَّكَاة وَفِي الرقَاق.
قَوْله: (لَا تقوم السَّاعَة) أَرَادَ بهَا يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (حَتَّى يقبض الْعلم) ، وَذَلِكَ بِمَوْت الْعلمَاء وَكَثْرَة الجهلاء، وَقَالَ السفاقسي: يَعْنِي أَكْثَرهم، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) . قَوْله: (وتكثر الزلازل) ، قَالَ الْمُهلب: ظُهُور الزلازل والآيات وَعِيد من الله تَعَالَى لأهل الأَرْض، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} (الْإِسْرَاء: 95) . والتخويف والوعيد بِهَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا يكون عِنْد المجاهرة والإعلان بِالْمَعَاصِي، أَلا ترى أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين زلزلت الْمَدِينَة فِي أَيَّامه، قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة مَا أسْرع مَا أحدثتم، وَالله لَئِن عَادَتْ لأخْرجَن من بَين أظْهركُم، فخشي أَن تصيبه الْعقُوبَة مَعَهم، كَمَا قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أنهلك وَفينَا الصالحون؟ قَالَ: نعم إِذا كثر الْخبث، وَيبْعَث الله الصَّالِحين على نياتهم) . قَوْله: (ويتقارب الزَّمَان) . قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة، ثمَّ الْمَعْنى: إِذا قربت الْقِيَامَة كَانَ من شَرطهَا الشُّح والهرج. وَالثَّانِي: أَنه قصر مُدَّة الْأَزْمِنَة عَمَّا جرت بِهِ الْعَادة، كَمَا جَاءَ: حَتَّى تكون السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَة كَالْيَوْمِ. قيل: وَالْيَوْم كالساعة، والساعة كالضرمة بالنَّار. وَالثَّالِث: أَنه قصر الْأَعْمَار بقلة الْبركَة فِيهَا. وَالرَّابِع: تقَارب أَحْوَال النَّاس فِي غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، وَيكون الْمَعْنى: ويتقارب أهل الزَّمَان، أَي تتقارب صفاتهم فِي القبائح، وَلِهَذَا ذكر على أَثَره الْهَرج وَالشح. وَقَالَ ابْن التِّين: معنى ذَلِك قرب الْآيَات بَعْضهَا من بعض، وَفِي (حَوَاشِي الْمُنْذِرِيّ) قيل: مَعْنَاهُ تطيب تِلْكَ الْأَيَّام حَتَّى لَا تكَاد تستطال، بل تقصر، قَالَ: وَقيل: على ظَاهره من قصر مددها. وَقيل: تقَارب أَحْوَال أَهله فِي قلَّة الدّين حَتَّى لَا يكون فيهم من يَأْمر بِمَعْرُوف وَلَا ينْهَى عَن مُنكر لغَلَبَة الْفسق وَظُهُور أَهله. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد يكون مَعْنَاهُ فِي ترك طلب الْعلم خَاصَّة. وَقيل: يتقارب اللَّيْل وَالنَّهَار فِي عدم ازدياد السَّاعَات وانتقاصها بِأَن يتساويا طولا وقصرا. قَالَ أهل الْهَيْئَة: تنطبق دَائِرَة منْطقَة البروج على دَائِرَة معدل النَّهَار، فَحِينَئِذٍ يلْزم تساويهما ضَرُورَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: حَتَّى يقرب الزَّمَان من الْقِيَامَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حَاصِل تَفْسِيره أَنه لَا تكون الْقِيَامَة حَتَّى تقرب، وَهَذَا كَلَام مهمل لَا طائل تَحْتَهُ. قلت: هَذِه جرْأَة من غير طَريقَة، وَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذكره حَاصِل تَفْسِيره، بل معنى كَلَامه:(7/57)
يقرب الزَّمَان الْعَام بَين الْخلق من الْقِيَامَة الَّتِي هِيَ الزَّمَان الْخَاص، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: أَو يُرَاد أَن تتسارع الدول إِلَى الِانْقِضَاء فتقارب أَيَّام الْمُلُوك. قَوْله: (وَيكثر الْهَرج) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: وَهُوَ الْقِتَال، والاختلاط، ورأيتهم يتهارجون أَي: يتسافدون، قَالَه صَاحب (الْعين) . وَقَالَ يَعْقُوب: الْهَرج الْقَتْل. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْهَرج الْفِتْنَة فِي آخر الزَّمَان. قَالَ: وَرُوِيَ: (أَمَام السَّاعَة هرج) . وَأَصله الْإِكْثَار من الشَّيْء. وَفِي (الْمُحكم) : الْهَرج شدَّة الْقَتْل وكثرته، كَثْرَة الْكَذِب وَكَثْرَة النّوم، والهرج شَيْء ترَاهُ فِي النّوم وَلَيْسَ بصادق. قَوْله: (حَتَّى يكثر) ، وَذَلِكَ لقلَّة الرِّجَال وَقلة الرغبات ولقصر الآمال لعلمهم بِقرب السَّاعَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ ترك: الْوَاو، وَلم يعْطف على مَا قبله؟ يَعْنِي: لم يقل: وَحَتَّى يكثر؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا غَايَة لِكَثْرَة الْهَرج، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْطُوفًا على مَا قبله، وَالْوَاو محذوفة، وَحذف الْوَاو جَائِز فِي اللُّغَة. قَوْله: (فيفيض) بِفَتْح حرف المضارعة، وَيجوز فِي الضَّاد الرّفْع وَالنّصب: أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: فَهُوَ يفِيض، وَأما النصب فعلى أَنه عطف على: أَن يكثر، يُقَال: فاض المَاء يفِيض إِذا كثر حَتَّى سَالَ على ضفة الْوَادي أَي جَانِبه، وَيُقَال: أَفَاضَ الرجل إناءه أَي ملأَهُ حَتَّى فاض، وَيُقَال: فيض المَال كثرته حَتَّى يفضل مِنْهُ بأيدي ملاكه مَا لَا حَاجَة لَهُم بِهِ، وَقيل: بل ينتشر فِي النَّاس ويعمهم، وَهُوَ الْأَظْهر.
7301 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا حُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ قَالَ حَدثنَا ابنُ عَوْنٍ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي شامِنَا وَفِي يَمِنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي شامِنَا وَفِي يَمِنِنا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ هُنَاكَ الزَّلازِلُ والفِتَنُ وبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ.
(الحَدِيث 7301 طرفه فِي: 4907) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هُنَالك الزلازل والفتن) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد أَبُو مُوسَى، يعرف بالزمن الْعَنْبَري من أهل الْبَصْرَة. الثَّانِي: حُسَيْن بن الْحسن بن يسَار من آل مَالك بن يسَار ضد الْيَمين الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الله بن عون بن أرطبان، بِفَتْح الْهمزَة: الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون مَا خلا نَافِعًا. وَفِيه: أَن هَذَا مَوْقُوف على ابْن عمر، قَالَ الْحميدِي: اخْتلف على ابْن عون فِيهِ، فروى عَنهُ مُسْندًا، وروى عَنهُ مَوْقُوفا على ابْن عمر من قَوْله، وَالْخلاف إِنَّمَا وَقع من حُسَيْن بن الْحسن فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي روى الْوَقْف، وَأما أَزْهَر السمان وَعبيد الله بن عبد الله بن عون فروياه عَن ابْن عون فروياه عَن ابْن عون عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . فَذكره، وَفِي رِوَايَة: ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر الحَدِيث. وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن: سقط من سَنَده ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن مثل هَذَا لَا يدْرِي بِالرَّأْيِ وَقَالَ النَّسَفِيّ: قَالَ أَبُو عبد الله: هَذَا الحَدِيث مَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ أَن ابْن عون كَانَ يوقفه.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد الله عَن أَزْهَر بن سعد مُصَرحًا فِيهِ بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن بشر بن آدم بن بنت أَزْهَر السمان عَن جده أَزْهَر مَرْفُوعا، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ مُسْندًا، وَفِيه: فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة قَالَ: أَظُنهُ قَالَ: وَفِي نجدنا. قَالَ الدَّاودِيّ: وَإِنَّمَا لم يقل: فِي نجدنا، لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو بِمَا سبق فِي علم الله تَعَالَى خِلَافه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي شامنا) ، قَالَ ابْن هِشَام فِي (التيجان) هُوَ اسْم أعجمي من لُغَة بني حام، وَتَفْسِيره بالعربي: خير طيب، وَذكر الْكَلْبِيّ فِي (كتاب الْبلدَانِ) عَن الشرفي: إِنَّمَا سميت بسام بن نوح لِأَنَّهُ أول من نزلها. قَالَ الْكَلْبِيّ: وَلم ينزلها سَام قطّ، قَالَ: وَلما أخرج النَّاس من بابل أَخذ بَعضهم يمنة فسميت الْيمن، وتشاءم آخَرُونَ فسميت الشَّام. وَكَانَت الشَّام يُقَال لَهَا: أَرض كنعان، قَالَ: وَكَانَ فالخ بن عَامر هُوَ الَّذِي قسم الأَرْض بَين بني نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الزجاجي فِي كَلَامه على الزَّاهِر: سميت بذلك لِكَثْرَة قراها وتداني بَعْضهَا من بعض، فشبهت بالشامات، وَقَالَ أهل الْأَثر: سميت بذلك لِأَن قوما من كنعان بن حام خَرجُوا عِنْد التَّفَرُّق فتشأموا إِلَيْهَا: أَي أخذُوا ذَات الشمَال، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخ دمشق) :(7/58)
قَالَ ابْن المقفع: سميت الشَّام بسام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وسام اسْمه بالسُّرْيَانيَّة: شام، وبالعبرانية: شيم. قَالَ ابْن عَسَاكِر. وَقيل: سميت شاما لِأَنَّهَا عَن شمال الأَرْض. وَقَالَ بعض الروَاة: إِن اسْم الشَّام أَولا سورية، وككانت أَرض بني إِسْرَائِيل، قسمت على اثْنَي عشر سَهْما، فَصَارَ لسهم مِنْهُم مَدِينَة شامرين، وَهِي من أَرض فلسطين، فَصَارَ إِلَيْهَا متجر الْعَرَب فِي ذَلِك، وَمِنْهَا كَانَت ميرتهم فسموا الشَّام بشامرين، ثمَّ حذفوا فَقَالُوا: الشَّام. وَقَالَ الْبكْرِيّ: الشأم، مَهْمُوز الْألف، وَقد لَا يهمز، وَقَالَ الْفراء: فِيهَا لُغَتَانِ: شام وشأم، وَالنّسب إِلَيْهَا شأمي وشامي، وشام على الْحَذف. قَالَ الْجَوْهَرِي: يذكر وَيُؤَنث، وَلَا يُقَال: شأم، وَمَا جَاءَ فِي ضَرُورَة الشّعْر فَمَحْمُول على أَنه اقْتصر من النِّسْبَة على ذكر الْبَلَد، وَالْقَوْم أشأموا، أَي: أَتَوا الشَّام أَو ذَهَبُوا إِلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن سراج مَهْمُوز مَمْدُود، وأباء أَكْثَرهم إلاّ فِي النّسَب أَعنِي: فتح الْهمزَة، كَمَا اخْتلف فِي إِثْبَات الْيَاء مَعَ الْهمزَة الممدودة، فَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهٍ وَمنعه غَيره. وَيُقَال: قَوْله: (فِي شامنا ويمننا) أَي: الإقليمين الْمَشْهُورين، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهما: الْبِلَاد الَّتِي فِي يميننا ويسارنا أَعم مِنْهُمَا، يُقَال: نظرت يمنة وشامة أَي: يَمِينا ويسارا، ونجد هُوَ خلاف الْغَوْر. والغور هُوَ تهَامَة، وكل مَا ارْتَفع عَن تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَإِنَّمَا ترك الدُّعَاء لأهل الْمشرق ليضعفوا عَن الشَّرّ الَّذِي هُوَ مَوْضُوع فِي جهتهم لاستيلاء الشَّيْطَان بلفتن عَلَيْهَا. قَوْله: (وَبهَا) أَي: وبنجد يطلع قرن الشَّيْطَان، أَي: أمته وَحزبه. وَقَالَ كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يخرج الدَّجَّال من الْعرَاق.
82 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الْوَاقِعَة: 28) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله عز وَجل ... إِلَى آخِره، وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي أَبْوَاب الاسْتِسْقَاء لِأَن هَذِه الْآيَة فِيمَن قَالُوا: الاسْتِسْقَاء بالأنواء، على مَا روى عبد بن حميد الْكشِّي فِي تَفْسِيره: حَدثنِي يحيى بن عبد الحميد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . قَالَا: الاسْتِسْقَاء بالأنواء، أخبرنَا إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن عِكْرِمَة عَن مَوْلَاهُ {وتجعلون رزقكم} (الْوَاقِعَة: 28) . قَالَ: تَجْعَلُونَ شكركم، وَفِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: جمع إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي، وَرِوَايَته عَن الضَّحَّاك عَنهُ: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . قَالَ: وَذَلِكَ ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على رجل وَهُوَ يَسْتَسْقِي بقدح لَهُ ويصبه فِي قربَة من مَاء السَّمَاء، وَهُوَ يَقُول: سقينا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . يَعْنِي: الْمَطَر، حَيْثُ يَقُولُونَ سقينا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (قَالَ مطر النَّاس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أصبح من النَّاس شاكرا وَمِنْهُم كَافِرًا، قَالُوا: هَذِه رَحْمَة وَضعهَا الله تَعَالَى، وَقَالَ بَعضهم: لقد صدق نوء كَذَا فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} (الْوَاقِعَة: 28) . وَذكر أَبُو الْعَبَّاس فِي (مقامات التَّنْزِيل) عَن الْكَلْبِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَطش أَصْحَابه فاستسقوه، قَالَ: إِن سقيتم قُلْتُمْ سقينا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا. قَالُوا: وَالله مَا هُوَ بِحِين الأنواء، فَدَعَا الله تَعَالَى فَمُطِرُوا، فَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل يغْرف من قدح وَيَقُول: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا، فَنزلت. وروى الحكم عَن السّديّ، قَالَ: أَصَابَت قُريْشًا سنة شَدِيدَة، فسألوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَسْتَسْقِي، فَدَعَا فأمطروا. فَقَالَ بَعضهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا، فَنزلت الْآيَة. قَالَ السّديّ: وحَدثني عبد خير عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يقْرؤهَا: وتجعلون شكركم، وَقَالَ عبد بن حميد: حَدثنَا عمر ابْن سعد وَقبيصَة عَن سُفْيَان عَن عبد الْأَعْلَى عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: كَانَ عَليّ يقْرَأ: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون} وروى سعيد بن الْمَنْصُور عَن هشيم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، أَنه كَانَ يقْرَأ: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون} ، وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي (التَّفْسِير الْمسند) . وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: وقرئت: {وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون} ، وَلَا يَنْبَغِي أَن يقْرَأ بهَا بِخِلَاف الْمُصحف. وَقيل: فِي الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة حذف، تَقْدِيره: وتجعلون شكر رزقكم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْمَعْنى، وتجعلون الرز الَّذِي وَجب عَلَيْكُم بِهِ الشُّكْر تكذيبكم بِهِ، وَقيل: بل الرزق بِمَعْنى الشُّكْر فِي لُغَة أَزْد شنُوءَة، نَقله الطَّبَرِيّ عَن الْهَيْثَم بن عدي: وَفِي (تَفْسِير أبي الْقَاسِم الْجَوْزِيّ) : وتجعلون نصيبكم من الْقُرْآن أَنكُمْ تكذبون.
قَالَ ابنُ عَبَّاسِ شُكْرَكُمْ(7/59)
هَذَا التَّعْلِيق ذكره عبد بن حميد فِي تَفْسِيره، وَقد ذَكرْنَاهُ آنِفا: أطلق الرزق وَأَرَادَ بِهِ لَازمه وَهُوَ الشُّكْر، فَهُوَ مجَاز، أَو أَرَادَ شكر رزقكم، فَهُوَ من بَاب الْإِضْمَار.
8301 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ صالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ ابنِ مَسْعُودٍ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنِيِّ أَنه قَالَ صلَّى لَنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى إثْرِ سَماء كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فلمَّا انْصَرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقْبَلَ علَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربُّكُمْ قَالُوا الله ورسُولُهُ أعْلَمُ قَالَ أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ فَأمَّا مَنْ قالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله ورَحْمَتِهِ فذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كافِرٌ بِالكَوْكَبِ وأمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذَا وَكَذَا فذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم كَانُوا ينسبون الْأَفْعَال إِلَى غير الله، فيظنون أَن النَّجْم يمطرهم ويرزقهم، فَهَذَا تكذيبهم، فنهاهم الله عَن نِسْبَة الغيوث الَّتِي جعلهَا الله حَيَاة لِعِبَادِهِ وبلاده إِلَى الأنواء، وَأمرهمْ أَن يضيفوا ذَلِك إِلَيْهِ لِأَنَّهُ من نعْمَته عَلَيْهِم، وَأَن يفردوه بالشكر على ذَلِك.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس.
قَوْله: (عَن زيد بن خَالِد) ، هَكَذَا يَقُول صَالح بن كيسَان: لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَخَالفهُ الزُّهْرِيّ فَرَوَاهُ عَن شيخهما عبيد الله فَقَالَ: عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه مُسلم عقب رِوَايَة صَالح، وَصحح الطَّرِيقَيْنِ، لِأَن عبيد الله سمع من زيد بن خَالِد وَأبي هُرَيْرَة جَمِيعًا عدَّة أَحَادِيث، فَلَعَلَّهُ سمع هَذَا مِنْهُمَا، فَحدث بِهِ تَارَة عَن هَذَا وَتارَة عَن هَذَا، وَإِنَّمَا لم يجمعهما لاخْتِلَاف لَفْظهمَا، وَقد صرح صَالح سَمَاعه لَهُ من عبيد الله عِنْد أبي عوَانَة، وروى صَالح عَن عبيد الله بِوَاسِطَة الزُّهْرِيّ عدَّة أَحَادِيث.
وَحَدِيث الْبَاب أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب يسْتَقْبل الإِمَام النَّاس إِذا سلم: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره وَنَحْوه، وَقد تكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
92 - (بابٌ لَا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ إلاّ الله)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته لَا يدْرِي وَقت مَجِيء الْمَطَر إلاّ الله، وَلما كَانَ الْبَاب السَّابِق يتَضَمَّن أَن الْمَطَر إِنَّمَا ينزل بِقَضَاء الله تَعَالَى، وَأَنه لَا تَأْثِير للكواكب فِي نُزُوله ذكر هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة ليبين أَن أحدا لَا يعلم مَتى يَجِيء، وَلَا يعلم ذَلِك إلاّ الله عز وَجل، لِأَن نُزُوله إِذا كَانَ بِقَضَائِهِ وَلَا يُعلمهُ أحد غَيره فَكَذَلِك لَا يعلم أحد إبان مَجِيئه.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلاّ الله
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي الْإِيمَان، وَفِي تَفْسِير لُقْمَان من طَرِيق أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة فِي سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، لَكِن لَفظه: فِي خمس لَا يعلمهُنَّ إلاّ الله، وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات فِي التَّفْسِير بِلَفْظ: وَخمْس، وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي التَّفْسِير من طَرِيق يحيى بن أَيُّوب البَجلِيّ عَن جده عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: (خمس من الْغَيْب لَا يعلمهُنَّ إلاّ الله: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة ... } (لُقْمَان: 43) . إِلَى آخِره الْآيَة.
9301 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينار عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إلاّ الله لَا يَعْلَمْ أحدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ ولاَ يَعْلَمُ أحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأرْحَامِ وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ مطولا فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْإِيمَان والاسلام، وَلَفظه فِيهِ: (فِي خمس لَا يعلمهُنَّ إِلَّا الله ثمَّ(7/60)
تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله عِنْده علم السَّاعَة) الْآيَة.
قَوْله: (مِفْتَاح الْغَيْب) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (مفاتح الْغَيْب) ، ذكر الطَّبَرَانِيّ أَن: المفاتيح جمع مِفْتَاح، والمفاتح جمع مفتح، وهما فِي الأَصْل كل مَا يتوسل بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاج المغلقات الَّتِي يتَعَذَّر الْوُصُول إِلَيْهَا، وَهُوَ إِمَّا اسْتِعَارَة مكنية بِأَن يَجْعَل الْغَيْب كالمخزن المستوثق بالإغلاق فيضاف إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص المخزن الْمَذْكُور، وَهُوَ الْمِفْتَاح وَهُوَ الِاسْتِعَارَة الترشيحية، وَيجوز أَن يكون اسْتِعَارَة مصرحة بِأَن يَجْعَل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة الْغَيْب للمخزون، وَيكون لفظ الْغَيْب قرينَة لَهُ، والغيب مَا غَابَ عَن الْخلق، وَسَوَاء كَانَ محصلاً فِي الْقُلُوب أَو غير مُحَصل، وَلَا غيب عِنْد الله عز وَجل.
وَهَهُنَا أسئلة: الأول: أَن الغيوب الَّتِي لَا يعلمهَا إِلَّا الله كَثِيرَة، وَلَا يعلم مبلغها إِلَّا الله تَعَالَى، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إلاّ هُوَ} (المدثر: 13) . فَمَا وَجه التَّخْصِيص بالخمس؟ وَأجِيب: بأوجه. . الأول: أَن التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد، وَالثَّانِي: أَن ذكر هَذَا الْعدَد فِي مُقَابلَة مَا كَانَ الْقَوْم يَعْتَقِدُونَ أَنهم يعْرفُونَ من الْغَيْب هَذِه الْخمس. وَالثَّالِث: لأَنهم كَانُوا يسألونه عَن هَذِه الْخمس. وَالرَّابِع: أَن أُمَّهَات الْأُمُور هَذِه، لِأَنَّهَا إِمَّا أَن تتَعَلَّق بِالآخِرَة وَهُوَ علم السَّاعَة، وَإِمَّا بالدنيا، وَذَلِكَ إِمَّا مُتَعَلق بالجماد أَو بِالْحَيَوَانِ. وَالثَّانِي إِمَّا بِحَسب مبدأ وجوده أَو بِحَسب معاده أَو بِحَسب معاشه.
السُّؤَال الثَّانِي: من أَيْن يعلم مِنْهُ علم السَّاعَة، وَقد ذكر الله الْخَمْسَة حَيْثُ قَالَ: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} (لُقْمَان: 43) . وَأجِيب: بِأَن الأول من هَذِه إِشَارَة إِلَيْهِ إِذْ يحْتَمل وُقُوع أَشْرَاط السَّاعَة فِي الْغَد.
السُّؤَال الثَّالِث: أَنه قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نفس، وَفِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: أحد وَأجِيب: بِأَن النَّفس هِيَ الكاسبة وَهِي المائتة، قَالَ تَعَالَى: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} (المدثر: 83) . وَقَالَ تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا} (الزمر: 24) . فَلَو قيل بدلهَا لفظ أحد، فِيهَا لاحتمل أَن يفهم مِنْهُ لَا يعلم أحد مَاذَا تكسب نَفسه أَو بِأَيّ أَرض تَمُوت نَفسه. فتفوت الْمُبَالغَة الْمَقْصُودَة، وَهِي: أَن النَّفس لَا تعرف حَال نَفسهَا لَا حَالا ومآلاً وَإِذ لم يكن لَهَا طَرِيق إِلَى مَعْرفَتهَا فَكَانَ إِلَى عدم معرفَة مَا عَداهَا أولى.
السُّؤَال الرَّابِع: مَا الْفرق بَين الْعلم والدراية؟ وَأجِيب: بِأَن الدِّرَايَة أخص لِأَنَّهَا علم باحتيال، أَي أَنَّهَا لَا تعرف وَإِن أعملت حيلها.
السُّؤَال الْخَامِس: لم عدل عَن لفظ: الْقُرْآن، وَهُوَ يدْرِي إِلَى لفظ: يعلم فيماذا تكسب غَدا؟ وَأجِيب: لإِرَادَة زِيَادَة الْمُبَالغَة، إِذْ نفي الْعَام مُسْتَلْزم لنفي الْخَاص بِدُونِ الْعَكْس، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تعلم أصلا سَوَاء احتالت أم لَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا يبطل خرص المنجمين فِي تعاطيهم علم الْغَيْب، فَمن ادّعى علم مَا أخبر الله وَرَسُوله، وَأَن الله مُنْفَرد بِعِلْمِهِ فقد كذب الله وَرَسُوله، وَذَلِكَ كفر من قَائِله، وَقَالَ الزّجاج: من ادّعى أَنه يعلم شَيْئا من هَذِه الْخمس فقد كفر بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
61 - (كِتَابُ الكُسُوفِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أُمُور الْكُسُوف، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْكُسُوف، وَالْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، وَأَصله: من كسفت حَاله أَي: تَغَيَّرت، وَهُوَ نُقْصَان الضَّوْء، وَالْأَشْهر فِي ألسن الْفُقَهَاء تَخْصِيص الْكُسُوف بالشمس والخسوف بالقمر، وَادّعى الْجَوْهَرِي أَنه الْأَفْصَح، وَقيل: هما يستعملان فيهمَا، وَبَوَّبَ لَهُ البُخَارِيّ بَابا كَمَا سَيَأْتِي. وَقيل: الْكُسُوف للقمر والخسوف للشمس، وَهُوَ مَرْدُود. وَقيل: الْكُسُوف أَوله، والخسوف آخِره، وَقَالَ اللَّيْث بن سعد: الخسوف فِي الْكل، والكسوف فِي الْبَعْض. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِيمَا تقدم.
1 - (بابُ الصَّلاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة صَلَاة كسوف الشَّمْس، وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: أَنه لَا خلاف فِي مَشْرُوعِيَّة صَلَاة الْكُسُوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} (الْإِسْرَاء: 95) . والكسوف آيَة من آيَات الله المخوفة، وَالله تَعَالَى يخوف عباده ليتركوا الْمعاصِي ويرجعوا إِلَى طَاعَة الله الَّتِي فِيهَا فوزهم. وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا من هَذِه الأفزاع فافزعوا إِلَى الصَّلَاة) . وَأما الْإِجْمَاع، فَإِن الْأمة قد اجْتمعت عَلَيْهَا من غير إِنْكَار اُحْدُ. الثَّانِي: أَن سَبَب مشروعيتها هُوَ الْكُسُوف، فَإِنَّهَا تُضَاف إِلَيْهِ وتتكرر بتكرره. الثَّالِث: أَن شَرط جَوَازهَا هُوَ مَا يشْتَرط بِسَائِر الصَّلَوَات. الرَّابِع: أَنَّهَا سنة وَلَيْسَت بواجبة، وَهُوَ الْأَصَح. وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا: إِنَّهَا وَاجِبَة لِلْأَمْرِ بهَا. وَنَصّ فِي (الْأَسْرَار) على وُجُوبهَا، وَصرح أَبُو عوَانَة أَيْضا بِوُجُوبِهَا، وَعَن مَالك أَنه: أجراها مجْرى الْجُمُعَة، وَقيل: إِنَّهَا فرض كِفَايَة(7/61)
واستبعد ذَلِك. الْخَامِس: أَنَّهَا تصلى فِي الْمَسْجِد الْجَامِع أَو فِي مصلى الْعِيد. السَّادِس: أَن وَقتهَا هُوَ الْوَقْت الَّذِي يسْتَحبّ فِيهِ سَائِر الصَّلَوَات دون الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يكره فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة. السَّابِع: فِي كمية عدد ركعاتها، فَعِنْدَ اللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر: صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، فِي كل رَكْعَة ركوعان وسجودان، فَتكون الْجُمْلَة أَربع ركوعات وَأَرْبع سَجدَات فِي رَكْعَتَيْنِ، وَعند طَاوُوس وحبِيب بن أبي ثَابت وَعبد الْملك بن جريج: رَكْعَتَانِ فِي كل رَكْعَة أَربع ركوعات وسجدتان، فَتكون الْجُمْلَة ثَمَان ركوعات وَأَرْبع سَجدَات، ويحكى هَذَا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَعند قَتَادَة وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر: رَكْعَتَانِ فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات وسجدتان، فَتكون الْجُمْلَة سِتّ ركوعات وَأَرْبع سَجدَات، وَعند سعيد بن جُبَير وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي رِوَايَة، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة: لَا تَوْقِيت فِيهَا، بل يُطِيل أبدا وَيسْجد إِلَى أَن تنجلي الشَّمْس. وَقَالَ عِيَاض: وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا ذَلِك بِحَسب مكث الْكُسُوف، فَمَا طَال مكثه زَاد تَكْرِير الرُّكُوع فِيهِ، وَمَا قصر اقْتصر فِيهِ، وَمَا توَسط اقتصد فِيهِ قَالَ: وَإِلَى هَذَا نحا الْخطابِيّ وَيحيى وَغَيرهمَا. وَقد يعْتَرض عَلَيْهِ بِأَن طولهَا ودوامها لَا يعلم من أول الْحَال وَلَا من الرَّكْعَة الأولى، وَعند إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد هِيَ: رَكْعَتَانِ كَسَائِر صَلَاة التَّطَوُّع فِي كل رَكْعَة رُكُوع وَاحِد وسجدتان، ويروى ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي بكرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وَعبد الله بن عَمْرو وَقبيصَة الْهِلَالِي والنعمان بن بشير وَعبد الرَّحْمَن ابْن سَمُرَة وَعبد الله بن الزبير، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي (الْمُحِيط) : عَن أبي حنيفَة: إِن شاؤا صلوها رَكْعَتَيْنِ وَإِن شاؤا أَرْبعا. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَإِن شاؤا أَكثر من ذَلِك، هَكَذَا رَوَاهُ الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَعند الظَّاهِرِيَّة: يُصَلِّي لكسوف الشَّمْس خَاصَّة إِن كسفت من طُلُوعهَا إِلَى أَن يصلى الظّهْر رَكْعَتَيْنِ، وَإِن كسفت من بعد صَلَاة الظّهْر إِلَى أَخذهَا فِي الْغُرُوب صلى أَربع رَكْعَات كَصَلَاة الظّهْر، وَالْعصر وَفِي كسوف الْقَمَر خَاصَّة: إِن كسف بعد صَلَاة الْمغرب إِلَى أَن يُصَلِّي الْعشَاء الْآخِرَة صلى ثَلَاث رَكْعَات كَصَلَاة الْمغرب، وَإِن كسفت بعد صَلَاة الْعَتَمَة إِلَى الصُّبْح صلى أَرْبعا كَصَلَاة الْعَتَمَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير: (إِذا خسفت الشَّمْس وَالْقَمَر فصلوا كأحدث صَلَاة صليتموها) .
0401 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَوْنٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ يُونُسَ عنِ الحَسَنِ عنْ أبِي بَكْرَةَ قَالَ كُنَّا عنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجُرُّ رِدَاءَهُ حتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ فدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ فإذَا رَأيْتُمُوهُمَا فَصَلّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد كسوف الشَّمْس.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عون، مر فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان الوَاسِطِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن عبيد. الرَّابِع: الْحسن الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: أَبُو بكرَة، نفيع بن الْحَارِث، وَقد تقدم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْإِسْنَاد كُله بصريون غير خَالِد. وَفِيه: أَن رِوَايَة الْحسن عَن أبي بكرَة مُتَّصِلَة عِنْد البُخَارِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ،، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مُرْسل، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد فِي (كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل) : أخرج البُخَارِيّ حَدِيثا فِيهِ الْحسن: سَمِعت أَبَا بكرَة، فتأوله الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من الْحفاظ على أَنه: الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لِأَن الْبَصْرِيّ لم يسمع عِنْدهم من أبي بكرَة، وَالصَّحِيح أَن الْحسن فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَذَا قَالَه الدَّاودِيّ فِيمَا ذكره ابْن بطال،
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة الْكُسُوف عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث وَفِي اللبَاس عَن مُحَمَّد عَن عبد الْأَعْلَى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث نَحوه، وَفِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يزِيد مقطعا وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن(7/62)
خَالِد وَفِيه وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِبَعْضِه وَعَن مُحَمَّد بن كَامِل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فانكسفت) يُقَال: كسفت الشَّمْس، بِفَتْح الْكَاف، وانكسفت بِمَعْنى، وَأنكر الْقَزاز: انكسفت، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ. قَوْله: (يجر رِدَاءَهُ) ، جملَة وَقعت حَالا، وَزَاد فِي اللبَاس من وَجه آخر عَن يُونُس: مستعجلاً. وللنسائي فِي رِوَايَة يزِيد ابْن زُرَيْع عَن يُونُس: من العجلة، قَوْله: (فَإِذا رأيتموها) ، بتوحيد الضَّمِير، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (فَإِذا رأيتموهما) ، بتثنية الضَّمِير، وَجه الأول أَن الضَّمِير يرجع إِلَى الكسفة الَّتِي يدل عَلَيْهَا قَوْله: (لَا يكسفان) . أَو الْآيَة، لِأَن الكسفة آيَة من الْآيَات، وَوجه الثَّانِي ظَاهر، لِأَن الْمَذْكُور الشَّمْس وَالْقَمَر.
ذكر استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا على أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، لِأَنَّهُ مُصَرح فِيهِ بقوله: (فصلى ركعتينن) ، وَكَذَلِكَ روى جمَاعَة من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ. مِنْهُم: ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَنهُ: (انكسفت الشَّمْس فَقَالَ النَّاس: إِنَّمَا انكسفت لمَوْت إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى رَكْعَتَيْنِ) . وَمِنْهُم: عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه مُسلم: (انخسفت الشَّمْس فَانْطَلَقت، فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم يسبح وَيكبر وَيَدْعُو، حَتَّى انجلت الشَّمْس، وَقَرَأَ سورتين وَركع رَكْعَتَيْنِ) . وَأخرجه الْحَاكِم، وَلَفظه: (وَقَرَأَ سورتين فِي رَكْعَتَيْنِ) . وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَلَفظه: (فصلى رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات) . وَمِنْهُم: سَمُرَة بن جُنْدُب، أخرج حَدِيثه الْأَرْبَعَة أَصْحَاب السّنَن، وَفِيه: (فصلى فَقَامَ بِنَا كأطول مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاة قطّ لَا نسْمع لَهُ صَوتا، قَالَ: ثمَّ ركع بِنَا كأطول مَا ركع بِنَا فِي صَلَاة قطّ لَا نسْمع لَهُ صَوتا، قَالَ: ثمَّ سجد بِنَا كأطول مَا سجد بِنَا فِي صَلَاة قطّ لَا نسْمع لَهُ صَوتا، قَالَ: ثمَّ فعل فِي الرَّكْعَة الْأُخْرَى مثل ذَلِك) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَمِنْهُم: النُّعْمَان بن بشير، أخرج حَدِيثه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الصَّيْرَفِي الْبَصْرِيّ قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد، قَالَ: حَدثنَا شريك عَن عَاصِم الْأَحول عَن أبي قلَابَة عَن النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي كسوف الشَّمْس كَمَا تصلونَ رَكْعَة وسجدتين) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَبُو قلَابَة لم يسمع من النُّعْمَان، والْحَدِيث مُرْسل قلت: صرح فِي (الْكَمَال) بِسَمَاعِهِ عَن النُّعْمَان، وَقَالَ ابْن حزم: أَبُو قلَابَة أدْرك النُّعْمَان وروى هَذَا الْخَبَر عَنهُ، وَصرح ابْن عبد الْبر بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: من أحسن حَدِيث ذهب إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ حَدِيث أبي قلَابَة عَن النُّعْمَان، وَأَبُو قلَابَة أحد الْأَعْلَام، واسْمه: عبد الله بن زيد الْجرْمِي، والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَمِنْهُم: عبد الله بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرج حَدِيثه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا أَسد، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو، وَقَالَ: كسفت الشَّمْس على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ بِالنَّاسِ فَلم يكد يرفع ثمَّ رفع فَلم يكد يسْجد ثمَّ سجد فَلم يكد يرفع ثمَّ رفع، وَفعل فِي الثَّانِيَة مثل ذَلِك، فَرفع رَأسه وَقد امحصت الشَّمْس) . وَأخرجه الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ من أجل عَطاء بن السَّائِب. قلت: قد أخرج البُخَارِيّ لعطاء هَذَا حَدِيثا مَقْرُونا بِأبي بشر، وَقَالَ أَيُّوب: هُوَ ثِقَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا وَأحمد فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) . وَمِنْهُم: قبيصَة الْهِلَالِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرج حَدِيثه أَبُو دَاوُد، قَالَ: (كسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج فَزعًا يجر ثَوْبه وَأَنا مَعَه يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ فصلى رَكْعَتَيْنِ) الحَدِيث، وَفِيه: (فَإِذا رأيتموها فصلوا كأحدث(7/63)
صَلَاة صليتموها من الْمَكْتُوبَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين، فَفِي طَرِيقه الأولى: عَن قبيصَة البَجلِيّ، وَفِي الثَّانِيَة: عَن قبيصَة الْهِلَالِي وَغَيره، وكل مِنْهُمَا صَحَابِيّ على مَا ذكره الْبَعْض، وَذكر أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي (مُعْجم الصَّحَابَة) أَولا قبيصَة الْهِلَالِي فَقَالَ: سكن الْبَصْرَة وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَادِيث، ثمَّ ذكر قبيصَة آخر، فَقَالَ: قبيصَة يُقَال: إِنَّه البَجلِيّ، وَيُقَال: الْهِلَالِي: سكن الْبَصْرَة، وروى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا. حَدثنَا أَبُو الرّبيع الزهْرَانِي حَدثنَا عبد الْوَارِث حَدثنَا أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن قبيصَة قَالَ: (انكسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَادَى فِي النَّاس، فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ، فَأطَال فيهمَا حَتَّى انجلت الشَّمْس، فَقَالَ: إِن هَذِه الْآيَة تخويف يخوف الله بهَا عباده فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك: فصلوا كأخف صَلَاة صليتموها من الْمَكْتُوبَة) . وَقَالَ أَبُو نعيم: ذكر بعض الْمُتَأَخِّرين قبيصَة البَجلِيّ وَهُوَ عِنْدِي قبيصَة بن مُخَارق الْهِلَالِي، والبجلي وهم قلت: رِوَايَة الطَّحَاوِيّ وَكَلَام الْبَغَوِيّ يدلان على أَنَّهُمَا اثْنَان. قَوْله: (كأحدث صَلَاة) ، يَعْنِي: كأقرب صَلَاة. قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ إِن آيَة من هَذِه الْآيَات إِذا وَقعت مثلا بعد الصُّبْح يصلى وَيكون فِي كل رَكْعَة ركوعان، وَإِن كَانَت بعد الْمغرب يكون فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات، وَإِن كَانَت بعد الرّبَاعِيّة يكون فِي كل رَكْعَة أَربع ركوعات. وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَن آيَة من هَذِه الْآيَات إِذا وَقعت عقيب صَلَاة جهرية يصلى ويجهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَإِن وَقعت عقيب صَلَاة سَرِيَّة يصلى ويخافت فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. قلت: رِوَايَة الْبَغَوِيّ: كأخف صَلَاة، تدل على أَن المُرَاد كَمَا وَقع فِي صَلَاة من الْمَكْتُوبَة فِي الخفة، وَهِي صَلَاة الصُّبْح، وَأَرَادَ بِهِ أَنه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاة الصُّبْح بركوعين وَأَرْبع سَجدَات. فَافْهَم. وَمِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه أَحْمد من رِوَايَة حَنش عَنهُ قَالَ: (كسفت الشَّمْس فصلى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للنَّاس فَقَرَأَ يس أَو نَحْوهَا، ثمَّ ركع نَحوا من قدر سُورَة، ثمَّ رفع رَأسه فَقَالَ: سمع الله لمن حَمده، ثمَّ سجد ثمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَة الثَّانِيَة، فَفعل كَفِعْلِهِ فِي الرَّكْعَة الأولى، ثمَّ جلس يَدْعُو ويرغب حَتَّى انجلت الشَّمْس، ثمَّ حَدثهمْ أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك فعل) . وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح (عَن السَّائِب بن مَالك، وَالِد عَطاء: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى فِي كسوف الْقَمَر رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي (علل ابْن أبي حَاتِم) : السَّائِب لَيست لَهُ صُحْبَة، وَالصَّحِيح إرْسَاله، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن أبي إِسْحَاق عَن السَّائِب بن مَالك عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى ابْن أبي شيبَة أَيْضا بِسَنَد صَحِيح (عَن إِبْرَاهِيم: كَانُوا يَقُولُونَ: إِذا كَانَ ذَلِك فصلوا كصلاتكم حَتَّى تنجلي) . وَحدثنَا وَكِيع حَدثنَا إِسْحَاق بن عُثْمَان الْكلابِي (عَن أبي أَيُّوب الهجري، قَالَ: انكسفت الشَّمْس بِالْبَصْرَةِ وَابْن عَبَّاس أَمِير عَلَيْهَا، فَقَامَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَقَرَأَ فَأطَال الْقِرَاءَة. ثمَّ ركع فَأطَال الرُّكُوع، ثمَّ رفع رَأسه ثمَّ سجد، ثمَّ فعل مثل ذَلِك فِي الثَّانِيَة، فَلَمَّا فرغ قَالَ: هَكَذَا صَلَاة الْآيَات! قَالَ: فَقلت: بِأَيّ شَيْء قَرَأَ فيهمَا؟ قَالَ: بالبقرة وَآل عمرَان) . وَحدثنَا وَكِيع عَن يزِيد بن إِبْرَاهِيم عَن الْحسن (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي كسوف رَكْعَتَيْنِ، فَقَرَأَ فِي إِحْدَاهمَا بِالنَّجْمِ) وَفِي (الْمحلى) أَخذ بِهَذَا طَائِفَة من السّلف، مِنْهُم عبد الله بن الزبير صلى فِي الْكُسُوف رَكْعَتَيْنِ كَسَائِر الصَّلَوَات. فَإِن قيل: قد خطأه فِي ذَلِك أَخُوهُ عُرْوَة. قُلْنَا: عُرْوَة أَحَق بالْخَطَأ من عبد الله الصاحب الَّذِي عمل بِعلم، وَعُرْوَة أنكر مَا لم يعلم، وَذهب ابْن حزم إِلَى الْعَمَل بِمَا صَحَّ من الْأَحَادِيث فِيهَا، ونحا نَحوه ابْن عبد الْبر، فَقَالَ: وَإِنَّمَا يصير كل عَالم إِلَى مَا روى عَن شُيُوخه، وَرَأى عَلَيْهِ أهل بَلَده، وَقد يجوز أَن يكون ذَلِك اخْتِلَاف إِبَاحَة وتوسعة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَبِه قَالَ ابْن رَاهَوَيْه وَابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر بن إِسْحَاق والخطابي، وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ ابْن قدامَة: مُقْتَضى مَذْهَب أَحْمد أَنه يجوز أَن تصلى صَلَاة الْكُسُوف على كل صفة، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الْكُسُوف مرَارًا، فَحكى كل مَا رأى، وَكلهمْ صَادِق كَالنُّجُومِ، من اقْتدى بهم اهْتَدَى، وَذهب الْبَيْهَقِيّ إِلَى أَن الْأَحَادِيث المروية فِي هَذَا الْبَاب كلهَا ترجع إِلَى صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كسوف الشَّمْس يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم. وَقد روى فِي حَدِيث كل وَاحِد مِنْهُم مَا يدل على ذَلِك، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أُولَئِكَ الْأَئِمَّة توفيق بَين الْأَحَادِيث، وَإِذا عمل بِمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ حصل بَينهَا خلاف يلْزم مِنْهُ سُقُوط بَعْضهَا وإطراحه، وَإِنَّمَا يدل على وَهن قَوْله مَا روته عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي كسوف فِي صفة زَمْزَم يَعْنِي بِمَكَّة، وَأكْثر الْأَحَادِيث كَانَت بِالْمَدِينَةِ، فَدلَّ ذَلِك على التَّعَدُّد، وَكَانَت وَفَاة إِبْرَاهِيم يَوْم الثُّلَاثَاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وَدفن بِالبَقِيعِ، وَالْحَاصِل فِي ذَلِك أَن أَصْحَابنَا تعلقوا بِأَحَادِيث من ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ورأوها أولى من رِوَايَة غَيرهم، نَحْو حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا، لموافقتها الْقيَاس فِي أَبْوَاب الصَّلَاة،
وَقد نَص فِي حَدِيث أبي بكرَة على رَكْعَتَيْنِ صَرِيحًا. بقوله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (كَمَا تصلونَ) ، وَحمل ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ على أَن الْمَعْنى: كَمَا تصلونَ فِي الْكُسُوف، بعيد وَظَاهر الْكَلَام يردهُ. فَإِن قلت: خَاطب أَبُو بكرَة بذلك أهل الْبَصْرَة، وَقد كَانَ ابْن عَبَّاس علمهمْ أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، فِي كل رَكْعَة ركوعان. قلت: حَدِيث أبي بكرَة إِخْبَار عَن الَّذِي شَاهده من صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِيهِ خطاب أصلا، وَلَئِن سلمنَا أَنه خَاطب بذلك من الْخَارِج، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا حمله ابْن حبَان وَالْبَيْهَقِيّ، لِأَن الْمَعْنى: كَمَا كَانَت عبادتكم فِيمَا إِذا صليتم رَكْعَتَيْنِ بركوعين وَأَرْبع سَجدَات، على مَا تقرر شَأْن الصَّلَوَات على هَذَا. وَقَالَ بَعضهم: وَظهر أَن رِوَايَة أبي بكرَة مجملة وَرِوَايَة جَابر: أَن فِي كل رَكْعَة ركوعين، مبينَة، فالأخذ بالمبين أولى قلت: لَيْت شعري أَيْن الْإِجْمَال فِي حَدِيث أبي بكرَة؟ هَل هُوَ إِجْمَال لغَوِيّ أَو إِجْمَال اصطلاحي؟ وَلَيْسَ هَهُنَا أثر من ذَلِك؟ وَلَو قَالَ هَذَا الْقَائِل: الْأَخْذ بِحَدِيث(7/64)
جَابر أولى لِأَن فِيهِ زِيَادَة، وَالْأَخْذ بِالزِّيَادَةِ فِي رِوَايَات الثِّقَات أولى وأجدر. فَنَقُول: وَإِن كَانَ الْأَمر هَذَا، وَلَكِن الْأَخْذ بِمَا يُوَافق الْأُصُول أولى. وأعجب من هَذَا أَن هَذَا الْقَائِل ادّعى اتِّحَاد الْقِصَّة، وَقد أبطلنا ذَلِك عَن قريب.
الثَّانِي من الْوُجُوه: الِاسْتِدْلَال بقوله: (حَتَّى انجلت) ، على إطالة الصَّلَاة، حَتَّى يَقع الانجلاء، وَلَا تكون الإطالة إلاّ بتكرار الرَّكْعَات والركوعات وَعدم قطعهَا إِلَى الانجلاء، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن ذَلِك بِأَنَّهُ قد قَالَ فِي بعض الْأَحَادِيث: (فصلوا وَادعوا حَتَّى ينْكَشف) . ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ، حَدِيثا عَن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله تَعَالَى لَا ينكسفان لمَوْت أحد أرَاهُ قَالَ: وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأَيْتُمْ مثل ذَلِك فَعَلَيْكُم بِذكر الله وَالصَّلَاة) . فَدلَّ ذَلِك على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد مِنْهُم مُجَرّد الصَّلَاة، بل أَرَادَ مِنْهُم مَا يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى الله تَعَالَى من الصَّلَاة وَالدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار وَغير ذَلِك، نَحْو: الصَّدَقَة والعتاقة. وَقَالَ بَعضهم بعد أَن نقل بعض كَلَام الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا: وَقَررهُ ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ جعل الْغَايَة لمجموع الْأَمريْنِ، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون غَايَة لكل مِنْهُمَا على انْفِرَاده. فَجَاز أَن يكون الدُّعَاء ممتدا إِلَى غَايَة الانجلاء بعد الصَّلَاة، فَيصير غَايَة للمجموع وَلَا يلْزم مِنْهُ تَطْوِيل الصَّلَاة وَلَا تكريرها. قلت: فِي الحَدِيث أَعنِي حَدِيث أبي بكرَة: (فصلوا وَادعوا حَتَّى ينْكَشف مَا بكم) ، فقد ذكر الصَّلَاة وَالدُّعَاء بواو الْجمع، فَاقْتضى أَن يجمع بَينهمَا إِلَى وَقت الانجلاء قبل الْخُرُوج من الصَّلَاة، وَذَلِكَ لَا يكون إلاّ بإطالة الرُّكُوع وَالسُّجُود بِالذكر فيهمَا وبإطالة الْقِرَاءَة أما إطالة الرُّكُوع والسجزد فقد وَردت فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي رِوَايَة مُسلم: (مَا ركعت رُكُوعًا قطّ وَلَا سجدت سجودا قطّ كَانَ أطول مِنْهُ) . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا: (ثمَّ سجد سجودا طَويلا) . وَقَالَ أَيْضا (فصلى بأطول قيام وركوع وَسُجُود) . وَأما إطالة الْقِرَاءَة فَفِي حَدِيث عَائِشَة: (فَأطَال الْقِرَاءَة) ، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: (فَقَامَ قيَاما طَويلا قدر نَحْو سُورَة الْبَقَرَة) ، وَلَا يشك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن فِي طول قِيَامه ساكتا، بل كَانَ مشتغلاً بِالْقِرَاءَةِ وبالدعاء، وَإِذا مد الدُّعَاء بعد خُرُوجه من الصَّلَاة لَا يكون جَامعا بَين الصَّلَاة وَالدُّعَاء فِي وَقت وَاحِد، لِأَن خُرُوجه من الصَّلَاة يكون قَاطعا للْجمع، وَلَا شكّ أَن الْوَاو تدل على الْجمع، وَقد وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، قَالَ: (كسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيسْأل عَنْهَا حَتَّى انجلت) . فَهَذَا يدل على أَن إطالته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت بتعداد الرَّكْعَات، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) أَي: ركوعين وَأَن يكون السُّؤَال وَقع بِالْإِشَارَةِ فَلَا يلْزم التّكْرَار قلت: مُرَاد هَذَا الْقَائِل الرَّد على الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم أَن صَلَاة الْكُسُوف كَسَائِر الصَّلَوَات بِلَا تكْرَار الرُّكُوع، لما ذكرنَا وَجه ذَلِك، وَلَا يساعده مَا يذكرهُ لِأَن تَأْوِيله: رَكْعَتَيْنِ بركوعين، تَأْوِيل فَاسد بِاحْتِمَال غير ناشيء عَن دَلِيل، وَهُوَ مَرْدُود. فَإِن قلت: فعلى مَا ذكرت فقد دلّ الحَدِيث على أَنه يُصَلِّي للكسوف رَكْعَتَانِ بعد رَكْعَتَيْنِ، وَيُزَاد أَيْضا إِلَى وَقت الانجلاء، فَأنْتم مَا تَقولُونَ بِهِ؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، وَقد روى الْحسن عَن أبي حنيفَة: إِن شاؤا صلوا رَكْعَتَيْنِ، وَإِن شاؤا صلوا أَرْبعا، وَإِن شاؤا صلوا أَكثر من ذَلِك، ذكره فِي (الْمُحِيط) وَغَيره، فَدلَّ ذَلِك على أَن الصَّلَاة إِن كَانَت بِرَكْعَتَيْنِ يطول ذَلِك بِالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاء فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى وَقت الانجلاء، وَإِن كَانَت أَكثر من رَكْعَتَيْنِ فالتطويل يكون بتكرار الرَّكْعَات دون الركوعات، وَقَول الْقَائِل الْمَذْكُور، وَإِن يكون السُّؤَال وَقع بِالْإِشَارَةِ؟ قلت: يرد هَذَا مَا أخرجه عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي قلَابَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما ركع رَكْعَة أرسل رجلا لينْظر: هَل انجلت؟ قلت: فَهَذَا يدل على أَن السُّؤَال فِي حَدِيث النُّعْمَان كَانَ بِالْإِرْسَال لَا بِالْإِشَارَةِ، وَأَنه كلما كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ على الْعَادة يُرْسل رجلا يكْشف عَن الانجلاء. فَإِن قلت: قَوْله: (ركع رَكْعَة) ، يدل على تكْرَار الرُّكُوع قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل المُرَاد كلما ركع رَكْعَتَيْنِ من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء على الْكل، وَهُوَ كثير فَلَا يقدر الْمُعْتَرض على رده.
الثَّالِث: فِي هَذَا الحَدِيث إبِْطَال مَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعتقدونه من تَأْثِير الْكَوَاكِب فِي الأَرْض، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَ أَن الْكُسُوف يُوجب حُدُوث تغير فِي الأَرْض من موت أَو ضَرَر، فَأعْلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه اعْتِقَاد بَاطِل، وَأَن الشَّمْس وَالْقَمَر خلقان مسخران لله تَعَالَى، لَيْسَ لَهما سُلْطَان فِي غَيرهمَا وَلَا قدرَة على الدّفع عَن أَنفسهمَا.
الرَّابِع: فِيهِ مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من الشَّفَقَة على أمته وَشدَّة الْخَوْف من آيَة الله تَعَالَى، عز وَجل. الْخَامِس: فِيهِ مَا يدل على أَن جر الثَّوْب لَا يذم إلاّ من قصد بِهِ الْخُيَلَاء، كَمَا صرح بذلك فِي غير هَذَا الحَدِيث. السَّادِس: فِيهِ الْمُبَادرَة إِلَى طَاعَة الله تَعَالَى، أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ قَامَ، وَهُوَ يجر رِدَاءَهُ مشتغلاً بِمَا نزل؟ السَّابِع: قَالُوا: وَفِيه دلَالَة على أَنه يجمع فِي(7/65)
خُسُوف الْقَمَر كَمَا يجمع فِي كسوف الشَّمْس، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأهل الحَدِيث، وَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد وَمَالك إِلَى أَن: لَيْسَ فِي خُسُوف الْقَمَر جمَاعَة. قلت: أَبُو حنيفَة لم ينف الْجَمَاعَة فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْجَمَاعَة فِيهِ غير سنة، بل هِيَ جَائِزَة وَذَلِكَ لتعذر اجْتِمَاع النَّاس من أَطْرَاف الْبَلَد بِاللَّيْلِ، وَكَيف وَقد ورد قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة) ؟ وَقَالَ مَالك: لم يبلغنَا، وَلَا أهل بلدنا، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع لكسوف الْقَمَر، وَلَا نقل عَن أحد من الْأَئِمَّة بعده أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع فِيهِ. وَنقل ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) عَن مَالك: لَيْسَ فِي كسوف الْقَمَر سنة وَلَا صَلَاة، وَقَالَ الْمُهلب: يُمكن أَن يكون تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالله أعلم، رَحْمَة للْمُؤْمِنين لِئَلَّا تَخْلُو بُيُوتهم بِاللَّيْلِ فيخطفهم النَّاس وَيَسْرِقُونَ، يدل على ذَلِك قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأم سَلمَة لَيْلَة نزُول التَّوْبَة على كَعْب بن مَالك وصاحبيه: (قلت لَهُ: أَلا أبشِّر النَّاس؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخْشَى أَن يخطفهم النَّاس) . وَفِي حَدِيث آخر: (أخْشَى أَن يمْنَع النَّاس نومهم) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ} (الْقَصَص: 37) . فَجعل السّكُون فِي اللَّيْل من النعم الَّتِي عَددهَا الله تَعَالَى على عباده، وَقد سمى ذَلِك رَحْمَة، وَقد قَالَ ابْن الْقصار: خُسُوف الْقَمَر يتَّفق لَيْلًا فَيشق الِاجْتِمَاع لَهُ، وَرُبمَا أدْرك النَّاس نياما فيثقل عَلَيْهِم الْخُرُوج لَهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَن يُقَاس على كسوف الشَّمْس، لِأَنَّهُ يدْرك النَّاس مستيقظين متصرفين، وَلَا يشق اجْتِمَاعهم كالعيدين وَالْجُمُعَة وَالِاسْتِسْقَاء. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: خسف الْقَمَر وَابْن عَبَّاس بِالْبَصْرَةِ، فصلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ فِي كل رَكْعَة رَكْعَتَانِ، فَلَمَّا فرغ خَطَبنَا: وَقَالَ: صليت بكم كَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِنَا. رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) وَذكره ابْن التِّين بِلَفْظ: (أَنه صلى فِي خُسُوف الْقَمَر ثمَّ خطب، وَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي لم ابتدع هَذِه الصَّلَاة بِدعَة، وَإِنَّمَا فعلت كَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل) . وَقد علمنَا أَنه صلاهَا فِي جمَاعَة لقَوْله: (خطب) لِأَن الْمُنْفَرد لَا يخْطب، وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي خُسُوف الشَّمْس أَربع رَكْعَات وَأَرْبع سَجدَات وَيقْرَأ فِي الأولى بالعنكبوت أَو الرّوم وَفِي الثَّانِيَة بيس) . قلت: أما رِوَايَة الْحسن فرواها الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَهُوَ ضَعِيف، وَقَول الْحسن: خَطَبنَا، لَا يَصح، فَإِن الْحسن لم يكن بِالْبَصْرَةِ لما كَانَ ابْن عَبَّاس بهَا. وَقيل: إِن هَذَا من تدليساته. وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فمستغرب. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من طَرِيق حبيب: (عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر ثَمَان رَكْعَات فِي أَربع سَجدَات) . قلت: فِي إِسْنَاده نظر، والْحَدِيث فِي مُسلم وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: الْقَمَر، وَالْعجب من شَيخنَا زين الدّين الْعِرَاقِيّ، رَحمَه الله، يَقُول: لم تثبت صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخسوف الْقَمَر بِإِسْنَاد مُتَّصِل، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس اللَّذين رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: وَرِجَال إسنادهما ثِقَات، وَلَكِن كَون رجالهما ثِقَات لَا يسْتَلْزم اتِّصَال الْإِسْنَاد. وَلَا نفي المدرج ,.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: مَا الْحِكْمَة فِي الْكُسُوف؟ وَالْجَوَاب:: مَا قَالَه أَبُو الْفرج: فِيهِ سبع فَوَائِد. الأول: ظُهُور التَّصَرُّف فِي الشَّمْس وَالْقَمَر. الثَّانِي: تَبْيِين قبح شَأْن من يعبدهما. الثَّالِث: إزعاج الْقُلُوب الساكنة بالغفلة عَن مسكن الذهول. الرَّابِع: ليرى النَّاس نموذج مَا سيجري فِي الْقِيَامَة من قَوْله: {وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} (الْقِيَامَة: 9) . الْخَامِس: أَنَّهُمَا يوجدان على حَال التَّمام فيركسان، ثمَّ يلطف بهما فيعادان إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ، فيشار بذلك إِلَى خوف الْمَكْر ورجاء الْعَفو. السَّادِس: أَن يفعل بهما صُورَة عِقَاب لمن لَا ذَنْب لَهُ. السَّابِع: أَن الصَّلَوَات المفروضات عِنْد كثير من الْخلق عَادَة لَا انزعاج لَهُم فِيهَا وَلَا وجود هَيْبَة، فَأتى بِهَذِهِ الْآيَة وسنت لَهما الصَّلَاة ليفعلوا صَلَاة على انزعاج وهيبة.
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِي رُؤْيَة الْأَهِلّة وحدوث الْحر وَالْبرد وكل مَا جرت الْعَادة بحدوثه من آيَات الله تَعَالَى فَمَا معنى قَوْله فِي الكسوفين: (أَنَّهُمَا آيتان) ؟ وَأجِيب: بِأَن: هَذِه الْحَوَادِث آيَات دَالَّة على وجوده، عز وَجل، وَقدرته. وَخص الكسوفين لإخباره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربه عز وَجل أَن الْقِيَامَة تقوم وهما منكوسان وذاهبا النُّور، فَلَمَّا أعلمهم بذلك أَمرهم عِنْد رُؤْيَة الْكُسُوف بِالصَّلَاةِ وَالتَّوْبَة خوفًا من أَن يكون الْكُسُوف لقِيَام السَّاعَة ليعتدوا لَهَا. وَقَالَ الْمُهلب: يحْتَمل أَن يكون هَذَا قبل أَن يُعلمهُ الله تَعَالَى بأشراط السَّاعَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْكُسُوف؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ تغير يخلقه الله تَعَالَى فيهمَا لأمر يشاؤه وَلَا يدْرِي مَا هُوَ، أَو يكون تخويفا للاعتبار بهما مَعَ عظم خلقهما، وكونهما عرضة للحوادث، فَكيف بِابْن آدم الضَّعِيف الْخلق؟ وَقيل: يحْتَمل أَن يكون الخسوف فيهمَا عِنْد تجلي الله سُبْحَانَهُ لَهما، وَفِي حَدِيث قبيصَة الْهِلَالِي عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: (أَن(7/66)
الشَّمْس وَالْقَمَر لَا يخسفان لمَوْت أحد، ولكنهما خلقان من خلقه فَإِن الله عز وَجل يحدث فِي خلقه مَا يَشَاء، وَإِن الله عز وَجل إِذا تجلى لشَيْء من خلقه خشع لَهُ) الحَدِيث: وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا} (الْأَعْرَاف: 341) . وَلأَهل الْحساب فِيهِ كَلَام كثير، أَكْثَره خباط. يَقُولُونَ: أما كسوف الشَّمْس فَإِن الْقَمَر يحول بَينهَا وَبَين النّظر، وَأما كسوف الْقَمَر فَإِن الشَّمْس تخلع نورها عَلَيْهِ، فَإِذا وَقع فِي ظلّ الأَرْض لم يكن لَهُ نور بِحَسب مَا تكون لَهُ الْمُقَابلَة، وَيكون الدُّخُول فِي ظلّ الأَرْض يكون الْكُسُوف من كل أَو بعض. قَالُوا: وَهَذَا أَمر يدل عَلَيْهِ الْحساب وَيصدق فِيهِ الْبُرْهَان، ورد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم قَالُوا بالبرهان: إِن الشَّمْس أَضْعَاف الْقَمَر فِي الجرمية بِالْعقلِ، فَكيف يحجب الصَّغِير الْكَبِير إِذا قابله وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ عشرَة؟ وَأَيْضًا إِن الشَّمْس إِذا كَانَت تعطيه نورها، فَكيف يحجب نورها ونوره من نورها؟ هَذَا خباط، وَأَيْضًا: قُلْتُمْ: إِن الشَّمْس أكبر من الأَرْض بتسعين ضعفا أَو نَحْوهَا، وقلتم: إِن الْقَمَر أكبر مِنْهَا بِأَقَلّ من ذَلِك، فَكيف يَقع الْأَعْظَم فِي ظلّ الْأَصْغَر، وَكَيف تحجب الأَرْض نور الشَّمْس، وَهِي فِي زَاوِيَة مِنْهَا. وَأَيْضًا فالشمس لَهَا فلك ومجرى، وَلَا خلاف أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مَحْدُود وَمَعْلُوم لَا يعدو مجْرَاه، كل يَوْم إِلَى مثله من الْعَام، فيجتمعان ويتقابلان، فَلَو كَانَ الْكُسُوف لوُقُوعه فِي ظلّ الأَرْض فِي وَقت لَكَانَ ذَلِك الْوَقْت محدودا مَعْلُوما، لِأَن المجرى مِنْهُمَا مَحْدُود مَعْلُوم، فَلَمَّا كَانَ تَأتي الْأَوْقَات الْمُخْتَلفَة والجري وَاحِدًا والحساب وَاحِدًا علم قطعا فَسَاد قَوْلهم.
1401 - حدَّثنا شِهَابُ بنُ عَبَّادٍ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حُمَيْدٍ عنِ اسمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الشمْسَ والقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ ولاكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آياتِ الله فإذَا رَأيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصلُّوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: شهَاب بن عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الْعَبْدي الْكُوفِي، من شُيُوخ مُسلم أَيْضا. وَلَهُم شيخ آخر يُقَال لَهُ: شهَاب بن عباد الْعَبْدي، لكنه بَصرِي، وَهُوَ أقدم من الْكُوفِي فِي طبقَة شُيُوخ شُيُوخه، روى لَهُ البُخَارِيّ وَحده فِي (الْأَدَب الْمُفْرد) . الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن حميد، بِضَم الْحَاء: الرواسِي، بِضَم الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة: الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَقد مر. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم، وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، لِأَنَّهُ من مَاء بدر وَلم يشْهد بَدْرًا وَسكن الْكُوفَة، مَاتَ أَيَّام عَليّ بن أبي طَالب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: إِن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكُسُوف عَن مُسَدّد عَن يحيى وَفِي بَدْء الْخلق عَن أبي مُوسَى عَن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الخسوف عَن يحيى بن يحيى وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (آيتان) أَي: علامتان من آيَات الله الدَّالَّة على وحدانيته وعظيم قدرته أَو: آيتان على تخويف عباده من بأسه وسطوته، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} أَو آيتان لقرب الْقِيَامَة أَو لعذاب الله تَعَالَى، أَو لِكَوْنِهِمَا مسخرين لقدرة الله وَتَحْت حكمه، وأصل آيَة: أويه، بِالتَّحْرِيكِ، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَوضِع الْعين من الْآيَة: وَاو، لِأَن مَا كَانَ مَوضِع الْعين وَاللَّام: يَاء، أَكثر مِمَّا مَوضِع الْعين وَاللَّام فِيهِ ياءان، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ: أووي، قَالَ الْفراء: هِيَ من الْفِعْل فاعلة، وَإِنَّمَا ذهب مِنْهُ اللَّام، وَلَو جَاءَت تَامَّة لجاءت آيية، وَلكنهَا خففت، وَجمع الْآيَة: آي وأيائي وآيات. قَوْله: (فَإِذا رأيتموهما) ، بتثنية الضَّمِير رِوَايَة الْكشميهني، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (فَإِذا رأيتموها) ، بتوحيد الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْآيَة الَّتِي يدل عَلَيْهَا، قَوْله: (آيتان) ، أَو الْآيَات، وَالْمعْنَى على الأول: إِذا رَأَيْتُمْ كسوف كل مِنْهُمَا، لِاسْتِحَالَة وُقُوع ذَلِك فيهمَا مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة عَادَة، وَإِن كَانَ جَائِزا فِي الْقُدْرَة الإلهية. قَوْله: (فَقومُوا فصلوا) : أَمر(7/67)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث بِالصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: ذكر سِتَّة أَشْيَاء عَامَّة وخاصة، اذْكروا الله ادعوا كبروا صلوا تصدقوا أعتقوا، أما ذكر الله فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاذكروا الله) ، وَأما التَّكْبِير فَفِي حَدِيث عَائِشَة فِي (الصَّحِيح) (فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فَادعوا الله عز وَجل وَكَبرُوا) . وَأما الصَّلَاة فَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأما الصَّدَقَة فَفِي حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور. وَفِيه: (وتصدقوا) ، وأماالعتق فَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعتاقة فِي صَلَاة الْكُسُوف. وَقَوله: (صلوا) مُجمل وَبَينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفِعْلِهِ فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة.
2401 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وعنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القَاسِمِ حدَّثَهُ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ يُخْبِرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ وَلاكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله فإذَا رَأيْتُمُوهما فَصَلّوا.
(الحَدِيث 2401 طرفه فِي: 1023) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة: ابْن الْفرج أَبُو عبد الله الْمصْرِيّ. الثَّانِي: عبد الله ابْن وهب الْمصْرِيّ. الثَّالِث: عَمْرو بن الْحَارِث الْمصْرِيّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الْخَامِس: أَبوهُ الْقَاسِم. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: من الروَاة الثَّلَاثَة الأول مصريون والبقية مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن يحيى بن سُلَيْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يخسفان) ، بِفَتْح أَوله وَيجوز الضَّم، وَحكى ابْن الصّلاح مَنعه وَلم يبين وَجه الْمَنْع. قَوْله: (وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَي: وَلَا يخسفان لحياة أحد. فَإِن قلت: الحَدِيث ورد فِي حق من ظن أَن ذَلِك لمَوْت إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى ابْن خُزَيْمَة وَالْبَزَّار من طَرِيق نَافِع (عَن ابْن عمر قَالَ: خسفت الشَّمْس يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم) ، الحَدِيث فَإِذا كَانَ السِّيَاق إِنَّمَا هُوَ فِي موت إِبْرَاهِيم فَمَا فَائِدَة قَوْله: (وَلَا لِحَيَاتِهِ) إِذا لم يقل أحد بِأَن الانكساف لحياة أحد؟ قلت: فَائِدَته دفع توهم من يَقُول: لَا يلْزم من نفي كَونه سَببا للفقدان أَن لَا يكون سَببا للإيجاد، فعمم الشَّارِع النَّفْي أَي لَيْسَ سَببه لَا الْمَوْت وَلَا الْحَيَاة، بل سَببه قدرَة الله تَعَالَى.
3401 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هاشِمُ بنُ القاسِمِ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ زِيادِ بنِ عِلاَقَةَ عنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ كسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ ماتَ إبْرَاهِيمُ فقالَ الناسُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذا رَأيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ.
(3401 طرفان فِي: 0601، 9916) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: هَاشم بن الْقَاسِم أَبُو النَّضر اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي، خراساني سكن بَغْدَاد وَتُوفِّي بهَا غرَّة ذِي الْقعدَة سنة سبع وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: شَيبَان بن مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ، مر فِي كتاب الْعلم. الرَّابِع: زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن علاقَة، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وبالقاف، مر فِي آخر كتاب الْإِيمَان. الْخَامِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن أحد رُوَاته بخاري ويلقب بالمسندي لِأَنَّهُ كَانَ وَقت الطّلب يتتبع الْأَحَادِيث المسندة وَلَا يرغب فِي المقاطيع والمراسيل. وَالثَّانِي: خراساني بغدادي، وَالثَّالِث بَصرِي كُوفِي، وَالرَّابِع كُوفِي.
ذكر تعدد(7/68)
مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي (الْأَدَب) عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ عَن زَائِدَة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم) يَعْنِي ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر جُمْهُور أهل السّير أَنه مَاتَ فِي السّنة الْعَاشِرَة من الْهِجْرَة، قيل: فِي ربيع الأول، وَقيل: فِي رَمَضَان. وَقيل: فِي ذِي الْحجَّة، وَالْأَكْثَر على أَنَّهَا وَقعت فِي عَاشر الشَّهْر، وَقيل: فِي رابعه، وَقيل: فِي رَابِع عشره، وَلَا يَصح شَيْء مِنْهَا على قَول ذِي الْحجَّة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذْ ذَاك بِمَكَّة فِي الْحَج، وَقد ثَبت أَنه شهد وَفَاته وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف فلعلها كَانَت فِي آخر الشَّهْر. فَإِن قلت: الْكُسُوف فِي الشَّمْس إِنَّمَا يكون فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين أَو التَّاسِع وَالْعِشْرين من آخر الشَّهْر الْعَرَبِيّ، فَكيف تكون وَفَاته فِي الْعَاشِر؟ قلت: هَذَا التَّارِيخ يَحْكِي عَن الْوَاقِدِيّ، وَهُوَ ذكر ذَلِك بِغَيْر إِسْنَاد، فقد تكلمُوا فِيمَا يسْندهُ الْوَاقِدِيّ، فَكيف فِيمَا يُرْسِلهُ؟ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي بَاب مَا يحول على جَوَاز الِاجْتِمَاع للعيد وللخسوف لجَوَاز وُقُوع الخسوف فِي الْعَاشِر، ثمَّ رُوِيَ عَن الْوَاقِدِيّ مَا ذَكرْنَاهُ عَن تَارِيخ وَفَاة إِبْرَاهِيم. وَقَالَ الذَّهَبِيّ، فِي (مُخْتَصر السّنَن) : لم يَقع ذَلِك وَلنْ يَقع، وَالله قَادر على كل شَيْء، لَكِن امْتنَاع وُقُوع ذَلِك كامتناع رُؤْيَة الْهلَال لَيْلَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من الشَّهْر، وَأم إِبْرَاهِيم مَارِيَة الْقبْطِيَّة، ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان، وَتُوفِّي وعمره ثَمَانِيَة عشر شهرا، هَذَا هُوَ الْأَشْهر. وَقيل: سِتَّة عشر شهرا. وَقيل: سَبْعَة عشر شهرا وَثَمَانِية أَيَّام. وَقيل: سنة وَعشرَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام، وَدفن بِالبَقِيعِ. قَوْله: (فَإِذا رَأَيْتُمْ) ، مَفْعُوله مَحْذُوف تَقْدِيره إِذا رَأَيْتُمْ شَيْئا من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك.
2 - (بابُ الصَّدَقَةِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّدَقَة فِي حَالَة الْكُسُوف، ذكر البُخَارِيّ فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث فِي ثَلَاثَة مِنْهَا الْأَمر بِمُجَرَّد الصَّلَاة من غير بَيَان هيئتها، وَذكر الحَدِيث الْوَاحِد الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بكرَة مُبينًا بِرَكْعَتَيْنِ، ثمَّ ذكر فِي هَذَا الْبَاب هَيْئَة لصَلَاة الْكُسُوف غير هَيْئَة ذَاك، وَالظَّاهِر أَن تَقْدِيمه حَدِيث أبي بكرَة على غَيره لميله إِلَيْهِ لموافقته الْقيَاس.
4401 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مالِكٍ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أنَّهَا قالَتْ خَسفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّاسِ فَقَامَ فأطَالَ القِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فأطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قامَ فأطَالَ القِيامَ وَهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فأطَالَ الرُكُوعَ وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ فأطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأولَى ثُمَّ انْصَرَفَ وقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فإذَا رأيْتُمْ ذالِكَ فادْعُوا الله وكبِّرُوا وَصَلُّوا وتَصَدَّقُوا ثُمَّ قالَ يَا أمَّةَ مُحَمَّدٍ وَالله مَا مِنْ أحَدٍ أغْيَرُ مِنَ الله أنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أوْ تَزْنِي أمتُهُ يَا أمَّةَ مُحَمَّدٍ وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتصدقوا) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك مُخْتَصرا على قَوْله: (الشَّمْس وَالْقَمَر لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فادعو الله عز وَجل وَكَبرُوا وتصدقوا) وَاعْلَم أَن صَلَاة الْكُسُوف رويت على أوجه كَثِيرَة ذكر أَبُو دَاوُد مِنْهَا جملَة، وَذكر البُخَارِيّ وَمُسلم جملَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه كَذَلِك.
وَقَالَ الْخطابِيّ: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا الْبَاب، فَروِيَ أَنه: ركع رَكْعَتَيْنِ فِي أَربع ركوعات وَأَرْبع سَجدَات، وَرُوِيَ أَنه: ركعهما فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات، وَرُوِيَ(7/69)
أَنه: ركع رَكْعَتَيْنِ فِي سِتّ ركوعات وَأَرْبع سَجدَات، وَرُوِيَ إِنَّه ركع رَكْعَتَيْنِ فِي عشر ركوعات وَأَرْبع سَجدَات، وَقد ذكر أَبُو دَاوُد أنواعا مِنْهَا، وَيُشبه أَن يكون الْمَعْنى فِي ذَلِك أَنه صلاهَا مَرَّات وكرات، وَكَانَ إِذا طَالَتْ مُدَّة الْكُسُوف مد فِي صلَاته، وَزَاد فِي عدد الرُّكُوع، وَإِذا قصرت نقص من ذَلِك وحذا بِالصَّلَاةِ حذوها، وكل ذَلِك جَائِز يُصَلِّي على حسب الْحَال وَمِقْدَار الْحَاجة فِيهِ.
ذكر مَا فِيهِ من الْمَعْنى واستنباط الْأَحْكَام: قَوْله: (فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي زَمَنه. قَوْله: (فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحافظ على الْوضُوء، فَلهَذَا لم يحْتَج إِلَى الْوضُوء فِي تِلْكَ الْحَال. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَن السِّيَاق حذفا لِأَن فِي رِوَايَة ابْن شهَاب (خسفت فَخرج إِلَى الْمَسْجِد فَصف النَّاس وَرَاءه) . وَفِي رِوَايَة عمْرَة: (فخسفت فَرجع ضحى فَمر بَين الْحجر ثمَّ قَامَ يُصَلِّي) . قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على الْوضُوء أَو لم يكن، وَلَكِن حَاله يَقْتَضِي وجلالة قدره تستدعي كَونه على مُحَافظَة الْوضُوء. قَوْله: (فَأطَال الْقيام) أَي: يطول الْقِرَاءَة فِيهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة ابْن شهَاب: (فاقترأ قِرَاءَة طَوِيلَة) ، وَمن وَجه آخر عَنهُ: (فَقَرَأَ سُورَة طَوِيلَة) ، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس على مَا سَيَأْتِي: (فَقَرَأَ نَحوا من سُورَة الْبَقَرَة فِي الرَّكْعَة الأولى) ، وَنَحْوه لأبي دَاوُد من طَرِيق سُلَيْمَان بن يسَار عَن عُرْوَة، وَزَاد أَنه قَرَأَ فِي الْقيام الأول من الرَّكْعَة الثَّانِيَة نَحوا من آل عمرَان، وَعند الشَّافِعِيَّة يستفتح الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة الأولى وَالثَّانيَِة بِأم الْقُرْآن، وَأما الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة فَيقْرَأ بهَا أَيْضا عِنْدهم، وَعند مَالك يقْرَأ السُّورَة، وَفِي الْفَاتِحَة قَولَانِ: قَالَ مَالك: نعم، وَقَالَ ابْن مسلمة: لَا. قَوْله: (ثمَّ قَامَ فَأطَال الْقيام) وَفِي رِوَايَة ابْن شهَاب: (ثمَّ قَالَ: سمع الله لمن حَمده) ، وَزَاد من وَجه آخر: (رَبنَا وَلَك الْحَمد) ، وَقيل: اسْتدلَّ بِهِ على اسْتِحْبَاب الذّكر الْمَشْرُوع فِي الِاعْتِدَال فِي أول الْقيام الثَّانِي من الرَّكْعَة الأولى وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتَشْكَلَهُ بعض متأخري الشَّافِعِيَّة من جِهَة كَونه قيام قِرَاءَة لَا قيام اعْتِدَال، بِدَلِيل اتِّفَاق الْعلمَاء مِمَّن قَالَ بِزِيَادَة الرُّكُوع فِي كل رَكْعَة على قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِيهِ. قلت: هَذَا المستشكل هُوَ صَاحب الْمُهِمَّات، وَقَوله بِدَلِيل اتِّفَاق الْعلمَاء فِيهِ نظر، لِأَن مُحَمَّد بن مسلمة من الْمَالِكِيَّة مِمَّن قَالَ بِزِيَادَة الرُّكُوع فِي كل رَكْعَة، وَلم يقل بِقِرَاءَة الْفَاتِحَة كَمَا قُلْنَا عَن قريب. وَأجَاب عَن ذَلِك شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين الْعِرَاقِيّ، رَحمَه الله بقوله: فَفِي استشكاله نظر لصِحَّة الحَدِيث فِيهِ، بل لَو زَاد الشَّارِع عَلَيْهِ ذكرا آخر لما كَانَ مستشكلاً. قَوْله: (وَهُوَ دون الْقيام الأول) أَرَادَ بِهِ أَن الْقيام الأول أطول من الثَّانِي فِي الرَّكْعَة الأولى، وَأَرَادَ أَن الْقيام فِي الثَّانِيَة دون الْقيام الأول فِي الأولى، وَالرُّكُوع الأول فِيهَا دون الرُّكُوع الأول فِي الأولى. وَأَرَادَ بقوله: فِي الْقيام الثَّانِي فِي الثَّانِيَة أَنه دون الْقيام الأول فِيهَا، وَكَذَلِكَ رُكُوعه الثَّانِي فِيهَا دون رُكُوعه الأول فِيهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اتَّفقُوا على أَن الْقيام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي من الأولى أقصر من الْقيام الأول وَالرُّكُوع، وَكَذَا الْقيام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي من الثَّانِيَة أقصر من الأول مِنْهُمَا من الثَّانِيَة. وَاخْتلفُوا فِي الْقيام الأول وَالرُّكُوع الأول من الثَّانِيَة، هَل هما أقصر من الْقيام الثَّانِي وَالرُّكُوع الثَّانِي من الرَّكْعَة الأولى؟ وَيكون هَذَا معنى قَوْله: وَهُوَ دون الْقيام الأول، وَدون الرُّكُوع الأول، أم يكونَانِ سَوَاء وَيكون قَوْله: دون الْقيام أَو الرُّكُوع الأول أَي أول قيام وَأول رُكُوع؟ قَوْله: (ثمَّ ركع فَأطَال الرُّكُوع) يَعْنِي أَنه خَالف بِهِ عَادَته فِي سَائِر الصَّلَوَات كَمَا فِي الْقيام وَقَالَ مَالك: وَيكون رُكُوعه نَحوا من قِيَامه وقراءته. قَوْله: (ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود) ، وَهُوَ ظَاهر فِي تطويله، قَالَ أَبُو عمر عَن مَالك: لم أسمع أَن السُّجُود يطول فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَرَأَتْ فرقة من أهل الحَدِيث تَطْوِيل السُّجُود فِي ذَلِك. قلت: حكى التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه يُقيم فِي كل سَجْدَة من الرَّكْعَة الأولى نَحوا مِمَّا قَامَ فِي رُكُوعه، وَقَالَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة: ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ وَلم يصف مِقْدَار إِقَامَته فيهمَا، فَيحْتَمل أَن يُرِيد مثل مَا تقدم فِي سُجُود الرَّكْعَة الأولى، وَيحْتَمل أَنه كسجود سَائِر الصَّلَوَات، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَهل يطول السُّجُود فِي هَذِه الصَّلَاة؟ فِيهِ قَولَانِ، وَيُقَال: وَجْهَان: أظهرهمَا: لَا، كَمَا لَا يزِيد فِي التَّشَهُّد وَلَا يطول الْقعدَة بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَالثَّانِي: وَبِه قَالَ ابْن شُرَيْح: نعم، ويحكى عَن الْبُوَيْطِيّ: وَقد صحّح النَّوَوِيّ خِلَافه فِي (الرَّوْضَة) فَقَالَ: الصَّحِيح الْمُخْتَار أَنه يطول، وَكَذَا صَححهُ فِي (شرح الْمُهَذّب) وَفِي (الْمِنْهَاج) من زياداته، وَاقْتصر فِي (تَصْحِيح التَّنْبِيه على الْمُخْتَار) قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ زين الدّين،: إِن قُلْنَا بتطويل السُّجُود فِي صَلَاة الْكُسُوف فَمَا مِقْدَار الْإِقَامَة فِيهِ؟ فَالَّذِي ذكره التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ تامتين، وَيُقِيم فِي كل سَجْدَة نَحوا مماأقام فِي رُكُوعه، وَهِي رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَيْضا إلاّ أَنه زَاد بعد. قَوْله: (تامتين(7/70)
طويلتين) وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (وَقد تجلت الشَّمْس) أَي: انكشفت، وَفِي رِوَايَة ابْن شهَاب، (وَقد انجلت الشَّمْس قبل أَن ينْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة: (ثمَّ تشهد وَسلم) . قَوْله: (فَخَطب النَّاس) صَرِيح فِي إستحبابها، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَابْن جرير وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث، وَتَكون بعد الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَا خطْبَة فِيهَا، قَالُوا: لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم بِالصَّلَاةِ وَالتَّكْبِير وَالصَّدَََقَة، وَلم يَأْمُرهُم بِالْخطْبَةِ، وَلَو كَانَت سنة لأمرهم بهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاة كَانَ يَفْعَلهَا الْمُنْفَرد فِي بَيته فَلم يشرع لَهَا خطْبَة، وَإِنَّمَا خطب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الصَّلَاة ليعلمهم حكمهَا وَكَأَنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ، وَقيل: خطب بعْدهَا لَا لَهَا، بل ليردهم عَن قَوْلهم: إِن الشَّمْس كسفت لمَوْت إِبْرَاهِيم، كَمَا فِي الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: وَالْعجب أَن مَالِكًا روى حَدِيث هِشَام هَذَا، وَفِيه التَّصْرِيح بِالْخطْبَةِ، وَلم يقل بِهِ أَصْحَابه؟ قلت: لَيْسَ بعجب ذَلِك، فَإِن مَالِكًا وَإِن كَانَ قد رَوَاهَا فِيهِ وعللها بِمَا قُلْنَا فَلم يقل بهَا، وَتَبعهُ أَصْحَابه فِيهَا. قَوْله: (فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ) زَاد النَّسَائِيّ فِي حَدِيث سَمُرَة: (وَيشْهد أَنه عبد الله وَرَسُوله) . قَوْله: (فَادعوا الله) رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فاذكروا الله) . قَوْله: (أغير) أفعل التَّفْضِيل من الْغيرَة، وَهِي تغير يحصل من الحمية والأنفة، وَأَصلهَا فِي الزَّوْجَيْنِ والأهلين، وكل ذَلِك مخال على الله عز وَجل، وَهُوَ مجَاز مَحْمُول على غَايَة إِظْهَار غَضَبه على الزَّانِي. قيل: لما كَانَت ثَمَرَة الْغيرَة صون الْحَرِيم ومنعهم وزجرهم من يقصدهم وزجر من يقْصد إِلَيْهِم، أطلق ذَلِك لكَونه منع من فعل ذَلِك وزجر فَاعله وتوعده، فَهُوَ من بَاب تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن فورك: الْمَعْنى: مَا أحد أَكثر زجرا عَن الْفَوَاحِش من الله تَعَالَى. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: أهل التَّنْزِيه فِي مثل هَذَا على قَوْلَيْنِ: إِمَّا سَاكِت وَإِمَّا مؤول، على أَن المُرَاد من الْغيرَة شدَّة الْمَنْع والحماية، وَقيل: مَعْنَاهُ لَيْسَ أحدا منع من الْمعاصِي من الله وَلَا أَشد كَرَاهَة لَهَا مِنْهُ. قلت: يجوز أَن يكون هَذَا اسْتِعَارَة مصرحة تَبَعِيَّة قد شبه حَال مَا يفعل الله مَعَ عَبده الزَّانِي من الانتقام وحلول الْعقَاب بِحَالَة مَا يَفْعَله العَبْد لعَبْدِهِ الزَّانِي من الزّجر وَالتَّعْزِير. فَإِن قلت: كَيفَ إِعْرَاب: أغير؟ قلت: بِالنّصب خبر: مَا، النافية، وَيجوز الرّفْع على أَن يكون خَبرا للمبتدأ، أَعنِي قَوْله: (أحد) . وَكلمَة: من، زَائِدَة لتأكيد الْعُمُوم. وَقَوله: (أَن يَزْنِي) يتَعَلَّق بأغير، وَحذف الْجَار وَهِي: فِي، أَو: على فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص العَبْد وَالْأمة بِالذكر؟ قلت: رِعَايَة لحسن الْأَدَب مَعَ الله تَعَالَى لتنزهه عَن الزَّوْجَة والأهل مِمَّن تعلق بهم الْغيرَة غَالِبا. فَإِن قلت: مَا وَجه اتِّصَال هَذَا الْكَلَام بِمَا قبله من قَوْله: (فاذكروا الله) إِلَى آخِره؟ قلت: قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْمُنَاسبَة من جِهَة أَنهم لما أمروا باستدفاع الْبلَاء بِالذكر وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة ناسب ردعهم عَن الْمعاصِي الَّتِي هِيَ من أَسبَاب جلب الْبلَاء، وَخص مِنْهَا الزِّنَا لِأَنَّهُ أعظمها فِي ذَلِك. وَقيل: لما كَانَت هَذِه الْمعْصِيَة من أقبح الْمعاصِي وأشدها تَأْثِيرا فِي إثارة النُّفُوس وَغَلَبَة الْغَضَب، ناسب ذَلِك تخويفهم فِي هَذَا الْمقَام من مُؤَاخذَة رب الْغيرَة وخالقها. قَوْله: (يَا أمة مُحَمَّد) قيل: فِيهِ معنى الإشفاق كَمَا يُخَاطب الْوَالِد وَلَده، إِذا أشْفق عَلَيْهِ بقوله: (يَا بني) قلت: لَيْسَ هَذَا مثل الْمِثَال الَّذِي ذكره، فَلَو كَانَ قَالَ: يَا أمتِي، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَكَانَ من هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا هَذَا يشبه أَن يكون من بَاب التَّجْرِيد، كَأَنَّهُ أبعدهم عَنهُ فخاطبهم بِهَذَا الْخطاب، لِأَن الْمقَام مقَام التخويف والتحذير. قَوْله: (وَالله لَو تعلمُونَ) أَي: من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وَشدَّة عِقَابه وأهوال الْقِيَامَة وَأَحْوَالهَا كَمَا عَلمته لما ضحكتم أصلا، إِذْ الْقَلِيل بِمَعْنى العديم على مَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاق، فَإِن قلت: لَا يرتاب فِي صدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم صدر كَلَامه بقوله (وَالله) فِي الْمَوْضِعَيْنِ؟ قلت: لإِرَادَة التَّأْكِيد لخبره، وَإِن كَانَ لَا يشك فِيهِ، لِأَن الْمقَام مقَام الْإِنْكَار عَمَّا يَلِيق فعله فَيَقْتَضِي التَّأْكِيد. وَقيل: معنى هَذَا الْكَلَام: لَو علمْتُم من سَعَة رَحْمَة الله وحلمه ولطفه وَكَرمه مَا أعلم لبكيتم على مَا فاتكم من ذَلِك. وَقيل: إِنَّمَا خص نَفسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعلم لَا يُعلمهُ غَيره لِأَنَّهُ لَعَلَّه أَن يكون مَا رَآهُ فِي عرض الْحَائِط من النَّار، وَرَأى فِيهَا منْظرًا شَدِيدا لَو علمت أمته من ذَلِك مَا علم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ ضحكهم قَلِيلا وبكاؤهم كثيرا، إشفاقا وخوفا. وَقد حكى ابْن بطال عَن الْمُهلب: أَن سَبَب ذَلِك مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَار من محبَّة اللَّهْو والغناء، وَأَطْنَبَ فِيهِ ورد عَلَيْهِ ذَلِك بِأَنَّهُ قَول بِلَا دَلِيل وَلَا حجَّة فِي تخصيصهم بذلك والقضية كَانَت فِي أَوَاخِر زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَثْرَة الْأَصْنَاف من الْخَلَائق فِي الْمَدِينَة يَوْمئِذٍ.(7/71)
وَفِي الحَدِيث فَوَائِد أُخْرَى: فِيهِ: الْمُبَادرَة بِالصَّلَاةِ وَالذكر وَالتَّكْبِير وَالصَّدَََقَة عِنْد وُقُوع كسوف وخسوف وَنَحْوهمَا من زَلْزَلَة وظلمة شَدِيدَة وريح عاصف، وَنَحْو ذَلِك من الْأَهْوَال. وَفِيه: الزّجر عَن كَثْرَة الضحك والتحريض على كَثْرَة الْبكاء. وَفِيه: الرَّد على من زعم أَن للكواكب تَأْثِيرا فِي حوادث الأَرْض، على مَا ذكرنَا. وَفِيه: اهتمام الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بِنَقْل أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقتدي بِهِ فِيهَا. وَفِيه: الْأَمر بِالدُّعَاءِ والتضرع فِي سُؤَاله. وَفِيه: التحريض على فعل الْخيرَات وَلَا سِيمَا الصَّدَقَة الَّتِي نَفعهَا مُتَعَدٍّ. وَفِيه: عظة الإِمَام عِنْد الْآيَات وَأمرهمْ بأعمال الْبر. وَفِيه: أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ وَلَكِن على هَيْئَة مَخْصُوصَة من تَطْوِيل زَائِد فِي الْقيام وَغَيره على الْعَادة من زِيَادَة رُكُوع فِي كل رَكْعَة، وَقَالَ بَعضهم: الْأَخْذ بِهَذَا أولى من إلغائها، وَبِذَلِك قَالَ جُمْهُور أهل الْعلم من أهل الْفتيا، وَقد وَافق عَائِشَة على ذَلِك عبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر، وَمثله عَن أَسمَاء بنت أبي بكر وَعَن جَابر عِنْد مُسلم، وَعَن عَليّ عِنْد أَحْمد، وَعَن أبي هُرَيْرَة عِنْد النَّسَائِيّ، وَعَن ابْن عمر عِنْد الْبَزَّار، وَعَن أم سُفْيَان عِنْد الطَّبَرَانِيّ. قلت: لِمَ سكت هَذَا الْقَائِل عَن: حَدِيث: أبي بكرَة الَّذِي صَدره البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ؟ وَحَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) ، وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة عِنْد مُسلم، وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عِنْد الْأَرْبَعَة، وَحَدِيث النُّعْمَان بن بشير عِنْد الطَّحَاوِيّ، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عِنْده أَيْضا وَعند أبي دَاوُد وَأحمد، وَحَدِيث قبيصَة الْهِلَالِي عِنْد أبي دَاوُد، وَقد ذكرنَا جَمِيع ذَلِك مستقصىً،؟ فأحاديث هَؤُلَاءِ كلهَا تدل على أَن: صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ كَهَيئَةِ النَّافِلَة من غير الزِّيَادَة على ركوعين. فَإِن قلت: أَحَادِيث هَؤُلَاءِ غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنَّهَا تدل على أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، والخصم قَائِل بِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَنْفِي مَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم من الزِّيَادَة؟ قلت: فِي أَحَادِيثهم نَص على الرَّكْعَتَيْنِ مُطلقًا، وَالْمُطلق ينْصَرف إِلَى الْكَامِل وَهِي الصَّلَاة الْمَعْهُودَة من غير الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة، مَعَ أَنهم لم يَقُولُوا بإلغاء تِلْكَ الزِّيَادَة، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لموافقته الْقيَاس، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ (عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول: فرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع صلوَات: صَلَاة الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَصَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاة الْمَنَاسِك رَكْعَتَيْنِ) . وَقد قرنت صَلَاة الْكُسُوف بِصَلَاة السّفر وَصَلَاة الْمَنَاسِك، وَفِي رَكْعَة كل وَاحِدَة مِنْهُمَا رُكُوع وَاحِد بِلَا خلاف، فَكَذَلِك صَلَاة الْكُسُوف، وَلَا سِيمَا على قَول من يَقُول: إِن الْقُرْآن فِي النّظم يُوجب الْقُرْآن فِي الحكم، فَإِن قَالُوا: الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة ثبتَتْ فِي رِوَايَة الْحفاظ الثِّقَات فَوَجَبَ قبُولهَا وَالْعَمَل بهَا. قُلْنَا: قد ثَبت عِنْد مُسلم عَن عَائِشَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات، وَعِنْده عَن ابْن عَبَّاس: أَن فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات، وَعند أبي دَاوُد عَن أبي بن كَعْب وَعند الْبَزَّار عَن عَليّ: أَن فِي كل رَكْعَة خمس ركوعات، فَمَا كَانَ جوابهم فِي هَذِه فَهُوَ جَوَابنَا فِي تِلْكَ، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن صَاحب (الْهدى) أَنه نقل عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَالْبُخَارِيّ أَنهم: كَانُوا يعدون الزِّيَادَة على الركوعين فِي كل رَكْعَة غَلطا من بعض الروَاة. قلت: يَنْبَغِي أَن لَا يُؤَاخذ بِهَذَا لِأَنَّهُ ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) ثَلَاث ركوعات وَأَرْبع ركوعات، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
3 - (بابُ النِّدَاءِ بِالصَّلاَةِ جامِعَةً فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمُنَادِي لصَلَاة الْكُسُوف: الصَّلَاة جَامِعَة، بِالنّصب فيهمَا على الْحِكَايَة فِي لفظ الصَّلَاة، وحروف الْجَرّ لَا يظْهر عَملهَا فِي بَاب الْحِكَايَة، ومعمولها مَحْذُوف، تَقْدِيره: بَاب النداء بقوله الصَّلَاة جَامِعَة، أَي: حَال كَونهَا جَامِعَة. وَقَالَ بَعضهم: أَي أحضروا الصَّلَاة فِي كَونهَا جمَاعَة. قلت: لَا يَصح هَذَا، لِأَن الصَّلَاة لَيست بِجَمَاعَة، وَإِنَّمَا هِيَ جَامِعَة للْجَمَاعَة، وَيقدر: أحضروا الصَّلَاة حَال كَونهَا جَامِعَة للْجَمَاعَة، وَهُوَ من الْأَحْوَال الْمقدرَة، وَيجوز أَن يرفع بِالصَّلَاةِ، وجامعة أَيْضا فَالصَّلَاة على الِابْتِدَاء وجامعة على الْخَبَر، على تَقْدِير: جَامِعَة للْجَمَاعَة، وَقَالَ بَعضهم: وَقيل جَامِعَة، صفة وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي: احضروا. قلت: هَذَا أَيْضا لَا يَصح، لِأَن الصَّلَاة معرفَة، وجامعة نكرَة، فَلَا تقع صفة للمعرفة لاشْتِرَاط التطابق بَين الصّفة والموصوف.(7/72)
5401 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ صالِحٍ قَالَ حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ سَلاَّمِ بنِ أبي سَلاَّمٍ الحَبَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ أبي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبرنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الراحْمانِ بنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُودِيَ إنَّ الصَّلاَةَ جامِعَةٌ.
(الحَدِيث 5401 طرفه فِي: 1501) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق هُوَ: إِسْحَاق بن مَنْصُور على زعم أبي عَليّ الجياني وَقيل: إِنَّه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه على زعم أبي نعيم. الثَّانِي: يحيى بن صَالح الوحاظي. الثَّالِث: مُعَاوِيَة بن سَلام بن أبي سَلام، بتَشْديد اللَّام فيهمَا، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير، وَقد مر غير مرّة. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد عَن شَيْخه إِسْحَاق. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع عَن يحيى بن صَالح. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن مُعَاوِيَة وَعَن يحيى بن أبي كثير. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن أبي سَلمَة وَفِي رِوَايَة حجاج الصَّواف عَن يحيى: حَدثنَا أَبُو سَلمَة حَدثنِي عبد الله، أخرجه ابْن خُزَيْمَة، وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه قد ذكره من غير نِسْبَة. وَفِيه: أَن يحيى بن صَالح شَيْخه أَيْضا روى عَنهُ بِلَا وَاسِطَة فِي: بَاب مَا إِذا كَانَ الثَّوْب ضيقا، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة إِسْحَاق. وَفِيه: أَن مُعَاوِيَة ذكر بنسبتين: أحداهما: بقوله: الحبشي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة: مَنْسُوب إِلَى بِلَاد الْحَبَش، وَقَالَ ابْن معِين: الْحَبَش حَيّ من حمير، وَقَالَ الْأصيلِيّ: هُوَ بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْبَاء، وَهُوَ كَمَا يُقَال: عجم بِفتْحَتَيْنِ وعجم بِضَم الْعين وَإِسْكَان الْجِيم، وَالْأُخْرَى: نِسْبَة إِلَى دمشق، بِكَسْر الدَّال وَهِي دمشق الشَّام. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكُسُوف عَن أبي نعيم عَن شَيبَان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن مَرْوَان بن مُحَمَّد عَن مُعَاوِيَة بن سَلام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نُودي: إِن الصَّلَاة) ، بتَخْفِيف إِن المفسرة، ويروى بِالتَّشْدِيدِ، وَيكون خَبَرهَا محذوفا تَقْدِيره: إِن الصَّلَاة حَاضِرَة، أَو نَحْو ذَلِك، وجامعة، نصب على الْحَال كَمَا ذكرنَا عَن قريب، فَإِن صحت الرِّوَايَة بِرَفْع جَامِعَة يكون هُوَ خَبرا لإن، وَقيل: يجوز فِيهِ رفع الْكَلِمَتَيْنِ أَيْضا وَرفع الأول وَنصب الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ.
وَفِيه: أَن صَلَاة الْكُسُوف لَيْسَ فِيهَا أَذَان وَلَا إِقَامَة وَإِنَّمَا يُنَادى لَهَا بِهَذِهِ الْجُمْلَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (نُودي: الصَّلَاة جَامِعَة) ، بِدُونِ: أَن، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أجمع الْعلمَاء على أَن صَلَاة الْكُسُوف لَيْسَ فِيهَا أَذَان وَلَا إِقَامَة إِلَّا أَن الشَّافِعِي قَالَ: لَو نَادَى مُنَاد: الصَّلَاة جَامِعَة، ليخرج النَّاس بذلك إِلَى الْمَسْجِد لم يكن بذلك بَأْس.
4 - (بابُ خُطْبَةِ الإمامِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خطْبَة الإِمَام فِي كسوف الشَّمْس.
وقالَتْ عائِشَةُ وأسْمَاءُ خطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: خطب فِي الْكُسُوف، أما تَعْلِيق عَائِشَة فقد أخرجه فِي بَاب الصَّدَقَة فِي الْكُسُوف، وَقد مضى عَن قريب، وَفِيه: وَقد تجلت الشَّمْس وخطب النَّاس، وَأما تَعْلِيق أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أُخْت عَائِشَة لأَبِيهَا، فَسَيَأْتِي بعد أحد عشر بَابا فِي: بَاب قَول الإِمَام فِي خطْبَة الْكُسُوف: أما بعد.
6401 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْل عنِ ابنِ شهَابٍ ح وحدَّثني(7/73)
أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ قَالَ حدَّثنا عَنْبَسةُ قَالَ حدَّثنا يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ عَنْ عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَرَجَ إلَى المَسْجِدِ فصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ فكَبَّرَ فَاقْتَرَأَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِرَاءَةً طوِيلَةً ثُمَّ كَبَّرَ فرَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً ثُمَّ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فقامَ ولَمْ يَسْجُدْ وقَرَأ قِرَاءَةً طَوِيلةً هِيَ أدْنَى مِنَ القِرَاءَةِ الأولَى ثُمَّ كَبَّرَ ورَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ أدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ ثُمَّ الأول قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ربَّنَا ولكَ الحَمْدُ ثُمَّ سجَدَ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذالِكَ فَاسْتَكْمَلَ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أرْبَعِ سَجَدَاتٍ وانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ قامَ فأثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ هُمَا آيَتَانِ منْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسِفَانِ لِموْتِ أحَدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ فَإذَا رأيْتُمُوهما فافْزَعُوا إلَى الصَّلاةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمَّ قَامَ فَأثْنى على الله بِمَا هُوَ أَهله) ، لِأَن الْقيام وَالثنَاء على الله فِيهِ هُوَ الْخطْبَة.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ رَوَاهُ من طَرِيقين: الأول: يحيى بن بكير، هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْمصْرِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: أَحْمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ. السَّادِس: عَنْبَسَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا سين مُهْملَة مَفْتُوحَة: ابْن خَالِد بن يزِيد الْأَيْلِي، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. السَّابِع: يُونُس بن يزِيد بن مسكان أَبُو يزِيد الْأَيْلِي، مَاتَ سنة بضع وَخمسين وَمِائَة. الثَّامِن: عُرْوَة بن الزبير. التَّاسِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد كَذَلِك فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَحْمد بن صَالح من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مصريون مَا خلا ابْن شهَاب وَعُرْوَة، فَإِنَّهُمَا مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة الشَّخْص عَن عَمه، وَهُوَ: عَنْبَسَة عَن يُونُس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم فِي الْكُسُوف عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَمُحَمّد بن سَلمَة، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر وَابْن سَلمَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَصف النَّاس) بِرَفْع النَّاس لِأَنَّهُ فَاعل صف، يُقَال: صف الْقَوْم إِذا صَارُوا صفا، وَيجوز نصب النَّاس وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَي: فَصف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّاس وَرَاءه. قَوْله: (ثمَّ قَالَ فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة) أَي: فعل، وَهُوَ إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَالْعرب تفعل هَذَا كثيرا. قَوْله: (ثمَّ قَامَ فَأثْنى على الله تَعَالَى) يَعْنِي: قَامَ لأجل الْخطْبَة فَخَطب. قَوْله: (فافزعوا) ، بِفَتْح الزَّاي، أَي: التجئوا وتوجهوا إِلَيْهَا. أَو: اسْتَعِينُوا بهَا على دفع الْأَمر الْحَادِث من: بَاب: فزع بِالْكَسْرِ يفزع بِالْفَتْح فَزعًا، والفزع فِي الأَصْل: الْخَوْف، فَوضع مَوضِع الإغاثة والنصر لِأَن من شَأْنه الإغاثة وَالدَّفْع. قَوْله: (إِلَى الصَّلَاة) قَالَ بَعضهم: أَي الْمَعْهُودَة الْحَاصِل، وَهِي الَّتِي تقدم فعلهَا مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل الْخطْبَة، وَلم يصب من اسْتدلَّ بِهِ على مُطلق الصَّلَاة. قلت: الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ على مُطلق الصَّلَاة هُوَ الْمسيب لِأَن الْمَذْكُور هُوَ الصَّلَاة فَإِذا ذكرت مُطلقَة ينْصَرف إِلَى الصَّلَاة الْمَعْهُودَة فِيمَا بَينهم الَّتِي يصلونها على الصّفة الْمَعْهُودَة، وَلَا تذْهب أذهان النَّاس إلاّ إِلَى ذَلِك، وَالْعجب من غير الْمُصِيب يرد كَلَام الْمُصِيب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَقد مر أَكثر ذَلِك. فِيهِ: فعل صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد دون الصَّحرَاء وَإِن كَانَ يجوز فعلهَا فِي الصَّحرَاء، وَلَعَلَّ كَونهَا فِي الْمَسْجِد هَهُنَا لخوف الْفَوْت بالانجلاء، وَقَالَ الْقَدُورِيّ: كَانَ أَبُو حنيفَة يرى صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد وَالْأَفْضَل فِي الْجَامِع. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد الْجَامِع أَو فِي مصلى الْعِيد، وَعند مَالك: تصلى فِيهِ دون(7/74)
الصَّحرَاء. وَقَالَ ابْن حبيب: هُوَ مُخَيّر، وَحكي عَن أصبغ: وَصوب بعض أهل الْعلم الْمَسْجِد فِي الْمصر الْكَبِير للْمَشَقَّة، وَخَوف الْفَوْت دون الصَّغِير. وَفِيه: الْخطْبَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا مستقصىً. وَفِيه: تَقْدِيم الإِمَام على الْمَأْمُوم، وَهُوَ من قَوْله: (فَصف النَّاس وَرَاءه) ، وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى الْمَأْمُور بِهِ والمسارعة إِلَى فعله. وَفِيه: الالتجاء إِلَى الله تَعَالَى عِنْد المخاوف بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار لِأَنَّهُ سَبَب لمحو مَا فرط مِنْهُ من الْعِصْيَان. وَفِيه: أَن الذُّنُوب سَبَب لوُقُوع البلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.
وكانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بنُ عَبَّاسٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كانَ يُحَدِّثُ يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ إنَّ أخاكَ يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ قالَ أجَلْ لأِنَّهُ أخْطَأ السُّنَّةَ
قَوْله: (كَانَ يحدث كثير بن عَبَّاس) وَهُوَ مقول الزُّهْرِيّ عطفا على قَوْله: (حَدثنِي عُرْوَة) . وَقَوله: (كثير) ، بِالرَّفْع: اسْم كَانَ وَخَبره. قَوْله: (يحدث) ، مقدما، وَقد وَقع صَرِيحًا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ بِلَفْظ (قَالَ: كثير ابْن الْعَبَّاس يحدث أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يحدث عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم كسفت الشَّمْس، مثل مَا حدث عُرْوَة عَن عَائِشَة) . وَحَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة هُوَ مَا روى عُرْوَة عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر فِي صَلَاة الخسوف بقرَاءَته، فصلى أَربع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات) . قَالَ الزُّهْرِيّ: وَأَخْبرنِي كثير بن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه صلى أَربع ركوعات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات. .) إِلَى هُنَا لفظ مُسلم. قَوْله: (فَقلت) الْقَائِل هُوَ الزُّهْرِيّ. قَوْله: (أَن أَخَاك) يَعْنِي: عبد الله بن الزبير. قَوْله: (مثل الصُّبْح) ، أَي: مثل صَلَاة الصُّبْح فِي الْعدَد والهيئة. قَوْله: (قَالَ: أجل) أَي: قَالَ عُرْوَة: نعم صلى كَذَلِك، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان، فَقَالَ: أجل كَذَلِك صنع (لِأَنَّهُ إخطأ السّنة) أَي: لِأَن عبد الله بن الزبير أَخطَأ السّنة، لِأَن السّنة هِيَ أَن تصلي فِي كل رَكْعَة ركوعان. وَقَالَ: بَعضهم: وَتعقب بِأَن عُرْوَة تَابِعِيّ وَعبد الله صَحَابِيّ فالأخذ بِفِعْلِهِ أولى. ثمَّ أجَاب: بِمَا حَاصله: إِن مَا صنعه عبد الله يتَأَدَّى بِهِ أصل السّنة، وَإِن كَانَ فِيهِ تَقْصِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَال السّنة، وَيحْتَمل أَن يكون عبد الله أَخطَأ السّنة من غير قصد لِأَنَّهَا لم تبلغه. قلت: وَقد قُلْنَا فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف: إِن عُرْوَة أَحَق بالْخَطَأ من عبد الله الصاحب الَّذِي عمل بِمَا علم، وَعُرْوَة أنكر مَا لَا يعلم، وَلَا نسلم أَنَّهَا لم تبلغه لاحْتِمَال أَنه بلغه من أبي بكرَة أَو من غَيره مَعَ بُلُوغ حَدِيث عَائِشَة إِيَّاه، فَاخْتَارَ حَدِيث أبي بكرَة لموافقته الْقيَاس، فَإِذا لَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه أَخطَأ السّنة. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
5 - (بابُ هَلْ يَقُولُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أوْ خَسَفَتْ؟)
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: هَل يَقُول الْقَائِل: كسفت الشَّمْس؟ أَو يَقُول: خسفت الشَّمْس؟ قيل: أَتَى البُخَارِيّ بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام إشعارا مِنْهُ بِأَنَّهُ لم يتَرَجَّح عِنْده فِي ذَلِك شَيْء، وَقَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ (عَن عُرْوَة: لَا تَقولُوا كسفت الشَّمْس، وَلَكِن قُولُوا: خسفت) وَهَذَا مَوْقُوف صَحِيح رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَنهُ. قلت: تَرْتِيب البُخَارِيّ يدل على أَن الخسوف يُقَال فِي الشَّمْس وَالْقَمَر جَمِيعًا لِأَنَّهُ ذكر الْآيَة وفيهَا نِسْبَة الخسوف إِلَى الْقَمَر ثمَّ ذكر الحَدِيث وَفِيه نِسْبَة الخسوف إِلَى الشَّمْس وَكَذَلِكَ يُقَال بالكسوف فيهمَا جَمِيعًا، لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب (فَقَالَ فِي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر: إنَّهُمَا آيتان) . وَبِهَذَا يرد على عُرْوَة فِيمَا روى الزُّهْرِيّ عَنهُ. وَبِمَا روى فِي أَحَادِيث كَثِيرَة: كسفت الشَّمْس، مِنْهَا: حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة الَّذِي مضى فِي أول الْأَبْوَاب، (قَالَ: كسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) الحَدِيث، وَفِيه: أَيْضا: (أَن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان لمَوْت أحد) الحَدِيث وَاسْتِعْمَال الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر اصْطِلَاح الْفُقَهَاء وَاخْتَارَهُ ثَعْلَب أَيْضا قَالَ فِي الفضيح إِن كسفت الشَّمْس وَخسف الْقَمَر أَجود الْكَلَامَيْنِ، وَذكر الْجَوْهَرِي: أَنه أفْصح، وَحكى عِيَاض عَن بَعضهم عَكسه، وغلطه لثُبُوته بِالْخَاءِ فِي الْقُرْآن، وَفِي الْحَقِيقَة فِي مَعْنَاهُمَا فرق، فَقيل: الْكُسُوف أَن يكْشف ببعضهما، والخسوف: أَن يخسف بكلهما، قَالَ الله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} وَقَالَ شمر: الْكُسُوف فِي الْوَجْه الصُّفْرَة والتغير، وَقَالَ ابْن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الْكُسُوف تغير اللَّوْن والخسوف انخسافهما، وَكَذَلِكَ تَقول فِي عين الْأَعْوَر إِذا انخسفت وَغَارَتْ فِي جفن الْعين، وَذهب نورها وضياؤها.(7/75)
وقالَ الله تعالَى وخَسَفَ القَمَرُ
إِيرَاد البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى أَن الأجود أَن يُقَال: خسف الْقَمَر، وَإِن كَانَ يجوز أَن يُقَال: كسف الْقَمَر، لَا كَمَا قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَن يُقَال: خسف الْقَمَر، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآن، وَلَا يُقَال: كسف، وَكَيف لَا يُقَال كسف وَقد أسْند الكسف إِلَيْهِ كَمَا أسْند الشَّمْس؟ كَمَا فِي حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة الْمَذْكُور فِي أول الْأَبْوَاب وَفِي غَيره، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الْبَاب.
7401 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرُ أنَّ عائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فقَامَ فكَبَّرَ فقَرَأ قرَاءَةً طوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَويلاً ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَقَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ وقامَ كَمَا هُوَ ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً وَهْيَ أدْنَى مِنَ القِرَاءَةِ الأُولَى ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْيَ أدْنَى مِنَ الركْعَةِ الأُولى ثُمَّ سَجَدَ سُجُودا طَوِيلاً ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ ذالِكَ ثُمَّ سَلَّمَ وقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فقالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ والقَمَرِ إنَّهُمَا آيَتانِ مِنْ آياتِ الله لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ فإذَا رَأيْتُمُوهُمَا فافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ فِي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر) ، وَقَوله: (لَا يخسفان) لِأَن كل وَاحِد من الْكُسُوف والخسوف اسْتعْمل فِي كل وَاحِد من الشَّمْس وَالْقَمَر، وإيراده الْآيَة الْمَذْكُورَة وَهَذَا الحَدِيث يدلان على هَذَا وَيدل أَيْضا على أَن الِاسْتِفْهَام فِي التَّرْجَمَة لَيْسَ للنَّفْي وَالْإِنْكَار. فَافْهَم، وَسَعِيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَقد مر فِي: بَاب من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، فِي كتاب الْعلم، وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ قد مَضَت مستقصاة.
6 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَوِّفُ الله عِبَادَهُ بالكُسُوفِ قَالَه أبُو مُوسَى عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (يخوف الله، عز وَجل، عباده بالكسوف) ، وَسَيَأْتِي حَدِيث أبي مُوسَى هَذَا فِي: بَاب الذّكر الْكُسُوف.
8401 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ يُوُنُسَ عنِ الحَسَنِ عنْ أبي بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ الله لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ ولاكِنَّ الله تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ..
قد مضى الْكَلَام فِي حَدِيث أبي بكرَة فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
قَوْله: (وَلَكِن الله يخوف بهما) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَلَكِن الله يخوف) . قَوْله: (يخوف) ، فِيهِ رد على أهل الْهَيْئَة حَيْثُ يَزْعمُونَ أَن الْكُسُوف أَمر عادي لَا يتَأَخَّر وَلَا يتَقَدَّم، فَلَو كَانَ كَذَلِك لم يكن فِيهِ تخويف، فَيصير بِمَنْزِلَة الجزر وَالْمدّ فِي الْبَحْر، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى، على مَا يَأْتِي: (فَقَامَ فَزعًا يخْشَى أَن تكون السَّاعَة) ، فَلَو كَانَ الْكُسُوف بِالْحِسَابِ لم يَقع الْفَزع، وَلم يكن لِلْأَمْرِ بِالْعِتْقِ وَالصَّدَََقَة وَالصَّلَاة وَالذكر معنى، وَقد رددنا عَلَيْهِم فِيمَا مضى، وَيرد عَلَيْهِم أَيْضا بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: (إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفا لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، ولكنهما آيتان من آيَات الله، وَإِن الله إِذا تجلى لشَيْء من خلقه خضع لَهُ) . وَقَالَ الْغَزالِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لم تثبت فَيجب تَكْذِيب ناقلها، وَلَو صحت لَكَانَ أَهْون من مُكَابَرَة أُمُور قَطْعِيَّة لَا تصادم الشَّرِيعَة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ: كَيفَ يسلم دَعْوَى الفلاسفة وَيَزْعُم أَنَّهَا لَا تصادم الشَّرِيعَة مَعَ أَنَّهَا مَبْنِيَّة على أَن الْعَالم(7/76)
كري الشكل وَظَاهر الشَّرْع خلاف ذَلِك؟ وَالثَّابِت من قَوَاعِد الشَّرْع أَن الْكُسُوف أثر الْإِرَادَة الْقَدِيمَة، وَفعل الْفَاعِل الْمُخْتَار فيخلق فِي هذَيْن الجرمين النُّور مَتى شَاءَ والظلمة مَتى شَاءَ من غير تَوْقِيف على سَبَب أَو ربط باقتراب، وَكَيف يرد الحَدِيث الْمَذْكُور وَقد أثْبته جمَاعَة من الْعلمَاء وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم؟ وَلَئِن سلمنَا أَن مَا ذكره أهل الْحساب صَحِيح فِي نفس الْأَمر، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي كَون ذَلِك مخوفا لعباد الله تَعَالَى.
وَقَالَ أبُو عُبَيه الله لَمْ يَذْكُرْ عبْدُ الوَارِثِ وشُعْبَةُ وخالِدُ بنُ عَبْدِ الله وحَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عنْ يُونُسَ يُخوِّفُ بِهِمَا عِبَادِهِ
أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن عبد الْوَارِث بن سعيد التنوري وَشعْبَة بن الْحجَّاج وخَالِد بن عبد الله الطَّحَّان الوَاسِطِيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة، بِفَتْح اللَّام، لم يذكرُوا فِي روايتهم عَن يُونُس بن عبيد الْمَذْكُور عَن قريب لفظ: (يخوف الله بهما عباده) فِي رِوَايَته عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن أبي بكرَة. أما رِوَايَة عبد الْوَارِث فَذكرهَا البُخَارِيّ بعد عشرَة أَبْوَاب فِي بَاب الصَّلَاة فِي كسوف الْقَمَر، وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا اللَّفْظ، على مَا ستقف عَلَيْهَا، وَلَكِن ثَبت ذَلِك عَن عبد الْوَارِث من وَجه آخر رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث، قَالَ: حَدثنَا يُونُس عَن الْحسن عَن أبي بكرَة قَالَ: (كُنَّا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانكسفت الشَّمْس فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجر رِدَاءَهُ حَتَّى انْتهى إِلَى الْمَسْجِد وثاب إِلَيْهِ النَّاس، فصلى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انكشفت قَالَ: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لَا ينخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فصلوا حَتَّى يكسف مَا بكم، وَذَلِكَ أَن ابْنا لَهُ مَاتَ يُقَال لَهُ: إِبْرَاهِيم، فَقَالَ نَاس فِي ذَلِك) . وَأما رِوَايَة شُعْبَة فأخرجها البُخَارِيّ فِي: بَاب كسوف الْقَمَر، حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن عَامر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن يُونُس عَن الْحسن (عَن أبي بكرَة قَالَ: انكسفت الشَّمْس على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى رَكْعَتَيْنِ) . وَأما رِوَايَة خَالِد بن عبد الله فقد مَضَت فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف. وَأما رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة فأخرجها الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) : عَن عَليّ بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: حَدثنَا حجاج بن منهال حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن يُونُس فَذكره، وأخرجها الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من طَرِيق أبي زَكَرِيَّا السيلَحِينِي عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن يُونُس فَذكره.
وتَابَعَهُ مُوسى عنْ مُبَارَكٍ عنِ الحَسَنِ قَالَ أَخْبرنِي أبُو بَكْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ الله تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ
أَي: تَابع يُونُس فِي رِوَايَته عَن الْحسن مُوسَى عَن مبارك، وَاخْتلف فِي المُرَاد بمُوسَى، فَقيل: هُوَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي وَجزم بِهِ الْحَافِظ الْمزي، وَقيل: هُوَ مُوسَى بن دَاوُد الضَّبِّيّ، وَمَال إِلَيْهِ الْحَافِظ الدمياطي وَجَمَاعَة. قيل: الأول أرجح لكَون مُوسَى بن إِسْمَاعِيل مَعْرُوفا فِي رجال البُخَارِيّ، ومبارك هُوَ: ابْن فضَالة بن أبي أُميَّة الْقرشِي الْعَدوي الْبَصْرِيّ، وَفِيه مقَال، وَأَرَادَ بِهِ البُخَارِيّ تنصيص الْحسن على سَمَاعه من أبي بكرَة، فَإِن ابْن خَيْثَمَة ذكر فِي (تَارِيخه الْكَبِير) عَن يحيى أَنه لم يسمع مِنْهُ، وَذكر هَذِه الْمُتَابَعَة للرَّدّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ صرح فِيهَا أَن الْحسن قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكرَة، وَقد علم أَن الْمُثبت يرجح على النَّافِي. قَوْله: (يخوف الله بهما) أَي: بكسوف الشَّمْس وكسوف الْقَمَر، ويروى: (بهَا) ، أَي: بِالْآيَةِ، فَإِن كسوفهما آيَة من الْآيَات، وَفِي رِوَايَة غير أبي ذَر: (إِن الله يخوف) .
وتابَعَهُ أشْعَثُ عنِ الحَسَنِ
يَعْنِي: تَابع مبارك بن فضَالة أَشْعَث بن عبد الْملك الحمراني عَن الْحسن كَذَلِك، لَكِن بِلَا ذكر التخويف، رَوَاهُ النَّسَائِيّ كَذَلِك عَن الفلاس عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن أَشْعَث عَن الْحسن (عَن أبي بكرَة، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكسفت الشَّمْس فَوَثَبَ يجر ثَوْبه فصلى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انجلت الشَّمْس) . وَقَالَ بَعضهم: وَقع قَوْله: (تَابعه أَشْعَث) ، فِي بعض(7/77)
الرِّوَايَات عقيب مُتَابعَة مُوسَى، وَالصَّوَاب تَقْدِيمه لخلو رِوَايَة أَشْعَث عَن ذكر التخويف. قلت: لَا يلْزم من مُتَابعَة أَشْعَث لمبارك بن فضَالة فِي الرِّوَايَة عَن الْحسن أَن يكون فِيهِ ذكر التخويف، لِأَن مُجَرّد الْمُتَابَعَة تَكْفِي فِي الرِّوَايَة، وَقد ذهل صَاحب (التَّلْوِيح) هُنَا حَيْثُ قَالَ: فِي قَوْله: (تَابعه أَشْعَث عَن الْحسن) يَعْنِي: تَابع مبارك بن فضَالة عَن الْحسن بِذكر التخويف رَوَاهُ النَّسَائِيّ إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن الْأَشْعَث ذكر التخويف، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
7 - (بابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عذَابِ القَبْرِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر فِي حَالَة الْكُسُوف، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة حِين يَدْعُو فِيهَا أَو بعد الْفَرَاغ مِنْهَا.
والمناسبة فِي ذَلِك من حَيْثُ كَون كل وَاحِد من الْكُسُوف والقبر مُشْتَمِلًا على الظلمَة، فَيحصل الْخَوْف من هَذَا كَمَا يحصل من هَذَا، فَإِذا تعوذ بِاللَّه تَعَالَى رُبمَا يحصل لَهُ الاتعاظ فِي الْعَمَل بِمَا ينجيه من عَاقِبَة الْأَمر.
9401 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالَكٍ عنْ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الراحْمانِ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ يَهُودِيَّةً جاءَتْ تَسْألُهَا فقَالَتْ لَهَا أعَاذَكِ الله مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فَسَألَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائذا بِاللَّه مِنْ ذالِكَ..
ثُمَّ رَكِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحىً فَمَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ ظَهْرَانَي الحُجَرِ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي وقامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَامَ قِيَاما طَوِيلاً ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا ثمَّ رفع مقَام فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قامَ فَقَامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شاءَ الله أنْ يَقُولَ ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَمرهم أَن يتعوذوا من عَذَاب الْقَبْر) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن القعْنبِي وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن يَهُودِيَّة) أَي: امْرَأَة يَهُودِيَّة، وَفِي (مُسْند السراج) من حَدِيث أَشْعَث بن الشعشاء عَن أَبِيه عَن مَسْرُوق، قَالَ: (دخلت يَهُودِيَّة على عَائِشَة فَقَالَت لَهَا: أسمعتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شَيْئا فِي عَذَاب الْقَبْر؟ فَقَالَت عَائِشَة: لَا، وَمَا عَذَاب الْقَبْر؟ قَالَت: فسليه، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلته عَائِشَة عَن عَذَاب الْقَبْر، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَذَاب الْقَبْر حق. قَالَت عَائِشَة: فَمَا صلى بعد ذَلِك صَلَاة إلاّ سمعته يتَعَوَّذ من عَذَاب الْقَبْر) . وَفِي حَدِيث مَنْصُور عَن أبي وَائِل (عَن مَسْرُوق عَنْهَا، قَالَت: دخل على عجوزتان من عَجَائِز الْيَهُود، فَقَالَت: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم، فكذبتهما وَلم أصدقهما، فَدخل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت لَهُ: دخل عَليّ عجوزتان من عجز الْيَهُود فَقَالَتَا: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم، فَقَالَ: إِنَّهُم ليعذبون فِي قُبُورهم عذَابا تسمعه البهائر) . وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْيَهُودِيَّة كَانَت تعلم عَذَاب الْقَبْر، إِمَّا سَمِعت ذَلِك من التَّوْرَاة أَو فِي كتاب من كتبهمْ. قَوْله: (أيعذب النَّاس؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام (ويعذب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول فِيهِ دَلِيل على أَن عَائِشَة لم تكن قبل ذَلِك علمت بِعَذَاب الْقَبْر، لِأَنَّهَا كَانَت تعلم أَن الْعَذَاب وَالثَّوَاب إِنَّمَا يكونَانِ بعد الْبَعْث. قَوْله: (عائذا بِاللَّه) على وزن: فَاعل، مصدر لِأَن الْمصدر قد يَجِيء على هَذَا الْوَزْن كَمَا فِي قَوْلهم: عافاه الله عَافِيَة، فعلى هَذَا انتصابه على المصدرية(7/78)
تَقْدِيره: أعوذ عائذا بِاللَّه، أَي: أعوذ عياذا بِاللَّه، وَيجوز أَن يكون: عائذا، على بَابه، وَيكون مَنْصُوبًا على الْحَال، وَذُو الْحَال مَحْذُوف تَقْدِيره: أعوذ حَال كوني عائذا بِاللَّه. وَرُوِيَ: (عَائِذ بِاللَّه) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أَنا عَائِذ بِاللَّه. قَوْله: (من ذَلِك) أَي: من عَذَاب الْقَبْر. قَوْله: (ذَات غَدَاة) ، لَفْظَة: (ذَات) ، زَائِدَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَفْظَة (ذَات) بِمَعْنى: فِي، أَي: فِي غَدَاة ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين: بِأَنَّهُ غير صَحِيح، بل تَقْدِيره: فِي ذَات غَدَاة. قلت: الصَّوَاب مَعَه لِأَنَّهُ لم يقل أحد: إِن ذَات بِمَعْنى: فِي، وَيجوز أَن يكون من بَاب إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه. قَوْله: (ضحى) بِضَم الضَّاد مَقْصُور، فَوق الضحوة وَهِي ارْتِفَاع أول النَّهَار. قَوْله: (بَين ظهراني الْحجر) ، أَي: فِي ظَهْري الْحجر، الْألف وَالنُّون زائدتان، وَيُقَال: الْكَلِمَة كلهَا زَائِدَة، وَالْحجر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم: جمع حجرَة وَالْمرَاد بهَا بيُوت أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: أَنه: يدل على أَن عَذَاب الْقَبْر حق، وَأهل السّنة مجمعون على الْإِيمَان بِهِ والتصديق، وَلَا يُنكره إلاّ مُبْتَدع. وَإِن من لَا علم لَهُ بذلك لَا يَأْثَم، وَأَن من سمع بذلك وَجب عَلَيْهِ أَن يسْأَله أهل الْعلم ليعلم صِحَّته. وَفِيه: مَا يدل على أَن حَال عَذَاب الْقَبْر عَظِيم، فَلذَلِك أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت بالتعوذ مِنْهُ. وَفِيه: أَن وَقت صَلَاة الْكُسُوف وَقت الضُّحَى على مَا صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت بِحَسب حُصُول الْكُسُوف فِيهِ، وَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْن التِّين: أول وقته وَقت جَوَاز النَّافِلَة، وَأما آخِره فَقَالَ مَالك: إِنَّهَا إِنَّمَا تصلى ضحوة النَّهَار وَلَا تصلى بعد الزَّوَال، فَجَعلهَا كالعيدين، وَهِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم، وروى عَنهُ ابْن وهب: تصلى فِي وَقت صَلَاة النَّافِلَة وَإِن زَالَت الشَّمْس، وَعنهُ: لَا تصلى بعد الْعَصْر، وَلَكِن يجْتَمع النَّاس فِيهِ فَيدعونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ويرغبون. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يصلونَ فِي الْأَوْقَات الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهَا لوُرُود النَّهْي بذلك، وتصلى فِي سَائِر الْأَوْقَات، وَهُوَ قَول ابْن أبي مليكَة وَعَطَاء وَجَمَاعَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: تصلى فِي كل وَقت، نصف النَّهَار وَبعد الْعَصْر وَالصُّبْح، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر وَابْن الْجلاب الْمَالِكِي: وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: وَقتهَا الْمُسْتَحبّ كَسَائِر الصَّلَوَات، وَلَا تصلى فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَبِه قَالَ الْحسن وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَعَمْرو بن شُعَيْب وَقَتَادَة وَأَيوب وَإِسْمَاعِيل بن علية وَأحمد، وَقَالَ إِسْحَاق: يصلونَ بعد الْعَصْر مَا لم تصفر الشَّمْس، وَبعد صَلَاة الصُّبْح وَلَو كسفت فِي الْغُرُوب لم تصل أجماعا، وَلَو طلعت مكسوفة لم تصل حَتَّى تحل النَّافِلَة، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَآخَرُونَ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول، خلافًا للشَّافِعِيّ.
9401 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالَكٍ عنْ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الراحْمانِ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ يَهُودِيَّةً جاءَتْ تَسْألُهَا فقَالَتْ لَهَا أعَاذَكِ الله مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فَسَألَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائذا بِاللَّه مِنْ ذالِكَ..
ثُمَّ رَكِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحىً فَمَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ ظَهْرَانَي الحُجَرِ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي وقامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَامَ قِيَاما طَوِيلاً ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا ثمَّ رفع مقَام فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قامَ فَقَامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شاءَ الله أنْ يَقُولَ ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أَمرهم أَن يتعوذوا من عَذَاب الْقَبْر) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن القعْنبِي وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن يَهُودِيَّة) أَي: امْرَأَة يَهُودِيَّة، وَفِي (مُسْند السراج) من حَدِيث أَشْعَث بن الشعشاء عَن أَبِيه عَن مَسْرُوق، قَالَ: (دخلت يَهُودِيَّة على عَائِشَة فَقَالَت لَهَا: أسمعتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شَيْئا فِي عَذَاب الْقَبْر؟ فَقَالَت عَائِشَة: لَا، وَمَا عَذَاب الْقَبْر؟ قَالَت: فسليه، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلته عَائِشَة عَن عَذَاب الْقَبْر، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَذَاب الْقَبْر حق. قَالَت عَائِشَة: فَمَا صلى بعد ذَلِك صَلَاة إلاّ سمعته يتَعَوَّذ من عَذَاب الْقَبْر) . وَفِي حَدِيث مَنْصُور عَن أبي وَائِل (عَن مَسْرُوق عَنْهَا، قَالَت: دخل على عجوزتان من عَجَائِز الْيَهُود، فَقَالَت: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم، فكذبتهما وَلم أصدقهما، فَدخل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت لَهُ: دخل عَليّ عجوزتان من عجز الْيَهُود فَقَالَتَا: إِن أهل الْقُبُور يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم، فَقَالَ: إِنَّهُم ليعذبون فِي قُبُورهم عذَابا تسمعه البهائر) . وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْيَهُودِيَّة كَانَت تعلم عَذَاب الْقَبْر، إِمَّا سَمِعت ذَلِك من التَّوْرَاة أَو فِي كتاب من كتبهمْ. قَوْله: (أيعذب النَّاس؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام (ويعذب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول فِيهِ دَلِيل على أَن عَائِشَة لم تكن قبل ذَلِك علمت بِعَذَاب الْقَبْر، لِأَنَّهَا كَانَت تعلم أَن الْعَذَاب وَالثَّوَاب إِنَّمَا يكونَانِ بعد الْبَعْث. قَوْله: (عائذا بِاللَّه) على وزن: فَاعل، مصدر لِأَن الْمصدر قد يَجِيء على هَذَا الْوَزْن كَمَا فِي قَوْلهم: عافاه الله عَافِيَة، فعلى هَذَا انتصابه على المصدرية تَقْدِيره: أعوذ عائذا بِاللَّه، أَي: أعوذ عياذا بِاللَّه، وَيجوز أَن يكون: عائذا، على بَابه، وَيكون مَنْصُوبًا على الْحَال، وَذُو الْحَال مَحْذُوف تَقْدِيره: أعوذ حَال كوني عائذا بِاللَّه. وَرُوِيَ: (عَائِذ بِاللَّه) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أَنا عَائِذ بِاللَّه. قَوْله: (من ذَلِك) أَي: من عَذَاب الْقَبْر. قَوْله: (ذَات غَدَاة) ، لَفْظَة: (ذَات) ، زَائِدَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَفْظَة (ذَات) بِمَعْنى: فِي، أَي: فِي غَدَاة ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين: بِأَنَّهُ غير صَحِيح، بل تَقْدِيره: فِي ذَات غَدَاة. قلت: الصَّوَاب مَعَه لِأَنَّهُ لم يقل أحد: إِن ذَات بِمَعْنى: فِي، وَيجوز أَن يكون من بَاب إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه. قَوْله: (ضحى) بِضَم الضَّاد مَقْصُور، فَوق الضحوة وَهِي ارْتِفَاع أول النَّهَار. قَوْله: (بَين ظهراني الْحجر) ، أَي: فِي ظَهْري الْحجر، الْألف وَالنُّون زائدتان، وَيُقَال: الْكَلِمَة كلهَا زَائِدَة، وَالْحجر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم: جمع حجرَة وَالْمرَاد بهَا بيُوت أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: أَنه: يدل على أَن عَذَاب الْقَبْر حق، وَأهل السّنة مجمعون على الْإِيمَان بِهِ والتصديق، وَلَا يُنكره إلاّ مُبْتَدع. وَإِن من لَا علم لَهُ بذلك لَا يَأْثَم، وَأَن من سمع بذلك وَجب عَلَيْهِ أَن يسْأَله أهل الْعلم ليعلم صِحَّته. وَفِيه: مَا يدل على أَن حَال عَذَاب الْقَبْر عَظِيم، فَلذَلِك أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت بالتعوذ مِنْهُ. وَفِيه: أَن وَقت صَلَاة الْكُسُوف وَقت الضُّحَى على مَا صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت بِحَسب حُصُول الْكُسُوف فِيهِ، وَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْن التِّين: أول وقته وَقت جَوَاز النَّافِلَة، وَأما آخِره فَقَالَ مَالك: إِنَّهَا إِنَّمَا تصلى ضحوة النَّهَار وَلَا تصلى بعد الزَّوَال، فَجَعلهَا كالعيدين، وَهِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم، وروى عَنهُ ابْن وهب: تصلى فِي وَقت صَلَاة النَّافِلَة وَإِن زَالَت الشَّمْس، وَعنهُ: لَا تصلى بعد الْعَصْر، وَلَكِن يجْتَمع النَّاس فِيهِ فَيدعونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ويرغبون. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يصلونَ فِي الْأَوْقَات الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهَا لوُرُود النَّهْي بذلك، وتصلى فِي سَائِر الْأَوْقَات، وَهُوَ قَول ابْن أبي مليكَة وَعَطَاء وَجَمَاعَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: تصلى فِي كل وَقت، نصف النَّهَار وَبعد الْعَصْر وَالصُّبْح، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر وَابْن الْجلاب الْمَالِكِي: وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: وَقتهَا الْمُسْتَحبّ كَسَائِر الصَّلَوَات، وَلَا تصلى فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَبِه قَالَ الْحسن وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَعَمْرو بن شُعَيْب وَقَتَادَة وَأَيوب وَإِسْمَاعِيل بن علية وَأحمد، وَقَالَ إِسْحَاق: يصلونَ بعد الْعَصْر مَا لم تصفر الشَّمْس، وَبعد صَلَاة الصُّبْح وَلَو كسفت فِي الْغُرُوب لم تصل أجماعا، وَلَو طلعت مكسوفة لم تصل حَتَّى تحل النَّافِلَة، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَآخَرُونَ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول، خلافًا للشَّافِعِيّ.
8 - (بابُ طُولِ السُّجُودِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان طول السُّجُود فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد على من أنكر طول السُّجُود فِيهِ، وَهُوَ قَول بعض الْمَالِكِيَّة، فَإِنَّهُم قَالُوا إِن الَّذِي شرع فِيهِ التَّطْوِيل شرع تكراره كالقيام وَالرُّكُوع، وَلم تشرع الزِّيَادَة فِي السُّجُود فَلَا يشرع التَّطْوِيل فِيهِ، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الرَّافِعِيّ قَالَ: هَل يطول السُّجُود فِي هَذِه الصَّلَاة؟ فِيهِ قَولَانِ، وَيُقَال: وَجْهَان: أظهرهمَا: لَا، وَالثَّانِي: نعم، وَبِه قَالَ ابْن شُرَيْح، لِأَنَّهُ مَنْقُول فِي بعض الرِّوَايَات: مَعَ تَطْوِيل الرُّكُوع، أوردهُ مُسلم فِي (الصَّحِيح) . قلت: لم ينْفَرد بِهِ مُسلم، بل حَدِيث الْبَاب يدل عَلَيْهِ أَيْضا وَيرد بِهَذَا على من يَقُول: إِن التَّطْوِيل فِي الْقيام وَالرُّكُوع لِإِمْكَان رُؤْيَة انجلاء الشَّمْس، بِخِلَاف السُّجُود، وعَلى من يَقُول: إِن فِي تَطْوِيل السُّجُود استرخاء المفاصل المفضي إِلَى النّوم المفضي إِلَى خُرُوج شَيْء.
1501 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو أَنه قالَ لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُودِيَ إنَّ الصَّلاةَ جامِعَةٌ فَرَكَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ جُلِّيَ عنِ الشَّمْسِ قالَ وقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَا سَجَدْتُ سُجُودا قطّ كانَ أطْوَلَ مِنْهَا.
(أنظر الحَدِيث 5401) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي قَول عَائِشَة فِي آخر الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، أَصله من الْبَصْرَة وَسكن الْكُوفَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير اليمامي(7/79)
الطَّائِي من أهل الْبَصْرَة سكن الْيَمَامَة. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: عبد الله بن عَمْرو، بِفَتْح الْعين وَفِي آخِره وَاو، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: عبد الله بن عمر، بِضَم الْعين وَفتح الْمِيم بِلَا وَاو، قيل: إِنَّه وهم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ويمامي ومدني. وَفِيه: راويان بكنية وراويان بِلَا نِسْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْكُسُوف عَن إِسْحَاق عَن يحيى بن صَالح عَن مُعَاوِيَة بن سَلام عَن يحيى ببه مُخْتَصرا، كَمَا هُنَا، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن خَالِد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: على زَمَنه. قَوْله: (نُودي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من النداء وَهُوَ الْإِعْلَام. وَقَوله: (إِن الصَّلَاة جَامِعَة) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (فِي سَجْدَة) أَي: فِي رَكْعَة، وَقد يعبر بِالسَّجْدَةِ عَن الرَّكْعَة من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء على الْكل. قَوْله: (ثمَّ جلى) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد اللَّام على صِيغَة الْمَجْهُول: من التجلية، وَهُوَ الانكشاف. قَوْله: (قَالَ: وَقَالَت) أَي: قَالَ أَبُو سَلمَة: (قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: مَا سجدت سجودا قطّ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا ركعت رُكُوعًا قطّ وَلَا سجدت سجودا قطّ كَانَ أطول مِنْهُ) ، وَيحْتَمل أَن يكون فَاعل: قَالَ، هُوَ عبد الله بن عَمْرو، فَيكون فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صحابية. فَإِن قلت: مَا وَجه رِوَايَة البُخَارِيّ: أطول مِنْهَا بتأنيث الضَّمِير وَالسُّجُود مُذَكّر؟ قلت: وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره مِنْهُ بتذكير الضَّمِير، وَهُوَ الأَصْل، ويؤول فِي رِوَايَة البُخَارِيّ السُّجُود بِالسَّجْدَةِ، فتأنيث الضَّمِير بِهَذَا الِاعْتِبَار.
وإطالة السُّجُود وَردت فِي أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: مَا تقدم فِي رِوَايَة عُرْوَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ: (ثمَّ سجد فَأطَال السُّجُود) . وَمِنْهَا: مَا تقدم فِي أَوَائِل صفة الصَّلَاة من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر مثله. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن عبد الله ابْن عَمْرو: (ثمَّ رفع رَأسه وسجدها فَأطَال السُّجُود) ، وَنَحْوه مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي مُوسَى (بأطول قيام وركوع وَسُجُود) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث سَمُرَة: (كأطول مَا سجد بِنَا فِي صَلَاة) ، وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَا يلْزم من كَونه أَطَالَ السُّجُود أَن يكون بلغ بِهِ حد الإطالة فِي الرُّكُوع، ورد عَلَيْهِم بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: (وَسُجُوده نَحْو من رُكُوعه) ، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَادّعى صَاحب (الْمُهَذّب) : أَنه لم يقل بِهِ الشَّافِعِي، ورد عَلَيْهِ بِأَن الشَّافِعِي نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ، وَلَفظه: (ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ طويلتين يُقيم فِي كل سَجْدَة نَحوا مِمَّا قَامَ لَهُ فِي رُكُوعه) ، وَحَدِيث جَابر الَّذِي رَوَاهُ مُسلم يدل على تَطْوِيل الِاعْتِدَال الَّذِي يَلِيهِ السُّجُود، وَلَفظه: (فَأطَال الْقيام حَتَّى جعلُوا يخرجُون، ثمَّ ركع فَأطَال ثمَّ رفع فَأطَال ثمَّ ركع فَأطَال ثمَّ رفع فَأطَال ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ) ، الحَدِيث. وَأنكر النَّوَوِيّ هَذِه الرِّوَايَة، وَقَالَ: هَذِه رِوَايَة شَاذَّة مُخَالفَة فَلَا يعْمل بهَا، أَو المُرَاد: زِيَادَة الطُّمَأْنِينَة فِي الِاعْتِدَال، ورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، فَفِيهِ: (ثمَّ ركع فَأطَال حَتَّى قيل: لَا يرفع، ثمَّ رفع فَأطَال حَتَّى قيل: لَا يسْجد، ثمَّ سجد فَأطَال حَتَّى قيل: لَا يرفع، ثمَّ رفع فَجَلَسَ فَأطَال الْجُلُوس حَتَّى قيل: لَا يسْجد ثمَّ سجد) ، فَهَذَا يدل على تَطْوِيل الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَبِهَذَا يرد على الْغَزالِيّ فِي نَقله الِاتِّفَاق على ترك إطالته، أللهمّ إلاّ إِذا أَرَادَ بِهِ: بالِاتِّفَاقِ من أهل الْمَذْهَب. وَالله أعلم.
9 - (بابُ صَلاَةِ الكُسُوفِ جَمَاعَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الْكُسُوف بِالْجَمَاعَة، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن صَلَاة الْكُسُوف بِالْجَمَاعَة سنة. وَقَالَ صَاحب (الذَّخِيرَة: من أَصْحَابنَا: الْجَمَاعَة فِيهَا سنة، وَيُصلي بهم الإِمَام الَّذِي يُصَلِّي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، وَفِي (المرغيناني) : يؤمهم فِيهَا إِمَام حيهم بِإِذن السُّلْطَان، لِأَن اجْتِمَاع النَّاس رُبمَا أوجب فتْنَة وخللاً، وَلَا يصلونَ فِي مَسَاجِدهمْ بل يصلونَ جمَاعَة وَاحِدَة، وَلَو لم يقمها الإِمَام صلى النَّاس فُرَادَى. وَفِي (مَبْسُوط) بكر، عَن أبي حنيفَة فِي غير رِوَايَة الْأُصُول: لكل إِمَام مَسْجِد أَن يُصَلِّي بِجَمَاعَة فِي مَسْجده، وَكَذَا فِي (الْمُحِيط) . وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِيّ: لَكِن بِإِذن الإِمَام الْأَعْظَم، وَقَالَ بَعضهم: بَاب صَلَاة الْكُسُوف جمَاعَة، أَي: وَإِن لم يحضر الإِمَام. قلت:(7/80)
إِذا لم يكن الإِمَام حَاضرا كَيفَ يصلونَ جمَاعَة؟ وَلَا تكون الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة إلاّ إِذا كَانَ فيهم إِمَام؟ فَإِن لم يكن إِمَام وصلوا فُرَادَى لَا يُقَال صلوا بِجَمَاعَة، وَإِن كَانُوا جماعات؟ فَإِن قلت: بِمَ انتصب جمَاعَة؟ قلت: يجوز أَن يكون بِنَزْع الْخَافِض، كَمَا قدرناه، فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون حَالا؟ قلت: يجوز إِذا قدر هَكَذَا: بَاب صَلَاة الْقَوْم الْكُسُوف حَال كَونهم جمَاعَة، فطوى ذكر الْفَاعِل للْعلم بِهِ.
وصَلَّى ابنُ عَبَّاس لَهُمْ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ
أَي: صلى للْقَوْم عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي صفة زَمْزَم، وَالصّفة، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْفَاء، قَالَ ابْن التِّين: صفة زَمْزَم، قيل: كَانَت أبنية يُصَلِّي فِيهَا ابْن عَبَّاس، وَالصّفة مَوضِع مظلل يَجْعَل فِي دَار أَو فِي حوش. وَقَالَ ابْن الْأَثِير، فِي ذكر أهل الصّفة: هم فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، وَلم يكن لوَاحِد مِنْهُم منزل يسكنهُ، فَكَانُوا يأوون إِلَى مَوضِع مظلل فِي مَسْجِد الْمَدِينَة يسكنونة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: صفة، بِضَم الْمُهْملَة وَفِي بَعْضهَا بِالْمُعْجَمَةِ وَهِي بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح: جَانب الْوَادي، وصفتاه جانباه، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن غنْدر: حَدثنَا ابْن جريج عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن طَاوُوس: أَن الشَّمْس انكسفت على عهد ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَصلى على صفة زَمْزَم رَكْعَتَيْنِ فِي كل رَكْعَة أَرْبَعَة سَجدَات، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي وَسَعِيد بن مَنْصُور جَمِيعًا: عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سُلَيْمَان الْأَحول (سَمِعت طاووسا يَقُول: كسفت الشَّمْس فصلى بِنَا ابْن عَبَّاس فِي صفة زَمْزَم سِتّ ركوعات فِي أَربع سَجدَات، وَبَين الرِّوَايَتَيْنِ مُخَالفَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روى عبد الله بن أبي بكر عَن صَفْوَان بن عبد الله بن صَفْوَان قَالَ: رَأَيْت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى على ظهر زَمْزَم فِي كسوف الشَّمْس رَكْعَتَيْنِ فِي كل رَكْعَة ركوعان. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا كَانَ عَطاء وَعَمْرو وَصَفوَان وَالْحسن يروون عَن ابْن عَبَّاس خلاف سُلَيْمَان الْأَحول كَانَت رِوَايَة ثَلَاثَة أولى أَن تقبل، وَلَو ثَبت عَن ابْن عَبَّاس أشبه أَن يكون ابْن عَبَّاس فرق بَين خُسُوف الشَّمْس وَالْقَمَر وَبَين الزلزلة، فقد رُوِيَ أَنه صلى فِي زَلْزَلَة ثَلَاث ركوعات فِي رَكْعَة، فَقَالَ: مَا أَدْرِي أزلزلت الأَرْض أم بِي أَرض، أَي: رعدة؟ قَالَ الْجَوْهَرِي: الأَرْض: النفضة والرعدة ثمَّ نقل قَول ابْن عَبَّاس، هَذَا، قَالَ أَبُو عمر: لم يَأْتِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَجه صَحِيح: أَن الزلزلة كَانَت فِي عصره وَلَا صحت عَنهُ فِيهَا سنة، وَأول مَا جَاءَت فِي الْإِسْلَام على عهد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (الْمعرفَة) للبيهقي: صلى عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي زَلْزَلَة سِتّ ركوعات فِي أَربع سَجدَات وَخمْس رَكْعَات وسجدتين فِي رَكْعَة وركعة، وسجدتين فِي رَكْعَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَو ثَبت هَذَا الْخَبَر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لقلنا بِهِ، وهم يثبتونه وَلَا يَقُولُونَ بِهِ.
وجَمَّعَ عَلِيُّ بنُ عَبْد، الله بنِ عَبَّاسٍ وصَلَّى ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أَي: جمع النَّاس عَليّ بن عبد الله لصَلَاة الْكُسُوف، وَعلي بن عبد الله تَابِعِيّ ثِقَة، روى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وروى لَهُ البُخَارِيّ فِي (الْأَدَب) وَكَانَ أَصْغَر ولد أَبِيه سنا، وَكَانَ يدعى: السَّجَّاد، وَكَانَ يسْجد كل يَوْم ألف سَجْدَة، ولدليلة قتل عَليّ بن أبي طَالب فِي شهر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ، فَسُمي باسمه وكني بكنيته: أَبَا الْحسن، وَفِي وَلَده الْخلَافَة، مَاتَ سنة أَربع عشرَة وَمِائَة، وَعَن يحيى بن معِين: مَاتَ سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة بالحميمة من أَرض البلقاء فِي أَرض الشَّام وَهُوَ ابْن ثَمَان أَو تسع وَسبعين سنة، قَوْله: (وَصلى ابْن عمر) يَعْنِي: صَلَاة الْكُسُوف بِالنَّاسِ، وَأخرج ابْن أبي شيبَة قَرِيبا من مَعْنَاهُ: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عَاصِم بن عبيد الله، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يُهَرْوِل إِلَى الْمَسْجِد فِي كسوف وَمَعَهُ نعلاه، يَعْنِي لأجل الْجَمَاعَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الأثرين إِلَى أَن صَلَاة الْكُسُوف بِالْجَمَاعَة، وَهَذَا هُوَ الْمُطَابقَة بَينهمَا وَبَين التَّرْجَمَة.
2501 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ قِيَاما نَحْوا منْ قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلا ثُمَّ رَفَعَ فقَامَ قِيَاما طَوِيلا وَهْوَ(7/81)
دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلا وهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِياما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيامِ الأوَّلِ ثُمَّ ركعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ وقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فقالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإذَا رَأيْتُمْ ذالِكَ فاذْكُرُوا الله قالُوا يَا رسولَ الله رَأيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئا فِي مَقامِكَ ثُمَّ رَأيْنَاكَ كَعْكَعْتَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي رَأيْتُ الجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودا وَلَوْ أصَبْتهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا وأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أرَ مَنْظَرا كاليَوْمِ قَطُّ أفْظَعَ وَرَأيْتُ أكثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا بِمَ يَا رسولَ الله قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ يَكْفُرْنَ بِالله قَالَ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ لوْ أحْسَنْتَ إلَى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئا قالَتْ مَا رأيْتُ مِنْكَ خَيْرا قَط..
مطابقته للتَّرْجَمَة تَأتي بِمَحْذُوف مُقَدّر فِي قَوْله: (فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: صلى بِالْجَمَاعَة، وَهَذَا لَا يشك فِيهِ، وَلَكِن الرَّاوِي طوى ذكره إِمَّا اختصارا وَإِمَّا اعْتِمَادًا على الْقَرِينَة الحالية، لِأَنَّهُ لم ينْقل عَنهُ أَنه صلى صَلَاة الْكُسُوف وَحده.
وَرِجَاله تكَرر ذكرهم. قَوْله: (عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس) كَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) وَجَمِيع من أخرجه من طَرِيق مَالك، وَوَقع فِي رِوَايَة اللؤْلُؤِي فِي (سنَن أبي دَاوُد) : عَن أبي هُرَيْرَة بدل ابْن عَبَّاس قيل: هُوَ غلط نبه عَلَيْهِ ابْن عَسَاكِر، وَقَالَ الْمزي: هُوَ وهم.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي صَلَاة الخسوف وَفِي الْإِيمَان عَن القعْنبِي وَفِي النِّكَاح عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي بَدْء الْخلق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن سُوَيْد بن سعيد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نَحوا من قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة) وَفِي لفظ: (نَحوا من قيام سُورَة الْبَقَرَة) ، وَعند مُسلم: (قدر سُورَة الْبَقَرَة) ، وَهَذَا يدل على أَن الْقِرَاءَة كَانَت سرا، وَكَذَا فِي بعض طرق حَدِيث عَائِشَة. (فحزرت قِرَاءَته فَرَأَيْت أَنه قَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة) . وَقيل: إِن ابْن عَبَّاس كَانَ صَغِيرا فمقامه آخر الصُّفُوف فَلم يسمع الْقِرَاءَة فحزر الْمدَّة، ورد على هَذَا بِأَن فِي بعض طرقه: (قُمْت إِلَى جَانب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَا سَمِعت مِنْهُ حرفا) ، ذكره أَبُو عمر. قَوْله: (رَأَيْنَاك تناولت شَيْئا) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (تناولت) ، بِصِيغَة الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (تنَاول شَيْئا) ، بِالْخِطَابِ من الْمُضَارع، وَأَصله: تتَنَاوَل، بتاءين لِأَنَّهُ من بَاب التفاعل فحذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، ويروى: (تتَنَاوَل) على الأَصْل. قَوْله: (كعكعت) قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب رفع الْبَصَر إِلَى الْأَمَام، لِأَنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث فِيهِ مُخْتَصرا. وَفِيه: تكعكعت) ، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني بِزِيَادَة التَّاء فِي أَوله، وَفِي رِوَايَة غَيره: كعكعت، ومعناهما: تَأَخَّرت. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ تقهقرت، وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى وَرَائه. وَقَالَ أَبُو عبيد: كعكعته فتكعكع. قلت: هَذَا يدل على أَن: كعكع، مُتَعَدٍّ: وتكعكع لَازم، فَإِن قلت: فعلى هَذَا قَوْله: (كعكعت) يَقْتَضِي مَفْعُولا فَمَا هُوَ؟ قلت: على هَذَا مَعْنَاهُ: رَأَيْنَاك كعكعت نَفسك، وَأما رِوَايَة: تكعكعت فظاهرة. فَإِن قلت: هَذَا من الرباعي الأَصْل أَو من الْمَزِيد؟ قلت: نقل أهل اللُّغَة هَذِه الْمَادَّة يدل على أَنه جَاءَ من الْبَابَيْنِ، فَقَوْل أبي عبيد يدل على أَنه رباعي مُجَرّد، وَقَول الْجَوْهَرِي وَغَيره يدل على أَنه ثلاثي مزِيد فِيهِ، لِأَنَّهُ نقل عَن يُونُس: كع يكع، بِالضَّمِّ. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: يكع، بِالْكَسْرِ أَجود، وَأَصله: كعع، فأسكنت الْعين الأولى وأدرجت فِي الثَّانِيَة: كمد وفر، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني، كععت وكععت بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح أكع وأكع بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح كعا وكعاعةً بِالْفَتْح، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : كع كعوعا وَهُوَ الَّذِي لَا يمْضِي فِي عزم، وَفِي (الْمُحكم) : كع كعوعا(7/82)
وكعاعة وكيعوعة وكعكعه عَن الْورْد: نحاه. وَيُقَال: أكعه الْفرق إكعاعا إِذا حَبسه عَن وَجهه، وَيُقَال: أصل كعكعت كععت، فَفرق بَينهمَا بِحرف مُكَرر للاستثقال. قلت: هَذَا تصرف من غير التصريف، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (رَأَيْنَاك كَفَفْت) ، من الْكَفّ، وَهُوَ الْمَنْع. قَوْله: (إِنِّي رَأَيْت الْجنَّة) ، ظَاهره من رُؤْيَة الْعين: كشف الله تَعَالَى الْحجب الَّتِي بَينه وَبَين الْجنَّة وطوى الْمسَافَة الَّتِي بَينهمَا حَتَّى أمكنه أَن يتَنَاوَل مِنْهَا عنقودا، وَالَّذِي يُؤَيّد هَذَا حَدِيث أَسمَاء الَّذِي مضى فِي أَوَائِل صفة الصَّلَاة بِلَفْظ: (دنت مني الْجنَّة حَتَّى لَو اجترأت عَلَيْهَا لجئتكم بقطاف من قطافها) ، وَمن الْعلمَاء من حمل هَذَا على أَن الْجنَّة مثلت لَهُ فِي الْحَائِط كَمَا ترى الصُّورَة فِي الْمرْآة. فَرَأى جَمِيع مَا فِيهَا. وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بِحَدِيث أنس على مَا سَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد: (لقد عرضت عَليّ الْجنَّة وَالنَّار آنِفا فِي عرض هَذَا الْحَائِط وَأَنا أُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة: (لقد مثلت، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لقد صورت) فَإِن قلت: انطباع الصُّورَة إِنَّمَا يكون فِي الْأَجْسَام الصقيلة؟ قلت: هَذَا من حَيْثُ الْعَادة فَلَا يمْتَنع خرق الْعَادة لَا سِيمَا فِي حق هَذَا النَّبِي الْعَظِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ هَذَا هَذِه قصَّة أُخْرَى وَقعت فِي صَلَاة الظّهْر، وَتلك فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَلَا مَانع أَن ترى الْجنَّة وَالنَّار مرَّتَيْنِ وَأكْثر على صور مُخْتَلفَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيْسَ من الْمحَال إبْقَاء هَذِه الْأُمُور على ظواهره، لَا سِيمَا على مَذْهَب أهل السّنة فِي أَن الْجنَّة وَالنَّار وَقد خلقتا وهما موجودتان الْآن، فَيرجع إِلَى أَن الله تَعَالَى خلق لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إدراكا خَاصّا بِهِ أدْرك بِهِ الْجنَّة وَالنَّار على حقيقتهما، وَمِنْهُم من تَأَول الرُّؤْيَة هُنَا بِالْعلمِ، وَقد أبعد لعدم الْمَانِع من الْأَخْذ بِالْحَقِيقَةِ والعدول عَن الأَصْل من غير ضَرُورَة. قَوْله: (عنقودا) بِضَم الْعين. قَوْله: (وَلَو أصبته) فِي رِوَايَة مُسلم: (وَلَو أَخَذته) . قَوْله: (مَا بقيت الدُّنْيَا) أَي: مُدَّة بَقَاء الدُّنْيَا، لِأَن طَعَام الْجنَّة لَا ينفذ وثمار الْجنَّة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة، وَحكى ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض شُيُوخه: إِن معنى قَوْله: (لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدُّنْيَا) ، أَن يخلق فِي نفس الْآكِل مثل الَّذِي أكل: دَائِما بِحَيْثُ لَا يغيب عَن ذوقه، وَقد رد عَلَيْهِ بِأَن هَذَا رَأْي فلسفي مَبْنِيّ على أَن دَار الْآخِرَة لَا حقائق لَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَمْثَال، وَالْحق أَن ثمار الْجنَّة لَا تقطع وَلَا تمنع، فَإِذا قطعت خلقت فِي الْحَال فَلَا مَانع أَن يخلق الله مثل ذَلِك فِي الدُّنْيَا إِذا شَاءَ، وَفِيه بحث، لِأَن كَلَام هَذَا الْقَائِل لَا يسْتَلْزم نفي حَقِيقَة دَار الْآخِرَة، لِأَن مَا قَالَه فِي حَال الدُّنْيَا وَالْفرق بَين حَال الدُّنْيَا وَحَال الْآخِرَة ظَاهر. فَإِن قلت: بَين قَوْله: (وَلَو أصبته) ، أَو: (لَو أَخَذته) . وَبَين قَوْله: (رَأَيْنَاك تناولت شَيْئا) ، مُنَافَاة ظَاهرا؟ قلت: يحمل التَّنَاوُل على تكلّف الْأَخْذ لَا حَقِيقَة الْأَخْذ. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل بالتكلف لعدم وُرُود السُّؤَال الْمَذْكُور، لِأَن قَوْله: (تناولت) خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم، وَقَوله: (وَلَو أصبته) إِخْبَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نَفسه، وَلَا مُنَافَاة بَين الإخبارين، فكأنهم تخيلوا التَّنَاوُل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِي نفس الْأَمر حَقِيقَة التَّنَاوُل مَوْجُودَة يدل عَلَيْهِ معنى. قَوْله: (وتناولت عنقودا) د، يَعْنِي تناولته حَقِيقَة فِي الْجنَّة، وَلَكِن لم يُؤذن لي بقطفه وَهُوَ معنى قَوْله: (وَلَو أصبته) ، يَعْنِي: لَو أذن لي بقطفه لأصبته، وأخرجته مِنْهَا إِلَيْكُم، وَلَكِن لم يقدر لي لِأَنَّهُ من طَعَام الْجنَّة، وَهُوَ لَا يفنى وَالدُّنْيَا فانية، فَلَا يجوز أَن يُؤْكَل فِيهَا مَا لَا يفنى، لِأَنَّهُ يلْزم من أكل مَا لَا يفنى أَن لَا يفنى آكله، وَهُوَ محَال فِي الدُّنْيَا.
فَإِن قلت: كَيفَ يَقُول: مَعْنَاهُ تناولته حَقِيقَة فِي الْجنَّة وَلَكِن لم يُؤذن لي بقطفه؟ وَقد وَقع فِي حَدِيث عقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن ابْن خُزَيْمَة: (أَهْوى بِيَدِهِ ليتناول شَيْئا) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي حَدِيث أَسمَاء فِي أَوَائِل صفة الصَّلَاة: (حَتَّى لَو اجترأت عَلَيْهَا؟) وَكَأن لم يُؤذن لَهُ فِي ذَلِك، فَلم يجترىء عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: (وَلَقَد مددت يَدي وَأَنا أُرِيد أَن أتناول من ثمارها لتنظروا إِلَيْهِ، ثمَّ بدا لي أَن لَا أفعل) ؟ وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد البُخَارِيّ: (لقد رَأَيْت أَن آخذ قطفا من الْجنَّة حِين رَأَيْتُمُونِي، جعلت أتقدم) ، وَوَقع لعبد الرَّزَّاق من طَرِيق مُرْسلَة: (أردْت أَن آخذ مِنْهَا قطفا لأريكموه فَلم يقدر) ؟ قلت: كل هَذِه الرِّوَايَات لَا تنَافِي مَا قُلْنَا. أما فِي حَدِيث عقبَة فَلَا يلْزم من قَوْله: (أَهْوى بِيَدِهِ ليتناول شَيْئا) عدم تنَاوله حَقِيقَة، لرؤيتهم صُورَة التَّنَاوُل وَعدم رُؤْيَتهمْ حَقِيقَته. وَأما فِي حَدِيث أَسمَاء فَلِأَن عدم اجترائه على إِخْرَاجه من الْجنَّة لِأَنَّهُ لم يُؤذن لَهُ بذلك، فَلَا يمْنَع ذَلِك حَقِيقَة التَّنَاوُل. وَأما فِي حَدِيث جَابر فَلِأَن صُورَة التَّنَاوُل لأجل إِخْرَاجه إِلَيْهِم لم يكن، لِأَن نظرهم إِلَيْهِ وَهُوَ يتَنَاوَل فِي الْجنَّة لَا يتَصَوَّر فِي حَقهم لعدم قدرتهم على ذَلِك، فَهَذَا لَا يُنَافِي حَقِيقَة التَّنَاوُل فِي الْجنَّة، وَلَكِن لم يُؤذن لَهُ بِالْإِخْرَاجِ لما قُلْنَا. وَأما فِي حَدِيث عَائِشَة فلأنهم لَو رَأَوْهُ أَخذ مِنْهَا قطفا حَقِيقَة لَكَانَ إِيمَانهم بِالشَّهَادَةِ وَلم يكن بِالْغَيْبِ، وَالْإِيمَان بِالْغَيْبِ هُوَ الْمُعْتَبر، وَهُوَ أَيْضا لَا يُنَافِي حَقِيقَة التَّنَاوُل فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (وأريت النَّار) أريت، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وأقيم الْمَفْعُول الَّذِي هُوَ الرَّائِي فِي(7/83)
الْحَقِيقَة مقَام الْفَاعِل، وانتصاب النَّار على أَنه مفعول ثَان، لِأَن: أريت، من الإراءة، وَهُوَ يَقْتَضِي مفعولين، وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر. وَفِي رِوَايَة غَيره: (رَأَيْت النَّار) ، وَكَانَت رُؤْيَة النَّار قبل رُؤْيَة الْجنَّة لما وَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّار فَتَأَخر عَن مُصَلَّاهُ حَتَّى أَن النَّاس ليركب بَعضهم بَعْضًا، وَإِذ رَجَعَ عرضت عَلَيْهِ الْجنَّة، فَذهب يمشي حَتَّى وقف فِي مُصَلَّاهُ) . وروى مُسلم من حَدِيث جَابر، قَالَ: (انكسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (مَا من شَيْء توعدونه إلاّ قد رَأَيْته فِي صَلَاتي هَذِه لقد جِيءَ بالنَّار وذلكم حِين رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرت مَخَافَة أَن يُصِيبنِي من لفحها) ، وَفِيه: (ثمَّ جِيءَ بِالْجنَّةِ، وذلكم حِين رَأَيْتُمُونِي تقدّمت حَتَّى قُمْت فِي مقَامي. .) الحَدِيث وَجَاء من حَدِيث سَمُرَة، أخرجه ابْن خُزَيْمَة: (لقد رَأَيْت مُنْذُ قُمْت أُصَلِّي مَا أَنْتُم لاقون فِي دنياكم وآخرتكم) . فَإِن قلت: رُؤْيَاهُ النَّار من أَي بَاب كَانَ من أَبْوَاب النيرَان؟ فَإِن قلت: قيل: من الْبَاب الَّذِي يدْخل مِنْهُ العصاة من الْمُسلمين. قلت: يحْتَاج هَذَا إِلَى دَلِيل مَعَ أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَقَد رَأَيْت جَهَنَّم يحطم بَعْضهَا بَعْضًا حَتَّى رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرت، وَرَأَيْت فِيهَا ابْن لحي وَهُوَ الَّذِي سَبَب السائبة) . رَوَاهُ مُسلم، فَدلَّ على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى النيرَان كلهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رِوَايَة مُسلم: (وَعرضت عَليّ النَّار فَرَأَيْت فِيهَا إمرأة من بني إِسْرَائِيل تعذب فِي هرة لَهَا ربطتها فَلم تطعمها، وَلم تدعها تَأْكُل من حشائش الأَرْض، وَرَأَيْت أَبَا ثُمَامَة عمر بن مَالك يجر قَصَبَة فِي النَّار) . قَوْله: (فَلم أر منْظرًا كَالْيَوْمِ قطّ أفظع) . وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فَلم أنظر كَالْيَوْمِ أفظع) . قَوْله: (منْظرًا) مَنْصُوب بقوله: (لم أر) . و (أفظع) ، أفعل التَّفْضِيل مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة المنظر. وَقَوله: (كَالْيَوْمِ قطّ) معترض بَين الصّفة والموصوف، وَالْكَاف فِيهِ بِمَعْنى الْمثل، وَالْمرَاد من الْيَوْم الْوَقْت الَّذِي فِيهِ وَتَقْدِير الْكَلَام: لم أر منْظرًا أفظع مثل الْيَوْم، وَأدْخل كَاف التَّشْبِيه عَلَيْهِ لبشاعة مَا رأى فِيهِ، وَمعنى أفظع: أبشع وأقبح. وَقَالَ ابْن سَيّده: فظع الْأَمر فظاعة وَهُوَ فظيع وأفظع وَأَشد وأفظع افظاعا وَهُوَ مفظع، والإسم الفظاعة وأفظعني هَذَا الْأَمر وأفظعته وأفظع هُوَ، وَفِي (الصِّحَاح) أفظع الرجل، على مَا لم يسم فَاعله: إِذا نزل بِهِ أَمر عَظِيم. قَوْله: (وَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا) أَي: أهل النَّار النِّسَاء. فَإِن قلت: كَيفَ يلتئم هَذَا مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة: (إِن أدنى أهل الْجنَّة منزلَة من لَهُ زوجتان من الدُّنْيَا) ، وَمُقْتَضَاهُ أَن النِّسَاء ثلثا أهل الْجنَّة؟ قلت: يحمل حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا بعد خروجهن من النَّار، وَقيل: خرج هَذَا مخرج التَّغْلِيظ والتخويف، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ أخبر بِالرُّؤْيَةِ الْحَاصِلَة. وَقيل: لَعَلَّه مَخْصُوص بِبَعْض النِّسَاء دون بعض. قَوْله: (بِمَ يَا رَسُول الله؟) أَصله: بِمَا، لِأَنَّهَا كلمة الِاسْتِفْهَام، فحذفت الْألف تَخْفِيفًا. قَوْله: (أيكفرن بِاللَّه؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (قَالَ: يكفرن العشير) ، كَذَا وَقع لِلْجُمْهُورِ عَن مَالك بِدُونِ الْوَاو، وَقيل: ويكفرن، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم. قَالَ: حَدثنَا حَفْص بن ميسرَة، قَالَ: حَدثنِي زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (انكسفت الشَّمْس. .) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بكفرهن، قيل: يكفرن بِاللَّه؟ قَالَ: يكفرن العشير) الحَدِيث، وروى يحيى بن يحيى عَن مَالك فِي (موطئِهِ) قَالَ: ويكفرن العشير، بِزِيَادَة الْوَاو، قيل: زِيَادَة الْوَاو غلط. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لَا فَسَاد فِيهِ من جِهَة الْمَعْنى لِأَنَّهُ أجَاب مطابقا للسؤال،. وَزَاد، وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانَ المُرَاد من تغليطه كَونه خَالف غَيره من الروَاة فَهُوَ كَذَلِك. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الْمُخَالفَة للرواة إِنَّمَا تعد غَلطا إِذا فسد الْمَعْنى، وَلَا فَسَاد. كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: كفر يتَعَدَّى بِالْبَاء، وَقَوله: (أيكفرن بِاللَّه؟) على الأَصْل، وَقَوله: (يكفرن العشير) بِلَا بَاء؟ قلت: لِأَن الَّذِي تعدى بِالْبَاء يتَضَمَّن معنى الِاعْتِرَاف، وَكفر العشير لَا يتَضَمَّن ذَلِك. قَوْله: (ويكفرن الْإِحْسَان) يحْتَمل أَن يكون تَفْسِيرا لقَوْله: (يكفرن العشير) ، لِأَن الْمَقْصُود كفر إِحْسَان العشير لَا كفر ذَاته، والعشير هُوَ الزَّوْج، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي كتاب الْإِيمَان، وَالْمرَاد من كفر الْإِحْسَان تغطيته وَعدم الِاعْتِرَاف بِهِ أَو جَحده وإنكاره كَمَا يدل عَلَيْهِ آخر الحَدِيث. قَوْله: (لَو أَحْسَنت إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر كُله) ، بَيَان لِمَعْنى: كفر الْإِحْسَان وَكلمَة: لَو، شَرْطِيَّة وَيحْتَمل أَن تكون امتناعية بِأَن يكون الحكم ثَابتا على النقيضين، وَيكون الطّرف الْمَسْكُوت عَنهُ أولى من الْمَذْكُور، و: الدَّهْر، مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، وَيجوز أَن يكون المُرَاد مِنْهُ: مُدَّة عمر الرجل، وَأَن يكون الزَّمَان كُله مُبَالغَة، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْله: (أَحْسَنت) ، خطاب رجل بِعَيْنِه، بل كل من يَتَأَتَّى مِنْهُ أَن يكون مُخَاطبا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ المجرمون} (السَّجْدَة: 21) . لِأَن المُرَاد مِنْهُ(7/84)
كل من تتأتى مِنْهُ الرُّؤْيَة، فَهُوَ خطاب خَاص لفظا وعام معنى. قَوْله: (شَيْئا) التَّنْوِين فِيهِ للتقليل: أَي: شَيْئا قَلِيلا لَا يُوَافق غرضها من أَي نوع كَانَ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ غير مَا ذكر فِيمَا مضى: الْمُبَادرَة إِلَى طَاعَة الله، عز وَجل، عِنْد حُصُول مَا يخَاف مِنْهُ وَمَا يحذر عَنهُ، وَطلب دفع الْبلَاء بِذكر الله تَعَالَى وتمجيده وأنواع طَاعَته. وَفِيه: معْجزَة ظَاهِرَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من نصح أمته وتعليمهم مَا يَنْفَعهُمْ وتحذيرهم عَمَّا يضرهم. وَفِيه: مُرَاجعَة المتعلم للْعَالم فِيمَا لَا يُدْرِكهُ فهمه. وَفِيه: جَوَاز الِاسْتِفْهَام عَن عِلّة الحكم وَبَيَان الْعَالم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ تِلْمِيذه. وَفِيه: تَحْرِيم كفران الْإِحْسَان. وَفِيه: وجوب شكر الْمُنعم. وَفِيه: إِطْلَاق الْكفْر على جحود النِّعْمَة. وَفِيه: بَيَان تَعْذِيب أهل التَّوْحِيد لأجل الْمعاصِي. وَفِيه: جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة.
01 - (بابُ صَلاَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجالِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِي صَلَاة الْكُسُوف، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى رد قَول من منع ذَلِك، وَقَالَ: يصلين فُرَادَى، وَهُوَ مَنْقُول عَن الثَّوْريّ والكوفيين. قلت: إِن أَرَادَ بالكوفيين أَبَا حنيفَة وَأَصْحَابه فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن أَبَا حنيفَة يرى بِخُرُوج الْعَجَائِز فِيهَا، غير أَنَّهُنَّ يَقِفن وَرَاء صُفُوف الرِّجَال، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يخْرجن فِي جَمِيع الصَّلَوَات لعُمُوم الْمُصِيبَة، فَلَا يخْتَص ذَلِك بِالرِّجَالِ، وروى الْقُرْطُبِيّ عَن مَالك: إِن الْكُسُوف يُخَاطب بِهِ من يُخَاطب بِالْجمعَةِ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَرخّص مَالك والكوفيون للعجائز وكرهوا للشابة. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا أكره لمن لَا هَيْئَة لَهُ بارعة من النِّسَاء وَلَا للصبية شُهُود صَلَاة الْكُسُوف مَعَ الإِمَام، بل أحب لَهُنَّ ونحب لَهُنَّ ونحب لذات الْهَيْئَة أَن تصليها فِي بَيتهَا، وَرَأى إِسْحَاق أَن يخْرجن، شبَابًا كن أَو عَجَائِز، وَلَو كن حيضا، وتعتزل الْحيض الْمَسْجِد وَلَا يقربن مِنْهُ.
3501 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكُ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ عنِ امْرَأتِهِ فاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ عنْ أسْمَاءَ بنتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَهَا قالَتْ أتَيْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فإذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وَإذَا هيَ قَائِمَةٌ فَقُلْتُ مَا لِلَّنَاسِ فأشارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ وقالَتْ سُبْحَانَ الله فقُلْتُ آيَة فأشارَتْ أيْ نَعَمْ قالَتْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشْيُ فَجَعَلْتُ أصُبُّ فَوْقَ رَأسِي المَاءَ فَلَمَّا انْصَرَفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ مَا منْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أرَهُ إلاّ قَدْ رَأيْتُهُ فِي مَقَامِي هاذا حَتَّى الجَنَّةَ والنَّارَ ولَقَدْ أوحِيَ إلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتِنُونَ فِي القُبُورِ مِثْلَ أوْ قَرِيبا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لاَ أدْرِي أيَّتُهُمَا قالَتْ أسْمَاءُ يُؤتَى أحدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهاذا الرَّجُلِ فأمَّا المُؤمِنُ أوِ المُوقِنُ لَا أدْرِي أيَّ ذالِكَ قالتْ أسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَنا بالبَيِّنَاتِ وَالْهدى فاجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا فَيُقالُ لَهُ نَمْ صالِحا فَقَدْ عَلِمْنَا إنْ كُنْتَ لَمُوقِنا وَأمَّا المُنَافِقُ أوِ المُرْتَابُ لاَ أدْرِي أيَّتُهُمَا قالَتْ أسْمَاءُ فيَقُولِ لاَ أدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئا فَقُلْتُهُ. [/ نه.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا النَّاس قيام يصلونَ (وَإِذا هِيَ قَائِمَة تصلي) ، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد وَالرَّأْس، فِي كتاب الْعلم. وَأخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن هِشَام عَن فَاطِمَة عَن أَسمَاء، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن البُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْكُسُوف، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَفَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام، وَأَسْمَاء بنت أبي بكر الصّديق، هِيَ جدة فَاطِمَة وَهِشَام لأبويهما.
قَوْله: (فَأَشَارَتْ أَي نعم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَن نعم) ، بالنُّون بدل الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَالله أعلم.(7/85)
11 - (بابُ من أحَبَّ العَتَاقَةَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب الْعتْق فِي حَالَة كسوف الشَّمْس، والعتاقة بِفَتْح الْعين: الْحُرِّيَّة: أَي: من أحب عتق الرَّقِيق سَوَاء صدر الْإِعْتَاق مِنْهُ أَو من غَيره. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تَقْيِيد حب الْعتَاقَة فِي الْكُسُوف، وَهُوَ عمل مَحْبُوب فِي كل حَال؟ قلت: لِأَن أَسمَاء بنت أبي بكر هِيَ الَّتِي رَوَت قصَّة كسوف الشَّمْس، وَهَذَا قِطْعَة مِنْهُ، أما أَن يكون هِشَام بن عُرْوَة حدث بِهِ هَكَذَا، فَسَمعهُ مِنْهُ زَائِدَة بن قدامَة، أَو يكون زَائِدَة اخْتَصَرَهُ.
4501 - حدَّثنا رَبِيعُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ فاطِمَةَ عنْ أسْمَاءَ قالَتْ لَقَدْ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالعتاقة فِي الْكُسُوف، وكل مَا أَمر بِهِ فَهُوَ مَحْبُوب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: ربيع بن يحيى أَبُو الْفضل الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَيجوز فِيهِ اللَّام وَتَركه كَمَا فِي الْحسن. الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة، وَقد مر. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير. الرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير وَهِي زَوْجَة هِشَام. الْخَامِس: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، جدة فَاطِمَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن أول الروَاة بَصرِي وَالثَّانِي كُوفِي وَالثَّالِث مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن امْرَأَته، وَرِوَايَة الْمَرْأَة عَن جدَّتهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكُسُوف عَن مُوسَى بن مَسْعُود وَفِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مُعَاوِيَة عَن زَائِدَة.
قَوْله: (لقد أَمر) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرهُم) ، وَالظَّاهِر أَن الْأَمر للاستحباب ترغيبا للنَّاس فِي فعل الْبر.
21 - (بابُ صَلاَةِ الكُسُوفِ فِي المَسْجَدَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد.
5501 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ يَحْيى بن سعِيدٍ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ يَهُودِيَّةً جاءَتْ تَسْألُهَا فقالَتْ أعَاذَكَ الله مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فَسَألَتْ عائِشَةُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائِذا بِاللَّه منْ ذالِكَ. ثمَّ رَكِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاتَ غَدَاة مَرْكَبا فَكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحىً فَمَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الحُجَرِ ثُمَّ قامَ فَصَلَّى وقامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فقامَ قِيَاما طَوِيلاً ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول ثمَّ ركع رُكُوعًا طَويلا وَهُوَ دون الرُّكُوع الأول ثمَّ رفع فَسَجَدَ سُجُودا طَوِيلاً ثُمَّ قامَ فقامَ قِياما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ قامَ قِيَاما طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ ثُمَّ ركَعَ رُكُوعا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ وَهْوَ دُونَ السُّجُودِ الأوَّلِ ثُمَّ انْصَرَفَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ وَهْوَ دُونَ السُّجُودِ الأوَّلِ ثُمَّ انْصَرَفَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا شاءَ الله أنْ يَقُولَ ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي فِي الْمَسْجِد، وَقد صرح مُسلم بِذكر(7/86)
الْمَسْجِد فِي رِوَايَته هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: (فَخرجت فِي نسْوَة بَين ظهراني الْحجر فِي الْمَسْجِد فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مركبه حَتَّى انْتهى إِلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ) ، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب التَّعَوُّذ من عَذَاب الْقَبْر، قبل هَذَا الْبَاب بأَرْبعَة أَبْوَاب، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. والمركب الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ بِسَبَب موت ابْنه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَالله أعلم.
31 - (بابٌ لاَ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِمَوْتِ أحِدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا تنكسف الشَّمْس لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ.
رَوَاهُ أبُو بَكْرَةَ وَالمُغِيرَة وأبُو مُوساى وابنُ عَبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: روى الْكَلَام الْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: (لَا تنكسف الشَّمْس لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ) ، هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم أَبُو بكرَة نفيع بن الْحَارِث، والمغيرة بن شُعْبَة، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الله بن عمر. أما حَدِيث أبي بكرَة فقد رَوَاهُ فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف. وَأما حَدِيث الْمُغيرَة، فَمضى فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف، وَعَن قريب يَأْتِي فِي: بَاب الدُّعَاء فِي الْكُسُوف أَيْضا. وَأما حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَكَذَلِك يَأْتِي فِي: بَاب الذّكر فِي الْكُسُوف. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فقد مضى فِي بَاب صَلَاة الْكُسُوف جمَاعَة. وَأما حَدِيث ابْن عمر فقد مضى فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف، وَقد ذكر البُخَارِيّ أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَحَدِيث عَائِشَة. وَفِي الْبَاب مِمَّا لم يذكرهُ عَن جَابر عِنْد مُسلم وَعَن عبد الله بن عَمْرو والنعمان بن بشير وَقبيصَة وَأبي هُرَيْرَة، كلهَا عِنْد النَّسَائِيّ وَغَيره، وَعَن ابْن مَسْعُود وَسمرَة ابْن جُنْدُب ومحمود بن لبيد عِنْد أَحْمد، وَغَيره، وَعَن عقبَة بن عَمْرو وبلال عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَغَيره، فَهَذِهِ كلهَا تكذب من زعم أَن الْكُسُوف لمَوْت أحد أَو لحياة أحد.
7501 - حدَّثنا مُسَدَّد قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثني قيْسٌ عنْ أبِي مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّمْسُ والقمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلاكِنَّهُمَا آيَتَانِ منْ آيَاتِ الله فإذَا رأيْتُمُوهُمَا فصَلُّوا.
(أنظر الحَدِيث 1401 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان الْبَصْرِيّ الْأَحول. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد الأخمسي الْكُوفِي. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم الْكُوفِي. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَامر الْأنْصَارِيّ البدري.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن النّصْف الأول من الروَاة بَصرِي وَالنّصف الثَّانِي كُوفِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن الروَاة الْأَرْبَعَة ذكرُوا بِلَا نِسْبَة، وَالْخَامِس ذكر بكنيته.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكُسُوف عَن شهَاب بن عباد وَفِي بَدْء الْخلق عَن أبي مُوسَى عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الخسوف عَن يحيى بن يحيى وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن أبراهيم وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن يحيى الْقطَّان بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه بِهِ.
8501 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ الزُّهْرِيِّ وَهِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلَّى بالنَّاسِ فأطَالَ القِرَاءَةَ ثُمَّ ركَعَ فأطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فأطَالَ القِرَاءَةَ وَهْيَ دُونَ قِرَاءَتِهِ الأولى ثُمَّ رَكَعَ فأطَالَ الرُّكُوعَ دُونَ رُكُوعِهِ الأوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ(7/87)
قامَ فصَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذالِكَ ثُمَّ قامَ فقالَ إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدَ ولاَ لِحَيَاتِهِ ولاكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آياتِ الله يُرِيهِمَا عِبَادَهُ فإذَا رَأيْتُمْ ذالِكَ فافْزَعُوا إِلَى الصَّلاَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ معمر بن رَاشد. قَوْله: (وَهِشَام ابْن عُرْوَة) ، بِالْجَرِّ عطفا على الزُّهْرِيّ.
41 - (بابُ الذِّكْرِ فِي الكسوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الذّكر عِنْد كسوف الشَّمْس.
رَوَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أَي: روى الذّكر فِي الْكُسُوف عبد الله بن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد تقدم فِي حَدِيثه فِي: بَاب صَلَاة الْكُسُوف جمَاعَة، وَفِيه: (فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاذكروا الله) .
9501 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عنْ بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسى ا. قَالَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَزَعا يَخْشَى أنْ تكُونَ السَّاعَةُ فَأتى المَسْجِدَ فَصَلَّى بِأطْوَلِ قِيَامٍ ورُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأيْتُهُ قَط يَفْعَلُهُ وَقَالَ هاذِهِ الآياتُ الَّتِي يُرْسِلُ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ وَلاكِنْ يُخَوِّفُ الله بهِ عِبَادَهُ فإذَا رَأيْتُمْ شَيْئا مِنْ ذالِكَ فافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ الله وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فافزعوا إِلَى ذكر الله) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء بن كريب الْهَمدَانِي الْكُوفِي. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن زيد الْقرشِي الكوفى. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء: ابْن عبد الله ابْن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي. الرَّابِع: جده أَبُو بردة اسْمه الْحَارِث بن أبي مُوسَى، وَيُقَال: عَامر بن أبي مُوسَى، وَيُقَال: اسْمه كنيته. الْخَامِس: عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رجال إِسْنَاده كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة مكيون، وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده وجده عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد الله بن براد وَأبي كريب، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَزعًا) بِكَسْر الزَّاي صفة مشبهة، وَيجوز أَن يكون بِفَتْح الزَّاي وَيكون مصدرا بِمَعْنى الصّفة. قَوْله: (يخْشَى) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (أَن يكون) ، فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: يخْشَى. قَوْله: (السَّاعَة) ، بِالنّصب وَالرَّفْع، أما النصب فعلى أَن يكون خبر: يكون نَاقِصَة، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْخَسْف الَّذِي يدل عَلَيْهِ: (خسفت) ، وَأما الرّفْع فعلى أَن يكون تكون تَامَّة، قَالَ الْكرْمَانِي، وَهَذَا تَمْثِيل من الرَّاوِي كَأَنَّهُ قَالَ: فَزعًا كالخاشي، أَن تكون الْقِيَامَة، وإلاّ فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَالما بِأَن السَّاعَة لَا تقوم، وَهُوَ بَين أظهرهم، وَقد وعده الله إعلاء دينه على الْأَدْيَان كلهَا، وَلم يبلغ الْكتاب أَجله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قد يسْتَشْكل هَذَا من حَدِيث أَن السَّاعَة لَهَا مُقَدمَات كَثِيرَة لَا بُد من وُقُوعهَا: كطلوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَخُرُوج الدَّابَّة والدجال وَغَيرهَا، وَكَيف الخشية من قِيَامهَا حِينَئِذٍ، وَيُجَاب بِأَنَّهُ: لَعَلَّ هَذَا الْكُسُوف كَانَ قبل إِعْلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ العلامات، أَو لَعَلَّه خشِي أَن تكون بعض مقدماتها أَو أَن الرَّاوِي ظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خشِي أَن تكون السَّاعَة، وَلَيْسَ يلْزم من ظَنّه أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خشِي حَقِيقَة، بل رُبمَا خَافَ وُقُوع عَذَاب الْأمة، فَظن الرَّاوِي ذَلِك. قلت: كل وَاحِد من هَذِه الْأَجْوِبَة لَا يَخْلُو عَن نظر، إِذا تَأمله النَّاظر، وَالْأَوْجه فِي ذَلِك مَا قَالَه الْكرْمَانِي، أَو أَنه(7/88)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل مَا سيقع كالواقع إِظْهَارًا لتعظيم شَأْن الْكُسُوف وتنبيها لأمته أَنه إِذا وَقع بعده يَخْشونَ أَمر ذَلِك ويفزعون إِلَى ذكر الله وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة، لِأَن ذَلِك مِمَّا يدْفع الله بِهِ الْبلَاء. قَوْله: (رَأَيْته قطّ يَفْعَله) كلمة: قطّ، لَا تقع إلاّ بعد الْمَاضِي الْمَنْفِيّ، وَهنا وَقعت بِدُونِ كلمة: مَا، مَعَ أَن فِي كثير من النّسخ وَقعت على الأَصْل، وَهُوَ: (مَا رَأَيْته قطّ يَفْعَله) ، وَوجه ذَلِك: إِمَّا أَن يقدر حرف النَّفْي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تالله تفتؤ تذكر يُوسُف} (يُوسُف: 58) . وَإِمَّا أَن لفظ: أطول، فِيهِ معنى عدم الْمُسَاوَاة أَي: بِمَا لم يساو قطّ قيَاما رَأَيْته يَفْعَله، وَإِمَّا أَن يكون قطّ بِمَعْنى: حسب، أَي: صلى فِي ذَلِك الْيَوْم فَحسب بأطول قيام رَأَيْته يَفْعَله، أَو يكون بِمَعْنى: أبدا، وَيَنْبَغِي أَن تكون لَفْظَة: قطّ، فِي النُّسْخَة الَّتِي مَا تقدمها حرف النَّفْي بِفَتْح الْقَاف، وَسُكُون الطَّاء، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَعْنى: حسب، فَلَا يَقْتَضِي حرف النَّفْي. وَأما إِذا كَانَ على بَابه فَهُوَ بِفَتْح الْقَاف وَضمّهَا وَتَشْديد الطَّاء وتخفيفها، وَبِفَتْحِهَا وَكسر الطَّاء المخففة. قَوْله: (هَذِه الْآيَات) أَشَارَ بهَا إِلَى الْآيَات الَّتِي تقع مثل: الْكُسُوف والخسوف والزلزلة وهبوب الرّيح الشَّدِيدَة وَنَحْوهَا، فَفِي كل وَاحِدَة مِنْهَا تخويف الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إلاّ تخويفا} (الْإِسْرَاء: 95) . وَيفهم من هَذَا أَن الْمُبَادرَة وَالذكر وَالدُّعَاء لَا يخْتَص بالكسوفين، وَبِه قَالَ أَصْحَابنَا، وَحكى ذَلِك عَن أبي مُوسَى، وَقَالَ بَعضهم: لم يَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة ذكر الصَّلَاة فَلَا حجَّة فِيهِ لمن استحبها عِنْد كل آيَة. قلت: لم تَنْحَصِر الْحجَّة بِهَذِهِ الرِّوَايَة بل فِي قَوْله: (افزعوا إِلَى ذكر الله) حجَّة لمن قَالَ ذَلِك، لِأَن الصَّلَاة يُطلق عَلَيْهَا: ذكر الله، لِأَن فِيهَا أنواعا من ذكر الله تَعَالَى، وَقد ورد ذَلِك فِي (صَحِيح مُسلم) : (إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) .
51 - (بابُ الدُّعَاءِ فِي الخُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء فِي الْكُسُوف، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي الْوَقْت: بَاب الدُّعَاء فِي الخسوف.
قالَهُ أبُو مُوسى وَعَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: قَالَ مَا ذكر من الدُّعَاء فِي الْكُسُوف أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَهُوَ فِي حَدِيثه الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: (فافزعوا إِلَى ذكره ودعائه واستغفاره) ، وَأما حَدِيث عَائِشَة فقد تقدم فِي الْبَاب الثَّانِي، وَهُوَ: بَاب الصَّدَقَة فِي الْكُسُوف، ولفظها: (فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فادعو الله) .
0601 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ قَالَ حدَّثنا زيادُ بن عِلاَقَة قَالَ سَمِعْتُ المُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ يَقُولِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ ماتَ إبْرَاهِيمُ فقالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولاَ لِحَيَاتِهِ فإذَا رَأيْتُمُوهُمِا فادْعُوا الله وَصَلّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ.
(أنظر الحَدِيث 3401 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد تقدم فِي الْبَاب الأول، أخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن هَاشم بن الْقَاسِم عَن شَيبَان بن مُعَاوِيَة عَن زِيَاد بن علاقَة عَن الْمُغيرَة، وَهَذَا من الخماسيات، وَالَّذِي فِي هَذَا الْبَاب من الرباعيات، وَهُنَاكَ: عَن زِيَاد عَن الْمُغيرَة، وَهنا: التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ من الْمُغيرَة، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
قَوْله: (رأيتموها) أَي: الْآيَة ويروى (رأيتموهما) بتثنية الضَّمِير، يرجع إِلَى الشَّمْس وَالْقَمَر بِاعْتِبَار كسوفهما. قَوْله: (حَتَّى تنجلي) ويروى بالتذكير، والتأنيث، ووجههما ظَاهر.
61 - (بابُ قَوْلِ الإِمَام فِي خُطْبَةِ الكُسوفِ أمَّا بَعْدُ)
1601 - وقالَ أبُو أسامَةَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ أخْبَرَتْنِي فاطِمَة بنْتُ المُنْذِرِ عنْ أسْمَاءَ قالَتْ فانْصَرَفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ فَحَمِدَ الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ..
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد ذكره فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد الثَّنَاء أما بعد، فِي كتاب الْجُمُعَة. وَقَالَ مَحْمُود: حَدثنَا(7/89)
أَبُو أُسَامَة، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة، قَالَ: أَخْبَرتنِي فَاطِمَة بنت الْمُنْذر (عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، قَالَت: دخلت على عَائِشَة وَالنَّاس يصلونَ) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وَقد تجلت الشَّمْس. .) إِلَى أَن قَالَ: (أما بعد) ، وَقَالَ مُسلم: (عَن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأبي كريب عَن أبي أُسَامَة فَذكره، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث وهم، وَذَلِكَ أَنه زَاد فِي الْإِسْنَاد رجلا أَدخل بَين هِشَام وَفَاطِمَة عُرْوَة بن الزبير، وَالصَّوَاب: هِشَام عَن فَاطِمَة، وَالله أعلم، وَقد تكلمنا فِيهِ هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة.
71 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي كُسُوفِ القَمَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة فِي كسوف الْقَمَر.
2601 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عامِرٍ عنْ شُعْبَةَ عنْ يُونُسَ عنِ الحَسَنُ عنْ أبي بَكْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَلَّى رَكْعَتَيْنِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي بكرَة، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، ومطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (فَإِذا كَانَ ذَلِك) أَي: الْخَسْف فِي الشَّمْس وَالْقَمَر، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث ابْن سعيد. قَوْله: (وثاب إِلَيْهِ النَّاس) بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي: اجْتمع، وَحَدِيث أبي بكرَة هَذَا بِطرقِهِ حجَّة للحنفية كَمَا ذكرنَا فِي أول أَبْوَاب الْكُسُوف.
(بابُ صَبِّ المَرْأةِ عَلَى رَأْسِهَا المَاءَ إذَا أطَالَ الإمَامُ القِيامَ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى)(7/90)
قيل: وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة للمستملي وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيث مُطَابق لَهَا، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : لم يذكر البُخَارِيّ فِيهِ حَدِيثا فَكَأَنَّهُ اكْتفى بِحَدِيث أَسمَاء الَّذِي مضى فِي: بَاب صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال فِي الْكُسُوف. قلت: مَا أبعد هَذَا عَن الْقبُول وَالْأَوْجه مَا قيل فِيهِ: إِن المُصَنّف ترْجم بهَا، وأخلى بَيَاضًا ليذكر لَهَا حَدِيثا أَو طَرِيقا كَمَا جرت عَادَته فَلم يحصل غَرَضه، وَكَانَ الْأَلْيَق بِهَذِهِ التَّرْجَمَة حَدِيث أَسمَاء الْمَذْكُور قبل سَبْعَة أَبْوَاب فَإِنَّهُ نَص فِيهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه عَن الْفربرِي هَكَذَا: بَاب صب الْمَرْأَة إِلَى آخِره: وَقَالَ فِي الْحَاشِيَة: لَيْسَ فِيهِ حَدِيث، ثمَّ ذكر.
81 - (بابٌ الرَّكْعَةُ الأولى فِي الكُسُوفِ أطْوَلُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الرَّكْعَة الأولى فِي صَلَاة الْكُسُوف أطول من الرَّكْعَة الثَّانِيَة، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا وَقعت للكشميهني والحموي، وَلَيْسَ فِي غَالب نسخ البُخَارِيّ التَّرْجَمَة الأولى مَوْجُودَة.
4601 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ حدَّثنا أبُو أحْمَدَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيى عنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ الأوَّلُ أطْوَلُ مِنَ الثَّانِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومحمود هُوَ: ابْن غيلَان الْمَذْكُور عَن قريب، وَأَبُو أَحْمد هُوَ: مُحَمَّد بن عبد الله بن الزبير الْأَسدي الْكُوفِي وَلَيْسَ من ولد الزبير بن الْعَوام، قَالَ بنْدَار: مَا رَأينَا مثله أحفظ مِنْهُ. وَقَالَ غَيره: كَانَ يَصُوم الدَّهْر، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من الحَدِيث الطَّوِيل الَّذِي فِي: بَاب صَلَاة الْكُسُوف فِي الْمَسْجِد، وَكَأَنَّهُ مُخْتَصر مِنْهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: (ثمَّ قَامَ قيَاما طَويلا وَهُوَ دون الْقيام الأول) . وَقَالَ فِي هَذَا: (أَربع رَكْعَات فِي سَجْدَتَيْنِ الأولى أطول) ، وَأَرَادَ بقوله: (أَربع رَكْعَات أَربع ركوعات) ، وَأَرَادَ بقوله: (فِي سَجْدَتَيْنِ) ، يَعْنِي: رَكْعَتَيْنِ، وَأطلق على الرَّكْعَة سَجْدَة من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء على الْكل، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أدْرك من الصَّلَاة سَجْدَة فقد أدْركهَا) أَي: رَكْعَة. قَوْله: (فَالْأولى) ، ويروى: (الأولى) ، بِدُونِ الْفَاء أَي: الرَّكْعَة الأولى أطول، أَي: من الرَّكْعَة التالية، ويروى (الأول أطول من الثَّانِي) أَي: الرُّكُوع الأول أطول من الرُّكُوع الثَّانِي. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا كُله حجَّة على أبي حنيفَة فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ كَسَائِر النَّوَافِل. قلت: لَيْت شعري لِمَ لَا يذكر حَدِيث أبي بكرَة الَّذِي هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، على أَنه لَا خلاف بَين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف رَكْعَتَانِ، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تكْرَار الرُّكُوع، كَمَا مر تَحْقِيقه فِيمَا مضى، وَفِي مثل هَذَا لَا يُقَال: هَذَا حجَّة على فلَان وَذَاكَ على فلَان، وَإِنَّمَا هَذَا اخْتِيَار، فَأَبُو حنيفَة اخْتَار حَدِيث أبي بكرَة وَغَيره من الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكرنَاهَا عِنْد الِاحْتِجَاج لَهُ، وَالشَّافِعِيّ اخْتَار حَدِيث عَائِشَة وَمَا أشبهه من الْأَحَادِيث الأُخر، فَأَبُو حنيفَة لم يقل إِذا كرر الرُّكُوع أَن صلَاته تفْسد، وَالشَّافِعِيّ: لم يقل أَنه إِذا ترك التّكْرَار تفْسد، وَلَكِن حمية العصبية توقع بَعضهم فِي أَكثر من هَذَا.
91 - (بابُ الجَهْرِ بِالقِرَاءَةِ فِي الكُسُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الْكُسُوف، سَوَاء كَانَ الْكُسُوف للشمس أَو للقمر.
5601 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَهْرَانَ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ أخبرنَا ابنُ نَمِرٍ سَمِعَ بنُ مُسْلِمِ بنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا جَهَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلاةِ الخُسُوفِ بِقِرَاءتِهِ فإذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فرَكَعَ وَإذَا رَفَعَ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ ثُمَّ يُعَاوِدُ القِرَاءَةَ فِي صَلاةِ الكُسُوفِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وأرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
.(7/91)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مهْرَان، بِكَسْر الْمِيم: أَبُو جَعْفَر الْجمال الرَّازِيّ، قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ أول سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ أَو قَرِيبا مِنْهُ. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي مَوْلَاهُم الدِّمَشْقِي، مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة رَاجعا من مَكَّة قبل أَن يصل إِلَى دمشق. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم الدِّمَشْقِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: ابْن نمر الْمَذْكُور وَلَيْسَ لَهُ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) غير هَذَا الحَدِيث، وَضَعفه ابْن معِين، لَكِن تَابعه الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْكُسُوف عَن مُحَمَّد بن مهْرَان مُخْتَصرا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ: عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن الْوَلِيد بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عُثْمَان بِطُولِهِ وَهُوَ أتم الرِّوَايَات وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْوَلِيد بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن أبان عَن إِبْرَاهِيم بن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى صَلَاة الْكُسُوف وجهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا) . قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق فِي أَن صَلَاة الْكُسُوف يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، حكى التِّرْمِذِيّ ذَلِك عَنْهُم، ثمَّ حكى عَن الشَّافِعِي مثل ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : إِن مَذْهَبنَا وَمذهب مَالك وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث بن سعد وَجُمْهُور الْفُقَهَاء أَنه: يسَّر فِي كسوف الشَّمْس ويجهر فِي خُسُوف الْقَمَر، قَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق: يجْهر فيهمَا وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الصيدلاني أَن مثله يرْوى عَن أبي حنيفَة، وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: الْجَهْر والإسرار سَوَاء، وَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن مَالك هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ بِخِلَاف مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ، فقد حُكيَ عَن مَالك الْإِسْرَار، كَقَوْل الشَّافِعِي ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) وَابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) . وَقَالَ أَبُو عبد الله الْمَازرِيّ أَن مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مَالك من الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ رِوَايَة شَاذَّة مَا وقفت عَلَيْهَا فِي غير كِتَابه. قَالَ: وَذكرهَا ابْن شعْبَان عَن الْوَاقِدِيّ عَن مَالك، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) والقرطبي فِي (الْمُفْهم) : أَن معن بن عِيسَى والواقدي رويا عَن مَالك الْجَهْر، قَالَا: ومشهور قَول مَالك الْإِسْرَار فِيهَا، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: روى المصريون أَنه يسر، وروى المدنيون: أَنه يجْهر، قَالَ: والجهر عِنْدِي أولى؟ فَإِن قلت: الحَدِيث الْمَذْكُور لَا يدل على أَن الخسوف للشمس، وَلذَلِك من لم ير بالجهر حمله على كسوف الْقَمَر. قلت: قد روى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر عَن الْوَلِيد بِلَفْظ: (كسفت الشَّمْس فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، فَذكر الحَدِيث، وروى إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَيْضا عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بهم فِي كسوف الشَّمْس وجهر بِالْقِرَاءَةِ) ، وَقد احْتج من قَالَ: إِنَّه يسر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا بِحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ: (صلى بِنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كسوف الشَّمْس لَا نسْمع لَهُ صَوتا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، والطَّحَاوِي: أخرجه من أَربع طرق صِحَاح، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: (مَا سَمِعت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْكُسُوف حرفا) ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، وَأجَاب من قَالَ بالجهر بِأَنَّهُ، يجوز أَن يكون ابْن عَبَّاس وَسمرَة لم يسمعا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صلَاته تِلْكَ حرفا، وَالْحَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جهر فيهمَا، ولكنهما لم يسمعا ذَلِك لبعدهما عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحكيا على مَا شاهداه من ذَلِك، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَذَا لَا يُنَافِي جهره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِرَاءَةِ فيهمَا، وَكَيف وَقد ثَبت الْجَهْر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهمَا؟ فَإِن قلت: روى الشَّافِعِي (عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: قُمْت إِلَى جنب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي خُسُوف الشَّمْس فَمَا سَمِعت مِنْهُ حرفا) . قلت: روى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من ثَلَاث طرق كلهَا ضَعِيفَة فَرَوَاهُ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْكُسُوف فَلم أسمع مِنْهُ حرفا) ، وَرَوَاهُ من رِوَايَة الْوَاقِدِيّ عَن عبد الحميد ابْن جَعْفَر عَن يزِيد بن أبي حبيب، فَذكر نَحوه، قَالَ: وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة، ثمَّ قَالَ: وَابْن لَهِيعَة، وَإِن كَانَ غير مُحْتَج بِهِ فِي الرِّوَايَة، وَكَذَلِكَ الْوَاقِدِيّ وَالْحكم بن أبان، فهم عدد. قَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ الْجَهْر عَن الزُّهْرِيّ فَقَط، وَهُوَ وَإِن كَانَ حَافِظًا فَيُشبه أَن يكون الْعدَد أولى بِالْحِفْظِ من الْوَاحِد. قلت: لَيْسَ فِي الطّرق الَّتِي ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ أَن ابْن عَبَّاس قَالَ(7/92)
أَنه كَانَ إِلَى جنب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يَصح ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَلَو صَحَّ يحمل على فعله فِي وَقت دون وَقت، وَرِوَايَات الْجَهْر أصح.
6601 - وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ وغَيْرُهُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ الشَّمْسَ خسفَتْ عَلَى عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَعَثَ مُنَادِيا بِالصَّلاَةِ جامِعَةً فتَقَدَّمَ فَصَلَّى أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وأرْبَعَ سَجَدَاتٍ..
قَالَ الْكرْمَانِي: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ) ، عطف على: حَدثنَا ابْن نمر، لِأَنَّهُ مقول الْوَلِيد. قلت: لِأَنَّهُ يُشِير بذلك إِلَى أَنه مَوْصُول، وَقد وَصله مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن مهْرَان الرَّازِيّ، قَالَ: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيّ بن عَمْرو وَغَيره: سَمِعت ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ يخبر عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن الشَّمْس خسفت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبعث مناديا يُنَادي: الصَّلَاة جَامِعَة، فَاجْتمعُوا وَتقدم فَكبر وَصلى أَربع رَكْعَات فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبع سَجدَات) . قَوْله: (وَأَرْبع سَجدَات) بِالنّصب على (أَربع رَكْعَات) قيل: لَا يسْتَدلّ بِرِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن نمر فِي الْجَهْر لِأَنَّهُ ضَعِيف، وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ وَإِن كَانَ تَابعه فَإِنَّهُ لم يذكر فِي رِوَايَته الْجَهْر. وَأجِيب: بِأَن من ذكر حجَّة على من لم يذكرهُ، وَلَا سِيمَا الَّذِي لم يذكرهُ يتَعَرَّض لنفيه، وَقد ثَبت الْجَهْر فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عِنْد أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن مزِيد أَخْبرنِي أبي أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ أَخْبرنِي الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير (عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ قِرَاءَة طَوِيلَة، فجهر بهَا) يَعْنِي فِي صَلَاة الْكُسُوف.
قَالَ الوَلِيدُ وَأَخْبرنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ نَمِرِ سَمِعَ ابنَ شِهَابٍ مثْلَهُ
أعَاد البُخَارِيّ الْإِسْنَاد الْمَذْكُور إِلَى الْوَلِيد بن مُسلم، وَأدْخل الْوَاو فِيهِ ليعطف على مَا سبق مِنْهُ، كَأَنَّهُ قَالَ، الْوَلِيد: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن نمر كَذَا، وَأَخْبرنِي أَنه سمع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ مثله، أَي: مثل الحَدِيث الأول.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ مَا صَنَعَ أخُوك ذالِكَ عَبْدُ الله بنُ الزُّبَيْرِ مَا صَلَّى إلاَّ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ إذْ صَلَّى بِالمَدِينَةِ قَالَ أجَلْ إنَّهُ أخْطأ السُّنَّةَ
أَي: قَالَ الزُّهْرِيّ، وَهُوَ يُخَاطب عُرْوَة بن الزبير: مَا صنع أَخُوك ذَلِك، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فعله أَخُوهُ فِي صَلَاة الْكُسُوف حَيْثُ صلى رَكْعَتَيْنِ مثل صَلَاة الصُّبْح بِلَا تكْرَار الرُّكُوع، وَقد مر هَذَا مستقصىً فِي: بَاب خطْبَة الإِمَام فِي الْكُسُوف.
قَوْله: (عبد الله بن الزبير) بِالرَّفْع عطف بَيَان لقَوْله: (أَخُوك) ، وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: (صنع) . قَوْله: (إِذا صلى) أَي: حِين صلى عبد الله بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة بِرَكْعَتَيْنِ مثل الصُّبْح. قَوْله: (قَالَ: أجل) أَي: قَالَ عُرْوَة: نعم إِنَّه صلى كَذَا، لكنه أَخطَأ السّنة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من أجل أَنه أَخطَأ السّنة) ، فعلى هَذِه الرِّوَايَة بِفَتْح همزَة أَنه للإضافة، وعَلى رِوَايَة غَيره بِكَسْر الْهمزَة، لِأَنَّهُ ابْتِدَاء كَلَام.
تابَعَهُ سُفْيَانُ بنُ حُسَيْنٍ وسُلَيْمَنُ بنُ كَثِيرٍ عنِ الزّهْرِيِّ فِي الجَهْرِ
أَي: تَابع عبد الرَّحْمَن بن نمر فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ سُلَيْمَان بن كثير ضد قَلِيل الْعَبْدي، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة مَوْصُولَة أَحْمد عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَنهُ بِلَفْظ: (خسفت الشَّمْس على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكبر فَكبر النَّاس ثمَّ قَرَأَ فجهر بِالْقِرَاءَةِ) . الحَدِيث: قَوْله: (وسُفْيَان) بِالرَّفْع عطفا على سُلَيْمَان، أَي: تَابع عبد الرَّحْمَن بن نمر أَيْضا سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ، وَقد انْفَرد الوَاسِطِيّ فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة مَوْصُولَة التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبان حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الْكُسُوف وجهر بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ شَيخنَا زين(7/93)
الدّين: حَدِيث عَائِشَة لَهُ طرق، وَلَكِن الَّذِي ذكر فِيهِ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ ثَلَاث طرق: رِوَايَة سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الزُّهْرِيّ، وَقد انْفَرد التِّرْمِذِيّ بوصلها وَذكرهَا البُخَارِيّ تَعْلِيقا، وَرِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن نمر عَن الزُّهْرِيّ، وَقد اتّفق على إخْرَاجهَا البُخَارِيّ وَمُسلم، وَرِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَقد انْفَرد بهَا أَبُو دَاوُد. قلت: لَهُ طرق أَرْبَعَة أخرجهَا الطَّحَاوِيّ: عَن عقيل بن خَالِد الْأَيْلِي قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن خَالِد، قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن عقيل بن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر بِالْقِرَاءَةِ فِي كسوف الشَّمْس) ، وَله طَرِيق خَامِسَة أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ، وَهَذِه طرق متعاضدة يحصل بهَا الْجَزْم فِي ذَلِك، فَحِينَئِذٍ لَا يلْتَفت إِلَى تَعْلِيل من أعله بسفيان بن حُسَيْن وَغَيره، فَلَو لم تكن فِي ذَلِك إلاّ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ لكَانَتْ كَافِيَة، وَقد رُوِيَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الْكُسُوف عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة حَدثنَا قبيصَة، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن الشَّيْبَانِيّ عَن الحكم (عَن حَنش: أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جهر بِالْقِرَاءَةِ فِي كسوف الشَّمْس) . وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة أَيْضا، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد صلى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا روينَاهُ عَن فَهد بن سُلَيْمَان عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن زُهَيْر عَن الْحسن بن الْحر، قَالَ: (وَحدثنَا الحكم عَن رجل يدعى حنشا عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه صلى بِالنَّاسِ فِي كسوف الشَّمْس كَذَلِك، ثمَّ حَدثهمْ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك فعل) ، وَلَو لم يجْهر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى عَليّ مَعَه لما جهر عَليّ أَيْضا، لِأَنَّهُ علم أَن السّنة فَلم يتْرك الْجَهْر، وَالله أعلم.
71 - (كتابُ سُجُودِ القُرْآن)
1 - (أبْوَابُ سُجُودُ القُرآن)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي سُجُود الْقُرْآن، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (بَاب مَا جَاءَ فِي سُجُود الْقُرْآن وسنتها) أَي: سنة سَجْدَة التِّلَاوَة، وَوَقع للأصيلي: (وسنته) ، بتذكير الضَّمِير أَي: سنة السُّجُود، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر ذكر الْبَسْمَلَة.
7601 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الأسْودَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَرَأ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجْمَ بِمَكَّةَ سْجَدَ فِيهَا وسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرُ شَيْخٍ أخَذَ كَفَّا منْ حَصًى أوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ يَكْفِيني هاذا فَرَأيْتُهُ بَعْدَ ذالِكَ قُتِلَ كافِرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِيمَا جَاءَ فِي سُجُود الْقُرْآن وَهَذِه السُّورَة أَعنِي سُورَة النَّجْم مِمَّا جَاءَت فِيهَا السَّجْدَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة: الملقب ببندار الْبَصْرِيّ وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة على الْأَصَح وبالراء: وَهُوَ لقب مُحَمَّد ابْن جَعْفَر، مر فِي: بَاب ظلم دون ظلم. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي. الْخَامِس: الْأسود بن زيد النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وغندر بَصرِي أَيْضا وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق وَالْأسود كوفيان. وَفِيه: غنْدر مَذْكُور بلقبه، وَأَبُو إِسْحَاق بكنيته، وَشعْبَة وَالْأسود مذكوران بِغَيْر نِسْبَة، وَكَذَلِكَ عبد الله. وَفِيه: من يروي عَن زوج أمه وَهُوَ: غنْدر، لِأَنَّهُ ابْن امْرَأَة شُعْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب عَن حَفْص بن عمر الحوضي، وَفِي مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الْمَغَازِي عَن عبد الله عَن أَبِيه، وَفِي التَّفْسِير عَن نصر بن عَليّ، وَأخرجه مُسلم(7/94)
فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الحوضي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد عَن شُعْبَة بِهِ مُخْتَصرا قَرَأَ النَّجْم فَسجدَ فِيهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَرَأَ النَّجْم) أَي: سُورَة والنجم. قَوْله: (بِمَكَّة) أَي: فِي مَكَّة، ومحلها النصب على الْحَال. قَوْله: (وَسجد من مَعَه) أَي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة بِمَعْنى: الَّذِي. قَوْله: (غير شيخ) سَمَّاهُ فِي تَفْسِير سُورَة النَّجْم من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق أُميَّة بن خلف، وَوَقع فِي سير ابْن إِسْحَاق أَنه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لم يقتل، وَقيل: عتبَة بن ربيعَة، وَقيل: أَبُو أحيجة سعيد بن الْعَاصِ، وَفِي النَّسَائِيّ: (عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي النَّجْم وَسجد النَّاس مَعَه، قَالَ الْمطلب فَلم أَسجد مَعَهم وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرك) ، وَفِي لفظ: (فأبيت أَن أَسجد مَعَهم، وَلم يكن يَوْمئِذٍ أسلم، فَلَمَّا أسلم قَالَ: لَا أدع السُّجُود فِيهَا أبدا) . وَقَالَ ابْن بزيزة: كَانَ منافقا، وَفِيه نظر، لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة وَإِنَّمَا المُنَافِقُونَ فِي الْمَدِينَة، وَفِي (المُصَنّف) بِسَنَد صَحِيح (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: سجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون فِي النَّجْم إلاّ رجلَيْنِ من قُرَيْش، أَرَادَ بذلك الشُّهْرَة) . قَوْله: (فرأيته) الرَّائِي هُوَ عبد الله بن مَسْعُود، أَي: رَأَيْت الشَّيْخ الْمَذْكُور (بعد ذَلِك قتل كَافِرًا) ببدر، ويروى: (فرأيته بعدُ قتل كَافِرًا) بِضَم الدَّال، أَي: بعد ذَلِك.
ذكر مَا يتَعَلَّق بِحكم هَذَا الْبَاب: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِي أَن سَبَب وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة، التِّلَاوَة فِي حق التَّالِي وَالسَّمَاع فِي حق السَّامع، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا خلاف فِي كَون التِّلَاوَة سَببا، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي سَبَبِيَّة السماع، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ سَبَب لقَولهم السَّجْدَة على من سَمعهَا، وَهُوَ اخْتِيَار شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ السماع بِسَبَب، وَقَالَ الوبري: سَبَب وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة ثَلَاثَة: التِّلَاوَة وَالسَّمَاع والاقتداء بِالْإِمَامِ وَإِن لم يسْمعهَا وَلم يَقْرَأها، وللشافعية ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَنه فِي حق السَّامع من غير قصد يسْتَحبّ، وَهُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص فِي الْبُوَيْطِيّ وَغَيره، وَلَا يتَأَكَّد فِي حَقه. الْوَجْه الثَّانِي: هُوَ كالمستمع. وَالثَّالِث: لَا يسن لَهُ، وَبِه قطع أَبُو حَامِد والبندنيجي.
الثَّانِي: أَن سَجْدَة التِّلَاوَة أسنة أم وَاجِبَة؟ فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى وُجُوبهَا على التَّالِي وَالسَّامِع، سَوَاء قصد سَماع الْقُرْآن، أَو لم يقْصد، وَاسْتدلَّ صَاحب (الْهِدَايَة) على الْوُجُوب بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السَّجْدَة على من سَمعهَا، السَّجْدَة على من تَلَاهَا) . ثمَّ قَالَ كلمة: على، للْإِيجَاب، والْحَدِيث غير مُقَيّد بِالْقَصْدِ. قلت: هَذَا غَرِيب لم يثبت، وَإِنَّمَا روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: السَّجْدَة على من سَمعهَا) . وَفِي البُخَارِيّ (قَالَ عُثْمَان: إِنَّمَا السُّجُود على من اسْتمع) . وَاسْتدلَّ أَيْضا بِالْآيَاتِ: {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرىء عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} (الانشقاق: 02، 12) . {فاسجدوا لله واعبدوا} (النَّجْم: 26) . واسجد واقترب} (العلق: 91) . وَقَالُوا: الذَّم لَا يتَعَلَّق إلاّ بترك وَاجِب، وَالْأَمر فِي الْآيَتَيْنِ للْوُجُوب، وروى ابْن أبي شيبَة (عَن حَفْص عَن حجاج عَن إِبْرَاهِيم وَنَافِع وَسَعِيد ابْن جُبَير: أَنهم قَالُوا: من سمع السَّجْدَة فَعَلَيهِ أَن يسْجد) . وَعَن إِبْرَاهِيم بِسَنَد صَحِيح: (إِذا سمع الرجل السَّجْدَة وَهُوَ يُصَلِّي فليسجد) ، وَعَن الشّعبِيّ: (كَانَ أَصْحَاب عبد الله إِذا سمعُوا السَّجْدَة سجدوا، فِي صَلَاة كَانُوا أَو غيرهآ) . وَقَالَ شُعْبَة: (سَأَلت حمادا عَن الرجل يُصَلِّي فَيسمع السَّجْدَة؟ قَالَ: يسْجد) . وَقَالَ الحكم مثل ذَلِك، وَحدثنَا هشيم: أخبرنَا مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يَقُول فِي الْجنب: (إِذا سمع السَّجْدَة يغْتَسل، ثمَّ يقْرؤهَا فيسجدها، فَإِن كَانَ لَا يحسنها قَرَأَ غَيرهَا ثمَّ يسْجد) . وَحدثنَا حَفْص (عَن حجاج عَن فُضَيْل عَن إِبْرَاهِيم وَعَن حَمَّاد وَسَعِيد بن جُبَير قَالُوا: إِذا سمع الْجنب السَّجْدَة اغْتسل ثمَّ سجد) . وَحدثنَا عبيد الله ابْن مُوسَى عَن أبان الْعَطَّار عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب (عَن عُثْمَان فِي الْحَائِض تسمع السَّجْدَة؟ قَالَ: تومىء برأسها، وَتقول: اللَّهُمَّ لَك سجدت) . (وَعَن الْحسن فِي رجل نسي السَّجْدَة من أول صلَاته فَلم يذكرهَا حَتَّى كَانَ فِي آخر رَكْعَة من صلَاته، قَالَ: يسْجد فِيهَا ثَلَاث سَجدَات، فَإِن لم يذكرهَا حَتَّى يقْضِي صلَاته غير أَنه لم يسلم مَعَه، قَالَ: يسْجد سَجْدَة وَاحِدَة مَا لم يتَكَلَّم، فَإِن تكلم اسْتَأْنف الصَّلَاة) . وَعَن إِبْرَاهِيم: (إِذا نسي السَّجْدَة فليسجدها مَتى مَا ذكرهَا فِي صلَاته) ، وَسُئِلَ مُجَاهِد فِي رجل شكّ فِي سَجْدَة وَهُوَ جَالس لَا يدْرِي سجدها أم لَا؟ قَالَ مُجَاهِد: إِن شِئْت فاسجدها، فَإِذا قضيت صَلَاتك فاسجد سَجْدَتَيْنِ وَأَنت جَالس، وَإِن شِئْت فَلَا تسجدها واسجد سَجْدَتَيْنِ وَأَنت جَالس فِي آخر صَلَاتك) . وَذهب الشَّافِعِي وَمَالك فِي أحد قوليه وَأحمد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد إِلَى: أَنَّهَا سنة، وَهُوَ قَول عمر وسلمان وَابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن الْحصين، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَدَاوُد. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف فِي كَونهَا سنة أَو فَضِيلَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي:(7/95)
(إِن الله لم يكْتب علينا السُّجُود إلاّ أَن نشَاء) ، وَهَذَا يَنْفِي الْوُجُوب. قَالُوا: قَالَ عمر هَذَا القَوْل وَالصَّحَابَة حاضرون، وَالْإِجْمَاع السكوتي حجَّة عِنْدهم، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِحَدِيث زيد بن ثَابت الْآتِي، (قَالَ: قرىء على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنجم فَلم يسْجد فِيهَا) . وَبِحَدِيث الْأَعرَابِي: (هَل عَليّ غَيرهَا؟ قَالَ: لَا، إلاّ أَن تطوع) . أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَبِحَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؛ (أَنه دخل الْمَسْجِد وَفِيه قوم يقرأون فقرأوا السَّجْدَة، فسجدوا فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا أَبَا عبد الله لَوْلَا أَتَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم؟ فَقَالَ مَا لهَذَا غدونا) . رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة.
وَاسْتَدَلُّوا بالمعقول من وُجُوه: الأول: أَنَّهَا لَو كَانَت وَاجِبَة لما جَازَت بِالرُّكُوعِ كالصلبية. الثَّانِي: أَنَّهَا لَو كَانَت وَاجِبَة لما تداخلت. الثَّالِث: لما أدّيت بِالْإِيمَاءِ من رَاكب يقدر على النُّزُول. الرَّابِع: أَنَّهَا تجوز على الرَّاحِلَة، فَصَارَ كالتأمين. الْخَامِس: لَو كَانَت وَاجِبَة لبطلت الصَّلَاة بِتَرْكِهَا كالصلبية.
الْجَواب عَن حَدِيث زيد بن ثَابت أَن مَعْنَاهُ: أَنه لم يسْجد على الْفَوْر، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه لَيْسَ فِي النَّجْم سَجْدَة، وَلَا فِيهِ نفي الْوُجُوب. وَعَن حَدِيث الْأَعرَابِي: أَنه فِي الْفَرَائِض، وَنحن لم نقل: إِن سَجْدَة التِّلَاوَة فرض، وَمَا رُوِيَ عَن سلمَان وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فموقوف وَهُوَ لَيْسَ بِحجَّة عِنْدهم.
وَالْجَوَاب: عَن دليلهم الْعقلِيّ. أما عَن الأول: فلَان أداءها فِي ضمن شَيْء لَا يُنَافِي وُجُوبهَا فِي نَفسهَا، كالسعي إِلَى الْجُمُعَة يتَأَدَّى بالسعي إِلَى الْجُمُعَة يتَأَدَّى بالسعي إِلَى التِّجَارَة. وَعَن الثَّانِي: إِنَّمَا جَازَ التَّدَاخُل لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا إِظْهَار الخضوع والخشوع، وَذَلِكَ يحصل بِمرَّة وَاحِدَة. وَعَن الثَّالِث: لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبت، فَإِن تلاوتها على الدَّابَّة مَشْرُوعَة فَكَانَ كالشروع على الدَّابَّة فِي التَّطَوُّع. وَعَن الرَّابِع: كَانَت تلاوتها مَشْرُوعَة على الرَّاحِلَة فَلَا يُنَافِي الْوُجُوب. وَعَن الْخَامِس: أَن الْقيَاس على الصلبية فَاسد، لِأَنَّهَا جُزْء فِي الصَّلَاة، وَسجْدَة التِّلَاوَة لَيست بِجُزْء الصَّلَاة.
الثَّالِث: فِي أَنهم اخْتلفُوا فِي عدد سُجُود الْقُرْآن على اثْنَي عشر قولا: الأول: مَذْهَبنَا أَنَّهَا: أَربع عشرَة سَجْدَة: فِي آخر الْأَعْرَاف، والرعد، والنحل، وَبني إِسْرَائِيل، وَمَرْيَم، وَالْأولَى فِي الْحَج، وَالْفرْقَان، والنمل، وآلم تَنْزِيل، وص، وحم السَّجْدَة، والنجم، وَإِذا السَّمَاء انشقت، واقرأ باسم رَبك. الثَّانِي: إِحْدَى عشرَة، بِإِسْقَاط الثَّلَاث من الْمفصل، وَبِه قَالَ الْحسن وَابْن الْمسيب وَابْن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَعَطَاء وطاووس وَمَالك فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الثَّالِث: خمس عشرَة، وَبِه قَالَ المدنيون عَن مَالك، فكملتها: ثَانِيَة الْحَج، وَهُوَ مَذْهَب عمر وَابْنه عبد الله وَاللَّيْث وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ الْمروزِي وَابْن شُرَيْح الشافعيان. الرَّابِع: أَربع عشرَة، بِإِسْقَاط ص وَهُوَ أصح قولي الشَّافِعِي وَأحمد. الْخَامِس: أَربع عشرَة بِإِسْقَاط سَجْدَة النَّجْم، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر. السَّادِس: ثنتا عشرَة، بِإِسْقَاط: ثَانِيَة الْحَج، وص، والانشقاق، وَهُوَ قَول مَسْرُوق، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ. السَّابِع: ثَلَاث عشرَة، بِإِسْقَاط ثَانِيَة الْحَج والإنشقاق، وَهُوَ قَول عَطاء الْخُرَاسَانِي. الثَّامِن: أَن عزائم السُّجُود خمس: الْأَعْرَاف، وَبَنُو إِسْرَائِيل، والنجم، والإنشقاق، واقرأ باسم رَبك، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن أبراهيم عَنهُ. التَّاسِع: عَزَائِمه أَربع: آلم تَنْزِيل، وحم تَنْزِيل، والنجم، واقرأ باسم رَبك، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عَفَّان عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَليّ بن زيد عَن يُوسُف بن مهْرَان عَن عبد الله بن عَبَّاس عَنهُ. الْعَاشِر: ثَلَاث، قَالَه سعيد بن جُبَير، وَهِي: آلم تَنْزِيل، وحم تَنْزِيل، والنجم، واقرأ باسم رَبك، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن دَاوُد يَعْنِي ابْن أبي إِيَاس عَن جَعْفَر عَنهُ. الْحَادِي عشر: عزائم السُّجُود: آلم تَنْزِيل، والأعراف، وحم تَنْزِيل، وَبَنُو إِسْرَائِيل، وَهُوَ مَذْهَب عبد بن عُمَيْر. الثَّانِي عشر: عشر سَجدَات، قالته جمَاعَة. قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا أُسَامَة حَدثنَا ثَابت بن عمَارَة عَن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمِي أَن أشياخا من الهجيم بعثوا رَسُولا لَهُم إِلَى الْمَدِينَة وَإِلَى مَكَّة يسْأَل لَهُم عَن سُجُود الْقُرْآن، فَأخْبرهُم أَنهم أَجمعُوا على عشر سَجدَات، وَذهب ابْن حزم إِلَى أَنَّهَا تسْجد للْقبْلَة ولغير الْقبْلَة، وعَلى طَهَارَة وعَلى غير طَهَارَة، قَالَ: وثانية الْحَج لَا نقُول بهَا أصلا فِي الصَّلَاة، وَتبطل الصَّلَاة بهَا، يَعْنِي: إِذا سجدت. قَالَ لِأَنَّهَا لم تصح بهَا سنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أجمع عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهَا أثر مُرْسل. قلت: الظَّاهِر أَنه غفل وَذهل، بل فِيهَا حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الْحَاكِم، (عَن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرأه خمس عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن الْعَظِيم، مِنْهَا ثَلَاثَة فِي الْمفصل. الرَّابِع: السَّجْدَة فِي آخر الْأَعْرَاف: {إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ} (الْأَعْرَاف: 602) . وَفِي الرَّعْد عِنْد: {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ(7/96)
وَالْآصَال} (الرَّعْد: 51) . وَفِي النَّحْل عِنْد قَوْله: {وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون} (النَّحْل: 94) . وَفِي بني إِسْرَائِيل عِنْد قَوْله: {ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا} (الْإِسْرَاء: 901) . وَفِي مَرْيَم عِنْد قَوْله: {إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا} (مَرْيَم: 85) . وَفِي الأولى فِي الْحَج عِنْد قَوْله: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} إِلَى قَوْله: {إِن الله يفعل مَا يَشَاء} (الْحَج: 08) . وَفِي الْفرْقَان عِنْد قَوْله: {وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن} إِلَى قَوْله: {نفورا} (الْفرْقَان: 06) . وَفِي النَّمْل عِنْد قَوْله: {وَيعلم مَا تخفون وَمَا تعلنون} (النَّمْل: 52) . وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك عِنْد قَوْله: {رب الْعَرْش الْعَظِيم} (النَّمْل: 62) . وَفِي آلم تَنْزِيل عِنْد قَوْله: {إِنَّمَا يُؤمن بِآيَاتِنَا الَّذين إِذا ذكرُوا} إِلَى {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (السَّجْدَة: 51) . وَفِي ص عِنْد قَوْله: {فَاسْتَغْفر ربه وخر رَاكِعا وأناب} (ص: 42) . وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك، وروى عَن مَالك عِنْد قَوْله: {وَحسن مآب (ص: 52) . وَفِي حم السَّجْدَة عِنْد قَوْله: {فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك} إِلَى {وهم لَا يسأمون} (فصلت: 83) . وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَأحمد، وَقَالَ فِي الْقَدِيم عِنْد قَوْله: {إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} (فصلت: 73) . وَبِه قَالَ مَالك. وَفِي النَّجْم عِنْد قَوْله: {فاسجدوا لله} (النَّجْم: 26) . وَفِي {إِذا السَّمَاء انشقت} (الانشقاق: 1) . عِنْد قَوْله: {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرىء عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} (الانشقاق: 12) . وَعند ابْن حبيب الْمَالِكِي فِي آخر السُّورَة وَفِي: {اقْرَأ باسم رَبك} (العلق: 1) . عِنْد قَوْله: {واسجد واقترب} (العلق: 91) . وَفِي مُخْتَصر الْبَحْر لَو قَرَأَ: {واسجد} (العلق: 91) . وَسكت، وَلم يقل: {واقترب} (العلق: 91) . تلْزمهُ السَّجْدَة.
2 - (بابُ سَجْدَةِ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَجْدَة ألم تَنْزِيل السَّجْدَة.
8601 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةُ وَهَلْ أتَى عَلَى الإنْسَانِ.
(أنظر الحَدِيث 198) .
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن الحَدِيث يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر فِي يَوْم الْجُمُعَة هَاتين السورتين، وَلَكِن لَا يفهم مِنْهُ أَنه كَانَ يسْجد فِيهَا أَو لَا، مَعَ أَنه ذكر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب مَا يقْرَأ فِي صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة، وَرَوَاهُ عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان إِلَى آخِره نَحوه، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (ألم تَنْزِيل السَّجْدَة) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ {ألم تَنْزِيل} و {هَل أَتَاك} ، وَقَالَ زَاد الْحسن حَدِيث الغاشية، وَقَالَ: لم يذكر السَّجْدَة.
3 - (بابُ سَجْدَةِ ص)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَجْدَة سُورَة ص.
9601 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وَأبُو النُّعْمَانِ قَالَا حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ ص لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وقَدْ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِيهَا.
(الحَدِيث 9601 طرفه فِي: 2243) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَقد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِيهَا) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأل: سُلَيْمَان بن حَرْب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو النُّعْمَان، بِضَم النُّون: مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: حَمَّاد بن زيد، وَقد تقدم غير مرّة. الرَّابِع: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَخْبَار الصَّحَابِيّ بِالرُّؤْيَةِ. وَفِيه: رِوَايَة البُخَارِيّ عَن اثْنَيْنِ من مشايخه. وَفِيه: أَحدهمَا مَذْكُور بكنيته. وَفِيه: أحد الروَاة مُفَسّر بنسبته. وَفِيه: إثنان بِلَا نِسْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ(7/97)
أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عتبَة بن عبد الله عَن سُفْيَان بِمَعْنَاهُ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِي ص {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الْأَنْعَام: 09) [/ ح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْسَ من عزائم السُّجُود) ، العزائم جمع عَزِيمَة، وَهِي الَّتِي أكدت على فعلهَا مثل صِيغَة الْأَمر، مثلا قَالَه بَعضهم، وَلَكِن التَّمْثِيل بِصِيغَة الْأَمر على الْإِطْلَاق لَا يَصح لِأَن الْأَمر فِي نَفسه يخْتَلف، فَتَارَة يدل على الْوُجُوب وَتارَة على الِاسْتِحْبَاب، وَغير ذَلِك كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، بل مَعْنَاهُ: لَيْسَ حق من حُقُوق السُّجُود وَلَا وَاجِب من واجباته، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عزائم السُّجُود يَعْنِي لَيْسَ من السجدات الْمَأْمُور بهَا، والعزيمة فِي الأَصْل عقد الْقلب على الشَّيْء، ثمَّ اسْتعْمل لكل أَمر محتوم، وَفِي الِاصْطِلَاح ضد الرُّخْصَة الَّتِي هِيَ مَا ثَبت على خلاف الدَّلِيل لعذر. قلت: لَا يُقَال فِي الِاصْطِلَاح ضد الرُّخْصَة بل إِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِي اللُّغَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: لَا خلاف بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة فِي أَن ص فِيهَا سَجْدَة تفعل وَهُوَ أَيْضا مَذْهَب سُفْيَان وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق غير أَن الْخلاف فِي كَونهَا من العزائم أم لَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِي لَيست من العزائم وَإِنَّمَا هِيَ سَجْدَة شكر تسْتَحب فِي غير الصَّلَاة، وَتحرم فِيهَا فِي الْأَصَح، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوص عِنْده، وَبِه قطع جُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه هِيَ من العزائم، وَبِه قَالَ ابْن شُرَيْح وَأَبُو إِسْحَاق الْمروزِي، وَهُوَ قَول مَالك أَيْضا. وَعَن أَحْمد كالمذهبين وَالْمَشْهُور مِنْهُمَا كَقَوْل الشَّافِعِي، وَمثله قَالَ أَبُو دَاوُد عَن ابْن مَسْعُود لَا سُجُود فِيهَا، وَقَالَ: هِيَ تَوْبَة نَبِي، وروى مثله عَن عَطاء وعلقمة، وَاحْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، هَذَا وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر فِي سُجُوده فِي ص أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة عمر بن أبي ذَر عَن أبي عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي ص فَقَالَ: سجدها دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام تَوْبَة، ونسجدها شكرا) . وَله حَدِيث آخر أخرجه البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) فِي التَّفْسِير عَن عتبَة بن عبد الله عَن سُفْيَان وَلَفظه: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ص {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الْأَنْعَام: 09) . قُلْنَا: هَذَا كُله حجَّة لنا وَالْعَمَل بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى من الْعَمَل بقول ابْن عَبَّاس، وَكَونهَا تَوْبَة لَا يُنَافِي كَونهَا عَزِيمَة، وسجدها دَاوُد تَوْبَة، وَنحن نسجدها شكرا لما أنعم الله على دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام بالغفران والوعد بالزلفى وَحسن مآب، وَلِهَذَا لَا يسْجد عندنَا عقيب. قَوْله: {وأناب} (ص: 42) . بل عقيب قَوْله: {وَحسن مآب} وَهَذِه نعْمَة عَظِيمَة فِي حَقنا، فَكَانَت سَجْدَة تِلَاوَة لِأَن سَجْدَة التِّلَاوَة مَا كَانَ سَبَب وُجُوبهَا إلاّ التِّلَاوَة، وَسبب وجوب هَذِه السَّجْدَة تِلَاوَة هَذِه الْآيَة الَّتِي فِيهَا الْإِخْبَار عَن هَذِه النعم على دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام، وإطماعنا فِي نيل مثله، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن سعيد قَالَ: (قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على الْمِنْبَر ص، فَلَمَّا بلغ السَّجْدَة نزل فَسجدَ) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي ص) وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا كَذَلِك، وَفِي (المُصَنّف) قَالَ ابْن عمر: فِي ص سَجْدَة، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: كنت لَا أَسجد فِي ص حَتَّى حَدثنِي السَّائِب أَن عُثْمَان سجد فِيهَا، وَعَن سعيد بن جُبَير أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يسْجد فِي ص، وَكَانَ طَاوُوس يسْجد فِي، وَسجد فِيهَا الْحسن والنعمان بن بشير، ومسروق وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَالضَّحَّاك بن قيس (وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: سجدت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ص) وَعَن عقبَة بن عَامر فِيهَا السُّجُود.
4 - (بابُ سَجْدَةِ النَّجْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السَّجْدَة الَّتِي فِي سُورَة النَّجْم.
قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: رَوَاهُ أَو حَكَاهُ عبد الله بن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فِي سُورَة النَّجْم سَجْدَة، وتذكير الضَّمِير الْمَنْصُوب بِاعْتِبَار السُّجُود، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي عقيب هَذَا الْبَاب.
0701 - حدَّثنا حَفصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله(7/98)
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأ سُورَةَ النَّجْمَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أحَدٌ مِنَ القَوْمِ إلاَّ سَجَدَ فأخَذَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ كَفّا مِنْ حَصِيِّ أوْ تُرَابٍ فرَفَعَهُ إلَى وَجْهِهِ وقالَ يَكْفِينِي هاذا فَلَقَدْ رَأيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كافِرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث مر فِي أول أَبْوَاب سُجُود الْقُرْآن رَوَاهُ هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَهَهُنَا رَوَاهُ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة إِلَى آخِره، وَهُنَاكَ عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت الْأسود، وَهنا: عَن الْأسود، وَإسْنَاد الَّذِي هُنَاكَ سداسي لِأَن فِيهِ غندرا، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بَين ابْن بشار وَشعْبَة، وَإسْنَاد هَذَا خماسي وَهُنَاكَ: قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجْم بِمَكَّة، وَهنا لم يذكر بِمَكَّة، وَهنا زَاد (فَمَا بَقِي أحد من الْقَوْم إلاّ سجد) أَي: من الْقَوْم الْحَاضِرين وَسُجُوده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قِرَاءَة النَّجْم كَانَ بِمَكَّة، كَمَا بَينه البُخَارِيّ مُفَسرًا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَفِي حَدِيث مخرمَة بن نَوْفَل قَالَ: (لما أظهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام أسلم أهل مَكَّة كلهم، وَذَلِكَ قبل أَن تفرض الصَّلَاة حَتَّى إِن كَانَ ليقْرَأ السَّجْدَة فيسجدون، حَتَّى مَا يَسْتَطِيع بَعضهم أَن يسْجد من الزحام، حَتَّى قدم رُؤَسَاء من قُرَيْش، الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَأَبُو جعل بن هِشَام وَغَيرهمَا وَكَانُوا بِالطَّائِف فِي أَرضهم فَقَالُوا: تدعون دين آبائكم؟) هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) : قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَلَا يَصح فَفِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة.
5 - (بابُ سُجُودِ المُسْلِمِينَ مَعَ المُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكُ نَجِسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُجُود الْمُسلمين مَعَ الْمُشْركين. قَوْله: (والمشرك نجس) ، أَي: وَالْحَال أَن الْمُشرك نجس. بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبطناه بِالْفَتْح، وَقَالَ: الْقَزاز إِذا قَالُوهُ مَعَ الرجس اتَّبعُوهُ إِيَّاه، قَالُوا: رِجْس نجس، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْجِيم، وَالنَّجس، فِي اللُّغَة: كل مستقذر
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، بِحَذْف: غير، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بِحَالهِ لِأَنَّهُ لم يُوَافق ابْن عمر أحد على جَوَاز السُّجُود بِغَيْر وضوء إلاّ الشّعبِيّ، وَلَكِن الْأَصَح: على غير وضوء، لما روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عبيد بن الْحسن عَن رجل زعم أَنه كنفسه عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: (كَانَ ابْن عمر ينزل عَن رَاحِلَته فيهريق المَاء ثمَّ يركب فَيقْرَأ السَّجْدَة فَيسْجد وَمَا يتَوَضَّأ) ، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن زَكَرِيَّا (عَن الشّعبِيّ فِي الرجل يقْرَأ السَّجْدَة وَهُوَ على غير وضوء، فَكَانَ يسْجد) . وروى أَيْضا: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن الْأَعْمَش عَن عَطاء (عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: كَانَ يقْرَأ السَّجْدَة وَهُوَ على غير وضوء، وَهُوَ على غير الْقبْلَة، وَهُوَ يمشي فيومىء بِرَأْسِهِ إِيمَاء ثمَّ يسلم) . فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن اللَّيْث عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: لَا يسْجد الرجل إلاّ وَهُوَ طَاهِر) . قلت: وفْق بَينهمَا بِأَن حمل قَوْله: (طَاهِر) ، على الطَّهَارَة الْكُبْرَى، أَو يكون هَذَا على حَالَة الِاخْتِيَار، وَذَلِكَ على حَالَة الضَّرُورَة، وَقَالَ ابْن بطال مُعْتَرضًا على البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة: إِن أَرَادَ الِاحْتِجَاج على قَول ابْن عمر بسجود الْمُشْركين فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن سجودهم لم يكن على وَجه الْعِبَادَة لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ لما ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شفاعتهم ترتجى، بعد قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) . فسجدوا لما سمعُوا من تَعْظِيم آلِهَتهم، فَلَمَّا علم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ألْقى على لِسَانه حزن لَهُ فَأنْزل الله تَسْلِيَة عَمَّا عرض لَهُ (وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته) أَي إِذا تَلا ألْقى الشَّيْطَان فِي تِلَاوَته، فَلَا يستنبط من سجودهم جَوَاز السُّجُود على غير الْوضُوء، لِأَن الْمُشرك نجس لَا يَصح لَهُ الْوضُوء وَلَا السُّجُود إلاّ بعد عقد الْإِسْلَام، وَإِن أَرَادَ الرَّد على ابْن عمر. بقوله: (والمشرك نجس) ، لَيْسَ لَهُ وضوء فَهُوَ أشبه بِالصَّوَابِ، وَأجَاب ابْن رشيد بِأَن مَقْصُود البُخَارِيّ تَأْكِيد مَشْرُوعِيَّة السُّجُود بِأَن الْمُشرك قد أقرّ على السُّجُود، وسمى الصَّحَابِيّ فعله(7/99)
سجودا مَعَ عدم أَهْلِيَّته، فالمتأهل لذَلِك أَحْرَى بِأَن يسْجد على كل حَال وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن الَّذِي مَا سجد عُوقِبَ بِأَن قتل كَافِرًا، فَلَعَلَّ جَمِيع من وفْق للسُّجُود يَوْمئِذٍ ختم لَهُ بِالْحُسْنَى، فَأسلم ببركة السُّجُود. انْتهى.
قلت: فِيهِ بحث من وُجُوه:
الأول: أَن تقريرهم على السُّجُود لم يكن لاعْتِبَار سجودهم، وَإِنَّمَا كَانَ طَمَعا لإسلامهم.
الثَّانِي: أَن تَسْمِيَة الصَّحَابِيّ فعلهم سجودا بِالنّظرِ إِلَى الصُّورَة مَعَ علمه بِأَن سجودهم كلا سُجُود، لِأَن السُّجُود طَاعَة وَالطَّاعَة مَوْقُوفَة على الْإِيمَان.
الثَّالِث: أَن قَوْله: وَلَعَلَّ جَمِيع من وفْق إِلَى آخِره ظن وتخمين، فَلَا يبتنى عَلَيْهِ حكم، ثمَّ الَّذِي قَالَه ابْن بطال: إِنَّمَا كَانَ لما ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . إِلَى آخِره، مَوْجُود فِي كثير من التفاسير، ذكرُوا أَنه لما قَرَأَ سُورَة النَّجْم، وَوَقع فِي السُّورَة ذكر آلِهَتهم فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) . وسمعوا ذكر آلِهَتهم فِي الْقُرْآن فَرُبمَا ظنوه أَو بَعضهم أَن ذَلِك مدح لَهَا، وَقيل: إِنَّهُم سمعُوا بعد ذكر آلِهَتهم: تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى، فَقيل: إِن بَعضهم هُوَ الْقَائِل لَهَا، أَي: بعض الْمُشْركين، لما ذكر آلِهَتهم خَشوا أَن يذمها، فبدر بَعضهم فَقَالَ ذَلِك، سَمعه من سَمعه وظنوا أَو بَعضهم أَن ذَلِك من قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل إِن إِبْلِيس لَعنه الله هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك حِين وصل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هَذِه اللآية فظنوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك وَقيل: إِن إِبْلِيس أجْرى ذَلِك على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا بَاطِل قطعا. وَمَا كَانَ الله ليسلطه على نبيه وَقد عصمه مِنْهُ وَمن غَيره، وَكَذَلِكَ كَون إِبْلِيس قَالَهَا وَشبه صَوته بِصَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاطِل أَيْضا، وَإِذا كَانَ لَا يَسْتَطِيع أَن يتشبه بِهِ فِي النّوم كَمَا أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي الحَدِيث الصَّحِيح، وَهُوَ قَوْله: (من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتشبه بِي وَلَا يتَمَثَّل بِي) . فَإِذا كَانَ لَا يقدر على التَّشَبُّه بِهِ فِي الْمَنَام من الرَّائِي لَهُ، والنائم لَيْسَ فِي مَحل التَّكْلِيف والضبط، فَكيف يتشبه بِهِ فِي حَالَة إستيقاظ من يسمع قِرَاءَته؟ هَذَا من الْمحَال الَّذِي لَا يقبله قلب مُؤمن، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي ذكر فِيهِ ذكر ذَلِك أَكثر طرقه مُنْقَطِعَة معلولة، وَلم يُوجد لَهَا إِسْنَاد صَحِيح وَلَا مُتَّصِل إلاّ من ثَلَاثَة طرق. أَحدهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده قَالَ: حَدثنَا يُوسُف بن حَمَّاد حَدثنَا أُميَّة بن خَالِد حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِيمَا أَحسب، أَشك فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بِمَكَّة فَقَرَأَ سُورَة النَّجْم حَتَّى انْتهى إِلَى {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) . فَجرى على لِسَانه: تِلْكَ الغرانيق العلى الشَّفَاعَة مِنْهُم ترتجى، قَالَ: فَسمع ذَلِك مشركو أهل مَكَّة فسروا بذلك، فَاشْتَدَّ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاّ إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته} (الْحَج: 25) . ثمَّ قَالَ الْبَزَّار: وَلَا نعلمهُ يرْوى بِإِسْنَاد مُتَّصِل يجوز ذكره، وَلم يسْندهُ عَن شُعْبَة إلاّ أُميَّة بن خَالِد، وَغَيره يُرْسِلهُ عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: وَإِنَّمَا يعرف هَذَا من حَدِيث الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي تَفْسِير أبي بكر بن مرْدَوَيْه عَن سعيد بن جُبَير: لَا أعلمهُ إلاّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَرَأَ النَّجْم فَلَمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) . ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه: تِلْكَ الغرانيق العلى وشفاعتها ترتجى، فَلَمَّا بلغ آخرهَا سجد وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاّ إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} (الْحَج: 25) . إِلَى قَوْله: {عَذَاب يَوْم عقيم} (الْحَج: 55) . قَالَ يَوْم بدر. وَالطَّرِيق الثَّانِي رِوَايَة مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالطَّرِيق الثَّالِث: مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن كَامِل حَدثنَا مُحَمَّد بن سعيد حَدثنِي أبي حَدثنَا عمي حَدثنَا أبي عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس قَوْله: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم: 91 و 02) . قَالَ: بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي أنزلت عَلَيْهِ آلِهَة الْعَرَب، فَسمع الْمُشْركُونَ يتلوها، وَقَالُوا إِنَّه يذكر آلِهَتنَا بِخَير، فدنوا فَبَيْنَمَا هُوَ يتلوها ألْقى الشَّيْطَان: تِلْكَ الغرانيق العلى مِنْهَا الشَّفَاعَة ترتجى، فعلق يتلوها، فَنزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فنسخها ثمَّ قَالَ: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي. .} (الْحَج: 25) . الْآيَة، وَظَاهر هَذِه الرِّوَايَة الثَّالِثَة أَن الْآيَة أنزلت عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَأَنه تَلا مَا أنزل عَلَيْهِ، وَأَن الشَّيْطَان ألْقى عَلَيْهِ هَذِه الزِّيَادَة، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علق يتلوها يظنّ أَنَّهَا أنزلت وَأَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان بِوَحْي الْملك إِلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضا مُمْتَنع فِي حَقه أَن يدْخل عَلَيْهِ فِيمَا حَقه الْبَلَاغ، وَكَيف يشْتَبه عَلَيْهِ مزج الذَّم بالمدح، فآخر الْكَلَام وَهُوَ قَوْله: {ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} (النَّجْم: 12) . الْآيَات رد لما أَلْقَاهُ الشَّيْطَان على زعمهم، وَجَمِيع هَذِه المسانيد الثَّلَاثَة لَا يحْتَج بِشَيْء مِنْهَا: أما الْإِسْنَاد الأول: وَإِن كَانَ رِجَاله ثِقَات فَإِن الرَّاوِي شكّ فِيهِ كَمَا أخبر عَن نَفسه، فإمَّا شكّ(7/100)
فِي رَفعه، فَيكون مَوْقُوفا. وَفِي وَصله فَيكون مُرْسلا، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ بِحجَّة خُصُوصا فِيمَا فِيهِ قدح فِي حق الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل لَو جزم الثِّقَة بِرَفْعِهِ وَوَصله حملناه على الْغَلَط وَالوهم، وَأما الْإِسْنَاد الثَّانِي: فَإِن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ ضَعِيف بالِاتِّفَاقِ، مَنْسُوب إِلَى الْكَذِب، وَقد فسر الْكَلْبِيّ فِي رِوَايَته الغرانقة العلى: بِالْمَلَائِكَةِ، لَا بآلهة الْمُشْركين، كَمَا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وكذبوا على الله فَرد الله ذَلِك عَلَيْهِم بقوله: {ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} (النَّجْم: 12) . فعلى هَذَا فَلَعَلَّهُ كَانَ قُرْآنًا ثمَّ نسخ لتوهم الْمُشْركين بذلك مدح آلِهَتهم. وَأما الْإِسْنَاد الثَّالِث: فَإِن مُحَمَّد بن سعد هُوَ الْعَوْفِيّ، وَهُوَ ابْن سعد بن مُحَمَّد بن الْحسن ابْن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ، تكلم فِيهِ الْخَطِيب، فَقَالَ: كَانَ لينًا فِي الحَدِيث، وَأَبوهُ سعد بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَطِيَّة، قَالَ فِيهِ أَحْمد: لم يكن مِمَّن يستأهل أَن يكْتب عَنهُ، وَلَا كَانَ موضعا لذَلِك، وَعم أَبِيه: هُوَ الْحُسَيْن بن الْحسن بن عَطِيَّة، ضعفه ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهم، وَالْحسن بن عَطِيَّة ضعفه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم، وَهَذِه سلسلة ضعفاء، وَلَعَلَّ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ سَمعه من الْكَلْبِيّ فَإِنَّهُ كَانَ يروي عَنهُ ويكنيه بِأبي سعيد لضَعْفه، ويوهم أَنه: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. وَقَالَ عِيَاض: هَذَا حَدِيث لم يُخرجهُ أحد من أهل الصِّحَّة. وَلَا رُوَاة ثِقَة بِسَنَد سليم مُتَّصِل، وَإِنَّمَا أولع بِهِ وبمثله الْمُفَسِّرُونَ، والمؤرخون المولعون بِكُل قريب، المتلقنون من الصُّحُف كل صَحِيح وَسَقِيم. قلت: الْأَمر كَذَلِك، فَإِن غَالب هَؤُلَاءِ مثل الطرقية وَالْقصاص وَلَيْسَ عِنْدهم تَمْيِيز، يخبطون خبط عشواء، ويمشون فِي ظلمَة ظلماء، وَكَيف يُقَال مثل هَذَا وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزاهته عَن مثل هَذِه الرذيلة؟ وَلَو وَقعت هَذِه الْقِصَّة لوجدت قُرَيْش على الْمُسلمين بهَا الصولة، ولأقامت عَلَيْهِم الْيَهُود بهَا الْحجَّة، كَمَا علم من عَادَة الْمُنَافِقين وعناد الْمُشْركين، كَمَا وَقع فِي قصَّة الْإِسْرَاء حَتَّى كَانَت فِي ذَلِك لبَعض الضُّعَفَاء ردة.
1701 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَة عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ والإنْسُ.
(الحَدِيث 1701 طرفه فِي: 2684) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا غير مرّة، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي معمر، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن عبد الله بن الْبَزَّار عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (سجد بِالنَّجْمِ) زَاد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من هَذَا الْوَجْه: بِمَكَّة، وَيُسْتَفَاد من ذَلِك أَن قصَّة ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود متحدة. قَوْله: (وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنّ وَالْإِنْس) قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه مَحْمُول على من كَانَ حَاضرا. قلت: يُعَكر عَلَيْهِ أَن الْألف وَاللَّام فِي الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين أبطلت الجمعية، صَارَت لاستغراق الْجِنْس وَكَذَلِكَ الْألف وَاللَّام فِي: الْجِنّ والأنس، للاستغراق، فَيشْمَل الْحَاضِر وَالْغَائِب، حَتَّى روى الْبَزَّار: (عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتبت عِنْده سُورَة النَّجْم،. فَلَمَّا بلغ السَّجْدَة سجد وسجدنا مَعَه، وسجدت الدواة والقلم) ، وَإِسْنَاده صَحِيح. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (سجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآخر النَّجْم وَالْجِنّ وَالْإِنْس وَالشَّجر) فَإِن قلت: من أَيْن علم الرَّاوِي أَن الْجِنّ سجدوا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا بِإِخْبَار النَّبِي ... صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَإِمَّا بِإِزَالَة الله تَعَالَى الْحجاب. قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين: الظَّاهِر أَن الحَدِيث من مَرَاسِيل ابْن عَبَّاس عَن الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ لم يشْهد تِلْكَ الْقِصَّة، خُصُوصا إِن كَانَت قبل فرض الصَّلَاة، كَمَا تقدم فِي حَدِيث مخرمَة، ومراسيل الصَّحَابَة مَقْبُولَة على الصَّحِيح، وَالظَّاهِر أَن ابْن عَبَّاس سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث بِهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ الْإِنْس مُكَرر، بل لفظ الْجِنّ أَيْضا لِأَنَّهُ إِجْمَال بعد تَفْصِيل نَحْو: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} (الْبَقَرَة: 691) . وَقَالَ أَيْضا: فَإِن قلت: لِمَ سجد الْمُشْركُونَ وهم لَا يَعْتَقِدُونَ الْقُرْآن (قلت) قيل لأَنهم سمعُوا أَسمَاء أصنامهم حَيْثُ قَالَ {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى قَالَ القَاضِي عِيَاض كَانَ سَبَب سجودهم فِيمَا قَالَ ابْن مَسْعُود، أَنَّهَا أول سَجْدَة نزلت قلت: اسْتشْكل هَذَا بِأَن: إقرأ باسم رَبك، أول السُّور نزولاً، وفيهَا أَيْضا سَجْدَة، فَهِيَ سَابِقَة على النَّجْم. وَأجِيب: بِأَن السَّابِق من إقرأ أَولهَا، وَأما بقيتها فَنزلت بعد ذَلِك، بِدَلِيل قصَّة أبي جهل فِي نَهْيه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة، أَو المُرَاد: أول سُورَة استعلن بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنجم، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره.(7/101)
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعبد الله بن وهب وَابْن حبيب الْمَالِكِي على أَن سُورَة النَّجْم فِيهَا سَجْدَة، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة وطاووس وَمَالك: لَيْسَ فِي سُورَة النَّجْم سَجْدَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَسَنذكر الْجَواب عِنْد ذكره، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة رَوَاهُ عَنهُ أَحْمد وَقَالَ: (سجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون فِي النَّجْم إلاّ رجلَيْنِ من قُرَيْش أَرَادَا بذلك الشُّهْرَة) . وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات. وَمِنْهُم: أَبُو الدَّرْدَاء أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة أم الدَّرْدَاء عَنهُ. قَالَ: سجدت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِحْدَى عشرَة سَجْدَة، مِنْهَا الَّتِي فِي النَّجْم. وَمِنْهُم: عبد الله بن عمر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة مُصعب بن ثَابت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ: والنجم، بِمَكَّة فَسجدَ وَسجد النَّاس مَعَه حَتَّى إِن الرجل ليرْفَع إِلَى جَبينه شَيْئا من الأَرْض فَيسْجد عَلَيْهِ، وَحَتَّى يسْجد على الرجل) ، وَمصْعَب بن ثَابت مُخْتَلف فِيهِ، ضعفه أَحْمد وَابْن معِين وَوَثَّقَهُ ابْن أبي حبَان، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق كثير الْغَلَط. وَمِنْهُم: الْمطلب بن أبي ودَاعَة، أخرج النَّسَائِيّ حَدِيثه بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة ابْنه جَعْفَر بن الْمطلب عَنهُ، قَالَ: (قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة سُورَة النَّجْم فَسجدَ وَسجد من مَعَه، فَرفعت رَأْسِي وأبيت أَن أَسجد) ، وَلم يكن يَوْمئِذٍ أسلم الْمطلب. وَمِنْهُم: عَمْرو بن الْعَاصِ، أخرج حَدِيثه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن نمير عَنهُ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرأه خمس عشرَة سَجْدَة فِي الْقُرْآن، مِنْهَا ثَلَاث فِي الْمفصل) . وَمِنْهُم: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أخرج حَدِيثهَا الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن بشير عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة قَالَت: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّجْمِ، فَلَمَّا بلغ السَّجْدَة سجد) . وَعبد الرَّحْمَن بن بشير مُنكر الحَدِيث. وَمِنْهُم: عَمْرو الجني، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عُثْمَان بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو الجني قَالَ: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَعُثْمَان بن أبي صَالح شيخ البُخَارِيّ لم يدْرك أحدا من الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ توفّي سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، إلاّ أَنه ذكر أَن عمرا هَذَا من الْجِنّ، وَقد نسبه أَبُو مُوسَى فِي (ذيله) : من الصَّحَابَة عَمْرو بن طلق، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عَمْرو الجني، قيل: هُوَ ابْن طلق، أوردهُ أَبُو مُوسَى، وَقَالَ: وَالْعجب أَنهم يذكرُونَ الْجِنّ من الصَّحَابَة وَلَا يذكرُونَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل؟ قلت: لِأَن الْجِنّ آمنُوا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُرْسل إِلَيْهِم، وَالْمَلَائِكَة ينزلون بالرسالة إِلَى الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: أَن رُؤْيَة الْإِنْس للجن لَا تنكر، وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة رُؤْيَة الْإِنْس للجن، وَاسْتدلَّ بَعضهم بقوله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) . مَعَ قَوْله: {إلاّ إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ} (فصلت: 05) . وَأجَاب أهل السّنة بِأَن هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فِي عدم رُؤْيَة الْإِنْس الْجِنّ أَو الشَّيَاطِين، وَقد ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّيْطَان الَّذِي أَرَادَ أَن يقطع عَلَيْهِ صلَاته، وَأَنه خنقه حَتَّى وجد برد لِسَانه، وَأَنه قَالَ: (لَوْلَا دَعْوَة سُلَيْمَان لربطته إِلَى سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد) الحَدِيث، وَثَبت فِي الصَّحِيح رُؤْيَة أبي هُرَيْرَة لَهُ لما دخل ليَسْرِق تمر الصَّدَقَة، وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة: (تَدْرِي من تخاطب مُنْذُ ثَلَاث؟) وَقَالَ فِيهِ: (صدقك وَهُوَ كذوب) ، لَكِن أَبَا هُرَيْرَة رَآهُ فِي صُورَة مِسْكين على هَيْئَة الْإِنْس، وَهُوَ دَال على أَن الشَّيَاطِين وَالْجِنّ يتشكلون فِي غير صورهم، كَمَا تتشكل الْمَلَائِكَة فِي هَيْئَة الْآدَمِيّين، وَقد نَص الله فِي كِتَابه على عمل الْجِنّ لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومخاطبتهم لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ عفريت من الْجِنّ: أَنا آتِيك بِهِ.} (النَّمْل: 93) . الْآيَة، وَمثل هَذَا لَا يُنكر مَعَ تَصْرِيح الْقُرْآن بذلك وَثُبُوت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
وَرَوَاهُ ابنُ طُهْمَانَ عنْ أيُّوبَ
أَي: روى هَذَا الحَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْهَاء وبالنون، وَقد مر فِي: بَاب تَعْلِيق الْقنْدِيل فِي الْمَسْجِد، رَوَاهُ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ مُتَابَعَته من حَدِيث حَفْص عَنهُ.(7/102)
6 - (بابُ منْ قَرَأ السَّجْدَةَ ولَمْ يَسْجُدْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من قَرَأَ السَّجْدَة، أَي: آيَة السَّجْدَة، وَالْحَال أَنه لم يسْجد. فَإِن قلت: مَا الْألف وَاللَّام فِي السَّجْدَة؟ قلت: لَا يجوز أَن تكون للْجِنْس، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي كثير من آيَات السَّجْدَة على مَا ورد، وَالظَّاهِر أَنَّهَا للْعهد، يرجع إِلَى السَّجْدَة الَّتِي فِي النَّجْم. يَعْنِي: قَرَأَ سَجْدَة النَّجْم وَلم يسْجد، والْحَدِيث فِيهِ، فَافْهَم.
2701 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ أبُو الرَّبيعِ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرَ قَالَ أخبرنَا يَزيدُ بنُ خُصَيْفَةَ عنِ ابنِ قُسَيْطٍ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ أنَّهُ أخْبرَهُ أنَّهُ سألَ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فزَعَمَ أنَّهُ قَرَأَ عَلى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
(الحَدِيث 2701 طرفه فِي: 3701) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم فِي: بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي. الثَّالِث: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، مر فِي: بَاب رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد. الرَّابِع: ابْن قسيط، بِضَم الْقَاف وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالطاء الْمُهْملَة: وَهُوَ يزِيد بن عبد الله بن قسيط، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، وَقد تقدم غير مرّة. السَّادِس: زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه ذكره مكنى، وَفِيه: من ذكر بِأَنَّهُ ابْن فلَان. وَفِيه: من نسب إِلَى جده وَهُوَ: يزِيد بن خصيفَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي سُجُود الْقُرْآن عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر. أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلَ (زيد بن ثَابت) ، فِيهِ المسؤول عَنهُ مَحْذُوف، وَالظَّاهِر أَنه هُوَ السُّجُود فِي النَّجْم، وَأجَاب بقوله: (أَنه قَرَأَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجْم فَلم يسْجد فِيهَا) . وَقَالَ بَعضهم: وَظَاهر السِّيَاق يُوهم أَن المسؤول عَنهُ السُّجُود فِي النَّجْم وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد بَينه مُسلم عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: (سَأَلت زيد بن ثَابت عَن الْقِرَاءَة مَعَ الإِمَام، فَقَالَ: لَا قِرَاءَة مَعَ الإِمَام فِي شَيْء، وَزعم أَنه قَرَأَ النَّجْم. .) الحَدِيث فَحذف المُصَنّف الْمَوْقُوف لِأَنَّهُ لَيْسَ من غَرَضه فِي هَذَا الْمَكَان، وَلِأَنَّهُ يُخَالف زيد بن ثَابت فِي ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام. قلت: هَذَا مَرْدُود من وُجُوه: الأول: قَوْله: يُوهم، لَيْسَ كَذَلِك، بل تحقق أَن المسؤول عَنهُ السُّجُود فِي النَّجْم، وَذَلِكَ لِأَن حسن تركيب الْكَلَام أَن يكون بعضه ملتئما بِالْبَعْضِ، وَرِوَايَة البُخَارِيّ هَكَذَا تَقْتَضِي ذَلِك. الثَّانِي: قَوْله: فَحذف المُصَنّف الْمَوْقُوف، لِأَنَّهُ لَيْسَ من غَرَضه فِي هَذَا الْمَكَان، كَلَام واهٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون البُخَارِيّ يتَصَرَّف فِي متن الحَدِيث بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان لأجل غَرَضه وَهُوَ بَرِيء من ذَلِك وَإِنَّمَا البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث عَن أبي الرّبيع سُلَيْمَان وَسلم روى عَن أَرْبَعَة أنفس يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة بن سعيد وعَلى بن حجر، وهم وَسليمَان اتَّفقُوا على روايتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، فسليمان روى عَنهُ بالسياق الْمَذْكُور، وَالْأَرْبَعَة رووا عَنهُ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَة، وَمَا الدَّاعِي للْبُخَارِيّ أَن يحذف تِلْكَ الزِّيَادَة لأجل غَرَضه؟ فَلَا ينْسب ذَلِك إِلَى البُخَارِيّ وحاشاه من ذَلِك. الثَّالِث: قَوْله: وَلِأَنَّهُ يُخَالف زيد بن ثَابت، كَلَام مَرْدُود أَيْضا، لِأَن مُخَالفَته لزيد بن ثَابت فِي ترك الْقِرَاءَة(7/103)
خلف الإِمَام لَا يَسْتَدْعِي حذف مَا قَالَه زيد، لِأَن هَذَا الْموضع لَيْسَ فِي بَيَان مَوضِع قِرَاءَة الْمُقْتَدِي خلف الإِمَام، وَإِنَّمَا الْكَلَام والترجمة فِي السَّجْدَة فِي سُورَة النَّجْم، وَلَيْسَ من الْأَدَب أَن يُقَال: يُخَالف البُخَارِيّ مثل زيد بن ثَابت، كَذَا فِي التَّصْرِيح حَتَّى لَو سُئِلَ البُخَارِيّ: أَنْت تخَالف زيد بن ثَابت فِي قَوْله هَذَا؟ لَكَانَ يَقُول: زيد بن ثَابت ذهب إِلَى شَيْء لما ظهر عِنْده، وَأَنا ذهبت إِلَى شَيْء لما ظهر عِنْدِي، وَكَانَ يُرَاعِي الْأَدَب وَلَا يُصَرح بالمخالفة، وَأما متن حَدِيث مُسلم فَهَكَذَا: حَدثنَا يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة بن سعيد وَابْن حجر، قَالَ يحيى: أخبرنَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، وَهُوَ ابْن جَعْفَر عَن يزِيد بن خصيفَة عَن ابْن قسيط عَن عَطاء بن يسَار أَنه أخبرهُ أَنه سَأَلَ زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الْقِرَاءَة مَعَ الإِمَام، فَقَالَ: لَا قِرَاءَة مَعَ الإِمَام فِي شَيْء، وَزعم أَنه قَرَأَ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {والنجم إِذا هوى} فَلم يسْجد، فَفِي رِوَايَة مُسلم أجَاب زيد بن ثَابت عَمَّا سَأَلَهُ عَطاء بن يسَار، وَأفَاد بفائدة أُخْرَى زَائِدَة على مَا سَأَلَهُ، وَرِوَايَة البُخَارِيّ إِمَّا وَقعت مختصرة أَو كَانَ سُؤال عَطاء ابْتِدَاء عَن سَجْدَة النَّجْم، فَأجَاب عَن ذَلِك مُقْتَصرا عَلَيْهِ، وكلا الْوَجْهَيْنِ جائزان فَلَا يتَكَلَّف فِي تصرف الْكَلَام بالعسف. قَوْله: (فَزعم) ، هُوَ يُطلق على القَوْل الْمُحَقق وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ، وَالْأول هُوَ المُرَاد هُنَاكَ. قَوْله: (فَلم يسْجد فِيهَا) أَي: لم يسْجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَجْدَة النَّجْم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: احْتج بِهِ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَأَبُو ثَوْر على: أَنه لَا يسْجد للتلاوة فِي آخر النَّجْم. وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَسَعِيد بن الْمسيب وَعِكْرِمَة وطاووس، ويحكى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وابي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن ذَلِك فَقَالَ: لَيْسَ فِي الحَدِيث دَلِيل على أَن لَا سُجُود فِيهَا لِأَنَّهُ قد يحْتَمل أَن يكون ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السُّجُود فِيهَا حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ كَانَ على غير وضوء فَلم يسْجد لذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون تَركه لِأَنَّهُ كَانَ وقتا لَا يحل فِيهِ السُّجُود، وَيحْتَمل أَن يكون تَركه لِأَن الحكم عِنْده بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ سجد وَإِن شَاءَ ترك، وَيحْتَمل أَن يكون تَركه لِأَنَّهُ لَا سُجُود فِيهَا، فَلَمَّا احْتمل تَركه السُّجُود هَذِه الِاحْتِمَالَات يحْتَاج إِلَى شَيْء آخر من الْأَحَادِيث نلتمس فِيهِ حكم هَذِه السُّورَة، هَل فِيهَا سُجُود أم لَا؟ فَوَجَدنَا فِيهَا حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود الَّذِي مضى فِيمَا قبل فِيهِ تَحْقِيق السُّجُود فِيهَا، فالأخذ بِهَذَا أولى، كَانَ تَركه فِي حَدِيث زيد لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذكرنَا. وَأجِيب أَيْضا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يسْجد على الْفَوْر، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن لَا يكون فِيهِ سَجْدَة، وَلَا فِيهِ نفي الْوُجُوب.
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن المستمع لَا يسْجد إلاّ إِذا سجد القارىء لآيَة السَّجْدَة، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَإِلَيْهِ ذهب الْقفال. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد والبغداديون: يسْجد المستمع وَإِن لم يسْجد القارىء، وَبِه قَالَت الْمَالِكِيَّة، وَعند أَصْحَابنَا: يجب على القارىء وَالسَّامِع جَمِيعًا، وَلَا يسْقط عَن أَحدهمَا بترك الآخر.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره على: أَن السَّامع لَا يسْجد مَا لم يكن مستمعا، قَالَ: وَهُوَ أصح الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ قَول الْمَالِكِيَّة والحنابلة. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ) : لَا أؤكده عَلَيْهِ كَمَا أؤكده على المستمع، وَإِن سجد فَحسن، وَمذهب أبي حنيفَة: وُجُوبه على السَّامع والمستمع والقارىء، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: السَّجْدَة على من سَمعهَا. وَمن تعليقات البُخَارِيّ قَالَ عُثْمَان: إِنَّمَا السُّجُود على من اسْتمع.
3701 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إِيَاس قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذئْبٍ قَالَ حدَّثنا يَزُيدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ قُسَيْطٍ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ زَيْدٍ بنِ ثابِتٍ قَالَ قَرَأتُ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
(أنظر الحَدِيث 2701) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث زيد بن ثَابت فَإِنَّهُ رَوَاهُ من طَرِيقين: الأول: عَن سُلَيْمَان عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن يزِيد بن خصيفَة عَن ابْن قسيط. الثَّانِي: هَذَا: عَن آدم بن أبي إِيَاس، واسْمه: عبد الرَّحْمَن من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ذِئْب عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط، وَبَين متنيهما بعض تفَاوت على مَا لَا يخفى.(7/104)
7 - (بابُ سَجْدَةِ إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم سَجْدَة سُورَة إِذا السَّمَاء انشقت.
4701 - حدَّثنا مُسْلِم بنُ إبْرَاهِيمَ وَمَعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قالاَ أخبرنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيى عنْ أبي سَلَمَة قَالَ رَأيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَرَأَ إِذا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجدَ بِهَا فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ألَمْ أرَكَ تَسْجُدُ قَالَ لَوْ لَمْ أرَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ لَمْ أسْجُدْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث يبين أَن هَذِه السُّورَة فِيهَا السَّجْدَة، والترجمة فِي بَيَان هَذِه السَّجْدَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: معَاذ بن فضَالة أَبُو زيد الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: الرُّؤْيَة. وَفِيه: أَنه روى عَن شيخين. وَفِيه: أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة بصريون وَالرَّابِع يمامي وَالْخَامِس مدنِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن المثني عَن ابْن أبي عدي عَن هِشَام، وَرُوِيَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة من طرق كَثِيرَة، فَأخْرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أبي رَافع واسْمه نفيع، قَالَ: (صليت مَعَ أبي هُرَيْرَة الْعَتَمَة فَقَرَأَ: إِذا السَّمَاء انشقت، فَسجدَ فِيهَا. فَقلت: مَا هَذِه؟ قَالَ: سجدت بهَا خلف أبي الْقَاسِم فَلَا أَزَال أَسجد فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ) . وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الله بن يزِيد عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة سعيد بن مينا: (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: سجدنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي {إِذا السَّمَاء انشقت} و {اقْرَأ باسم رَبك} وَأخرج مُسلم من رِوَايَة صَفْوَان بن سليم وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، وروى فِي هَذَا الْبَاب عَن غير أبي هُرَيْرَة، فَأخْرج الْبَزَّار وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه: (عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِي {إِذا السَّمَاء انشقت} وَاخْتلف فِيهِ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وأختلف فِي سَماع أبي سَلمَة عَن أَبِيه، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة ذَر بن حُبَيْش (عَن صَفْوَان بن عَسَّال أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي {إِذا السَّمَاء انشقت} . وَإِسْنَاده ضَعِيف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَرَأَ: {إِذا السَّمَاء انشقت} ) أَي: قَرَأَ سُورَة: {إِذا السَّمَاء انشقت} . قَوْله: (فَسجدَ بهَا) أَي: سجد فِيهَا، وَالْبَاء للظرفية، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَسجدَ فِيهَا) . قَوْله: (لم أرك تسْجد) اسْتِفْهَام استخبار لَا اسْتِفْهَام إِنْكَار، كَمَا قَالَه الْبَعْض، وَهُوَ غير صَحِيح.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي على أَن فِي سُورَة {إِذا السَّمَاء انشقت} سَجْدَة تِلَاوَة. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع حَدثنَا أَزْهَر بن الْقَاسِم قَالَ مُحَمَّد: رَأَيْته بِمَكَّة، حَدثنَا أَبُو قدامَة عَن مطر الْوراق عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْجد فِي شَيْء من الْمفصل مُنْذُ تحول إِلَى الْمَدِينَة) ، وَذهب إِلَيْهِ مُجَاهِد وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَبَعض الشَّافِعِيَّة. فَقَالُوا: قد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِي الْمفصل بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة ترك ذَلِك، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهَذَا ضَعِيف، وَلَو ثَبت لَكَانَ فَاسِدا، وَذَلِكَ أَن أَبَا هُرَيْرَة قد روينَا عَنهُ، وَأَشَارَ إِلَى الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب، وَغَيره مِمَّا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ قَوْله: (سجدنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي {إِذا السَّمَاء انشقت} و {اقْرَأ باسم رَبك} ) وَإِسْلَام أبي هُرَيْرَة ولقاؤه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قبل وَفَاته بِثَلَاث سِنِين، فَدلَّ ذَلِك على فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ أهل تِلْكَ الْمقَالة. وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: إِسْنَاد حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا لَيْسَ بِقَوي، ويروى مُرْسلا، وَالصَّحِيح حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَأَبُو قدامَة لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه: وَأَبُو قدامَة الْحَارِث بن عبيد قَالَ فِيهِ(7/105)
ابْن حَنْبَل: مُضْطَرب الحَدِيث، وَضَعفه ابْن معِين، وَقَالَ السَّاجِي: صَدُوق وَعِنْده مَنَاكِير، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ شَيخا صَالحا وَكثر وهمه، ومطر الْوراق كَانَ سيىء الْحِفْظ حَتَّى كَانَ يشبه فِي سوء الْحِفْظ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَقد عيب على مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه.
8 - (بابُ منْ سَجَدَ لِسُجُودِ القَارىءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من سجد للتلاوة لأجل سُجُود القارىء، وَحكمه أَنه يَنْبَغِي أَن يسْجد لسجود القارىء حَتَّى قَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن القارىء إِذا سجد لزم المستمع أَن يسْجد، كَذَا أطلق، وَلَكِن فِيهِ خلاف، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنهم اخْتلفُوا فِي السَّامع الَّذِي لَيْسَ بمستمع، وَهُوَ الَّذِي لم يقْصد الِاسْتِمَاع، وَلم يجلس لَهُ فَقَالَ الشَّافِعِي فِي (مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ) : لَا أؤكده وَإِن سجد فَحسن، وَعند الْحَنَفِيَّة: يجب على القارىء وَالسَّامِع والمستمع، وَقد ذكرنَا دلائلهم عَن قريب، وَقَالَ بَعضهم: فِي التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَن القارىء إِذا لم يسْجد لم يسْجد السَّامع. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن تعلق السَّجْدَة بالسامع، سَوَاء كَانَ من حَيْثُ الْوُجُوب أَو من حَيْثُ السّنيَّة، لَا يتَعَلَّق بِسَجْدَة القارىء، بل بِسَمَاعِهِ يجب عَلَيْهِ أَو يسن على الْخلاف، وَسَوَاء فِي ذَلِك سُجُود القارىء وَعَدَمه.
وقالَ ابنُ مَسْعُودٍ لِتَمِيمِ بنِ حَذْلَمٍ وَهْوَ غُلاَمٌ فَقَرأ عَلَيْهِ سَجْدةً فَقَالَ إسْجُدْ فإنَّكَ إمَامُنَا فِيهَا
تَمِيم، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وحذلم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام: أَبُو سَلمَة الضَّبِّيّ وَهُوَ تَابِعِيّ روى عَنهُ ابْنه أَبُو الْخَيْر، وَفِي (تذهيب التَّهْذِيب) : تَمِيم بن حذلم الضَّبِّيّ أَبُو سَلمَة، أدْرك أَبَا بكر وَعمر وَصَحب ابْن مَسْعُود وروى عَنهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسماك بن سَلمَة الضَّبِّيّ والْعَلَاء بن بدر وَآخَرُونَ، وروى لَهُ البُخَارِيّ فِي (كتاب الْأَدَب) ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من رِوَايَة مُغيرَة (عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: قَالَ تَمِيم بن حذلم: قَرَأت الْقُرْآن على عبد الله وَأَنا غُلَام فمررت بِسَجْدَة فَقَالَ عبد الله: أَنْت إمامنا فِيهَا) . وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) نَحوه حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق (عَن سليم ابْن حَنْظَلَة، قَالَ: قَرَأت على عبد الله بن مَسْعُود سُورَة بني إِسْرَائِيل، فَلَمَّا بلغت السَّجْدَة قَالَ عبد الله: إقرأها فَإنَّك إمامنا فِيهَا) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدثنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ حَدثنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن سليم بن حَنْظَلَة، قَالَ: قَرَأت السَّجْدَة عِنْد ابْن مَسْعُود، فَنظر إِلَيّ فَقَالَ: إنت إمامنا فاسجد نسجد مَعَك، وَفِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة عَن أبي هُرَيْرَة: (قَرَأَ رجل عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَجْدَة فَلم يسْجد، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنْت قَرَأت، وَلَو سجدت سجدنا مَعَك) . وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَطاء بن يسَار قَالَ: (بَلغنِي أَن رجلا قَرَأَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة من الْقُرْآن فِيهَا سَجْدَة، فَسجدَ الرجل وَسجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه، ثمَّ قَرَأَ آخر آيَة فِيهَا سَجْدَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فانتظر الرجل أَن يسْجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يسْجد، فَقَالَ الرجل: يَا رَسُول الله قَرَأت السَّجْدَة فَلم تسْجد؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنْت إمامنا فِيهَا، فَلَو سجدت سجدنا مَعَك) . قَوْله: (وَهُوَ غُلَام) جملَة حَالية. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: فِي السَّجْدَة، وَمعنى قَوْله: (إمامنا) أَي: متبوعنا، لتَعلق السَّجْدَة بِنَا من جهتك أَسجد أَنْت نسجد نَحن أَيْضا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: إِن لم تسْجد لَا نسجد، وَذَلِكَ لِأَن السَّجْدَة كَمَا تتَعَلَّق بالتالي تتَعَلَّق بالسامع، فَإِن لم يسْجد التَّالِي لَا تسْقط عَن السَّامع، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا. وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: يسْجد المستمع من دون السَّامع. وَقَالَت الْحَنَابِلَة: لَا يسْجد المستمع إلاّ إِذا سجد القارىء، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : إِذا لم يسْجد التَّالِي فَلَا يسْجد السَّامع فِي أصح الْوَجْهَيْنِ، فَإِن كَانَ القارىء لَهَا فِي الصَّلَاة يسْجد إِن كَانَ مُنْفَردا أَو إِمَامًا وَيسْجد السَّامع لَهُ إِن كَانَ مَأْمُوما مَعَه وَسجد إِمَامه، فَإِن لم يسْجد إِمَامه لم يسْجد بِلَا خلاف، فَإِن سجد بطلت صلَاته عِنْدهم. وَعند أبي حنيفَة: يسْجد بعد فَرَاغه من الصَّلَاة بِنَاء على أَصله، فَإِن سجدها فِي الصَّلَاة لَا تبطل، وَلم تجزه عَن الْوُجُوب(7/106)
وَعَلِيهِ إِعَادَتهَا خَارج الصَّلَاة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَفِي (النَّوَادِر) : أَنه تفْسد صلَاته بِالسُّجُود فِيهَا فِي هَذِه الْحَال. قَالَ) : وَقيل: هُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن. وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: يسْجد الْمُنْفَرد لقِرَاءَة نَفسه فِي النَّافِلَة، وَكَذَا إِذا كَانَ إِمَامًا فِيهَا دون الْفَرِيضَة.
5701 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافَعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي سُجُود الْقَوْم لسجدة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان وَعبد الله بن عمر بن حَفْص ابْن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبيد الله بن سعيد وَمُحَمّد بن الْمثنى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل.
قَوْله: (حَتَّى مَا يجد أَحَدنَا) أَي: بَعْضنَا، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ كل وَاحِد وَلَا وَاحِدًا معينا.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن السَّجْدَة وَاجِبَة عِنْد قِرَاءَة آيَة السَّجْدَة، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارج الصَّلَاة على القارىء وَالسَّامِع، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الْحِرْص على فعل الْخَيْر والمسابقة إِلَيْهِ. وَفِيه: لُزُوم مُتَابعَة أَفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9 - (بابُ ازْدِحَامِ النَّاسِ إذَا قَرَأ الإمَامُ السَّجْدَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ازدحام النَّاس ... إِلَى آخِره، وَذَلِكَ لضيق الْمقَام وَكَثْرَة النَّاس.
6701 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ آدَمَ قَالَ حدَّثنا علِيُّ بنُ مُسْهرٍ قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ ونَسْجُدُ مَعَهُ فنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعا يَسْجُدُ عَلَيْهِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق ذكره لأجل هَذِه التَّرْجَمَة، و: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن آدم الضَّرِير أَبُو عبد الله الْبَغْدَادِيّ، بَصرِي الأَصْل وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاّ هَذَا الْموضع الْوَاحِد، وَفِي طبقته: بشر بن آدم بن يزِيد بَصرِي أَيْضا وَهُوَ ابْن بنت أَزْهَر السمان، وَفِي كل مِنْهُمَا مقَال. ومسهر، بِضَم الْمِيم: من الإسهار، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (وَنحن عِنْده) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَيسْجد) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسجد نَحن مَعَه. قَوْله: (يسْجد عَلَيْهِ) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا وَقعت صفة لقَوْله: (موضعا) . وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: من لَا يقدر على السُّجُود على الأَرْض من الزحام فِي صَلَاة الْفَرِيضَة يسْجد على ظهر أَخِيه وَبِه قَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَالشعْبِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ نَافِع، مولى ابْن عمر: يومىء إِيمَاء. وَقَالَ عَطاء وَالزهْرِيّ: يمسك عَن السُّجُود فَإِذا رفعوا سجد هُوَ، وَهُوَ قَول مَالك وَجَمِيع أَصْحَابه، وَقَالَ مَالك: إِن سجد على ظهر أَخِيه يُعِيد الصَّلَاة، وَذكر ابْن شعْبَان فِي (مُخْتَصره) عَن مَالك قَالَ: يُعِيد فِي الْوَقْت وَبعده. وَقَالَ أَشهب: يُعِيد فِي الْوَقْت. وَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَسجد وَلَو على ظهر أَخِيك، فعلى قَول من أجَاز السُّجُود فِي صَلَاة الْفَرِيضَة من الزحام على ظهر أَخِيه فَهُوَ أجوز عِنْده فِي سُجُود الْقُرْآن، لِأَن السُّجُود فِي الصَّلَاة فرض بِخِلَافِهِ، وعَلى قَول عَطاء وَالزهْرِيّ وَمَالك: يحْتَمل أَن تجوز عِنْدهم سَجْدَة التِّلَاوَة على ظهر رجل، وَأما على غير الأَرْض فكقول الْجُمْهُور، وَيحْتَمل خلافهم، وَاحْتِمَال وفاقهم أشبه لحَدِيث ابْن عمر.
01 - (بابُ مَنْ رأى أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رأى أَن الله عز وَجل لم يُوجب السُّجُود، وَكَأن من رأى ذَلِك يحمل الْأَمر فِي قَوْله:(7/107)
(أسجدوا) . وَقَوله: (واسجد) على النّدب، أَو على أَن المُرَاد بِهِ سُجُود الصَّلَاة أَو فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة على الْوُجُوب، وَفِي سَجْدَة التِّلَاوَة على النّدب؟ قلت: الْأَمر إِذا جرد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب لتجرده عَن الْقَرِينَة الصارفة عَن الْوُجُوب، وَحمله على سُجُود الصَّلَاة يحْتَاج إِلَى دَلِيل، واستعماله فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة على الْوُجُوب وَفِي سَجْدَة التِّلَاوَة على النّدب اسْتِعْمَال لمفهومين مُخْتَلفين فِي حَالَة وَاحِدَة، وَهُوَ مُمْتَنع.
وقِيلَ لِعِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ ولَمْ يَجْلسْ لَهَا قالَ أرَأيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كأنَّهُ لاَ يُوجِبُهُ عَلَيْهِ
هَذَا وَمَا بعده من أثر سُلَيْمَان، وَمن كَلَام الزُّهْرِيّ وَفعل السَّائِب بن يزِيد دَاخِلَة فِي التَّرْجَمَة، وَلِهَذَا عطفه بِالْوَاو، وَأثر عمرَان الَّذِي علقه وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِمَعْنَاهُ قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن الْجريرِي عَن أبي الْعَلَاء عَن مطرف قَالَ: وَسَأَلته عَن الرجل يتمادى فِي السَّجْدَة أسمعها أَو لم يسْمعهَا؟ قَالَ: وسمعها فَمَاذَا؟ ثمَّ قَالَ مطرف: سَأَلت عمرَان بن حُصَيْن عَن الرجل لَا يدْرِي أسمع السَّجْدَة أم لَا؟ قَالَ: وسمعها فَمَاذَا؟
قَوْله: (وَلم يجلس لَهَا) أَي: لقِرَاءَة السَّجْدَة قَالَ أَي عمرَان أَرَأَيْت أَي أَخْبرنِي قَوْله (الْوَقْعَة لَهَا) أَي للسجدة وَجَوَاب لَو مَحْذُوف يَعْنِي لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء قَوْله كَأَنَّهُ لَا يُوجِبهُ عَلَيْهِ من كَلَام البُخَارِيّ، أَي: كَأَن عمرَان لَا يُوجب السُّجُود على الَّذِي قعد لَهَا للاستماع، فَإِذا لم يُوجب على المستمع فعدمه على السَّامع بِالطَّرِيقِ الأولى. قلت: يُعَارض هَذَا أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: السَّجْدَة على من سَمعهَا. رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، وَكلمَة: على للْإِيجَاب مُطلق عَن قيد الْقَصْد، فَتجب على كل سامع سَوَاء كَانَ قَاصِدا للسماع أَو لم يكن.
وَقَالَ سَلْمَانُ مَا لِهاذا غَدَوْنَا
سلمَان هَذَا هُوَ الْفَارِسِي، هُوَ قِطْعَة من أَثَره علقه البُخَارِيّ وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: دخل سلمَان الْفَارِسِي الْمَسْجِد وَفِيه قوم يقرأون فقرأوا سَجْدَة فسجدوا، فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا أَبَا عبد الله لَو أَتَيْنَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: مَا لهَذَا غدونا) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من طَرِيق أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: (مر سلمَان على قوم قعُود فقرأوا السَّجْدَة فسجدوا، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: لَيْسَ لهَذَا غدونا) . قَوْله: (مَا لهَذَا غدونا) أَي: مَا غدونا لأجل السماع، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بَيَان إِنَّا لم نسجد لأَنا مَا كُنَّا قَاصِدين السماع.
وَقَالَ عُثْمانُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب أَن عُثْمَان مر بقاص فَقَرَأَ سَجْدَة ليسجد مَعَه عُثْمَان، فَقَالَ عُثْمَان: إِنَّمَا السُّجُود على من اسْتمع، ثمَّ مضى وَلم يسْجد. وروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن ابْن الْمسيب عَن عُثْمَان، قَالَ: إِنَّمَا السَّجْدَة على من جلس لَهَا.
قَوْله: (على من استمعها) يَعْنِي: لَا على السَّامع. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَينهمَا أَن المستمع من كَانَ قَاصِدا للسماع مصغيا إِلَيْهِ، وَالسَّامِع من اتّفق سَمَاعه من غير قصد إِلَيْهِ. قلت: هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة لَا تدل على نفي وجوب السَّجْدَة على التَّالِي، والترجمة تدل على الْعُمُوم، فَلَا مُطَابقَة بَينهمَا من هَذَا الْوَجْه، وَرِوَايَة ابْن أبي شيبَة تدل على وجوب السَّجْدَة عِنْد عُثْمَان على الْجَالِس لَهَا، سَوَاء قصد السماع أَو لم يَقْصِدهُ.
وقَال الزُّهْرِيُّ لاَ تَسْجُدُ إلاَّ أنْ(7/108)
تَكُونَ طاهِرا فإذَا سَجَدْتَ وَأنْتَ فِي حَضَرٍ فاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فإنْ كُنْتَ رَاكِبا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كانَ وَجْهُكَ
الزُّهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وصل هَذَا عبد الله بن وهب عَن يُونُس عَنهُ بِتَمَامِهِ. قَوْله: (لَا تسْجد إِلَّا أَن تكون طَاهِرا) يدل على أَن الطَّهَارَة شَرط لأَدَاء سَجْدَة التِّلَاوَة، وَفِيه خلاف ابْن عمر وَالشعْبِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَالَ بَعضهم: قيل: قَوْله: (لَا تسْجد إِلَّا أَن تكون طَاهِرا) ، لَيْسَ بدال على عدم الْوُجُوب، لِأَن الْمُدَّعِي يَقُول: علق على شَرط وَهُوَ وجود الطَّهَارَة، فَحَيْثُ وجد الشَّرْط لزم. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ، كَيفَ يَنْقُلهُ من لَهُ وَجه إدرك؟ لِأَن أحدا هَل قَالَ: يلْزم من وجوب الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط، وَالشّرط خَارج عَن الْمَاهِيّة وَالْوُجُوب، وَعدم الْوُجُوب يتَعَلَّق بالماهية لَا بِالشّرطِ، وغايته أَنه إِذا ثَبت وُجُوبه يشْتَرط لَهُ الطَّهَارَة للْأَدَاء، وَالْجَوَاب: إِن مَوضِع التَّرْجَمَة من هَذَا الْأَثر قَوْله: (فَإِن كنت رَاكِبًا فَلَا عَلَيْك حَيْثُ كَانَ وَجهك) ، لِأَن هَذَا دَلِيل النَّفْل، إِذْ الْفَرْض لَا يُؤدى على الدَّابَّة فِي الْأَمْن. قلت: كَيفَ يُطَابق هَذَا الْجَواب لقَوْل هَذَا الْقَائِل الْمَذْكُور وَبَينهمَا بعد عَظِيم؟ يظْهر بِالتَّأَمُّلِ على أَن الْحَنَفِيّ لَا يَقُول بفرضيته، حَتَّى يُقَال: الْفَرْض لَا يُؤدى على الدَّابَّة قَوْله: (وَإِن كنت رَاكِبًا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: فِي السّفر بِقَرِينَة كَونه قسيما لقَوْله: (فِي حضر) ، وَالرُّكُوب كِنَايَة عَن السّفر، لِأَن السّفر مُسْتَلْزم لَهُ. قلت: لَا نسلم تَقْيِيد الرَّاكِب بِالسَّفرِ، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون رَاكِبًا فِي الْحَضَر أَو السّفر. وَقَوله: وَالرُّكُوب كِنَايَة، فِيهِ عدُول عَن الْحَقِيقَة من غير ضَرُورَة، وَقَوله: لِأَن السّفر مُسْتَلْزم لَهُ، أَي: للرُّكُوب، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ يكون بِالْمَشْيِ أَيْضا. قَوْله: (لَا عَلَيْك) أَي: لَا بَأْس عَلَيْك أَن لَا تسْتَقْبل الْقبْلَة عِنْد السُّجُود.
وكانَ السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ لِسُجُودِ القَاصِّ
السَّائِب بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أُخْت نمر الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، وَيُقَال الْأَزْدِيّ، وَيُقَال: الْهُذلِيّ أَبُو يزِيد الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَقد مر ذكره فِي: بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، والقاص، بِالْقَافِ وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: الَّذِي يقص النَّاس الْأَخْبَار والمواعظ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّ سَببه أَنه لَيْسَ قَاصِدا لقِرَاءَة الْقُرْآن قلت: لَعَلَّ سَببه أَن لَا يكون قَصده السماع، أَو كَانَ سَمعه وَلم يكن يستمع لَهُ، أَو كَانَ لم يجلس لَهُ فَلَا يسْجد.
7701 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي أبُو بَكْرِ بنُ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرحْمانِ التَّيْمِيِّ عنْ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ الهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ قَالَ أبُو بَكْرٍ وكانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ منْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إذَا جاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وسجَدَ النَّاسُ حَتَّى إذَا كانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إذَا جاءَ السَّجْدَةَ قَالَ يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أصَابَ ومَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ ولَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة غير تَامَّة لِأَن فِيهِ: (نزل فَسجدَ) ، فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يرى السَّجْدَة مُطلقًا سَوَاء كَانَ على سَبِيل الْوُجُوب أَو السّنيَّة. وَقَوله أَيْضا: (وَسجد النَّاس) ، يدل على ذَلِك، إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لمنعهم. فَإِن قلت: قَوْله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) ، يدل على نفي الْوُجُوب. قلت: لَا نسلم، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لَيْسَ على الْفَوْر فَلَا يَأْثَم بِتَأْخِيرِهِ، فَلَا يلْزم من ذَلِك عدم الْوُجُوب. فَإِن قلت: قَوْله: (وَلم يسْجد عمر) يدل على خلاف مَا قلت قلت: لَا نسلم لاحْتِمَال إِنَّه لم يسْجد فِي ذَلِك الْوَقْت لعَارض، مثل انْتِقَاض الْوضُوء، أَو يكون ذَلِك مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ على الْفَوْر. فَإِن قلت: مَا ذكرت من الِاحْتِمَالَات يَنْفِي مَا قلت. قلت: لَا نسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن عمر مَا يُؤَكد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد وروح، قَالَا: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: (أنبأني سعد بن إِبْرَاهِيم قَالَ: سَمِعت ابْن أُخْت لنا، يُقَال لَهُ عبد الله بن ثَعْلَبَة، قَالَ: صلى بِنَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الصُّبْح فِيمَا أعلم، ثمَّ قَالَ سعد: صلى بِنَا الصُّبْح فَقَرَأَ بِالْحَجِّ وَسجد فِيهَا سَجْدَتَيْنِ) . وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن غنْدر وَعَن شُعْبَة إِلَى آخِره نَحوه، وَمِمَّا يُؤَكد مَا قُلْنَا. قَوْله: (فَمن سجد فقد أصَاب السّنة) ، وَالسّنة إِذا أطلقت يُرَاد بهَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالسَّجْدَةِ فِي مَوَاضِع السُّجُود فِي الْقُرْآن، فَدلَّ هَذَا كُله أَنه سنة مُؤَكدَة، وَلَا فرق بَينهَا وَبَين الْوَاجِب، فَسقط بِهَذَا قَول من قَالَ: وَأقوى الْأَدِلَّة على نفي الْوُجُوب حَدِيث(7/109)
عمر الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب. فَافْهَم.
ذكر رجال الْأَثر الْمَذْكُور وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة بِالْيمن. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج أَبُو الْوَلِيد الْمَكِّيّ. الرَّابِع: أَبُو بكر بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: واسْمه عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة، وَاسم أبي مليكَة: زُهَيْر بن عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْأَحول كَانَ قَاضِيا لِابْنِ الزبير ومؤذنا لَهُ، مر فِي: بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله. الْخَامِس: عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله التَّيْمِيّ الْقرشِي. السَّادِس: ربيعَة بن عبد الله بن الهدير، بِضَم الْهَاء وَفتح الدَّال: أَبُو عُثْمَان التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي. السَّابِع: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: تَوْثِيق أحد الروَاة شيخ شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ. وَفِيه: أَن أَبَا بكر بن أبي مليكَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، ولأبيه صُحْبَة وَرِوَايَة، وَكَذَلِكَ ربيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن سعد: ولد ربيعَة فِي عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَرَبِيعَة. وَفِيه: أَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَمَّا حضر ربيعَة من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) يتَعَلَّق بقوله: (أَخْبرنِي) . فَإِن قلت: (عَن عُثْمَان) يتَعَلَّق بِهِ، فَإِذا تعلق بِهِ: عَمَّا حضر، يكون حرفا جر يتعلقان بِفعل وَاحِد، وَهُوَ لَا يجوز. قلت: يتَعَلَّق الأول بِمَحْذُوف تَقْدِيره: أَخْبرنِي أَبُو بكر رَاوِيا عَن عُثْمَان عَن حضورة مجْلِس عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَكلمَة: مَا، فِي عَمَّا مَصْدَرِيَّة، و: ربيعَة، بِالرَّفْع فَاعل: حضر. قَوْله: (قَرَأَ) أَي: أَنه قَرَأَ يَوْم الْجُمُعَة. قَوْله: (بهَا) أَي: بِسُورَة النَّحْل. قَوْله: (إِنَّمَا نمر) ، رِوَايَة الْكشميهني، وَرِوَايَة غَيره (إِنَّا نمر) بِدُونِ الْمِيم. قَوْله: (السُّجُود) أَي: بِآيَة السُّجُود. قَوْله: (فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) . قَالُوا: هَذَا دَلِيل صَرِيح فِي عدم الْوُجُوب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا كَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَكَانَ إِجْمَاعًا سكوتيا على ذَلِك. قلت: هَذِه إِشَارَة إِلَى أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي تَأْخِيره من ذَلِك الْوَقْت.
ذكر من أخرجه: هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج من طَرِيقين. وَأخرجه سعيد بن مَنْصُور أَيْضا وَإِسْمَاعِيل من طَرِيق ابْن جريج أَخْبرنِي أَبُو بكر بن أبي مليكَة أَن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان التَّيْمِيّ أخبرهُ عَن ربيعَة بن عبد الله أَنه حضر عمر، فَذكره. وَقَوله: عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان، مقلوب وَالصَّحِيح: عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن.
وزادع نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّ الله لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إلاَّ أنْ نَشَاءَ
قَالَ الْكرْمَانِي: (وَزَاد نَافِع) ، أَي: قَالَ ابْن جريج: وَزَاد، وَهَذَا مَوْقُوف لَا مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْحميدِي: هَذَا مُعَلّق، وَكَذَا علم عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي عَلامَة التَّعْلِيق. وَقَالَ بَعضهم: (زَاد نَافِع) مقول ابْن جريج، وَالْخَبَر مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الأول، وَقد بَين ذَلِك عبد الرَّزَّاق فَقَالَ فِي مُصَنفه: عَن ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن أبي مليكَة، فَذكره. وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ ابْن جريج: وَزَادَنِي نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: لم يفْرض علينا السُّجُود، إلاّ أَن نشَاء، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج، فَذكر الْإِسْنَاد الأول. قَالَ: وَقَالَ حجاج: قَالَ ابْن جريج: وَزَاد نَافِع، فَذكره، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَفِي هَذَا رد على الْحميدِي فِي زَعمه أَن هَذَا مُعَلّق، وَلذَا علم عَلَيْهِ الْمزي عَلامَة التَّعْلِيق، وَهُوَ وهم قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي يرد عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي وهم، لِأَن الَّذِي زَعمه لَا تَقْتَضِيه رِوَايَة عبد الرَّزَّاق لِأَنَّهَا تشعر بِخِلَاف مَا قَالَه، لِأَن ابْن جريج يَقُول: زادني نَافِع عَن ابْن عمر، مَعْنَاهُ: أَنه زادني على روايتي عَن أبي بكر عَن عُثْمَان عَن ربيعَة عَن عمر بن الْخطاب رِوَايَة نَافِع عَن عبد الله بن عمر: أَن الله تَعَالَى لم يفْرض علينا السُّجُود إلاّ أَن نشَاء، والمزيد هُوَ قَول ابْن عمر، وَهُوَ قَوْله: إِن الله، عز وجلَّ. . إِلَى آخِره. وَهَذَا يُنَادي بِصَوْت عَال: إِنَّه مَوْقُوف، مثل مَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومعلق مثل مَا قَالَ الحافظان الكبيران: الْحميدِي والمزي، فبمثل هَذَا التَّصَرُّف يتعسف بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا، وَأبْعد من ذَلِك وأحق بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا قَالَه عقيب هَذَا، قَوْله فِي رِوَايَة(7/110)
عبد الرَّزَّاق: أَنه قَالَ، الضَّمِير يعود على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جزم بذلك التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) حَيْثُ نسب ذَلِك إِلَى عمر فِي هَذِه الْقَضِيَّة. قلت: لم يجْزم التِّرْمِذِيّ بذلك أصلا، وَلَا ذكر مَا زَاده نَافِع لِابْنِ جريج، وَإِنَّمَا لفظ التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) فِي: بَاب من لم يسْجد فِيهِ، أَي: فِي النَّجْم، بعد رِوَايَته حَدِيث زيد بن ثَابت، وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا السَّجْدَة على من أَرَادَ أَن يسْجد فِيهَا وَالْتمس فَضلهَا، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوع، ثمَّ قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَرَأَ سَجْدَة على الْمِنْبَر فَنزل فَسجدَ ثمَّ قَرَأَهَا فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة فتهيأ النَّاس للسُّجُود فَقَالَ: إِنَّهَا لم تكْتب علينا إلاّ أَن نشَاء، فَلم يسْجد وَلم يسجدوا، انْتهى. فَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، فَلْينْظر من لَهُ بَصِيرَة وذوق من دقائق تركيب الْكَلَام، هَل تعرض التِّرْمِذِيّ فِي ذَلِك إِلَى زِيَادَة نَافِع عَن ابْن عمر؟ أَو ذكر أَن الضَّمِير فِي قَوْله: قَالَ، يعود على عمر؟ وَلَو قَالَ: مثل مَا روى نَافِع عَن ابْن عمر ذكر التِّرْمِذِيّ عَن عمر مثله لَكَانَ لَهُ وَجه ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاسْتدلَّ بقوله: لم يفْرض علينا، على عدم وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة. وَأجَاب بعض الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم فِي التَّفْرِقَة بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب بِأَن نفي الْفَرْض لَا يسْتَلْزم نفي الْوُجُوب، وَتعقب بِأَنَّهُ اصْطِلَاح لَهُم حَادث، وَمَا كَانَ الصَّحَابَة يفرقون بَينهمَا، ويغني عَن هَذَا قَول عمر: وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
قلت: أما الْجَواب عَن قَوْله: لم تفرض علينا، فَنحْن أَيْضا نقُول: لم يفْرض علينا، وَلكنه وَاجِب، وَنفي الْفَرْض لَا يسْتَلْزم نفي الْوَاجِب، وَأما قَوْله: وَتعقب. . إِلَى آخِره، فَلَا نسلم أَنه اصْطِلَاح حَادث، وَأهل اللُّغَة فرقوا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب، ومنكر هَذَا معاند ومكابر، وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تُؤْخَذ من الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة. وَأما قَوْله: وَمَا كَانَ الصَّحَابَة يفرقون بَينهمَا، دَعْوَى بِلَا برهَان، وَالصَّحَابَة هم كَانُوا أهل اللُّغَة وَالتَّصَرُّف فِي الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة، وَهَذَا القَوْل فِيهِ نِسْبَة الصَّحَابَة إِلَى عدم الْمعرفَة بلغات لسانهم. وَأما قَوْله: ويغني عَن هَذَا قَول عمر وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، فقد أجبنا فِيمَا مضى عَن هَذَا بِأَنَّهُ: لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي تَأْخِيره عَن وَقت السماع. فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن بكير: حَدثنَا مَالك عَن (هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَرَأَ السَّجْدَة وَهُوَ على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة فَنزل فَسجدَ وسجدوا مَعَه، ثمَّ قَرَأَ يَوْم الْجُمُعَة الْأُخْرَى فتهيأوا للسُّجُود، فَقَالَ عمر: على رسلكُمْ، إِن الله لم يَكْتُبهَا علينا إلاّ أَن نشَاء، وَقرأَهَا وَلم يسْجد ومنعهم) . قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : ترك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ من حضر السُّجُود وَمنعه لَهُم دَلِيل على عدم الْوُجُوب، وَلَا إِنْكَار وَلَا مُخَالف، وَلَا يجوز أَن يكون عِنْد بَعضهم أَنه وَاجِب ويسكت عَن الْإِنْكَار على غَيره فِي قَوْله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) قلت: عُرْوَة لم يدْرك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ خَليفَة بن خياط: وَفِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب، يُقَال فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين، ولد عُرْوَة بن الزبير، وَعَن مُصعب بن الزبير: ولد عُرْوَة لست سِنِين خلت من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَيكون مُنْقَطِعًا، وَهُوَ غير حجَّة. وَأما ترك عمر السُّجُود فقد ذكرنَا أَنه لِمَعْنى من الْمعَانِي الَّتِي ذَكرنَاهَا فِيمَا مضى عَن الطَّحَاوِيّ. وَأما مَنعه لَهُم عَن السُّجُود على تَقْدِير تَسْلِيم صِحَّته، فَيحْتَمل أَنه كَانَ يرى أَن التَّالِي إِذا لم يسْجد لَا يسْجد السَّامع أَيْضا، فَيكون معنى الْمَنْع: إِذا مَا سجدت فَلَا تسجدوا أَنْتُم أَيْضا. وَرُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: إِن ذَلِك مِمَّا لم يتبع عَلَيْهِ عمر، وَلَا عمل بِهِ أحد بعده، وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور أَيْضا: وَاسْتدلَّ بقوله: (إِلَّا أَن نشَاء) ، على أَن الْمَرْء مُخَيّر فِي السُّجُود، فَيكون لَيْسَ بِوَاجِب، وَأجَاب من أوجبه: بِأَن الْمَعْنى إلاّ أَن نشَاء قرَاءَتهَا فَيجب، وَلَا يخفى بعده، وَيَردهُ تَصْرِيح عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بقوله: (وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ) فَإِن انْتِفَاء الْإِثْم عَمَّن ترك الْفِعْل مُخْتَارًا يدل على عدم وُجُوبه. قلت: لَا شكّ أَن مفعول: نشَاء، مَحْذُوف، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك: السَّجْدَة، يَعْنِي: إلاّ أَن نشَاء السَّجْدَة، وَيحْتَمل أَن تكون: الْقِرَاءَة، يَعْنِي: إِلَّا أَن نشَاء قِرَاءَة السَّجْدَة، فَلَا يتَرَجَّح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ إلاّ بمرجح، وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب تَنْفِي التَّخْيِير، فيترجح الْمَعْنى الآخر، وَالْجَوَاب عَن قَوْله: وَيَردهُ تَصْرِيح عمر. . إِلَى آخِره، قد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاسْتدلَّ بِهِ على من شرع فِي السُّجُود وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامه، وَأجِيب بِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَالْمعْنَى: لَكِن ذَلِك موكول إِلَى مَشِيئَة الْمَرْء بِدَلِيل إِطْلَاقه، وَمن لم يسْجد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
11 - (بابُ منْ قرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَرَأَ سَجْدَة التِّلَاوَة فِي الصَّلَاة فَسجدَ بهَا، أَي: بِتِلْكَ السَّجْدَة، وَحكمه أَن لَا تكره قِرَاءَة(7/111)
السَّجْدَة فِي الصَّلَاة، خلافًا لمَالِك على مَا نذكرهُ. وَقَالَ بَعضهم: فِي الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة. قلت: إِطْلَاق البُخَارِيّ يتَنَاوَل الْفَرِيضَة والنافلة.
8701 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ حدَّثني بَكْرٌ عنْ أبي رَافِعٍ قَالَ صلَّيْتُ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ العَتَمَةَ فقَرَأَ إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ قلْتُ مَا هاذِهِ قَالَ سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أبي القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ أزَالُ أسْجُدُ فِيهَا حَتَّى ألْقَاهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد، تكَرر ذكره. الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ. الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ. الرَّابِع: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ. الْخَامِس: أَبُو رَافع نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: راويان بِلَا نِسْبَة وراو بكنيته.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة عَن أبي النُّعْمَان وَعَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بِهِ وَعَن أبي كَامِل الجحدري عَن يزِيد بن زُرَيْع بِهِ، وَعَن عمر النَّاقِد عَن عِيسَى بن يُونُس وَعَن أَحْمد بن عَبدة عَن سليم بن أَخْضَر، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن سليم بن أَخْضَر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْعَتَمَة) أَي: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (مَا هَذِه؟) أَي: مَا هَذِه السَّجْدَة الَّتِي سجدت بهَا فِي الصَّلَاة؟ قَوْله: (حَتَّى أَلْقَاهُ) ، بِالْقَافِ أَي: حَتَّى أَمُوت، لِأَن المُرَاد لِقَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ لَا يكون إلاّ بِالْمَوْتِ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ الثَّوْريّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ أَنه: من قَرَأَ سَجْدَة فِي صلَاته الْمَكْتُوبَة أَنه لَا بَأْس أَن يسْجد فِيهَا، وَكره مَالك ذَلِك فِي الْفَرِيضَة الجهرية والسرية. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا يقْرَأ الإِمَام السَّجْدَة فِيمَا يسر بِهِ، ويقرؤها فِيمَا يجْهر فِيهِ، وَذكر الطَّبَرِيّ عَن أبي مجلز أَنه كَانَ لَا يرى السُّجُود فِي الْفَرِيضَة، وَزعم أَن ذَلِك زِيَادَة فِي الصَّلَاة، وَرَأى أَن السُّجُود فِيهَا غير الصَّلَاة، وَحَدِيث الْبَاب يرد عَلَيْهِ، وَعمل السّلف من الصَّحَابَة وعلماء الْأمة. وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه صلى الصُّبْح فَقَرَأَ: والنجم، فَسجدَ فِيهَا، وَقَرَأَ مرّة فِي الصُّبْح فَسجدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود، فِي السُّورَة يكون آخرهَا سَجْدَة: إِن شِئْت سجدت بهَا ثمَّ قُمْت وقرأت فركعت، وَإِن شِئْت ركعت بهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَإِنَّمَا قَرَأَ الشَّارِع السَّجْدَة فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح، وَهَذَا فِيمَا يجْهر فِيهِ، وَإِذا سجد فِي قِرَاءَة السّريَّة لم يدر أَسجد للتلاوة أم لغَيْرهَا. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) وَإِذا قَرَأَ الإِمَام آيَة السَّجْدَة سجدها وَسجد الْمَأْمُوم مَعَه، وَإِذا تَلا الْمَأْمُوم وسمعها الإِمَام وَالْقَوْم لم يسْجد الإِمَام وَلَا الْمَأْمُوم فِي الصَّلَاة بالِاتِّفَاقِ، وَلَا بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَقَالَ مُحَمَّد: يسجدونها بعد الْفَرَاغ. انْتهى. وَمِمَّا يسْتَدلّ بسجوده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة لسجدة التِّلَاوَة على التَّسْوِيَة بَين الْفَرِيضَة والنافلة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَفرق الْمَالِكِيَّة بَين صَلَاة الْفَرْض والنافلة، فَإِن كَانَ فِي النَّافِلَة فَيسْجد لقِرَاءَة نَفسه سَوَاء كَانَ مُنْفَردا أَو إِمَامًا لأمن التَّخْلِيط عَلَيْهِم، فَإِن لم يَأْمَن التَّخْلِيط عَلَيْهِم أَيْضا سجد على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْدهم، فَأَما الْفَرِيضَة فَالْمَشْهُور عِنْدهم أَنه لَا يسْجد فِيهَا سَوَاء كَانَت سَرِيَّة أَو جهرية، وَسَوَاء كَانَ مُنْفَردا أَو فِي جمَاعَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يسْجد للتلاوة فِي الصَّلَاة السّريَّة. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: هَذَا مُشكل مَعَ قَول الْحَنَفِيَّة بِوُجُوب سُجُود التِّلَاوَة، فَإِن كَانَ يَقُول: إِنَّه لَا يسْجد لقرائتها، كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، فَهُوَ مُشكل. وَإِن قَالَ: إِنَّه لَا يقْرَأ آيَة السَّجْدَة، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَنهُ، فَهُوَ أقرب، إلاّ أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا: إِنَّه يكره أَن يقْرَأ السُّورَة الَّتِي فِيهَا السَّجْدَة، وَلَا يسْجد فِيهَا فِي صَلَاة كَانَ أَو فِي غَيرهَا، لِأَنَّهُ كالاستنكاف عَن السُّجُود، فعلى هَذَا فالاحتياط على قَوْلهم: إِنَّه لَا يقْرَأ فِي الصَّلَاة السّريَّة سُورَة فِيهَا سَجْدَة. قلت: وَفِي (الْهِدَايَة) قَالَ: لَا بَأْس أَن يقْرَأ آيَة السَّجْدَة ويدع مَا سواهَا. قَالَ مُحَمَّد: وَأحب إِلَيّ أَن يقْرَأ قبلهَا آيَة أَو آيَتَيْنِ دفعا لوهم التَّفْضِيل، وَاسْتحْسن الْمَشَايِخ إخفاءها شَفَقَة على السامعين وَفِي (الْمُحِيط) : إِذا كَانَ التَّالِي وَحده يقْرَأ كَيفَ شَاءَ جَهرا أَو إخفاء، وَإِن كَانَ مَعَه جمَاعَة(7/112)
قَالَ مَشَايِخنَا: إِن كَانُوا متهيئين للسُّجُود وَوَقع فِي قلبه أَنه لَا يشق عَلَيْهِم أَدَاؤُهَا يَنْبَغِي أَن يجْهر حَتَّى يسْجد الْقَوْم مَعَه، وَإِن كَانُوا محدثين أَو يظنّ أَنهم لَا يَسْجُدُونَ أَو يشق عَلَيْهِم أَدَاؤُهَا يَنْبَغِي أَن يَقْرَأها فِي نَفسه وَلَا يجْهر تَحَرُّزًا عَن تأثيم الْمُسلم. قلت كل هَذَا مَبْنِيّ على وجوب سَجْدَة التِّلَاوَة، وَمِمَّا اسْتدلَّ بِأَحَادِيث السُّجُود للتلاوة على أَنه لَا يقوم الرُّكُوع مقَام سُجُود التِّلَاوَة، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقوم الرُّكُوع مقَام السُّجُود، للتلاوة اسْتِحْسَانًا لقَوْله تَعَالَى: {خر رَاكِعا وأناب} (ص: 42) . وَفِي (الْيَنَابِيع) : إِن كَانَت السَّجْدَة فِي آخر السُّورَة فَالْأَفْضَل أَن يرْكَع بهَا، وَإِن كَانَت فِي وَسطهَا فَالْأَفْضَل أَن يسْجد ثمَّ يقوم فيختم السُّورَة، ثمَّ يرْكَع، وَإِن كَانَت فِي آخر السُّورَة وَبعدهَا آيتان أَو ثَلَاث فَإِن شَاءَ أتم السُّورَة وَركع، وَإِن شَاءَ سجد ثمَّ قَامَ فَأَتمَّ السُّورَة، فَإِن ركع بهَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة عِنْد الرُّكُوع بهَا، فَإِن لم تُوجد مِنْهُ النِّيَّة عِنْد الرُّكُوع بهَا لَا يجْزِيه عَن السَّجْدَة، وَلَو نوى فِي رُكُوعه، فَقيل: يجْزِيه، وَقيل: لَا يجْزِيه، وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَحَادِيث سُجُود المستمع لآيَة السَّجْدَة على أَنه لَا فرق بَين أَن يسْمعهَا مِمَّن هُوَ أهل للْإِمَامَة أَو لَا، كَمَا لَو سَمعهَا من امْرَأَة أَو صبي أَو خُنْثَى مُشكل أَو كَافِر أَو مُحدث، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، وَعند الشَّافِعِيَّة كَذَلِك على مَا ذكره النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) : وَقَالَ: هُوَ الْأَصَح، وَلَيْسَ فِي عبارَة الرَّافِعِيّ تَصْرِيح بالتصحيح لَهُ، وَلكنه لما ذكر عبارَة الْغَزالِيّ فِي (الْوَجِيز) قَالَ: ظَاهر اللَّفْظ يَشْمَل قِرَاءَة الْمُحدث وَالصَّبِيّ وَالْكَافِر، وَيَقْتَضِي شَرْعِيَّة السُّجُود للمستمع إِلَى قِرَاءَته، وَحكى الرَّافِعِيّ قبل هَذَا عَن صَاحب (الْبَيَان) : أَنه لَا يسْجد المستمع لقِرَاءَة الْمُحدث، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك عَن الطَّبَرِيّ فِي الْعدة: أَنه لَا يسْجد المستمع لقِرَاءَة الْكَافِر وَالصَّبِيّ، وَحكى ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) ؛ عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق: أَنه لَا يسْجد لقِرَاءَة الْمَرْأَة وَالْخُنْثَى الْمُشكل، وَرِوَايَة وَاحِدَة عَن أَحْمد، وَحكى عَنهُ وَجْهَان فِيمَا إِذا كَانَ صَبيا، وَذَهَبت الْمَالِكِيَّة أَيْضا إِلَى أَنه: لَا يسْجد لاستماع قِرَاءَة من لَيْسَ أَهلا للْإِمَامَة، وَقَالَ الثَّوْريّ: إِذا سمع آيَة السَّجْدَة من امْرَأَة تَلَاهَا السَّامع وَسجد، وَقَالَ اللَّيْث: إِذا سَمعهَا من غُلَام سجد، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: ذكر بعض أَصْحَابنَا أَن القارىء إِن كَانَ مِمَّن تمْتَنع عَلَيْهِ الْقِرَاءَة كالجنب والسكران لم يسْجد المستمع لقرَاءَته، وَبِه جزم القَاضِي حُسَيْن فِي فتواه.
21 - (بابُ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعا لِلسُّجُودِ مِنَ الزِّحَامِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ حكم من لم يجد. . إِلَى آخِره، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنه يرى أَنه يسْجد بِقدر استطاعته، وَلَو كَانَ على ظهر غَيره.
9701 - حدَّثنا صَدَقَةُ قَالَ أخبرنَا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ السُّورةَ الَّتِي فِيها السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنسْجُدُ حَتَّى مَا يَجدُ أحدُنا مَكانا لِمَوْضِعَ جَبْهَتِهِ.
(أنظر الحَدِيث 5701 وطرفه) .
مر هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب ازدحام النَّاس إِذا قَرَأَ الإِمَام السَّجْدَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن بشر بن آدم عَن عَليّ بن مسْهر عَن عبيد الله عَن نَافِع إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن صَدَقَة بن الْفضل، مضى ذكره فِي: بَاب الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ، عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب.
قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ السُّورَة الَّتِي فِيهَا السَّجْدَة) ، وَزَاد عَليّ بن مسْهر فِي رِوَايَته عَن عبيد الله: (وَنحن عِنْده) . قَوْله: (فَيسْجد) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ونسجد) ، بنُون الْمُتَكَلّم، أَي: وَنحن نسجد، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ونسجد مَعَه) ، قَوْله: (لموْضِع جَبهته) ، يَعْنِي من الزحام وَكَثْرَة الْخلق. وَقَالَ مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة. قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشر، قَالَ: حَدثنَا عبيد الله بن عمر عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: رُبمَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن فيمر بِالسَّجْدَةِ فَيسْجد بِنَا حَتَّى ازدحمنا عِنْده حَتَّى مَا يجد أَحَدنَا مَكَانا يسْجد فِيهِ فِي غير صَلَاة) ، وَرِوَايَة مُسلم هَذِه دلّت على أَن هَذِه الْقَضِيَّة كَانَت فِي غير وَقت صَلَاة، وأفادت رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق مُصعب بن ثَابت عَن نَافِع فِي هَذَا الحَدِيث أَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة لما قَرَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّجْم، وَزَاد فِيهِ: (حَتَّى يسْجد الرجل على ظهر الرجل) .(7/113)
81 - (كتابُ تَقْصِيرِ الصَّلاةِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب التَّقْصِير فِي الصَّلَاة، هَكَذَا وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: أَبْوَاب تَقْصِير الصَّلَاة، وَلم تثبت فِي روايتهما الْبَسْمَلَة، وَثبتت فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي بعض النّسخ: كتاب التَّقْصِير، وَالتَّقْصِير مصدر من قصَّر بِالتَّشْدِيدِ، يُقَال: قصرت الصَّلَاة بِفتْحَتَيْنِ قصرا وقصرتها بِالتَّشْدِيدِ تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، وَالْأول أشهر فِي الِاسْتِعْمَال وأفصح، وَهُوَ لُغَة الْقُرْآن.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي التَّقْصيرِ وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ)
أَي: هَذَا بَاب حكم تَقْصِير الصَّلَاة أَي: جعل الرّبَاعِيّة على رَكْعَتَيْنِ، وَالْإِجْمَاع على أَن لَا تَقْصِير فِي الْمغرب وَالصُّبْح. قَوْله: (وَكم يُقيم حَتَّى يقصر) ، إعلم أَن الشُّرَّاح تصرفوا فِي هَذَا التَّرْكِيب بالرطب واليابس، وَحل هَذَا مَوْقُوف على معرفَة لَفْظَة: كم، وَلَفْظَة: حَتَّى، وَلَفْظَة: يُقيم، ليفهم مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يكون حَدِيث الْبَاب مطابقا لَهُ، وإلاّ يحصل الْخلف بَينهمَا، فَتكون التَّرْجَمَة فِي نَاحيَة وَحَدِيث الْبَاب فِي نَاحيَة فَنَقُول: لَفْظَة: كم، هُنَا استفهامية بِمَعْنى: أَي عدد؟ وَلَا يكون تَمْيِيزه إلاّ مُفردا، خلافًا للكوفيين، وَيكون مَنْصُوبًا وَلَا يجوز جَرّه مُطلقًا كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَلَفْظَة: حَتَّى هُنَا، للتَّعْلِيل لِأَنَّهَا تَأتي فِي كَلَام الْعَرَب لأحد ثَلَاثَة معَان: لانْتِهَاء الْغَايَة وَهُوَ الْغَالِب، وَالتَّعْلِيل، وَبِمَعْنى: إلاّ فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهَذَا أقلهَا، وَلَفْظَة: يُقيم، مَعْنَاهَا: يمْكث، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ ضد السّفر بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون معنى قَوْله: (وَكم يُقيم حَتَّى يقصر؟) وَكم يَوْمًا يمْكث الْمُسَافِر لأجل قصر الصَّلَاة، وَجَوَابه مثلا: تِسْعَة عشر يَوْمًا، كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب، فَإِن فِيهِ: (أَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَة عشر يَوْمًا يقصر) ، فَنحْن إِذا سافرنا تِسْعَة عشر يَوْمًا قَصرنَا، وَإِن زِدْنَا أتممنا، فَيكون مكث الْمُسَافِر فِي سَفَره تِسْعَة عشر يَوْمًا سَببا لجَوَاز قصر الصَّلَاة، فَإِذا زَاد على ذَلِك لَا يجوز لَهُ الْقصر، لِأَن الْمُسَبّب يَنْتَفِي بِانْتِفَاء السَّبَب، فَإِذا عرفت هَذَا عرفت أَن الْكرْمَانِي تكلّف فِي حل هَذَا التَّرْكِيب حَيْثُ قَالَ أَولا: لَا يَصح كَون الْإِقَامَة سَببا للقصر، وَلَا الْقصر غَايَة للإقامة، ثمَّ قَالَ: عدد الْأَيَّام سَبَب، أَي: سَبَب معرفَة لجَوَاز الْقصر أَي الْإِقَامَة إِلَى تِسْعَة عشر يَوْمًا سَبَب لجوازه لَا الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا ترى تعسف جدا، وَكَذَا بَعضهم تصرف فِيهِ تَصَرُّفَات عَجِيبَة. مِنْهَا: مَا نقل عَن غَيره بِأَن الْمَعْنى: وَكم إِقَامَته المغياة بِالْقصرِ، وَهَذَا التَّقْدِير لَا يَصح أصلا، لِأَن: كم، الاستفهامية على هَذَا تَلْتَبِس بالخبرية، ثمَّ قَوْله: من عِنْده، وَحَاصِله كم يُقيم مقصرا، غير صَحِيح، لِأَن هَذَا الَّذِي قَالَه غير حَاصِل، ذَاك الَّذِي نَقله على أَن فِيهِ إِلْغَاء معنى: حَتَّى. وَمِنْهَا: مَا نَقله عَن غَيره أَيْضا بقوله، وَقيل: المُرَاد كم يقصر حَتَّى يُقيم، أَي: حَتَّى يُسمى مُقيما فَانْقَلَبَ اللَّفْظ، وَهَذَا أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن المُرَاد مِنْهُ لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيب، على أَن فِيهِ نِسْبَة التَّرْكِيب إِلَى الْخَطَأ. وَمِنْهَا: مَا قَالَه من عِنْده، وَهُوَ قَوْله: أَو حَتَّى هُنَا بِمَعْنى: حِين، أَي: كم يُقيم حِين يقصر، وَهَذَا أَيْضا غير صَحِيح لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن أحد من أهل اللِّسَان إِن حَتَّى تَجِيء بِمَعْنى حِين.
0801 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ عَاصِم وَحُصَيْنٍ عنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا وَإنْ زِدْنَا أتْمَمْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة اسْمه الوضاح الْيَشْكُرِي. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول، مر فِي كتاب الْوضُوء، الرَّابِع: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. الْخَامِس: عِكْرِمَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.(7/114)
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي. وَالثَّانِي واسطي وَالثَّالِث بَصرِي وَالرَّابِع كُوفِي. وَالْخَامِس مدنِي. وَفِيه: وَاحِد بكنيته وَثَلَاثَة بِلَا نِسْبَة، وَفِيه: أَبُو عَاصِم يروي عَن اثْنَيْنِ. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم عَاصِم وحصين وَعِكْرِمَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي: عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله وَعَن أَحْمد بن يُونُس عَن ابْن شهَاب كِلَاهُمَا عَن عَاصِم وَحده. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء وَعُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة. وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَانَت إِقَامَته بِمَكَّة، على مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من وَجه آخر عَن عَاصِم. قَوْله: (تِسْعَة عشر) أَي: يَوْمًا بليلته. قَوْله: (يقصر) جملَة حَالية. قَوْله: (تِسْعَة عشر) أَي: يَوْمًا. قَوْله: (قَصرنَا) أَي: الصَّلَاة الرّبَاعِيّة. قَوْله: (وَإِن زِدْنَا) أَي: على تِسْعَة عشر يَوْمًا (أتممنا) الصَّلَاة أَرْبعا.
ذكر الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة فِي مُدَّة إِقَامَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة، وَالْجمع بَينهَا، فَفِي حَدِيث أنس رَوَاهُ السِّتَّة أَنه أَقَامَ بهَا عشرا، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أَنه قَامَ بهَا تِسْعَة عشر يَوْمًا بِتَقْدِيم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق على السِّين وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُود من حَدِيث ابْن عَبَّاس سَبْعَة عشر يَوْمًا، بِتَقْدِيم السِّين على الْبَاء الْمُوَحدَة، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه: خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَفِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أخرجه أَبُو دَاوُد: ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة، وَالْجمع بَينهَا: أَن حَدِيث أنس فِي خجة الْوَدَاع. وَلم تكن إِقَامَته للعشرة بِنَفس مَكَّة، وَإِنَّمَا المُرَاد إِقَامَته بهَا مَعَ إِقَامَته بمنى إِلَى حِين رُجُوعه، فَإِنَّهُ دَخلهَا صبح رَابِعَة، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) فِي حَدِيث جَابر: (فَأَقَامَ بهَا ثَلَاثَة أَيَّام) ، غير يومي الدُّخُول وَالْخُرُوج مِنْهَا إِلَى منى يَوْم الثَّامِن، فَأَقَامَ بمنى ثَلَاثَة أَيَّام الرَّمْي الثَّلَاثَة وأخرها الثَّالِث عشر، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن فَالْمُرَاد بهما: دُخُوله فِي فتح مَكَّة، وَقد جمع بَينهمَا الْبَيْهَقِيّ بِأَن من روى: تِسْعَة عشر عد يومي الدُّخُول وَالْخُرُوج. وَمن روى سَبْعَة عشر تَركهمَا، وَمن روى ثَمَانِيَة عشر عد أَحدهمَا، وَأما رِوَايَة خَمْسَة عشر، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : إِنَّهَا ضَعِيفَة مُرْسلَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن رواتها ثِقَات، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، فَإِن قَالَ النَّوَوِيّ: تَضْعِيفه لأجل إِبْنِ اسحاق فإبن إِسْحَاق لم ينْفَرد بِهِ، بل رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عرَاك بن مَالك عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا إِسْنَاد جيد، وَمن حفظ زِيَادَة على ذَلِك قبل مِنْهُ لِأَنَّهُ زِيَادَة ثِقَة، وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر الِاخْتِلَاف عَن عِكْرِمَة: روى عَنهُ عَاصِم وحصين عَن ابْن عَبَّاس: تِسْعَة أشهر كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب، وَكَذَا أخرجه ابْن مَاجَه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: (سَافر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرا فصلى تِسْعَة عشر يَوْمًا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، وَرَوَاهُ عباد ابْن مَنْصُور (عَن عِكْرِمَة قَالَ: أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْفَتْح تسع عشرَة لَيْلَة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، أخرجه الْبَيْهَقِيّ، وَاخْتلف على عَاصِم عَن عِكْرِمَة فَرَوَاهُ ابْن الْمُبَارك وَابْن شهَاب وَأَبُو عوَانَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تسع عشرَة، وَرَوَاهُ خلف بن هِشَام وَحَفْص بن غياث، فَقَالَا: سبع عشرَة، وَاخْتلف على أبي مُعَاوِيَة عَن عَاصِم، وَأكْثر الرِّوَايَات عَنهُ تسع عشرَة رَوَاهَا عَنهُ أَبُو خَيْثَمَة وَغَيره، وَرَوَاهُ عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة، فَقَالَ: سبع عشرَة. وَاخْتلف على أبي عوَانَة، فَرَوَاهُ جماعات عَنهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: تسع عشرَة، وَرَوَاهُ لوين عَن أبي عوَانَة عَنْهُمَا، فَقَالَ: سبع عشرَة، وَرَوَاهُ الْمُعَلَّى بن أَسد عَن أبي عوَانَة عَن عَاصِم، فَقَالَ: سبع عشرَة، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأَصَح الرِّوَايَات عِنْدِي: تسع عشرَة، وَهِي الَّتِي أوردهَا البُخَارِيّ، وَعبد الله ابْن الْمُبَارك أحفظ من رَوَاهُ عَن عَاصِم، وَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِيّ عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَقَامَ سبع عشرَة بِمَكَّة يقصر) .
ذكر اخْتِلَاف الْأَقْوَال: فِي الْمدَّة الَّتِي إِذا نوى الْمُسَافِر الْإِقَامَة فِيهَا لزمَه الْإِتْمَام، وَهُوَ على اثْنَيْنِ وَعشْرين قولا: الأول: ذكر ابْن حزم عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: إِذا وضعت رجلك بِأَرْض فَأَتمَّ، وَهُوَ فِي (المُصَنّف) : عَن عَائِشَة وطاووس بِسَنَد صَحِيح، قَالَ: وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن دَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة، قَالَ: (إِذا اطْمَأَن صلى أَرْبعا) ، يَعْنِي: نزل. وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد صَحِيح مثله. الثَّانِي: إِقَامَة يَوْم وَلَيْلَة، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن ربيعَة. الثَّالِث: ثَلَاثَة أَيَّام، قَالَه ابْن الْمسيب، فِي مثله. الرَّابِع:(7/115)
أَرْبَعَة أَيَّام، رُوِيَ عَن الشَّافِعِي وَأحمد، وروى مَالك عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي أَنه سمع سعيد بن الْمسيب قَالَ: من أجمع على إِقَامَة أَربع لَيَال وَهُوَ مُسَافر أتم الصَّلَاة، قَالَ مَالك: وَذَلِكَ أحب مَا سَمِعت إِلَيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحْسب يَوْم ظعنه وَلَا يَوْم نُزُوله. وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي: أَرْبَعَة أَيَّام ولحظة. الْخَامِس: أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام، ذكره ابْن رشد فِي الْقَوَاعِد عَن أَحْمد وَدَاوُد. السَّادِس: أَن يَنْوِي إِقَامَة اثْنَيْنِ وَعشْرين صَلَاة، قَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : هُوَ مَذْهَب أَحْمد. السَّابِع: عشرَة أَيَّام، رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب: من حَدِيث مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن عَنهُ، وَالْحسن بن صَالح وَأحمد بن عَليّ بن حُسَيْن، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة. الثَّامِن: اثْنَي عشر يَوْمًا، قَالَ أَبُو عمر: روى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يَقُول: أفل، صَلَاة الْمُسَافِر، مَا لم يجمع مكثا إثنتي عشرَة لَيْلَة، قَالَ: وروى عَن الْأَوْزَاعِيّ مثله، ذكره التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) . التَّاسِع: ثَلَاثَة عشر يَوْمًا. قَالَ أَبُو عمر: رُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ. الْعَاشِر: خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن الْمسيب بِسَنَد صَحِيح، قَالَ: وَحدثنَا عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد: كَانَ ابْن عمر إِذا أجمع على إِقَامَة خمس عشرَة يَوْمًا صلى أَرْبعا. الْحَادِي عشر: سِتَّة عشر يَوْمًا، وَرُوِيَ عَن اللَّيْث أَيْضا. الثَّانِي عشر: سَبْعَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي أَيْضا. الثَّالِث عشر: ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي أَيْضا. الرَّابِع عشر: تِسْعَة عشر يَوْمًا، قَالَه إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فِيمَا ذكره الطوسي عَنهُ. الْخَامِس عشر: عشرُون يَوْمًا، قَالَه ابْن حزم. السَّادِس عشر: يقصر حَتَّى يَأْتِي مصرا من الْأَمْصَار، قَالَ أَبُو عمر: قَالَه الْحسن بن أبي الْحسن: قَالَ: وَلَا أعلم أحدا قَالَه غَيره. السَّابِع عشر: إِحْدَى وَعِشْرُونَ صَلَاة، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن الإِمَام أَحْمد. الثَّامِن عشر: يقصر مُطلقًا، ذكره أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ. التَّاسِع عشر: قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة عَن سماك بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِن قُمْت فِي بلد خَمْسَة أشهر فقصر الصَّلَاة. الْعشْرُونَ: قَالَ أَبُو بكر: حَدثنَا مسعر وسُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عبد الرَّحْمَن قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ سعد بن مَالك شَهْرَيْن بعمان يقصر الصَّلَاة، وَنحن نتم، فَقُلْنَا لَهُ، فَقَالَ نَحن أعلم. وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة حَدثنَا أَبُو التياح عَن أبي الْمنْهَال، رجل من غَزَّة. قلت لِابْنِ عَبَّاس: إِنِّي أقيم بِالْمَدِينَةِ حولا لَا أَشد على سفر. قَالَ: صلِّ رَكْعَتَيْنِ. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: عِنْد أبي بكر بِسَنَد صَحِيح قَالَ سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا أَرَادَ أَن يُقيم أَكثر من خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم الصَّلَاة.
ذكر بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْقصر وَبَيَان سَببه: ذكر الضَّحَّاك فِي تَفْسِيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي حِدة الْإِسْلَام الظّهْر رَكْعَتَيْنِ وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ وَالْمغْرب ثَلَاثًا وَالْعشَاء رَكْعَتَيْنِ والغداء رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا نزلت آيَة الْقبْلَة تحول للكعبة وَكَانَ قد صلى هَذِه الصَّلَوَات نَحْو بَيت الْمُقَدّس، فوجهه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بَعْدَمَا صلى رَكْعَتَيْنِ من الظّهْر نَحْو الْكَعْبَة، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِأَن صلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَأمره أَن يُصَلِّي الْعَصْر أَرْبعا وَالْعشَاء أَرْبعا، والغداة رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّد أما الْفَرِيضَة الأولى فَهِيَ للمسافرين من أمتك، والغزاة، وروى الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا الْمثنى حَدثنَا إِسْحَاق حَدثنَا عبد الله بن هَاشم أخبرنَا سيف عَن أبي روق عَن أبي أَيُّوب (عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَأَلَ قوم من التُّجَّار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا رَسُول الله: إِنَّا نضرب فِي الأَرْض فَكيف نصلي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . ثمَّ انْقَطع الْوَحْي، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك بحول غزا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى الظّهْر، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: لقد أمكنكم مُحَمَّد وَأَصْحَابه من ظُهُورهمْ، هلا شددتم عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى بَين الصَّلَاتَيْنِ: {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) . وَحدثنَا ابْن بشار حَدثنَا معَاذ بن هِشَام حَدثنِي أبي عَن قَتَادَة (عَن سُلَيْمَان الْيَشْكُرِي أَنه سَأَلَ جَابر بن عبد الله عَن إقْصَار الصَّلَاة أَي يَوْم أنزل أَو: أَي يَوْم هُوَ؟ فَقَالَ: انطلقنا نتلقى عيرًا لقريش آتِيَة من الشَّام، حَتَّى إِذا كُنَّا بِنَخْل، فَنزلت آيَة الْقصر) . وَفِي (شرح الْمسند) لِابْنِ الْأَثِير: كَانَ قصر الصَّلَاة فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة، وَفِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) قَالَ ابْن عَبَّاس: أول صَلَاة قصرت صَلَاة الْعَصْر، قصرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعسفان فِي غَزْوَة ذِي أَنْمَار.
1801 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوارِثِ قَالَ حدَّثنا يَحْيى بنُ أبي إسْحَاقَ قَالَ(7/116)
سَمِعْتُ أنسا يقُولُ خَرَجْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ المَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فكانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ قُلْتُ أقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئا قَالَ أقَمْنَا بِهَا عَشْرا.
(الحَدِيث 1801 طرفه فِي: 7924) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عمر الْمنْقري المقعد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد أَبُو عُبَيْدَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي عَن أبي نعيم وَقبيصَة، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي كريب وَعَن عبيد الله بن معَاذ وَعَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن وهيب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن حميد بن مسْعدَة وَفِي الْحَج عَن زِيَاد بن أَيُّوب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرجنَا من الْمَدِينَة) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَن يحيى بن إِسْحَاق عِنْد مُسلم: (إِلَى الْحَج) ، قَوْله: (من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة) ، دخل مَكَّة يَوْم الْأَحَد صَبِيحَة رَابِعَة ذِي الْحجَّة، وَبَات بالمحصب لَيْلَة الْأَرْبَعَاء وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة اعْتَمَرت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَخرج من مَكَّة صبيحتها وَهُوَ الرَّابِع عشر. قَوْله: (فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَي: الظّهْر وَالْعصر وَالْعشَاء وَالْفَجْر إلاّ الْمغرب، فَإِنَّهُ يُصليهَا ثَلَاثًا على حَالهَا، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَاصِم عَن يحيى بن أبي إِسْحَاق عَن أنس: إلاّ الْمغرب. قَوْله: (قلت) ، قَائِله يحيى. قَوْله: (أقمتم بِمَكَّة شَيْئا) ؟ همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ محذوفة أَي: أقمتم. قَوْله: (عشرا) أَي: عشرَة أَيَّام، وَإِنَّمَا حذفت التَّاء من الْعشْر مَعَ أَن الْيَوْم مُذَكّر لِأَن الْمُمَيز إِذا لم يكن مَذْكُورا جَازَ فِي الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث. قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنه أَقَامَ بِمَكَّة وحواليها لَا فِي مَكَّة فَقَط، إِذْ كَانَ ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن حَدِيث أنس لَا يُعَارض حَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن حَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَ فِي فتح مَكَّة، وَخرج من مَكَّة صبيح الرَّابِع عشر فَتكون مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة وحواليها عشرَة أَيَّام بلياليها، كَمَا قَالَ أنس، وَتَكون مُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء لِأَنَّهُ خرج مِنْهَا فِي الْيَوْم الثَّامِن، فصلى الظّهْر بمنى. وَقَالَ ابْن رشيد: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين أَن حَدِيث أنس دَاخل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن إِقَامَته عشرَة دَاخِلَة فِي إِقَامَته تسع عشرَة، وَأَرَادَ من ذَلِك أَن الْأَخْذ بِالزَّائِدِ مُتَعَيّن، وَلَا يتهيأ لَهُ ذَلِك لاخْتِلَاف القضيتين، وَإِنَّمَا يَجِيء مَا قَالَه لَو كَانَت القضيتان متحدتين. فَافْهَم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، أَن الْمُسَافِر إِذا أَقَامَ ببلدة أَرْبَعَة أَيَّام قصر، لِأَن إِقَامَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة كَانَت أَرْبَعَة أَيَّام، كَمَا ذكرنَا. وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ: الْأَصَح أَن المُرَاد بالأربعة غير يَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج، وَعَن الشَّافِعِي فِي قَوْله: إِذا أَقَامَ أَكثر من أَرْبَعَة أَيَّام كَانَ مُقيما وَإِن لم ينْو الْإِقَامَة وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: مَا قَالَه الشَّافِعِي خلاف الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن أحد قبله بِأَن يصير مُقيما بنية أَرْبَعَة أَيَّام، وَعند أَصْحَابنَا: إِن نوى أقل من خَمْسَة عشر يَوْمًا قصر صلَاته، لِأَن الْمدَّة خَمْسَة عشر يَوْمًا كمدة الطُّهْر، لما روى (عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَا: إِذا قدمت بَلْدَة وَأَنت مُسَافر وَفِي نَفسك أَن تقيم خَمْسَة عشر يَوْمًا فأكمل الصَّلَاة بهَا، وَإِن كنت لَا تَدْرِي مَتى تظعن فأقصرها) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد أَن ابْن عمر كَانَ إِذا أجمع على إِقَامَة خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم الصَّلَاة) وروى هشيم عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ: إِذا أَقَامَ الْمُسَافِر خمس عشرَة لَيْلَة أتم الصَّلَاة وَمَا كَانَ دون ذَلِك فليقصر. ثمَّ إعلم أَنا قُلْنَا: إِنَّمَا يصير مُقيما بنية الْإِقَامَة إِذا سَار ثَلَاثَة أَيَّام، فَأَما إِذا لم يسر ثَلَاثَة أَيَّام فعزم على الرُّجُوع أَو نوى الْإِقَامَة يصير مُقيما، وَإِن كَانَ فِي الْمَفَازَة، كَذَا ذكره فَخر الْإِسْلَام وَفِي (الْمُجْتَبى) : لَا يبطل السّفر إلاّ بنية الْإِقَامَة أَو دُخُول الوطن أَو الرُّجُوع إِلَيْهِ قبل الثَّلَاث، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَظْهر. وَنِيَّة الْإِقَامَة إِنَّمَا تُؤثر بِخمْس شَرَائِط. أَحدهَا: ترك السّير حَتَّى لَو نوى الْإِقَامَة وَهُوَ يسير لم يَصح. وَثَانِيها: صَلَاحِية الْموضع(7/117)
حَتَّى لَو نوى الْإِقَامَة فِي بر أَو بَحر أَو جَزِيرَة لم يَصح اتِّحَاد الْموضع. رَابِعهَا: الْمدَّة. خَامِسهَا: الِاسْتِقْلَال بِالرَّأْيِ. حَتَّى لَو نوى من كَانَ تبعا لغيره كالجندي وَالزَّوْجَة وَالرَّقِيق والأجير والتلميذ مَعَ استاذه والغريم الْمُفلس مَعَ صَاحب الدّين لَا تصح نِيَّته إلاّ إِذا نوى متبوعه، وَلَو نوى الْمَتْبُوع الْإِقَامَة وَلم يعلم بهَا التَّابِع فَهُوَ مُسَافر، كَالْوَكِيلِ إِذا عزل، وَهُوَ الْأَصَح، وَعَن بعض أَصْحَابنَا: يصيرون مقيمين ويعيدون مَا أَدّوا فِي مُدَّة عدم الْعلم.
2 - (بابُ الصَّلاةِ بِمِنىً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة بمنى، يَعْنِي: فِي أَيَّام الرَّمْي، وَإِنَّمَا لم يذكر حكم الْمَسْأَلَة بل قَالَ: بَاب الصَّلَاة بمنى على الْإِطْلَاق لقُوَّة الْخلاف فِيهَا، وَإِنَّمَا خص منى بِالذكر لِأَنَّهَا الْمحل الَّذِي وَقع فِي ذَلِك قَدِيما، وَمنى يذكر وَيُؤَنث بِحَسب قصد الْموضع والبقعة. قيل: فَإِذا ذكّر صرف وَكتب بِالْألف، وَإِذا أنّث لم يصرف وَكتب بِالْيَاءِ، وَذكر الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت منى، لِأَنَّهَا مني بهَا الْكَبْش الَّذِي فدى بِهِ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من: الْمنية. وَيُقَال: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أَتَى آدم بمنى قَالَ لَهُ: تمن. قَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل بِمَكَّة مَعْرُوف. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: لامه يَاء، من منيت الشَّيْء إِذا قدرته. وَقَالَ الْفراء: الْأَغْلَب عَلَيْهِ التَّذْكِير. وَقَالَ الْحَازِمِي: إِن منى صقع قرب مَكَّة، وَهُوَ أَيْضا هضبة قرب قَرْيَة من ديار غَنِي بن أعصر، وَقد امتنى الْقَوْم إِذا أَتَوا منى، قَالَه يُونُس. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أمني الْقَوْم.
2801 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قالَ صلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ومَعَ عُثْمَانَ صَدْرا مِنْ إمَارَتِهِ ثُمَّ أتَمَّهَا.
(الحَدِيث 2801 طرفه فِي: 5561) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِطْلَاق الَّذِي فِيهَا، فَإِن الْإِطْلَاق فِيهَا يتَنَاوَل الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ويتناولها أَرْبعا أَيْضا، فَصَارَت الْمُطَابقَة من جِهَة التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، أَو من جِهَة التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق، وَلَكِن حكم الْمَسْأَلَة كَمَا يَنْبَغِي لَا يفهم مِنْهُ، وَهُوَ أَن الْمُقِيم بمنى هَل يقصر أَو يتم، فَلذَلِك لم يذكر حكمهَا فِي التَّرْجَمَة، وسنبينها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعبيد الله ابْن سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد.
قَوْله: (بمنى) فِي رِوَايَة مُسلم عَن سَالم عَن أَبِيه: (بمنى وَغَيره) ، قَوْله: (صَدرا) أَي: أول خِلَافَته وَهِي سِتّ سِنِين أَو ثَمَان سِنِين على خلاف فِيهِ. قَوْله: (من إمارته) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَهِي خِلَافَته. قَوْله: (ثمَّ أتمهَا) أَي: بعد ذَلِك، لِأَن الْقصر والإتمام جائزان، وَرَأى تَرْجِيح طرف الْإِتْمَام لِأَن فِيهِ زِيَادَة مشقة، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن عبيد الله عِنْد مُسلم: (ثمَّ إِن عُثْمَان صلى أَرْبعا فَكَانَ ابْن عمر إِذا صلى مَعَ الإِمَام صلى أَرْبعا، وَإِذا صلى وَحده صلى رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة الْمُسَافِر، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان ثَمَان سِنِين أَو سِتّ سِنِين) . وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن زَمعَة عَن سَالم (عَن ابْن عمر، قَالَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى أَبُو بكر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى بعده عمر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى بعده عُثْمَان رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ إِن عُثْمَان أتم بعد) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: اتّفق الْعلمَاء على أَن الْحَاج القادم مَكَّة يقصر الصَّلَاة بهَا وبمنىً، وبسائر الْمشَاهد لِأَنَّهُ عِنْدهم فِي سفر، لِأَن مَكَّة لَيست دَار أَرْبَعَة إِلَّا لأَهْلهَا أَو لمن أَرَادَ الْإِقَامَة بهَا، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قد فرض عَلَيْهِم ترك الْمقَام بهَا، فَلذَلِك لم ينْو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِقَامَة بهَا وَلَا بمنى، قَالَ: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صَلَاة الْمَكِّيّ بمنى، فَقَالَ مَالك: يتم بِمَكَّة وَيقصر بمنى، وَكَذَلِكَ أهل منى، يتمون بمنى ويقصرون بِمَكَّة، وعرفات. قَالَ: وَهَذِه الْمَوَاضِع مَخْصُوصَة بذلك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قصر بِعَرَفَة لم يُمَيّز من وَرَاءه، وَلَا قَالَ لأهل مَكَّة: أَتموا، وَهَذَا مَوضِع بَيَان. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ أَن الْمَكِّيّ يقصر بمنى ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وطاووس، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق، وَقَالُوا: إِن الْقصر سنة الْموضع، وَإِنَّمَا يتم بمنى وعرفات من(7/118)
كَانَ مُقيما فِيهَا. وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري والكوفيون وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: لَا يقصر الصَّلَاة أهل مَكَّة بمنى وعرفات لانْتِفَاء مَسَافَة الْقصر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ الْحَج مُوجبا للقصر لِأَن أهل منى وعرفات إِذا كَانُوا حجاجا أَتموا، وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَلقا بالموضع، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَأهل مَكَّة مقيمون هُنَاكَ لَا يقصرون، وَلما كَانَ الْمُقِيم لَا يقصر لَو خرج إِلَى منى كَذَلِك الْحَاج.
ذكر الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه والكوفيون: الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن بسير الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يَوْمَانِ وَأكْثر الثَّالِث، وَهِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة وَرِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد وَلم يُرِيدُوا بِهِ السّير لَيْلًا وَنَهَارًا لأَنهم جعلُوا النَّهَار للسير وَاللَّيْل للاستراحة، وَلَو سلك طَرِيقا هِيَ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَأمكنهُ أَن يصل إِلَيْهَا فِي يَوْم من طَرِيق أُخْرَى قصر، ثمَّ قدرُوا ذَلِك بالفراسخ، فَقيل: أحد وَعِشْرُونَ فرسخا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر، وَعَلِيهِ الفتوي، وَقيل: خَمْسَة عشر فرسخا، وَإِلَى ثَلَاثَة أَيَّام ذهب عُثْمَان بن عَفَّان وَابْن مَسْعُود وسُويد بن غَفلَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَابْن حييّ وَأَبُو قلَابَة وَشريك بن عبد الله وَسَعِيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَهُوَ رِوَايَة عَن عبد الله بن عمر. وَعَن مَالك: لَا يقصر فِي أقل من ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ميلًا بالهاشمي، وَذَلِكَ سِتَّة عشر فرسخا، وَهُوَ قَول أَحْمد، والفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال، والميل سِتَّة آلَاف ذِرَاع، والذراع أَربع وَعِشْرُونَ إصبعا مُعْتَرضَة معتدلة، والأصبع سِتّ شعيرات معترضات معتدلات، وَذَلِكَ يَوْمَانِ، وَهُوَ أَرْبَعَة برد، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ. كَأَنَّهُ احْتج بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد عَن أَبِيه وَعَطَاء بن أبي رَبَاح (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أهل مَكَّة لَا تقصرُوا الصَّلَاة فِي أدنى من أَرْبَعَة برد من مَكَّة إِلَى عسفان) . وَعبد الْوَهَّاب ضَعِيف، وَمِنْهُم من يكذبهُ، وَعنهُ أَيْضا: خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ ميلًا، وَللشَّافِعِيّ: سَبْعَة نُصُوص فِي الْمسَافَة الَّتِي تقصر فِيهَا الصَّلَاة: ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ ميلًا، سِتَّة وَأَرْبَعُونَ، أَكثر من أَرْبَعِينَ، أَرْبَعُونَ، يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ، يَوْم وَلَيْلَة، وَهَذَا الآخر قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيّ. قَالَ أَبُو عمر: قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: عَامَّة الْفُقَهَاء يَقُولُونَ بِهِ. قَالَ أَبُو عَمْرو عَن دَاوُد: يقصر فِي طَوِيل السّفر وقصيره، زَاد ابْن حَامِد: حَتَّى لَو خرج إِلَى بُسْتَان لَهُ خَارج الْبَلَد قصر، وَزعم أَبُو مُحَمَّد أَنه لَا يقصر عِنْدهم فِي أقل من ميل، وَرُوِيَ الْميل أَيْضا عَن ابْن عمر، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَو خرجت ميلًا لقصرت. وَعنهُ: إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر، وَعنهُ: ثَلَاثَة أَمْيَال، وَعَن ابْن مَسْعُود: أَرْبَعَة أَمْيَال، وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا هشيم عَن أبي هَارُون (عَن أبي سعيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا سَافر فرسخا قصر الصَّلَاة) . وَحدثنَا هشيم عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك (عَن النزال أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج إِلَى النحيلة، فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ رَجَعَ من يَوْمه. قَالَ: أردْت أَن أعلمكُم سنة نَبِيكُم) . وَكَانَ حُذَيْفَة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِيمَا بَين الْكُوفَة والمدائن، وَعَن ابْن عَبَّاس: تقصر الصَّلَاة فِي مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة. وَعَن ابْن عمر وسُويد بن غَفلَة وَعمر بن الْخطاب: ثَلَاثَة أَمْيَال. . وَعَن أنس (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ. شُعْبَة الشاك قصر) ، رَوَاهُ مُسلم. قَالَ أَبُو عمر: هَذَا عَن يحيى بن يزِيد الْهنائِي، قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن قصر الصَّلَاة، فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج ... إِلَى آخِره، وَيحيى شيخ بَصرِي لَيْسَ لمثله أَن يروي مثل هَذَا الَّذِي خَالف فِيهِ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَا هُوَ مِمَّن يوثق بِهِ فِي مثل ضبط هَذَا الْأَمر، وَقد يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ سفرا بَعيدا، ثمَّ أَرَادَ ابْتِدَاء قصر الصَّلَاة إِذا خرج وَمَشى ثَلَاثَة أَمْيَال، فيتفق حُضُور صَلَاة فيقصر. وَعَن الْحسن: يقصر لمسيرة لَيْلَتَيْنِ. وَعند أبي الشعشاء: سِتَّة أَمْيَال. وَعند مُسلم (عَن جُبَير بن نفير، قَالَ: خرجت مَعَ شُرَحْبِيل بن السمط إِلَى قَرْيَة على رَأس سَبْعَة عشرَة أَو ثَمَانِيَة عشر ميلًا، فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر السَّبَب فِي إتْمَام عُثْمَان الصَّلَاة بمنى للْعُلَمَاء فِي ذَلِك أَقْوَال: مِنْهَا: أَنه أتمهَا بمنى خَاصَّة. قَالَ أَبُو عمر، قَالَ قوم: أَخذ بالمباح فِي ذَلِك، إِذْ للْمُسَافِر أَن يقصر وَيتم، كَمَا لَهُ أَن يَصُوم وَيفْطر، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا صلى بمنى أَرْبعا لِأَن الْأَعْرَاب كَانُوا كثيرين فِي ذَلِك الْعَام، فأحبب أَن يُخْبِرهُمْ بِأَن الصَّلَاة أَربع، وروى معمر عَن الزُّهْرِيّ أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا لِأَنَّهُ أجمع الْإِقَامَة بعد الْحَج، وروى يُونُس عَنهُ: لما اتخذ عُثْمَان الْأَمْوَال بِالطَّائِف، وَأَرَادَ أَن يُقيم بهَا صلى أَرْبعا، وروى مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: صلى أَرْبعا لِأَنَّهُ كَانَ اتخذها وطنا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَذَلِكَ مَدْخُول لِأَنَّهُ لَو كَانَ إِتْمَامه لهَذَا الْمَعْنى لما خَفِي ذَلِك(7/119)
على سَائِر الصَّحَابَة وَلما أَنْكَرُوا عَلَيْهِ ترك السّنة، وَلما صلى ابْن مَسْعُود فِي منزله، وَقَالَ ابْن بطال: الْوُجُوه الَّتِي ذكرت عَن الزُّهْرِيّ كلهَا لَيست بِشَيْء. أما الْوَجْه الأول فقد قَالَ الطَّحَاوِيّ: الْأَعْرَاب كَانُوا بِأَحْكَام الصَّلَاة أَجْهَل فِي زمن الشَّارِع فَلم يتم بهم لتِلْك الْعلَّة، وَلم يكن عُثْمَان ليخاف عَلَيْهِم مَا لم يخفه الشَّارِع، لِأَنَّهُ بهم رؤوف رَحِيم، أَلا ترى أَن الْجُمُعَة لما كَانَ فَرضهَا رَكْعَتَيْنِ لم يعدل عَنْهَا، وَكَانَ يحضرها الغوغاء والوفود، وَقد تجوزوا أَن صَلَاة الْجُمُعَة فِي كل يَوْم رَكْعَتَانِ؟ وَأما الْوَجْه الثَّانِي: فَلِأَن الْمُهَاجِرين فرض عَلَيْهِم ترك الْمقَام بِمَكَّة، وَصَحَّ عَن عُثْمَان أَنه كَانَ لَا يودع النِّسَاء إلاّ على ظهر الرَّوَاحِل، ويسرع الْخُرُوج من مَكَّة خشيَة أَن يرجع فِي هجرته الَّتِي هَاجر لله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يمْتَنع ذَلِك إِذا كَانَ لَهُ أَمر أوجب ذَلِك الضَّرُورَة، وَقد قَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) فِيمَن يُقيم بمنى ليخف النَّاس: يتم، فِي أحد قوليه. وَأما الْوَجْه الثَّالِث فَفِيهِ بُعد، إِذْ لم يقل أحد إِن الْمُسَافِر إِذا مر بِمَا يملكهُ من الأَرْض وَلم يكن لَهُ فِيهَا أهل أَن حكمه حكم الْمُقِيم، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ عُثْمَان أتم لِأَن أَهله كَانُوا مَعَه بِمَكَّة، وَيرد هَذَا أَن الشَّارِع كَانَ يُسَافر بزوجاته وَكن مَعَه بِمَكَّة، وَمَعَ ذَلِك كَانَ يقصر. فَإِن قلت: روى عبد الله ابْن الْحَارِث بن أبي ذئاب عَن أَبِيه، وَقد عمل الْحَارِث لعمر بن الْخطاب، قَالَ: صلى بِنَا عُثْمَان أَرْبعا، فَلَمَّا سلم أقبل على النَّاس فَقَالَ: إِنِّي تأهلت بِمَكَّة، وَقد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من تأهل ببلدة فَهُوَ من أَهلهَا، فَليصل أَرْبعا، وَعَزاهُ ابْن التِّين إِلَى رِوَايَة ابْن شخير: أَن عُثْمَان صلى بمنى أَرْبعا، فأنكروا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس، إِنِّي لما قدمت تأهلت بهَا، إِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِذا تأهل الرجل ببلدة فَليصل بهَا صَلَاة الْمُقِيم. قلت: هَذَا مُنْقَطع أخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ضَعِيف عَن ابْن أبي ذئاب عَن أَبِيه قَالَ: صلى عُثْمَان، وَقَالَ ابْن حزم: إِن عُثْمَان كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَحَيْثُ كَانَ فِي بلد فَهُوَ عمله، وَللْإِمَام تَأْثِير فِي حكم الْإِتْمَام كَمَا لَهُ تَأْثِير فِي إِقَامَة الْجُمُعَة إِذا مر بِقوم أَنه يجمع بهم الْجُمُعَة، غير أَن عُثْمَان سَار مَعَ الشَّارِع إِلَى مَكَّة وَغَيرهَا، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يقصر، ورد بِأَن الشَّارِع كَانَ أولى بذلك، وَمَعَ ذَلِك لم يَفْعَله، وَصَحَّ عَنهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ إِلَى أَن قَبضه الله تَعَالَى. وَقَالَ ابْن بطال: وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِك، وَالله أعلم، أَن عُثْمَان وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِنَّمَا أتما فِي السّفر لِأَنَّهُمَا اعتقدا فِي قصره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لما خير بَين الْقصر والإتمام اخْتَار الْأَيْسَر من ذَلِك على أمته، وَقد قَالَت عَائِشَة: مَا خير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن إلاّ اخْتَار إيسرهما مَا لم يكن إِثْمًا، فَأخذت هِيَ وَعُثْمَان فِي أَنفسهمَا بالشدة وتركا الرُّخْصَة، إِذْ كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهما فِي حكم التَّخْيِير فِيمَا أذن الله تَعَالَى فِيهِ، وَيدل على ذَلِك إِنْكَار ابْن مَسْعُود الْإِتْمَام على عُثْمَان، ثمَّ صلى خَلفه وَأتم، فكُلم فِي ذَلِك فَقَالَ: الْخلاف شَرّ. [/ شَرّ
3801 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ أنبَأنَا أبُو إسْحَاقَ قَالَ سَمَعْتُ حارثَةَ بنَ وَهَبٍ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آمَنَ مَا كانَ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ.
(الحَدِيث 3081 طرفه فِي: 6561) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي. الرَّابِع: حَارِثَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة: ابْن وهب الْخُزَاعِيّ أَخُو عبيد الله بن عمر بن الْخطاب لأمه، وأمهما بنت عُثْمَان بن مَظْعُون، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الإنباء فِي مَوضِع وَاحِد وَهُوَ بِمَعْنى الْإِخْبَار والتحديث. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بكنيته وَهُوَ بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق كُوفِي، وَهُوَ أَيْضا مَذْكُور بكنيته. وَفِيه: لفظ الإنباء وَلم يذكر فِيمَا قبل هَذَا اللَّفْظ. وَفِيه: أَن حَارِثَة ابْن وهب مَذْكُور فِي موضِعين لَيْسَ إلاّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن آدم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَعَن أَحْمد بن يُونُس، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَمِعت حَارِثَة بن وهب) وَفِي رِوَايَة البرقاني فِي (مستخرجه) (رجلا من خُزَاعَة) ، أخرجه(7/120)
من طَرِيق أبي الْوَلِيد شيخ البُخَارِيّ فِيهِ قَوْله: (آمن) أفعل التَّفْضِيل من الْأَمْن. قَوْله: (مَا كَانَ) فِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: (مَا كَانَت) ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَمَعْنَاهُ: الْجمع لِأَن مَا أضيف إِلَيْهِ أفعل يكون جمعا، وَالْمعْنَى: صلى بِنَا وَالْحَال أَن أَكثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات أَمن. وَلَفظ مُسلم: (عَن حَارِثَة بن وهب قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى، آمن مَا كَانَ النَّاس وَأَكْثَره، رَكْعَتَيْنِ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (صليت خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى وَالنَّاس أَكثر مَا كَانُوا فصلى رَكْعَتَيْنِ) . قَوْله: (بمنى) الْبَاء فِيهِ ظرفية تتَعَلَّق بقوله: (صلى) . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) ، مفعول: (صلى) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: مَذْهَب الْجُمْهُور أَنه يجوز الْقصر من غير خوف لدلَالَة حَدِيث حَارِثَة على ذَلِك، لِأَن مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصر من غير خوف. وَفِيه: رد على من زعم أَن الْقصر مُخْتَصّ بالخوف أَو الْحَرْب، ذكر أَبُو جَعْفَر فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَادِهِ (عَن عَائِشَة، تَقول فِي السّفر: أَتموا صَلَاتكُمْ، فَقَالُوا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَت: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي حَرْب، وَكَانَ يخَاف، فَهَل تخافون أَنْتُم؟) وَفِي لفظ: (كَانَت تصلي فِي السّفر أَرْبعا) . وَاحْتج هَؤُلَاءِ الزاعمون أَيْضا بقوله تَعَالَى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) . وَأجِيب بِأَن الشَّرْط فِي الْآيَة خرج مخرج الْغَالِب، وَقيل: هُوَ من الْأَشْيَاء الَّتِي شرع الحكم فِيهَا بِسَبَب ثمَّ زَالَ السَّبَب وَبَقِي الحكم، كالرمل فِي الطّواف، وَقد أوضح هَذَا مَا فِي (صَحِيح مُسلم) (عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) . فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ عمر: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته) . وَفِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) لأبي نعيم: حَدثنَا سُلَيْمَان حَدثنَا مُحَمَّد بن سهل الرباطي حَدثنَا سهل بن عُثْمَان عَن شريك عَن قيس بن وهب عَن أبي الكنود، (سَأَلت ابْن عمر عَن صَلَاة السّفر، فَقَالَ: رَكْعَتَانِ نزلت من السَّمَاء، فَإِن شِئْتُم فردوها) وَأما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر فَإِن حَدِيث حَارِثَة بن وهب يردهُ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فِيهِ: أَي فِي حَدِيث الْبَاب: تَعْظِيم شَأْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أطلق مَا قَيده الله تَعَالَى، ووسع على عباده تَعَالَى، وَنسب فعله إِلَى الله عز وَجل.
4801 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ عنِ الأعْمَشِ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ يقُولُ صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقِيلَ فِي ذالِكَ لِعَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وصَلَّيْتُ مَعَ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أرْبَعِ رَكَعَاتٍ ركْعَتَانِ مُتَقَبلِّتَانِ.
(الحَدِيث 4801 طرفه فِي: 7561) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: قُتَيْبَة، وَقد تكَرر ذكره، الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد من الزِّيَادَة الْعَبْدي أَبُو عُبَيْدَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لَا التَّيْمِيّ. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن يزِيد من الزِّيَادَة النَّخعِيّ الْأسود بن يزِيد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين. السَّادِس: عُثْمَان بن عَفَّان. السَّابِع: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بلخي وَعبد الْوَاحِد بَصرِي والبقية كوفيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن قبيصَة عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْوَاحِد وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن حشرم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حشرم بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن قُتَيْبَة وَلم يذكر فعل عُثْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صلى بِنَا عُثْمَان) ، كَانَ ذَلِك بعد رُجُوعه من أَعمال الْحَج فِي حَال إِقَامَته بمنى للرمي. قَوْله: (فَقيل(7/121)
فِي ذَلِك) ، هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فَقيل ذَلِك) ، أَي: فِيمَا ذكر من صَلَاة عُثْمَان أَربع رَكْعَات. قَوْله: (فَاسْتَرْجع) أَي قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، كَرَاهَة مُخَالفَته الْأَفْضَل. قَوْله: (وَمَعَ عمر رَكْعَتَيْنِ) زَاد الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش: (ثمَّ تَفَرَّقت بكم الطّرق) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج من طَرِيقه. قَوْله: (فليت حظي من أَربع رَكْعَات رَكْعَتَانِ) ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ (رَكْعَات) . قَوْله: (حظي) أَي: نَصِيبي، وَكلمَة: من فِي: (من أَربع) للبدل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أرضيتم بالحيوة الدُّنْيَا من الْآخِرَة} (التَّوْبَة: 83) . وَقَالَ الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ: إِن صليت أَرْبعا وتكلفتها فليتها تتقبل كَمَا تتقبل الركعتان.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا وإلاّ لما كَانَ لَهُ حَظّ من الْأَرْبَع وَلَا من غَيرهَا، فَإِنَّهَا تكون فَاسِدَة كلهَا، وَإِنَّمَا اسْترْجع لما وَقع عَنهُ من مُخَالفَته الأولى، وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى أَرْبعا، فَقيل لَهُ: عبت على عُثْمَان ثمَّ صليت أَرْبعا؟ فَقَالَ: الْخلاف شَرّ. وَرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ إِنِّي لأكْره الْخلاف، وَلأَحْمَد من حَدِيث أبي ذَر مثل الأول، وَهَذَا يدل على أَنه لم يكن يعْتَقد أَن الْقصر وَاجِب، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ القَاضِي إِسْمَاعِيل من الْمَالِكِيَّة وَأحمد. وَقَالَ ابْن قدامَة: الْمَشْهُور عَن أَحْمد أَنه على الِاخْتِيَار، وَالْقصر عِنْده أفضل، وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. قلت: هَذَا الْقَائِل تكلم بِمَا يُوَافق غَرَضه، أما قَوْله هَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يرى الْإِتْمَام جَائِزا، فَيردهُ مَا قَالَه الدَّاودِيّ: إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى الْقصر فرضا، ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) وَغَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَانِ لَا يَصح غَيرهمَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن قَامَ إِلَى الثَّالِثَة فَإِنَّهُ يلغيها وَيسْجد سَجْدَتي السَّهْو. وَقَالَ الْحسن بن حَيّ: إِذا صلى أَرْبعا مُتَعَمدا أَعَادَهَا، وَكَذَا قَالَ ابْن أبي سُلَيْمَان، وَأما قَوْله: وَيُؤَيِّدهُ مَا روى أَبُو دَاوُد أَن ابْن مَسْعُود صلى أَرْبعا، فَإِنَّهُ أجَاب عَن هَذَا بقوله: الْخلاف شَرّ، فَلَو لم يكن الْقصر عِنْده وَاجِبا لما اسْترْجع، وَلما أنكر بقوله: (صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى رَكْعَتَيْنِ) إِلَى آخر الحَدِيث، وَأما قَوْله الْمَشْهُور عَن أَحْمد: إِنَّه على الِاخْتِيَار، فيعارضه مَا قَالَه الْأَثْرَم. قلت لِأَحْمَد: للرجل أَن يُصَلِّي أَرْبعا فِي السّفر؟ قَالَ: لَا مَا يُعجبنِي. وَحكى ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) : أَن أَحْمد قَالَ: أَنا أحب الْعَافِيَة عَن هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: الأولى الْقصر، ليخرج عَن الْخلاف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: الْعَمَل على مَا فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الْقصر، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن سَحْنُون وَرِوَايَة عَن مَالك وَأحمد، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَحَمَّاد، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عمر وَعلي وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِهَذَا يرد على هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: وَهُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الشَّافِعِي على عدم الْوُجُوب بِأَن الْمُسَافِر إِذا دخل فِي صَلَاة الْمُقِيم صلى أَرْبعا باتفاقهم، وَلَو كَانَ فَرْضه الْقصر لم يأتم مُسَافر بمقيم، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن صَلَاة الْمُسَافِر كَانَت أَرْبعا عِنْد اقتدائه بالمقيم لالتزامه الْمُتَابَعَة، فيتغير فَرْضه للتبعية وَلَا يتَغَيَّر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ فرضا لَا بُد من إِتْيَانه كُله، وَلَيْسَ لَهُ خِيَار فِي تَركه. وإيراد ابْن بطال بِأَنا وجدنَا وَاجِبا يتَخَيَّر بَين الْإِتْيَان بِجَمِيعِهِ أَو بِبَعْضِه، وَهُوَ لإِقَامَة بمنى غير وَارِد، لِأَن الْإِقَامَة بمنى اخْتِيَاره وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ، لَا يُقَال: إِن اقْتِدَاء الْمُسَافِر بالمقيم بِاخْتِيَارِهِ، لأَنا نقُول: نعم بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِن عِنْد الِاقْتِدَاء يَزُول اخْتِيَاره لضَرُورَة الْتِزَام التّبعِيَّة. فَافْهَم. فَإِذا احْتج الْخصم بقوله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . بِأَن لَفْظَة: {لَا جنَاح} يدل على الْإِبَاحَة لَا على الْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الْقصر مُبَاح، أجبنا عَنهُ: بِأَن المُرَاد من الْقصر الْمَذْكُور هُوَ الْقصر فِي الْأَوْصَاف من ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو، بِدَلِيل أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير مُتَعَلق بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف عِنْد الْخَوْف مُبَاح لَا وَاجِب، مَعَ أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم النُّقْصَان فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام فِي الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع ذَلِك عَنْهُم، وَإِن احْتج بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة (عَن يعلى بن أُميَّة، قَالَ: قلت لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. .) الحَدِيث، وَقد مضى عَن قريب وَوجه التَّعَلُّق بِهِ أَنه علق الْقصر بِالْقبُولِ وَسَماهُ صَدَقَة، والمتصدق عَلَيْهِ مُخَيّر فِي(7/122)
قبُول الصَّدَقَة، فَلَا يلْزمه الْقبُول حتما، أجبنا عَنهُ بِأَنَّهُ دَلِيل لنا، لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ وَالْأَمر للْوُجُوب، وَلِأَن هَذِه صَدَقَة وَاجِبَة فِي الذِّمَّة فَلَيْسَ لَهُ حكم المَال، فَيكون إِسْقَاطًا مَحْضا، وَلَا يرْتَد بِالرَّدِّ كالصدقة بِالْقصاصِ وَالطَّلَاق وَالْعتاق، يكون إِسْقَاطًا لَا يرْتَد بِالرَّدِّ، فَكَذَا هَذَا.
وَلنَا أَحَادِيث: مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة (قَالَت: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: (فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) ، رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ: (افْترض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانَا وَنحن صلال يعلمنَا، فَكَانَ فِيمَا علمنَا أَن الله، عز وَجل، أمرنَا أَن نصلي رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر. .) ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (المتمم الصَّلَاة فِي السّفر كالمقصر فِي الْحَضَر) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) .
3 - (بابٌ كَمْ أقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجه.
5801 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ عنْ أبي العَالِيَةِ البَرَّاءِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأصْحَابُهُ لِصُبْحٍ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالحَجِّ فَأمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلاّ منْ مَعَهُ الهَدْيُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير تَامَّة، وَإِنَّمَا فِي الحَدِيث بَيَان قدومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برابعة ذِي الْحجَّة، وَلَيْسَ فِيهِ: كم من يَوْم أَقَامَ النَّبِي، وَلكنه من الْمَعْلُوم أَن حجه هُوَ حجَّة الْوَدَاع، وَكَانَ فِي مَكَّة وحواليها إِلَى الرَّابِع عشر من ذِي الْحجَّة، فَهَذِهِ الْإِقَامَة عشرَة أَيَّام، كَمَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي مضى فِي أول الْأَبْوَاب، وَبينا ذَلِك مستقصىً.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد أَبُو بكر، وَقد مر فِي: بَاب من أجَاب الْفتيا فِي الْعلم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: أَبُو الْعَالِيَة اسْمه زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن فَيْرُوز، وَقيل غير ذَلِك، وَهُوَ غير أبي الْعَالِيَة الريَاحي، واسْمه رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، وَكِلَاهُمَا بصريان تابعيان يرويان عَن ابْن عَبَّاس: ويتميز أَبُو الْعَالِيَة زِيَاد بالبراء، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، وَكَانَ يبري النبل، وَقيل: الْقصب. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلم بصريون. وَفِيه: أحدهم مَذْكُور بِالتَّصْغِيرِ وَالْآخر بِلَا نِسْبَة وَالْآخر بالكنية وَالنِّسْبَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن نصر بن عَليّ وَعَن إبراهم بن دِينَار وَعَن أبي دَاوُد الْمُبَارك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن هَارُون بن عبد الله وَعَن عبد بن حميد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن معمر البحراني.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصُّبْح رَابِعَة) أَي: الْيَوْم الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. قَوْله: (يلبون بِالْحَجِّ) جملَة حَالية أَي: محرمين، وَذكر التَّلْبِيَة وَإِرَادَة الْإِحْرَام من طَرِيق الْكِنَايَة. قَوْله: (أَن يجعلوها) أَي: يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة، وَلَيْسَ هَذَا بإضمار قبل الذّكر، لِأَن قَوْله: بِالْحَجِّ، يدل على أَن الْحجَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . أَي الْعدْل. قَوْله: (هدي) بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الدَّال وخفة الْيَاء، وبكسر الدَّال وَتَشْديد الْيَاء، هُوَ مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم تقربا إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا اسْتثْنى صَاحب الْهَدْي لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ التَّحَلُّل حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله.(7/123)
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قد مضى فِي حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مقَامه بِمَكَّة فِي حجَّته كَانَ عشرَة أَيَّام، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه قدم مَكَّة رَابِعَة ذِي الْحجَّة، وَكَانَ يَوْم الْأَحَد، فصلى الصُّبْح بِذِي طوى واستهل ذُو الْحجَّة فِي ذَلِك الْعَام لَيْلَة الْخَمِيس، فَأَقَامَ بِمَكَّة يَوْم الْأَحَد إِلَى لَيْلَة الْخَمِيس ثمَّ نَهَضَ ضحوة يَوْم الْخَمِيس إِلَى منى، فَأَقَامَ بهَا بَاقِي نَهَاره وَلَيْلَة الْجُمُعَة، ثمَّ نَهَضَ يَوْم الْجُمُعَة إِلَى عَرَفَات أَي: بعد الزَّوَال، وخطب بنمرة بِقرب عَرَفَات، وَبَقِي بهَا إِلَى الْغُرُوب، ثمَّ أَفَاضَ لَيْلَة السبت إِلَى الْمزْدَلِفَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى أَن صلى الصُّبْح، ثمَّ أَفَاضَ مِنْهَا إِلَى طُلُوع الشَّمْس يَوْم السبت وَهُوَ يَوْم الْأَضْحَى والنفر إِلَى منى، فَرمى جَمْرَة الْعقبَة ضحوة ثمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّة ذَلِك الْيَوْم، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قبل الزَّوَال، ثمَّ رَجَعَ فِي يَوْمه إِلَى منى فَأَقَامَ بهَا بَاقِي يَوْم السبت والأحد والاثنين وَالثُّلَاثَاء، ثمَّ أَفَاضَ بعد ظهر الثُّلَاثَاء، وهور آخر أَيَّام التَّشْرِيق إِلَى المحصب، فصلى بِهِ الظّهْر وَبَات فِيهِ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة أعمر عَائِشَة من التَّنْعِيم، ثمَّ طَاف طواف الْوَدَاع سحرًا قبل صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَهُوَ صَبِيحَة رَابِع عشرَة، وَأقَام عشرَة أَيَّام كَمَا ذكر فِي حَدِيث أنس، ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْمَدِينَة، فَكَانَ خُرُوجه من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لأَرْبَع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَصلى الظّهْر بِذِي الحليفة وَأحرم بأثرها، وَهَذَا كُله مستنبط من قَوْله: (قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه لصبح رَابِعَة من ذِي الْحجَّة. .) وَمن الحَدِيث الَّذِي جَاءَ أَن يَوْم عَرَفَة كَانَ يَوْم جُمُعَة، وَفِيه نزلت: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أَحْمد وَدَاوُد وَأَصْحَابه على جَوَاز فسخ الْحَج فِي الْعمرَة، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس أَيْضا لِأَنَّهُ روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرهم أَن يجْعَلُوا حجتهم عمْرَة إلاّ من كَانَ سَاق الْهَدْي، وَلَا يجوز ذَلِك عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم. قَالَ ابْن عبد الْبر: مَا أعلم من الصَّحَابَة من يُجِيز ذَلِك إِلَّا ابْن عَبَّاس، وَتَابعه أَحْمد وَدَاوُد، وَأجَاب الْجُمْهُور: أَن ذَلِك خص بِهِ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه لَا يجوز الْيَوْم، وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك خَاص للصحابة الَّذين حجُّوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيرهم مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا النُّفَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن (عَن الْحَارِث ابْن بِلَال بن الْحَارِث عَن أَبِيه، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أَو لمن بَعدنَا؟ قَالَ: بل لكم خَاصَّة) . وَأخرجه ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا: حَدثنَا ابْن أبي عمرَان قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل، قَالَ: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن المرقع بن صَيْفِي (عَن أبي ذَر، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ فسخ الْحَج للركب الَّذِي كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا من سبع طرق، وَأخرجه ابْن حزم من طَرِيق المرقع، وَقَالَ: المرقع مَجْهُول، وَقد خَالفه ابْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى فَلم يريَا ذَلِك خَاصَّة، وَلَا يجوز أَن يُقَال فِي سنة ثَابِتَة: إِنَّهَا خَاصَّة لقوم دون قوم إلاّ بِنَصّ قُرْآن أَو سنة صَحِيحَة، قُلْنَا: هَذَا مَرْدُود بِأَن سَائِر الصَّحَابَة مَا وافقوه على هَذَا، والمرقع مَعْرُوف غير مَجْهُول، وَقد روى عَنهُ مثل يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَيُونُس بن أبي إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن ذكْوَان، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَاحْتج بِهِ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَعَن أَحْمد: حَدِيث أبي ذَر من أَن فسخ الْحَج فِي الْعمرَة خَاصَّة للصحابة صَحِيح، والمرقع، بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء وَتَشْديد الْقَاف الْمَكْسُورَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة.
تابَعَهُ عَطَاءٌ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: تَابع أَبُو الْعَالِيَة عَطاء بن أبي رَبَاح فِي رِوَايَته عَن جَابر بن عبد الله، وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة مُسندَة فِي بَاب التَّمَتُّع والإقران والإفراد فِي كتاب الْحَج، وَسَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
4 - (بابٌ فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كم مُدَّة يقصر الْإِنْسَان الصَّلَاة فِيهَا إِذا قصد الْوُصُول إِلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يجوز لَهُ الْقصر إِذا كَانَ قَصده أقل من تِلْكَ الْمدَّة؟ وَلَفْظَة: كم، استفهامية، ومميزها هُوَ الَّذِي قدرناه. قَوْله: (يقصر الصَّلَاة) يجوز فِي: يقصر، أَن يكون على بِنَاء الْفَاعِل، وَأَن يكون على بِنَاء الْمَفْعُول، فعلى الأول لفظ الصَّلَاة مَنْصُوب، وعَلى الثَّانِي مَرْفُوع.
وسَمَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّفَرَ يَوْما ولَيْلَةً(7/124)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اخْتِيَاره أَن أقل الْمسَافَة الَّتِي يجوز فِيهَا الْقصر يَوْم وَلَيْلَة، حَاصله أَن من خرج من منزله وَقصد موضعا إِن كَانَ بَينه وَبَين مقْصده ذَلِك مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة يجوز لَهُ أَن يقصر صلَاته الرّبَاعِيّة، وَإِن كَانَ أقل من ذَلِك لَا يجوز، وَهَذِه الْعبارَة رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: وسمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا وَلَيْلَة سفرا، وَإِطْلَاق السّفر على يَوْم وَلَيْلَة تجوز، وَكَذَا إِطْلَاق يَوْم وَلَيْلَة على السّفر، وَهَذَا أنسب. يُقَال: سميت فلَانا زيدا، وَقد ذكر فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة أَحَادِيث: إثنان مِنْهَا عَن ابْن عمر وَالْآخر عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أقل مُدَّة السّفر الَّتِي لَا يحل للْمَرْأَة أَن تُسَافِر فِيهَا بِدُونِ زوج أَو محرم يَوْم وَلَيْلَة كَمَا يَأْتِي ذكره. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله: (وسمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّفر يَوْمًا وَلَيْلَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن فِي بعض طرقه: ثَلَاثَة أَيَّام، كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر، وَفِي بَعْضهَا: يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي بَعْضهَا: يَوْم، وَفِي بَعْضهَا: لَيْلَة، وَفِي بَعْضهَا: بريد. قلت: لَيْسَ فِيهِ تعقب لِأَن المحكي فِي هَذَا الْبَاب نَحْو من عشْرين قولا، وَقد ذكرنَا فِي هَذَا الْبَاب الصَّلَاة بمنى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أقل الْمسَافَة الَّتِي اخْتَارَهَا من هَذِه الْأَقْوَال، يَوْم وَلَيْلَة، وَلَا يُقَال الْمَذْكُور فِي بَعْضهَا يَوْم فَقَط بِدُونِ لَيْلَة، لأَنا نقُول: إِذا ذكر الْيَوْم مُطلقًا يُرَاد بِهِ الْكَامِل، وَهُوَ الْيَوْم بليلته، وَكَذَا إِذا أطلقت اللَّيْلَة بِدُونِ ذكر الْيَوْم.
وكانَ ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يَقْصُرَانِ ويُفْطِرانِ فِي أرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهْيَ سِتَّةَ عشَرَ فَرْسَخا
هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ: أخبرنَا ابْن حَامِد الْحَافِظ أخبرنَا زَاهِر بن أَحْمد حَدثنَا أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدثنَا يُوسُف بن سعيد بن مُسلم حَدثنَا حجاج حَدثنِي لَيْث حَدثنَا يزِيد بن أبي حبيب (عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس كَانَا يصليان رَكْعَتَيْنِ ويفطران فِي أَرْبَعَة برد، فَمَا فَوق ذَلِك) . قَالَ أَبُو عمر: هَذَا عَن ابْن عَبَّاس مَعْرُوف من نقل الثِّقَات مُتَّصِل الْإِسْنَاد عَنهُ من وُجُوه. مِنْهَا مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عمر وَأَخْبرنِي عَطاء عَنهُ، وَحدثنَا وَكِيع حَدثنَا هِشَام بن الْغَاز عَن ربيعَة الجرشِي عَن عَطاء عَنهُ، وَقد اخْتلف عَن ابْن عمر فِي تَحْدِيد ذَلِك اخْتِلَافا كثيرا، فروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ أدنى مَا يقصر الصَّلَاة فِيهِ مَال لَهُ بِخَيْبَر، وَبَين الْمَدِينَة وخيبر سِتَّة وَتسْعُونَ ميلًا، وروى وَكِيع من وَجه آخر عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: يقصر من الْمَدِينَة إِلَى السويداء، وَبَينهمَا إثنان وَسَبْعُونَ ميلًا، وروى عبد الرَّزَّاق عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه: أَنه سَافر إِلَى ريم فقصر الصَّلَاة. قَالَ عبد الرَّزَّاق: وَهِي على ثَلَاثِينَ ميلًا من الْمَدِينَة، وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مسعر عَن محَارب: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر. وَقَالَ الثَّوْريّ: سَمِعت جبلة بن سحيم، سَمِعت ابْن عمر يَقُول: لَو خرجت ميلًا لقصرت الصَّلَاة، وَإسْنَاد كل من هَذِه الْآثَار صَحِيح، وَقد اخْتلف فِي ذَلِك على ابْن عمر، وَأَصَح مَا رُوِيَ عَنهُ مَا رَوَاهُ ابْنه سَالم وَنَافِع أَنه: كَانَ لَا يقصر إلاّ فِي الْيَوْم التَّام أَرْبَعَة برد، وَفِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن شهَاب عَن مَالك عَن سَالم عَن أَبِيه: أَنه كَانَ يقصر فِي مسيرَة الْيَوْم التَّام، وَقَالَ بَعضهم: على هَذَا فِي تمسك الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث ابْن عمر، على أَن: أقل مَسَافَة الْقصر ثَلَاثَة أَيَّام إِشْكَال، لَا سِيمَا على قاعدتهم بِأَن الِاعْتِبَار بِمَا رأى الصَّحَابِيّ لَا بِمَا روى. قلت: لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال، لِأَن هَذَا لَا يشبه أَن يكون رَأيا، إِنَّمَا يشبه أَن يكون توقيفا على أَن أَصْحَابنَا أَيْضا اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب إختلافا كثيرا، فَالَّذِي ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) : السّفر الَّذِي تَتَغَيَّر بِهِ الْأَحْكَام أَن يقْصد الْإِنْسَان مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها بسير الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام، وَقدر أَبُو يُوسُف بيومين وَأكْثر الثَّالِث، وَهُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَرِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد، وَقَالَ المرغيناني وَعَامة الْمَشَايِخ: قدروها بالفراسخ، فَقيل: أحد وَعِشْرُونَ فرسخا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر فرسخا. قَالَ المرغيناني: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقيل خَمْسَة عشر فرسخا. وَمَا ذكره صَاحب (الْهِدَايَة) هُوَ مَذْهَب عُثْمَان وَابْن مَسْعُود وسُويد بن غَفلَة وَفِي (التَّمْهِيد) : وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَأَبُو قلَابَة وَشريك بن عبد الله وَابْن جُبَير وَابْن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الصَّلَاة بمنى. قَوْله: (وَهُوَ سِتَّة عشر فرسخا) من كَلَام البُخَارِيّ أَي: الْبرد سِتَّة عشر فرسخا، وَالْبرد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: جمع بريد، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْبَرِيد فرسخان. وَقيل: مَا بَين كل منزلين بريد، وَقَالَ صَاحب (الْجَامِع) : الْبَرِيد أَمْيَال مَعْرُوفَة، يُقَال: هُوَ أَرْبَعَة فراسخ. والفراسخ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَفِي (الواعي) : الْبَرِيد سكَّة من السكَك، كل اثْنَي عشر ميلًا بريد، وَكَذَا(7/125)
ذكره فِي (الصِّحَاح) وَغَيره. وَفِي (الجمهرة) : الْبَرِيد مَعْرُوف عَرَبِيّ، والفرسخ، قَالَ ابْن سَيّده: هُوَ ثَلَاثَة أَمْيَال أَو سِتَّة، سمي بذلك لِأَن صَاحبه إِذا مَشى وَقعد واستراح، كَأَنَّهُ سكن، والفرسخ: السّكُون. وَفِي (الْجَامِع) : قيل: إِنَّمَا سمي فرسخا من السعَة. وَقيل: الْمَكَان إِذا لم يكن فِيهِ فُرْجَة فَهُوَ فَرسَخ. وَقيل: الفرسخ الطَّوِيل. وَفِي (مجمع الغرائب) : فراسخ اللَّيْل وَالنَّهَار ساعاتهما وأوقاتهما. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ فَارسي مُعرب، والميل من الأَرْض مَعْرُوف، وَهُوَ قدر مد الْبَصَر، وَقيل: لَيْسَ لَهُ حد مَعْلُوم، وَقيل: هُوَ ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع، وَعَن يَعْقُوب: مُنْتَهى مد الْبَصَر، وَيُقَال: الْميل عشر غلوات، والغلوة طلق الْفرس، وَهُوَ مِائَتَا ذِرَاع وَفِي (الْمغرب) للمطرزي الغلوة ثَلَاثمِائَة ذِرَاع إِلَى أَرْبَعمِائَة. وَقيل: هُوَ قدر رمية سهم. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أصح مَا فِي الْميل أَنه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع وَخَمْسمِائة. وَقيل: أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وَقيل: ألف خطْوَة بخطوة الْجمل. وَقيل: هُوَ أَن ينظر إِلَى الشَّخْص فَلَا يعلم أهوَ آتٍ أَو ذَاهِب أَو رجل هُوَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ عِيَاض: وَقيل: إثنا عشر ألف قدم، وَعَن الْحَرْبِيّ قَالَ أَبُو نصر: هُوَ قِطْعَة من الأَرْض مَا بَين العلمين.
6801 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ قَالَ قُلْتُ ل أِبِي أُسَامَةَ حدَّثَكُمْ عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
(الحَدِيث 6801 طرفه فِي: 7801) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة ففسره أَولا بقوله: (وسمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّفر يَوْمًا وَلَيْلَة) . وَثَانِيا بقوله: (وَكَانَ ابْن عمر. .) إِلَى آخِره، وثالثا بِهَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَن إِبْهَام التَّرْجَمَة وإطلاقه يتَنَاوَل الْكل.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق، قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: حَيْثُ قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق، فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه. وَإِمَّا ابْن نصر السَّعْدِيّ. وَإِمَّا ابْن مَنْصُور الكوسج لِأَن الثَّلَاثَة أخرج عَنْهُم البُخَارِيّ عَن أبي أُسَامَة. قَالَ الْكرْمَانِي: إِسْحَاق هُوَ الْحَنْظَلِي. قلت: هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن إِبْرَاهِيم، يعرف بِابْن رَاهَوَيْه الْحَنْظَلِي الْمروزِي، وَالصَّوَاب مَعَه، لِأَنَّهُ سَاق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْنده بِهَذِهِ الْعبارَة. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ، وَقد مر عَن قريب. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله ابْن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وَفِيه: قَالَ وَقلت. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَأَبُو أُسَامَة كُوفِي وَعبيد الله وَنَافِع مدنيان. وَفِيه: دَلِيل لمن قَالَ: إِنَّه لَا يشْتَرط فِي صِحَة النَّاقِل قَول الشَّيْخ: نعم، فِي جَوَاب من قَالَ لَهُ: حَدثكُمْ فلَان، بِكَذَا، قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن مُسْند إِسْحَاق فِي آخِره وَأقر بِهِ أَبُو أُسَامَة وَقَالَ: نعم. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن هَذَا الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا اسْتدلَّ بِظَاهِر عبارَة البُخَارِيّ الَّتِي تساعده فِيهِ على مَا لَا يخفى. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِغَيْر نِسْبَة، وَيحْتَمل وَجه ذَلِك أَنه روى هَذَا الحَدِيث من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الْمُسَمّى كل مِنْهُم بِإسْحَاق وَلم ينْسبهُ ليتناول الثَّلَاثَة، لِأَنَّهُ أخرج عَن الثَّلَاثَة عَن أبي أُسَامَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع مسيرَة ثَلَاث لَيَال، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَن المُرَاد: ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها وَثَلَاث لَيَال بأيامها.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث على أَن الْمحرم شَرط فِي وجوب الْحَج على الْمَرْأَة إِذا كَانَت بَينهَا وَبَين مَكَّة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري وَالْأَعْمَش. فَإِن قلت: الْحَج لم يدْخل فِي السّفر الَّذِي نهى عَنهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه مَحْمُول على الْأَسْفَار غير الْوَاجِبَة، وَالْحج فرض، فَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي؟ قلت: النَّهْي عَام فِي كل سفر، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. فَقَالَ مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان، قَالَ أَبُو بكر: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن دنار (عَن أبي معبد قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب: لَا يخلون رجل بِامْرَأَة إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم، وَلَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاّ مَعَ ذِي محرم، فَقَامَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن امْرَأَتي حَاجَة، وَإِنِّي اكتتبت فِي غَزْوَة كَذَا وَكَذَا، قَالَ: انْطلق فحج مَعَ امْرَأَتك) . وَلَفظ البُخَارِيّ يَجِيء فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي أَيْضا، وَلَفظ الطَّحَاوِيّ: (أردْت أَن أحج بامرأتي، فَقَالَ(7/126)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أحجج مَعَ امْرَأَتك) . فَدلَّ ذَلِك على أَنَّهَا لَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تحج إلاّ بِهِ، وَلَوْلَا ذَلِك لقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا حَاجَتهَا إِلَيْك لِأَنَّهَا تخرج مَعَ الْمُسلمين، وَأَنت فَامْضِ لوجهك فِيمَا اكتتبت، فَفِي ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمُرهُ بذلك وَأمره أَن يحجّ مَعهَا دَلِيل على أَنَّهَا لَا يصلح لَهَا الْحَج إلاّ بِهِ. وروى ابْن حزم حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا فِي (الْمحلى) بِسَنَدِهِ، كَمَا مر، غير أَن فِي لَفظه: (إِنِّي نذرت أَن أخرج فِي جَيش كَذَا) ، عوض قَوْله: (إِنِّي اكتتبت فِي غَزْوَة كَذَا) . ثمَّ قَالَ: وَلم يقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تخرج إِلَى الْحَج إلاّ مَعَك، وَلَا نهاها عَن الْحَج، بل ألزمهُ ترك نَذره فِي الْجِهَاد وألزمه الْحَج مَعهَا، فالفرض فِي ذَلِك عَلَيْهِ لَا عَلَيْهَا. قلت: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك توجيها لمذهبه فِي أَن الْمَرْأَة تحج من غير زوج ومحرم، فَإِن كَانَ لَهَا زوج فَفرض عَلَيْهِ أَن يحجّ مَعهَا وَلَيْسَ كَمَا فهمه، بل الحَدِيث فِي نفس الْأَمر حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لما قَالَ لَهُ: (فَاخْرُج مَعهَا) ، وَأمر بِالْخرُوجِ مَعهَا فَدلَّ على عدم جَوَاز سفرها إلاّ بِهِ أَو بِمحرم، وَإِنَّمَا ألزمهُ بترك نَذره لتَعلق جَوَاز سفرها بِهِ. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن الزَّوْج أَو الْمحرم إِذا امْتنع عَن الْخُرُوج مَعهَا فِي الْحَج أَنه يجْبر على ذَلِك، وَمَعَ هَذَا فَأنْتم تَقولُونَ: إِذا امْتنع الزَّوْج أَو الْمحرم لَا يجْبر عَلَيْهِ. قلت: فَلْيَكُن كَذَلِك فَلَا يضرنا هَذَا، وَإِنَّمَا قصدنا إِثْبَات شَرْطِيَّة الزَّوْج أَو الْمحرم مَعَ الْمَرْأَة إِذا أَرَادَت الْحَج، على أَن هَذَا الْأَمر لَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام، وَإِنَّمَا نبه بذلك على أَن الْمَرْأَة لَا تُسَافِر إلاّ بزوجها، وَمذهب الشَّافِعِي وَمَالك أَن الْمَرْأَة تُسَافِر لِلْحَجِّ الْفَرْض بِلَا زوج وَلَا محرم، وَإِن كَانَ بَينهَا وَبَين مَكَّة سفرا وَلم يكن وخصَّا النَّهْي الْوَارِد عَن ذَلِك بالأسفار غير الْوَاجِبَة، وَمذهب عَطاء وَسَعِيد بن كيسَان وَطَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة: أَنه يجوز سفر الْمَرْأَة فِيمَا دون الْبَرِيد، فَإِذا كَانَ بريدا فَصَاعِدا فَلَيْسَ لَهَا أَن تُسَافِر إلاّ بِمحرم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة قَالَ: حَدثنَا أَبُو عمر الضَّرِير عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: حَدثنَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر امْرَأَة بريدا، إلاّ مَعَ زوج أَو ذِي محرم) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة بريدا إلاّ مَعَ ذِي محرم) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد نَحوه.
وَذهب الشّعبِيّ وطاووس وَقوم من الظَّاهِرِيَّة إِلَى أَن الْمَرْأَة لَا يجوز لَهَا أَن تُسَافِر مُطلقًا سَوَاء كَانَ السّفر قَرِيبا أَو بَعيدا، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم لَهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ. قَالَ حَدثنَا روح بن الْفرج، قَالَ: حَدثنَا حَامِد بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا ابْن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: اتّفقت الْآثَار الَّتِي فِيهَا مُدَّة الثَّلَاث كلهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَحْرِيم السّفر ثَلَاثَة أَيَّام على الْمَرْأَة بِغَيْر محرم، وَاخْتلف فِيمَا دون الثَّلَاث، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا النَّهْي عَن السّفر بِلَا محرم مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا ثَابتا بِهَذِهِ الْآثَار كلهَا، وَكَانَ توقيته ثَلَاثَة أَيَّام فِي ذَلِك إِبَاحَة السّفر دون الثَّلَاث لَهَا بِغَيْر محرم، وَلَوْلَا ذَلِك لما كَانَ لذكره الثَّلَاث معنى، ولنهى نهيا مُطلقًا. وَلم يتَكَلَّم بِكَلَام يكون فصلا، وَلَكِن ذكر الثَّلَاث ليعلم أَن مَا دونهَا بِخِلَافِهَا، ثمَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي منعهَا من السّفر دون الثَّلَاث من الْيَوْم واليومين والبريد، فَكل وَاحِد من تِلْكَ الْآثَار، وَمن الْأَثر الْمَرْوِيّ فِي الثَّلَاث مَتى كَانَ بعد الَّذِي خَالفه شَيْخه إِن كَانَ على سفر الْيَوْم بِلَا محرم بعد النَّهْي عَن سفر الثَّلَاث بِلَا محرم فَهُوَ نَاسخ، وَإِن كَانَ خبر الثَّلَاث هُوَ الْمُتَأَخر عَنهُ فَهُوَ نَاسخ، فقد ثَبت أَن أحد الْمعَانِي دون الثَّلَاث ناسخة للثلاث، أَو الثَّلَاث ناسخة لَهَا، فَلم يخل خبر الثَّلَاث من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون هُوَ الْمُتَقَدّم، أَو يكون هُوَ الْمُتَأَخر، فَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم فقد أَبَاحَ السّفر بِأَقَلّ من ثَلَاث بِلَا محرم، ثمَّ جَاءَ بعده النَّهْي عَن سفر مَا هُوَ دون الثَّلَاث بِغَيْر محرم، فَحرم مَا حرم الحَدِيث الأول وَزَاد عَلَيْهِ حُرْمَة أُخْرَى وَهِي مَا بَينه وَبَين الثَّلَاث، فَوَجَبَ اسْتِعْمَال الثَّلَاث على مَا أوجبه الْأَثر الْمَذْكُور فِيهِ، وَإِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر وَغَيره الْمُتَقَدّم فَهُوَ نَاسخ لما تقدمه، وَالَّذِي تقدمه غير وَاجِب الْعَمَل بِهِ، فَحَدِيث الثَّلَاث وَاجِب اسْتِعْمَاله على الْأَحْوَال كلهَا، وَمَا خَالفه فقد يجب اسْتِعْمَاله إِن كَانَ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا يجب إِن كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم، فَالَّذِي قد وَجب علينا اسْتِعْمَاله وَالْأَخْذ بِهِ فِي كلا الْوَجْهَيْنِ أولى مِمَّا يجب اسْتِعْمَاله فِي حَال وَتَركه فِي حَال. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْوَاحِدَة عَن أبي سعيد: ثَلَاث لَيَال، وَفِي الْأُخْرَى: يَوْمَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى: أَكثر من ثَلَاث، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: ثَلَاث، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: مسيرَة لَيْلَة، وَفِي الْأُخْرَى عَنهُ: يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي الْأُخْرَى عَنهُ: ثَلَاث، وَهَذَا كُله لَيْسَ يتنافر وَلَا يخْتَلف،(7/127)
فَيكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منع من ثَلَاث وَمن يَوْمَيْنِ وَمن يَوْم أَو يَوْم وَلَيْلَة، وهوأقلها، وَقد يكون قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة ونوازل مُتَفَرِّقَة، فَحدث كل من سَمعهَا بِمَا بلغه مِنْهَا وَشَاهده، وَإِن حدث بهَا وَاحِد فَحدث بهَا مَرَّات على اخْتِلَاف مَا سَمعهَا، وبحسب اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات اخْتلف الْفُقَهَاء فِي تَقْصِير الْمُسَافِر وَأَقل السّفر. فَإِن قلت: حَدِيث الْبَاب الَّذِي رَوَاهُ عمر الَّذِي فِيهِ تعْيين ثَلَاثَة أَيَّام، وَأَنه مَمْنُوع إلاّ بِذِي محرم، وَقد رُوِيَ عَنهُ من قَوْله خلاف ذَلِك، قَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا بكر بن مُضر عَن عَمْرو بن الْحَارِث (عَن بكير أَن نَافِعًا حَدثهُ أَنه: كَانَ يُسَافر مَعَ ابْن عمر مواليات لَهُ لَيْسَ مَعَهُنَّ ذُو محرم) . قلت: قد يجوز أَن يكون سفرهن بِغَيْر محرم هُوَ السفرالذي لم يدْخل فِيهَا نهي عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مواليات) ، بِضَم الْمِيم، أَي: نسَاء مواليات من الْمُوَالَاة، وَعقد الْمُوَالَاة أَن يسْلك رجل على يَد آخر فيواليه، فَيَقُول: أَنْت مولَايَ ترثني إِذا مت وتعقل عني إِذا جنيت، فَهَذَا عقد صَحِيح. وَكَذَا لَو أسلم على يَد رجل ووالى غَيره. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت تُسَافِر بِغَيْر محرم، فَأخذ بِهِ جمَاعَة وجوزوا سفرها بِغَيْر محرم. قلت: كَانَ النَّاس لعَائِشَة محرما لِأَنَّهَا أم الْمُؤمنِينَ، فَمَعَ أَيهمْ سَافَرت فقد سَافَرت بِمحرم، وَلَيْسَ النَّاس لغَيْرهَا من النِّسَاء كَذَلِك، وَهَذَا الْجَواب من أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
7801 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تُسَافِرُ المَرْأةُ إلاّ معَ ذِي مَحْرَمٍ.
(أنظر الحَدِيث 6801) .
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن عمر عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع إِلَى آخِره. قَوْله: (إِلَّا مَعهَا ذُو محرم) رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (إلاّ مَعَ ذِي محرم) ، وَالْمحرم، بِفَتْح الْمِيم: من لَا يحل لَهُ نِكَاحهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي سعيد عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد: (إلاّ وَمَعَهَا أَبوهَا وأخوها أَو زَوجهَا أَو ابْنهَا أَو ذُو محرم مِنْهَا) . وَاخْتلف فِي الْمحرم، فَيجوز لَهَا المسافرة مَعَ محرمها بِالنّسَبِ: كأبيها وأخيها وَابْن اختها وَابْن أَخِيهَا وخالها وعمها، وَمَعَ محرمها بِالرّضَاعِ كأخيها من الرَّضَاع وَابْن أَخِيهَا وَابْن اختها مِنْهُ، وَنَحْوهم، وَمَعَ محرمها من الْمُصَاهَرَة كَأبي زَوجهَا وَابْن زَوجهَا، وَلَا كَرَاهَة فِي شَيْء من ذَلِك إلاّ أَن مَالِكًا كره سفرها مَعَ ابْن زَوجهَا لفساد النَّاس بعد الْعَصْر الأول، وَكَذَلِكَ يجوز لهَؤُلَاء الْخلْوَة بهَا وَالنَّظَر إِلَيْهَا من غير حَاجَة، وَلَكِن لَا يحل النّظر بِشَهْوَة.
تابَعَهُ أحْمَدُ عنِ ابنِ المُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع عبيد الله أَحْمد حَيْثُ رَوَاهُ عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، أَي: مَرْفُوعا نَحوه، وَذكر البُخَارِيّ مُتَابَعَته إِيَّاه دفعا لمن قَالَ: إِنَّه مَوْقُوف، وَفِي (علل الدَّارَقُطْنِيّ) قَالَ يحيى بن سعيد الْقطَّان: مَا أنْكرت على عبيد الله بن عمر إلاّ هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ: رَوَاهُ عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) عَن ابْن نمير وَعَن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله، فَذكره مَرْفُوعا، قَالَ: رَأَيْت حَاشِيَة بِخَط قديم جدا: هَذَا الحَدِيث غلط، غلط، فِيهِ عبيد الله عَن نَافِع، وَلم يُنكر عَلَيْهِ الْقطَّان غَيره. قَالَ: وَفِيه نظر لجلالة عبيد الله، وَلِأَن يحيى نَفسه رَوَاهُ عَنهُ فَلَو كَانَ مُنْكرا مَا رَوَاهُ عَنهُ وَإِذا رَوَاهُ عَنهُ فَلَا يحدث، ثمَّ قَالَ: وَقد وجدنَا لِعبيد الله مُتَابعًا على رَفعه، رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن رَافع: حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان، عَن نَافِع، فَذكره بِلَفْظ: (لَا يحل لأمرأة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر تُسَافِر مسيرَة ثَلَاث لَيَال إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم) . وَأما أَحْمد الْمَذْكُور فَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْمروزِي، يكنى أَبَا الْعَبَّاس، ويلقب بمردويه. قلت: هَكَذَا ذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله أَنه أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى مرْدَوَيْه، وَزعم الدَّارَقُطْنِيّ أَنه: أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت شبويه، وَقَالَ أَحْمد بن عدي: لَا يعرف. قيل: إِنَّه أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ لم يسمع عَن عبد الله بن الْمُبَارك.
8801 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبيهِ(7/128)
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تسَافِرَ مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي أول حَدِيث الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وآدَم ابْن إِيَاس من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، وَاسم أبي ذِئْب: هِشَام العامري الْمدنِي، وَسَعِيد ابْن أبي سعيد الْمدنِي، وكنيته أَبُو سعيد، وَأَبوهُ سعيد واسْمه: كيسَان المَقْبُري، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ أَبُو سعيد مجاورا لَهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج، وَقَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ) : حَدثنَا يحيى ابْن سعيد عَن ابْن أبي ذِئْب، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر تُسَافِر مسيرَة يَوْم إلاّ مَعَ ذِي محرم) .
ذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ فِي الْمَتْن والسند: أما الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن: فَإِن رِوَايَة البُخَارِيّ: (مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مسيرَة يَوْم) ، والتوفيق بَينهمَا بِأَن يُقَال: المُرَاد بِيَوْم فِي رِوَايَة مُسلم هُوَ الْيَوْم بليلته. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (أَن تُسَافِر) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (تُسَافِر) بِدُونِ ذكر: أَن، وَهَذَا لَيْسَ باخْتلَاف على الْحَقِيقَة، لِأَن: أَن، مقدرَة فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (لَيْسَ مَعهَا حُرْمَة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إلاّ مَعَ ذِي محرم) ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي الصُّورَة وَفِي الْمَعْنى كِلَاهُمَا سَوَاء.
وَأما الِاخْتِلَاف فِي السَّنَد: فَإِن البُخَارِيّ وَمُسلمًا اتفقَا فِي هَذِه الرِّوَايَة عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه، وروى مُسلم أَيْضا بِدُونِ ذكر أَبِيه، فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة مسلمة أَن تُسَافِر مسيرَة لَيْلَة إلاَّ وَمَعَهَا رجل ذُو حُرْمَة مِنْهَا) . وَكَذَلِكَ اخْتلف فِيهِ على مَالك، فَفِي رِوَايَة مُسلم عِنْد ذكر أَبِيه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم مِنْهَا) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أخبرنَا عبد الله بن مسلمة والنفيلي عَن مَالك، قَالَ: وَحدثنَا الْحسن بن عَليّ، قَالَ: حَدثنَا بشر بن عمر، قَالَ: حَدثنِي مَالك عَن سعيد بن أبي سعيد، قَالَ الْحسن فِي حَدِيثه عَن أَبِيه: ثمَّ اتَّفقُوا على أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر يَوْمًا وَلَيْلَة) . قَالَ أَبُو دَاوُد: لم يذكر النُّفَيْلِي والقعنبي عَن أَبِيه. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، رَوَاهُ ابْن وهب وَعُثْمَان بن عمر عَن مَالك، كَمَا قَالَ القعْنبِي، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) : رَوَاهُ بشر بن عمر وَإِسْحَاق الْفَروِي عَن مَالك عَن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك مثل حَدِيث بشر بن عمر، وَقَالَ أَبُو عمر: روى شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (استدراكه) على الشَّيْخَيْنِ: كَونهمَا أَخْرجَاهُ من حَدِيث أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أَبِيه، وَقَالَ: الصَّوَاب: سعيد عَن أبي هُرَيْرَة من غير ذكر أَبِيه، وَاحْتج بِأَن مَالِكًا وَيحيى بن أبي كثير وسهيلاً قَالُوا: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، فَهَذَا الدَّارَقُطْنِيّ رجح رِوَايَة إِسْحَاق عَن أَبِيه، وَلَكِن فِي رِوَايَة الشَّيْخَيْنِ: عَن أَبِيه، زِيَادَة من الثِّقَة، وَهِي مَقْبُولَة، وَقد وَافق ابْن أبي ذِئْب على قَوْله: عَن أَبِيه، اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَنهُ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا سعيد، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة مسلمة تُسَافِر مسيرَة لَيْلَة إلاّ وَمَعَهَا رجل ذُو حُرْمَة مِنْهَا) ، وَاللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب من أثبت النَّاس فِي سعيد، وَذكرنَا عَن مُسلم عَن قريب بِعَين الْإِسْنَاد والمتن، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ عَن أَبِيه، كَذَا رَأَيْته فِي بعض النّسخ، وَفِي بَعْضهَا: عَن أَبِيه، فَإِن صحت الرِّوَايَتَانِ يكون على اللَّيْث أَيْضا اخْتِلَاف ينظر فِيهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يحل) ، فعل مضارع وفاعله قَوْله: (أَن تُسَافِر) ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: لَا يحل لامْرَأَة مسافرتها مسيرَة يَوْم. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الْهَاء فِي: مسيرَة يَوْم، للمرة الْوَاحِدَة، التَّقْدِير: أَن تُسَافِر مرّة وَاحِدَة سفرة وَاحِدَة مَخْصُوصَة بِيَوْم وَلَيْلَة، وَتَبعهُ على هَذَا صَاحب (التَّوْضِيح) وَهَذَا تصرف عَجِيب، وَلَفظ: (مسيرَة) مصدر ميمي بِمَعْنى: السّير، كالمعيشة بِمَعْنى الْعَيْش، وَلَيْسَت التَّاء فِيهِ للمرة، وَمَا كل تَاء تدخل الْمصدر تدل على الْوحدَة. قَوْله: (تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم(7/129)
الآخر) ظَاهره أَن هَذَا قيد يخرج الكافرات، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْبَعْض، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ وصف لتأكيد التَّحْرِيم لِأَنَّهُ تَعْرِيض أَنَّهَا إِذا سَافَرت بِغَيْر محرم فَإِنَّهَا تخَالف شَرط الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، لِأَن التَّعَرُّض إِلَى وصفهَا بذلك إِشَارَة إِلَى إِلْزَام الْوُقُوف عِنْدَمَا نهيت عَنهُ، وَأَن الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يقْضِي لَهَا بذلك. قَوْله: (لَيْسَ مَعهَا حُرْمَة) جملَة حَالية، أَي: لَيْسَ مَعهَا رجل ذُو حُرْمَة مِنْهَا، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم، كَذَلِك، وَقد مر عَن قريب. وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث على: أَن الْمَرْأَة لَيْسَ لَهَا أَن تُسَافِر مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة إلاّ بِذِي محرم، وَلها أَن تُسَافِر فِي أقل من ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
تابَعَهُ يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ وسُهَيْلٌ ومالِكٌ عنِ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أَي: تَابع ابْن أبي ذِئْب عَن أبي هُرَيْرَة يحيى وَسُهيْل وَمَالك، فَهَذِهِ الْمُتَابَعَة فِي متن الحَدِيث لَا فِي الْإِسْنَاد، لأَنهم لم يَقُولُوا عَن أَبِيه. وَقَالَ الْمُزنِيّ: يَعْنِي تَابعه فِي قَوْله: (مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة) قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن مُتَابعَة هَؤُلَاءِ ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد فِي لفظ الْمَتْن لَا فِي ذكر سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن لم يخْتَلف على يحيى فِي رِوَايَته عَن أبي سعيد عَن أَبِيه، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى هَذَا الحَدِيث من طَرِيق يحيى، وَفِيه: عَن أَبِيه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُميَّة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: حَدثنَا شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سعيد عَن أَبِيه أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة أَن تُسَافِر يَوْمًا فَمَا فَوْقه ألاَّ وَمَعَهَا ذُو حُرْمَة) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: حَدثنَا حسن حَدثنَا شَيبَان عَن يحيى عَن أبي سعيد أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة أَن تُسَافِر يَوْمًا فَمَا فَوْقه إلاَّ وَمَعَهَا ذُو حُرْمَة) .
وَاخْتلف فِي ذَلِك على سُهَيْل وَمَالك. أما الِاخْتِلَاف على سُهَيْل فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى عَن جرير عَن سُهَيْل عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة. . الحَدِيث، وَفِيه: أَن تُسَافِر بريدا. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا أَبُو بكرَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عمر الضَّرِير عَن حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: حَدثنَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر امْرَأَة بريدا إلاَّ مَعَ زوج أَو ذِي محرم) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا نَحوه، فَهَذِهِ لَيْسَ فِيهَا ذكر: عَن أَبِيه، وروى مُسلم: حَدثنَا أَبُو كَامِل الجحدري، قَالَ حَدثنَا بشر، يَعْنِي ابْن الْمفضل، قَالَ: حَدثنَا سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يحل لامْرَأَة أَن تُسَافِر ثَلَاثًا إلاّ وَمَعَهَا ذُو محرم عَلَيْهَا) ، فَهَذَا فِي رِوَايَته أبدل سعيدا بِأبي صَالح، وَخَالف فِي اللَّفْظ أَيْضا فَقَالَ: (أَن تُسَافِر ثَلَاثًا) ، وَيحْتَمل أَن يكون الحديثان مَعًا عِنْد سُهَيْل، وَلذَلِك صحّح ابْن حبَان الطَّرِيقَيْنِ عَنهُ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رِوَايَة سُهَيْل مضطربة فِي الْإِسْنَاد والمتن.
وَأما الِاخْتِلَاف على مَالك فقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقد رَأَيْت الِاخْتِلَاف الظَّاهِر بَين الْحفاظ فِي ذكر أَبِيه، فَلَعَلَّهُ سمع من أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ سمع عَن أبي هُرَيْرَة نَفسه، فَرَوَاهُ تَارَة كَذَا وَتارَة كَذَا، وسماعه عَن أبي هُرَيْرَة صَحِيح.
5 - (بابٌ يَقْصُرُ إذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْإِنْسَان يقصر صلَاته الرّبَاعِيّة إِذا خرج من مَوْضِعه قَاصِدا سفرا تقصر فِي مثله الصَّلَاة.
وَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَصَرَ وَهْوَ يَرَى البُيُوتَ فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ هاذِهِ الكُوفَةُ قَالَ لاَ حَتَّى نَدْخُلَهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول: فِي مَعْنَاهُ فَقَوله: (وَخرج عَليّ) أَي: من الْكُوفَة. لِأَن قَوْله: (هَذِه الْكُوفَة) يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (فقصر) أَي: الصَّلَاة الرّبَاعِيّة. قَوْله: (وَهُوَ يرى الْبيُوت) جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنه يرى بيُوت الْكُوفَة. قَوْله: (فَلَمَّا رَجَعَ) أَي: من سَفَره هَذَا. قَوْله: (هَذِه الْكُوفَة) يَعْنِي: هَل نتم الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، أَي: لَا نتم حَتَّى ندْخلهَا.
النَّوْع الثَّانِي: إِن هَذَا التَّعْلِيق أخرجه الْحَاكِم مَوْصُولا من رِوَايَة الثَّوْريّ عَن وقاء بن إِيَاس (عَن عَليّ بن ربيعَة، قَالَ: خرجنَا مَعَ على، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فقصرنا الصَّلَاة وَنحن نرى الْبيُوت، ثمَّ رَجعْنَا فقصرنا الصَّلَاة وَنحن نرى الْبيُوت) .(7/130)
وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يزِيد بن هَارُون (عَن وقاء بن إِيَاس: خرجنَا مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، متوجهين هَهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام، فصلى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إِذا رَجعْنَا ونظرنا إِلَى الْكُوفَة حضرت الصَّلَاة، قَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه الْكُوفَة، أَنْتُم الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا، حَتَّى ندْخلهَا) . ووقاء، بِكَسْر الْوَاو وَبعدهَا قَاف ثمَّ مُدَّة: ابْن إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ كَلَام. وَقَالَ أَبُو عمر: رُوِيَ مثل هَذَا عَن عَليّ من وُجُوه شَتَّى. قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن دَاوُد بن أبي هِنْد (عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود الديلِي أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج من الْبَصْرَة فصلى الظّهْر أَرْبعا، ثمَّ قَالَ: إِنَّا لَو جاوزنا هَذَا الخص لصلينا رَكْعَتَيْنِ) . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن دَاوُد بن أبي هِنْد (عَن أبي حَرْب بن أبي الْأسود: أَن عليا لما خرج من الْبَصْرَة رأى خصا، فَقَالَ: لَوْلَا هَذَا الخص لصلينا رَكْعَتَيْنِ، فَقلت: وَمَا الخص؟ قَالَ: بَيت من الْقصب) . قلت: هُوَ بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة. قَالَ أَبُو عمر: روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، قَالَ: (خرجت مَعَ عَليّ بن أبي طَالب إِلَى صفّين، فَلَمَّا كَانَ بَين الجسر والقنطرة صلى رَكْعَتَيْنِ) ، قَالَ: وَسَنَده صَحِيح.
النَّوْع الثَّالِث: فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، فعندنا إِذا فَارق الْمُسَافِر بيُوت الْمصر يقصر، وَفِي (الْمَبْسُوط) : يقصر حِين يخلف عمرَان الْمصر، وَفِي (الذَّخِيرَة) : إِن كَانَت لَهَا محلّة منتبذة من الْمصر وَكَانَت قبل ذَلِك مُتَّصِلَة بهَا فَإِنَّهُ لَا يقصر مَا لم يجاوزها، ويخلف دورها بِخِلَاف الْقرْيَة الَّتِي تكون بِفنَاء الْمصر، فَإِنَّهُ يقصر وَإِن لم يحاوزها. وَفِي (التُّحْفَة) : الْمُقِيم إِذا نوى السّفر وَمَشى أَو ركب لَا يصير مُسَافِرًا مَا لم يخرج من عمرَان الْمصر، لِأَن بنية الْعَمَل لَا يصير عَاملا مَا لم يعْمل، لِأَن الصَّائِم إِذا نوى الْفطر لايصير مُفطرا. وَفِي (الْمُحِيط) : وَالصَّحِيح أَنه تعْتَبر مُجَاوزَة عمرَان الْمصر إلاّ إِذا كَانَ ثمَّة قَرْيَة أَو قرى مُتَّصِلَة بربض الْمصر، فَحِينَئِذٍ تعْتَبر مُجَاوزَة الْقرى. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْبَلَد يشْتَرط مُجَاوزَة السُّور لَا مُجَاوزَة الْأَبْنِيَة الْمُتَّصِلَة بالسور خَارِجَة، وَحكى الرَّافِعِيّ وجَهَا: أَن الْمُعْتَبر مُجَاوزَة الدّور، وَرجح الرَّافِعِيّ هَذَا الْوَجْه فِي (الْمُجَرّد) ، وَالْأول فِي الشَّرْح وَإِن لم يكن فِي جِهَة خُرُوجه سور، أَو كَانَ فِي قَرْيَة يشْتَرط مُفَارقَة الْعمرَان. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: لَيْسَ لمن نوى السّفر الْقصر حَتَّى يخرج من بيُوت مصره أَو قريته، ويخلفها وَرَاء ظَهره. قَالَ: وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم على هَذَا، وَعَن عَطاء وَسليمَان بن مُوسَى: إنَّهُمَا كَانَا يبيحان الْقصر فِي الْبَلَد لمن نوى السّفر، وَعَن الْحَارِث بن أبي ربيعَة: إِنَّه أَرَادَ سفرا فصلى بِالْجَمَاعَة فِي منزله رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِمْ الْأسود بن يزِيد وَغير وَاحِد من أَصْحَاب عبد الله، وَعَن عَطاء أَنه قَالَ: إِذا دخل عَلَيْهِ وَقت صَلَاة بعد خُرُوجه من منزله قبل أَن يُفَارق بيُوت الْمصر يُبَاح لَهُ الْقصر، وَقَالَ مُجَاهِد: إِذا ابْتَدَأَ السّفر بِالنَّهَارِ لَا يقصر حَتَّى يدْخل اللَّيْل، وَإِذا ابْتَدَأَ بِاللَّيْلِ لَا يقصر حَتَّى يدْخل النَّهَار.
9801 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وإبْرَاهِيمَ بنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ صَلَّيْتُ الظهْرَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالمَدِينَةِ أرْبَعا وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن أنسا يخبر فِي حَدِيثه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصر صلَاته بَعْدَمَا خرج من الْمَدِينَة، والترجمة هَكَذَا. والمناسبة بَينه وَبَين أثر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَذْكُور من حَيْثُ إِن أثر عَليّ يدل على أَن الْقصر يشرع بِفِرَاق الْحَضَر، وَحَدِيث أنس كَذَلِك، لِأَنَّهُ يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قصر حَتَّى فَارق الْمَدِينَة، وَكَانَ قصره فِي ذِي الحليفة، لِأَنَّهُ كَانَ أول منزل نزله وَلم تحضر قبله صَلَاة، وَلَا يَصح اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ بِهِ على إِبَاحَة الْقصر فِي السّفر الْقصير لكَون بَين الْمَدِينَة وَذي الحليفة سِتَّة أَمْيَال، لِأَن ذَا الحليفة لم تكن مُنْتَهى سفر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا خرج إِلَيْهَا يُرِيد مَكَّة، فاتفق نُزُوله بهَا وَكَانَت صَلَاة الْعَصْر أول صَلَاة حضرت بهَا فقصرها، وَاسْتمرّ على ذَلِك إِلَى أَن رَجَعَ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) . الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الانكدار، ابْن عبد الله الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمدنِي، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة، قَالَه الْوَاقِدِيّ. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن ميسرَة ضد الميمنة الطَّائِفِي الْمَكِّيّ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف(7/131)