الْأُخْرَى فِي الْغَالِب، وَلَو كَانَ بدنهَا مغطى. انْتهى. قلت: هَذَا غير موجه، لِأَن الرَّائِي من ايْنَ يعرف هَيْئَة كل امْرَأَة حِين كن مغطيات؟ وَالرجل لَا يعرف هَيْئَة امْرَأَته إِذا كَانَت بَين المغطيات إلاَّ بِدَلِيل من الْخَارِج؟ وَقَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا يدل على أَنَّهُنَّ كن سافرات، إِذْ لَو كن متنقبات لمنع تَغْطِيَة الْوَجْه من معرفتهن لَا الْغَلَس. قَوْله: (من الْغَلَس) ، كلمة: من، ابتدائية، وَيجوز أَن تكون تعليلية، والغلس، بِفتْحَتَيْنِ: ظلمَة آخر اللَّيْل، وَلَا مُخَالفَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين حَدِيث أبي بَرزَة الَّذِي مضى من أَنه كَانَ ينْصَرف حِين يعرف الرجل جليسه، لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن رُؤْيَة جليسه، وَهَذَا إِخْبَار عَن رُؤْيَة النِّسَاء من الْبعد.
28 - (بابُ منْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الْفجْر، وَقد أشبعنا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، فَليرْجع إِلَيْهِ.
579 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ وعَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ وعَنِ الأعْرَجِ يُحَدِّثُونَهُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ومَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْر قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ العَصْرَ (انْظُر الحَدِيث 556 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالراء. والأعرج: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. قَوْله: (يحدثونه) ، أَي: يحدثُونَ زيد بن أسلم، وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. قَوْله: (من الصُّبْح) . أَي: من وَقت الصُّبْح، أَو: من نفس صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (رَكْعَة) أَي: قدر رَكْعَة، والإدراك: الْوُصُول إِلَى الشَّيْء، وَقد ذكرنَا مَا المُرَاد من الْإِدْرَاك فِي بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، واستوفينا الْكَلَام فِيهِ فِي هَذَا الْبَاب.
29 - (بابُ مَنْ أدْرَكَ مِنَ الصَّلاة رَكْعَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أدْرك من الصَّلَاة رَكْعَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْفرق بَين الْبَابَيْنِ أَعنِي هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله أَن الأول فِيمَن أدْرك من الْوَقْت قدر رَكْعَة، وَهَذَا فِيمَن أدْرك من نفس الصَّلَاة رَكْعَة. قلت: ذَاك الْبَاب أخص، وَهَذَا الْبَاب أَعم. لِأَن قَوْله: من الصَّلَاة يَشْمَل الصَّلَوَات الْخمس وَأورد البُخَارِيّ فِي الْبَاب السَّابِق: عَن عَطاء وَمن مَعَه عَن أبي هُرَيْرَة. وَأورد فِي هَذَا الْبَاب عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا فِي بَاب من أدْرك من الْعَصْر عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْأَحَادِيث الثَّلَاثَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَالرِّوَايَة مُخْتَلفَة. وَلما كَانَ ذكر الْعَصْر مقدما على الصُّبْح فِي حَدِيث: بَاب من أدْرك من الْعَصْر، قَالَ فِي التَّرْجَمَة: بَاب من أدْرك من الْفجْر، فراعى الْمُنَاسبَة فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْبَاب لما كَانَ ذكر الصَّلَاة غير مُقَيّدَة بِشَيْء ذكر التَّرْجَمَة بقوله: بَاب من أدْرك من الصَّلَاة، وَهَذِه نُكْتَة مليحة تدل على إمعان نظره فِي التَّصَرُّفَات.
580 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفُ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَن عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أدْرَكَ رَكْعَةً منَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ (انْظُر الحَدِيث 556 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرُوَاته تقدمُوا غير مرّة، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب من أدْرك من الْعَصْر، اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ والرواة فِي هَذَا الحَدِيث، وَذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ من جَمِيع التعلقات.
30 - (بابُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة بعد صَلَاة الْفجْر إِلَى أَن ترْتَفع الشَّمْس، وَقدر بَعضهم بعد ذكر التَّرْجَمَة: يَعْنِي: مَا حكمهَا؟ قلت: فَلَا حَاجَة إِلَى ذكر ذَلِك لما قَدرنَا.(5/75)
58 - (حَدثنَا حَفْص بن عمر قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن قَتَادَة عَن أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ شهد عِنْدِي رجال مرضيون وأرضاهم عِنْدِي عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تشرق الشَّمْس وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة (فَإِن قلت) الحَدِيث مُشْتَمل على الْفجْر وَالْعصر والترجمة بالاقتصار على الْفجْر (قلت) لِأَن الصُّبْح هِيَ الْمَذْكُورَة أَولا فِي سَائِر أَحَادِيث الْبَاب وَلِأَن الْعَصْر صلى بعْدهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف الْفجْر. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الاول حَفْص بن عمر الحوضي وَقد مر. الثَّانِي هِشَام الدستوَائي كَذَلِك. الثَّالِث قَتَادَة بن دعامة كَذَلِك. الرَّابِع أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف واسْمه رفيع بِالتَّصْغِيرِ وَوَقع مُصَرحًا بِهِ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة. الْخَامِس عبد الله بن عَبَّاس. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم وَأخرجه أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا أبان قَالَ حَدثنَا قَتَادَة عَن أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " شهد عِنْدِي رجال مرضيون وَفِيهِمْ عمر بن الْخطاب وأرضاهم عِنْدِي عمر أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا صَلَاة بعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس وَلَا صَلَاة بعد صَلَاة الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس " وَأخرجه التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَحْمد بن منيع قَالَ حَدثنَا هشيم قَالَ أخبرنَا مَنْصُور وَهُوَ ابْن زَاذَان عَن قَتَادَة قَالَ أخبرنَا أَبُو الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " سَمِعت غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَكَانَ من أحبهم إِلَيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة بعد الْفجْر حَتَّى تطلع الشَّمْس وَعَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس " وَأخرجه النَّسَائِيّ أخبرنَا أَحْمد بن منيع قَالَ حَدثنَا هشيم قَالَ حَدثنَا مَنْصُور عَن قَتَادَة قَالَ حَدثنَا أَبُو الْعَالِيَة واسْمه رفيع عَن ابْن عَبَّاس نَحْو حَدِيث التِّرْمِذِيّ وَأخرجه ابْن مَاجَه حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة (ح) وَحدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا همام عَن قَتَادَة عَن أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس نَحْو حَدِيث أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ مُسَدّد فِي مُسْنده وَمن طَرِيقه رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَلَفظه حَدثنِي نَاس أعجبهم إِلَيّ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَأبي سعيد وَعقبَة بن عَامر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَسمرَة بن جُنْدُب وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر ومعاذ بن عفراء والصنابحي وَلم يسمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَائِشَة وَكَعب بن مرّة وَأبي أُمَامَة وَعَمْرو بن عَنْبَسَة ويعلى بن أُميَّة وَمُعَاوِيَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (قلت) وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن سعد بن أبي وَقاص وَأبي ذَر الْغِفَارِيّ وَأبي قَتَادَة وَأبي الدَّرْدَاء وَحَفْصَة فَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه عَنهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَته عَنهُ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة إِلَّا الْفجْر وَالْعصر " وَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن مَسْعُود قَالَ " بَينا نَحن عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث " وَإِذا صليت الْمغرب فَالصَّلَاة مَقْبُولَة مَشْهُودَة حَتَّى تصلي الْفجْر ثمَّ اجْتنب الصَّلَاة حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس وتبيض فَإِن الشَّمْس تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان " وَفِيه " فَإِذا مَالَتْ الشَّمْس فَالصَّلَاة مَقْبُولَة مَشْهُودَة حَتَّى تصفر الشَّمْس فَإِن الشَّمْس تغرب بَين قَرْني الشَّيْطَان " وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ قَالَ " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لَا صَلَاة بعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس وَلَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغيب الشَّمْس " وَحَدِيث عقبَة بن عَامر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه مُسلم عَنهُ يَقُول " ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينهانا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو أَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا حِين تطلع الشَّمْس بازعة حَتَّى ترْتَفع وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تميل الشَّمْس وَحين تضيف للغروب حَتَّى تغرب " وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تتحروا بصلاتكم طُلُوع(5/76)
الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا " الحَدِيث وَحَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب أخرجه عَنهُ أَحْمد فِي مُسْنده عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تصلوا عِنْد طُلُوع الشَّمْس فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان وَلَا حِين تغيب فَإِنَّهَا تغيب بَين قَرْني الشَّيْطَان " وَحَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع أخرجه عَنهُ اسحق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده قَالَ " كنت أسافر مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا رَأَيْته صلى بعد الْعَصْر وَلَا بعد الصُّبْح " وَحَدِيث زيد بن ثَابت أخرجه عَنهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة إِذا طلع قرن الشَّمْس أَو غَابَ قرنها فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني شَيْطَان " وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو أخرجه عَنهُ ابْن أبي شيبَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَيْنِ " وَحَدِيث معَاذ بن عفراء أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحَدِيث الصنَابحِي وَلم يسمع من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أخرجه عَنْهَا أَبُو يعلى الْموصِلِي قَالَت " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْهَى عَن الصَّلَاة حِين تطلع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع فَإِنَّهَا تطلع بقرن الشَّيْطَان وَينْهى عَن الصَّلَاة حِين تقَارب الْغُرُوب حَتَّى تغيب " وَحَدِيث كَعْب بن مرّة أخرجه عَنهُ وَحَدِيث أبي أُمَامَة أخرجه عَنهُ الْحَارِث بن مُحَمَّد بن أبي أُسَامَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا تصلوا عِنْد طُلُوع الشَّمْس فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان فَيسْجد لَهَا كل كَافِر " الحَدِيث وَحَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة أخرجه عَنهُ عبد بن حميد فِي حَدِيث طَوِيل وَفِيه " إِذا صليت الْفجْر فَأمْسك عَن الصَّلَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس فَإِنَّهَا تطلع فِي قَرْني الشَّيْطَان فَإِن الْكفَّار يصلونَ لَهَا " الحَدِيث وَحَدِيث أَبُو يعلى بن أُميَّة أخرجه عَنهُ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " شهد عِنْدِي رجال " يَعْنِي بينوا لي وأعلموني بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ بَين وَقَالَ الْكرْمَانِي المُرَاد من الشَّهَادَة لازمها وَهُوَ الْإِعْلَام أَي أعلمني رجال عدُول قَوْله " مرضيون " أَي لَا شكّ فِي صدقهم وَدينهمْ قَوْله " وأرضاهم " أفعل التَّفْضِيل للْمَفْعُول قَوْله " بعد الصُّبْح " أَي بعد صَلَاة الصُّبْح لِأَنَّهُ لَا جَائِز أَن يكون الحكم فِيهِ مُعَلّقا بِالْوَقْتِ إِذْ لَا بُد من أَدَاء الصُّبْح قَوْله " حَتَّى تشرق " بِضَم التَّاء من الْإِشْرَاق يُقَال أشرقت الشَّمْس ارْتَفَعت وأضاءت ويروى بِفَتْح أَوله وَضم ثالثه بِوَزْن تغرب يُقَال شَرقَتْ الشَّمْس أَي طلعت وَفِي الْمُحكم أشرقت الشَّمْس أَضَاءَت وانبسطت وَقيل شَرقَتْ وأشرقت أَضَاءَت وشرقت بِالْكَسْرِ دنت للغروب وَكَذَا حَكَاهُ ابْن القطاع فِيهِ أَفعاله وَزعم أَنه قَوْله الْأَصْمَعِي وَابْن خالويه فِي كتاب لَيْسَ وقطرب فِي كتاب الْأَزْمِنَة وَقَالَ عِيَاض المُرَاد من الطُّلُوع ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها لَا مُجَرّد طُلُوع قرصها (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على أَنه يكره أَن يتَنَفَّل بعد صَلَاة الْفجْر حَتَّى تطلع الشَّمْس وَبعد صَلَاة الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَبِه قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب والْعَلَاء بن زِيَاد وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَقَالَ النَّخعِيّ كَانُوا يكْرهُونَ ذَلِك وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَقَالَ ابْن بطال تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنه نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَبعد الْعَصْر " وَكَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر بِمحضر من الصَّحَابَة من غير نَكِير فَدلَّ على أَن صلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصَة بِهِ دون أمته وَكره ذَلِك عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وَزيد بن ثَابت وَسَلَمَة بن عَمْرو وَكَعب بن مرّة وَأَبُو أُمَامَة وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وَعَائِشَة والصنابحي واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عسيلة وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة عَن أبي الْعَالِيَة قَالَ لَا تصلح الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغيب الشَّمْس وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس قَالَ وَكَانَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على ذَلِك وَعَن الأشتر قَالَ كَانَ خَالِد بن الْوَلِيد يضْرب النَّاس على الصَّلَاة بعد الْعَصْر وكرهها سَالم وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعَن ابْن عمر قَالَ صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَ أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلَا صَلَاة بعد الْغَدَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس قَالَ أَبُو سعيد تمرتان بزبد أحب إِلَيّ من صَلَاة بعد الْعَصْر وَعَن ابْن مَسْعُود " كُنَّا ننهى عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا " وَقَالَ بِلَال لم ينْه عَن الصَّلَاة إِلَّا عِنْد غرُوب الشَّمْس لِأَنَّهَا تغرب فِي قرن الشَّيْطَان وَرَأى أَبُو مَسْعُود رجلا يُصَلِّي عِنْد طُلُوع الشَّمْس فَنَهَاهُ وَكَذَا شُرَيْح وَقَالَ الْحسن كَانُوا يكْرهُونَ الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس حَتَّى(5/77)
ترْتَفع وَعند غُرُوبهَا حَتَّى تغيب وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن أبي بكرَة وَفِي فَوَائِد أبي الشَّيْخ رأى حُذَيْفَة رجلا يُصَلِّي بعد الْعَصْر فَنَهَاهُ فَقَالَ أَو يُعَذِّبنِي الله عَلَيْهَا قَالَ يعذبك على مُخَالفَة السّنة (فَإِن قلت) أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن الْأسود عَن عَائِشَة قَالَت " لم يكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدعهما سرا وَلَا عَلَانيَة رَكْعَتَانِ قبل الصُّبْح وركعتان بعد الْعَصْر " وَفِي لفظ لَهما " مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إِلَّا صلى رَكْعَتَيْنِ " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث قيس بن عَمْرو قَالَ رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلا يُصَلِّي بعد صَلَاة الصُّبْح رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّبْح رَكْعَتَانِ فَقَالَ الرجل إِنِّي لم أكن صليت الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبلهَا فصليتهما الْآن فَسكت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ قيس بن عَمْرو وَفِي رِوَايَة قيس بن قهد بِالْقَافِ (قلت) اسْتَقَرَّتْ الْقَاعِدَة أَن الْمُبِيح والحاظر إِذا تَعَارضا جعل الحاظر مُتَأَخِّرًا وَقد ورد نهي كثير فِي أَحَادِيث كَثِيرَة وَأما حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة فَإِن صلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ مَخْصُوصَة بِهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا ذكرنَا أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ يضْرب على الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر بِمحضر من الصَّحَابَة من غير نَكِير وَذكر الْمَاوَرْدِيّ من الشَّافِعِيَّة وَغَيره أَيْضا أَن ذَلِك من خصوصياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الْخطابِيّ أَيْضا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِهَذَا دون الْخلق وَقَالَ ابْن عقيل لَا وَجه لَهُ إِلَّا هَذَا الْوَجْه وَقَالَ الطَّبَرِيّ فعل ذَلِك تَنْبِيها لأمته أَن نَهْيه كَانَ على وَجه الْكَرَاهَة لَا التَّحْرِيم وَقَالَ الطَّحَاوِيّ الَّذِي يدل على الخصوصية أَن أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا هِيَ الَّتِي رَوَت صلَاته إيَّاهُمَا قيل لَهُ أفنقضيهما إِذا فاتتا بعد الْعَصْر قَالَت لَا وَأما حَدِيث قيس بن عَمْرو فَقَالَ فِي الإِمَام إِسْنَاده غير مُتَّصِل وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم لم يسمع من قيس وَقَالَ ابْن حبَان لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ وَقد أكد النَّهْي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ أَبُو حَفْص حَدثنَا مُحَمَّد بن نوح حَدثنَا شعيبة بن أَيُّوب حَدثنَا أَسْبَاط بن مُحَمَّد وَأَبُو نعيم عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن عَاصِم بن ضَمرَة عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُصَلِّي صَلَاة مَكْتُوبَة إِلَّا صلى بعْدهَا رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفجْر وَالْعصر " وَزعم ابْن الْعَرَبِيّ أَن الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ تُؤَدّى فيهمَا فَرِيضَة دون النَّافِلَة عِنْد مَالك وَعند الشَّافِعِي تُؤَدّى فيهمَا الْفَرِيضَة والنافلة الَّتِي لَهَا سَبَب وَمذهب آخر لَا يصلى فيهمَا بِحَال لَا فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة وَمذهب آخر تجوز بِمَكَّة دون غَيرهَا وَزعم الشَّافِعِي فِي كتاب اخْتِلَاف الحَدِيث وَذكر الصَّلَاة الَّتِي لَهَا سَبَب وعددها ثمَّ قَالَ وَهَذِه الصَّلَاة وأشباهها تصلى فِي هَذِه الْأَوْقَات بِالدّلَالَةِ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ قَالَ " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا وَصلى رَكْعَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّيهمَا بعد الظّهْر شغل عَنْهُمَا بعد الْعَصْر وَأمر أَن لَا يمْنَع أحد طَاف بِالْبَيْتِ أَي سَاعَة شَاءَ " ولاستثناء الْوَارِد فِي حَدِيث عقبَة إِلَّا بِمَكَّة وَله فِي الْجُمُعَة حَدِيث أبي سعيد " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة فِي نصف النَّهَار إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة " وَالْجَوَاب عَن حَدِيث من نسي أَنه مَخْصُوص بِحَدِيث عقبَة وَعَن قَوْله " صلى رَكْعَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّيهمَا " أَنه من خواصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا ذكرنَا وَقَوله " إِلَّا بِمَكَّة " غَرِيب لم يرد فِي الْمَشَاهِير أَو كَانَ قبل النَّهْي (فَإِن قلت) رُوِيَ عَن أنس " كَانَ الْمُؤَذّن إِذا أذن قَامَ نَاس من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبتدرون السَّوَارِي حَتَّى يخرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم كَذَلِك يصلونَ رَكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب وَلم يكن بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة شَيْء " (قلت) حمل ذَلِك على أول الْأَمر قبل النَّهْي أَو قبل أَن يعلم ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ اخْتلفت الصَّحَابَة فيهمَا وَلم يَفْعَله بعدهمْ أحد وَقَالَ النَّخعِيّ بِدعَة
(حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة سَمِعت أَبَا الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ حَدثنِي نَاس بِهَذَا) هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان إِلَى آخِره وَذكر هَذِه الطَّرِيقَة ليبين أَن قَتَادَة سمع هَذَا الحَدِيث من أبي الْعَالِيَة وَلم يُصَرح بِالسَّمَاعِ فِي طَرِيق الحَدِيث الأول ولمتابعة شُعْبَة هشاما (فَإِن قلت) كَانَ يَنْبَغِي أَن يبْدَأ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سَماع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة (قلت) إِنَّمَا قدم ذَاك الحَدِيث لعلوه قَوْله " بِهَذَا " أَي بِهَذَا الحَدِيث بِمَعْنَاهُ(5/78)
582 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرَني أبي قَالَ أَخْبرنِي ابنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ ولاَ غُرُوبَهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة إِبْلِيس عَن مُحَمَّد بن عَبدة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مقطعا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه وَمُحَمّد بن بشر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا مقطعا عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا تحروا) ، أَصله: لَا تتحروا، بالتاءين، فحذفت إِحْدَاهمَا أَي: لَا تقصدوا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فلَان يتحَرَّى الْأَمر، أَي: يتوخاه ويقصده، وتحرى فلَان بِالْمَكَانِ أَي: مكث، قَالَ التَّيْمِيّ: قَالَ قوم: أَرَادَ بِهِ: لَا تقصدوا وَلَا تبتدروا بهَا ذَلِك الْوَقْت. وَأما من انتبه من نَومه أَو ذكر مَا نَسيَه فَلَيْسَ بقاصد إِلَيْهَا وَلَا متحر، وَإِنَّمَا المتحري القاصد إِلَيْهَا. وَقيل: إِن قوما كَانُوا يتحرون طُلُوع الشَّمْس وغروبها فيسجدون لَهَا عبَادَة من دون الله تَعَالَى، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ كَرَاهَة أَن يتشبهوا بهم. قلت: قَوْله: (لَا تحروا) ، نهي مُسْتَقل فِي كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين، سَوَاء قصد لَهَا أم لم يقْصد، وَمِنْهُم من جعل هَذَا تَفْسِيرا للْحَدِيث السَّابِق ومبينا للمراد بِهِ، فَقَالَ: لَا تكره الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَلَا بعد الْعَصْر، إلاَّ لمن قصد بِصَلَاتِهِ طُلُوع الشَّمْس وغروبها، وَإِلَيْهِ ذهب الظَّاهِرِيَّة، وَمَال إِلَيْهِ ابْن الْمُنْذر وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق طَاوُوس، عَن عَائِشَة. قَالَت: وهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّمَا نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتحَرَّى طُلُوع الشَّمْس وغروبها. وَمِنْهُم من قوَّى ذَلِك بِحَدِيث: (من أدْرك رَكْعَة من الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليضف إِلَيْهَا أُخْرَى) ، فَأمر بِالصَّلَاةِ حِينَئِذٍ، فَدلَّ على أَن الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِمن قصد الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت لَا بِمن وَقع لَهُ اتِّفَاقًا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِنَّمَا قَالَت ذَلِك عَائِشَة لِأَنَّهَا رَأَتْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بعد الْعَصْر، فَحملت نَهْيه على من قصد ذَلِك لَا على الْإِطْلَاق. وَأجِيب، عَن هَذَا: بِأَن صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تِلْكَ كَانَت قَضَاء، كَمَا ذكرنَا، وَقيل: كَانَت خُصُوصِيَّة لَهُ. وَأما النَّهْي مُطلقًا فقد ثَبت بِأَحَادِيث كَثِيرَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
583 - وَقَالَ حدَّثني ابنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فأخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَإذَا غابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فأَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ (الحَدِيث 583 طرفه فِي: 3272) .
أَي: قَالَ عُرْوَة: وحَدثني ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا أَيْضا حَدِيث مُسْتَقل كَالْأولِ، وأخرجهما الْإِسْمَاعِيلِيّ: الأول: من رِوَايَة عَليّ بن مسْهر وَعِيسَى بن يُونُس وَمُحَمّد بن بشر ووكيع وَمَالك بن سعيد ومحاضر، كلهم عَن هِشَام. وَالثَّانِي: فَقَط من رِوَايَة عبد الله بن نمير عَن هِشَام. فَإِن قلت: قَالَ عُرْوَة فِي الحَدِيث السَّابِق: أَخْبرنِي ابْن عمر، وَفِي هَذَا قَالَ: حَدثنِي، قلت: رِعَايَة للْفرق الَّذِي بَينهمَا عِنْده، وَلَا فرق بَين: حَدثنَا وَأخْبرنَا وَسمعت، عِنْد الْأَكْثَرين، وَجعل الْخَطِيب: سَمِعت، أرفعها وَابْن الصّلاح دونهَا. قَوْله: (حَاجِب الشَّمْس) قيل: هُوَ طرف قرص الشَّمْس الَّذِي يَبْدُو عِنْد الطُّلُوع وَلَا يغيب عِنْد الْغُرُوب، وَقيل: النيازك الَّتِي تبدو إِذا حَان طُلُوعهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: حواجب الشَّمْس: نَوَاحِيهَا.
تابَعَهُ عَبْدَةُ
أَي: تَابع عَبدة بن سُلَيْمَان يحيى بن سعيد الْقطَّان على رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن هِشَام، وَرِوَايَة عَبدة هَذِه أوصلها البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن هِشَام، وَفِيه الحديثان مَعًا، وَقَالَ فِيهِ: (حَتَّى تبرز) بدل: (ترْتَفع) . وَقَالَ فِيهِ: (لَا تَحَيَّنُوا) ، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة وبالنون، وَزَاد فِيهِ: فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني شَيْطَان. وَفِيه إِشَارَة إِلَى عِلّة النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، وَزَاد مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة حِينَئِذٍ: (تسْجد لَهَا الْكفَّار) ، فالنهي حِينَئِذٍ لترك مشابهة الْكفَّار، وَفِيه الرَّد على أبي مُحَمَّد الْبَغَوِيّ حَيْثُ قَالَ: إِن النَّهْي عَن ذَلِك لَا يدْرك مَعْنَاهُ، وَجعله من قبيل(5/79)
الْأُمُور التعبدية الَّتِي يجب الْإِيمَان بهَا.
584 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أبِي أُسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله عَنْ خُبَيْبِ بنِ عبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بنِ عَاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ بَيْعَتَيْنِ وعنْ لِبْسَتَيْنِ وعَنْ صَلاَتَيْنِ نَهَى عنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وبَعْدَ االعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وعَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وعنِ الاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إلَى السَّماءِ وعنِ المُنَابَذَةِ وَعَن المُلاَمَسَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (وَعَن صَلَاتَيْنِ) ، إِلَى قَوْله: (حَتَّى تغرب الشَّمْس.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبيد، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل، تقدم فِي بَاب نقض الْمَرْأَة شعرهَا. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. االثالث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص الْعمريّ. الرَّابِع: خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الخزرجي. الْخَامِس: حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، جد عبيد الله الْمَذْكُور آنِفا. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى: أَبَا مُحَمَّد الْقرشِي. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وَهُوَ عَبدة، ومدني وَهُوَ خبيب، والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه وَهُوَ عبيد الله فَإِنَّهُ ابْن أخي خبيب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَأخرجه فِي اللبَاس أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ مقطعا، فِي الصَّلَاة وَفِي التِّجَارَات.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن بيعَتَيْنِ) ، تَثْنِيَة: بيعَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، وَالْفرق بَينهمَا أَن: فعلة، بِالْفَتْح للمرة، وبالكسر للهيئة. وَأَرَادَ بهما: اللماس والنباذ، بِكَسْر اللَّام وبكسر النُّون، وَقد مر تفسيرهما فِي بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (وَعَن لبستين) ، بِكَسْر اللَّام: الْهَيْئَة وَالْحَالة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَرُوِيَ بِالضَّمِّ على الْمصدر، وَالْأول هُوَ الْوَجْه. قَوْله: (بعد الْفجْر) أَي: بعد صَلَاة الْفجْر وَبعد صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (وَعَن اشْتِمَال الصماء) ، بالصَّاد الْمُهْملَة وبالمد، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ التخلل بِالثَّوْبِ وإرساله من غير أَن يرفع جَانِبه. وَفِي تَفْسِيره اخْتِلَاف قد ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة.، وأمعنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله:: (وَعَن الاحتباء فِي ثوب وَاحِد) قَالَ الْخطابِيّ: الاحتباء هُوَ أَن يحتبي الرجل بِالثَّوْبِ وَرجلَاهُ متجافيتان عَن بَطْنه، فَيبقى هُنَاكَ إِذا لم يكن الثَّوْب وَاسِعًا قد أسبل شَيْئا مِنْهُ على فرجه فُرْجَة تبدو عَوْرَته مِنْهَا. قَالَ: وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ. قَوْله: (يُفْضِي) من الْإِفْضَاء. قَوْله: (فرجه) ، ويروى: (بفرجه) ، بِالْبَاء، قَوْله: (وَعَن الْمُنَابذَة) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة مفاعلة من نابذة ومنابذة ونباذا، وَصورتهَا: أَن يطْرَح الرجل ثَوْبه بِالْبيعِ إِلَى رجل قبل أَن يقلبه أَو ينظر إِلَيْهِ. قَوْله: (وَالْمُلَامَسَة) مفاعلة من: لامس ملامسة ولماسا، وَهُوَ: أَن يلمس الثَّوْب بِلَا نظر إِلَيْهِ. قَالَ أَصْحَابنَا: الْمُلَامسَة والمنابذة وإلقاء الْحجر كَانَت بيوعا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الرّجلَانِ يتساومان الْمَبِيع فَإِذا ألْقى المُشْتَرِي عَلَيْهِ حَصَاة أَو نبذه البَائِع إِلَى المُشْتَرِي أَو لمسه المُشْتَرِي لزم البيع، وَقد نهى الشَّارِع عَن ذَلِك كُله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ: منع الشَّخْص من فعل عشرَة أَشْيَاء وَهِي: البيعتان واللبستان والصلاتان فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين واشتمال الصماء والاحتباء على الصُّورَة الْمَذْكُورَة: فِيهِ والمنابذة وَالْمُلَامَسَة. وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الْبيُوع واللباس إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالله تَعَالَى أعلم.
31 - س
(بابٌ لاَ يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الشَّخْص لَا يتحَرَّى أَي: لَا يقْصد الصَّلَاة قبل غرُوب الشَّمْس، وَفِي بعض النّسخ: بَاب لَا تتحروا.(5/80)
قَوْله: (لَا يتحَرَّى) على صِيغَة الْمَجْهُول، و: (الصَّلَاة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ نَائِب عَن الْفَاعِل، وَهَذَا يشْعر بِأَنَّهُ إِذا وَقع مِنْهُ اتِّفَاقًا لَا بَأْس بِهِ، وَقد وَقع الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق مستقصىً.
585 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَتَحَرَّى أحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُروبِهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا عِنْد غُرُوبهَا) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: التَّرْجَمَة قبل الْغُرُوب. والْحَدِيث عِنْد الْغُرُوب؟ قلت: المُرَاد مِنْهُمَا وَاحِد.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (لَا يتحَرَّى) كَذَا وَقع بِلَفْظ الْخَبَر. قَالَ السُّهيْلي: يجوز الْخَبَر عَن مُسْتَقر أَمر الشَّرْع أَي: لَا يكون إلاَّ هَذَا. قَوْله: (فَيصَلي) ، بِالنّصب وَهُوَ نَحْو: مَا تَأْتِينَا فتحدثنا، فِي أَن يُرَاد بِهِ نفي التَّحَرِّي وَالصَّلَاة كِلَاهُمَا، وَأَن يُرَاد بِهِ نفي الصَّلَاة فَقَط، وَيجوز الرّفْع من جِهَة النَّحْو، أَي: لَا يتحَرَّى أحدكُم الصَّلَاة فِي وَقت كَذَا، فَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَا يتحَرَّى، وَهُوَ نفي بِمَعْنى النَّهْي، وَيُصلي، هُوَ مَنْصُوب بِأَنَّهُ جَوَابه. وَيجوز أَن يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ الْمنْهِي أَيْضا، فالفعل الْمنْهِي مُعَلل فِي الأول وَالْفِعْل الْمُعَلل مَنْهِيّ فِي الثَّانِي، وَالْمعْنَى على الثَّانِي: لَا يتحَرَّى أحدكُم فعلا يكون سَببا لوُقُوع الصَّلَاة فِي زمَان الْكَرَاهَة، وعَلى الأول كَأَنَّهُ قيل: لَا يتحَرَّى فَقيل: لم ينهانا عَنهُ؟ فَأُجِيب: عَنهُ: خيفة أَن تصلوا، أَو أَن الْكَرَاهَة، وَقَالَ ابْن خروف: يجوز فِي: فَيصَلي، ثَلَاثَة أوجه: الْجَزْم على الْعَطف، أَي: لَا يتحر وَلَا يصل، وَالرَّفْع على الْقطع أَي: لَا يتحَرَّى فَهُوَ يُصَلِّي، وَالنّصب على جَوَاب النَّهْي، وَالْمعْنَى: لَا يتحَرَّى مُصَليا.
586 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ الجُنْدَعِيُّ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ولاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة لِأَنَّهُ يلْزم من نفي الصَّلَاة بعد الصُّبْح قبل ارْتِفَاع الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر قبل غُرُوبهَا أَن لَا يتحراها فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى بن عَمْرو الْقرشِي الْمدنِي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان الْغِفَارِيّ، مؤدب ولد عمر ابْن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عَطاء بن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو يزِيد اللَّيْثِيّ الجندعي الْمدنِي؛ الجندعي، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا بعْدهَا عين مُهْملَة: نِسْبَة إِلَى جندع ابْن لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ، فِيهِ عَن عبد الحميد بن مُحَمَّد الْحَرَّانِي عَن مخلد بن يزِيد وَعَن مَحْمُود بن خَالِد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا صَلَاة) ، كلمة: لَا، لنفي الْجِنْس أَي: لَا صَلَاة حَاصِلَة بعد الصُّبْح، أَي: بعد صَلَاة الصُّبْح، وَيُقَال: هَذَا نفي بِمَعْنى النَّهْي، وَالتَّقْدِير: لَا تصلوا. ثمَّ قيل: إِن النَّهْي للتَّحْرِيم، وَالأَصَح أَنه للكراهة. وبالنظر إِلَى صُورَة نفي الْجِنْس قَالَ أَبُو طَلْحَة: المُرَاد بذلك كل صَلَاة، وَلَا يثبت ذَلِك عَنهُ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس أَن يُصَلِّي فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ الْفَائِتَة، وَيسْجد للتلاوة، وَيُصلي على الْجِنَازَة.
587 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبَانٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بنَ أبَانَ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ إنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلاَةَ لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ (الحَدِيث 587 طرفه فِي: 3766) .(5/81)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَلْخِي أَبُو بكر مستملى وَكِيع الْمَعْرُوف بحمدويه، مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مُحَمَّد بن أبان الوَاسِطِيّ لَا الْمَذْكُور. قلت: لكل من الْقَوْلَيْنِ مُرَجّح، وَكِلَاهُمَا ثِقَة. الثَّانِي: غنْدر، مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد ابْن حميد الضبعِي الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: حمْرَان، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم: ابْن أبان، مر فِي بَاب الْوضُوء. السَّادِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْفِعْل الْمُضَارع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وواسطي وبصري ومدني. وَفِيه: عَن مُعَاوِيَة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: من طَرِيق معَاذ وَغَيره عَن شُعْبَة: خَطَبنَا مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَخَالفهُم عُثْمَان بن عَمْرو وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فَقَالَا: عَن ابي التياح عَن معبد الْجُهَنِيّ عَن مُعَاوِيَة وَطَرِيق البُخَارِيّ أرجح، وَيجوز أَن يكون لأبي التياح شَيْخَانِ: أَحدهمَا: حمْرَان، وَالْآخر: معبد الْجُهَنِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لتصلون) : اللَّام، فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، وَكَذَلِكَ: اللَّام، فِي كلمة: لقد. قَوْله: (يُصليهَا) ، بإفراد الضَّمِير أَي: يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاة، هَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يُصَلِّيهمَا) ، بضمير التَّثْنِيَة أَي: يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، وَكَذَا وَقع الْخلاف بَين الروَاة فِي قَوْله: عَنْهَا أَو عَنْهُمَا. وَقَالَ بَعضهم: وَمَا نَفَاهُ مُعَاوِيَة من رُؤْيَته صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما لقد أثْبته غَيره، والمثبت مقدم على النَّافِي. قلت: نفي مُعَاوِيَة يرجع إِلَى صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إِلَى ذَاتهَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّيهمَا على وَجه الخصوصية لَهُ، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب؛ وَهَؤُلَاء كَانُوا يصلونَ على سَبِيل التَّطَوُّع الرَّاتِب لَهما، كَمَا كَانُوا يصلونَ بعد الظّهْر، فَأنْكر مُعَاوِيَة عَلَيْهِم من هَذَا الْوَجْه، لِأَنَّهُ ثَبت عِنْده وُرُود النَّهْي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، كَمَا ورد عَن غَيره عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على مَا قد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لَكِن لَيْسَ فِي رِوَايَة الْإِثْبَات مُعَارضَة للأحاديث الْوَارِدَة فِي النَّهْي، لِأَن رِوَايَة الْإِثْبَات لَهَا سَبَب، وَالنَّهْي مَحْمُول على مَا لَا سَبَب لَهُ. قلت: الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَامَّة فَلَا يتْرك الْعَمَل بعمومها للأحاديث الْوَارِدَة الَّتِي لَهَا سَبَب الَّتِي لَا تقاومها، على أَنا نقُول: إِن أَحَادِيث النَّهْي مُتَأَخِّرَة، فَالْعَمَل للمتأخر دون الْمُتَقَدّم.
588 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَّمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدَةُ عنْ عُبَيْدِ الله عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بنِ عَاصِمٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وبعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي الْبَاب الَّذِي قبله بأتم مِنْهُ. أخرجه هُنَاكَ: عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن عبيد الله، وَهَهُنَا: عَن مُحَمَّد بن سَلام بتَشْديد اللَّام عَن عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله بن عمر بن حَفْص عَن خبيب بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة إِلَى آخِره ...
32 - (بابُ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاَةَ ألاَّ بَعْدَ العَصْرِ والفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رِوَايَة من لم يكره الصَّلَاة إلاَّ بعد صَلَاة الْعَصْر وَبعد صَلَاة الصُّبْح، ثمَّ بَين هَؤُلَاءِ الَّذِي لم يكرهوا الصَّلَاة إِلَّا فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين بقوله)
رَوَاهُ عُمَرُ وابنُ عُمَرَ وأبُو سَعِيدٍ وأبُو هُرَيْرَةَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: روى عدم كَرَاهَة الصَّلَاة إلاَّ فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورين: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله بن عمر وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك وَأَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وأحاديثهم فِي ذَلِك تقدّمت فِي الْبَابَيْنِ اللَّذين قبل هَذَا الْبَاب، فَحَدِيث عمر عَن(5/82)
حَفْص بن عمر عَن هِشَام، وَحَدِيث عبد الله بن عمر عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد، وَحَدِيث أبي سعيد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل.
589 - حدَّثنا أبُو النُعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قالَ أُصَلِّي كَما رَأيْتُ أصْحَابي يُصَلُّونَ لاَ أَنْهَى أحَدا يُصَلِّي بِلَيْلٍ ولاَ نَهَارٍ مَا شاءَ غَيْرَ أنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ ولاَ غُرُوبَهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (غير أَن لَا تحروا) إِلَى آخِره، وَفِي (التَّوْضِيح) : غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب رد قَول من منع الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: (لَا أمنع أحدا يُصَلِّي بلَيْل أَو نَهَار) . قلت: عدم منع ابْن عمر عَن الصَّلَاة عَام فِي جَمِيع اللَّيْل وَالنَّهَار، غير أَنه منع التَّحَرِّي فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، وَفِي بعض النّسخ: حَمَّاد، غير مَنْسُوب. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته الثَّلَاثَة بصريون، وَنَافِع مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة الْمولى عَن سَيّده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُصَلِّي) ، زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي أَوله من وَجْهَيْن عَن حَمَّاد بن زيد: (كَانَ لَا يُصَلِّي من أول النَّهَار حَتَّى تَزُول الشَّمْس، وَيَقُول: أُصَلِّي) إِلَى آخِره. . قَوْله: (أَصْحَابِي) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الدّلَالَة فِيهِ؟ قلت: إِمَّا تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه عَلَيْهِ إِن أَرَادَ الرُّؤْيَة فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا إِجْمَاعهم إِن أَرَادَ بعد وَفَاته، إِذْ الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر حجيته إلاَّ بعد وَفَاته، وإلاَّ فَقَوله وَحده حجَّة قَاطِعَة. قَوْله: (بلَيْل أَو نَهَار) ويروى: بلَيْل وَلَا نَهَار، ويروى: بلَيْل ونهار: بِالْوَاو فَقَط، غير أَن: لَا تحروا، أَصله: أَن لَا تتحروا، فحذفت إِحْدَى التائين، أَي: غير أَن لَا تقصدوا، وَزَاد عبد الرَّزَّاق فِي آخر هَذَا الحَدِيث عَن ابْن جريج عَن نَافِع: (فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن ذَلِك. وَقَالَ: أَنه يطلع قرن الشَّيْطَان مَعَ طُلُوع الشَّمْس) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل لمَالِك حَيْثُ قَالَ: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ عِنْد اسْتِوَاء الشَّمْس. وَقَالَ الشَّافِعِي: الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء مَكْرُوهَة إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة، لما ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره الصَّلَاة نصف النَّهَار إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة. قلت: لم يثبت ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة، فَإِن الحَدِيث فِيهِ غَرِيب، وَبقول مَالك قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ مَالك: مَا أدْركْت أهل الْفضل وَالْعِبَادَة إلاَّ وهم يتحرون الصَّلَاة نصف النَّهَار، وَعَن الْحسن وطاووس مثله؛ وَالَّذين منعُوا الصَّلَاة عِنْد الاسْتوَاء: عمر وَابْن مَسْعُود وَالْحكم؛ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يصلى فِيهِ فرض وَلَا نفل، وَاسْتثنى الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف يَوْم الْجُمُعَة خَاصَّة لِأَن جَهَنَّم لَا تسجر فِيهِ، وَفِيه حَدِيث لأبي دَاوُد: إِن جَهَنَّم تسجر فِيهِ إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة، وَفِيه انْقِطَاع،، وَاسْتثنى مِنْهُ مَكْحُول الْمُسَافِر، وَكَانَت الصَّحَابَة يتنفلون يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ لَا يخرج حَتَّى تَزُول الشَّمْس، وروى ابْن أبي شيبَة عَن مَسْرُوق أَنه كَانَ يُصَلِّي نصف النَّهَار، فَقيل لَهُ: إِن الصَّلَاة فِي هَذِه السَّاعَة تكره، فَقَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: قَالُوا: إِن أَبْوَاب جَهَنَّم تفتح نصف النَّهَار، فَقَالَ: الصَّلَاة أَحَق مَا أستعيذ بِهِ من جَهَنَّم حِين تفتح أَبْوَابهَا.
33 - (بابُ مَا يُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ منَ الفَوَائِتِ وغَيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الَّذِي يُصَلِّي بعد الْعَصْر، ويصلَّى، على صِيغَة الْمَجْهُول، و: بعد الْعَصْر، أَي: بعد صَلَاة الْعَصْر، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَغَيرهَا) ، فِي بعض النّسخ: (وَنَحْوهَا) . وَقَالَ ابْن الْمُنِير: السِّرّ فِي قَوْله: وَنَحْوهَا، لتدخل فِيهِ رواتب النَّوَافِل وَغَيرهَا، وَقَالَ أَيْضا: ظَاهر التَّرْجَمَة إِخْرَاج النَّافِلَة الْمَحْضَة الَّتِي لَا سَبَب لَهَا. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن قَوْله: وَنَحْوهَا، لدُخُول رواتب النَّفْل، بل المُرَاد من ذَلِك دُخُول مثل صَلَاة الْجِنَازَة إِذا حضرت فِي ذَلِك الْوَقْت، وَسجْدَة التِّلَاوَة، وَالنَّهْي الْوَارِد فِي هَذَا الْبَاب عَام يتَنَاوَل النَّوَافِل الَّتِي لَهَا سَبَب، وَالَّتِي لَيْسَ لَهَا سيب، وَقد ذكرنَا أَن حَدِيث عقبَة بن عَامر يمْنَع الْكل.(5/83)
وَقَالَ كُرَيْبٌ عَنْ أمِّ سَلَمَةَ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ العَصْرِ رَكْعَتَيُنِ وَقَالَ شَغَلَنِي ناسٌ مِنْ عَبْد القَيْسِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بعْدَ الظُّهْرِ كريب، بِضَم الْكَاف: مولى ابْن عَبَّاس، مر فِي بَاب التَّخْفِيف فِي الْوضُوء، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْمهَا: هِنْد بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم القرشية المخزومية، مَاتَت فِي شَوَّال سنة تسع وَخمسين فِي آخر ولَايَة مُعَاوِيَة وَولَايَة الْوَلِيد بن عتبَة على الْمَدِينَة، وَصلى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسْندًا فِي السَّهْو، وَفِي وَفد عبد الْقَيْس عَن يحيى عَن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن بكير عَن كريب: أَن ابْن عَبَّاس والمسور وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر أَرْسلُوهُ ألى عَائِشَة ... الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: قَالَ: (يَا بنت أبي أُميَّة، سَأَلت عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَإنَّهُ أَتَانِي نَاس من عبد الْقَيْس فشغلوني عَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بعد الظّهْر، فهما هَاتَانِ) . وَعند مُسلم: (نَاس من عبد الْقَيْس بِالْإِسْلَامِ من قَومهمْ) ، وَعند الْبَيْهَقِيّ: (قدم عَليّ وَفد بني تَمِيم أَو صَدَقَة شغلوني عَنْهُمَا، فهما هَاتَانِ الركعتان) . قَوْله: (بعد الظّهْر) صفة رَكْعَتَيْنِ أَي: المندوبتين بعد الظّهْر. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا دَلِيل الشَّافِعِي فِي جَوَاز صَلَاة لَهَا سَبَب بعد الْعَصْر بِلَا كَرَاهَة. قلت: هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا، لِأَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه كَانَت من خَصَائِصه، كَمَا ذكرنَا، فَلَا يكون حجَّة لذاك.
590 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حدَّثني أبي أنَّهُ سَمِعَ عائِشَةَ قالَتْ والَّذِي ذَهَبَ بهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ الله وَمَا لَقِيَ الله تعالَى حَتَّى ثَقُلَ عنِ الصَّلاَةِ وكانَ يُصَلِّي كَثِيرا مِنْ صَلاَتِهِ قاعِدا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّيهِمَا ولاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ مَخَافَةَ أنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ وكانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة، تقدم. الثَّالِث: أَبوهُ أَيمن الحبشي، مولى ابْن أبي عَمْرو المَخْزُومِي الْقرشِي الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَيمن من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي.
ذكر اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ: وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (مَا ترك السَّجْدَتَيْنِ بعد الْعَصْر عِنْدِي قطّ) . وَفِي لفظ: (رَكْعَتَانِ لم يكن يدعهما سرا وَلَا عَلَانيَة: رَكْعَتَانِ قبل الصُّبْح، وركعتان بعد الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (مَا كَانَ يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إلاَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) ، وَعند مُسلم: (كَانَ يُصَلِّيهمَا قبل الْعَصْر ثمَّ إِنَّه شغل عَنْهُمَا أَو نسيهما فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ أثبتهما. وَكَانَ إِذا صلى صَلَاة أثبتها) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (كَانَ لَا يدع رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (دخل عَلَيْهَا بعد الْعَصْر فصلى رَكْعَتَيْنِ، فَقلت: يَا رَسُول الله أحدث بِالنَّاسِ شَيْء؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَن بِلَالًا عجل الْإِقَامَة فَلم أصل الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْعَصْر فَأَنا أقضيهما الْآن. قلت: يَا رَسُول الله! أفنقضيهما إِذا فاتتا؟ قَالَ: لَا) . وَفِي لفظ: (كَانَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهُمَا) . وَفِي لفظ: (وَلم أره عَاد لَهما) ، وَلَفظ مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان: أَن مُعَاوِيَة أرسل إِلَيْهَا يسْأَلهَا عَن هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ، فَقَالَت: لَيْسَ عِنْدِي صلاهما، وَلَكِن أم سَلمَة حَدَّثتنِي، فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَالَّذِي ذهب بِهِ) ، أَي: برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: (وَالَّذِي ذهب بِنَفسِهِ) ، حَلَفت عَائِشَة بِاللَّه على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ترك الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر حَتَّى مَاتَ. قَوْله: (ثقل) ، بِضَم الْقَاف. قَوْله: (قَاعِدا) نصب على الْحَال. قَوْله: (مَخَافَة) ، نصب على التَّعْلِيل أَي: لأجل المخافة. وَهُوَ مصدر ميمي بِمَعْنى: الْخَوْف. وَكلمَة: أَن، فِي: أَن يثقل، مَصْدَرِيَّة أَي: مَخَافَة التثقيل على أمته، ويثقل، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْقَاف الْمَكْسُورَة من: التثقيل، ويروى، بِفَتْح الْيَاء وَضم الْقَاف. قَوْله: (مَا يُخَفف عَنْهُم) ، أَي: عَن أمته، ويخفف، بِضَم الْيَاء وَكسر الْفَاء الْمُشَدّدَة: من التَّخْفِيف، هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَغَيره روى: مَا خفف، بِصِيغَة الْمَاضِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث من أجَاز التَّنَفُّل بعد الْعَصْر مُطلقًا مَا لم يقْصد الصَّلَاة عِنْد غرُوب الشَّمْس،(5/84)
وَأوردهُ البُخَارِيّ فِي قَضَاء الْفَائِتَة بعد الْعَصْر، وَلِهَذَا ترْجم عَلَيْهِ بِهِ، وَنحن نقُول كَمَا قُلْنَا غير مرّة: إِن هَذَا كَانَ من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ذكْوَان، مولى عَائِشَة أَنَّهَا حدثته أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهَا، ويواصل وَيُنْهِي عَن الْوِصَال) . وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (إِنَّمَا صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَال فَشَغلهُ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعد الظّهْر فصلاهما بعد الْعَصْر، ثمَّ لم يعد) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. قَالَ: وَقد روى غير وَاحِد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،: (أَنه صلى بعد الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ) ، وَهَذَا خلاف مَا رُوِيَ أَنه: نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أصح حَيْثُ قَالَ: لم يعد لَهما.
591 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ أَخْبرنِي أبي قَالَ قالَتْ عائِشَةُ ابنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَط.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي قدامَة عبيد الله بن سعيد عَن يحيى الْقطَّان.
قَوْله: (ابْن اختي) ، حذف حرف النداء مِنْهُ، يَعْنِي: يَا ابْن أُخْتِي، وَهُوَ عُرْوَة، لِأَن أم عُرْوَة أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (السَّجْدَتَيْنِ) يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ، من بَاب إِطْلَاق اسْم الْجُزْء على الْكل.
592 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الشَّيْبَاني قَالَ حَدثنَا عبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ الأَسْوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَعُهُمَا سِرَّا وَلَا عَلاَنِيَّةً ركْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَة الصُّبْحِ ورَكْعَتَانِ بَعْدَ العَصْرِ.
هَذَا طَرِيق آخر عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن ابي بكر بن شيبَة وَعلي بن حجر كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن مسْهر كِلَاهُمَا عَن الشَّيْبَانِيّ
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ.
قَوْله: (رَكْعَتَانِ) أَي: صلاتان، لِأَنَّهُ فَسرهَا بِأَرْبَع رَكْعَات، وَهُوَ من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل أَو: هُوَ من بَاب الْإِضْمَار، أَي: وَكَذَا رَكْعَتَانِ بعد الْعَصْر، والوجهان جائزان بِلَا تفَاوت، لِأَن الْمجَاز والإضمار متساويان. أَو المُرَاد بالركعتين جنس الرَّكْعَتَيْنِ الشَّامِل للقليل وَالْكثير. (لم يكن يدعهما) ، أَي: لم يكن يتركهما، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (لم يكن يدعهما فِي بَيْتِي) ، قَالَ الصرفيون: لم يسْتَعْمل: ليَدع، ماضٍ، وَكَذَا: ليذر، وَأورد عَلَيْهِم قِرَاءَة: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} (الضُّحَى: 30) . بِالتَّخْفِيفِ.
69 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن عرْعرة قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق قَالَ رَأَيْت الْأسود ومسروقا شَهدا على عَائِشَة قَالَت مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأتيني فِي يَوْم بعد الْعَصْر إِلَّا صلى رَكْعَتَيْنِ) هَذَا طَرِيق آخر عَن مُحَمَّد بن عرْعرة بالمهملتين وبسكون الرَّاء الأولى عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن أبي اسحق السبيعِي واسْمه عَمْرو وَرُبمَا يلتبس على القارىء تَمْيِيز هَذَا عَن أبي اسحق الْمَذْكُور فِي السَّنَد السَّابِق فَإِن هَذَا أَبُو اسحق السبيعِي وَذَاكَ أَبُو اسحق الشَّيْبَانِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار كِلَاهُمَا عَن غنْدر وَأَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن حَفْص بن عَمْرو النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث أربعتهم عَن شُعْبَة بِهِ قَوْله " الْأَصْلِيّ " أَي بعد الْإِتْيَان وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ أَي مَا كَانَ يأتيني بِوَجْه أَو حَالَة إِلَّا بِهَذَا الْوَجْه أَو هَذِه الْحَالة وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت)(5/85)
مَا وَجه الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث وَمَا تقدم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن الصَّلَاة بعد صَلَاة الْعَصْر (قلت) أُجِيب عَنهُ بِأَن النَّهْي كَانَ فِي صَلَاة لَا سَبَب لَهَا وَصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت بِسَبَب قَضَاء فَائِتَة الظّهْر. وَبِأَن النَّهْي هُوَ فِيمَا يتحَرَّى فِيهَا وَفعله كَانَ بِدُونِ التَّحَرِّي. وَبِأَنَّهُ كَانَ من خَصَائِصه. وَبِأَن النَّهْي كَانَ للكراهة فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان ذَلِك وَدفع وهم التَّحْرِيم وَبِأَن الْعلَّة فِي النَّهْي هُوَ التَّشَبُّه بعبدة الشَّمْس وَالرَّسُول منزه عَن التَّشَبُّه بهم. وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قضى فَائِتَة ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ فِي فَوَاته نوع تَقْصِير واظب عَلَيْهَا مُدَّة عمره جبرا لما وَقع مِنْهُ وَالْكل بَاطِل. أما أَولا فَلِأَن الْفَوات كَانَ فِي يَوْم وَاحِد وَهُوَ يَوْم اشْتِغَاله بِعَبْد الْقَيْس وَصلَاته بعد الْعَصْر كَانَت مستمرة دَائِما. وَأما ثَانِيًا فَلِأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يداوم عَلَيْهَا ويقصد أداءها كل يَوْم وَهُوَ معنى التَّحَرِّي. وَأما ثَالِثا فَلِأَن الأَصْل عدم الِاخْتِصَاص وَوُجُوب مُتَابَعَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقَوْله تَعَالَى {فَاتَّبعُوهُ} . وَأما رَابِعا فَلِأَن بَيَان الْجَوَاز يحصل بِمرَّة وَاحِدَة وَلَا يحْتَاج فِي دفع وهم الْحُرْمَة إِلَى المداومة عَلَيْهَا. وَأما خَامِسًا فَلِأَن الْعلَّة فِي كَرَاهَة صَلَاة بعد فرض الْعَصْر لَيْسَ التَّشَبُّه بهم بل هِيَ الْعلَّة لكَرَاهَة الصَّلَاة عِنْد الْغُرُوب فَقَط. وَأما سادسا فلأنا لَا نسلم أَنه كَانَ تقصيرا لِأَنَّهُ كَانَ مشتغلا فِي ذَلِك الْوَقْت بِمَا هُوَ أهم وَهُوَ إرشادهم إِلَى الْحق أَو لِأَن الْفَوات كَانَ بِالنِّسْيَانِ ثمَّ أَن الْجَبْر يحصل بِقَضَائِهِ مرّة وَاحِدَة على مَا هُوَ حكم أَبْوَاب الْقَضَاء فِي جَمِيع الْعِبَادَات بل الْجَواب الصَّحِيح أَن النَّهْي قَول وَصلَاته فعل وَالْقَوْل وَالْفِعْل إِذا تَعَارضا يقدم القَوْل وَيعْمل بِهِ انْتهى (قلت) قَوْله وَالْكل بَاطِل لَا يمشي فِي الْكل بل فِيهِ شَيْء موجه وَشَيْء غير موجه وَكَذَلِكَ فِي كَلَامه ودعواه بِبُطْلَان الْكل أما الَّذِي هُوَ غير موجه فَهُوَ قَوْله أَن النَّهْي كَانَ فِي صَلَاة لَا سَبَب لَهَا وَهَذَا غير صَحِيح لِأَن النَّهْي عَام وتخصيصه بِالصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَبَب لَهَا تَخْصِيص بِلَا مُخَصص وَهَذَا بَاطِل وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى وَأما الَّذِي هُوَ غير موجه من كَلَام الْكرْمَانِي فَهُوَ قَوْله أَن الأَصْل عدم الِاخْتِصَاص وَهَذَا غير صَحِيح على إِطْلَاقه لِأَنَّهُ إِذا قَامَ الدَّلِيل على الِاخْتِصَاص فَلَا يُنكر وَهَهُنَا قد قَامَت دَلَائِل من الْأَحَادِيث وأفعال الصَّحَابَة فِي أَن هَذَا الَّذِي صلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الْعَصْر كَانَ من خَصَائِصه وَقد ذَكرنَاهَا فِيمَا مضى وَقَول الْكرْمَانِي وَصلَاته بعد الْعَصْر كَانَت مستمرة ترد دَعْوَاهُ عدم التَّخْصِيص إِذْ لَو لم يكن من خَصَائِصه لأمر بقضائها إِذا فَاتَت وَلم يَأْمر بذلك أَلا ترى فِي حَدِيث أم سَلمَة الْمَذْكُورَة فِيمَا مضى قَالَت " قلت يَا رَسُول الله أفنقضيها إِذا فاتتا قَالَ لَا " فَدلَّ ذَلِك على أَن حكم غَيره فيهمَا إِذا فاتتاه خلاف حكمه فَلَيْسَ لأحد أَن يُصَلِّيهمَا بعد الْعَصْر وَهنا شَيْء آخر يلْزمهُم وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يداوم عَلَيْهِمَا وهم لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي الْأَصَح الْأَشْهر فَإِن عورضوا يَقُولُونَ هَذَا من خَصَائِص رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ فِي الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ يَقُولُونَ الأَصْل عدم التَّخْصِيص وَهَذَا كَمَا يُقَال فلَان مثل الظليم الذّكر من النعام يستحمل عِنْد الاستطارة ويستطير عِنْد الاستحمال وَقَوله لَيْسَ التَّشَبُّه بهم غير صَحِيح فَإِن حَدِيث أبي أُمَامَة على التَّشَبُّه بهم وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَفِيه " فَقلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي عَن الصَّلَاة فَقَالَ صل الصُّبْح ثمَّ اقصر عَن الصَّلَاة حِين تطلع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع فَإِنَّهَا تطلع بَين قَرْني الشَّيْطَان وَحِينَئِذٍ يسْجد لَهَا الْكفَّار " الحَدِيث وَفِيه أَيْضا " فَإِنَّهَا تغرب بَين قَرْني الشَّيْطَان " والشارع أخبر بِأَن الشَّيْطَان يُحَاذِي الشَّمْس بقرنيه عِنْد الطُّلُوع وَعند الْغُرُوب وَالْكفَّار يَسْجُدُونَ لَهَا حِينَئِذٍ فَنهى الشَّارِع عَن الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ حَتَّى لَا يكون المصلون فيهمَا كالساجدين لَهَا وَقَوله وَالْقَوْل وَالْفِعْل إِذا تَعَارضا يقدم القَوْل لَيْسَ على إِطْلَاقه فَإِن أَحدهمَا إِذا كَانَ حاظرا وَالْآخر مبيحا يقدم الحاظر على الْمُبِيح سَوَاء كَانَ قولا أَو فعلا فَافْهَم وَالله تَعَالَى أعلم
34 - (بابُ التَّبْكِيرِ بِالصَّلاَةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التبكير، أَي: الْمُبَادرَة والإسراع إِلَى الصَّلَاة فِي الْيَوْم الَّذِي فِيهِ الْغَيْم خوفًا من وُقُوعهَا خَارج الْوَقْت.
594 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدثنَا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى هُوَ ابنُ أبِي كَثِيرٍ عنُ أبي قِلاَبَة(5/86)
َ أنَّ أَبَا المَلِيحِ حدَّثَهُ قَالَ كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يوْمٍ ذِي غيْمٍ فَقَالَ بَكِّرُوا بِالصَّلاَةِ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ (انْظُر الحَدِيث 553) .
هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد مر فِي بَاب إِثْم من ترك الْعَصْر، غير أَن هُنَاكَ رَوَاهُ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام إِلَى آخِره نَحوه، وَفِيه لَفْظَة زَائِدَة، وَهِي: (كُنَّا مَعَ بُرَيْدَة فِي غَزْوَة فِي يَوْم ذِي غيم) ، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف، عبد الله ابْن زيد الْجرْمِي وَأَبُو الْمليح عَامر بن أُسَامَة الْهُذلِيّ، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: بن الْحصيب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: الْأَسْلَمِيّ. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي التبكير فِي الصَّلَاة الْمُطلقَة فِي يَوْم الْغَيْم، والْحَدِيث لَا يطابقها من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمُطَابقَة لقَوْل بُرَيْدَة لَا للْحَدِيث، وَالثَّانِي: أَن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث صَلَاة الْعَصْر، وَفِي التَّرْجَمَة مُطلق الصَّلَاة؟ قلت: دلّت الْقَرِينَة على أَن قَول بُرَيْدَة: (بَكرُوا بِالصَّلَاةِ) كَانَ فِي وَقت دُخُول الْعَصْر فِي يَوْم غيم، فَأمر بالتبكير حَتَّى لَا يفوتهُمْ بِخُرُوج الْوَقْت بتقصيرهم فِي ترك التبكير، وَهَذَا الْفِعْل كتركهم إِيَّاهَا فِي اسْتِحْقَاق الْوَعيد، وتفهم إِشَارَته أَن بَقِيَّة الصَّلَوَات كَذَلِك، لِأَنَّهَا مستوية الْإِقْدَام فِي الْفَرْضِيَّة، فَحِينَئِذٍ يفهم التطابق بَين الحَدِيث والترجمة بطرِيق الْإِشَارَة لَا بالتصريح. وَقَالَ بَعضهم: من عَادَة البُخَارِيّ أَن يترجم بِبَعْض مَا يشْتَمل عَلَيْهِ لفظ الحَدِيث، وَلَو لم يكن على شَرطه فَلَا إِيرَاد عَلَيْهِ. قلت: لَيْسَ هُنَا مَا يشْتَمل على التَّرْجَمَة من لفظ الحَدِيث، وَلَا من بعضه، وَكَيف لَا يُورد عَلَيْهِ إِذا ذكر تَرْجَمَة وَلم يُورد عَلَيْهَا شَيْئا، وَلَا فَائِدَة فِي ذكر التَّرْجَمَة عِنْد عدم الْإِيرَاد بِشَيْء. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر بُرَيْدَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْعَصْر مَعَ أَن غَيره مثله. قلت: كَانَ أمره بالتبكير فِي وَقت الْعَصْر كَمَا ذكرنَا وإلاَّ فَغَيره مثله، وَقد روى الْأَوْزَاعِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي يحيى بن كثير، بِلَفْظ: (بَكرُوا بِالصَّلَاةِ فِي يَوْم الْغَيْم فَإِنَّهُ من ترك صَلَاة الْفجْر حَبط عمله) . وَأما فَائِدَة تعْيين الْعَصْر فِي الحَدِيث فقد ذَكرْنَاهُ.
35 - (بابُ الأَذَانِ بعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان بعد خُرُوج الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بَاب الآذان بعد الْوَقْت، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظَة: ذهَاب، وَهِي مقدرَة أَيْضا، وَهَذِه مَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا على مَا يَجِيء عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
595 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْل قَالَ حَدَّثنا حُصَيْنٌ عنْ عَبْدِ الله ابنِ أبي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةً فقالَ بَعْضُ القَوْمِ لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رسولَ الله قَالَ أخافُ أنْ تَنَامُوا عنِ الصَّلاَةِ قَالَ بِلاَلٌ أَنا أُوقِظُكُمْ فاضْطَجَعُوا وأسْنَدَ بِلالٌ ظِهْرَهُ إلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فاسْتَيْقَظَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ يَا بِلاَلُ أيْن مَا قُلْتَ قَالَ مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَط قالَ إنَّ الله قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِين شاءَ وَرَدَّها عَلَيْكُمْ حِينَ شاءَ يَا بِلاَلُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وابْيَاضَّتْ قامَ فَصَلَّى. (الحَدِيث 595 طرفه فِي: 7471) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قُم يَا بِلَال فَأذن) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة تقدم فِي بَاب رفع الْعلم. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة، تقدم فِي بَاب صَوْم رَمَضَان أيمانا. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة، تقدم فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو قَتَادَة، واسْمه: الْحَارِث بن ربعي بن بلدية الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بضيغة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة الابْن(5/87)
عَن الْأَب. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن هشيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد بن عبد الله وَعَن هناد عَن عَبْثَر بن الْقَاسِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بِهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن كَامِل الْمروزِي عَن هشيم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سرنا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة) من: سَار يسير سيرا، وَفِيه رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن: (إِنَّا أسرينا) ، ويروى: (سرينا) ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم مُسْتَوفى، وَذكرنَا أَيْضا أَن هَذِه اللَّيْلَة فِي أَي سفرة كَانَت. قَوْله: (لَو عرست بِنَا يَا رَسُول الله) ، جَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَكَانَ أسهل علينا، أَو هُوَ لِلتَّمَنِّي. وعرست، بتَشْديد الرَّاء من: التَّعْرِيس، وَهُوَ: نزُول الْقَوْم فِي السّفر آخر اللَّيْل للاستراحة. قَوْله: (أَنا أوقظكم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فَمن يوقظنا؟ فَقَالَ بِلَال: أَنا) . قَوْله: (فاضطجعوا) ، يجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَاضِي، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْأَمر. قَوْله: (إِلَى رَاحِلَته) أَي: إِلَى مركبه. قَوْله: (فغلبته عَيناهُ) أَي: عينا بِلَال، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: (فَغلبَتْ) بِغَيْر ضمير. قَوْله: (فَنَامَ) ، أَي: بِلَال. قَوْله: (فَاسْتَيْقَظَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد طلع حَاجِب الشَّمْس) ، أَي: طرفها، وحواجب الشَّمْس نَوَاحِيهَا. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالشَّمْس فِي ظَهره) . قَوْله: (أَيْن مَا قلت؟) يَعْنِي: أَيْن الْوَفَاء بِقَوْلِك أَنا أوقظكم؟ . قَوْله: (مَا ألقيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. وَقَوله: (نومَة) مفعول نَائِب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (مثلهَا) أَي مثل هَذِه النومة الَّتِي كَانَت فِي هَذَا الْوَقْت، و: مثل، لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، وَلِهَذَا وَقع صفة للنكرة. قَوْله: (إِن الله قبض أرواحكم) الْأَرْوَاح: جمع روح، يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ: جَوْهَر لطيف نوراني يكدره الْغذَاء والأشياء الرَّديئَة الدنية، مدرك للجزئيات والكليات، حَاصِل فِي الْبدن متصرف، فِيهِ غنى عَن الاغتذاء، بَرِيء عَن التَّحَلُّل والنماء، وَلِهَذَا يبْقى بعد فنَاء الْبدن إِذْ لَيست لَهُ حَاجَة إِلَى الْبدن، وَمثل هَذَا الْجَوْهَر لَا يكون من عَالم العنصر بل من عَالم الملكوت، فَمن شَأْنه أَن لَا يضرّهُ خلل الْبدن ويلتذ بِمَا يلائمه ويتألم بِمَا يُنَافِيهِ، وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم} (ال عمرَان: 169) . الْآيَة. وَقَوله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وضع الْمَيِّت على نعشه رَفْرَف روحه فَوق نعشه، وَيَقُول: يَا أَهلِي وَيَا وَلَدي) فَإِن قلت: كَيفَ يُفَسر الرّوح وَقد قَالَ تَعَالَى: {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} (الْإِسْرَاء: 18) . قلت: مَعْنَاهُ من الإبداعات الكائنة: بكن من غير مَادَّة، وتولد من أصل، على أَن السُّؤَال كَانَ عَن قدمه وحدوثه، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي جَوَاز تَفْسِيره. فَإِن قلت: إِذا قبض الرّوح يكون الشَّخْص مَيتا، لكنه نَائِم لَا ميت؟ قلت: الْمَعْنى من قبض الرّوح هُنَا قطع تعلقه عَن ظَاهر الْبدن فَقَط، وَالْمَوْت قطع تعلقه بِالْبدنِ ظَاهرا وَبَاطنا، فَمَعْنَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم , (إِن الله قبض أرواحكم) ، مثل قَوْله تَعَالَى: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} (الزمر: 42) . قَوْله: (حِين شَاءَ) ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَ لوقت وَاحِد، فَإِن نوم الْقَوْم لَا يتَّفق غَالِبا فِي وَقت وَاحِد، بل يتتابعون فَيكون حِين الأول جزأ من أحيان مُتعَدِّدَة. قَوْله: (قُم فَأذن) ، بتَشْديد الذَّال، من التأذين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَأذن) ، بِالْمدِّ وَمَعْنَاهُ: أعلم النَّاس بِالصَّلَاةِ. قَوْله: (فَتَوَضَّأ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : فَتَوَضَّأ النَّاس) . قَوْله: (وابياضت) على وزن: افعالت، من الابيضاض، وَهَذِه الصِّيغَة تدل على الْمُبَالغَة، يُقَال: أَبيض الشَّيْء إِذا صَار ذَا بَيَاض، ثمَّ إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِيهِ ينقلونه إِلَى بَاب الافعيلال، فَيَقُولُونَ: ابياض. وَكَذَلِكَ: احمر واحمار، وَقَالَ بَعضهم: وَقيل: إِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِي كل لون بَين لونين، فَأَما الْخَالِص من الْبيَاض مثلا فَإِنَّمَا يُقَال لَهُ أَبيض، قلت: هَذَا القَوْل صادر عَمَّن لَيْسَ لَهُ ذوق من علم الصّرْف وَلَا اطلَاع فِيهِ. قَوْله: (قَامَ فصلى) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فصلى بِالنَّاسِ) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ خُرُوج الإِمَام بِنَفسِهِ فِي الْغَزَوَات.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الالتماس من السادات فِيمَا يتَعَلَّق بمصالحهم الدِّينِيَّة بل الدُّنْيَوِيَّة أَيْضا مِمَّا فِيهِ الْخَيْر.
الثَّالِث: أَن على الإِمَام أَن يُرَاعِي الْمصَالح الدِّينِيَّة.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الِاحْتِرَاز عَمَّا يحْتَمل فَوَات الْعِبَادَة عَن وَقتهَا.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْتِزَام خَادِم بمراقبة ذَلِك.
السَّادِس: فِيهِ الْأَذَان للفائتة، ولأجله ترْجم البُخَارِيّ الْبَاب، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ أَصْحَابنَا: يُؤذن للفائتة وَيُقِيم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَفِيه: (ثمَّ أَمر مُؤذنًا فَأذن فصلى رَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ ثمَّ صلى الْفجْر) . وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَإِن فَاتَتْهُ صلوَات أذن للأولى، وَأقَام، وَهُوَ مُخَيّر فِي الْبَاقِي: أَن شَاءَ أذن(5/88)
وَأقَام لكل صَلَاة من الْفَوَائِت، وَإِن شَاءَ اقْتصر على الْإِقَامَة لما روى التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاتَتْهُ يَوْم الخَنْدَق أَربع صلوَات حَتَّى ذهب من اللَّيْل مَا شَاءَ الله، فَأمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ أَقَامَ فصلى الظّهْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أَقَامَ فصلى الْمغرب ثمَّ أَقَامَ فصلى الْعشَاء) .
فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمن أَيْن التَّخْيِير؟ قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: (قضاهن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآذان وَإِقَامَة) . وَفِي رِوَايَة: (بِأَذَان وَإِقَامَة للأولى وَإِقَامَة لكل وَاحِدَة من الْبَوَاقِي) . وَلِهَذَا الِاخْتِلَاف خيرنا فِي ذَلِك، وَفِي (التُّحْفَة) : وَرُوِيَ فِي غير رِوَايَة الْأُصُول عَن مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ صلوَات تقضى الأولى بآذان وَإِقَامَة، وَالْبَاقِي بِالْإِقَامَةِ دون الآذان. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْجَدِيد) يُقيم لَهُنَّ وَلَا يُؤذن، وَفِي الْقَدِيم: يُؤذن للأولى وَيُقِيم، ويقتصر فِي الْبَوَاقِي على الْإِقَامَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : يُقيم لكل وَاحِدَة بِلَا خلاف، وَلَا يُؤذن لغير الأولى مِنْهُنَّ. وَفِي الأولى ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْأَذَان، أَصَحهَا: أَنه يُؤذن وَلَا يعْتَبر بتصحيح الرَّافِعِيّ منع الْأَذَان والآذان للأولى مَذْهَب: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَقَالَ ابْن بطال: لم يذكر الآذان فِي الأولى عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يُؤذن لفائتة.
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن قَضَاء الْفَوَائِت بِعُذْر لَيْسَ على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح، وَلَكِن يسْتَحبّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر. وَحكى الْبَغَوِيّ وَجها عَن الشَّافِعِي: أَنه، على الْفَوْر، وَأما الْفَائِتَة بِلَا عذر فَالْأَصَحّ قَضَاؤُهَا على الْفَوْر، وَقيل: لَهُ التَّأْخِير كَمَا فِي الأولى. الثَّامِن: فِيهِ أَن الْفَوَائِت لَا تقضى فِي الْأَوْقَات الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهَا، وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي قدر الْوَقْت الَّذِي تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة بعد الطُّلُوع. قَالَ فِي الأَصْل: حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس قدر رمح أَو رُمْحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْفضل: مَا دَامَ الْإِنْسَان يقدر على النّظر إِلَى قرص الشَّمْس لَا تُبَاح فِيهِ الصَّلَاة، فَإِن عجز عَن النّظر تُبَاح.
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة بِالْجَمَاعَة.
الْعَاشِر: احْتج بِهِ الْمُهلب على أَن الصَّلَاة الْوُسْطَى هِيَ صَلَاة الصُّبْح، قَالَ: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمر أحدا بمراقبة وَقت صَلَاة غَيرهَا، وَفِيه نظر لَا يخفى.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد، وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على ذَلِك، وَقَالَ ابْن بزيزة: وَلَيْسَ هُوَ بقاطع فِيهِ لاحْتِمَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرجع إِلَى قَول بِلَال بِمُجَرَّدِهِ، بل بعد النّظر إِلَى الْفجْر لَو اسْتَيْقَظَ مثلا.
الثَّانِي عشر: اسْتدلَّ بِهِ مَالك فِي عدم قَضَاء سنة الْفجْر، وَقَالَ أَشهب: سُئِلَ مَالك هَل ركع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتي الْفجْر حِين نَام عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى طلعت الشَّمْس؟ قَالَ: مَا بَلغنِي. وَقَالَ أَشهب: بَلغنِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركع. وَقَالَ عَليّ بن زِيَاد: وَقَالَ غير مَالك، وَهُوَ أحب إِلَى أَن يرْكَع، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَقد قَالَ مَالك: إِن أحب أَن يركعهما من فَاتَتْهُ بعد طُلُوع الشَّمْس فعل. قلت: مَذْهَب مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا فَاتَتْهُ رَكعَتَا الْفجْر يقضيهما إِذا ارْتَفع النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يقضيهما هَذَا إِذا فَاتَت وَحدهَا، وَإِذا فَاتَت مَعَ الْفَرْض يقْضِي اتِّفَاقًا.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أقوى دَلِيل لنا على عدم جَوَاز الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ترك الصَّلَاة حَتَّى ابياضت الشَّمْس، ولورود النَّهْي فِيهِ أَيْضا.
36 - (بابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من صلى بِالنَّاسِ الْفَائِتَة بعد خُرُوج الْوَقْت. قَوْله: (جمَاعَة) ، نصب على الْحَال من النَّاس بِمَعْنى مُجْتَمعين.
72 - (حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن عبد الله أَن عمر بن الْخطاب جَاءَ يَوْم الخَنْدَق بعد مَا غربت الشَّمْس فَجعل يسب كفار قُرَيْش قَالَ يَا رَسُول الله مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالله مَا صليتها فقمنا إِلَى بطحان فَتَوَضَّأ للصَّلَاة وتوضأنا لَهَا فصلى الْعَصْر بعد مَا غربت الشَّمْس ثمَّ صلى بعْدهَا الْمغرب) مطابقته للتَّرْجَمَة استفيدت من اخْتِصَار الرَّاوِي فِي قَوْله " فصلى الْعَصْر " إِذْ أَصله فصلى بِنَا الْعَصْر وَكَذَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَن هِشَام وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) كَيفَ دلّ الحَدِيث على الْجَمَاعَة (قلت) إِمَّا لِأَن البُخَارِيّ(5/89)
استفاده من بَقِيَّة الحَدِيث الَّذِي هَذَا مُخْتَصره وَإِمَّا من إِجْرَاء الرَّاوِي الْفَائِتَة الَّتِي هِيَ الْعَصْر والحاضرة الَّتِي هِيَ الْمغرب مجْرى وَاحِدًا وَلَا شكّ أَن الْمغرب كَانَ بِالْجَمَاعَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من عَادَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) الْوَجْه الأول هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي نفس الْأَمر وَأما الْوَجْه الثَّانِي فَلَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ يردهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي سعيد قَالَ " حبسنا يَوْم الخَنْدَق عَن الصَّلَاة حَتَّى كَانَ بعد الْمغرب بهوى من اللَّيْل حَتَّى كفينا فَدَعَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا فَأَقَامَ صَلَاة الظّهْر فَصلاهَا كَمَا كَانَ يُصليهَا فِي وَقتهَا ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْعَصْر فَصلاهَا كَذَلِك ثمَّ أمره فَأَقَامَ الْمغرب فَصلاهَا كَذَلِك ثمَّ أَقَامَ الْعشَاء فَصلاهَا كَذَلِك قَالَ وَذَلِكَ قبل أَن ينزل الله عز وَجل فِي صَلَاة الْخَوْف {فرجالا أَو ركبانا} " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول معَاذ بِضَم الْمِيم ابْن فضَالة الزهْرَانِي وَيُقَال القريشي مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ. الثَّانِي هِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي. الثَّالِث يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَقد تقدم ذكرهم غير مرّة. الْخَامِس جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ. السَّادِس عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى وَعَن أبي نعيم عَن شَيبَان وَفِي صَلَاة الْخَوْف عَن يحيى عَن وَكِيع وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن مكي بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى وَأبي غَسَّان وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن معَاذ بن هِشَام وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يَوْم الخَنْدَق " أَي يَوْم حفر الخَنْدَق وَهُوَ لفظ أعجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب وَكَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة وَيُسمى بغزوة الْأَحْزَاب قَوْله " بَعْدَمَا غربت الشَّمْس " وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَن شَيبَان عَن يحيى " بَعْدَمَا أفطر الصَّائِم " وَالْمعْنَى وَاحِد قَوْله " فَجعل " أَي عمر يسب الْكفَّار لأَنهم كَانُوا السَّبَب لاشتغال الْمُسلمين بِحَفر الخَنْدَق الَّذِي هُوَ سَبَب لفَوَات صلَاتهم قَوْله " مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر ". اعْلَم أَن كَاد من أَفعَال المقاربة وَهِي على ثَلَاثَة أَنْوَاع نوع مِنْهَا وضع للدلالة على قرب الْخَبَر وَهُوَ كَاد وكرب وأوشك وَالرَّاجِح فِي كَاد أَن لَا يقرن بِأَن عكس عَسى وَقد وَقع فِي رِوَايَة مُسلم " حَتَّى كَادَت الشَّمْس أَن تغرب " قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) ظَاهره يَقْتَضِي أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صلى قبل الْغُرُوب (قلت) لَا نسلم بل يَقْتَضِي أَن كيدودته كَانَت عِنْد كيدودتها وَلَا يلْزم وُقُوع الصَّلَاة فِيهَا بل يلْزم أَن لَا تقع الصَّلَاة فِيهَا إِذْ حَاصله عرفا مَا صليت حَتَّى غربت الشَّمْس وَقَالَ الْيَعْمرِي إِذا تقرر أَن معنى كَاد المقاربة فَقَوْل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَا كدت أُصَلِّي الْعَصْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب مَعْنَاهُ أَنه صلى الْعَصْر قرب غرُوب الشَّمْس لِأَن نفي الصَّلَاة يَقْتَضِي إِثْبَاتهَا وَإِثْبَات الْغُرُوب يَقْتَضِي نَفْيه فَيحصل من ذَلِك لعمر ثُبُوت الصَّلَاة وَلم يثبت الْغُرُوب وَقَالَ بَعضهم لَا يخفى مَا بَين التقريرين من الْفرق وَمَا ادَّعَاهُ من الْفرق مَمْنُوع وَكَذَلِكَ العندية للْفرق الَّذِي أوضحه الْيَعْمرِي من الْإِثْبَات وَالنَّفْي لِأَن كَاد إِذا أَثْبَتَت نفت وَإِذا نفت أَثْبَتَت هَذَا مَعَ مَا فِي تَعْبِيره بِلَفْظ كيدودة من الثّقل انْتهى (قلت) كل ذَلِك لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن كَاد إِذا دخل عَلَيْهِ النَّفْي فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب. الأول أَنَّهَا كالأفعال إِذا تجردت من النَّفْي كَانَ مَعْنَاهُ إِثْبَاتًا وَإِن دخل عَلَيْهَا نفي كَانَ مَعْنَاهَا نفيا لِأَن قَوْلك كَاد زيد يقوم مَعْنَاهُ إِثْبَات قرب الْقيام لَا إِثْبَات نفس الْقيام فَإِذا قلت مَا كَاد زيد يفعل فَمَعْنَاه نفي قرب الْفِعْل. الثَّانِي أَنه إِذا دخل عَلَيْهَا النَّفْي كَانَت للإثبات. الثَّالِث إِذا دخل عَلَيْهَا حرف النَّفْي ينظر هَل دخل على الْمَاضِي أَو على الْمُسْتَقْبل فَإِن كَانَ مَاضِيا فَهِيَ للإثبات وَإِن كَانَ مُسْتَقْبلا فَهِيَ كالأفعال وَالأَصَح هُوَ الْمَذْهَب الأول نَص عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب وَإِذا تقرر هَذَا فكاد هَهُنَا دخل عَلَيْهِ النَّفْي فَصَارَ مَعْنَاهُ نفيا يَعْنِي نفي قرب الصَّلَاة كَمَا فِي قَوْلك مَا كَاد زيد يفعل نفي قرب الْفِعْل فَإِذا نفى قرب الصَّلَاة فنفي الصَّلَاة بطرِيق الأولى وَقَوله " حَتَّى كَادَت الشَّمْس تغرب " حَال عَن النَّفْي فَهِيَ كَسَائِر الْأَفْعَال وَقَول الْيَعْمرِي يُشِير إِلَى الْمَذْهَب الثَّالِث وَهُوَ غير صَحِيح وَلَا يمشي هَهُنَا أَيْضا (فَإِن قلت) قَوْله تَعَالَى {فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يساعد الْمَذْهَب الثَّالِث لِأَن كَاد هَهُنَا دخل عَلَيْهَا النَّفْي وَهُوَ مَاض(5/90)
وَاقْتضى الْإِثْبَات أَن لفعل الذّبْح وَاقع بِلَا شكّ (قلت) لَيْسَ فعل الذّبْح مستفادا من كَاد بل من قَوْله {فذبحوها} وَالْمعْنَى فذبحوها مجبرين وَمَا قاربوا فعل الذّبْح مختارين أَو نقُول فذبحوها بعد التَّرَاخِي وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ على الْفَوْر بِدَلِيل أَنهم سَأَلُوا سؤالا بعد سُؤال وَلم يبادروا إِلَى الذّبْح من حِين أمروا بِهِ قَوْله " بطحان " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء وَقيل بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه وَهُوَ وَاد بِالْمَدِينَةِ قَوْله " فصلى الْعَصْر " أَي صَلَاة الْعَصْر وَوَقع فِي الْمُوَطَّأ من طَرِيق أُخْرَى أَن الَّذِي فاتهم الظّهْر وَالْعصر وَفِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَفِي لفظ النَّسَائِيّ " حبسنا عَن صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء " وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه " أَن الْمُشْركين شغلوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق " الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم وَفِي قَوْله " أَربع " تجوز لِأَن الْعشَاء لم تكن فَاتَت (قلت) مَعْنَاهُ أَن الْعشَاء فَاتَتْهُ عَن وَقتهَا الَّذِي كَانَ يُصليهَا فِيهَا غَالِبا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا فَاتَت عَن وَقتهَا الْمَعْهُود وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الصَّحِيح أَن الصَّلَاة الَّتِي شغل عَنْهَا وَاحِدَة وَهِي الْعَصْر وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر " قَالَ وَمِنْهُم من جمع بِأَن الخَنْدَق كَانَت وقعته أَيَّامًا وَكَانَ ذَلِك فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة فِي تِلْكَ الْأَيَّام قَالَ وَهَذَا أولى (فَإِن قلت) تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة فِي ذَلِك الْيَوْم كَانَ نِسْيَانا أَو عمدا فَقيل كَانَ نِسْيَانا وَيُمكن أَن يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث ابْن لَهِيعَة أَن أَبَا جُمُعَة حبيب بن سِبَاع قَالَ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْأَحْزَاب صلى الْمغرب فَلَمَّا فرغ قَالَ هَل علم أحد مِنْكُم أَنِّي صليت الْعَصْر قَالُوا لَا يَا رَسُول الله مَا صليتها فَأمر الْمُؤَذّن فَأَقَامَ فصلى الْعَصْر ثمَّ أعَاد الْمغرب " وَقيل كَانَ عمدا لكِنهمْ شغلوه وَلم يمكنوه من ذَلِك وَهُوَ أقرب (فَإِن قلت) هَل يجوز الْيَوْم تَأْخِير الصَّلَاة بِسَبَب الِاشْتِغَال بالعدو والقتال (قلت) الْيَوْم لَا يجوز تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا بل يُصَلِّي صَلَاة الْخَوْف وَكَانَ ذَلِك الِاشْتِغَال عذرا فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ كَانَ قبل نزُول صَلَاة الْخَوْف (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز سبّ الْمُشْركين وَلَكِن المُرَاد مَا لَيْسَ بفاحش إِذْ هُوَ اللَّائِق بِمنْصب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه جَوَاز الْحلف من غير استحلاف إِذا ثبتَتْ على ذَلِك مصلحَة دينية وَقَالَ النَّوَوِيّ هُوَ مُسْتَحبّ إِذا كَانَت فِيهِ مصلحَة من توكيد الْأَمر أَو زِيَادَة طمأنينة أَو نفي توهم نِسْيَان أَو غير ذَلِك من الْمَقَاصِد الصَّالِحَة وَإِنَّمَا حلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تطبيبا لقلب عمر لما شقّ عَلَيْهِ تَأْخِيرهَا وَقيل يحْتَمل أَنه تَركهَا نِسْيَانا لاشتغاله بِالْقِتَالِ فَلَمَّا قَالَ عمر ذَلِك تذكر وَقَالَ وَالله مَا صليتها وَفِي رِوَايَة مُسلم " وَالله إِن صليتها " وَإِن بِمَعْنى مَا. وَفِيه أَن الظَّاهِر أَنه صلاهَا بِجَمَاعَة فَيكون فِيهِ دلَالَة على مَشْرُوعِيَّة الْجَمَاعَة فِي الْفَائِتَة وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وشذ اللَّيْث فَمنع من ذَلِك وَيرد عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث الْوَادي وَفِيه احتجاج من يرى امتداد وَقت الْمغرب إِلَى مغيب الشَّفق لِأَنَّهُ قدم الْعَصْر عَلَيْهَا وَلَو كَانَ ضيقا لبدأ بالمغرب لِئَلَّا يفوت وَقتهَا أَيْضا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي قَوْله الْجَدِيد فِي وَقت الْمغرب أَنه مضيق وقته. وَفِيه دَلِيل على عدم كَرَاهِيَة من يَقُول مَا صليت وروى البُخَارِيّ عَن ابْن سِيرِين أَنه كره أَن يُقَال فاتتنا وَليقل لم ندرك وَقَالَ البُخَارِيّ وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصح. وَفِيه مَا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِ من مَكَارِم الْأَخْلَاق وَحسن التأني مَعَ أَصْحَابه وتألفهم وَمَا يَنْبَغِي الِاقْتِدَاء بِهِ فِي ذَلِك. وَفِيه مَا يدل على وجوب التَّرْتِيب بَين الصَّلَاة الوقتية والفائتة وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَاللَّيْث وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر وَقَالَ طَاوس التَّرْتِيب غير وَاجِب وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْقَاسِم وَسَحْنُون وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة وَمذهب مَالك وجوب التَّرْتِيب كَمَا قُلْنَا وَلَكِن لَا يسْقط بِالنِّسْيَانِ وَلَا بِضيق الْوَقْت وَلَا بِكَثْرَة الْفَوَائِت كَذَا فِي شرح الْإِرْشَاد وَفِي شرح الْمجمع وَالصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ من مَذْهَب مَالك سُقُوط التَّرْتِيب بِالنِّسْيَانِ كَمَا نطقت كتب مذْهبه وَعند أَحْمد لَو تذكر الْفَائِتَة فِي الوقتية يُتمهَا ثمَّ يُصَلِّي الْفَائِتَة ثمَّ يُعِيد الوقتية وَذكر بعض أَصْحَابه أَنَّهَا تكون نَافِلَة وَهَذَا يُفِيد وجوب التَّرْتِيب وَعند زفر من ترك صَلَاة شهر بعد المتروكة لَا تجوز الْحَاضِرَة وَقَالَ ابْن أبي ليلى من ترك صَلَاة لَا تجوز صَلَاة سنة بعْدهَا وَاسْتدلَّ صَاحب الْهِدَايَة وَغَيره فِي مَذْهَبنَا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(5/91)
" من نسي صَلَاة فَلم يذكرهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الإِمَام فليتم صلَاته فَإِذا فرغ من صلَاته فليعد الَّتِي نسي ثمَّ ليعد الَّتِي صلاهَا مَعَ الإِمَام " وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ صَحِيح أَنه من قَول ابْن عمر كَذَا رَوَاهُ مَالك عَن ابْن عمر من قَوْله وَقَالَ عبد الْحق وَقد وَقفه سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَوَثَّقَهُ يحيى بن معِين (قلت) وَأخرجه أَبُو حَفْص بن شاهين مَرْفُوعا وَاسْتدلَّ أَيْضا من يرى وجوب التَّرْتِيب بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ أَبُو بكر هُوَ بَاطِل وتأوله جمَاعَة على معنى لَا نَافِلَة لمن عَلَيْهِ فَرِيضَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا نَسْمَعهُ على أَلْسِنَة النَّاس وَمَا عرفنَا لَهُ أصلا وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قيل لِأَحْمَد بن حَنْبَل مَا معنى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاة من عَلَيْهِ صَلَاة " قَالَ لَا أعرف هَذَا الْبَتَّةَ. وَفِيه مَا اسْتدلَّ بِهِ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان للفائتة وَأجَاب من اعْتَبرهُ بِأَن الْمغرب كَانَت حَاضِرَة وَلم يذكر الرَّاوِي الْأَذَان لَهَا اعْتِمَادًا على أَن من عَادَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَان للحاضرة فالترك من الرَّاوِي لِأَنَّهُ لم يَقع فِي نفس الْأَمر وَاعْترض بِاحْتِمَال وُقُوع الْمغرب بعد خُرُوج الْوَقْت بعد نهي إيقاعها فِيهِ (قلت) هَذَا الِاعْتِرَاض على مَذْهَب من يرى بِضيق وَقت الْمغرب وَمَعَ هَذَا ينْدَفع بتقديمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْر عَلَيْهَا وَهُوَ حجَّة على من يرى بِضيق وَقت الْمغرب وَالله تَعَالَى أعلم
37 - (بابُ منْ نَسِيَ صلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذا ذَكَرهَا وَلاَ يُعِيدُ إلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن من نسي صَلَاة حَتَّى خرج وَقتهَا فليصلها إِذا ذكرهَا. وَلَا يُعِيد إلاَّ تِلْكَ الصَّلَاة، أَي: لَا يَقْضِيهَا. وَفِي بعض النّسخ: وَلَا يعدو الْفرق بَينهمَا أَن الأول نفي، وَالثَّانِي نهي.
وَقَالَ إبْراهِيمُ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً واحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ الوَاحِدَةَ إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: (من نسي صَلَاة فَليصل إِذا ذكرهَا) أَعم من أَن يكون ذكره إِيَّاهَا بعد النسْيَان بعد شهر أَو سنة أَو أَكثر من ذَلِك، وَقَيده بِعشْرين سنة للْمُبَالَغَة، وَالْمَقْصُود أَنه لَا يجب عَلَيْهِ إِلَّا إِعَادَة الصَّلَاة الَّتِي نَسِيَهَا خَاصَّة فِي أَي وَقت ذكرهَا. وَأخرج الثَّوْريّ هَذَا فِي (جَامعه) مَوْصُولا عَن مَنْصُور وَغَيره عَن إِبْرَاهِيم، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْأَثر إِلَى تَقْوِيَة قَوْله: (وَلَا يُعِيد إلاَّ تِلْكَ الصَّلَاة) ، وَيحْتَمل أَنه أَشَارَ أَيْضا إِلَى تَضْعِيف مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث أبي قَتَادَة عِنْد مُسلم فِي قَضِيَّة النّوم عَن الصَّلَاة، حَيْثُ قَالَ: (فَإِذا كَانَ الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا) ، فبعضهم زعم أَن ظَاهره إِعَادَة المقضية مرَّتَيْنِ: عِنْد ذكرهَا وَعند حُضُور مثلهَا من الْوَقْت الْآتِي. وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن اللَّفْظ الْمَذْكُور لَيْسَ نصا فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (فليصلها عِنْد وَقتهَا) ، أَي: الصَّلَاة الَّتِي تحضر، لَا أَنه يُرِيد أَن يُعِيد الَّتِي صلاهَا بعد خُرُوج وَقتهَا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمرَان بن الْحصين فِي هَذِه الْقِصَّة: (من أدْرك مِنْكُم صَلَاة الْغَدَاة من غَد صَالحا فليقض مَعهَا مثلهَا) قلت: قَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا قَالَ بِظَاهِرِهِ وجوبا، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْأَمر فِيهِ للاستحباب ليحرز فَضِيلَة الْوَقْت فِي الْقَضَاء. انْتهى. وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: أَن هَذَا غلط من رِوَايَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَيْضا: (أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله، أَلا نقضيها لوَقْتهَا من الْغَد؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَنْهَاكُم الله عَن الرِّبَا وَيَأْخُذهُ مِنْكُم؟) .
597 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ ومُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالاَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذا ذَكَرَها لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إلاَّ ذلِكَ وأقِمِ الصَّلاَةَ لِلْذِكْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّالِث: همام بن يحيى. الرَّابِع: قَتَادَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث عَن شيخين: أَحدهمَا: كُوفِي وَهُوَ أَبُو نعيم، وَبَقِيَّة الروَاة بصريون. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن(5/92)
هدبة بن خَالِد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن همام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من نسي صَلَاة فَليصل) ، كَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات: (فَليصل) ، بِحَذْف الضَّمِير الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول، وَرَوَاهُ مُسلم عَن هدبة بن خَالِد بِلَفْظ: (فليصلها) ، وَزَاد أَيْضا من رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة: (أَو نَام عَنْهَا) ، وَلمُسلم أَيْضا فِي رِوَايَة أُخْرَى: (إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله يَقُول: {أقِم الصَّلَاة لذكري} ) (طاه: 14) . وَعند النَّسَائِيّ: (أَو يغْفل عَنْهَا، فَإِن كفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا) . وَعند ابْن مَاجَه: (سُئِلَ عَن الرجل، يغْفل عَن الصَّلَاة أَو يرقد عَنْهَا، قَالَ: يُصليهَا إِذا ذكرهَا) . وَفِي (مُعْجم) أبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن جَمِيع الغساني: عَن قَتَادَة عَن أنس: (إِذا ذكرهَا أَو إذااستيقظ) . قَوْله: (إِذا ذكر) ، أَي: إِذا ذكرهَا. فَإِن قلت: هَذَا يَقْتَضِي أَن يلْزم الْقَضَاء فِي الْحَال إِذا ذكر، مَعَ أَن الْقَضَاء من جملَة الْوَاجِبَات الموسعة إتفاقا؟ قلت: أُجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ لَو تذكرها ودام ذَلِك التَّذَكُّر مُدَّة، وَصلى فِي أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة، صدق أَنه صلى حِين التَّذَكُّر وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون فِي أول حَال التَّذَكُّر، وَجَوَاب آخر: أَن: إِذا، للشّرط كَأَنَّهُ قَالَ: فَليصل، إِذا ذكر، يَعْنِي: لَو لم يذكرهُ لَا يلْزم عَلَيْهِ الْقَضَاء، أَو: جَزَاؤُهُ مُقَدّر مُقَدّر يدل عَلَيْهِ الْمَذْكُور أَي: إِذا ذكر فليصلها، وَالْجَزَاء لَا يلْزم أَن يَتَرَتَّب على الشَّرْط فِي الْحَال، بل يلْزم أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة. قَوْله: (لَا كَفَّارَة لَهَا إلاَّ ذَلِك) أَي: لَا كَفَّارَة لتِلْك الصَّلَاة المنسية إلاَّ فعلهَا، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْقَضَاء الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فليصلها إِذا ذكرهَا) ، لِأَن الصَّلَاة عِنْد الذّكر هِيَ الْقَضَاء، وَالْكَفَّارَة عبارَة عَن الْخصْلَة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة، أَي: تسترها، وَهِي على وزن: فعَّالة، للْمُبَالَغَة، وَهِي، من الصِّفَات الْغَالِبَة فِي الإسمية. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا يحْتَمل على وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه لَا يكفرهَا غير قَضَائهَا، وَالْآخر: أَنه لَا يلْزمه فِي نسيانها غَرَامَة، وَلَا صَدَقَة وَلَا زِيَادَة تَضْعِيف لَهَا، إِنَّمَا يُصَلِّي مَا ترك. قَوْله: (أقِم الصَّلَاة لذكري) ، بِالْألف وَاللَّام وَفتح الرَّاء بعْدهَا مَقْصُورَة، ووزنها: فعلى، مصدر من ذكر يذكر، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس أَن الزُّهْرِيّ كَانَ يقْرؤهَا كَذَلِك، وَالْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة: لذكري، بلام وَاحِدَة وَكسر الرَّاء، كَمَا يَجِيء الْآن، وعَلى الْقِرَاءَتَيْن اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِهَذَا، فَقيل: الْمَعْنى لتذكرني فِيهَا، وَقيل: لأَذْكُرك بالمدح وَالثنَاء وَقيل: لأوقات الذكرى، وَهِي مَوَاقِيت الصَّلَاة. وَقيل: لذكري لِأَنِّي ذكرتها فِي الْكتب وَأمرت بهَا، وَقيل: لذكري خَاصَّة لَا ترائي بهَا وَلَا تشبها بِذكر غَيْرِي، وَقيل: شكرا لذكري. وَقيل: أَي أذكر أَمْرِي. وَقيل: إِذا ذكرت الصَّلَاة فقد ذَكرتني فَإِن الصَّلَاة عبَادَة الله، فَمَتَى ذكر المعبود فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لذكر الصَّلَاة. وَقَالَ التوربشتي: هَذِه الْآيَة تحْتَمل وُجُوهًا كَثِيرَة من التَّأْوِيل، لَكِن الْوَاجِب أَيْضا أَن يُصَار إِلَى وَجه يُوَافق الحَدِيث. فَالْمَعْنى: أقِم الصَّلَاة لذكرها لِأَنَّهُ إِذا ذكرهَا فقد ذكر الله تَعَالَى، أَو: يقدرالمضاف أَي: لذكر صَلَاتي، أَو: وَقع ضمير الله فِي مَوضِع ضمير الصَّلَاة لشرفها وخصوصيتها.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: الْأَمر بِقَضَاء النَّاسِي من غير إِثْم، وَكَذَلِكَ النَّائِم سَوَاء كثرت الصَّلَاة أَو قلت، وَهَذَا مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة، وشذ بَعضهم فِيمَن زَاد على خمس صلوَات بِأَنَّهُ لَا يلْزمه قَضَاء، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَلَا يعْتد بِهِ، فَإِن تَركهَا عَامِدًا فالجمهور على وجوب الْقَضَاء أَيْضا، وَحكي عَن دَاوُد وَجمع يسير عد ابْن حزم، مِنْهُم خَمْسَة من الصَّحَابَة، عدم وجوب قَضَاء الصَّلَاة على الْعَامِد لِأَن انْتِفَاء الشَّرْط يستلزمم انْتِفَاء الْمَشْرُوط، فَيلْزم مِنْهُ أَن من لم ينس لَا يُصَلِّي إِذا ذكر، والخمسة الَّذين ذكرهم ابْن حزم من الصَّحَابَة وهم: عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَغَيرهم: الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَبُدَيْل بن ميسرَة وَمُحَمّد بن سِيرِين ومطرف بن عبد الله وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَسَالم بن أبي الْجَعْد وَأَبُو عبد الرَّحْمَن الْأَشْعَرِيّ،. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْقَيْد بِالنِّسْيَانِ فِيهِ لِخُرُوجِهِ على الْغَالِب أَو لِأَنَّهُ مَا ورد على السَّبَب الْخَاص مثل أَن يكون ثمَّة سَائل عَن حكم قَضَاء الصَّلَاة المنسية، أَو أَنه إِذا وَجب الْقَضَاء على الْمَعْذُور فَغَيره أولى بِالْوُجُوب، وَهُوَ من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وَشرط اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُخَالف عدم الْخُرُوج وَعدم وُرُوده على السَّبَب الْخَاص، وَعدم مَفْهُوم الْمُوَافق، وَادّعى نَاس بِأَن وجوب الْقَضَاء على الْعَامِد يُؤْخَذ من قَوْله: (نسي) ، لِأَن النسْيَان يُطلق على التّرْك سَوَاء كَانَ عَن ذُهُول أم لَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} (الْحَشْر: 19) . {نسوا الله فنسيهم} (التَّوْبَة: 67) . أَي: تركُوا أمره فتركهم فِي الْعَذَاب، قَالُوا: وَيُقَوِّي ذَلِك قَوْله: (لَا كَفَّارَة لَهَا) ، والنائم وَالنَّاسِي لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَضَعفه بَعضهم بِأَن(5/93)
الْخَبَر بِذكر النَّائِم ثَابت، وَقد قَالَ فِيهِ: لَا كَفَّارَة لَهَا، وَالْكَفَّارَة قد تكون عَن الْخَطَأ كَمَا تكون عَن الْعمد. قلت: كَمَا فِي قتل الْخَطَأ، فَإِن فِيهِ الْكَفَّارَة، وَيُجَاب بِهَذَا أَيْضا عَن اعْتِرَاض معترض بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان) . وَأَيْضًا إِنَّهُم لما توهموا أَن فِي هَذَا الْفِعْل كَفَّارَة، بيَّن لَهُم أَن لَا كَفَّارَة فِيهَا، وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فَقَط من غير شَيْء آخر. وَقَالَ بَعضهم: وجوب الْقَضَاء بِالْخِطَابِ الأول. قلت: لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل فِيهِ خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ فِي أَن وُجُوبه بِأَمْر جَدِيد أَو بِالْأَمر الأول.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن أحدا لَا يُصَلِّي عَن أحد، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل أَيْضا أَن الصَّلَاة لَا تجبر بِالْمَالِ كَمَا يجْبر الصَّوْم وَغَيره، أللَّهم إلاَّ إِذا كَانَت عَلَيْهِ صلوَات فَائِتَة فحضره الْمَوْت فأوصى بالفدية عَنْهَا، فَإِنَّهُ يجوز كَمَا بَين فِي (الْفُرُوع) .
الرَّابِع: أَن بَعضهم احْتج بقوله: إِذا ذكر، على جَوَاز قَضَاء الْفَوَائِت فِي الْوَقْت الْمنْهِي عَن الصَّلَاة فِيهِ. قلت: لَيْسَ بِلَازِم أَن يُصَلِّي فِي أول حَال الذّكر، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن ذكره سَبَب لوُجُوب الْقَضَاء، فَإِذا ذكرهَا فِي الْوَقْت الْمنْهِي وأخرها إِلَى أَن يخرج ذَلِك وَصلى، يكون عَاملا بِالْحَدِيثين: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر: حَدِيث النَّهْي فِي الْوَقْت الْمنْهِي عَنهُ.
قَالَ مُوسَى قَالَ همَّامٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ وأقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي
أَي: قَالَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ أحد الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين فِي أول الحَدِيث: سمعته، يَعْنِي: سَمِعت قَتَادَة يَقُول بعد، بِضَم الدَّال، أَي: بعد زمَان رِوَايَة الحَدِيث، حَاصله أَن هماما سَمعه من قَتَادَة مرّة بِلَفْظ: للذِّكْرَى، يَعْنِي: بِقِرَاءَة ابْن شهَاب الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمرَّة بِلَفْظ: لذكري: أَي: بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَة. وَقد اخْتلف فِي هَذِه: هَل هِيَ من كَلَام قَتَادَة؟ أَو هِيَ من قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن هداب، قَالَ قَتَادَة: {وأقم الصَّلَاة لذكري} (طه: 14) . وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى من طَرِيق الْمثنى عَن قَتَادَة، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا رقد أحدكُم عَن الصَّلَاة أَو غفل عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {أقِم الصَّلَاة لذكري} (طه: 14) . وَهَذَا ظَاهر أَن الْجَمِيع من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ حَبَّانُ حدَّثنا هَمَّامُ قالَ حدَّثنا قَتَادَةُ حدَّثنا أنسٌ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نحوَهُ
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى بَيَان سَماع قَتَادَة من أنس لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، لِأَن قَتَادَة من المدلسين، وروى عَنهُ أَولا بِلَفْظ: عَن أنس، فَأَرَادَ أَن يقويه بالرواية عَنهُ بِلَفْظ: حَدثنَا أنس، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن عمار بن رَجَاء عَن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن هِلَال، وَفِيه: أَن همام بن يحيى سَمعه من قَتَادَة مرَّتَيْنِ، كَمَا فِي رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
(بَاب قضَاءِ الصَّلَوَاتِ الأُولَى فَالأُولَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة، والصلوات بِالْجمعِ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (قَضَاء الصَّلَاة) بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (الأولى) ، بِضَم الْهمزَة، أَي: حَال كَون الصَّلَاة الأولى فِي الْقَضَاء من الصَّلَوَات الْفَائِتَة، أَرَادَ أَنه يقدم الأولى ثمَّ الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ الأولى أَيْضا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِثَة، ثمَّ الثَّالِثَة الَّتِي هِيَ الأولى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّابِعَة، وهلم جرا.
598 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ هِشَامٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى هُوَ ابنُ أبي كَثِيرٍ عَنْ أبي سَلَمَةَ عنْ جَابِرٍ قَالَ جعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ وَقَالَ يَا رسولَ الله مَا كِدْتُ أصَلِّي العَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ قَالَ فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ فَصَلَّى بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ. .
هَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ جمَاعَة، قبل هَذَا الْبَاب بِبَاب، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى. وَهَهُنَا: عَن مُسَدّد عَن هِشَام الدستوَائي عَن يحيى ابْن أبي كثير، وَقَالَ بَعضهم: وَيحيى الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ الْقطَّان، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي. قلت: هُوَ غلط، لِأَن البُخَارِيّ صرح فِيهِ بقوله: يحيى هُوَ ابْن أبي كثير، ضد الْقَلِيل، وَاسم أبي كثير: صَالح(5/94)
ابْن المتَوَكل، وَقيل: غَيره. وَإِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ: بِلَفْظ، هُوَ لِأَنَّهُ لَيْسَ من كَلَام هِشَام، بل من كَلَام البُخَارِيّ، ذكره تعريفا لَهُ وَهُوَ غَايَة الِاحْتِيَاط فِي رِعَايَة أَلْفَاظ الشُّيُوخ. قَوْله: (جعل عمر) جعل هُنَا من أَفعَال المقاربة الَّتِي وضعت للشروع فِي الْخَبَر، وَهُوَ يعْمل عمل كَاد، إلاَّ أَن خَبره يجب أَن يكون جملَة. وَقَوله: (يسب) جملَة خَبره. قَوْله: (كفارهم) ، أَي: كفار قُرَيْش، ولكونه مَعْلُوما جَازَ عود الضَّمِير إِلَيْهِ من غير سبق ذكره، وَفِي رِوَايَة معَاذ بن فضَالة: (فَجعل يسب كفار قُرَيْش) ، قَوْله: (حَتَّى غربت الشَّمْس) ، هَذِه الرِّوَايَة صَرِيحَة فِي فَوَات الْعَصْر عَنهُ، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ بِجَمِيعِ تعلقاته هُنَاكَ، فَارْجِع إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
39 - (بابُ مَا يُكْرَهُ منَ السَّمَرِ بَعْدَ العِشَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من السمر بعد صَلَاة الْعشَاء، وَمرَاده من السمر مَا يكون فِي أَمر مُبَاح، وَأما الْمحرم فَلَا اخْتِصَاص لَهُ بِوَقْت، بل هُوَ حرَام فِي جَمِيع الْأَوْقَات، والسمر، بِفَتْح الْمِيم: من المسامرة. وَهِي: الحَدِيث بِاللَّيْلِ. وَرَوَاهُ بَعضهم بِسُكُون الْمِيم وَجعله الْمصدر، وأصل السمر: لون ضوء الْقَمَر لأَنهم كَانُوا يتحدثون فِيهِ.
السَّامِرُ مِنَ السَّمَرِ والْجَمْعُ السُّمَّارُ والسَّامِرُ ههُنَا فِي موضِعِ الْجَمُعِ هَذَا هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده، وَقَالَ بَعضهم: اسْتشْكل ذَلِك لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم للسامر ذكر فِي التَّرْجَمَة، وَالَّذِي يظْهر لي أَن المُصَنّف أَرَادَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {سامرا تهجرون} (الْمُؤْمِنُونَ: 67) . وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله هَهُنَا، أَي: فِي الْآيَة. قلت: لَا إِشْكَال فِي ذَلِك أصلا، وَدَعوى ذَلِك من قُصُور الْفَهم، وَالتَّعْلِيل بقوله لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم للسامر ذكر فِي التَّرْجَمَة غير موجه، وَلَا تَحْتَهُ طائل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما ذكر لفظ السمر الَّذِي هُوَ إِمَّا إسم وَإِمَّا مصدر، كَمَا ذكرنَا، أَشَارَ إِلَى لفظ: السامر، مُشْتَقّ من: السمر، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله: (السامر من السمر) ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن لفظ السامر تَارَة يكون مُفردا وَيكون بِهِ جمعه: سمار، بِضَم السِّين وَتَشْديد الْمِيم، كطالب وطلاب، وَكَاتب وَكتاب. وَتارَة يكون جمعا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: والسامر هَهُنَا، يَعْنِي فِي هَذَا الْموضع، وَذَلِكَ كالباقر والجامل للبقر وَالْجمال، يُقَال: سمر الْقَوْم وهم يسمرون بِاللَّيْلِ، أَي: يتحدثون فهم سمار وسامر، وَقَول هَذَا الْقَائِل: الَّذِي يظْهر لي ... إِلَى آخِره، أَخذه من كَلَام الْكرْمَانِي. وَكِلَاهُمَا تائه، وَمَتى ذكر الْآيَة هَهُنَا حَتَّى يَقُول: وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله هَهُنَا أَي فِي الْآيَة؟ وَهَذَا كَلَام صادر من غير تفكر وَلَا بَصِيرَة، وَالتَّحْقِيق مَا ذَكرْنَاهُ الَّذِي لم يطلع عَلَيْهِ شَارِح، وَلَا من بفكره قارح.
599 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا عَوْفٌ قَالَ حدَّثنا أبُو المِنْهَالِ قَالَ انْطَلَقْتُ مَعَ أبي إلَى أبي بَرَزَةَ الأَسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أبِي حَدِّثْنَا كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي المكْتُوبَةَ قَالَ كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ وَهْيَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ وَيُصَلِّي العصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إلَى أهْلِهِ فِي أقْصَى المَدِينَةِ والشَّمْسُ حَيَّةٌ ونَسِيتُ مَا قالَ فِي المَغْرِبِ قَالَ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَّ العِشَاءَ قَالَ وكانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا وكانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صلاَةِ الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ أحَدُنَا جَلِيسَهُ ويَقْرَأُ مِنَ السِّتِّينَ إلَى المِائَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَكَانَ يكره النّوم قبلهَا والْحَدِيث بعْدهَا) ، والْحَدِيث بعد الْعشَاء هُوَ السمر، وَهَذَا الحَدِيث إِلَى قَوْله: (ونسيت مَا قَالَ فِي الْمغرب) ، قد مر فِي: بَاب وَقت الظّهْر عِنْد الزَّوَال، رَوَاهُ: عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي الْمنْهَال، وَهَهُنَا: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن عَوْف الْأَعرَابِي عَن أبي الْمنْهَال سيار بن سَلامَة، وَاسم ابي بَرزَة: نَضْلَة بن عبيد الْأَسْلَمِيّ. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، هُنَاكَ بِجَمِيعِ تعلقاته. قَوْله: (حَدثنَا كَيفَ كَانَ) بِلَفْظ الْأَمر.(5/95)
40 - (بابُ السَّمَرِ فِي الفِقْهِ والخَيْرِ بَعْدَ العِشَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم السمر فِي الْفِقْه بِأَن يتباحثوا فِيهِ، وَإِنَّمَا خصّه بِالذكر، وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي الْخَيْر، تنويها بِذكرِهِ وتنبيها على قدره. قَوْله: (بعد الْعشَاء) أَي: بعد صَلَاة الْعشَاء، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسمر هُوَ وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْأَمر من أَمر الْمُسلمين) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن.
601 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزَّهْرِيِّ قَالَ حدَّثَنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله بنِ(5/96)
عُمَرَ وأبُو بَكْرِ بنُ أبي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةَ العِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قامَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أرَأيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مائَة لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ منَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عنْ مائَةِ سَنَةٍ وإنَّما قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ القَرْنَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَلَمَّا سلم قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى قَوْله: (فوهل النَّاس) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَأَبُو بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهُوَ ينْسب إِلَى جده، وَقد تقدمُوا فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، لِأَنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، فِي كتاب الْعلم: عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث بن سعد عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن خَالِد بن مُسَافر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء فِي آخر حَيَاته) ، إِلَى قَوْله: (أحد) وَمن قَوْله: (فوهل النَّاس) إِلَى آخِره، وزاده هَهُنَا فِي هَذِه الرِّوَايَة.
بَيَان مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرَأَيْتكُم) مَعْنَاهُ:
أعلموني، وَالْكَاف للخطاب لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَالْمِيم يدل على الْجَمَاعَة، وَهَذِه مَوْضِعه نصب، وَالْجَوَاب مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فاحفظوها واحفظوا تاريخها. قَوْله: (فوهل) ، بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا، أَي: قَالَ ابْن عمر: فوهل النَّاس. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهل من الشَّيْء وَعَن الشَّيْء: إِذا غلط فِيهِ، ووهل إِلَيْهِ، بِالْفَتْح، إِذا ذهب وهمه إِلَيْهِ، وَهُوَ يُرِيد غَيره، مثل: وهم. وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي توهموا وغلطوا فِي التَّأْوِيل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يُقَال: وَهل، بِالْفَتْح يهل وهلاً، كضرب يضْرب ضربا أَي: غلط وَذهب همه إِلَى خلاف الصَّوَاب، وَهل، بِالْكَسْرِ، يوهل وهلاً، كحذر يحذر حذرا: أَي فزع. قَوْله (فِي مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (من مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من حَدِيثه. قَوْله: (إِلَى مَا يتحدثون من هَذِه الْأَحَادِيث) أَي: حَيْثُ تؤولونها بِهَذِهِ التأويلات الَّتِي كَانَت مَشْهُورَة بَينهم مشارا إِلَيْهَا عِنْدهم فِي الْمَعْنى المُرَاد عَن مائَة سنة. مثل: إِن المُرَاد بهَا انْقِرَاض الْعَالم بِالْكُلِّيَّةِ وَنَحْوه، لِأَن بَعضهم كَانَ يَقُول: إِن السَّاعَة تقوم عِنْد انْقِضَاء مائَة سنة، كَمَا روى ذَلِك الطَّبَرَانِيّ وَغَيره من حَدِيث أبي مَسْعُود البدري، ورد عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وغرض ابْن عمر: أَن النَّاس مَا فَهموا مَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْمقَالة، وَحملُوهَا على محامل كلهَا بَاطِلَة، وبيَّن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بذلك انخرام الْقرن عِنْد انْقِضَاء مائَة سنة من مقَالَته تِلْكَ، وَهُوَ الْقرن الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ، بِأَن تَنْقَضِي أهاليه وَلَا يبْقى مِنْهُم أحد بعد مائَة سنة، وَلَيْسَ مُرَاده أَن ينقرض الْعَالم بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ وَقع بالاستقراء، فَكَانَ آخر من ضبط عمره مِمَّن كَانَ مَوْجُودا حِينَئِذٍ أَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة، وَقد أجمع أهل الحَدِيث على أَنه كَانَ آخر الصَّحَابَة موتا، وَغَايَة مَا قيل فِيهِ: إِنَّه بَقِي إِلَى سنة عشر وَمِائَة، وَهِي رَأس مائَة سنة من مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِعْلَام من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أَعمار أمته لَيست تطول كأعمار من تقدم من الْأُمَم السالفة ليجتهدوا فِي الْعَمَل. قَوْله: (يُرِيد) أَي: يُرِيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَي: بقوله هَذَا: أَنَّهَا، أَي: مائَة سنة، يَعْنِي: مضيها. قَوْله: (تخرم) ، من الإخرام، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (ذَلِك الْقرن) أَي: الْقرن الَّذِي هُوَ فِيهِ، والقرن، بِفَتْح الْقَاف: كل طبقَة مقترنين فِي وَقت، وَمِنْه قيل لأهل كل مُدَّة أَو طبقَة بعث فِيهَا نَبِي: قرن، قلت: السنون أَو كثرت.
وَمِمَّا يستنبط من هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله: أَن السمر الْمنْهِي عَنهُ بعد الْعشَاء إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَكَانَ ابْن سِيرِين وَالقَاسِم وَأَصْحَابه يتحدثون بعد الْعشَاء، يَعْنِي فِي الْخَيْر، وَقَالَ مُجَاهِد: يكره السمر بعد الْعشَاء إلاَّ لمصل أَو لمسافر أَو دارس علم.
(بابُ السَّمَرِ معَ الضَّيْفِ والأَهْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السمر مَعَ الْأَهْل، وَأهل الرجل خاصته وَعِيَاله وحاشيته. فَإِن قلت: مَا وَجه إِفْرَاد هَذَا الْبَاب من(5/97)
الْبَاب السَّابِق مَعَ اشتماله عَلَيْهِ ودخوله فِيهِ؟ قلت: لانحطاط رتبته عَن الْبَاب السَّابِق، لِأَنَّهُ متمحص للطاعة لَا يَقع على غَيرهَا، وَهَذَا الْبَاب قد يكون بالسمر الْجَائِز أَو المتردد بَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب، فَلذَلِك أفردها بِالذكر.
601 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزَّهْرِيِّ قَالَ حدَّثَنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ وأبُو بَكْرِ بنُ أبي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةَ العِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قامَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أرَأيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مائَة لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ منَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عنْ مائَةِ سَنَةٍ وإنَّما قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ القَرْنَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَلَمَّا سلم قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى قَوْله: (فوهل النَّاس) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَأَبُو بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهُوَ ينْسب إِلَى جده، وَقد تقدمُوا فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، لِأَنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، فِي كتاب الْعلم: عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث بن سعد عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن خَالِد بن مُسَافر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء فِي آخر حَيَاته) ، إِلَى قَوْله: (أحد) وَمن قَوْله: (فوهل النَّاس) إِلَى آخِره، وزاده هَهُنَا فِي هَذِه الرِّوَايَة.
بَيَان مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَرَأَيْتكُم) مَعْنَاهُ:
أعلموني، وَالْكَاف للخطاب لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَالْمِيم يدل على الْجَمَاعَة، وَهَذِه مَوْضِعه نصب، وَالْجَوَاب مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فاحفظوها واحفظوا تاريخها. قَوْله: (فوهل) ، بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا، أَي: قَالَ ابْن عمر: فوهل النَّاس. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهل من الشَّيْء وَعَن الشَّيْء: إِذا غلط فِيهِ، ووهل إِلَيْهِ، بِالْفَتْح، إِذا ذهب وهمه إِلَيْهِ، وَهُوَ يُرِيد غَيره، مثل: وهم. وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي توهموا وغلطوا فِي التَّأْوِيل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يُقَال: وَهل، بِالْفَتْح يهل وهلاً، كضرب يضْرب ضربا أَي: غلط وَذهب همه إِلَى خلاف الصَّوَاب، وَهل، بِالْكَسْرِ، يوهل وهلاً، كحذر يحذر حذرا: أَي فزع. قَوْله (فِي مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (من مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من حَدِيثه. قَوْله: (إِلَى مَا يتحدثون من هَذِه الْأَحَادِيث) أَي: حَيْثُ تؤولونها بِهَذِهِ التأويلات الَّتِي كَانَت مَشْهُورَة بَينهم مشارا إِلَيْهَا عِنْدهم فِي الْمَعْنى المُرَاد عَن مائَة سنة. مثل: إِن المُرَاد بهَا انْقِرَاض الْعَالم بِالْكُلِّيَّةِ وَنَحْوه، لِأَن بَعضهم كَانَ يَقُول: إِن السَّاعَة تقوم عِنْد انْقِضَاء مائَة سنة، كَمَا روى ذَلِك الطَّبَرَانِيّ وَغَيره من حَدِيث أبي مَسْعُود البدري، ورد عَلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وغرض ابْن عمر: أَن النَّاس مَا فَهموا مَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْمقَالة، وَحملُوهَا على محامل كلهَا بَاطِلَة، وبيَّن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بذلك انخرام الْقرن عِنْد انْقِضَاء مائَة سنة من مقَالَته تِلْكَ، وَهُوَ الْقرن الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ، بِأَن تَنْقَضِي أهاليه وَلَا يبْقى مِنْهُم أحد بعد مائَة سنة، وَلَيْسَ مُرَاده أَن ينقرض الْعَالم بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ وَقع بالاستقراء، فَكَانَ آخر من ضبط عمره مِمَّن كَانَ مَوْجُودا حِينَئِذٍ أَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة، وَقد أجمع أهل الحَدِيث على أَنه كَانَ آخر الصَّحَابَة موتا، وَغَايَة مَا قيل فِيهِ: إِنَّه بَقِي إِلَى سنة عشر وَمِائَة، وَهِي رَأس مائَة سنة من مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِعْلَام من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن أَعمار أمته لَيست تطول كأعمار من تقدم من الْأُمَم السالفة ليجتهدوا فِي الْعَمَل. قَوْله: (يُرِيد) أَي: يُرِيد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَي: بقوله هَذَا: أَنَّهَا، أَي: مائَة سنة، يَعْنِي: مضيها. قَوْله: (تخرم) ، من الإخرام، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (ذَلِك الْقرن) أَي: الْقرن الَّذِي هُوَ فِيهِ، والقرن، بِفَتْح الْقَاف: كل طبقَة مقترنين فِي وَقت، وَمِنْه قيل لأهل كل مُدَّة أَو طبقَة بعث فِيهَا نَبِي: قرن، قلت: السنون أَو كثرت.
وَمِمَّا يستنبط من هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله: أَن السمر الْمنْهِي عَنهُ بعد الْعشَاء إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَكَانَ ابْن سِيرِين وَالقَاسِم وَأَصْحَابه يتحدثون بعد الْعشَاء، يَعْنِي فِي الْخَيْر، وَقَالَ مُجَاهِد: يكره السمر بعد الْعشَاء إلاَّ لمصل أَو لمسافر أَو دارس علم.
(بابُ السَّمَرِ معَ الضَّيْفِ والأَهْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السمر مَعَ الْأَهْل، وَأهل الرجل خاصته وَعِيَاله وحاشيته. فَإِن قلت: مَا وَجه إِفْرَاد هَذَا الْبَاب من الْبَاب السَّابِق مَعَ اشتماله عَلَيْهِ ودخوله فِيهِ؟ قلت: لانحطاط رتبته عَن الْبَاب السَّابِق، لِأَنَّهُ متمحص للطاعة لَا يَقع على غَيرهَا، وَهَذَا الْبَاب قد يكون بالسمر الْجَائِز أَو المتردد بَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب، فَلذَلِك أفردها بِالذكر.
602 - حدَّثنا أبُو النعْمَانِ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حدَّثنا أبُو عُثْمانَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبي بَكْرٍ أنَّ أصْحَابَ الصُّفَةِ كانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ كَانَ عَنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ وإنْ أرْبَعٌ فَخَامِسٌ أوْ سَادِسٌ وأنَّ أَبَا بَكْرٍ جاءَ بِثَلاَثَةٍ فانْطَلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَشْرَةٍ قَالَ فَهُوَ أَنا وَأبي وأُمِّي فلاَ أدْرِي قَالَ وامْرَأَتِي وخادِمٌ بَيْنَنا وبَيْنَ بَيْتِ أبي بَكْرٍ وأنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتِ العِشَاءُ ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعشَّى النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ الله قالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عنْ أضْيَافِكَ أوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ قَالَ أوَ مَا عَشَّيْتِهِمْ قالَتْ أبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عُرِضُوا فَأَبُوْا قَالَ فَذَهَبْتُ أَنا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثرُ فَجَدَّع وسبَّ وَقَالَ كُلُوا لَا هَنِيئا فَقَالَ وَالله لاَ أطْعَمَهُ أبدا وَايْمُ الله مَا كُنَّا ناخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلاَّ رَبَا مِنْ أسْفَلِهَا أكْثَرُ مِنْهَا قالَ يَعْنِي حتَّى شَبِعُوا وصارَتْ أكْثَرَ مِمَّا كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَظَرَ إلَيْهَا أبُو بَكْرٍ فإذَا هِي كمَا هِيَ أوْ أكْثَرَ مِنْهَا فَقَالَ ل اِمْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِي فِراسٍ مَا هَذَا قالَتْ ل اَ وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الآنَ أكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ فاكَلَ مِنْهَا أبُو بَكْرٍ وَقَالَ إنَّما كانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَعْنِي يَمِينَهُ ثُمَّ أكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصْبَحَتْ عِنْدَهُ وكانَ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ فَمَضَى الأجَلُ فَفَرَّقَنَا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مَعَ كلِّ رَجُل مِنْهُمْ أُنَاسٌ الله أعْلَمُ كَمْ مَعَ كلِّ رَجلٍ فأَكَلُوا مِنهَا أجْمَعُونَ أوْ كَما قَالَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَول أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لزوجته: (أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ؟) ، ومراجعته لخَبر الأضياف. وَقَوله: لاضيافه: (كلوا) ، وكل ذَلِك فِي معنى السمر الْمُبَاح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان السدُوسِي. الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان. الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل بن عَمْرو النَّهْدِيّ، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ وَمِائَة سنة، وَكَانَ قد أدْرك الْجَاهِلِيَّة، تقدم فِي بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: راوٍ من المخضرمين وَهُوَ: أَبُو عُثْمَان. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْأَدَب عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن عبيد الله بن معَاذ وحامد ابْن عمر وَمُحَمّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُؤَمل بن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن أَصْحَاب الصّفة) ، قَالَ النَّوَوِيّ: هم زهاد من الصَّحَابَة فُقَرَاء غرباء، كَانُوا يأوون إِلَى مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت لَهُم فِي آخِره صفة، وَهِي مَكَان مقتطع من الْمَسْجِد مظلل عَلَيْهِ يبيتُونَ فِيهِ، وَكَانُوا يقلون ويكثرون، وَفِي وَقت كَانُوا سبعين، وَفِي وَقت غير ذَلِك، فيزيدون بِمن يقدم عَلَيْهِم وينقصون بِمن يَمُوت أَو يُسَافر أَو يتَزَوَّج. وَفِي (التَّلْوِيح) :(5/98)
الصّفة، هُوَ مَوضِع مظلل فِي الْمَسْجِد كَانَ للْمَسَاكِين والغرباء، وهم الأوفاض، أَي: الْفرق والأخلاط من النَّاس يأوون إِلَيْهِ، وعدَّ مِنْهُم أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) مائَة ونيفا. قَوْله: (كَانُوا أُنَاسًا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كَانُوا نَاسا) ، بِلَا ألف، وَالنَّاس والأناس بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (فليذهب بثالث) ، أَي: من أَصْحَاب الصّفة، هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ الْأَصَح من رِوَايَة مُسلم: (فليذهب بِثَلَاثَة) ، لِأَن ظَاهرهَا صيرورتهم خَمْسَة، وَحِينَئِذٍ لَا يمسك رَمق أحد بِخِلَاف الْوَاحِد مَعَ الْإِثْنَيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَو حملت رِوَايَة مُسلم على ظَاهرهَا فسد الْمَعْنى، وَذَلِكَ أَن الَّذِي عِنْده طَعَام إثنين إِذا أكله فِي خَمْسَة لم يكف أحدا مِنْهُم، وَلَا يمسك رمقه، بِخِلَاف الْوَاحِد مَعَ الِاثْنَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالَّذِي فِي مُسلم أَيْضا لَهُ وَجه تَقْدِيره: فليذهب بِمن يتم بِثَلَاثَة، أَو بِتمَام ثَلَاثَة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام} (فصلت: 10) . أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لم يقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن طَعَام الْإِثْنَيْنِ يشْبع الثَّلَاثَة. إِنَّمَا قَالَ: يَكْفِي، وَهُوَ غير الشِّبَع، وَكَانَت الْمُوَاسَاة إِذْ ذَاك وَاجِبَة لشدَّة الْحَال. قَوْله: (وَإِن أَربع فخامس أَو سادس) أَي: وَإِن كَانَ عِنْده طَعَام أَربع فليذهب بخامس أَو بسادس، هَذَا وَجه الْجَرّ فِي: خامسٍ وسادسٍ، ويروى برفعهما، فوجهه كَذَلِك لَكِن بِإِعْطَاء الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ أَربع اعراب الْمُضَاف وَهُوَ: طَعَام، وبإضمار مُبْتَدأ للفظ: خَامِس. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (من كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فليذهب بخامس بسادس) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر السَّادِس إِذا كَانَ يتَصَوَّر السَّادِس إِذا كَانَ عِنْده طَعَام أَربع؟ قلت: مَعْنَاهُ: فليذهب بخامس أَو بسادس مَعَ الْخَامِس، وَالْعقل يدل عَلَيْهِ، إِذْ السَّادِس يسْتَلْزم خَامِسًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ فليذهب بِوَاحِد أَو بإثنين، وَالْحَاصِل أَن: أَو: لَا تدل على منع الْجمع بَينهمَا، وَيحْتَمل أَن يكون معنى: أَو سادس، وَأَن كَانَ عِنْده طَعَام خمس فليذهب بسادس، فَيكون من بَاب عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة. وَقَالَ ابْن مَالك: هَذَا الحَدِيث مِمَّا حذف فِيهِ بعد: أَن وَالْفَاء، فعلان وحرفا جرٍ باقٍ عملهما، وَتَقْدِيره: وَإِن قَامَ بأَرْبعَة فليذهب بخامس أَو بسادس، وَفِي (التَّوْضِيح) : كلمة: أَو، للتنويع وَقيل: للْإِبَاحَة. قَوْله: (وَانْطَلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ هُنَا: انْطلق، وَعَن أبي بكر قَالَ: جَاءَ لِأَن الْمَجِيء هُوَ الْمَشْي المقرب إِلَى الْمُتَكَلّم. والانطلاق الْمَشْي المبعد عَنهُ. قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن (فَهُوَ أَنا وَأبي وَأمي) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (فَهُوَ أَنا وَأمي) . وَقَوله: وَقَوله هُوَ ضمير الشان وانا مُبْتَدأ وَأبي وَأمي عطف عَلَيْهِ وَخَبره مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ السِّيَاق قَوْله (وَلَا ادري) كَلَام ابي عُثْمَان النَّهْدِيّ الرَّاوِي قَوْله (وخادم) ، بِالرَّفْع عطف على: امْرَأَتي، على تَقْدِير: أَن يكون لفظ: إمرأتي مَوْجُودا فِيهِ، وإلاَّ فَهُوَ عطف على: أُمِّي، قَوْله: (بَين بيتنا وَبَيت أبي بكر) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: (بَيْننَا وَبَين أبي بكر) يَعْنِي: مُشْتَرك خدمتها بَيْننَا وَبَين أبي بكر. وَقَوله: بَين، ظرف لخادم. قَوْله: (تعشى) أَي: أكل الْعشَاء، وَهُوَ بِفَتْح الْعين: الطَّعَام الَّذِي يُؤْكَل آخر النَّهَار. قَوْله: (ثمَّ لبث) أَي: فِي دَاره. قَوْله: (حَتَّى صليت) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، يَعْنِي لفظ: حَتَّى، وَفِي رِوَايَة غَيره: (حَيْثُ صليت) ، قَوْله: (الْعشَاء) أَي: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (ثمَّ رَجَعَ) أَي: إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي (صَحِيح) الْإِسْمَاعِيلِيّ، (ثمَّ ركع) ، بِالْكَاف أَي: صلى النَّافِلَة بعد الْعشَاء، فَدلَّ هَذَا على أَن قَول البُخَارِيّ: ثمَّ رَجَعَ، لَيْسَ مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الروَاة. قَوْله: (حَتَّى تعشى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَعند مُسلم: (حَتَّى نعس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَوْله: (قَالَت لَهُ) أَي لأبي بكر (امْرَأَته) وَهِي: أم رُومَان، بِضَم الرَّاء وَفتحهَا. وَقَالَ السُّهيْلي: اسْمهَا: دعد، وَقَالَ غَيره: زَيْنَب، وَهِي من بني فراس بن غنم بن مَالك بن كنَانَة. قَوْله: أَو ضيفك) شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (ضيفك) . فَأن قلت: هم كَانُوا ثَلَاثَة، فَلم أفرد؟ قلت: هُوَ لفظ الْجِنْس يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير، أَو مصدر يتَنَاوَل الْمثنى وَالْجمع. انْتهى. قلت: هَذَا السُّؤَال على أَن نسخته كَانَت: ضيفك، بِدُونِ. قَوْله: (أضيافك) ، وَلَكِن قَوْله: أَو مصدر، غير صَحِيح لفساد الْمَعْنى. قَوْله: (أَوَمَا عَشَّيْتِيهِم) الْهمزَة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة. ويروى: عشيتهم، بِالْيَاءِ الْحَاصِلَة من إشباع الكسرة. قَوْله: (أَبَوا) أَي: امْتَنعُوا، وامتناعهم من الْأكل رفقا بِهِ لظنهم أَنه لَا يجد عشَاء، فصبروا حَتَّى يَأْكُل مَعَهم. قَوْله: (قد عرضوا) بِفَتْح الْعين أَي: الْأَهْل من: الابْن وَالْمَرْأَة وَالْخَادِم. وَفِي رِوَايَة (فعرضنا عَلَيْهِم) ، ويروى: (قد عرضوا) على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: (قد عرصوا) ، بالصَّاد الْمُهْملَة. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا أعلم وَجها، وَيحْتَمل أَن يكون من: عرص إِذا نشط، فَكَأَن أهل الْبَيْت نشطوا فِي الْعَزِيمَة عَلَيْهِم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بِضَم الْعين أَي: عرض الطَّعَام على الأضياف، فَحذف الْجَار وأوصل الْفِعْل، أَو هُوَ من بَاب الْقلب، نَحْو: عرضت الْحَوْض على النَّاقة. قَوْله: (قَالَ فَذَهَبت) ، أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فاختبأت أَي: اختفيت، وَكَانَ اختفاؤه خوفًا من خصام(5/99)
أَبِيه لِأَنَّهُ لم يكن فِي الْمنزل من الرِّجَال غَيره، أَو لِأَنَّهُ أوصاه بهم. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أَبُو بكر: (يَا غنثر) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَضمّهَا أَيْضا، قَالَ ابْن قرقول: مَعْنَاهُ: يَا لئيم يَا دنيء. وَقيل: الثقيل الوخم. وَقيل: الْجَاهِل، من الغثارة وَهِي الْجَهْل، وَالنُّون زَائِدَة. وَقيل: مَأْخُوذ من الغثر وَهُوَ السُّقُوط. وَقَالَ عِيَاض: وَعَن بعض الشُّيُوخ: يَا عنتر، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ: الذُّبَاب الْأَزْرَق، شبهه بِهِ تحقيرا لَهُ، وَالْأول هُوَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، قَالَه النَّوَوِيّ. قَوْله: (فجدع) ، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة، أَي: دَعَا بالجدع، وَهُوَ قطع الْأنف أَو الْأذن أَو الشّفة، وَهُوَ بالأنف أخص. وَقيل: مَعْنَاهُ السب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِيهِ الْبعد لقَوْله: فجدع وَسَب، وَقَالَ ابْن قرقول: وَعند الْمروزِي بالزاي قَالَ: وَهُوَ وهم. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وكل ذَلِك من أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ابْنه ظنا مِنْهُ أَنه فرط فِي حق الأضياف، فَلَمَّا تبين لَهُ أَن ذَلِك كَانَ من الأضياف أدَّبهم بقوله: (كلوا لَا هَنِيئًا) ، وَحلف أَن لَا يطعمهُ. وَقيل: إِنَّه لَيْسَ بِدُعَاء عَلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ خبر، أَي: لم تتهنوا بِهِ فِي وقته. وَقَالَ السفاقسي: إِنَّمَا خَاطب بذلك أَهله لَا أضيافه. و: هَنِيئًا، مَنْصُوب على أَن فعله مَحْذُوف وَاجِب حذفه فِي السماع، وَالتَّقْدِير: هُنَاكَ الله هَنِيئًا، وهنيئا دخل عَلَيْهِ حرف النَّفْي. قَوْله: (وأيم الله) ، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي: ايم الله قسمي، وهمزته همزَة وصل لَا يجوز فِيهَا الْقطع عِنْد الْأَكْثَرين، وَالْأَصْل فِيهِ: يَمِين الله، ثمَّ جمع الْيَمين على أَيمن، وَلما كثر اسْتِعْمَاله فِي كَلَامهم خففوه بِحَذْف النُّون فَقَالُوا: ايم الله، وَفِيه لُغَات قد ذَكرنَاهَا فِي: بَاب الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم. قَوْله: (إلاَّ رَبَا) أَي: زَاد. قَوْله: (وَصَارَت) أَي: الْأَطْعِمَة. قَوْله: (أَكثر مِمَّا كَانَت) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة: أكبر، قَوْله: (فَإِذا هِيَ كَمَا هِيَ) ، أَي: فَإِذا الْأَطْعِمَة كَمَا هِيَ على حَالهَا لم تنقص شَيْئا، وَالْفَاء فِيهِ: فَاء المفاجأة. قَوْله: (فَقَالَ لامْرَأَته) ، أَي: فَقَالَ أَبُو بكر لزوجته. وَهِي: أم عبد الرَّحْمَن وَأم رُومَان. قَوْله: (يَا أُخْت بني فراس) إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك لِأَنَّهَا زَيْنَب بنت دهمان، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء، أحد بني فراس بن غنم بن مَالك بن كنَانَة، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ يَا من هِيَ من بني فراس. قَوْله: (مَا هَذَا؟) اسْتِفْهَام من أبي بكر عَن حَال الْأَطْعِمَة. قَوْله: (قَالَت: لَا وقرة عَيْني) ، كلمة: لَا، زَائِدَة للتَّأْكِيد، ونظائره مَشْهُورَة، وَيحْتَمل أَن تكون: لَا، نَافِيَة وَاسْمهَا مَحْذُوف أَي: لَا شَيْء غير مَا أَقُول، وَهُوَ قَوْلهَا: وقرة عَيْني، و: الْوَاو، فِيهِ وَاو الْقسم، و: قُرَّة الْعين، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: يعبر بهَا عَن المسرة، ورؤية مَا يحب الْإِنْسَان. قيل: إِنَّمَا قيل ذَلِك لِأَن عينه تقر لبلوغ أمْنِيته، وَلَا يستشرف لشَيْء فَيكون مشتقا من الْقَرار. وَقيل: مَأْخُوذ من القر، بِالضَّمِّ، وَهُوَ: الْبرد، أَي: إِن عينه بَارِدَة لسرورها وَعدم تقلقها. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أقرّ الله عينه، أَي: أبرد دمعه لِأَن دمعة الْفَرح بَارِدَة ودمعة الْحزن حارة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَرَادَت بقرَّة عينهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأقسمت بِهِ. وَقَالَ ثَعْلَب: تَقول قررت بِهِ عينا أقرّ. وَفِي (الْغَرِيب المُصَنّف) و (الْإِصْلَاح) : قررت وقررت قُرَّة وقرورا. وَفِي (كتاب الْمثنى) لِابْنِ عديس: وقرة، وَحَكَاهُ ابْن سَيّده، وَفِي (الصِّحَاح) : تقر وتقر، وَأقر الله عينه: أعطَاهُ حَتَّى تقر، فَلَا تطمح إِلَى من هُوَ فَوْقه. وَقَالَ ابْن خالويه: أَي: ضحِكت فَخرج من عَيْني مَاء قرور، وَهُوَ الْبَارِد، وَهُوَ ضد: أسخن الله عينه، قَالَ الْقَزاز: وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لَيْسَ كَمَا ذكر الْأَصْمَعِي من أَن دمعة الْفَرح بَارِدَة والحزن حارة، قَالَ: بل كل دمع حَار. قَالُوا: وَمعنى قَوْلهم: هُوَ قُرَّة عَيْني إِنَّمَا يُرِيدُونَ هُوَ: رضى نَفسِي. قَالَ: وقرة الْعين نَاقَة تُؤْخَذ من الْمغنم قبل أَن يقسم فيطبخ لَحمهَا ويصنع فيجتمع أهل الْعَسْكَر عَلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قبل الْقِسْمَة، فَإِن كَانَ من هَذَا فَكَأَنَّهُ دعى لَهُ بالفرج وَالْغنيمَة. وَفِي (كتاب الفاخر) : قَالَ أَبُو عَمْرو: مَعْنَاهُ أَنَام الله عَيْنك، الْمَعْنى: صَادف سُرُورًا أذهب سهره فَنَامَ، وَحكى القالي: أقرّ الله عَيْنك، وَأقر الله بِعَيْنِك. قَوْله: (فَأكل مِنْهَا) ، أَي: من الْأَطْعِمَة. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من الشَّيْطَان) ، يَعْنِي: يَمِينه وَهُوَ قَوْله: (وَالله لَا أطْعمهُ أبدا) ، قَوْله: (ثمَّ أكل مِنْهَا لقْمَة) ، وتكرار الْأكل مَعَ أَنه وَاحِد لأجل الْبَيَان. لِأَنَّهُ لما وَقع الأول أَرَادَ الْإِبْهَام بِأَنَّهُ أكل لقْمَة، أما تَركه الْيَمين ومخالفته لأجل إِتْيَانه بالأفضل، للْحَدِيث الَّذِي ورد فِيهِ، أَو كَانَ مُرَاده لَا أطْعمهُ مَعكُمْ، أَو: فِي هَذِه السَّاعَة، أَو: عِنْد الْغَضَب، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَنه يقبل التَّقْيِيد إِذا كَانَ اللَّفْظ عَاما، وعَلى أَن الِاعْتِبَار لعُمُوم اللَّفْظ أَو لخُصُوص السَّبَب. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من الشَّيْطَان) وَفِي رِوَايَة: الأولى من الشَّيْطَان يَعْنِي، يَمِينه، فأخزاه بِالْحِنْثِ الَّذِي هُوَ خير، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (لما جَاءَ بالقصعة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل مِنْهَا) . قَوْله: (فَأَصْبَحت عِنْده) أَي: أَصبَحت الْأَطْعِمَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عقد) أَي: عهد مهادنة، وَفِي(5/100)
رِوَايَة: (وَكَانَت بَيْننَا) ، والتأنيث بِاعْتِبَار المهادنة. وَقَوله: (ففرقنا) الْفَاء فِيهِ فَاء الفصيحة أَي: فجاؤوا إِلَى الْمَدِينَة، ففرقنا من التَّفْرِيق أَي: جعل كل رجل مَعَ اثْنَي عشر فرقة. وَفِي مُسلم: (فَعرفنَا) ، بِالْعينِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة: أَي: جعلنَا عرفاء نقباء على قَومهمْ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فقرينا) ، من: الْقرى، بِمَعْنى الضِّيَافَة. قَوْله: (اثْنَا عشر) ، وَفِي البُخَارِيّ ومعظم نسخ مُسلم (اثْنَي عشر) ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. الأول: على لُغَة من جعل الْمثنى بِالْألف فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة، وَقَالَ السفاقسي: لَعَلَّ ضَبطه: ففرقنا بِضَم الْفَاء الثَّانِيَة وبرفع: اثْنَا عشر، على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره: (مَعَ كل رجل مِنْهُم أنَاس) . قَوْله: (الله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة، أَي: أنَاس الله يعلم عَددهمْ. قَوْله: (كم مَعَ كل رجل) مُمَيّز: كم، مَحْذُوف أَي: كم رجل مَعَ كل رجل، قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ) ، شكّ من أبي عُثْمَان، وفاعل: قَالَ، عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن للسُّلْطَان إِذا رأى مسغبة أَن يُفَرِّقهُمْ على السعَة بِقدر مَا لَا يجحف بهم. قَالَ التَّيْمِيّ: وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن فِي المَال حقوقا سوى الزَّكَاة، وَإِنَّمَا جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِثْنَيْنِ وَاحِدًا، وعَلى الْأَرْبَعَة وَاحِدًا، وعَلى الْخَمْسَة وَاحِدًا، وَلم يَجْعَل على الْأَرْبَعَة والخمسة بِإِزَاءِ مَا يجب للإثنين مَعَ الثَّالِث، لِأَن صَاحب الْعِيَال أولى أَن يرفق بِهِ، وَالْحَاصِل فِيهِ أَن تشريك الزَّائِد على الْأَرْبَعَة لَا يضر بالباقين، وَكَانَت الْمُوَاسَاة إِذْ ذَاك وَاجِبَة لشدَّة الْحَال. وَزَاد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحِدًا وواحدا رفقا لصَاحب الْعِيَال، وضيق معيشة الْوَاحِد والإثنين أرْفق بهم من ضيق معيشة الْجَمَاعَات. وَفِيه: فَضِيلَة الإيثار والمواساة وَأَنه عِنْد كَثْرَة الإضياف يوزعهم الإِمَام على أهل الْمحلة وَيُعْطِي لكل وَاحِد مِنْهُم مَا يعلم أَنه يتحمله، وَيَأْخُذ هُوَ مَا يُمكنهُ، وَمن هَذَا أَخذ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فعله فِي عَام الرَّمَادَة على أهل كل بَيت مثلهم من الْفُقَرَاء، وَيَقُول لَهُم: لَمْ يهْلك امْرُؤ عَن نصف قوته، وَكَانَت الضَّرُورَة ذَلِك الْعَام، وَقد تَأَول سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي الْمُوَاسَاة فِي المسغبة قَوْله تَعَالَى: {ان الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ انفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} (التَّوْبَة: 111) . وَمَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمنِينَ يلْزمهُم الْقرْبَة فِي أَمْوَالهم لله تَعَالَى عِنْد توجه الْحَاجة إِلَيْهِم، وَلِهَذَا قَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن فِي المَال حَقًا سوى الزَّكَاة، وَورد فِي التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا. وَفِيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّارِع من الْأَخْذ بِأَفْضَل الْأُمُور، والسبق إِلَى السخاء والجود، فَإِن عِيَاله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانُوا قَرِيبا من عدد ضيفانه هَذِه اللَّيْلَة، فَأتى بِنصْف طَعَامه أَو نَحوه، وأتى أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِثلث طَعَامه أَو أَكثر. وَفِيه: الْأكل عِنْد الرئيس، وَإِن كَانَ عِنْد ضيف إِذا كَانَ فِي دَاره من يقوم بخدمتهم. وَفِيه: أَن الْوَلَد والأهل يلْزمهُم من خدمَة الضَّيْف مَا يلْزم صَاحب الْمنزل. وَفِيه: أَن الأضياف يَنْبَغِي لَهُم أَن يتأدبوا وينتظروا صَاحب الدَّار وَلَا يتهافتوا على الطَّعَام دونه. وَفِيه: الْأكل من طَعَام ظَهرت فِيهِ الْبركَة. وَفِيه: إهداء مَا ترجى بركته لأهل الْفضل. وَفِيه: أَن آيَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تظهر على يَد غَيره. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والانقطاع إِلَيْهِ وإيثاره فِي ليله ونهاره على الْأَهْل والأضياف. وَفِيه: كَرَامَة ظَاهِرَة للصديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: إِثْبَات كرامات الْأَوْلِيَاء، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَفِيه: جَوَاز تَعْرِيف العرفاء للعساكر وَنَحْوهم. وَفِيه: جَوَاز الاختفاء عَن الْوَالِد إِذا خَافَ مِنْهُ على تَقْصِير وَاقع مِنْهُ. وَفِيه: جَوَاز الدُّعَاء بالجدع والسب على الْأَوْلَاد عِنْد التَّقْصِير. وَفِيه: ترك الْجَمَاعَة لعذر. وَفِيه: جَوَاز الْخطاب للزَّوْجَة بِغَيْر اسْمهَا. وَفِيه: جَوَاز الْقسم بِغَيْر الله. وَفِيه: حمل المضيف الْمَشَقَّة على نَفسه فِي إكرام الضيفان، وَالِاجْتِهَاد فِي رفع الوحشة وتطييب قُلُوبهم. وَفِيه: جَوَاز ادخار الطَّعَام للغد. وَفِيه: مُخَالفَة الْيَمين إِذا رأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا. وَفِيه: أَن الرَّاوِي إِذا شكّ يجب أَن يُنَبه عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: لَا أَدْرِي هَل قَالَ: وامرأتي، وَمثل لَفْظَة: أَو كَمَا قَالَ، وَنَحْوهَا. وَفِيه: أَن الْحَاضِر يرى مَا لَا يرَاهُ الْغَائِب، فَإِن امْرَأَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لما رَأَتْ أَن الضيفان تَأَخَّرُوا عَن الْأكل تألمت لذَلِك، فبادرت حِين قدم تسأله عَن سَبَب تَأَخره مثل ذَلِك. وَفِيه: إِبَاحَة الْأكل للضيف فِي غيبَة صَاحب الْمنزل، وَأَن لَا يمتنعوا إِذا كَانَ قد أذن فِي ذَلِك، لإنكار الصّديق فِي ذَلِك. وَالله تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
10 - (كِتَابُ الأذَانِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الآذان. وَفِي بعض النّسخ، بعد الْبَسْمَلَة: أَبْوَاب الآذان. وَسَقَطت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ(5/101)
وَغَيره.
والآذان فِي اللُّغَة: الْإِعْلَام. قَالَ الله تَعَالَى: {وأذان من الله وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 3) . من: أذن يُؤذن تأذينا وأذانا، مثل: كلم يكلم تكليما وكلاما، فالأذان وَالْكَلَام: اسْم الْمصدر القياسي. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: وَالْأَذَان والأذين والتأذين بِمَعْنى. وَقيل: الأذين: الْمُؤَذّن، فعيل بِمَعْنى مفعل. وَأَصله من الْأذن كَأَنَّهُ يلقِي فِي آذان النَّاس بِصَوْتِهِ مَا يَدعُوهُم إِلَى الصَّلَاة. وَفِي الشَّرِيعَة: الْأَذَان إِعْلَام مَخْصُوص بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة فِي أَوْقَات مَخْصُوصَة، وَيُقَال: الْإِعْلَام بِوَقْت الصَّلَاة الَّتِي عينهَا الشَّارِع بِأَلْفَاظ مثناة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره: الْأَذَان على قلَّة أَلْفَاظه مُشْتَمل على مسَائِل العقيدة، لِأَنَّهُ بَدَأَ بالأكبرية، وَهِي تَتَضَمَّن وجود الله تَعَالَى وكماله، ثمَّ ثنى بِالتَّوْحِيدِ وَنفي الشَّرِيك، ثمَّ بِإِثْبَات الرسَالَة، ثمَّ دَعَا إِلَى الطَّاعَة الْمَخْصُوصَة عقيب الشَّهَادَة بالرسالة لِأَنَّهَا لَا تعرف إلاَّ من جِهَة الرَّسُول، ثمَّ دَعَا إِلَى الْفَلاح وَهُوَ الْبَقَاء الدَّائِم، وَفِيه الْإِشَارَة إِلَى الْمعَاد، ثمَّ أعَاد مَا أعَاد توكيدا. وَيحصل من الْأَذَان الْإِعْلَام بِدُخُول الْوَقْت، وَالدُّعَاء إِلَى الْجَمَاعَة، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام، وَالْحكمَة فِي اخْتِيَار القَوْل لَهُ دون الْفِعْل وسهولة القَوْل وتيسره لكل أحد فِي كل زمَان وَمَكَان، وَالله أعلم.
1 - (بابُ بِدْءَ الأَذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ابْتِدَاء الْأَذَان، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لفظ: بَاب.
وقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وإذَا نادَيْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ اتخذُوهَا هُزُوا ولَعِبا ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} (الْمَائِدَة: 58) . وقَولُهُ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ} (الْجُمُعَة: 9)
وَقَول الله مجرور لِأَنَّهُ عطف على لفظ: بَدْء، وَقَوله الثَّانِي عطف عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر هَاتين الْآيَتَيْنِ إِمَّا للتبرك أَو لإِرَادَة مَا بوب لَهُ: وَهُوَ بَدْء الْأَذَان. وَإِن ذَلِك كَانَ بِالْمَدِينَةِ، والآيتان المذكورتان مدنيتان. وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن فرض الْأَذَان نزل مَعَ الصَّلَاة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) . رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ، أما الْآيَة الأولي فَفِي سُورَة الْمَائِدَة، وإيراد البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة هَهُنَا إِشَارَة إِلَى بَدْء الْأَذَان بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة، كَمَا ذكرنَا. وَعَن هَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (تَفْسِيره) : قيل: فِيهِ دَلِيل على ثُبُوت الْأَذَان بِنَصّ الْكتاب لَا بالمنام وَحده. قَوْله: {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 58) . يَعْنِي: إِذا أذن الْمُؤَذّن للصَّلَاة، وَإِنَّمَا أضَاف النداء إِلَى جَمِيع الْمُسلمين لِأَن الْمُؤَذّن يُؤذن لَهُم ويناديهم، فأضاف إِلَيْهِم، فَقَالَ: {وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا} (الْمَائِدَة: 58) . يَعْنِي: الْكفَّار إِذا سمعُوا الْأَذَان استهزؤا بهم، وَإِذا رَأَوْهُمْ رُكُوعًا سجودا ضحكوا عَلَيْهِم واستهزأو بذلك. قَوْله: {ذَلِك} (الْمَائِدَة: 58) . يَعْنِي: الِاسْتِهْزَاء {بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} (الْمَائِدَة: 58) . يَعْنِي: لَا يعلمُونَ ثوابهم. وَقَالَ أَسْبَاط عَن السّديّ، قَالَ: (كَانَ رجل من النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذا سمع الْمُنَادِي يُنَادي: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، قَالَ: حرق الْكَاذِب، فَدخلت خادمته لَيْلَة من اللَّيَالِي بِنَار وَهُوَ نَائِم وَأَهله نيام، فَسَقَطت شرارة فأحرقت الْبَيْت فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهله) . رَوَاهُ ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم. وَأما الْآيَة الثَّانِيَة فَفِي سُورَة الْجُمُعَة، فَقَوله: {إِذا نُودي للصَّلَاة} (الْجُمُعَة: 9) . أَرَادَ بِهَذَا النداء الْأَذَان عِنْد قعُود الإِمَام على الْمِنْبَر للخطبة، ذكره النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) وَاخْتلفُوا فِي هَذَا، فَمنهمْ من قَالَ: إِن الْأَذَان كَانَ وَحيا لَا مناما. وَقيل: إِنَّه أَخذ من أَذَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْحَج. {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 27) ، قَالَ: فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: نزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه كَانَ برؤيا عبد الله بن زيد وَغَيره، على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَاعْلَم أَن النداء عدى فِي الْآيَة الأولى بِكَلِمَة: إِلَى، وَفِي الثَّانِيَة: بِاللَّامِ، لِأَن صَلَاة الْأَفْعَال تخْتَلف بِحَسب مَقَاصِد الْكَلَام، وَالْمَقْصُود فِي الأولى: معنى الِانْتِهَاء، وَفِي الثَّانِيَة: معنى الِاخْتِصَاص. وَيحْتَمل أَن يكون: إِلَى، بِمَعْنى: اللَّام، وَبِالْعَكْسِ، لِأَن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض.
603 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَاء عنْ أبي(5/102)
قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ ذكَرْوا النَّارَ والنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا اليَهُودَ والنَّصَارَي فَامِرَ بِلاَل أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وأنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن بَدْء الْأَذَان كَانَ بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَالًا، لأَنهم كَانُوا يصلونَ قبل ذَلِك فِي أَوْقَات الصَّلَوَات بالمناداة فِي الطّرق: الصَّلَاة الصَّلَاة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث أنس أَيْضا، رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب الْأَذَان) تأليفه، من حَدِيث عَطاء بن أبي مَيْمُونَة عَن خَالِد عَن أبي قلَابَة: (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَت الصَّلَاة إِذا حضرت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعى رجل فِي الطَّرِيق فينادي: الصَّلَاة الصَّلَاة، فَاشْتَدَّ ذَلِك على النَّاس، فَقَالُوا: لَو اتخذنا ناقوسا {فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاك لِلنَّصَارَى، فَقَالُوا: لَو اتخذنا بوقا} فَقَالَ: ذَاك للْيَهُود، فَقَالُوا: لَو رفعنَا نَارا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ذَاك للمجوس. فَأمر بِلَال ... .) الحَدِيث، وَعند الطَّبَرَانِيّ من هَذَا الطَّرِيق: (فَأمر بِلَالًا) . فَإِن قلت: قد أخرج التِّرْمِذِيّ فِي تَرْجَمَة بَدْء الْأَذَان حَدِيث عبد الله بن يزِيد مَعَ حَدِيث عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلِمَ اخْتَار البُخَارِيّ فِيهِ حَدِيث أنس؟ قلت: لِأَنَّهُ لم يكن على شَرطه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة وَقد تقدم. الثَّانِي: عبد الْوَارِث ابْن سعيد التنوري. الثَّالِث: خَالِد الْحذاء. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الْجرْمِي. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن عمرَان بن ميسرَة، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن خلف بن هِشَام، وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم، وَعَن عبيد الله بن عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعبد الرَّحْمَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل، وَعَن حميد بن مسْعدَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْوَهَّاب وَيزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الله بن الْجراح، وَعَن نصر بن عَليّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (والناقوس) ، وَهُوَ الَّذِي يضْربهُ النَّصَارَى لأوقات الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن سَيّده: النقس: ضرب من النواقيس، وَهُوَ الْخَشَبَة الطَّوِيلَة والوبيلة القصيرة. وَقَالَ الجواليقي: ينظر فِيهِ هَل هُوَ مُعرب أَو عَرَبِيّ؟ وَهُوَ على وزن: فاعول، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لم يَأْتِ فِي الْكَلَام: فاعول، لَام الْكَلِمَة فِيهِ: سين إلاَّ الناقوس. وَذكر ألفاظا أخر على هَذَا الْوَزْن، وَلم يذكر فِيهَا الناقوس، وَالظَّاهِر أَنه مُعرب. قَوْله: (فَذكرُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى) ، وَعبد الْوَارِث اختصر هَذَا الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة روح بن عَطاء عَن خَالِد عَن أبي الشَّيْخ، وَلَفظه: (فَقَالُوا: لَو اتخذنا ناقوسا، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ذَاك لِلنَّصَارَى، فَقَالُوا: لَو اتخذنا بوقا، فَقَالَ: ذَاك للْيَهُود، فَقَالُوا: لَو رفعنَا نَارا! فَقَالَ: ذَاك للمجوس) ، فعلى هَذَا كَأَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَة عبد الْوَارِث: وَذكروا النَّار والناقوس والبوق، فَذكرُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَهَذَا لف وَنشر غير مُرَتّب، لِأَن الناقوس لِلنَّصَارَى، والبوق للْيَهُود، وَالنَّار للمجوس. قَوْله: (فَأمر بِلَال) أَمر بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه الصِّيغَة يحْتَمل أَن يكون الْآمِر فِيهَا غير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه خلاف عِنْد الْأُصُولِيِّينَ كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالصَّوَاب وَعَلِيهِ الْأَكْثَر: أَنه مَرْفُوع لِأَن إِطْلَاق مثله ينْصَرف عرفا إِلَى صَاحب الْأَمر وَالنَّهْي. وَهُوَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: مَقْصُود من هَذَا الْكَلَام تَقْوِيَة مذْهبه، وقوى بَعضهم هَذَا بقوله: وَقد وَقع فِي رِوَايَة روح عَن عَطاء: فَأمر بِلَالًا، بِالنّصب، وفاعل: أَمر، هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: روى الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه الْكَبِير) من حَدِيث ابْن الْمُبَارك: عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه. وَأَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث الشّعبِيّ: عَنهُ، وَلَفظه: (أذن مثنى وَأقَام مثنى) . وَحَدِيث أبي مَحْذُورَة عِنْد التِّرْمِذِيّ مصححا: (علمه الْأَذَان مثنى مثنى، وَالْإِقَامَة مثنى مثنى) . وَحَدِيث أبي جُحَيْفَة: أَن بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (كَانَ يُؤذن مثنى مثنى) . وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث وَكِيع: عَن إِبْرَاهِيم ابْن إِسْمَاعِيل عَن مجمع بن حَارِثَة عَن عبيد، مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع كَانَ (يثني الآذان وَالْإِقَامَة) .(5/103)
حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة حَدثنَا مُحَمَّد بن سِنَان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن حَمَّاد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: (كَانَ ثَوْبَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُؤذن مثنى مثنى، وَيُقِيم مثنى مثنى) . حَدثنَا يزِيد بن سِنَان حَدثنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان حَدثنَا قطر بن خَليفَة عَن مُجَاهِد قَالَ: فِي الْإِقَامَة مرّة مرّة، إِنَّمَا هُوَ شَيْء أحدثه الْأُمَرَاء، وَأَن الأَصْل التَّثْنِيَة. قلت: وَقد ظهر لَك بِهَذِهِ الدَّلَائِل أَن قَول النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْإِقَامَة سبع عشرَة كلمة، وَهَذَا الْمَذْهَب شَاذ، قَول واهٍ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَكَيف يكون شاذا مَعَ وجود هَذِه الْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار الصَّحِيحَة؟ فَإِن قَالُوا: حَدِيث أبي مَحْذُورَة لَا يوازي حَدِيث أنس الْمَذْكُور من جِهَة وَاحِدَة، فضلا عَن الْجِهَات كلهَا، مَعَ أَن جمَاعَة من الْحفاظ ذَهَبُوا إِلَى أَن اللَّفْظَة فِي تَثْنِيَة الْإِقَامَة غير مَحْفُوظَة، ثمَّ رووا من طَرِيق البُخَارِيّ: عَن عبد الْملك بن أبي مَحْذُورَة: أَنه سمع أَبَا مَحْذُورَة يَقُول: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة) . قُلْنَا: قد ذكرنَا أَن التِّرْمِذِيّ صَححهُ، وَكَذَا ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان صححا هَذِه اللَّفْظَة، فَإِن قَالُوا: سلمنَا أَن هَذِه مَحْفُوظَة، وَأَن الحَدِيث ثَابت، وَلَكِن نقُول: إِنَّه مَنْسُوخ لِأَن أَذَان بِلَال هُوَ آخر الأذانين؟ قُلْنَا: لَا نسلم أَنه مَنْسُوخ، لِأَن حَدِيث بِلَال إِنَّمَا كَانَ أول مَا شرع الْأَذَان، كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث أنس، وَحَدِيث أبي مَحْذُورَة كَانَ عَام حنين، وَبَينهمَا مُدَّة مديدة. قَوْله: (ويوتر) ، بِالنّصب عطفا على: يشفع، من: أوتر إيتارا أَي: يَأْتِي بِالْإِقَامَةِ فُرَادَى.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: التَّصْرِيح بِأَن الْأَذَان مثنى مثنى، وَالْإِقَامَة فُرَادَى، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَحَاصِل مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن الْأَذَان تسع عشرَة كلمة بِإِثْبَات الترجيع، وَالْإِقَامَة إِحْدَى عشرَة، وَأسْقط مَالك تربيع التَّكْبِير فِي أَوله وَجعله مثنى، وَجعل الْإِقَامَة عشرَة بإفراد كلمة الْإِقَامَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالَّذِي جرى بِهِ الْعَمَل فِي الْحَرَمَيْنِ والحجاز وَالشَّام واليمن ومصر وَالْمغْرب إِلَى أقْصَى بِلَاد الْإِسْلَام: أَن الْإِقَامَة فُرَادَى، وَمذهب عَامَّة الْعلمَاء أَن يكون لفظ: قد قَامَت الصَّلَاة مكررا، إِلَّا مَالِكًا، فَالْمَشْهُور عَنهُ: أَنه لَا تَكْرِير، وَقَالَ: فرق بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة فِي التَّثْنِيَة والإفراد ليعلم أَن الْأَذَان إِعْلَام بورود الْوَقْت، وَالْإِقَامَة أَمارَة لقِيَام الصَّلَاة، وَلَو سوى بَينهمَا لاشتبه الْأَمر فِي ذَلِك، وَصَارَ سَببا لِأَن يفوت كثير من النَّاس صَلَاة الْجَمَاعَة إِذا سمعُوا الْإِقَامَة، فظنوا أَنَّهَا الْأَذَان. انْتهى. قلت: الْعجب من الْخطابِيّ كَيفَ يصدر عَنهُ مثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي تمجه الأسماع، وَمثل هَذَا الْفرق الَّذِي بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة غير صَحِيح، لِأَن الْأَذَان إِعْلَام الغائبين، وَلِهَذَا لَا يكون إِلَّا على الْمَوَاضِع الْعَالِيَة كالمنائر وَنَحْوهَا، وَالْإِقَامَة إِعْلَام الْحَاضِرين من الْجَمَاعَة للصَّلَاة، فَكيف يَقع الِاشْتِبَاه بَينهمَا؟ فَالَّذِي يتَأَمَّل الْكَلَام لَا يَقُول هَذَا، وَأبْعد من ذَلِك قَوْله: إِن تَثْنِيَة الْإِقَامَة تكون سَببا لفَوَات كثير من النَّاس صَلَاة الْجَمَاعَة لظنهم أَنَّهَا الْأَذَان، وَكَيف يظنون هَذَا وهم حاضرون، لِأَن الْإِقَامَة إِعْلَام الْحَاضِرين؟ وبمثل هَذَا الْكَلَام يحْتَج أحد لنصرة مذْهبه وتمشية قَوْله، وأعجب من هَذَا قَول الْكرْمَانِي: قَالَ أَبُو حنيفَة: تثنى الْإِقَامَة، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَكَيف يكون حجَّة عَلَيْهِ وَقد تمسك فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بالأحاديث الصَّحِيحَة الدَّالَّة على تَثْنِيَة الْإِقَامَة على مَا ذَكرنَاهَا عَن قريب؟ وَنحن أَيْضا نقُول: هَذِه الْأَحَادِيث حجَّة على الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه مر بمؤذن أوتر الْإِقَامَة فَقَالَ لَهُ: اشفعها لَا أم لَك. وَرُوِيَ عَن النَّخعِيّ أَنه قَالَ: أول من أفرد الْإِقَامَة مُعَاوِيَة، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت الْإِقَامَة فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثنى مثنى حَتَّى استخفه بعض أُمَرَاء الْجور لحَاجَة لَهُم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: ظَاهر الْأَمر للْوُجُوب، لَكِن الْأَذَان سنة؟ قلت: ظَاهر صِيغَة الْأَمر لَهُ لَا ظَاهر لَفظه، يَعْنِي: (أَمر) ، وَهَهُنَا لم تذكر الصِّيغَة، سلمنَا أَنه للْإِيجَاب، لكنه لإِيجَاب الشفع لَا لأصل الْأَذَان، وَلَا شكّ أَن الشفع وَاجِب ليَقَع الْأَذَان مَشْرُوعا، كَمَا أَن الطَّهَارَة وَاجِبَة لصِحَّة صَلَاة النَّفْل، وَلَئِن سلمنَا أَنه لنَفس الْأَذَان يُقَال: إِنَّه فرض كِفَايَة، لِأَن أهل بَلْدَة لَو اتَّفقُوا على تَركه قاتلناهم، أَو أَن الْإِجْمَاع مَانع عَن الْحمل على ظَاهره قلت: كَيفَ يَقُول: إِن الْإِجْمَاع مَانع عَن الْحمل على ظَاهره، وَقد حمله قوم على ظَاهره، وَقَالُوا: إِنَّه وَاجِب؟ وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: إِنَّه فرض كِفَايَة فِي حق الْجَمَاعَة فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَقَالَ مَالك: يجب فِي مَسْجِد الْجَمَاعَة. وَقَالَ عَطاء وَمُجاهد: لَا تصح الصَّلَاة بِغَيْر أَذَان، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَعنهُ: يُعَاد فِي الْوَقْت. وَقَالَ أَبُو عَليّ والاصطخري: هُوَ فرض فِي الْجُمُعَة. وَقَالَ: الظَّاهِرِيَّة هما واجبان لكل صَلَاة، وَاخْتلفُوا فِي صِحَة الصَّلَاة بدونهما. وَقَالَ دَاوُد: هما فرض الْجَمَاعَة وليسا بِشَرْط لصحتها. وَذكر مُحَمَّد بن الْحسن مَا يدل على وُجُوبه، فَإِنَّهُ قَالَ: لَو(5/104)
أَن أهل بَلْدَة اجْتَمعُوا على ترك الْأَذَان لقاتلتهم عَلَيْهِ، وَلَو تَركه وَاحِد ضَربته وحبسته. وَقيل: إِنَّه عِنْد مُحَمَّد من فروض الْكِفَايَة، وَفِي (الْمُحِيط) و (التُّحْفَة) و (الْهِدَايَة) : الآذان سنة مُؤَكدَة، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَإِسْحَاق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
604 - حدَّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ قالَ حدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ كانَ يَقُولُ كانَ المُسْلِمُونَ حَينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ لَيْسَ يُنَادِي لَهَا فَتَكَلَّمُوا يَوْما فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخَذُوا ناقُوسا مِثْلَ ناقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بُوقا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أوَ لاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ يُنَادِي بِالصَّلاَةِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بِلاَلُ قُمْ فنَادِ بِالصَّلاَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله) (يَا بِلَال قُم فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) . . فَإِن قلت: كَيفَ يُطَابق التَّرْجَمَة والترجمة فِي بَدْء الْأَذَان والْحَدِيث يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا بالنداء بِالصَّلَاةِ، والنداء لَا يفهم مِنْهُ الْأَذَان الْمَعْهُود بالكلمات الْمَخْصُوصَة؟ قلت: المُرَاد بالنداء الْأَذَان الْمَعْهُود، وَيدل على أَن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (فَأذن بِالصَّلَاةِ) . وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد الْأَذَان الْمَشْرُوع. فَإِن قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: المُرَاد الْإِعْلَام الْمَحْض بِحُضُور وَقتهَا، لَا خُصُوص الْأَذَان الْمَشْرُوع. قلت: يحمل أَنه اسْتندَ فِي ذَلِك على ظَاهر اللَّفْظ، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه فالمطابقة بَينهمَا مَوْجُودَة بِاعْتِبَار أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال بالنداء بِالصَّلَاةِ كَانَ بَدْء الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ لم يسْبق أَمر بذلك قبله، بل إِنَّمَا قَالَ ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد تحينهم للصَّلَاة وتشاورهم فِيمَا بَينهم مَاذَا يَفْعَلُونَ فِي الْإِعْلَام بِالصَّلَاةِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد تكَرر ذكرهم. و: غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، وَابْن جريج هُوَ: عبد الْملك.
وَمن لطائفه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار فِي موضِعين: أَحدهمَا: بِصِيغَة الْجمع، وَالْآخر: بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
بَيَان من أخرحه غَيره: وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم بن الْحسن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن عبد الله بن عمر: أَنه قَالَ: قَوْله: (حِين قدمُوا الْمَدِينَة) ، أَي: من مَكَّة مُهَاجِرين. قَوْله: (فيتحينون) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: يقدرُونَ حينها ليأتوا إِلَيْهَا، وَهُوَ من التحين من بَاب التفعل الَّذِي وضع للتكلف غَالِبا، والتحين من الْحِين وَهُوَ الْوَقْت والزمن. قَوْله: (لَيْسَ يُنادَى لَهَا) ، أَي: للصَّلَاة، وَهُوَ على بِنَاء الْمَفْعُول. وَقَالَ ابْن مَالك: هَذَا شَاهد على جَوَاز اسْتِعْمَال: لَيْسَ، حرفا لَا اسْم لَهَا وَلَا خبر لَهَا، أَشَارَ إِلَيْهَا سِيبَوَيْهٍ، وَيحْتَمل أَن يكون اسْمهَا ضمير الشَّأْن، وَالْجُمْلَة بعْدهَا خَبرا. قَوْله: (اتَّخذُوا) على صُورَة الْأَمر. قَوْله: (بوقا) أَي: قَالَ بَعضهم: اتَّخذُوا بوقا، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْوَاو الساكنة قَاف، وَهُوَ الَّذِي ينْفخ فِيهِ، وَوَقع فِي بعض النّسخ: (بل قرنا) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ، والبوق والقرن معروفان، وَهُوَ من شعار الْيَهُود، وَيُسمى أَيْضا: الشبور، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة المثقلة. قَوْله: (فَقَالَ عمر أَوَلاَ تبعثون؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر، أَي: أتقولون بموافقتهم وَلَا تبعثون؟ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْهمزَة إِنْكَار للجملة الأولى، أَي: الْمقدرَة، وَتَقْرِير للجملة الثَّانِيَة. قَوْله: (رجلا مِنْكُم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ لَفْظَة: مِنْكُم، فِي رِوَايَة غَيره. قَوْله: (يُنَادي) جملَة فعلية مضارعية فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وَصدقه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَادر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: (أَولا تبعثون رجلا يُنَادي؟) أَي: يُؤذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة. (فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قُم يَا بِلَال) . فعلى هَذَا: فالفاء، فِي قَوْله: فَقَالَ عمر. فَاء الفصيحة، وَالتَّقْدِير: فافترقوا، فَرَأى عبد الله بن زيد، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقص عَلَيْهِ فَصدقهُ، فَقَالَ عمر: أَولا تبعثوني؟ انْتهى. قلت: هَذَا يُصَرح أَن معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) ، أَي: فَأذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة، وَقَالَ بَعضهم: وَسِيَاق حَدِيث عبد الله بن زيد يُخَالف ذَلِك. فَإِن فِيهِ: لما قصّ رُؤْيَاهُ على النَّبِي، صلى(5/105)
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: ألقها على بِلَال فليؤذن بهَا، قَالَ: فَسمع عمر الصَّوْت، فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لقد رَأَيْت مثل الَّذِي رأى، فَدلَّ على أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ، وَالظَّاهِر أَن إِشَارَة عمر بإرسال رجل يُنَادي بِالصَّلَاةِ كَانَت عقيب الْمُشَاورَة فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَأَن رُؤْيا عبد الله بن زيد كَانَت بعد ذَلِك. قلت: أما حَدِيث عبد الله بن زيد فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا أبي عَن مُحَمَّد ابْن اسحاق حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قَالَ: حَدثنَا أبي عبد الله ابْن زيد قَالَ: (لما أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالناقوس يعْمل ليضْرب بِهِ للنَّاس لجمع الصَّلَاة، طَاف بِي وَأَنا نَائِم رجل يحمل ناقوسا فِي يَده، فَقلت: يَا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ فَقلت: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاة. فَقَالَ: أَلاَ أدلك على مَا هُوَ خير من ذَلِك؟ قَالَ: فَقلت لَهُ: بلَى. فَقَالَ: تَقول: الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. ثمَّ اسْتَأْخَرَ غير بعيد، ثمَّ قَالَ: ثمَّ تَقول إِذا أَقمت إِلَى الصَّلَاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حى على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله، فَلَمَّا أَصبَحت أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْته، فَقَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله، فَقُمْ مَعَ بِلَال فألق عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فليؤذن بِهِ، فَإِنَّهُ أندى صَوتا مِنْك، فَقُمْت مَعَ بِلَال فَجعلت ألقيه عَلَيْهِ وَيُؤذن بِهِ، قَالَ: فَسمع ذَلِك عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج يجر رِدَاءَهُ يَقُول: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ يَا رَسُول الله، لقد رَأَيْت مثل مَا رأى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَللَّه الْحَمد) ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا. فَلم يذكر فِيهِ كَلِمَات الْأَذَان وَلَا الْإِقَامَة. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فَلم يذكر فِيهِ لفظ الْإِقَامَة، وَزَاد فِيهِ شعرًا، فَقَالَ عبد الله بن زيد فِي ذَلِك
(أَحْمد الله ذَا الْجلَال وَذَا الإ ... كرام حمدا على الْأَذَان كثيرا)
(إِذا أَتَانِي بِهِ البشير من الله ... فألم بِهِ لدي بشيرا)
(فِي ليالٍ وافي بِهن ثلا ... ث، كلما جَاءَ زادني توقيرا)
وَأخرج ابْن حبَان أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي (صَحِيحه) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عبد الله بن زيد فِي بَدْء الْأَذَان جمَاعَة من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَمَعَان مُتَقَارِبَة، وَكلهَا تتفق على أمره عِنْد ذَلِك. والأسانيد فِي ذَلِك من وُجُوه صِحَاح، وَفِي مَوضِع آخر: من وُجُوه حسان، وَنحن نذْكر أحْسنهَا، فَذكر مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عباد بن مُوسَى الْخُتلِي وَحدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب، وَحَدِيث عباد أتم، قَالَا: أخبرنَا هشيم عَن أبي بشر، قَالَ زِيَاد: أخبرنَا أَبُو بشر عَن أبي عُمَيْر ابْن أنس عَن عمومة لَهُ من الْأَنْصَار قَالَ: (اهتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصَّلَاة كَيفَ يجمع النَّاس لَهَا، فَقيل لَهُ: أنصب راية عِنْد حُضُور الصَّلَاة فَإِذا رأوها آذن بَعضهم بَعْضًا، فَلم يُعجبهُ ذَلِك، قَالَ: فَذكر لَهُ القنع، يَعْنِي: الشبور، وَقَالَ زِيَاد: شبور الْيَهُود. فَلم يُعجبهُ ذَلِك، وَقَالَ: هُوَ من أَمر الْيَهُود، قَالَ فَذكر لَهُ الناقوس، فَقَالَ: هُوَ من أَمر النَّصَارَى، فَانْصَرف عبد الله بن زيد وَهُوَ مهتم لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأري الْأَذَان فِي مَنَامه، قَالَ: فغدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي لبين نَائِم ويقظان إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأرَانِي الْأَذَان، قَالَ: وَكَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رَآهُ قبل ذَلِك فكتمه عشْرين يَوْمًا، قَالَ: ثمَّ أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تخبرنا؟ فَقَالَ: سبقني عبد الله بن زيد فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا بِلَال قُم فَانْظُر مَا يَأْمُرك بِهِ عبد الله ابْن زيد فافعله، فَأذن بِلَال) . فَأَبُو دَاوُد ترْجم لهَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب بَدْء الْأَذَان، فَهَذَا الَّذِي هُوَ أحسن أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، كَمَا ذكره أَبُو عمر يُقَوي كَلَام الْقُرْطُبِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالف حَدِيث عبد الله بن زيد بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا أَن عمر سمع الصَّوْت فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ بِحَسب الظَّاهِر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ حَاضرا فَهُوَ يرد كَلَام بَعضهم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: فَدلَّ على أَن عمر لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ إِلَى آخر مَا ذكره. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قَوْله: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ أَو فَأذن) ، يدل على مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان قَائِما، وَأَنه لَا يجوز قَاعِدا،(5/106)
وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا أَبَا ثَوْر، فَإِنَّهُ جوزه، وَوَافَقَهُ أَبُو الْفرج الْمَالِكِي، رَحمَه الله تَعَالَى، واستضعفه النَّوَوِيّ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: المُرَاد بالنداء هَهُنَا الْإِعْلَام. الثَّانِي: المُرَاد: قُم واذهب إِلَى مَوضِع بارز فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للْقِيَام فِي حَال الْأَذَان. قَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا الْمَشْهُور أَنه سنة، فَلَو أذن قَاعِدا بِغَيْر عذر صَحَّ أَذَانه، لَكِن فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلم يثبت فِي اشْتِرَاط الْقيام شَيْء. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن وَائِل بن حجر، قَالَ: حق وَسنة مسنونة ألاَّ يُؤذن إِلَّا وَهُوَ طَاهِر، وَلَا يُؤذن إلاَّ وَهُوَ قَائِم. وَفِي (الْمُحِيط) : إِن أذن لنَفسِهِ فَلَا بَأْس أَن يُؤذن قَاعِدا من غير عذر، مُرَاعَاة لسنة الْأَذَان وَعدم الْحَاجة إِلَى إِعْلَام النَّاس، وَإِن أذن قَاعِدا لغير عذر صَحَّ، وفاتته الْفَضِيلَة، وَكَذَا لَو أذن قَاعِدا مَعَ قدرته على الْقيام صَحَّ أَذَانه، وَفِيه: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة طلب الْأَحْكَام من الْمعَانِي المستنبطة دون الِاقْتِصَار على الظَّوَاهِر. وَفِيه: منقبة ظَاهِرَة لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: التشاور فِي الْأُمُور المهمة، وَأَنه يَنْبَغِي للمتشاورين أَن يَقُول كل مِنْهُم مَا عِنْده، ثمَّ صَاحب الْأَمر يفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة. وَفِيه: التحين لأوقات الصَّلَاة.
فَوَائِد: الأولى: الاستشكال فِي إِثْبَات الْأَذَان برؤيا عبد الله بن زيد، لِأَن رُؤْيا غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يَبْنِي عَلَيْهَا حكم شَرْعِي، وَالْجَوَاب: مُقَارنَة الْوَحْي لذَلِك، وَفِي مُسْند الْحَارِث بن أبي أُسَامَة: (أول من أذن بِالصَّلَاةِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، فَسَمعهُ عمر وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَسبق عمر بِلَالًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرهُ بهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: سَبَقَك بهَا عمر) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: (رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْأَذَانِ قبل أَن يُخبرهُ عبد الله بن زيد وَعمر بِثمَانِيَة أَيَّام) . ذكره ابْن إِسْحَاق، قَالَ: وَهُوَ أحسن مَا جَاءَ فِي الْأَذَان، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب أَن الزَّمَخْشَرِيّ نقل عَن بَعضهم أَن الْأَذَان بِالْوَحْي لَا بالمنام وَحده. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ: من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن عمرَان عَن أبي المؤمل عَن أبي الرهين عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: (أَخذ الْأَذَان من أَذَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا ... } (الْحَج: 27) . الْآيَة، قَالَ: فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ السُّهيْلي: الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الْأَذَان برؤيا رجل. وَلم يكن بِوَحْي، فَلِأَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أريه لَيْلَة الْإِسْرَاء فَوق سبع سموات، وَهُوَ أقوى من الْوَحْي. فَلَمَّا تَأَخّر فرض الْأَذَان إِلَى الْمَدِينَة، وَأَرَادَ إِعْلَام النَّاس بِوَقْت الصَّلَاة، فَلبث الْوَحْي حَتَّى رأى عبد الله الرُّؤْيَا، فَوَافَقت مَا كَانَ رَآهُ فِي السَّمَاء، قَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وَعلم حِينَئِذٍ أَن مُرَاد الله بِمَا أرَاهُ فِي السَّمَاء أَن يكون سنة فِي الأَرْض، وَقَوي ذَلِك مُوَافقَة رُؤْيا عمر، مَعَ أَن السكينَة تنطق على لِسَان عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واقتضت الْحِكْمَة الإلهية أَن يكون الْأَذَان على غير لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما فِيهِ من التنويه بِعَبْدِهِ، وَالرَّفْع لذكره، فَلِأَن يكون ذَلِك على لِسَان غَيره أنوه وأفخر لشأنه، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ورفعنا لَك ذكرك} (الشَّرْح: 2) . وروى عبد الرَّزَّاق وَأَبُو دَاوُد فِي (الْمَرَاسِيل) : من طَرِيق عبيد ابْن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، أحد كبار التَّابِعين: (أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما رأى الْأَذَان جَاءَ ليخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ الْوَحْي قد ورد بذلك، فَمَا راعه إلاَّ أَذَان بِلَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سَبَقَك بذلك الْوَحْي) .
الثَّانِيَة: هَل أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ بِنَفسِهِ؟ فروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق يَدُور على عمر بن الرماح يرفعهُ إِلَى أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي سفر وَصلى بِأَصْحَابِهِ، وهم على رواحلهم، السَّمَاء من فَوْقهم، والبلة من أسفلهم) . هَكَذَا قَالَه السُّهيْلي. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَمَا ذكره السُّهيْلي، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْده من حَدِيث عمر بن الرماح: عَن كثير بن زِيَاد عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن يعلى بن مرّة الثَّقَفِيّ عَن أَبِيه عَن جده، وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب، تفرد بِهِ عمر بن الرماح الْبَلْخِي، لَا يعرف إلاَّ من حَدِيثه، وَمن هَذِه الطَّرِيقَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ابْن الْعَرَبِيّ، وَسكت عَنهُ الإشبيلي، وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِأَن عمرا وأباه عُثْمَان لَا يعرف حَالهمَا. وَلما ذكره النَّوَوِيّ صَححهُ؛ وَمن حَدِيث يعلى أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَأحمد بن منيع وَابْن أُميَّة وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) والعدني، وَفِي (التَّارِيخ) للأثرم، و (تَارِيخ الْخَطِيب) وَغَيرهم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: يعلى بن مرّة بن وهب الثَّقَفِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة وَله دَار بِالْبَصْرَةِ.
الثَّالِثَة: الترجيع فِي الْأَذَان، وَهُوَ أَن يرجع وَيرْفَع صَوته بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَمَا خفض بهما، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك، إِلَّا إِنَّه لَا يُؤْتى بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوله. إلاَّ مرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَحْمد: إِن رجَّع فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن لم يرجع فَلَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق(5/107)
من أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِن ترك الترجيع يعْتد بِهِ، وَحكى عَن بعض أَصْحَابه أَنه لَا يعْتد بِهِ كَمَا لَو ترك سَائِر كَلِمَاته، كَذَا فِي (الْحِلْية) . وَفِي (شرح الْوَجِيز) : وَالأَصَح أَنه إنْ ترك الترجيع لم يضرّهُ، وَحجَّة الشَّافِعِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه الْأَذَان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ثمَّ يعود فَيَقُول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله) . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلاَّ البُخَارِيّ من حَدِيث عبد الله بن محيريز عَن أبي مَحْذُورَة، وَحجَّة أَصْحَابنَا حَدِيث عبد الله بن زيد من غير تَرْجِيع فِيهِ، وَكَأن حَدِيث أبي مَحْذُورَة لأجل التَّعْلِيم فكرره، فَظن أَبُو مَحْذُورَة أَنه تَرْجِيع، وَأَنه فِي أصل الْأَذَان، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) عَن أبي مَحْذُورَة أَنه قَالَ: (ألْقى عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَذَان حرفا حرفا: الله أكبر الله أكبر) إِلَى آخِره، لم يذكر فِيهِ ترجيعا. وأذان بِلَال بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرا وحضرا، وَهُوَ مُؤذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإطباق أهل الْإِسْلَام إِلَى أَن توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومؤذن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى أَن توفّي من غير تَرْجِيع.
الرَّابِعَة: أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مربع، على مَا فِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة، رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو عوَانَة وَالْحَاكِم، وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَن الشَّافِعِي من حَدِيث ابْن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مرَّتَيْنِ، قَالَ: وَقد رُوِيَ ذَلِك من وُجُوه صِحَاح فِي أَذَان أبي مَحْذُورَة، وأذان ابْن زيد، وَالْعَمَل عِنْدهم بِالْمَدِينَةِ على ذَلِك فِي آل سعد الْقرظ إِلَى زمانهم، قُلْنَا: الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَذَان الْملك النَّازِل من السَّمَاء.
الْخَامِسَة: فِي أَذَان الْفجْر: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ بعد الْفَلاح لما روى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) بِإِسْنَادِهِ عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بالصبح، فَوَجَدَهُ رَاقِدًا، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أحسن هَذَا يَا بِلَال إجعله فِي أذانك) . وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو الشَّيْخ فِي (كتاب الْأَذَان) ، لَهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (جَاءَ بِلَال إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ، فَوَجَدَهُ قد أغفى، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، فَقَالَ لَهُ: إجعله فِي أذانك إِذا أَذِنت للصبح، فَجعل بِلَال يَقُولهَا إِذا أذن للصبح) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث سعيد بن الْمسيب: (عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِصَلَاة الْفجْر، فَقيل: هُوَ نَائِم، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، الصَّلَاة خير من النّوم. فأقرت فِي تأذين الْفجْر) ، وَخص الْفجْر بِهِ لِأَنَّهُ وَقت نوم وغفلة.
السَّادِسَة: فِي مَعَاني كَلِمَات الْأَذَان: ذكر ثَعْلَب أَن أهل الْعَرَبيَّة اخْتلفُوا فِي معنى: أكبر، فَقَالَ أهل اللُّغَة: مَعْنَاهُ كَبِير، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} (الرّوم: 27) . مَعْنَاهُ وَهُوَ هَين عَلَيْهِ، وكما فِي قَول الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت [/ عفتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: لست فِيهَا بِوَاحِد. وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء وَهِشَام: مَعْنَاهُ أكبر من كل شَيْء، فحذفت: من، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِذا مَا ستور الْبَيْت أرخيت لم يكن ... سراج لنا إلاَّ ووجهك أنور)
أَي: أنور من غَيره، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاس: ألله كبر، وَاحْتج بِأَن الْأَذَان سمع وَقفا لَا إِعْرَاب فِيهِ. قَوْله: (أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله) مَعْنَاهُ: أعلم وَأبين، وَمن ذَلِك: شهد الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم، مَعْنَاهُ: قد بَين لَهُ وأعلمه الْخَبَر الَّذِي عِنْده، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ أَقْْضِي، كَمَا فِي: {شهد الله} (آل عمرَان: 18) . مَعْنَاهُ: قضى الله. وَقَالَ الزجاجي: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا حَقِيقَة الشَّهَادَة هُوَ تَيَقّن الشَّيْء وتحققه من شَهَادَة الشَّيْء أَي: حُضُوره. قَوْله: (رَسُول الله) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرَّسُول مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: الَّذِي تتَابع الْأَخْبَار من الَّذِي بَعثه من قَول الْعَرَب، قد جَاءَت الْإِبِل رسلًا أَي: جَاءَت متتابعة. وَيُقَال فِي تثنيته: رسولان، وَفِي جمعه: رسل، وَمن الْعَرَب من يوحده فِي مَوضِع التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَيَقُول: الرّجلَانِ رَسُولك، وَالرِّجَال رَسُولك، قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّا رَسُولا رَبك} (طه: 47) . وَفِي مَوضِع آخر: {أَنا رَسُول رب الْعَالمين} (مَرْيَم: 190) ، فَفِي الأول خرج الْكَلَام على ظَاهره لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن مُوسَى وَهَارُون، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الثَّانِي بِمَعْنى الرسَالَة، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا رِسَالَة رب الْعَالمين، قَالَه يُونُس، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: لَيْسَ مَا ذكره ابْن الْأَنْبَارِي فِي اشتقاق الرَّسُول صَحِيحا، وَإِنَّمَا الرَّسُول الْمُرْسل المبعد من أرْسلت 9 أبعدت وَبعثت، وَإِنَّمَا توهم(5/108)
فِي ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ على فعول، فتوهمه مِمَّا جَاءَ على الْمُبَالغَة، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ لتكرار الْفِعْل فَهُوَ ضروب وَشبهه، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم لغير تَكْثِير الْفِعْل بِمَنْزِلَة: عَمُود وعنود. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وفصحاء الْعَرَب أهل الْحجاز وَمن والاهم يَقُولُونَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَجَمَاعَة من الْعَرَب يبدلون من الْألف عينا فَيَقُولُونَ: أشهد عَن. قَوْله: (حَيّ على الصَّلَاة) . قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكون الْيَاء الَّتِي قبلهَا. وَقَالَ ابْن الانباري: فِيهِ سِتّ لُغَات، حَيّ هلا، بِالتَّنْوِينِ، وَفتح اللَّام بِغَيْر تَنْوِين، وتسكين الْهَاء، وَفتح الَّلام، وَحي هلن، لَا وَحي هلين، قَالَه الزجاجي.
الْوَجْه الْخَامِس: بالنُّون هُوَ الأول، بِعَيْنِه لِأَن التَّنْوِين وَالنُّون سَوَاء، وَمعنى الْفَلاح الْفَوْز، يُقَال: أَفْلح الرجل إِذا فَازَ.
(بابٌ الأَذان مَثْنَى مَثْنَى)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْأَذَان مثنى مثنى، ومثنى هَكَذَا مكررا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مثنى مُفردا، ومثنى مثنى، معدول من اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالْعدْل على قسمَيْنِ: عدل تحقيقي وَهَذَا مِنْهُ، وَعدل تقديري كعمرو وَزفر، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَفَائِدَة التّكْرَار للتوكيد، إِن كَانَ التّكْرَار يفهم من صِيغَة الْمثنى لِأَنَّهَا معدولة عَن: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَيُقَال الأول لإِفَادَة التَّثْنِيَة لكل أَلْفَاظ الْأَذَان، وَالثَّانِي لكل أَفْرَاد الْأَذَان، أَي: الأول: لبَيَان تَثْنِيَة الْأَجْزَاء، وَالثَّانِي: لبَيَان تَثْنِيَة الجزئيات.
604 - حدَّثنا مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ قالَ حدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ أنَّ ابنَ عُمَرَ كانَ يَقُولُ كانَ المُسْلِمُونَ حَينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ لَيْسَ يُنَادِي لَهَا فَتَكَلَّمُوا يَوْما فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتَّخَذُوا ناقُوسا مِثْلَ ناقُوسِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بُوقا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ فَقَالَ عُمَرُ أوَ لاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً مِنْكُمْ يُنَادِي بِالصَّلاَةِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بِلاَلُ قُمْ فنَادِ بِالصَّلاَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله) (يَا بِلَال قُم فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) . . فَإِن قلت: كَيفَ يُطَابق التَّرْجَمَة والترجمة فِي بَدْء الْأَذَان والْحَدِيث يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا بالنداء بِالصَّلَاةِ، والنداء لَا يفهم مِنْهُ الْأَذَان الْمَعْهُود بالكلمات الْمَخْصُوصَة؟ قلت: المُرَاد بالنداء الْأَذَان الْمَعْهُود، وَيدل على أَن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (فَأذن بِالصَّلَاةِ) . وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد الْأَذَان الْمَشْرُوع. فَإِن قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: المُرَاد الْإِعْلَام الْمَحْض بِحُضُور وَقتهَا، لَا خُصُوص الْأَذَان الْمَشْرُوع. قلت: يحمل أَنه اسْتندَ فِي ذَلِك على ظَاهر اللَّفْظ، وَلَئِن سلمنَا مَا قَالَه فالمطابقة بَينهمَا مَوْجُودَة بِاعْتِبَار أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال بالنداء بِالصَّلَاةِ كَانَ بَدْء الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ لم يسْبق أَمر بذلك قبله، بل إِنَّمَا قَالَ ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد تحينهم للصَّلَاة وتشاورهم فِيمَا بَينهم مَاذَا يَفْعَلُونَ فِي الْإِعْلَام بِالصَّلَاةِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد تكَرر ذكرهم. و: غيلَان، بالغين الْمُعْجَمَة، وَابْن جريج هُوَ: عبد الْملك.
وَمن لطائفه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار فِي موضِعين: أَحدهمَا: بِصِيغَة الْجمع، وَالْآخر: بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
بَيَان من أخرحه غَيره: وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم بن الْحسن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن ابْن عمر كَانَ يَقُول) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن عبد الله بن عمر: أَنه قَالَ: قَوْله: (حِين قدمُوا الْمَدِينَة) ، أَي: من مَكَّة مُهَاجِرين. قَوْله: (فيتحينون) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: يقدرُونَ حينها ليأتوا إِلَيْهَا، وَهُوَ من التحين من بَاب التفعل الَّذِي وضع للتكلف غَالِبا، والتحين من الْحِين وَهُوَ الْوَقْت والزمن. قَوْله: (لَيْسَ يُنادَى لَهَا) ، أَي: للصَّلَاة، وَهُوَ على بِنَاء الْمَفْعُول. وَقَالَ ابْن مَالك: هَذَا شَاهد على جَوَاز اسْتِعْمَال: لَيْسَ، حرفا لَا اسْم لَهَا وَلَا خبر لَهَا، أَشَارَ إِلَيْهَا سِيبَوَيْهٍ، وَيحْتَمل أَن يكون اسْمهَا ضمير الشَّأْن، وَالْجُمْلَة بعْدهَا خَبرا. قَوْله: (اتَّخذُوا) على صُورَة الْأَمر. قَوْله: (بوقا) أَي: قَالَ بَعضهم: اتَّخذُوا بوقا، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْوَاو الساكنة قَاف، وَهُوَ الَّذِي ينْفخ فِيهِ، وَوَقع فِي بعض النّسخ: (بل قرنا) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ، والبوق والقرن معروفان، وَهُوَ من شعار الْيَهُود، وَيُسمى أَيْضا: الشبور، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة المثقلة. قَوْله: (فَقَالَ عمر أَوَلاَ تبعثون؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر، أَي: أتقولون بموافقتهم وَلَا تبعثون؟ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْهمزَة إِنْكَار للجملة الأولى، أَي: الْمقدرَة، وَتَقْرِير للجملة الثَّانِيَة. قَوْله: (رجلا مِنْكُم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ لَفْظَة: مِنْكُم، فِي رِوَايَة غَيره. قَوْله: (يُنَادي) جملَة فعلية مضارعية فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وَصدقه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَادر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: (أَولا تبعثون رجلا يُنَادي؟) أَي: يُؤذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة. (فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قُم يَا بِلَال) . فعلى هَذَا: فالفاء، فِي قَوْله: فَقَالَ عمر. فَاء الفصيحة، وَالتَّقْدِير: فافترقوا، فَرَأى عبد الله بن زيد، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقص عَلَيْهِ فَصدقهُ، فَقَالَ عمر: أَولا تبعثوني؟ انْتهى. قلت: هَذَا يُصَرح أَن معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ بِالصَّلَاةِ) ، أَي: فَأذن بالرؤيا الْمَذْكُورَة، وَقَالَ بَعضهم: وَسِيَاق حَدِيث عبد الله بن زيد يُخَالف ذَلِك. فَإِن فِيهِ: لما قصّ رُؤْيَاهُ على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: ألقها على بِلَال فليؤذن بهَا، قَالَ: فَسمع عمر الصَّوْت، فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لقد رَأَيْت مثل الَّذِي رأى، فَدلَّ على أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ، وَالظَّاهِر أَن إِشَارَة عمر بإرسال رجل يُنَادي بِالصَّلَاةِ كَانَت عقيب الْمُشَاورَة فِيمَا يَفْعَلُونَهُ، وَأَن رُؤْيا عبد الله بن زيد كَانَت بعد ذَلِك. قلت: أما حَدِيث عبد الله بن زيد فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور الطوسي حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا أبي عَن مُحَمَّد ابْن اسحاق حَدثنِي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قَالَ: حَدثنَا أبي عبد الله ابْن زيد قَالَ: (لما أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالناقوس يعْمل ليضْرب بِهِ للنَّاس لجمع الصَّلَاة، طَاف بِي وَأَنا نَائِم رجل يحمل ناقوسا فِي يَده، فَقلت: يَا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قَالَ: وَمَا تصنع بِهِ؟ فَقلت: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاة. فَقَالَ: أَلاَ أدلك على مَا هُوَ خير من ذَلِك؟ قَالَ: فَقلت لَهُ: بلَى. فَقَالَ: تَقول: الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله. ثمَّ اسْتَأْخَرَ غير بعيد، ثمَّ قَالَ: ثمَّ تَقول إِذا أَقمت إِلَى الصَّلَاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، حى على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، قد قَامَت الصَّلَاة قد قَامَت الصَّلَاة، الله أكبر الله أكبر، لَا إِلَه إِلَّا الله، فَلَمَّا أَصبَحت أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته بِمَا رَأَيْته، فَقَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله، فَقُمْ مَعَ بِلَال فألق عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فليؤذن بِهِ، فَإِنَّهُ أندى صَوتا مِنْك، فَقُمْت مَعَ بِلَال فَجعلت ألقيه عَلَيْهِ وَيُؤذن بِهِ، قَالَ: فَسمع ذَلِك عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج يجر رِدَاءَهُ يَقُول: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ يَا رَسُول الله، لقد رَأَيْت مثل مَا رأى، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَللَّه الْحَمد) ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا. فَلم يذكر فِيهِ كَلِمَات الْأَذَان وَلَا الْإِقَامَة. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا فَلم يذكر فِيهِ لفظ الْإِقَامَة، وَزَاد فِيهِ شعرًا، فَقَالَ عبد الله بن زيد فِي ذَلِك
(أَحْمد الله ذَا الْجلَال وَذَا الإ ... كرام حمدا على الْأَذَان كثيرا)
(إِذا أَتَانِي بِهِ البشير من الله ... فألم بِهِ لدي بشيرا)
(فِي ليالٍ وافي بِهن ثلا ... ث، كلما جَاءَ زادني توقيرا)
وَأخرج ابْن حبَان أَيْضا هَذَا الحَدِيث فِي (صَحِيحه) . وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عبد الله بن زيد فِي بَدْء الْأَذَان جمَاعَة من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَمَعَان مُتَقَارِبَة، وَكلهَا تتفق على أمره عِنْد ذَلِك. والأسانيد فِي ذَلِك من وُجُوه صِحَاح، وَفِي مَوضِع آخر: من وُجُوه حسان، وَنحن نذْكر أحْسنهَا، فَذكر مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عباد بن مُوسَى الْخُتلِي وَحدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب، وَحَدِيث عباد أتم، قَالَا: أخبرنَا هشيم عَن أبي بشر، قَالَ زِيَاد: أخبرنَا أَبُو بشر عَن أبي عُمَيْر ابْن أنس عَن عمومة لَهُ من الْأَنْصَار قَالَ: (اهتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصَّلَاة كَيفَ يجمع النَّاس لَهَا، فَقيل لَهُ: أنصب راية عِنْد حُضُور الصَّلَاة فَإِذا رأوها آذن بَعضهم بَعْضًا، فَلم يُعجبهُ ذَلِك، قَالَ: فَذكر لَهُ القنع، يَعْنِي: الشبور، وَقَالَ زِيَاد: شبور الْيَهُود. فَلم يُعجبهُ ذَلِك، وَقَالَ: هُوَ من أَمر الْيَهُود، قَالَ فَذكر لَهُ الناقوس، فَقَالَ: هُوَ من أَمر النَّصَارَى، فَانْصَرف عبد الله بن زيد وَهُوَ مهتم لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأري الْأَذَان فِي مَنَامه، قَالَ: فغدا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي لبين نَائِم ويقظان إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأرَانِي الْأَذَان، قَالَ: وَكَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رَآهُ قبل ذَلِك فكتمه عشْرين يَوْمًا، قَالَ: ثمَّ أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تخبرنا؟ فَقَالَ: سبقني عبد الله بن زيد فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا بِلَال قُم فَانْظُر مَا يَأْمُرك بِهِ عبد الله ابْن زيد فافعله، فَأذن بِلَال) . فَأَبُو دَاوُد ترْجم لهَذَا الحَدِيث بقوله: بَاب بَدْء الْأَذَان، فَهَذَا الَّذِي هُوَ أحسن أَحَادِيث هَذَا الْبَاب، كَمَا ذكره أَبُو عمر يُقَوي كَلَام الْقُرْطُبِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالف حَدِيث عبد الله بن زيد بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا أَن عمر سمع الصَّوْت فَخرج فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ بِحَسب الظَّاهِر أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ حَاضرا فَهُوَ يرد كَلَام بَعضهم الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: فَدلَّ على أَن عمر لم يكن حَاضرا لما قصّ عبد الله بن زيد رُؤْيَاهُ إِلَى آخر مَا ذكره. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قَوْله: (قُم يَا بِلَال فَنَادِ أَو فَأذن) ، يدل على مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان قَائِما، وَأَنه لَا يجوز قَاعِدا، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا أَبَا ثَوْر، فَإِنَّهُ جوزه، وَوَافَقَهُ أَبُو الْفرج الْمَالِكِي، رَحمَه الله تَعَالَى، واستضعفه النَّوَوِيّ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: المُرَاد بالنداء هَهُنَا الْإِعْلَام. الثَّانِي: المُرَاد: قُم واذهب إِلَى مَوضِع بارز فَنَادِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للْقِيَام فِي حَال الْأَذَان. قَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا الْمَشْهُور أَنه سنة، فَلَو أذن قَاعِدا بِغَيْر عذر صَحَّ أَذَانه، لَكِن فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلم يثبت فِي اشْتِرَاط الْقيام شَيْء. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن وَائِل بن حجر، قَالَ: حق وَسنة مسنونة ألاَّ يُؤذن إِلَّا وَهُوَ طَاهِر، وَلَا يُؤذن إلاَّ وَهُوَ قَائِم. وَفِي (الْمُحِيط) : إِن أذن لنَفسِهِ فَلَا بَأْس أَن يُؤذن قَاعِدا من غير عذر، مُرَاعَاة لسنة الْأَذَان وَعدم الْحَاجة إِلَى إِعْلَام النَّاس، وَإِن أذن قَاعِدا لغير عذر صَحَّ، وفاتته الْفَضِيلَة، وَكَذَا لَو أذن قَاعِدا مَعَ قدرته على الْقيام صَحَّ أَذَانه، وَفِيه: دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة طلب الْأَحْكَام من الْمعَانِي المستنبطة دون الِاقْتِصَار على الظَّوَاهِر. وَفِيه: منقبة ظَاهِرَة لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: التشاور فِي الْأُمُور المهمة، وَأَنه يَنْبَغِي للمتشاورين أَن يَقُول كل مِنْهُم مَا عِنْده، ثمَّ صَاحب الْأَمر يفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة. وَفِيه: التحين لأوقات الصَّلَاة.
فَوَائِد: الأولى: الاستشكال فِي إِثْبَات الْأَذَان برؤيا عبد الله بن زيد، لِأَن رُؤْيا غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يَبْنِي عَلَيْهَا حكم شَرْعِي، وَالْجَوَاب: مُقَارنَة الْوَحْي لذَلِك، وَفِي مُسْند الْحَارِث بن أبي أُسَامَة: (أول من أذن بِالصَّلَاةِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، فَسَمعهُ عمر وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَسبق عمر بِلَالًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرهُ بهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: سَبَقَك بهَا عمر) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: (رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْأَذَانِ قبل أَن يُخبرهُ عبد الله بن زيد وَعمر بِثمَانِيَة أَيَّام) . ذكره ابْن إِسْحَاق، قَالَ: وَهُوَ أحسن مَا جَاءَ فِي الْأَذَان، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب أَن الزَّمَخْشَرِيّ نقل عَن بَعضهم أَن الْأَذَان بِالْوَحْي لَا بالمنام وَحده. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ: من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن عمرَان عَن أبي المؤمل عَن أبي الرهين عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: (أَخذ الْأَذَان من أَذَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا ... } (الْحَج: 27) . الْآيَة، قَالَ: فَأذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ السُّهيْلي: الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الْأَذَان برؤيا رجل. وَلم يكن بِوَحْي، فَلِأَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أريه لَيْلَة الْإِسْرَاء فَوق سبع سموات، وَهُوَ أقوى من الْوَحْي. فَلَمَّا تَأَخّر فرض الْأَذَان إِلَى الْمَدِينَة، وَأَرَادَ إِعْلَام النَّاس بِوَقْت الصَّلَاة، فَلبث الْوَحْي حَتَّى رأى عبد الله الرُّؤْيَا، فَوَافَقت مَا كَانَ رَآهُ فِي السَّمَاء، قَالَ: إِنَّهَا لرؤيا حق إِن شَاءَ الله تَعَالَى) . وَعلم حِينَئِذٍ أَن مُرَاد الله بِمَا أرَاهُ فِي السَّمَاء أَن يكون سنة فِي الأَرْض، وَقَوي ذَلِك مُوَافقَة رُؤْيا عمر، مَعَ أَن السكينَة تنطق على لِسَان عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واقتضت الْحِكْمَة الإلهية أَن يكون الْأَذَان على غير لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما فِيهِ من التنويه بِعَبْدِهِ، وَالرَّفْع لذكره، فَلِأَن يكون ذَلِك على لِسَان غَيره أنوه وأفخر لشأنه، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ورفعنا لَك ذكرك} (الشَّرْح: 2) . وروى عبد الرَّزَّاق وَأَبُو دَاوُد فِي (الْمَرَاسِيل) : من طَرِيق عبيد ابْن عُمَيْر اللَّيْثِيّ، أحد كبار التَّابِعين: (أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما رأى الْأَذَان جَاءَ ليخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ الْوَحْي قد ورد بذلك، فَمَا راعه إلاَّ أَذَان بِلَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سَبَقَك بذلك الْوَحْي) .
الثَّانِيَة: هَل أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ بِنَفسِهِ؟ فروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق يَدُور على عمر بن الرماح يرفعهُ إِلَى أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي سفر وَصلى بِأَصْحَابِهِ، وهم على رواحلهم، السَّمَاء من فَوْقهم، والبلة من أسفلهم) . هَكَذَا قَالَه السُّهيْلي. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، كَمَا ذكره السُّهيْلي، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْده من حَدِيث عمر بن الرماح: عَن كثير بن زِيَاد عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن يعلى بن مرّة الثَّقَفِيّ عَن أَبِيه عَن جده، وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث غَرِيب، تفرد بِهِ عمر بن الرماح الْبَلْخِي، لَا يعرف إلاَّ من حَدِيثه، وَمن هَذِه الطَّرِيقَة أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَضَعفه، وَكَذَا ابْن الْعَرَبِيّ، وَسكت عَنهُ الإشبيلي، وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِأَن عمرا وأباه عُثْمَان لَا يعرف حَالهمَا. وَلما ذكره النَّوَوِيّ صَححهُ؛ وَمن حَدِيث يعلى أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) ، وَأحمد بن منيع وَابْن أُميَّة وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) والعدني، وَفِي (التَّارِيخ) للأثرم، و (تَارِيخ الْخَطِيب) وَغَيرهم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: يعلى بن مرّة بن وهب الثَّقَفِيّ بَايع تَحت الشَّجَرَة وَله دَار بِالْبَصْرَةِ.
الثَّالِثَة: الترجيع فِي الْأَذَان، وَهُوَ أَن يرجع وَيرْفَع صَوته بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَمَا خفض بهما، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك، إِلَّا إِنَّه لَا يُؤْتى بِالتَّكْبِيرِ فِي أَوله. إلاَّ مرَّتَيْنِ. وَقَالَ أَحْمد: إِن رجَّع فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن لم يرجع فَلَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق من أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِن ترك الترجيع يعْتد بِهِ، وَحكى عَن بعض أَصْحَابه أَنه لَا يعْتد بِهِ كَمَا لَو ترك سَائِر كَلِمَاته، كَذَا فِي (الْحِلْية) . وَفِي (شرح الْوَجِيز) : وَالأَصَح أَنه إنْ ترك الترجيع لم يضرّهُ، وَحجَّة الشَّافِعِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه الْأَذَان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ثمَّ يعود فَيَقُول: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح حَيّ على الْفَلاح، الله أكبر الله أكبر لَا إِلَه إِلَّا الله) . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلاَّ البُخَارِيّ من حَدِيث عبد الله بن محيريز عَن أبي مَحْذُورَة، وَحجَّة أَصْحَابنَا حَدِيث عبد الله بن زيد من غير تَرْجِيع فِيهِ، وَكَأن حَدِيث أبي مَحْذُورَة لأجل التَّعْلِيم فكرره، فَظن أَبُو مَحْذُورَة أَنه تَرْجِيع، وَأَنه فِي أصل الْأَذَان، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) عَن أبي مَحْذُورَة أَنه قَالَ: (ألْقى عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَذَان حرفا حرفا: الله أكبر الله أكبر) إِلَى آخِره، لم يذكر فِيهِ ترجيعا. وأذان بِلَال بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرا وحضرا، وَهُوَ مُؤذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإطباق أهل الْإِسْلَام إِلَى أَن توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومؤذن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى أَن توفّي من غير تَرْجِيع.
الرَّابِعَة: أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مربع، على مَا فِي حَدِيث أبي مَحْذُورَة، رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو عوَانَة وَالْحَاكِم، وَهُوَ الْمَحْفُوظ عَن الشَّافِعِي من حَدِيث ابْن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّكْبِير فِي أول الْأَذَان مرَّتَيْنِ، قَالَ: وَقد رُوِيَ ذَلِك من وُجُوه صِحَاح فِي أَذَان أبي مَحْذُورَة، وأذان ابْن زيد، وَالْعَمَل عِنْدهم بِالْمَدِينَةِ على ذَلِك فِي آل سعد الْقرظ إِلَى زمانهم، قُلْنَا: الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَذَان الْملك النَّازِل من السَّمَاء.
الْخَامِسَة: فِي أَذَان الْفجْر: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ بعد الْفَلاح لما روى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) بِإِسْنَادِهِ عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بالصبح، فَوَجَدَهُ رَاقِدًا، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، مرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أحسن هَذَا يَا بِلَال إجعله فِي أذانك) . وَأخرجه الْحَافِظ أَبُو الشَّيْخ فِي (كتاب الْأَذَان) ، لَهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (جَاءَ بِلَال إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ، فَوَجَدَهُ قد أغفى، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، فَقَالَ لَهُ: إجعله فِي أذانك إِذا أَذِنت للصبح، فَجعل بِلَال يَقُولهَا إِذا أذن للصبح) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث سعيد بن الْمسيب: (عَن بِلَال أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤذنهُ بِصَلَاة الْفجْر، فَقيل: هُوَ نَائِم، فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، الصَّلَاة خير من النّوم. فأقرت فِي تأذين الْفجْر) ، وَخص الْفجْر بِهِ لِأَنَّهُ وَقت نوم وغفلة.
السَّادِسَة: فِي مَعَاني كَلِمَات الْأَذَان: ذكر ثَعْلَب أَن أهل الْعَرَبيَّة اخْتلفُوا فِي معنى: أكبر، فَقَالَ أهل اللُّغَة: مَعْنَاهُ كَبِير، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} (الرّوم: 27) . مَعْنَاهُ وَهُوَ هَين عَلَيْهِ، وكما فِي قَول الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت [/ عفتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: لست فِيهَا بِوَاحِد. وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء وَهِشَام: مَعْنَاهُ أكبر من كل شَيْء، فحذفت: من، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِذا مَا ستور الْبَيْت أرخيت لم يكن ... سراج لنا إلاَّ ووجهك أنور)
أَي: أنور من غَيره، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاس: ألله كبر، وَاحْتج بِأَن الْأَذَان سمع وَقفا لَا إِعْرَاب فِيهِ. قَوْله: (أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله) مَعْنَاهُ: أعلم وَأبين، وَمن ذَلِك: شهد الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم، مَعْنَاهُ: قد بَين لَهُ وأعلمه الْخَبَر الَّذِي عِنْده، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ أَقْْضِي، كَمَا فِي: {شهد الله} (آل عمرَان: 18) . مَعْنَاهُ: قضى الله. وَقَالَ الزجاجي: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا حَقِيقَة الشَّهَادَة هُوَ تَيَقّن الشَّيْء وتحققه من شَهَادَة الشَّيْء أَي: حُضُوره. قَوْله: (رَسُول الله) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرَّسُول مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: الَّذِي تتَابع الْأَخْبَار من الَّذِي بَعثه من قَول الْعَرَب، قد جَاءَت الْإِبِل رسلًا أَي: جَاءَت متتابعة. وَيُقَال فِي تثنيته: رسولان، وَفِي جمعه: رسل، وَمن الْعَرَب من يوحده فِي مَوضِع التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَيَقُول: الرّجلَانِ رَسُولك، وَالرِّجَال رَسُولك، قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّا رَسُولا رَبك} (طه: 47) . وَفِي مَوضِع آخر: {أَنا رَسُول رب الْعَالمين} (مَرْيَم: 190) ، فَفِي الأول خرج الْكَلَام على ظَاهره لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن مُوسَى وَهَارُون، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الثَّانِي بِمَعْنى الرسَالَة، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا رِسَالَة رب الْعَالمين، قَالَه يُونُس، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: لَيْسَ مَا ذكره ابْن الْأَنْبَارِي فِي اشتقاق الرَّسُول صَحِيحا، وَإِنَّمَا الرَّسُول الْمُرْسل المبعد من أرْسلت 9 أبعدت وَبعثت، وَإِنَّمَا توهم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ على فعول، فتوهمه مِمَّا جَاءَ على الْمُبَالغَة، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ لتكرار الْفِعْل فَهُوَ ضروب وَشبهه، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم لغير تَكْثِير الْفِعْل بِمَنْزِلَة: عَمُود وعنود. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وفصحاء الْعَرَب أهل الْحجاز وَمن والاهم يَقُولُونَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَجَمَاعَة من الْعَرَب يبدلون من الْألف عينا فَيَقُولُونَ: أشهد عَن. قَوْله: (حَيّ على الصَّلَاة) . قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكون الْيَاء الَّتِي قبلهَا. وَقَالَ ابْن الانباري: فِيهِ سِتّ لُغَات، حَيّ هلا، بِالتَّنْوِينِ، وَفتح اللَّام بِغَيْر تَنْوِين، وتسكين الْهَاء، وَفتح الَّلام، وَحي هلن، لَا وَحي هلين، قَالَه الزجاجي.
الْوَجْه الْخَامِس: بالنُّون هُوَ الأول، بِعَيْنِه لِأَن التَّنْوِين وَالنُّون سَوَاء، وَمعنى الْفَلاح الْفَوْز، يُقَال: أَفْلح الرجل إِذا فَازَ.
(بابٌ الأَذان مَثْنَى مَثْنَى)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْأَذَان مثنى مثنى، ومثنى هَكَذَا مكررا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مثنى مُفردا، ومثنى مثنى، معدول من اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالْعدْل على قسمَيْنِ: عدل تحقيقي وَهَذَا مِنْهُ، وَعدل تقديري كعمرو وَزفر، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَفَائِدَة التّكْرَار للتوكيد، إِن كَانَ التّكْرَار يفهم من صِيغَة الْمثنى لِأَنَّهَا معدولة عَن: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَيُقَال الأول لإِفَادَة التَّثْنِيَة لكل أَلْفَاظ الْأَذَان، وَالثَّانِي لكل أَفْرَاد الْأَذَان، أَي: الأول: لبَيَان تَثْنِيَة الْأَجْزَاء، وَالثَّانِي: لبَيَان تَثْنِيَة الجزئيات.
606 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ أخبرنَا خالِدٌ الحَذَّاءْ عَنْ أبي قِلاَبَةَ عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ لَما كَثرَ الناسُ قَالَ ذَكَرُوا أنْ يُعْلِمُوا وَقْتَ الصَّلاَةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أنْ يُورُوا نَارا أَو يَضْرِبُوا ناقُوسا فَأُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وأنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الأول.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: حَدثنِي مُحَمَّد غير مَنْسُوب، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: ذكر البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع: حَدثنَا مُحَمَّد، غير مَنْسُوب: مِنْهَا فِي الصَّلَاة والجنائز والمناقب وَالطَّلَاق والتوحيد، وَفِي بَعْضهَا: مُحَمَّد بن سَلام مِنْهَا هَهُنَا على الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور، وَقَالَ(5/109)
أَبُو نصر الكلاباذي: إِن البُخَارِيّ، رُوِيَ فِي (الْجَامِع) عَن مُحَمَّد بن سَلام وَمُحَمّد بن بشار وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن عبد الله ابْن حَوْشَب عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ الثَّالِث خَالِد بن مهْرَان الْحذاء. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: حَدثنِي مُحَمَّد، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد، وَفِيه: حَدثنِي عبد الْوَهَّاب، وَهِي فِي رِوَايَة كَرِيمَة: اُخْبُرْنَا، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا. وَفِيه: الثَّقَفِيّ وَلَيْسَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة: الثَّقَفِيّ، وَفِيه: حَدثنَا خَالِد الْحذاء، وَهِي رِوَايَة أبي ذَر الأَصيلي، ولغيرهما: أخبرنَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما كثر النَّاس) جَوَاب: لما، قَوْله: (ذكرُوا) وَلَفظ: قَالَ، ثَانِيًا مقحم تَأْكِيدًا: لقَالَ، أَولا. قَوْله: (أَن يعلمُوا) بِضَم الْيَاء، مَعْنَاهُ: يجْعَلُونَ لَهُ عَلامَة يعرف بهَا. قَوْله: (أَن يوروا) أَي: يوقدوا ويشعلوا، يُقَال: أوريت النَّار أَي: أشعلتها، وروى الزند: إِذا خرجت نارها واوريته إِذا أخرجتها، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (أَن ينوروا نَارا) أَي: يظهروا نورها، وَقد مر تَفْسِير الناقوس. قَوْله: (فَأمر) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَأَن يُوتر الْإِقَامَة) أَي: أَلْفَاظ الْإِقَامَة الَّتِي يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة.
3 - (بابٌ الإِقامَةُ واحِدَةٌ إِلاَّ قَوْلَهُ قَدْ قامَتِ الصَّلاَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْإِقَامَة أَي: الإِقامة الَّتِي تُقَام بهَا الصَّلَاة، ثمَّ اسْتثْنى مِنْهَا: قد قَامَت الصَّلَاة، يَعْنِي: قد قَامَت الصَّلَاة، مرَّتَيْنِ، وَهَذَا لفظ معمر عَن أَيُّوب كَمَا ذكرنَا من مُسْند السراج عَن قريب.
607 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إسماعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ أُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يشْفَعَ الْأَذَان وأَن يُوتِرَ الإِقامَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَن يُوتر الْإِقَامَة) أَي: يوحد ألفاظها، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: خَالف البُخَارِيّ لفظ الحَدِيث فِي التَّرْجَمَة، فَعدل عَنهُ إِلَى قَوْله: وَاحِدَة، لِأَن لفظ الْوتر غير منحصرة فِي الْمرة، فَعدل عَن لفظ فِيهِ الِاشْتِرَاك إِلَى مَا لَا اشْتِرَاك فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ وَاحِدَة مُرَاعَاة للفظ الْخَبَر الْوَارِد فِي ذَلِك، وَهُوَ عِنْد ابْن حبَان من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَفظه: (الْأَذَان مثنى وَالْإِقَامَة وَاحِدَة) . قلت: الَّذِي قَالَه ابْن الْمُنِير هُوَ الْأَوْجه من وضع تَرْجَمَة لحَدِيث لم يُورِدهُ، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَدِينِيّ، واسماعيل بن ابراهيم هُوَ ابْن علية.
قَالَ إِسمَاعِيلُ فَذَكَرْتُهُ لاَِيوبَ فَقَالَ: إِلَّا الإقامةَ
اسماعيل هَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي أول الإِسناد. قَوْله: (فَذَكرته) أَي: الحَدِيث هَكَذَا بالضمير فِي رِوَايَة الأَصيلي والكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فَذكرت) ، بِحَذْف الضَّمِير الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ أَرَادَ أَنه: زَاد فِي اخر الحَدِيث هَذَا الِاسْتِثْنَاء وَأَرَادَ بِهِ قَوْله: (قد قَامَت الصَّلَاة مرَّتَيْنِ) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْمَالِكِيَّة: عمل أهل الْمَدِينَة خلفا عَن سلف على إِفْرَاد الْإِقَامَة، وَلَو صحب زِيَادَة أَيُّوب وَمَا رَوَاهُ الْكُوفِيُّونَ من تَثْنِيَة الْإِقَامَة جَازَ أَن يكون ذَلِك فِي وَقت مَا، ثمَّ ترك لعمل أهل الْمَدِينَة على الآخر الَّذِي اسْتَقر الإمر عَلَيْهِ، وَالْجَوَاب: أَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة وَحجَّة بِلَا خلاف، وَأما عمل أهل الْمَدِينَة فَلَيْسَ بِحجَّة، مَعَ أَنه معَارض بِعَمَل أهل مَكَّة وَهِي مجمع الْمُسلمين فِي المواسم وَغَيرهَا، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على من زعم أَن الْإِقَامَة مثنى مثنى، مثل الْأَذَان، وَأجَاب بعض الْحَنَفِيَّة بِدَعْوَى النّسخ، وَأَن إِفْرَاد الْإِقَامَة كَانَ أَولا ثمَّ نسخ بِحَدِيث أبي مَحْذُورَة، يَعْنِي: الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن، وَفِيه تَثْنِيَة الْإِقَامَة، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن حَدِيث أنس، وعورض بِأَن فِي بعض طرق حَدِيث أبي مَحْذُورَة المحسنة التربيع والترجيع، فَكَانَ يلْزمهُم القَوْل بِهِ، وَقد أنكر أَحْمد على من ادّعى النّسخ بِحَدِيث أبي مَحْذُورَة، وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ بعد الْفَتْح إِلَى الْمَدِينَة، وَأقر بِلَالًا على إِفْرَاد الْإِقَامَة، وَعلمه سعد الْقرظ فَأذن بِهِ بعده، كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم، قلت: الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن عبد الرَّحْمَن(5/110)
ابْن أبي ليلى عَن عبد الله بن زيد، قَالَ: (كَانَ أَذَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفعا شفعا فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة) حجَّة على هَذَا الْقَائِل بقوله: وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على من زعم أَن الْإِقَامَة مثنى مثنى مثل الْأَذَان، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَلَفظه: فَعلمه الْأَذَان وَالْإِقَامَة مثنى مثنى، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : كل هَذِه حجَّة عَلَيْهِ وعَلى إِمَامه، وَأما الْجَواب عَن وَجه ترك الترجيع وَوجه النّسخ فقد ذَكرْنَاهُ.
4 - (بابُ فَضْلِ التَّأذِينِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل التأذين، وَهُوَ مصدر: أذن، بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ مَخْصُوص فِي الِاسْتِعْمَال بإعلام وَقت الصَّلَاة، وَمِنْه أَخذ أَذَان الصَّلَاة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: والأذين مثله، وَقد أذن أذانا، وَأما الإيذان فَهُوَ من اذن على وزن: أفعل وَمَعْنَاهُ: الْإِعْلَام مُطلقًا، وَإِنَّمَا قَالَ البُخَارِيّ: بَاب فضل التأذين، وَلم يقل: بَاب فضل الْأَذَان، مُرَاعَاة للفظ الحَدِيث الْوَارِد فِي الْبَاب، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: وَحَقِيقَة الْأَذَان جَمِيع مَا يصدر عَن الْمُؤَذّن من قَول وَفعل وهيئة. قلت: لَا نسلم هَذَا الْكَلَام، لِأَن التأذين مصدر، فَلَا يدل إِلَّا على حُدُوث فعل فَقَط.
6088 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا نُودِي لِلصلاَةِ أدْبَرَ الشَّيْطانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التِّأْذِينَ فإِذا قَضَى النِّدَاءَ أقْبَلَ حَتَّى إِذا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أدْبَرَ حَتَّى إِذا قَضَى التَّثْوِيبَ أقبَلَ حَتَّى يَخْطرَ بَيْنَ المَرْءِ ونَفْسِهِ يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كمْ صَلَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ هروب الشَّيْطَان عَن الْأَذَان، فَإِن الْأَذَان لَو لم يكن لَهُ فضل عَظِيم يتَأَذَّى مِنْهُ الشَّيْطَان لم يهرب مِنْهُ، فَمن حُصُول هَذَا الْفضل للتأذين يحصل أَيْضا للمؤذن، فَإِنَّهُ لَا يقوم إلاَّ بِهِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون المخففة، واسْمه: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن ابْن هُرْمُز.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا نُودي للصَّلَاة) أَي: إِذا أذن لأجل الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: (إِذا نُودي بِالصَّلَاةِ) ، وَقَالَ بَعضهم: وَيُمكن حملهَا على معنى وَاحِد، وَسكت على هَذَا وَلم يبين وَجه الْحمل مَا هُوَ؟ قلت: تكون الْبَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فكلاَّ أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 40) . أَي: بِسَبَب ذَنبه، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى هَهُنَا: بِسَبَب الصَّلَاة، وَمعنى التَّعْلِيل قريب من معنى السَّبَبِيَّة. قَوْله: (أدبر الشَّيْطَان) الإدبار: نقيض الإقبال، يُقَال دبر وَأدبر إِذا ولى، وَالْألف وَاللَّام فِي: الشَّيْطَان، للْعهد، وَالْمرَاد: الشَّيْطَان الْمَعْهُود. قَوْله: (لَهُ ضراط) جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَالْأَصْل فِيهَا أَن تكون بِالْوَاو، وَقد تقع بِلَا: وَاو، نَحْو: كَلمته فوه إِلَى فِي، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بِالْوَاو، على الأَصْل، وَكَذَا وَقع للْبُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق. وَقَالَ عِيَاض: يُمكن حمله على ظَاهره لِأَنَّهُ جسم منفذ يَصح مِنْهُ خُرُوج الرّيح. قلت: هَذَا تَمْثِيل لحَال الشَّيْطَان عِنْد هروبه من سَماع الْأَذَان بِحَال من خرقه أَمر عَظِيم، واعتراه خطب جسيم، حَتَّى لم يزل يحصل لَهُ الضراط من شدَّة مَا هُوَ فِيهِ، لِأَن الْوَاقِع فِي شدَّة عَظِيمَة من خوف وَغَيره تسترخي مفاصله وَلَا يقدر على أَن يملك نَفسه، فينفتح مِنْهُ مخرج الْبَوْل وَالْغَائِط. وَلما كَانَ الشَّيْطَان لَعنه الله يَعْتَرِيه شدَّة عَظِيمَة وداهية جسيمة عِنْد النداء إِلَى الصَّلَاة فيهرب حَتَّى لَا يسمع الْأَذَان، شبه حَاله بِحَال ذَلِك الرجل، وَأثبت لَهُ على وَجه الادعاء الضراط الَّذِي ينشأ من كَمَال الْخَوْف الشَّديد. وَفِي الْحَقِيقَة ماثم ضراط، وَلَكِن يجوز أَن يكون لَهُ ريح، لِأَنَّهُ روح، وَلَكِن لم تعرف كيفيته. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شبه شغل الشَّيْطَان نَفسه عِنْد سَماع الْأَذَان بالصوت الَّذِي يمْلَأ السّمع ويمنعه عَن سَماع غَيره، ثمَّ سَمَّاهُ: ضراطا تقبيحا لَهُ. فَإِن قلت: كَيفَ يهرب من الْأَذَان وَلَا يهرب من قِرَاءَة الْقرَان، وَهِي(5/111)
أفضل من الْأَذَان؟ قلت: إِنَّمَا يهرب من الْأَذَان حَتَّى لَا يشْهد بِمَا سَمعه إِذا اسْتشْهد يَوْم الْقِيَامَة، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث: (لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة) . والشيطان أَيْضا شَيْء أَو هُوَ دَاخل فِي الْجِنّ، لِأَنَّهُ من الْجِنّ. فَإِن قلت: إِنَّه يدبر لعظم أَمر الْأَذَان لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من قَوَاعِد الدّين وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وإعلانه. وَقيل: ليأسه من وَسْوَسَة الْإِنْسَان عِنْد الإعلان بِالتَّوْحِيدِ. فَإِن قلت: كَيفَ يهرب من الْأَذَان وَيَدْنُو من الصَّلَاة وفيهَا الْقرَان ومناجاة الْحق؟ قلت: هروبه من الآذان ليأسه من الوسوسة، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي الصَّلَاة، يفتح لَهُ أَبْوَاب الوساوس. قَوْله: (حَتَّى لَا يسمع التأذين) ، الظَّاهِر أَن هَذِه الْغَايَة لاجل إدباره، وَقَالَ بَعضهم: ظَاهره أَنه يتَعَمَّد إِخْرَاج ذَلِك إِمَّا ليشتغل بِسَمَاع الصَّوْت الَّذِي يُخرجهُ عَن سَماع الْمُؤَذّن، وَإِمَّا أَنه يصنع ذَلِك اسْتِخْفَافًا كَمَا يَفْعَله السُّفَهَاء قلت: الظَّاهِر كَمَا ذكرنَا، لِأَنَّهُ وَقع بَيَان الْغَايَة فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث جَابر، فَقَالَ: حَتَّى يكون مَكَان الروحاء، وَحكى الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان رِوَايَة عَن جَابر أَن بَين الْمَدِينَة والروحاء سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا، قَوْله: (فَإِذا قضي النداء) ، بِضَم الْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول، أسْند الى فَاعله وَهُوَ النداء الْقَائِم مقَام الْمَفْعُول، وَرُوِيَ على صِيغَة الْمَعْلُوم وَيكون الْفَاعِل هُوَ الضَّمِير فِيهِ، وَهُوَ الْمُؤَذّن، والنداء مَنْصُوب على المفعولية، وَالْقَضَاء يَأْتِي لمعان كَثِيرَة، وَهَهُنَا بِمَعْنى: الْفَرَاغ. تَقول: قضيت حَاجَتي أَي: فرغت مِنْهَا أَو بِمَعْنى الِانْتِهَاء. قَوْله: (اقبل) زَاد مُسلم فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: (فوسوس) قَوْله: (حَتَّى إِذا ثوب بِالصَّلَاةِ) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَكْسُورَة، أَي: حَتَّى إِذا أقيم للصَّلَاة، والتثويب هَهُنَا الْإِقَامَة، والعامة لَا تعرف التثويب إِلَّا قَول الْمُؤَذّن فِي صَلَاة الْفجْر: الصَّلَاة خير من النّوم، حسب، وَمعنى التثويب فِي الأَصْل الْإِعْلَام بالشَّيْء والإنذار بِوُقُوعِهِ، وَأَصله أَن يلوح الرجل لصَاحبه بِثَوْبِهِ فيديره عِنْد أَمر يرهقه من خوف أَو عَدو، ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِي كل إِعْلَام يجْهر بِهِ صَوت، وَإِنَّمَا سميت الْإِقَامَة: تثويبا، لِأَنَّهُ عود إِلَى النداء، من: ثاب إِلَى كَذَا إِذا عَاد إِلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ثوَّب بِالصَّلَاةِ أَي: أَقَامَ لَهَا، وَأَصله أَنه رَجَعَ إِلَى مَا يشبه الْأَذَان، وكل مردد صَوتا فَهُوَ مثوب، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: (فَإِذا سمع الْإِقَامَة ذهب) . قَوْله: (حَتَّى يخْطر) ، بِضَم الطَّاء وَكسرهَا، وَقَالَ عِيَاض: ضبطناه من المتقنين بِالْكَسْرِ، وسمعناه من أَكثر الروَاة بِالضَّمِّ، قَالَ: وَالْكَسْر هُوَ الْوَجْه، وَمَعْنَاهُ: يوسوس، من قَوْلهم: خطر الْفَحْل بِذَنبِهِ إِذا حركه يضْرب بِهِ فَخذيهِ، وَأما الضَّم، فَمن المروراي: يدنو مِنْهُ فِيمَا بَينه وَبَين قلبه فيشغله عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَبِهَذَا فسره السراج، وبالأول فسره الْخَلِيل، وَقَالَ الْبَاجِيّ: فيحول بَين الْمَرْء وَمَا يُرِيد يحاول من نَفسه من إقباله على صلَاته وإخلاصه. قَالَ الهجري فِي (نوادره) : يخْطر، بِالْكَسْرِ، فِي كل شَيْء، وبالضم ضَعِيف. قَوْله: (بَين الْمَرْء وَنَفسه) أَي: قلبه، وَكَذَا وَقع للْبُخَارِيّ من وَجه اخر فِي بَدْء الْخلق: وَبِهَذَا التَّفْسِير يحصل الْجَواب عَمَّا قيل: كَيفَ يتَصَوَّر خطورة بَين الْمَرْء وَنَفسه، وهما عبارتان عَن شَيْء وَاحِد؟ وَقد يُجَاب بِأَن يكون تمثيلاً لغاية الْقرب مِنْهُ. قَوْله: (أذكر كَذَا أذكر كَذَا) ، هَكَذَا هُوَ بِلَا وَاو الْعَطف فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة بواو الْعَطف (اذكر كَذَا وَاذْكُر كَذَا) و: كَذَا، فِي رِوَايَة مُسلم وللبخاري أَيْضا فِي صَلَاة السَّهْو، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة عبد ربه عَن الْأَعْرَج، (فهناه ومناه وَذكره من حَاجته مَا لم يكن يذكر) . قَوْله: (لما لم يذكر) أَي: لشَيْء لم يكن على ذكره قبل دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (لما لم يذكر من قبل) . قَوْله: (حَتَّى يظل الرجل) ، بِفَتْح الظَّاء أَي: حَتَّى يصير الرجل مَا يدْرِي كم صلى من الرَّكْعَات، ويسهو، وَرِوَايَة الْجُمْهُور بِالطَّاءِ المثالة الْمَفْتُوحَة وَمَعْنَاهُ فِي الأَصْل ... الْمخبر عَنهُ بالْخبر نَهَارا لَكِنَّهَا هَهُنَا بِمَعْنى يصير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ظلّ وَجهه} وَقيل مهناه يبْقى ويدوم وَوَقع عِنْد الْأَصْلِيّ (يضل) بالضاد الْمَكْسُورَة أَي ينسى وَيذْهب وهمه ويسهو قَالَ الله تَعَالَى: {أَن تضل أَحدهمَا} (الْبَقَرَة: 282) . وَقَالَ ابْن قرقول: وَحكى الدَّاودِيّ أَنه رُوِيَ: يضل ويضل، من الضلال وَهُوَ الْحيرَة. قَالَ: وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل أشهر، وَقَالَ الْقشيرِي: وَلَو روى هَذَا الرجل حَتَّى يضل الرجل لَكَانَ وَجها صَحِيحا، يُرِيد: حَتَّى يضل الشَّيْطَان الرجل عَن درايته كم صلى؟ قَالَ: لَا أعلم أحدا رَوَاهُ، لكنه لَو رُوِيَ لَكَانَ وَجها صَحِيحا فِي الْمَعْنى، غير خَارج عَن مُرَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي صَلَاة السَّهْو: إِن يدْرِي كم صلى) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد. وَكلمَة: إِن، بِالْكَسْرِ، نَافِيَة بِمَعْنى: مَا يدْرِي، قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا، قَالَ: وَهِي رِوَايَة ابْن عبد الْبر، وَادّعى أَنَّهَا رِوَايَة أَكْثَرهم، وَكَذَا ضَبطه الْأصيلِيّ فِي(5/112)
(كتاب البُخَارِيّ) ، وَالصَّحِيح الْكسر، قلت: الْفَتْح إِنَّمَا يتَوَجَّه على رِوَايَة: يضل، بالضاد فَيكون: أَن، مَعَ الْفِعْل بعْدهَا بِتَأْوِيل الْمصدر، أَي: يجهل درايته وينسى عدد ركعاته. فَإِن قلت: ثَبت لَهُ الضراط فِي إدباره الأول وَلم يثبت فِي الثَّانِي؟ قلت: لِأَن الشدَّة فِي الأول تلْحقهُ على سَبِيل الْغَفْلَة فَيكون أعظم، أَو يكون اكْتفى بِذكرِهِ فِي الأول عَن ذكره فِي الثَّانِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْأَذَان لَهُ فضل عَظِيم حَتَّى يلْحق الشَّيْطَان مِنْهُ أَمر عَظِيم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُؤَذّن، لَهُ أجر عَظِيم، إِذْ كَانَ أَذَانه احتسابا لله تَعَالَى، وَفِي (صَحِيح) ، ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان:) الْمُؤَذّن يغْفر لَهُ مد صَوته، ويستغفر لَهُ كل رطب ويابس، وَشَاهد الصَّلَاة يكْتب لَهُ خمس وَعِشْرُونَ حَسَنَة وَيكفر عَنهُ مَا بَينهمَا) وَعند أَحْمد: (ويصدقه كل رطب ويابس سَمعه) ، وَعند أبي الشَّيْخ: (كل مَدَرَة وصخرة سَمِعت صَوته) . وَفِي كتاب (الْفَضَائِل) لحميد بن زَنْجوَيْه. من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يكْتب الْمُؤَذّن عِنْد أَذَانه أَرْبَعُونَ وَمِائَة حَسَنَة، وَعند الأقامة عشرُون وَمِائَة حَسَنَة) ، وَفِي كتاب أبي الْقَاسِم الْجَوْزِيّ عَن أبي سعيد، وَغَيره: (ثَلَاثَة يَوْم الْقِيَامَة على كثب من مسك أسود لَا يهولهم فزع وَلَا ينالهم حِسَاب) . الحَدِيث، وَفِيه: (رجل أذن ودعا إِلَى الله عزوجل ابْتِغَاء وَجه الله تَعَالَى) وَعند السراج عَن أبي هُرَيْرَة بِسَنَد جيد: (المؤذنون أطول أعناقا، لقَولهم: لَا إِلَه إِلَّا الله،) . وَفِي لفظ: (يعْرفُونَ بطول أَعْنَاقهم يَوْم الْقِيَامَة) ، أخرجه أَيْضا ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَعند أبي الشَّيْخ (من أذن خمس صلوَات إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، وَفِي (كتاب الصَّحَابَة) لأبي مُوسَى من حَدِيث كثير بن مرّة الْحَضْرَمِيّ مَرْفُوعا: (أول من يكسى من حلل الْجنَّة بعد النَّبِيين، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالشُّهَدَاء: بِلَال وَصَالح المؤذنين) . وَفِي كتاب (شعب الْإِيمَان) للبيهقي، من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة: عَن أبي يعِيش السكونِي عَن عبَادَة بن نسي يرفعهُ: (من حَافظ على النداء بِالْأَذَانِ سنة أوجب الْجنَّة) ، وَعند أبي أَحْمد بن عدي، من حَدِيث عمر بن حَفْص الْعَبْدي، وَهُوَ مَتْرُوك، عَن ثَابت عَن أنس: (يَد الله تَعَالَى على رَأس الْمُؤَذّن حَتَّى يفرغ من أَذَانه، أَو أَنه ليغفر لَهُ مد صَوته واين بلغ) . زَاد أَبُو الشَّيْخ من حَدِيث النُّعْمَان: (فَإِذا فرغ قَالَ الرب تَعَالَى: صدقت عَبدِي وَشهِدت شَهَادَة الْحق فأبشر) . وَعند أبي الففرج (يحْشر المؤذنون) على نُوق من نُوق الْجنَّة يخَاف النَّاس وَلَا يخَافُونَ ويحزن النَّاس وَلَا يَحْزَنُونَ وَعند ابي الشَّيْخ من حَدِيث أبي مُوسَى: (يبْعَث يَوْم الْجُمُعَة زاهرا منيرا وَأهل الْجنَّة محفوفون بِهِ كالعروس تهدى إِلَى بَيت زَوجهَا، لَا يخالطهم إلاَّ المؤذنون المحتسبون) . وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (قيل: يَا رَسُول الله! مَن أول النَّاس دُخُولا الْجنَّة؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاء، ثمَّ الشُّهَدَاء، ثمَّ مؤذنوا الْكَعْبَة، ثمَّ مؤذنوا بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ مؤدنوا مَسْجِدي هَذَا، ثمَّ سَائِر المؤذنين) ، سندهما صَالح، وَحَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا جنابذ اللُّؤْلُؤ، فَقلت: لمن هَذَا يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ: للمؤذنين وَالْأَئِمَّة من أمتك) ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر، وَعند عبد الرَّزَّاق: من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن عمار بن سعد الْمُؤَذّن عَن صَفْوَان بن سليم عَن أنس رَفعه: (إِذا أذن فِي قَرْيَة أمنها الله تَعَالَى من عَذَابه ذَلِك الْيَوْم) . وَعند السراج بِسَنَد صَحِيح: (الإِمَام ضَامِن، والمؤذن مؤتمن أللهم أرشد الْأَئِمَّة واغفر للمؤذنين) . وَمن هَذَا أَخذ الشَّافِعِي أَن الْأَذَان أفضل من الْإِمَامَة، وَعِنْدنَا الْإِمَامَة أفضل لِأَنَّهَا وَظِيفَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن السَّهْو الَّذِي يحصل للْمُصَلِّي فِي صلَاته من وَسْوَسَة الشَّيْطَان.
5 - (بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بالنِّدَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الصَّوْت بالنداء، أَي: رفع الْمُؤَذّن صَوته بِالْأَذَانِ، قَالَ ابْن الْمُنِير: لم ينص على حكم رفع الصَّوْت لِأَنَّهُ من صفة الْأَذَان، وَهُوَ لم ينص فِي أصل الْأَذَان على حكم، قلت: هُوَ فِي الْحَقِيقَة صفة الْمُؤَذّن لَا صفة الْأَذَان، وَلَا يحْتَاج إِلَى نَص الحكم ظَاهرا، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن المُرَاد ثَوَاب رفع الْمُؤَذّن صَوته، فَيكون تَقْدِير كَلَامه: بَاب فِي بَيَان ثَوَاب رفع الْمُؤَذّن صَوته عِنْد الْأَذَان، كَمَا ترْجم النَّسَائِيّ: بَاب الثَّوَاب على رفع الصَّوْت بِالْأَذَانِ.
وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ أذانْ أذانا سمْحا وإلاِّ فاعْتَزِلْنَا
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة، مَا قَالَه الدَّاودِيّ: لَعَلَّ هَذَا الْمُؤَذّن لم يكن يحسن مد الصَّوْت إِذا رفع بِالْأَذَانِ فَعلمه، وَلَيْسَ(5/113)
أَنه نَهَاهُ عَن رفع الصَّوْت، قلت: كَأَنَّهُ كَانَ يطرب فِي صَوته ويتنغم، وَلَا ينظر إِلَى مد الصَّوْت مُجَردا عَن ذَلِك، فَأمره عمر بن عبد الْعَزِيز بالسماحة. وَهِي: السهولة، وَهُوَ أَن يسمح بترك التطريب ويمد صَوته، وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ لين من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ مُؤذن يطرب، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤَذّن سهل سمح، فَإِن كَانَ أذانك سهلاً سَمحا وإلاَّ فَلَا تؤذن) ، وَيحْتَمل أَن هَذَا الْمُؤَذّن لم يكن يفصح فِي كَلَامه، ويغمغم فَأمره عبد الْعَزِيز بالسماحة فِي أَذَانه، وَهِي: ترك الغمغمة بِإِظْهَار الفصاحة، وَهَذَا لَا يكون إِلَّا بِمد الصَّوْت بحدة. وروى مجاشع عَن هَارُون بن مُحَمَّد عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يُؤذن لكم إلاَّ فصيح) ، وَقَالَ ابْن عدي: هَارُون هَذَا لَا يعرف، وَأما التَّعْلِيق الْمَذْكُور فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عمر بن سعد عَن أبي الْحسن: أَن مُؤذنًا أذن فطرب لَهُ فِي أَذَانه، فَقَالَ لَهُ عمر ابْن عبد الْعَزِيز: أذن أذانا سَمحا وإلاَّ فاعتزلنا. قَوْله: (أذن) بِلَفْظ الْأَمر من الْفِعْل، وَهُوَ خطاب لمؤذنه. قَوْله: (سَمحا) أَي: سهلا بِلَا نغمات وتطريب. قَوْله: (فاعتزلنا أَي: فاترك منصب الْأَذَان.
609 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَبْدِ الله بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبي صَعْصَعْة الأنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا سعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إنِّي أراكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والبَادِيَةَ فَإذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بالصَّلاَةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤذِّنٌّ جِنُّ ولاَ إنْسٌ ولاَ شَيْءٌ إلأَّ شَهِدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ أبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ منْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فارفع صَوْتك بالنداء) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، بالمهملات المفتوحات إِلَّا الْعين الأولى، فَإِنَّهَا سَاكِنة: الْأنْصَارِيّ الْمَازِني: بالزاي وَالنُّون، مَاتَ فِي خلَافَة أبي جَعْفَر، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى جده، وَاسم أبي صعصعة: عَمْرو بن زيد بن عَوْف مبذول بن عَمْرو بن غنم بن مَازِن بن النجار، مَاتَ أَبُو صعصعة فِي الْجَاهِلِيَّة وَابْنه عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الإِفراد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر الْجِنّ عَن قُتَيْبَة، وَفِي التَّوْحِيد عَن اسماعيل وَعَن ابي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة الْمَاجشون عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة عَن أَبِيه. ذكره خلف وَحده، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم، لم أَجِدهُ وَلَا ذكره أَبُو مَسْعُود، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي صعصعة عَن أَبِيه عَن أبي سعيد بِهِ، كَذَا يَقُول سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: قَالَ أَبُو سعيد لعبد الله بن عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (والبادية) ، أَي: وتحب الْبَادِيَة أَيْضا لأجل الْغنم، لِأَن محب الْغنم يحْتَاج إِلَى إصلاحها بالمرعى، وَهُوَ فِي الْغَالِب يكون فِي الْبَادِيَة، وَهِي الصَّحرَاء الَّتِي لَا عمَارَة فِيهَا. قَوْله: (فَإِذا كنت فِي غنمك) ، أَي: بَين غنمك، وَكلمَة: فِي، تَأتي بِمَعْنى بَين، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فادخلي فِي عبَادي} (الْفجْر: 29) . وَفِي (الْمُخَصّص) : الْغنم جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. وَقَالَ ابو حَاتِم: وَهِي انثى. وَعَن صَاحب (الْعين) : الْجمع أَغْنَام وأغانم وغنوم. وَفِي (الْمُحكم) : ثنوه فَقَالُوا: غنمان. وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ اسْم لجمع الضَّأْن والمعز. وَفِي (الصِّحَاح) : مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا. قَوْله: (أَو باديتك) كلمة: أَو، هُنَا يحْتَمل أَن تكون للشَّكّ من الرَّاوِي، أَو تكون للتنويع، لِأَنَّهُ قد يكون فِي غنم بِلَا بادية، وَقد يكون فِي بادية بِلَا غنم، وَقد يكون فيهمَا مَعًا. وَقد لَا يكون فيهمَا مَعًا، وعَلى كل حَال لَا يتْرك الْأَذَان. قَوْله: (فَأَذنت للصَّلَاة) أَي: لأجل(5/114)
الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (بِالصَّلَاةِ) ، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة ومعناهما قريب. قَوْله: (بالنداء) أَي: الْأَذَان. قَوْله: (مدى صَوت) ، أَي: لَا يسمع غَايَة صَوت الْمُؤَذّن. قَالَ التوربشتي: إِنَّمَا ورد الْبَيَان على الْغَايَة مَعَ حُصُول الْكِفَايَة بقوله: (لَا يسمع صَوت الْمُؤَذّن) ، تَنْبِيها على أَن آخر مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ صَوته يشْهد لَهُ كَمَا يشْهد لَهُ الْأَولونَ. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: غَايَة الصَّوْت تكون أخْفى لَا محَالة. فَإِذا شهد لَهُ من بعد عَنهُ وَوصل إِلَيْهِ هَمس صَوته فَلِأَنَّهُ يشْهد لَهُ من هُوَ أدنى مِنْهُ وَسمع مبادي صَوته أولى. قَوْله: (لَا شَيْء) هَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، لَان الْجِنّ وَالْإِنْس يدخلَانِ فِي: شَيْء، وَهُوَ يَشْمَل الْحَيَوَانَات والجمادات. قيل: إِنَّه مَخْصُوص بِمن تصح مِنْهُ الشَّهَادَة مِمَّن يسمع: كالملائكة، نَقله الْكرْمَانِي. وَقيل: المُرَاد بِهِ كل مَا يسمع الْمُؤَذّن من الْحَيَوَان حَتَّى مَا لَا يعقل دون الجمادات. وَقيل: عَام حَتَّى فِي الجمادات أَيْضا، وَالله تَعَالَى يخلق لَهَا إدراكا وعقلاً، وَهُوَ غير مُمْتَنع عقلا وَلَا شرعا. وَقَالَ ابْن بزيزة: تقرر فِي الْعَادة أَن السماع وَالشَّهَادَة وَالتَّسْبِيح لَا يكون إِلَّا من حَيّ، فَهَل ذَلِك إلاَّ حِكَايَة على لِسَان الْحَال؟ لِأَن الموجودات ناطقة بِلِسَان حَالهَا بِجلَال باريها. قَوْله: (إلاَّ شهد لَهُ) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ يشْهد لَهُ) . وَالْمرَاد من الشَّهَادَة {وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} (النِّسَاء: 79 و 166، الْفَتْح: 28) . اشتهاره يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا بَينهم بِالْفَضْلِ وعلو الدرجَة، وكما أَن الله يفضح قوما بِشَهَادَة الشَّاهِدين، كَذَلِك يكرم قوما بهَا، تجميلاً لَهُم وتكميلاً لسرورهم وتطمينا لقُلُوبِهِمْ قَوْله: (سمعته من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: سَمِعت هَذَا الْكَلَام الْأَخير، وَهُوَ قَوْله: (فَإِنَّهُ لَا يسمع) إِلَى آخِره. قلت: أَشَارَ بذلك إِلَى أَن من قَوْله: (إِنِّي أَرَاك) ، إِلَى قَوْله: (فَإِنَّهُ لَا يسمع) ، مَوْقُوف، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَلَفظه: (قَالَ أَبُو سعيد: إِذا كنت فِي الْبَوَادِي فارفع صَوْتك بالنداء فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن) فَذكره، وَرَوَاهُ يحيى الْقطَّان أَيْضا عَن مَالك بِلَفْظ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا أَذِنت فارفع صَوْتك فَإِنَّهُ لَا يسمع) فَذكره، وَقد أورد الْغَزالِيّ والرافعي وَالْقَاضِي حُسَيْن هَذَا الحَدِيث وجعلوه كُله مَرْفُوعا، وَلَفظه: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأبي سعيد: إِنَّك رجل تحب الْغنم) . وساقوه إِلَى آخِره، ورده النَّوَوِيّ، وتصدى ابْن الرّفْعَة للجواب عَنْهُم بِأَنَّهُم فَهموا أَن قَول أبي سعيد: سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرجع إِلَى كل مَا ذكر، وَالصَّوَاب مَعَ النَّوَوِيّ لما ذَكرْنَاهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبَاب رفع الصَّوْت بِالْأَذَانِ ليكْثر من يشْهد لَهُ وَلَو أذن على مَكَان مُرْتَفع ليَكُون أبعد لذهاب الصَّوْت، وَكَانَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يُؤذن على بَيت امْرَأَة من بني النجار، بَيتهَا أطول بَيت حول الْمَسْجِد. وَفِيه: الْعُزْلَة عَن النَّاس خُصُوصا فِي أَيَّام الْفِتَن. وَفِيه: اتِّخَاذ الْغنم وَالْمقَام بالبادية، وَهُوَ من فعل السّلف. وَفِيه: أَن أَذَان الْمُنْفَرد مَنْدُوب، وَلَو كَانَ فِي بَريَّة، لِأَنَّهُ إِن لم يحضر من يُصَلِّي مَعَه يحصل لَهُ شَهَادَة من سَمعه من الْحَيَوَانَات والجمادات. وَللشَّافِعِيّ فِي أَذَان الْمُنْفَرد ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: نعم، لحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ هَذَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيم: لَا ينْدب لَهُ لِأَن الْمَقْصُود من الْأَذَان والإبلاغ والإعلام، وَهَذَا لَا يَنْتَظِم فِي الْمُنْفَرد. وَالثَّالِث: أَن رجى حُضُور جمَاعَة أذن لإعلامهم، وإلاَّ فَلَا، وَحمل حَدِيث أبي سعيد على أَنه كَانَ يَرْجُو حُضُور غلمانه. وَفِيه: أَن الْجِنّ يسمعُونَ أصوات بني آدم. وَفِيه: أَن بعض الْخلق يشْهد لبَعض.
6 - (بابُ مَا يُحْقَنُ بِالآذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يمْنَع من الدِّمَاء بِسَبَب الْأَذَان، يُقَال: حقنت لَهُ دَمه أَي: منعت من قَتله وإراقته، أَي: جمعته لَهُ وحبسته عَلَيْهِ، وأصل الحقن الْحَبْس، وَمِنْه الحاقن لِأَنَّهُ يحبس بَوْله أَو غائطه فِي بَطْنه، وَمِنْه: حقن اللَّبن، إِذا حَبسه فِي السقاء، والدماء جمع: دم.
610 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَس بن مَالِكٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إِذا غَزَا بِنَا قوْما لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ ويَنْظُرَ فإنْ سَمِعَ(5/115)
أذَانا كَفَّ عَنْهُمْ وإنْ لَمْ يَسْمَعْ أذَانا أغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا إلَى خَيْبَرَ فانْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ لَيْلاً فلَمَّا أصْبَحَ ولَمْ يَسْمَعْ أذَانا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أبي طلْحَةَ وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَخَرَجُوا إلَيْنَا بِمَكاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فلَمَّا رَأُوا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا مُحَمَّدٌ واللَّهِ مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ قَالَ فَلَمَّا رَآهُمُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ الله أكبرُ الله أكبرُ خَربَتْ خَيْبَرُ إنَّا إِذا نَزَلْنا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد سبق فِي: بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، وَحميد الطَّوِيل.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة فِي الْجِهَاد، وروى مُسلم طرفه الْمُتَعَلّق بِالْأَذَانِ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُغير إِذا طلع الْفجْر وَكَانَ يستمع الْأَذَان، فَإِن سمع الْأَذَان أمسك وإلاَّ أغار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا غزا بِنَا) أَي: مصاحبا، فالباء للمصاحبة. قَوْله: (لم يَغْزُو بِنَا) قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ خمس نسخ. قلت: الأولى: لم يَغْزُو، من: غزا يغزوا غزوا، وَالِاسْم: الْغُزَاة، وَكَانَ الأَصْل فِيهِ إِسْقَاط: الْوَاو عَلامَة، للجزم، وَلكنه على بعض اللُّغَات، وَهُوَ عدم إِسْقَاط الْوَاو، وإخراجه عَن الأَصْل. ثمَّ قيل: هَذِه لُغَة، وَقيل: ضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة إلاَّ فِي الشّعْر كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(لم تهجو وَلم تدع)
ووروده هَكَذَا يدل على أَنَّهَا لُغَة، وَهِي، رِوَايَة كَرِيمَة. وَالثَّانيَِة: لم يغز، مَجْزُومًا على أَنه بدل من لفظ: لم يكن. وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. الثَّالِثَة: لم يُغير، من الإغارات بِإِثْبَات الْيَاء بعد الْغَيْن، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَهُوَ على غير الأَصْل. الرَّابِعَة: لم يغر من الإغارة أَيْضا لكنه على الأَصْل. الْخَامِسَة: لم يَغْدُو، بِإِسْكَان الْغَيْن وبالدال الْمُهْملَة من: الغدو، ونقيض الرواح وَهِي رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (وَينظر) ، أَي: ينْتَظر. قَوْله: (فخرجنا إِلَى خَيْبَر) ، وخيبر بلغَة الْيَهُود: حصن، وَقد ذكرنَا تَحْقِيق هَذَا فِي: بَاب مَا يذكر من الْفَخْذ، فَإِن البُخَارِيّ ذكر بعض هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غزا خَيْبَر فصلينا عِنْدهَا صَلَاة الْغَدَاة بِغَلَس، فَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَركب أَبُو طَلْحَة وَأَنا رَدِيف أبي طَلْحَة، فَأجرى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زقاق خَيْبَر، وَإِن ركبتي لتمس فَخذ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ حسر الْإِزَار عَن فَخذه حَتَّى كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض فَخذ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا دخل الْقرْيَة قَالَ: الله أكبر، خربَتْ خَيْبَر إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فسَاء صباح الْمُنْذرين، قَالَهَا ثَلَاثًا) الحَدِيث. وَأَبُو طَلْحَة وَهُوَ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، واسْمه: زيد بن سهل، وَهُوَ زوج أم أنس. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لصوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من فِئَة) ، وَرُوِيَ: (من مائَة رجل) قَوْله: (بمكاتلهم) ، هُوَ جمع: المكتل، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ: القفة، أَي: الزنبيل، والمساحي، جمع: مسحاة وَهِي: المجرفة إِلَّا أَنَّهَا من الْحَدِيد. قَوْله: (والجيش) أَي: جَاءَ مُحَمَّد والجيش، وَرُوِيَ بِالنّصب على أَنه مفعول مَعَه، ويروى (وَالْخَمِيس) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وَهُوَ بِمَعْنى: الْجَيْش، سمي بِهِ لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقسَام: قلب وميمنة وميسرة ومقدمة وساقة. قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) ، إِنَّمَا قَالَ بخرابها لما رأى فِي أَيْديهم من الات الخراب من الْمساحِي وَغَيرهَا، وَقيل: أَخذه من اسْمهَا، وَالأَصَح أَنه أعلمهُ الله تَعَالَى بذلك. قَوْله: (بِسَاحَة) الساحة: الفناء، وَأَصلهَا: الفضاء بَين الْمنَازل. قَوْله: (فسَاء) كلمة: سَاءَ، مثل: بئس، من أَفعَال الذَّم و: (صباح) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: سَاءَ و: (الْمُنْذرين) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: بَيَان أَن الْأَذَان شعار لدين الْإِسْلَام، وَأَنه أَمر وَاجِب لَا يجوز تَركه، وَلَو أَن أهل بلد اجْتَمعُوا على تَركه وامتنعوا كَانَ للسُّلْطَان قِتَالهمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: وَإِنَّمَا يحقن الدَّم بِالْأَذَانِ لِأَن فِيهِ الشَّهَادَة بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَار بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهَذَا لمن قد بلغته الدعْوَة، وَكَانَ يمسك عَن هَؤُلَاءِ حَتَّى يسمع الْأَذَان ليعلم أَكَانَ النَّاس مجيبين للدعوة أم لَا، لِأَن الله وعده إِظْهَار دينه على الدّين كُله، وَكَانَ يطْمع فِي إسْلَامهمْ، وَلَا يلْزم الْيَوْم الْأَئِمَّة أَن يكفوا عَمَّن بلغته الدعْوَة لكَي يسمعوا أذانا، لِأَنَّهُ قد علم غائلتهم للْمُسلمين، فَيَنْبَغِي أَن تنتهز الفرصة فيهم. وَفِيه: جَوَاز الإرداف على الدَّابَّة إِذا كَانَت مطيقة. وَفِيه: اسْتِحْبَاب التبكير عِنْد لِقَاء الْعَدو. وَفِيه: جَوَاز الاستشهاد بالقران فِي الْأُمُور المحققة، وَيكرهُ مَا كَانَ على ضرب(5/116)
الْأَمْثَال فِي المحاورات ولغو الحَدِيث، تَعْظِيمًا لكتاب الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن الإغارة على الْعَدو يسْتَحبّ كَونهَا فِي أول النَّهَار، لِأَنَّهُ وَقت غفلتهم، بِخِلَاف ملاقاة الجيوش. وَفِيه: أَن النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ يكون إسلاما، قَالَه الْكرْمَانِي، وَفِيه خلاف مَشْهُور.
7 - (بابُ مَا يَقُولُ إذَا سَمِعَ المُنَادِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَقُول الرجل إِذا سمع الْمُؤَذّن يُؤذن، إِنَّمَا لم يُوضح مَا يَقُول السَّامع لأجل الْخلاف فِيهِ، وَلكنه ذكر حديثين: أَحدهمَا: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَالْآخر: عَن مُعَاوِيَة، فَالْأول عَام، وَالثَّانِي يخصصه، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْمُرَجح عِنْده مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، وَهُوَ أَن يَقُول مثل مَا يَقُوله الْمُؤَذّن إلاَّ فِي الحيعلتين، على مَا نبينه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
611 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابً عَن عَطَاءِ بنِ يِزِيدَ اللَّيْثِي عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن) ، فَهَذَا يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِي قَوْله: (مَا يَقُول إِذا سمع الْمُنَادِي) ، وَقد تكَرر ذكر رِجَاله، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَعَطَاء بن يزِيد من الزِّيَادَة اللَّيْثِيّ، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب عَن مَالك وَيُونُس عَن الزُّهْرِيّ أَن عَطاء بن يزِيد أخبرهُ، أخرجه أَبُو عوانه، وَاخْتلف على الزُّهْرِيّ فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، وعَلى مَالك أَيْضا، لكنه اخْتِلَاف لَا يقْدَح فِي صِحَّته، فَرَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ أَحْمد بن صَالح وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: حَدِيث مَالك وَمن تَابعه أصح، وَرَوَاهُ أَيْضا يحيى الْقطَّان عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد. أخرجه مُسَدّد فِي (مُسْنده) عَنهُ: وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه خطأ، وَالصَّوَاب الرِّوَايَة الأولى.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَأَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي وَالتِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن، وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى ابْن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن زيد بن الْحباب، كلهم عَن مَالك. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (النداء) أَي: الْأَذَان. قَوْله: (فَقولُوا مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن) مثل مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: قُولُوا قولا مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: مثل قَول الْمُؤَذّن، والمثل هُوَ النظير، يُقَال: مثل وَمثل ومثيل مثل: شبه وَشبه وشبيه، والمماثلة بَين الشَّيْئَيْنِ اتحادهما فِي النَّوْع: كزيد وَعَمْرو فِي الإنسانية. وَقَالَ ابْن وضاح: قَوْله الْمُؤَذّن، مدرج والْحَدِيث: (فَقولُوا مثل مَا يَقُول) ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُؤَذّن، وَفِيه نظر لِأَن الإدراج لَا يثبت بِمُجَرَّد الدَّعْوَى، وَالرِّوَايَات فِي الصَّحِيحَيْنِ: (مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن) ، وَحذف صَاحب (الْعُمْدَة) لفظ: الْمُؤَذّن، لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا قَالَ: مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن، بِلَفْظ الْمُضَارع، وَلم يقل: مثل مَا قَالَ الْمُؤَذّن، بِلَفْظ الْمَاضِي، ليَكُون قَول السَّامع بعد كل كلمة مثل كلمتها، والصريح فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أم حَبِيبَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ عِنْدهَا فَسمع الْمُؤَذّن قَالَ مثل مَا يَقُول حِين يسكت) ، وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قلت: قَوْله: على شَرط الشَّيْخَيْنِ، غير جيد، لِأَن فِي سَنَده من لَيْسَ عِنْدهمَا، وَلَا عِنْد أَحدهمَا، وَهُوَ: عبد الله بن عتبَة بن أبي سُفْيَان، وَرَوَاهُ أَبُو عمر بن عبد الْبر من حَدِيث أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَنْهَا، وَكَذَا أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بقوله: (فَقولُوا) أَصْحَابنَا أَن إِجَابَة الْمُؤَذّن وَاجِبَة على السامعين لدلَالَة الْأَمر على الْوُجُوب، وَبِه قَالَ ابْن وهب من أَصْحَاب مَالك، والظاهرية، أَلا ترى أَنه يجب عَلَيْهِم قطع الْقِرَاءَة وَترك الْكَلَام وَالسَّلَام ورده وكل عمل غير الْإِجَابَة؟ فَهَذَا كُله أَمارَة الْوُجُوب. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَجُمْهُور الْفُقَهَاء: الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب على الِاسْتِحْبَاب دون الْوُجُوب، وَهُوَ اخْتِيَار الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: تسْتَحب إِجَابَة الْمُؤَذّن بالْقَوْل، مثل قَوْله لكل من(5/117)
سَمعه من متطهر ومحدث وجنب وحائض وَغَيرهم مِمَّن لَا مَانع لَهُ من الْإِجَابَة.
فَمن أَسبَاب الْمَنْع: أَن يكون فِي الْخَلَاء، أَو جماع أَهله أَو نَحْوهَا. وَمِنْهَا: أَن يكون فِي صَلَاة، فَمن كَانَ فِي صَلَاة فَرِيضَة أَو نَافِلَة وَسمع الْمُؤَذّن لم يُوَافقهُ فِي الصَّلَاة، فَإِذا سلم أَتَى بِمثلِهِ، فَلَو فعله فِي الصَّلَاة هَل يكره؟ فِيهِ قَولَانِ للشَّافِعِيّ، فَفِي أظهرهمَا يكره، لَكِن لَا تبطل صلَاته، فَلَو قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، وَالصَّلَاة خير من النّوم، بطلت صلَاته إِن كَانَ عَالما بِتَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ كَلَام آدَمِيّ، وَلَو سمع الْأَذَان وَهُوَ فِي قِرَاءَة وتسبيح وَنَحْوهمَا قطع مَا هُوَ فِيهِ وأتى بمتابعة الْمُؤَذّن، ويتابعه فِي الْإِقَامَة كالأذان إلاَّ أَنه يَقُول فِي لفظ الْإِقَامَة: أَقَامَهَا الله وأدامها، وَإِذا ثوب الْمُؤَذّن فِي صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم، قَالَ سامعه: صدقت وبررت. انْتهى.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: يجب على السَّامع أَن يَقُول مثل مَا قَالَ الْمُؤَذّن، إلاَّ قَوْله: حَيّ على الصَّلَاة، فَإِنَّهُ يَقُول مَكَان قَوْله: حَيّ على الصَّلَاة: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، وَمَكَان قَوْله: حَيّ على الْفَلاح: مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن، لِأَن إِعَادَة ذَلِك تشبه المحاكاة والاستهزاء، وَكَذَا إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الصَّلَاة خير من النّوم، وَلَا يَقُول السَّامع مثله، وَلَكِن يَقُول: صدقت وبررت، وَيَنْبَغِي أَن لَا يتَكَلَّم السَّامع فِي خلال الْأَذَان وَالْإِقَامَة، وَلَا يقْرَأ الْقرَان، وَلَا يسلم وَلَا يرد السَّلَام، وَلَا يشْتَغل بِشَيْء من الْأَعْمَال سوى الْإِجَابَة، وَلَو كَانَ فِي قِرَاءَة الْقرَان يقطع وَيسمع الْأَذَان ويجيب، وَفِي (فَوَائِد) الرستغفني: لَو سمع وَهُوَ فِي الْمَسْجِد يمْضِي فِي قِرَاءَته، وَإِن كَانَ فِي بَيته فَكَذَلِك، إِن لم يكن أَذَان مَسْجده، وَعَن الْحلْوانِي: لَو أجَاب اللِّسَان وَلم يمش إِلَى الْمَسْجِد لَا يكون مجيبا. وَلَو كَانَ فِي الْمَسْجِد وَلم يجب لَا يكون اثما، وَلَا تجب الْإِجَابَة على من لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة، ولأجيب إيضا وَهُوَ فِي الصَّلَاة سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا. وَقَالَ عِيَاض: اخْتلف أَصْحَابنَا: هَل يحْكى الْمُصَلِّي لفظ الْمُؤَذّن فِي حَالَة الْفَرِيضَة أَو النَّافِلَة أم لَا يحكيه فيهمَا، أم يَحْكِي فِي النَّافِلَة دون الْفَرِيضَة؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال. انْتهى. ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا: هَل يَقُول عِنْد سَماع كل مُؤذن أم الأول فَقَط؟ وَسُئِلَ ظهير الدّين عَن هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ: يجب عَلَيْهِ إِجَابَة مُؤذن مَسْجده بِالْفِعْلِ. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُغير إِذا طلع الْفجْر، وَكَانَ يستمع الْأَذَان، فَإِن سمع الْأَذَان أمسك وإلاَّ أغار. قَالَ: فَسمع رجلا يَقُول: الله أكبر الله أكبر، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْفطْرَة، ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خرجت من النَّار، فنظروا فَإِذا هُوَ راعي معزى) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره فَسمع مناديا وَهُوَ يَقُول: الله أكبر الله أكبر، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: على الْفطْرَة، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرجت من النَّار، فابتدرناه فَإِذا هُوَ صَاحب مَاشِيَة أَدْرَكته الصَّلَاة فَأذن لَهَا) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد سمع الْمُنَادِي يُنَادي وَقَالَ غير مَا قَالَ، فَدلَّ ذَلِك على أَن قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ الْمُنَادِي فَقولُوا مثل الَّذِي يَقُول) ، إِن ذَلِك لَيْسَ على الْإِيجَاب، وَأَنه على الِاسْتِحْبَاب والندبة إِلَى الْخَيْر وإصابة الْفضل، كَمَا قد علم النَّاس من الدُّعَاء الَّذِي أَمرهم أَن يَقُولُوا فِي دبر الصَّلَوَات وَمَا أشبه ذَلِك. قلت: الْأَمر الْمُطلق الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب، وَلَا سِيمَا قد تأيد ذَلِك بِمَا رُوِيَ من الْأَخْبَار والْآثَار فِي الْحَث على الْإِجَابَة، وَقد روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عَاصِم عَن الْمسيب بن رَافع عَن عبد الله قَالَ: من الْجفَاء أَن تسمع الْمُؤَذّن ثمَّ لَا تَقول مثل مَا يَقُول. انْتهى. وَلَا يكون من الْجفَاء إِلَّا ترك الْوَاجِب، وَترك الْمُسْتَحبّ لَيْسَ من الْجفَاء، وَلَا تَاركه جَاف، وَالْجَوَاب عَن الْحَدِيثين: أَنَّهُمَا لَا يُنَافِي إِجَابَة الرَّسُول لذَلِك الْمُنَادِي بِمثل مَا قَالَ، وَيكون الرَّاوِي ترك ذكره أَو يكون الْأَمر بالإجابة بعد هَذِه الْقَضِيَّة. قَوْله: على الْفطْرَة، أَي: على الْإِسْلَام، إِذا كَانَ الْأَذَان شعارهم، وَلِهَذَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سمع أذانا أمسك، وَإِن لم يسمع أغار، لِأَنَّهُ كَانَ فرق مَا بَين بلد الْكفْر وبلد الْإِسْلَام. فَإِن قلت: كَيفَ يكون مُجَرّد الْقبُول بِلَا إِلَه إِلَّا الله إِيمَانًا؟ قلت: هُوَ إِيمَان بِاللَّه فِي حق الْمُشرك، وَحقّ من لم يكن بَين الْمُسلمين. أما الْكِتَابِيّ وَالَّذِي يخالط الْمُسلمين لَا يصير مُؤمنا إِلَّا بالتلفظ بكلمتي الشَّهَادَة، بل شَرط بَعضهم التبري مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ من الدّين الَّذِي يَعْتَقِدهُ. وَأما الدَّلِيل على مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا فِي الحيعلتين وَالصَّلَاة خير من النّوم، فسنذكره فِي الحَدِيث الْآتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
612 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ مُحَمَّدِ بنِ إبْراهِيمَ بنِ الحَارِثِ قَالَ حدَّثني عِيسَى بنْ طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَوْما فَقال مِثْلَهُ إلَى قَوْلِهِ وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدا رسولُ الله.(5/118)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام. فِي قَوْله: (مَا يَقُول إِذا سمع الْمُؤَذّن) ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه أبهم التَّرْجَمَة لاحتمالها الْوَجْهَيْنِ، فَحَدِيث أبي سعيد أوضح الْوَجْه الأول، وَحَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا أوضح الْوَجْه الثَّانِي.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: معَاذ بن فضَالة، بِضَم الْمِيم وَفتح الْفَاء، تقدم ذكره. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير، الرَّابِع: مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث الْمدنِي، مضى ذكره فِي: بَاب الصَّلَاة الْخمس كَفَّارَة. الْخَامِس: عِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ الْقرشِي من أفاضل أهل الْمَدِينَة، مَاتَ فِي زَمَنه عمر بن عبد الْعَزِيز. السَّادِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأهوازي ويماني ومدني.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن خَالِد عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ، وَلم يذكر الزِّيَادَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَقَالَ مثله) ، أَي: مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن، ويروى: بِمثلِهِ، وَهَهُنَا سَأَلَ الْكرْمَانِي سؤالين: الأول: أَن السماع لَا يَقع إِلَّا على الذوات إِلَّا إِذا وصف بالْقَوْل، وَنَحْوه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سمعنَا مناديا يُنَادي للْإيمَان} (ال عمرَان: 193) . وَأجَاب بِأَن القَوْل مُقَدّر، أَي: سمع مُعَاوِيَة قَالَ يَوْمًا، وَلَفظ: فَقَالَ، مُفَسّر: لقَالَ الْمُقدر، وَمثل هَذِه: الْفَاء، تسمى بِالْفَاءِ التفسيرية. وَالثَّانِي: كلمة: إِلَى، للغاية، وَحكم مَا بعْدهَا خلاف مَا قبلهَا، وَيلْزم أَن لَا يَقُول فِي أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله مثله، وَأجَاب بِأَن: إِلَى، هَهُنَا بِمَعْنى: الْمَعِيَّة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 2) . سلمنَا أَنَّهَا بِمَعْنى الِانْتِهَاء، لَكِن حكمهَا متفاوت، فقد لَا تدخل الْغَايَة تَحت المغيا؟ قَالَ صَاحب (الْحَاوِي) : الْإِقْرَار بقوله من وَاحِد إِلَى عشرَة إِقْرَار بِتِسْعَة، وَقد تدخل: قَالَ الرَّافِعِيّ: هُوَ إِقْرَار بِالْعشرَةِ، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، سلمنَا وجوب الْمُخَالفَة بَين مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا. لَكِن لَا نسلم وُجُوبهَا بَين نفس الْغَايَة وَمَا قبلهَا، كَمَا يُقَال: مَا بعد الْمرْفق حكم مُخَالف لحكم مَا قبله، لَا نفس الْمرْفق. فَفِي مَسْأَلَتنَا: تجب مُخَالفَة حكم الحيعلة لما قبلهَا، لَا حكم الشَّهَادَة بالرسالة. قلت: الأَصْل فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة عِنْد أبي حنيفَة أَنه لَا يدْخل الِابْتِدَاء وَلَا يدْخل الِانْتِهَاء، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يدخلَانِ جَمِيعًا. وَعند زفر: لَا يدخلَانِ جَمِيعًا، فَالَّذِي يلْزمه عِنْد أبي حنيفَة تِسْعَة، وَعِنْدَهُمَا عشرَة، وَعند زفر ثَمَانِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ الْمُسْتَفَاد من حَدِيث مُعَاوِيَة فِي هَذَا الْبَاب: أَن يَقُول السَّامع من الْمُؤَذّن مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن إلاَّ فِي الحيعلتين، وَاخْتصرَ البُخَارِيّ حَدِيث مُعَاوِيَة هَهُنَا، وَقد روى حَدِيثه بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عمر: حَدِيث مُعَاوِيَة فِي هَذَا الْبَاب مُضْطَرب الْأَلْفَاظ، بَيَان ذَلِك أَنه روى مثل مَا يَقُول طَائِفَة، وَهُوَ أَن يَقُول مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن من أول الْأَذَان إِلَى آخِره، رُوِيَ هَذَا عَن الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (كُنَّا عِنْد مُعَاوِيَة فَأذن الْمُؤَذّن، فَقَالَ مُعَاوِيَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن يُؤذن فَقولُوا مثل مقَالَته) . أَو كَمَا قَالَ، وروى عَنهُ: (مثل مَا يَقُول) ، طَائِفَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن يَقُول مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن فِي كل شَيْء إِلَّا قَوْله: حى على الصَّلَاة حى على الْفَلاح، فَإِنَّهُ يَقُول فيهمَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، ثمَّ يتم الْأَذَان، وَهُوَ رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : حَدثنَا معَاذ بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا يحيى عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (أذن الْمُؤَذّن عِنْد مُعَاوِيَة فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر، قَالَ مُعَاوِيَة الله اكبر الله اكبر: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. فَقَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. قَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَقَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، فَقَالَ: حَيّ على الْفَلاح، قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر، قَالَ مُعَاوِيَة: الله أكبر الله أكبر. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَرُوِيَ عَنهُ: مثل مَا يَقُول، طَائِفَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن يَقُول مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن فِي التَّشَهُّد وَالتَّكْبِير دون سَائِر الْأَلْفَاظ، وَهُوَ رِوَايَة عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن ابْن عُيَيْنَة عَن مجمع الْأنْصَارِيّ أَنه سمع أَبَا أُمَامَة بن سهل بن حنيف حِين سمع الْمُؤَذّن كبر وَتشهد بِمَا تشهد بِهِ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا حَدثنَا مُعَاوِيَة أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَمَا يَقُول الْمُؤَذّن، فَإِذا قَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَقَالَ: وَأَنا أشهد، ثمَّ سكت. وروى عَنهُ: مثل مَا يَقُول طَائِفَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن يَقُول مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن حَتَّى يبلغ: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، فَيَقُول: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، بدل كل مِنْهُمَا مرَّتَيْنِ، على حسب مَا يَقُول الْمُؤَذّن، ثمَّ لَا يزِيد على ذَلِك، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يخْتم الْأَذَان، وَهُوَ رِوَايَة البُخَارِيّ(5/119)
عَن معَاذ بن فضَالة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب الخ.
ثمَّ مَذَاهِب الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَقَالَ النَّخعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَمَالك فِي رِوَايَة: يَنْبَغِي لمن سمع الْأَذَان أَن يَقُول كَمَا يَقُول الْمُؤَذّن حَتَّى يفرغ من أَذَانه، وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر أَيْضا. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي الْأَصَح، وَمَالك فِي رِوَايَة: يَقُول سامع الْأَذَان مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن إِلَّا فِي الحيعلتين فَإِنَّهُ يَقُول فيهمَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم: حَدثنِي إِسْحَاق بن مَنْصُور، قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابْن جَهْضَم الثَّقَفِيّ، قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عمَارَة بن غزيَّة عَن حبيب بن عبد الله بن أساف عَن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب عَن أَبِيه عَن جده عمر بن الْخطاب، قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الله أكبر الله أكبر، فَقَالَ أحدكُم: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ قَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَقَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ثمَّ قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، فَقَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، ثمَّ قَالَ: حَيّ على الْفَلاح، فَقَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، ثمَّ قَالَ: الله أكبر الله أكبر. فَقَالَ: الله أكبر الله أكبر. ثمَّ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: لَا إل هـ إلاَّ اللَّهُ، من قلبه دخل الْجنَّة) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والطَّحَاوِي. قَوْله: (من قلبه) أَي: قَالَ ذَلِك خَالِصا من قلبه، لِأَن الأَصْل فِي القَوْل وَالْفِعْل وَالْإِخْلَاص.
613 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ حدَّثنا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا هشامٌ عنْ يَحْيَى نحْوَهُ. قَالَ يحْيى وحدَّثني بَعْضُ إخْوانِنا أنَّهُ قَالَ لمَّا قَالَ حَيَّ عَلى الصَّلاَةِ قَالَ لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ وَقَالَ هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: إِسْحَاق: هُوَ ابْن رَاهَوَيْه. قَالَ الغساني: قَالَ ابْن السكن: كل مَا روى البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَكَذَلِكَ صرح بِهِ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) وَأخرجه من طَرِيق عبد الله بن شيرويه عَنهُ. الثَّانِي: وهب بن جرير، بِفَتْح الْجِيم: وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: هِشَام الدستوَائي. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع بِصِيغَة الْجمع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو التحديث الْمَذْكُور بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم. قَوْله: (قَالَ يحيى، وحَدثني بعض إِخْوَاننَا) هَذَا من بَاب الرِّوَايَة عَن الْمَجْهُول. قَالَ الْكرْمَانِي: قيل المُرَاد بِهِ الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر، لِأَن الظَّاهِر أَن قَائِل ذَلِك ليحيى حَدثهُ بِهِ عَن مُعَاوِيَة، وَأَيْنَ عصر الْأَوْزَاعِيّ من عصر مُعَاوِيَة؟ انْتهى.
قلت: أخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا من أَربع طرق: الأول: من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: كُنَّا عِنْد مُعَاوِيَة ... الحَدِيث، وجده عَلْقَمَة ابْن وَقاص الْمدنِي، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَالثَّانِي: كَذَلِك، وَلَفظه: أَن مُعَاوِيَة قَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والثاالث: عَن عَمْرو بن يحيى عَن عبد الله بن عَلْقَمَة، قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنب مُعَاوِيَة، فَذكر مثله، ثمَّ قَالَ مُعَاوِيَة: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول. وَالرَّابِع: عَن عَمْرو بن يحيى أَن عِيسَى بن عَمْرو أخبرهُ عَن عبد الله بن عَلْقَمَة بن وَقاص، فَذكر نَحوه. وَأخرجه الدَّارمِيّ فِي (سنَنه) : حَدثنَا سعيد بن عَامر حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أَبِيه عَن جده: أَن مُعَاوِيَة سمع الْمُؤَذّن قَالَ: الله أكبر الله أكبر فَقَالَ مُعَاوِيَة: الله أكبر الله أكبر) الحَدِيث. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن عبد الله بن عَلْقَمَة بن وَقاص عَن أَبِيه قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ مُعَاوِيَة ... الحَدِيث. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من حَدِيث ابْن جريج، قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن عِيسَى بن عَمْرو أخبرهُ عَن عبد الله بن عَلْقَمَة بن وَقاص، قَالَ: (أَنِّي لعِنْد مُعَاوِيَة) الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن عَلْقَمَة عَن أَبِيه عَلْقَمَة بن وَقاص عَن مُعَاوِيَة. وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن خُزَيْمَة، وَأخرج أَيْضا من طَرِيق يحيى الْقطَّان عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: كنت عِنْد مُعَاوِيَة ... الحَدِيث. وَفِي هَذِه الطّرق كلهَا الرَّاوِي عَن مُعَاوِيَة هُوَ عَلْقَمَة بن وَقاص، وَعَن عَلْقَمَة ابْنه عبد الله، وَابْنه عَمْرو، وَيحيى بن أبي كثير إِن كَانَ أدْرك عَلْقَمَة فَالْمُرَاد من قَوْله: بعض اخواننا هُوَ: عَلْقَمَة، وَأَن لم يدْرك فَالْمُرَاد غَالِبا أحد ابْني عَلْقَمَة، وهما: عبد الله وَعَمْرو، وَالله أعلم. وَقد روى عَن مُعَاوِيَة أَيْضا نهشل التَّمِيمِي، أخرجه الطَّبَرَانِيّ بإسنادٍ واهٍ.(5/120)
ثمَّ إعلم أَن قَوْله: (قَالَ يحيى وحَدثني) إِلَى آخِره، صورته صُورَة التَّعْلِيق، وَلَيْسَ بتعليق كَمَا زَعمه بَعضهم، بل هُوَ دَاخل فِي إِسْنَاد إِسْحَاق، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ قطب الدّين فِي (شَرحه) : أَن يحيى رَوَاهُ بالإسنادين، وَالْبُخَارِيّ أحَال الْإِسْنَاد الأول بقوله: نَحوه، على الَّذِي قبله، وَالَّذِي قبله لَيْسَ بِتمَام، وَقد ذكرنَا تَمَامه فِيمَا مضى. قَوْله: (وَلما قَالَ) أَي: الْمُؤَذّن لما قَالَ الحيعلة يَعْنِي: حَيّ على الصَّلَاة، قَالَ: أَي مُعَاوِيَة، الحوقلة وَهِي: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَإِنَّمَا لم يذكر حكم حَيّ على الْفَلاح اكْتِفَاء بِذكر إِحْدَى الحيعلتين عَن الْأُخْرَى لظُهُوره. قَوْله: (لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه) يجوز فِيهِ خَمْسَة أوجه. الأول: فتحهما بِلَا تَنْوِين. وَالثَّانِي: فتح الأول وَنصب الثَّانِي منونا. الثَّالِث: رفعهما منونين. وَالرَّابِع: فتح الأول وَرفع الثَّانِي منونا. وَالْخَامِس: عَكسه. والحول: الْحَرَكَة أَي: لَا حَرَكَة وَلَا استطاعة إِلَّا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، قَالَه ثَعْلَب وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: لَا حول فِي دفع شَرّ، وَلَا قُوَّة فِي تَحْصِيل خير، إِلَّا بِاللَّه. وَقيل: لَا حول عَن مَعْصِيّة الله إِلَّا بعصمته، وَلَا قُوَّة على طَاعَته إِلَّا بمعونته. وَحكي هَذَا عَن ابْن مَسْعُود، وَحكى الْجَوْهَرِي لُغَة غَرِيبَة ضَعِيفَة أَنه يُقَال: لَا حيل وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، بِالْيَاءِ، قَالَ: والحيل والحول بِمَعْنى. قلت: لَا ينْسب إِلَيْهِ الضعْف فِي ذَلِك، وَقد ذكر فِي (الْجَامِع) و (الْمُنْتَهى) و (الموعب) و (الْمُخَصّص) و (الْمُحكم) : الْحول والحيل والحول وَالْحِيلَة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل، كل ذَلِك: جودة النّظر وَالْقدر على التَّصَرُّف، فَلَا ينْفَرد إِذا بِهَذِهِ اللَّفْظَة. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال فِي التَّعْبِير عَن قَوْلهم: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه: الحوقلة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحوقلة، فعلى الأول وَهُوَ الْمَشْهُور الْحَاء وَالْوَاو من الْحول، وَالْقَاف من الْقُوَّة، وَاللَّام من اسْم الله. وعَلى الثَّانِي: الْحَاء وَاللَّام من الْحول، وَالْقَاف من الْقُوَّة، وَمثلهَا: الحيعلة والبسملة والحمدلة والهيللة والسبحلة، فِي حَيّ على الصَّلَاة وَحي على الْفَلاح، وبسم الله، وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَسُبْحَان الله. وَقَالَ المطرزي: فِي (كتاب اليواقيت) وَفِي غَيره: إِن الْأَفْعَال الَّتِي اخذت من أسمائها سَبْعَة وَهِي: بسمل الرجل، إِذا قَالَ: بِسم الله، وسبحل، إِذا قَالَ: سُبْحَانَ الله، وحوقل، إِذا قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وحيعل، إِذا قَالَ: حَيّ على الْفَلاح. وَيَجِيء على الْقيَاس: حيصل، إِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، وَلم يذكر: وحمدل، إِذا قَالَ: الْحَمد لله. و: هيلل، إِذا قَالَ: لَا أَله إِلَّا الله، و: جعفل، إِذا قَالَ: جعلت فداءك. زَاد الثعالبي: الطيقلة، إِذا قَالَ: أَطَالَ الله بَقَاءَك، و: الدمعزة، إِذا قَالَ: أدام الله عزك. وَقَالَ عِيَاض: قَوْله: الحيصلة على قِيَاس الحيعلة غير صَحِيح، بل الحيعلة تطلق على حَيّ على الصَّلَاة وَحي على الْفَلاح، كلهَا حيعلة، وَلَو كَانَ على قِيَاسه فِي الحيصلة لَكَانَ الَّذِي يُقَال فِي: حَيّ على الْفَلاح، الحيفلة بِالْفَاءِ، وَهَذَا لم يقل، وَإِنَّمَا الحيعلة من قَوْلهم: حَيّ على كَذَا، فَكيف وَهُوَ بَاب مسموع لَا يُقَاس عَلَيْهِ؟ وَانْظُر قَوْله: جعفل، فِي: جعلت فدَاك، لَو كَانَ على قِيَاس الحيعلة لقَالَ جعلف، إِذْ اللَّام مُقَدّمَة على الْفَاء، كَذَلِك: والطيقلة، تكون اللَّام على الْقيَاس قبل الْقَاف، وَالله تَعَالَى أعلم.
(بابُ الدُّعاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء عِنْد تَمام النداء، وَهُوَ الْأَذَان. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا لم يُقَيِّدهُ بذلك إتباعا لإِطْلَاق الحَدِيث. قلت: لَيْسَ فِي لفظ الحَدِيث هَذِه اللَّفْظَة، وَفِي لفظ الحَدِيث أَيْضا مُقَدّر، وإلاَّ يلْزم أَن يَدْعُو وَهُوَ يسمع، وَحَالَة السماع وَقت الْإِجَابَة، وَالدُّعَاء بعد تَمام السماع.
614 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا شُعَيبُ ابنُ أبي حَمْزَةَ عنْ مُحَمَّدٍ بنِ المُنْكدِرِ عنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ والصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتٍ مُحَمَّدا الوَسِيلَةَ والفَضِيلَة وابْعَثْهُ مَقَاما مَحْمُودا الَّذِي وعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ. (الحَدِيث 614 طرفه فِي: 4719) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف شين مُعْجمَة: الْأَلْهَانِي، بِفَتْح الْهَمْز وَسُكُون اللَّام وبالنون بعد الْألف: الْحِمصِي، مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: الْحِمصِي، وَقد تقدم.(5/121)
الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، بِوَزْن اسْم الْفَاعِل من الانكدار، وَقد تقدم. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَلم يرو عَنهُ أحد من السِّتَّة غَيره، وَقد حدث عَنهُ القدماء بِهَذَا الحَدِيث، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ، وَرَوَاهُ عَليّ بن الْمَدِينِيّ شيخ البُخَارِيّ مَعَ تقدمه عَن أَحْمد عَنهُ، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه، وَذكر التِّرْمِذِيّ أَن شعيبا تفرد بِهِ عَن ابْن الْمُنْكَدر، فَهُوَ غَرِيب مَعَ صِحَّته، وَقد توبع ابْن الْمُنْكَدر عَلَيْهِ عَن جَابر. أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق أبي الزبير عَن جَابر نَحوه، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي ابْن الْمُنْكَدر. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصيين ومدنيين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عَيَّاش، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سهل بن عَسْكَر، وَإِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد وَمُحَمّد ابْن أبي الْحُسَيْن، سبعتهم عَن عَليّ بن عَيَّاش،.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من قَالَ حِين يسمع النداء) ، أَي: الْأَذَان، وَظَاهر الْكَلَام كَانَ يَقْتَضِي أَن يُقَال: حِين سمع، بِلَفْظ الْمَاضِي، لِأَن الدُّعَاء مسنون بعد الْفَرَاغ من الْأَذَان، لَكِن مَعْنَاهُ: حِين يفرغ من السماع أَو المُرَاد من النداء تَمَامه، إِذْ الْمُطلق مَحْمُول على الْكَامِل، وَيسمع، حَال لَا إستقبال، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، أخرجه مُسلم بِلَفْظ: (قُولُوا مثل مَا يَقُول، ثمَّ صلوا عَليّ ثمَّ سلوا الله لي الْوَسِيلَة) . فَفِي هَذَا: إِن ذَلِك إِنَّمَا يُقَال عِنْد فرَاغ الْأَذَان. قَوْله: (اللَّهُمَّ) ، يَعْنِي: يَا ألله، وَالْمِيم عوض عَن الْيَاء، فَلذَلِك لَا يَجْتَمِعَانِ. قَوْله: (رب) ، مَنْصُوب على النداء، وَيجوز رَفعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أَنْت رب هَذِه الدعْوَة، والرب: المربي المصلح للشأن. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ربه يربه فَهُوَ رب، وَيجوز أَن يكون وَصفا بِالْمَصْدَرِ للْمُبَالَغَة، كَمَا فِي الْوَصْف بِالْعَدْلِ، وَلم يطلقوا الرب إلاَّ فِي: الله، وَحده وَفِي غَيره على التَّقْيِيد بِالْإِضَافَة، كَقَوْلِهِم: رب الدَّار، وَنَحْوه. قَوْله: (االدعوة) ، بِفَتْح الدَّال وَفِي (الْمُحكم) : الدعْوَة والدعوة بِالْفَتْح وَالْكَسْر، والمدعاة: مَا دَعَوْت إِلَيْهِ، وَخص اللحياني بالمفتوحة: الدُّعَاء إِلَى الْوَلِيمَة. قلت: قَالُوا: الدعْوَة، بِالْفَتْح فِي الطَّعَام، والدعوة بِالْكَسْرِ فِي النّسَب، والدعوة بِالضَّمِّ فِي الْحَرْب، وَالْمرَاد: بالدعوة، هَهُنَا أَلْفَاظ الْأَذَان الَّتِي يدعى بهَا الشَّخْص إِلَى عبَادَة الله تَعَالَى. وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: من طَرِيق مُحَمَّد بن عَوْف عَن عَليّ ابْن عَيَّاش: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِحَق هَذِه الدعْوَة، وَالْمرَاد بهَا: دَعْوَة التَّوْحِيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَة الْحق} (الرَّعْد: 14) . قَوْله: (التَّامَّة) صفة للدعوة، وصفت بالتمام لِأَن الشّركَة نقص، وَقيل: مَعْنَاهَا الَّتِي لَا يدخلهَا تَغْيِير وَلَا تَبْدِيل، بل هِيَ بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقيل: وصفت بالتمام لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تسْتَحقّ صفة التَّمام، وَمَا سواهَا معرض الْفساد. وَقَالَ ابْن التِّين: وصفت بالتامة لِأَن فِيهَا أتم القَوْل، وَهُوَ: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقيل: التَّامَّة الْكَامِلَة، وكمالها أَن لَا يدخلهَا نقص وَلَا عيب كَمَا يدْخل فِي كَلَام النَّاس. وَقيل: معنى التَّمام كَونهَا محمية عَن النّسخ بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: من أَوله إِلَى قَوْله: مُحَمَّد رَسُول الله، هِيَ الدعْوَة التَّامَّة. قَوْله: (وَالصَّلَاة الْقَائِمَة) أَي: الدائمة الَّتِي لَا يغيرها مِلَّة وَلَا ينسخها شَرِيعَة، وَأَنَّهَا قَائِمَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَوْله: (آتٍ) أَي: أعْط وَهُوَ أَمر من الإيتاء، وَهُوَ الْإِعْطَاء. قَوْله: (الْوَسِيلَة) وَهِي فِي اللُّغَة: مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْغَيْر والمنزلة عِنْد الْملك، يُقَال: وسل فلَان إِلَى ربه وَسِيلَة، وتوسل إِلَيْهِ بوسيلة: إِذا تقرب بِعَمَل، وَهِي على وزن فعيلة، وَتجمع على: وَسَائِل ووسل، وفسرها فِي حَدِيث مُسلم بِأَنَّهَا: منزلَة فِي الْجنَّة، حَدثنَا مُحَمَّد بن مسلمة الْمرَادِي حَدثنَا عبد الله بن وهب عَن حَيْوَة وَسَعِيد بن أبي أَيُّوب وَغَيرهمَا عَن كَعْب بن عَلْقَمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير: (عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن فَقولُوا مثل مَا يَقُول، ثمَّ صلوا عَليّ فَإِنَّهُ من صلى عَليّ صَلَاة صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ بهَا عشرا. ثمَّ سلوا الله لي الْوَسِيلَة، فَإِنَّهَا منزلَة فِي الْجنَّة لَا تنبغي لأحد إلاَّ لعبد من عباد الله، وَأَرْجُو أَن أكون أَنا هُوَ، فَمن سَأَلَ الله لي الْوَسِيلَة حلت لَهُ الشَّفَاعَة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ إيضا وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَلَفظه: (فَإِنَّهَا منزلَة فِي الْجنَّة) ، فالمنزل والمنزلة وَاحِد، وَهِي المنهل وَالدَّار. قَوْله: (والفضيلة) أَي: الْمرتبَة الزَّائِدَة على سَائِر الْخَلَائق، وَيحْتَمل أَن تكون الْفَضِيلَة منزلَة أُخْرَى. وَقَالَ بَعضهم: أَو تكون تَفْسِيرا للوسيلة. قلت: لَا إِبْهَام فِي الْوَسِيلَة مَعَ أَنَّهَا بيّنت فِي الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو. قَوْله: (مقَاما مَحْمُودًا) انتصاب مقَاما(5/122)
على أَن يُلَاحظ معنى الْإِعْطَاء فِي الْبَعْث، فحينئذٍ يكون مَفْعُولا ثَانِيًا لَهُ، وَذكر الْكرْمَانِي فِيهِ وُجُوهًا أُخْرَى مَا تمشي إِلَّا بالتعسف، وَقد استبعد بَعضهم بِأَن قَالَ: نصب على الظَّرْفِيَّة، وَهُوَ مَكَان غير مُبْهَم، فَلَا يجوز أَن يقدر فِيهِ كلمة: فِي. فَإِن قلت: مَا وَجه التنكير فِيهِ؟ قلت: ليَكُون حِكَايَة عَن لفظ الْقُرْآن. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا نكر لِأَنَّهُ أفحم وأجزل، كَأَنَّهُ قيل: مقَاما، أَي: مقَاما مَحْمُودًا بِكُل لِسَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثبتَتْ الرِّوَايَة بالتنكير. قلت: وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا: الْمقَام الْمَحْمُود، بِالْألف وَاللَّام. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَكْثَر على أَن المُرَاد يالمقام الْمَحْمُود: الشَّفَاعَة. وَقيل: إجلاسه على الْعَرْش. وَقيل: على الْكُرْسِيّ وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذِي يحمده الْقَائِم فِيهِ وكل من رَآهُ وعرفه، وَهُوَ مُطلق فِي كل مَا يجلب الْحَمد من أَنْوَاع الكرامات. وَعَن ابْن عَبَّاس: مقَام يحمدك فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، وتشرف فِيهِ على جَمِيع الْخَلَائق، تُسأل فتعطي، لَيْسَ أحدا إلاَّ تَحت لوائك. وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ الْمقَام الَّذِي أشفع فِيهِ لأمتي. فَإِن قلت: قد وعده الله بالْمقَام الْمَحْمُود، وَهُوَ لَا يخلف الميعاد، فَمَا الْفَائِدَة فِي دُعَاء الْأمة بذلك؟ قلت: أما لطلب الدَّوَام والثبات، وَإِمَّا للْإِشَارَة إِلَى جَوَاز دُعَاء الشَّخْص لغيره، والاستعانة بدعائه فِي حَوَائِجه، وَلَا سِيمَا من الصَّالِحين. قَوْله: (الَّذِي وعدته) بدل من قَوْله: مقَاما، أَو مَرْفُوع بِتَقْدِير: هُوَ، أَو مَنْصُوب على الْمَدْح. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يكون صفة للمقام؟ قلت: أَن قُلْنَا: الْمقَام الْمَحْمُود، صَار علما لذَلِك الْمقَام يجوز أَن يكون صفة، وإلاَّ لَا يجوز لِأَنَّهُ نكرَة. وَأما على رِوَايَة النَّسَائِيّ: الْمقَام الْمَحْمُود، فَيجوز بِلَا نزاع، وَالْمرَاد بالوعد، مَا قَالَه تَعَالَى: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاء: 79) . وَأطلق عَلَيْهِ: الْوَعْد، لِأَن عَسى من الله وَاقع، وَلَيْسَ على بَابه فِي حق الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (الَّذِي وعدته إِنَّك لَا تخلف الميعاد) . قَوْله: (حلت شَفَاعَتِي) ، جَوَاب: من. وَمعنى: حلت أَي: اسْتحقَّت، وَيكون من الْحَلَال لِأَنَّهُ من كَانَ الشَّيْء حَلَاله كَانَ مُسْتَحقّا لذَلِك، وَبِالْعَكْسِ، وَيجوز أَن يكون من الْحُلُول بِمَعْنى النُّزُول، وَتَكون اللَّام بِمَعْنى: على، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم: (حلت عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (وَجَبت لَهُ) ، وَلَا يجوز أَن يكون من الْحل خلاف الْحُرْمَة، لِأَنَّهَا لم تكن قبل ذَلِك مُحرمَة. فَإِن قيل: كَيفَ جعل ذَلِك ثَوابًا بالقائل ذَلِك مَعَ أَنه ثَبت أَن الشَّفَاعَة للمذنبين؟ وَأجِيب: بِأَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاعات مُتعَدِّدَة: كإدخال الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَرفع الدَّرَجَات، فَيشفع لكل أحد بِمَا يُنَاسب حَاله. وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن بعض شُيُوخه: أَنه كَانَ يرى تَخْصِيص ذَلِك بِمن قَالَ مخلصا مستحضرا لجلال الله تَعَالَى، لَا بِمن قصد بذلك مُجَرّد الثَّوَاب وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا مُجَرّد تحكم، فَلَيْسَ بمناسب. وَقَالَ بَعضهم: وَلَو كَانَ أخرج من ذَلِك الغافل اللاهي لَكَانَ أشبه، وَفِيه نظر أَيْضا على مَا لَا يخفى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الحض على الدُّعَاء فِي أَوْقَات الصَّلَاة حِين تفتح أَبْوَاب السَّمَاء للرحمة، وَقد جَاءَ: (ساعتان لَا يرد فيهمَا الدُّعَاء: حَضْرَة النداء بِالصَّلَاةِ، وحضرة الصَّفّ فِي سَبِيل الله) . فدلهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَوْقَات الْإِجَابَة. فَإِن قلت: هَل الْإِتْيَان بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة سَببا لاسْتِحْقَاق الشَّفَاعَة، أَو غَيرهَا يقوم مقَامهَا؟ قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (مَا من مُسلم يَقُول، إِذا سمع النداء، فيكبر الْمُنَادِي فيكبر، ثمَّ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَيشْهد على ذَلِك ثمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ أعْط مُحَمَّدًا الْوَسِيلَة واجعله فِي الأعلين دَرَجَته، وَفِي المصطفين محبته، وَفِي المقربين ذكره إلاَّ وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قَوْله: (واجعله) أَي: وَاجعَل لَهُ دَرَجَة فِي الأعلين، وَهُوَ جمع أَعلَى، وَهُوَ صفة من يعقل هَهُنَا لِأَن المُرَاد مِنْهُم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك جمع بِالْوَاو وَالنُّون، فإعرابه بِالْوَاو حَالَة الرّفْع وبالياء حالتي النصب والجر، وَهَذَا مَقْصُور، والضمة والكسرة فِيهِ مقدرتان فِي حالتي النصب والجر. قَوْله: (المصطفين) ، بِفَتْح الْفَاء جمع: مصطفى، وَهُوَ أَيْضا كَذَلِك بِالْوَاو وبالياء حالتي النصب والجر، والمصطفى: الْمُخْتَار من الصفوة، وَأَصله مصتفى، بِالتَّاءِ، فقلبت طاء كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: يَا أم سَلمَة إِذا كَانَ عِنْد أَذَان الْمغرب فَقولِي: اللَّهُمَّ عِنْد اسْتِقْبَال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعائك، وَحُضُور صلواتك، إغفر لي) وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: (اللَّهُمَّ هَذَا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك فَاغْفِر لي) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي آخِره: وَكَانَت إِذا تعارت من اللَّيْل تَقول: رب إغفر وَارْحَمْ، واهد السَّبِيل الأقوم، وروى أَبُو(5/123)
الشَّيْخ من حَدِيث ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من سمع النداء فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، أبلغه الدرجَة والوسيلة عنْدك، واجعلنا فِي شَفَاعَته يَوْم الْقِيَامَة، إلاَّ وَجَبت لَهُ الشَّفَاعَة) وَفِيه: إِثْبَات الشَّفَاعَة للْأمة صَالحا وطالحا لزِيَادَة الثَّوَاب أَو إِسْقَاط الْعقَاب، لِأَن لَفْظَة: من، عَامَّة، فَهُوَ حجَّة على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ خصصوها بالمطيع لزِيَادَة درجاته فَقَط.
(بابُ الاستِهَامِ فِي الأذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الاستهام أَي: الاقتراع فِي الْأَذَان. قَالَ الْخطابِيّ: وَإِنَّمَا قيل لَهُ الاستهام: لأَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ أَسْمَاءَهُم على سِهَام إِذا اخْتلفُوا فِي الشَّيْء، فَمن خرج سَهْمه غلب، والقرعة أصل من أصُول الشَّرِيعَة فِي حَال من اسْتَوَت دَعوَاهُم فِي الشَّيْء لترجيح أحدهم، وفيهَا تطبيب الْقُلُوب.
ويُذْكَرُ أنَّ أقْوَاما اخْتَلَفُوا فِي الآذَانِ فَأقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ
ويروى: (أَن قوما) . قَوْله: (الْأَذَان) أَي: فِي منصب التأذين، يَعْنِي: اخْتلَافهمْ لم يكن فِي نفس الْأَذَان، وَإِنَّمَا كَانَ فِي التأذين، وَالْأَذَان يَأْتِي بِمَعْنى: التأذين، وَسعد هُوَ سعد بن أبي وَقاص، أحد الْعشْرَة المبشرة، وَكَانَ ذَلِك عِنْد فتح الْقَادِسِيَّة فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي سنة خمس عشرَة، وَكَانَ سعد يَوْمئِذٍ أَمِيرا على النَّاس. وَذكره البُخَارِيّ هَكَذَا مُعَلّقا، وَأخرجه سعيد ابْن مَنْصُور، وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي عبيد، كِلَاهُمَا عَن هشيم عَن عبد الله بن شبْرمَة قَالَ: تشاح النَّاس فِي الْأَذَان بالقادسية فاختصموا إِلَى سعد بن أبي وَقاص، فأقرع بَينهم، وَهَذَا مُنْقَطع، وَقد وَصله سيف بن عمر فِي (الْفتُوح) والطبري من طَرِيقه: عَنهُ عَن عبد الله بن شبْرمَة عَن شَقِيق وَهُوَ أَبُو وَائِل قَالَ: افتتحنا الْقَادِسِيَّة صدر النَّهَار، فتراجعنا وَقد أُصِيب الْمُؤَذّن، فَذكره وَزَاد: فَخرجت الْقرعَة لرجل مِنْهُم، فَأذن. وَقَالَ الصغاني: الْقَادِسِيَّة قَرْيَة على طَرِيق الْحَاج على مرحلة من الْكُوفَة. وَقيل: مر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالقادسية فَوجدَ هُنَاكَ عجوزا، فغسلت رَأسه فَقَالَ: قدست من أَرض، فسميت: الْقَادِسِيَّة. وَقيل: سميت بهَا لنزول أهل قادس بهَا، وقادس قَرْيَة بمروالروذ.
615 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ عنْ أبي صَالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا عليهِ لاستهموا ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إلَيْهِ ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا ولَوْ حَبْوا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء) وَهُوَ الْأَذَان.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عبد الله التنيسِي، وَمَالك ابْن أنس، وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف؛ مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام الْقرشِي الْمدنِي، قَتله الحرورية بِقديد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع، وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عتبَة بن عبد الله وقتيبة فرقهما وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، سبعتهم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَو يعلم النَّاس) قَالَ الطَّيِّبِيّ: وضع الْمُضَارع مَوضِع الْمَاضِي ليُفِيد اسْتِمْرَار الْعلم. قَوْله: (مَا فِي النداء) أَي: الْأَذَان، وَهِي رِوَايَة بشر بن عمر عَن مَالك عِنْد السراج. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين النداء وَالْأَذَان؟ قلت: لَفْظَة الْأَذَان والتأذين أخص من لفظ النداء لُغَة وَشرعا. وَالْفرق بَين الْأَذَان والتأذين أَن التأذين يتَنَاوَل جَمِيع مَا يصدر من الْمُؤَذّن من قَول وَفعل وهيئة وَنِيَّة، وَأما الْأَذَان فَهُوَ حَقِيقَة تعقل بِدُونِ ذَلِك. قَوْله: (والصف الأول) زَاد أَبُو الشَّيْخ فِي رِوَايَة لَهُ(5/124)
من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (من الْخَيْر وَالْبركَة) ، وَالتَّقْدِير: لَو يعلم النَّاس مَا فِي الصَّفّ الأول؟ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أطلق مفعول: يعلم، وَهُوَ كلمة: مَا، وَلم يبين الْفَضِيلَة مَا هِيَ ليُفِيد ضربا من الْمُبَالغَة، وَأَنه مِمَّا لَا يدْخل تَحت الْوَصْف. قَوْله: (ثمَّ لَا يَجدونَ) ، هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (لم يَجدوا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: (لَا يَجدوا) ، ثمَّ قَالَ: جوز بَعضهم حذف النُّون بِدُونِ الناصب والجازم، قَالَ ابْن مَالك: حذف نون الرّفْع فِي مَوضِع الرّفْع لمُجَرّد التَّخْفِيف ثَابت فِي اللُّغَة فِي الْكَلَام الفصيح نظمه ونثره. قَوْله: (إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ) من الاستهام وَهُوَ الاقتراع، يُقَال: استهموا فسهمهم فلَان سَهْما إِذا أقرعهم، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : الْقرعَة مِثَال الظلمَة، الاقتراع، وَقد اقترعوا وتقارعوا وقارعته فقرعته أَي: أصابتني الْقرعَة دونه، وأقرعت بَينهم: إِذا أَمرتهم أَن يقترعوا، وقارعت بَينهم أَيْضا، وَالْأول أصوب، ذكره ابْن التياني فِي (الموعب) وَفِي (التَّهْذِيب) لأَبي مَنْصُور عَن ابْن الْأَعرَابِي: القرع والسبق وَالنَّدْب: الْخطر الَّذِي يستبق عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنهم لَو علمُوا فَضِيلَة الْأَذَان وعظيم جَزَائِهِ، ثمَّ لم يَجدوا طَرِيقا يحصلونه بِهِ لضيق الْوَقْت أَو لكَونه لَا يُؤذن لِلْمَسْجِدِ إلاَّ وَاحِد لاقترعوا فِي تَحْصِيله. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْمَعْنى: لَو علمُوا مَا فِي النداء والصف الأول من الْفَضِيلَة، ثمَّ حاولوا الاستباق، لوَجَبَ عَلَيْهِم ذَلِك، وأتى: بثم، الْمُؤَذّن بتراخي رُتْبَة الاستباق من الْعلم، وَقدم ذكر الْأَذَان دلَالَة على تهيء الْمُقدمَة الموصلة إِلَى الْمَقْصُود الَّذِي هُوَ المثول بَين يَدي رب الْعِزَّة. قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي: على كل وَاحِد من الْأَذَان والصف الأول، وَقد نَازع ابْن عبد الْبر والقرطبي فِي مرجع الضَّمِير، فَقَالَ ابْن عبد الْبر: يرجع إِلَى الصَّفّ الأول لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يلْزم مِنْهُ أَن يبْقى النداء ضائعا لَا فَائِدَة لَهُ، بل الضَّمِير يعود على معنى الْكَلَام الْمُتَقَدّم، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} (الْفرْقَان: 68) . أَي: جَمِيع مَا ذكر. قلت: الصَّوَاب مَعَ الْقُرْطُبِيّ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن مَالك بِلَفْظ: (لاستهموا عَلَيْهِمَا) ، فَدلَّ ذَلِك على صِحَة التَّقْدِير الَّذِي قدرناه. قَوْله: (مَا فِي التهجير) أَي: التَّكْبِير إِلَى الصَّلَوَات. قَالَه الْهَرَوِيّ: وَقَالَ غَيره: المُرَاد التبكير بِصَلَاة الظّهْر، يَعْنِي الأتيان إِلَى صَلَاة الظّهْر فِي أول الْوَقْت، لِأَن التهجير مُشْتَقّ من الهاجرة وَهِي شدَّة الْحر نصف النَّهَار، وَهُوَ أول وَقت الظّهْر. قلت: الصَّوَاب مَعَ الْهَرَوِيّ، لِأَن اللَّفْظ مُطلق وتخصيصه بالاشتقاق لَا وَجه لَهُ. ثمَّ المُرَاد من التبكير إِلَى الصَّلَوَات التهيء والاستعداد لَهَا، وَلَا يلْزم من ذَلِك إِقَامَتهَا فِي أول أَوْقَاتهَا، وَكَيف وَقد أَمر الشَّارِع بالإبراد فِي الظّهْر، والإسفار فِي الْفجْر؟ وَأَيْضًا الهاجرة تطلق على وَقت الظّهْر إِلَى أَن يقرب الْعَصْر، فَإِذا أبرد يصدق عَلَيْهِ أَنه هجر على مَا لَا يخفى. قَوْله: (لاستبقوا إِلَيْهِ) أَي: إِلَى التهجير. وَقَالَ ابْن أبي حَمْزَة: المُرَاد من الاستباق التبكير، بِأَن يسْبق غَيره فِي الْحُضُور إِلَى الصَّلَاة. قَوْله: (مَا فِي الْعَتَمَة) ، وَهِي صَلَاة الْعشَاء، يَعْنِي: لَو يعلمُونَ مَا فِي ثَوَاب أَدَائِهَا وَأَدَاء (الصُّبْح لأتوهما وَلَو حبوا) أَي: وَلَو كَانُوا حابين، من: حبى الصَّبِي إِذا مَشى على أَربع. قَالَه صَاحب (الْمُجْمل) . وَيُقَال: إِذا مَشى على يَدَيْهِ أَو رُكْبَتَيْهِ أَو أسته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة الْأَذَان وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى من ذَلِك. وَفِيه: فَضِيلَة الصَّفّ الأول لاستماع الْقُرْآن إِذا جهر الإِمَام، والتأمين عِنْد فَرَاغه من الْفَاتِحَة، وَالتَّكْبِير عقيب تَكْبِير الإِمَام، وَأَيْضًا يحْتَمل أَن يحْتَاج الإِمَام إِلَى اسْتِخْلَاف عِنْد الْحَدث فَيكون هُوَ خَلِيفَته، فَحصل لَهُ بذلك أجر عَظِيم، أَو يضْبط صفة الصَّلَاة وينقلها وَيعلمهَا النَّاس، وروى مُسلم: (خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا، وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا) . وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: (اسْتغْفر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للصف الأول ثَلَاث مَرَّات، وَللثَّانِي مرَّتَيْنِ، وللثالث مرّة) . وَعَن جَابر بن سَمُرَة من حَدِيث مُسلم: (أَلا تصفون كَمَا تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا، يتمون الصَّفّ الأول؟) وَعند ابْن مَاجَه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (لَا يزَال قوم يتأخرون عَن الصَّفّ الأول حَتَّى يؤخرهم الله إِلَى النَّار) . وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول) . وَعند ابْن حبَان عَن الْبَراء عَن عَازِب: (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ اخْتلف فِي الصَّفّ الأول: هَل هُوَ الَّذِي يَلِي الإِمَام أَو المبكر؟ وَالصَّحِيح: أَنه الَّذِي يَلِي الإِمَام، فَإِن كَانَ بَين الإِمَام وَبَين النَّاس حَائِل، كَمَا أحدث النَّاس المقاصير، فالصف الأول الَّذِي على الْمَقْصُورَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : الصَّفّ الأول مَا يَلِي الإِمَام، وَلَو وَقع فِيهِ حَائِل، خلافًا لمَالِك. وَأبْعد من قَالَ: إِنَّه المبكر، وَلَو جَاءَ رجل وَرَأى الصَّفّ الأول مسدودا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يزاحمهم، وَقد(5/125)
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من ترك الصَّفّ الأول مَخَافَة أَن يُؤْذِي مُسلما أَضْعَف الله لَهُ الْأجر) . وَفِيه: فَضِيلَة التبكير إِلَى الصَّلَاة. وَفِيه: حث عَظِيم على حُضُور صَلَاتي الْعَتَمَة وَالصُّبْح، وَالْفضل الْكثير فِي ذَلِك لما فيهمَا من الْمَشَقَّة على النَّفس من تنقيص أول النّوم وَآخره. وَفِيه: تَسْمِيَة الْعشَاء بالعتمة. فَإِن قلت: قد ثَبت النَّهْي عَنهُ. قلت: هَذِه التَّسْمِيَة لبَيَان الْجَوَاز وَإِن النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم وَأَيْضًا اسْتِعْمَال الْعَتَمَة هَهُنَا لمصْلحَة، لِأَن الْعَرَب كَانَت تسْتَعْمل الْعشَاء فِي الْمغرب، فَلَو قَالَ: مَا فِي الْعشَاء لحملوها على الْمغرب، ففسد الْمَعْنى، وَفَاتَ الْمَطْلُوب، فَاسْتعْمل الْعَتَمَة الَّتِي لَا يَشكونَ فِيهَا، فقواعد الشَّرْع متظاهرة على احْتِمَال اخف المفسدتين لدفع أعظمهما. وَفِيه: أَن الصَّفّ الثَّانِي أفضل من الثَّالِث، وَالثَّالِث أفضل من الرَّابِع وهلم جرا. وَفِيه: دلَالَة لمشروعية الْقرعَة. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم لمن قَالَ بالاقتصار على مُؤذن وَاحِد، وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِر لصِحَّة إستهام أَكثر من وَاحِد فِي مُقَابلَة أَكثر من وَاحِد، وَزعم بعض من شرح الحَدِيث الْمَذْكُور أَن المُرَاد بالاستهام هَهُنَا الترامي بِالسِّهَامِ، وَأَنه أخرج مخرج الْمُبَالغَة، واستأنس لذَلِك بِحَدِيث: (لتجالدوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ) . قلت: الَّذِي قَصده البُخَارِيّ، وَذهب إِلَيْهِ هُوَ، الْأَوْجه وَالْأولَى، وَلذَلِك اسْتشْهد بقضية سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
10 - (بابُ الكَلاَمِ فِي الأذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكَلَام فِي أثْنَاء الْأَذَان بِغَيْر أَلْفَاظه، وَلكنه مَا صرح بالحكم كَيفَ هُوَ أجائز أم غير جَائِز؟ لَكِن إِيرَاده الأثرين الْمَذْكُورين فِيهِ، وإيراده حَدِيث ابْن عَبَّاس يُشِير إِلَى أَنه اخْتَار الْجَوَاز، كَمَا ذهبت إِلَيْهِ طَائِفَة، على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَتَكَلّمَ سُلَيْمَانُ بنُ صْرَدٍ فِي أذَانِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وصرد، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ سُلَيْمَان بن صرد بن أبي الجون الْخُزَاعِيّ الصَّحَابِيّ، وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: يسارا فَسَماهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُلَيْمَان، وكنيته أَبُو الطّرف، وَكَانَ خيّرا عابدا، نزل الْكُوفَة، وَقَالَ ابْن سعد: قتل بالجزيرة بِعَين الوردة فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ أَمِيرا على البوابين، أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ بِدَم الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وعلق البُخَارِيّ مَا روى عَنهُ، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة من حَدِيث مُوسَى بن عبد الله بن يزِيد بن سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَت لَهُ صُحْبَة، كَانَ يُؤذن فِي الْعَسْكَر وَكَانَ يَأْمر غُلَامه بِالْحَاجةِ فِي أَذَانه، وَوَصله أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة لَهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ عَنهُ فِي (التَّارِيخ) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه مثل لفظ ابْن أبي شيبَة.
وَقَالَ الحَسَنُ لَا بَأسَ أَن يَضْحَكَ وهْوَ يُؤَذِّنُ أوْ يُقِيمُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق غير مُطَابق للتَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي الْكَلَام فِي الْأَذَان، والضحك لَيْسَ بِكَلَام، لِأَنَّهُ صَوت يسمعهُ نفس الضاحك، وَلَا يسمع غَيره، وَلَو علق عَنهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: حَدثنَا ابْن علية، قَالَ: سَأَلت يُونُس عَن الْكَلَام فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة، فَقَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن غلاب عَن الْحسن أَنه لم يكن يرى بذلك بَأْسا، لَكَانَ أولى وأوفق للمطابقة.
616 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَادٌ عنْ أيُّوبَ وعَبْدِ الحَمِيدَ صاحِبِ الزِّيادِي وعَاصِمٍ الأَحْوَلِ عنْ عَبْد الله بنِ الحارِثِ قَالَ خَطَبَنا ابنُ عَبَّاسِ فِي يَوْمِ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ المُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ فَأمَرَهُ أنْ يُنَادِيَ الصَّلاَةَ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ القَوْمُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإنَّهَا عَزْمَةٌ.(5/126)
هَذَا الحَدِيث غير مُطَابق للتَّرْجَمَة على مَا زَعمه الدَّاودِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حجَّة فِيهِ على جَوَاز الْكَلَام فِي الْأَذَان، بل القَوْل الْمَذْكُور مَشْرُوع من جملَة الْأَذَان فِي ذَلِك الْمحل. قلت: سلمنَا أَنه مَشْرُوع فِي مثل هَذَا الْموضع، ولكننا لَا نسلم أَنه من جملَة أَلْفَاظ الْأَذَان الْمَعْهُودَة، بل يحْتَمل أَن يكون هَذَا حجَّة لمن يجوز الْكَلَام فِي الْأَذَان من السَّامع عِنْد ظُهُور مصلحَة، وَإِن كَانَت الْإِجَابَة وَاجِبَة فعلى هَذَا أَمر ابْن عَبَّاس للمؤذن بِهَذَا الْكَلَام يدل على أَنه لم ير بَأْسا بالْكلَام فِي الْأَذَان، فَمن هَذَا الْوَجْه يحصل التطابق بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: خماد هُوَ ابْن زيد. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: عبد الحميد هُوَ ابْن دِينَار صَاحب الزيَادي. الْخَامِس: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. السَّادِس: عبد الله ابْن الْحَارِث ابْن عَم مُحَمَّد بن سِيرِين وَزوج ابْنَته. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة أَيُّوب عَن ثَلَاثَة أنفس. وَفِيه: عبد الله بن الْحَارِث تَابِعِيّ صَغِير، وَرِوَايَة الثَّلَاثَة عَنهُ من رِوَايَة الأقران، لِأَن الثَّلَاثَة من صغَار التَّابِعين، فَيكون فِيهِ أَرْبَعَة أنفس من التَّابِعين، وهم أَيُّوب فَإِنَّهُ رأى أنس بن مَالك، وَعبد الحميد. سمع أنس بن مَالك، وَكَذَلِكَ عَاصِم بن سُلَيْمَان سمع أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، فرقهما، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَفِي الْجُمُعَة عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عبد الحميد بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه عَن أبي كَامِل الجحدري عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة عَن عبد الحميد بِهِ، وَعَن عبد بن حميد عَن سعيد بن عَامر عَن شُعْبَة، وَعَن عبد بن حميد عَن أَحْمد بن إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ عَن وهب عَن أَيُّوب، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن أسماعيل بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ عَن عباد بن عباد المهلبي عَن عَاصِم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي يَوْم ردغ) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وبالغين الْمُعْجَمَة: وَهَذِه رِوَايَة ابْن السكن والكشميهني وَأبي الْوَقْت. وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (رزغ) ، بالزاي مَوضِع الدَّال. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَالْأول أشهر. وَقَالَ أَيْضا: وَالصَّوَاب الْفَتْح، يَعْنِي فتح الدَّال، فَإِنَّهُ اسْم، وبالسكون مصدر. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الردغ، بدال مُهْملَة سَاكِنة وغين مُعْجمَة، رَوَاهُ العذري، وَبَعض رُوَاة مُسلم، وَكَذَا لِابْنِ السكن والقابسي إلاَّ أَنَّهُمَا فتحا الدَّال: وَهِي روايتنا من طَرِيق أبي الْوَقْت، وَرِوَايَة الْأصيلِيّ والسمرقندي: رزغ، بزاي مَفْتُوحَة بعْدهَا غين مُعْجمَة. وَقَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الزَّاي وَهُوَ فِي اللُّغَة بسكونها. قَالَ الدَّاودِيّ: الرزغ: الْغَيْم الْبَارِد وَفِي (الْمُحكم) : الرزغ المَاء الْقَلِيل فِي الثماد، والرزغة أقل من الردغة، والرزغة بِالْفَتْح: الطين الرَّقِيق. وَفِي (الصِّحَاح) : الرزغة، بِالتَّحْرِيكِ: الوحل، وَكَذَلِكَ: الردغة بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي كتاب ابي مُوسَى: الردغة، بِسُكُون الدَّال وَفتحهَا: طين ووحل كثير، وَالْجمع: رداغ، وَقد يُقَال: ارتدع، بِالْعينِ الْمُهْملَة تلطخ، وَالصَّحِيح الأول. وَقَوله: (فِي يَوْم ردغ) بِالْإِضَافَة، وَفِي رِوَايَة: (فِي يَوْم ذِي ردغ) ، وَفِي رِوَايَة ابْن علية: (فِي يَوْم مطير) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْيَوْم أهوَ بِالْإِضَافَة إِلَى الردغ أَو بِالتَّنْوِينِ على أَنه مَوْصُوف؟ قلت: الْإِضَافَة ظَاهِرَة، وَيحْتَمل الْوَصْف بِأَن يكون أَصله يَوْم ذِي ردغ قلت: لم يقف على الرِّوَايَة الَّتِي ذَكرنَاهَا حَتَّى تصرف بذلك. قَوْله: (فَأمره) أَي: أَمر ابْن عَبَّاس الْمُؤَذّن، وَهَذَا عطف على مُقَدّر، وَهُوَ جَوَاب لما تَقْدِيره: لما بلغ الْمُؤَذّن إِلَى أَن يَقُول: حَيّ على الصَّلَاة، أَرَادَ أَن يَقُولهَا فَأمره ابْن عَبَّاس إِن (يُنَادي: الصَّلَاة فِي الرّحال) ويوضح ذَلِك فِي رِوَايَة ابْن علية: (إِذا قلت: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة) ، وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل، روى أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل أَخْبرنِي عبد الحميد صَاحب الزيَادي، حَدثنَا عبد الله بن الْحَارِث ابْن عَم مُحَمَّد بن سِيرِين: (أَن ابْن عَبَّاس قَالَ لمؤذنه فِي يَوْم مطير: إِذا قلت: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ، قَالَ: فَكَأَن النَّاس استنكروا ذَلِك، فَقَالَ: قد فعل ذَا من هُوَ خير مني، إِن الْجُمُعَة عَزمَة، وَإِنِّي كرهت أَن أحرجكم فتمشون فِي الطين والمطر) . وَقَوله: (الصَّلَاة) ، مَنْصُوب بعامل مَحْذُوف(5/127)
تَقْدِيره: صلوا الصَّلَاة وأدوها فِي الرّحال، وَهُوَ جمع: رَحل، وَهُوَ مسكن الرجل وَمَا يستصحبه من الأناث. أَي: صلوها فِي مَنَازِلكُمْ. قَوْله: (فَنظر الْقَوْم) أَي: نظر إِنْكَار على تَغْيِير وضع الْأَذَان وتبديل الحيعلة بذلك، وَفِي رِوَايَة الحَجبي: كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (استنكروا ذَلِك) ، على مَا ذَكرنَاهَا آنِفا. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس، فعل هَذَا أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا أَمر الْمُؤَذّن أَن يَقُول: الصَّلَاة فِي الرّحال، مَوضِع: حَيّ على الصَّلَاة. قَوْله: (من هُوَ خير مِنْهُ) كلمة: من، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: (فعل) ، وَالضَّمِير فِي: مِنْهُ، يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس، وَمَعْنَاهُ: أَمر بِهِ من هُوَ خير من ابْن عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مِنْهُم، وَوَجهه أَن يرجع الضَّمِير فِيهِ إِلَى الْمُؤَذّن وَالْقَوْم جَمِيعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَأما رِوَايَة الْكشميهني فَفِيهَا نظر، وَلَعَلَّ من أذن كَانُوا جمَاعَة، أَو أَرَادَ جنس المؤذنين. قلت: فِي نظره نظر، وتأويله بِالْوَجْهَيْنِ غير صَحِيح. أما الأول: فَلم يثبت أَن من أذن كَانُوا جمَاعَة، وَهَذَا احْتِمَال بعيد، لِأَن الْأَذَان بِالْجَمَاعَة مُحدث. وَأما الثَّانِي، فَلِأَن الْألف وَاللَّام فِي: الْمُؤَذّن، للْعهد، فَكيف يجوز أَن يُرَاد الْجِنْس وَفِي رِوَايَة الحَجبي: (من هُوَ خير مني) ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد. قَوْله: (وَإِنَّهَا عَزمَة) أَي: إِن الْجُمُعَة عَزمَة، بِسُكُون الزَّاي، أَي: وَاجِبَة متحتمة، وَجَاء فِي بعض طرقه: إِن الْجُمُعَة عَزمَة. فَإِن قلت: لَمْ يسْبق ذكر الْجُمُعَة فَكيف يُعِيدهُ إِلَيْهَا؟ قلت: قَوْله: (خَطَبنَا) ، يدل على أَنهم كَانُوا فِي الْجُمُعَة، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، حَيْثُ قَالَ: (إِن الْجُمُعَة عَزمَة) ، قَوْله فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (أَن أحرجكم) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: كرهت أَن أشق عَلَيْكُم بإلزامكم السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فِي الطين والمطر، ويروى: (أَن أخرجكم) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من الْإِخْرَاج، ويروى: (كرهت أَن أؤثمكم) أَي: أكون سَببا لاكتسابكم الْإِثْم عِنْد ضيق صدوركم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ التَّيْمِيّ: رخص الْكَلَام فِي الْأَذَان جمَاعَة مستدلين بِهَذَا الحَدِيث مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل. وَحكى ابْن الْمُنْذر الْجَوَاز مُطلقًا عَن عُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن وَقَتَادَة، وَعَن النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ الْكَرَاهَة، وَعَن الثَّوْريّ الْمَنْع، وَعَن أبي حنيفَة وصاحبيه خلاف الأولى، وَعَلِيهِ يدل كَلَام الشَّافِعِي وَمَالك. وَعَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: يكره إلاَّ أَن كَانَ يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر وَفِيه: دلَالَة على فَرضِيَّة الْجُمُعَة، وَأبْعد بعض الْمَالِكِيَّة حَيْثُ قَالَ: إِن الْجُمُعَة لَيست بِفَرْض، وَإِنَّمَا الْفَرْض الظّهْر أَو مَا يَنُوب مَنَابه، وَالْجَمَاعَة على خِلَافه، وَقَالَ ابْن التِّين: وَحكى ابْن أبي صفرَة عَن (موطأ ابْن وهب) عَن مَالك: إِن الْجُمُعَة سنة. قَالَ: وَلَعَلَّه يُرِيد فِي السّفر، وَلَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه: تَخْفيف أَمر الْجَمَاعَة فِي الْمَطَر وَنَحْوه من الْأَعْذَار وَإِنَّهَا متأكدة إِذا لم يكن عذر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: أَن يُقَال: هَذِه الْكَلِمَة يَعْنِي: الصَّلَاة فِي الرّحال. فِي نفس الْأَذَان. قلت: أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِه الْكَلِمَة تقال فِي نفس الْأَذَان، وَيرد عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْآتِي فِي بَاب الْأَذَان للْمُسَافِر: إِنَّهَا تقال بعده، وَنَصّ الشَّافِعِي على أَن الْأَمريْنِ جائزان، وَلَكِن بعده أحسن لِئَلَّا ينخرم نظم الْأَذَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يَقُول إلاَّ بعد الْفَرَاغ. قَالَ: وَهُوَ ضَعِيف مُخَالف لصريح حَدِيث ابْن عَبَّاس. قلت: الْأَمْرَانِ جائزان، وَبعد الْفَرَاغ أحسن كَمَا ذكرنَا، وَكَلَام النَّوَوِيّ يدل على أَنَّهَا تزاد مُطلقًا إِمَّا فِي أَثْنَائِهِ وَإِمَّا بعده، لَا أَنَّهَا بدل من الحيعلة. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس لم يسْلك مَسْلَك الْأَذَان، أَلا ترى أَنه قَالَ: فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِشْعَار النَّاس بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُم للْعُذْر، كَمَا فعل فِي التثويب لِلْأُمَرَاءِ وَأَصْحَاب الولايات، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث ابْن عمر: أخرجه البُخَارِيّ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) أَنه إِنَّمَا يُقَال بعد فرَاغ الْأَذَان.
11 - (بابُ أَذانِ الأعْمَى إذَا كانَ لهُ مَنْ يُخْبِرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَذَان الْأَعْمَى، إِذا كَانَ عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، يَعْنِي يجوز أَذَانه حِينَئِذٍ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وَغَيرهمَا أَنهم كَرهُوا أَن يكون الْمُؤَذّن أعمى، مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، وَنقل النَّوَوِيّ عَن أبي حنيفَة: أَن أَذَان الْأَعْمَى لَا يَصح قلت: هَذَا غلط لم يقل بِهِ أَبُو حنيفَة، وَإِنَّمَا ذكر أَصْحَابنَا أَنه يكره ذكره فِي (الْمُحِيط) وَفِي (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) : غَيره أحب، فَكَأَن وَجه الْكَرَاهَة لأجل عدم قدرته على مُشَاهدَة دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ فِي الأَصْل مَبْنِيّ على الْمُشَاهدَة.(5/128)
617 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ ابنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رجُلاً أعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُنَادي) إِلَى آخِره.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومسلمة، بِفَتْح الْمِيم، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه الطَّحَاوِيّ من تسع طرق صِحَاح: ثَمَانِيَة مَرْفُوعَة، وَوَاحِدَة مَوْقُوفَة. الأول: عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره، نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ. الثَّانِي: عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله. الثَّالِث: عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: قَالَ سَالم بن عبد الله: سَمِعت عبد الله يَقُول: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم) . الرَّابِع: عَن يزِيد ابْن سِنَان عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ، فَذكر مثله. الْخَامِس: عَن الْحسن بن عبد الله بن مَنْصُور البالسي عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله. السَّادِس: عَن إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق عَن وهب بن جرير عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَادِهِ، مثله. السَّابِع: عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكر بِإِسْنَادِهِ مثله. الثَّامِن: عَن عَليّ بن شيبَة عَن روح بن عبَادَة عَن مَالك وَشعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكره بِإِسْنَادِهِ مثله، غير أَنه قَالَ: (حَتَّى يُنَادي بِلَال أَو ابْن أم مَكْتُوم) ، شكّ شُعْبَة. التَّاسِع: هُوَ الْمَوْقُوف عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، وَلم يذكر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: هَكَذَا رَوَاهُ يحيى عَن مَالك مُرْسلا عَن سَالم، لم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَتَابعه على ذَلِك أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) ، وَمِمَّنْ تَابعه على ذَلِك: ابْن الْقَاسِم وَالشَّافِعِيّ وَابْن بكير وَأَبُو المصعب وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَمصْعَب الزبيرِي وَمُحَمّد بن الْحسن وَمُحَمّد بن الْمُبَارك الصُّورِي وَسَعِيد بن عفير ومعن بن عِيسَى، وَوَصله جمَاعَة عَن مَالك فَقَالُوا فِيهِ: عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِمَّنْ رَوَاهُ مُسْندًا هَكَذَا: القعْنبِي وَعبد الرَّزَّاق وَأَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق وروح بن عبَادَة وَعبد الله بن نَافِع ومطرف وَابْن أبي أويس وَعبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الخبيبي وَمُحَمّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَأَبُو قَتَادَة الْحَرَّانِي وَمُحَمّد بن حَرْب الأبرش وَزُهَيْر ابْن عباد وكامل بن طَلْحَة وَابْن وهب فِي رِوَايَة أَحْمد بن صَالح عَنهُ. وَأما أَصْحَاب ابْن شهَاب فَرَوَوْه مُتَّصِلا مُسْندًا عَن ابْن شهَاب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) ، ومعناهما وَاحِد، لِأَن معنى قَوْله: يُنَادي يُؤذن، وَالْبَاء فِي: بلَيْل، للظرفية. قَوْله: (حَتَّى يُنَادي) أَي: حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم، واسْمه: عبد الله، وَيُقَال: عَمْرو وَهُوَ الْأَكْثَر، وَيُقَال: كَانَ اسْمه الْحصين فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن قيس بن زَائِدَة الْقرشِي العامري، وَاسم أم مَكْتُوم: عَاتِكَة بنت عبد الله بن عنكشة بن عَامر بن مَخْزُوم، وَهُوَ ابْن خَال خَدِيجَة بنت خويلد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَابْن ام مَكْتُوم هَاجر الى الْمَدِينَة قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلفه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرّة، وَشهد فتح الْقَادِسِيَّة، وَقتل شَهِيدا، وَكَانَ مَعَه اللِّوَاء يَوْمئِذٍ. وَقيل: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا، وَهُوَ الْأَعْمَى الْمَذْكُور فِي سُورَة: عبس، ومكتوم من: الكتم، سمي بِهِ لكتمان نور عَيْنَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ وَكَانَ رجلا أعمى) . قيل: إِن هَذَا الْقَائِل هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِذَلِك جزم الشَّيْخ الْمُوفق فِي (المغنى) قلت: فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: قَالَ ابْن شهَاب؛ وَكَانَ رجلا أعمى، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة. فَإِن قلت: فعلى هَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ إدراج. قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْنَع كَون ابْن شهَاب قَالَه أَن يكون شَيْخه قَالَه، وَكَذَا شيخ شَيْخه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان ... الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِيه: قَالَ سَالم: وَكَانَ رجلا ضَرِير الْبَصَر. قَوْله: (أَصبَحت) ، أَي: قاربت الصَّباح، لِأَن قرب الشَّيْء قد يعبر عَنهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا بلغن(5/129)
أَجلهنَّ} (الْبَقَرَة: 234، وَالطَّلَاق: 2) . أَي: قاربن لِأَن الْعدة إِذا تمت فَلَا رَجْعَة، وَكَانَ فِيهِ تَامَّة، فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر، فَهَذَا التَّفْسِير يدْفع إِشْكَال من يَقُول إِنَّه إِذا جعل أَذَانه غَايَة للْأَكْل فَلَو لم يُؤذن حَتَّى يدْخل الصَّباح للَزِمَ مِنْهُ جَوَاز الْأكل بعد طُلُوع الْفجْر، وَالْإِجْمَاع على خِلَافه إلاَّ مَا روى عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش جَوَازه بعد طُلُوع الْفجْر وَلَا يعْتد بِهِ. فَإِن قيل: يشكل على هَذَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَاللَّيْث جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب. وَفِيه: (وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول النَّاس حِين ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: أذن) . وَكَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصّيام: (حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم، فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) . وَأَيْضًا، فَإِن قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) يشْعر أَن ابْن أم مَكْتُوم بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ قبل الصُّبْح لم يكن بَينه وَبَين بِلَال فرق لصدق أَن كلا مِنْهُمَا أذن قبل الْوَقْت، وَأجِيب بِأَن المُرَاد بالبزوغ ابْتِدَاء طُلُوع الْفجْر، فَيكون أَذَانه عَلامَة لتَحْرِيم الْأكل، وَالظَّاهِر أَنه كَانَ يُرَاعِي لَهُ الْوَقْت، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة من وَجه آخر عَن ابْن عمر حَدِيثا فِيهِ، وَكَانَ ابْن ام مَكْتُوم يتوخى الْفجْر فَلَا يخطئه، وَلَا يكون توخي الْأَعْمَى فِي مثل هَذَا إلاَّ من كَانَ لَهُ من يُرَاعِي الْوَقْت. وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون المُرَاد بقَوْلهمْ: أَصبَحت، أَي: قاربت الصَّباح، وُقُوع أَذَانه قبل الْفجْر، لاحْتِمَال أَن يكون قَوْلهم ذَلِك وَقع فِي آخر جُزْء من اللَّيْل، وأذانه يَقع فِي أول جُزْء من طُلُوع الْفجْر. انْتهى. قلت: هَذَا بعيد جدا. والمؤقت الحاذق فِي علمه يعجز عَن تَحْرِير ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالُوا: يجوز أَن يُؤذن للفجر قبل دُخُول وقته، وَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ: أَبُو يُوسُف، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن عَائِشَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) . على مَا يَجِيء، وَرَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَلَفظه: (إِذا أذن بِلَال فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم، فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أنيسَة بنت خبيب، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أذن ابْن أم مَكْتُوم فَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَإِذا أذن بِلَال فَلَا تَأْكُلُوا وَلَا تشْربُوا. وَإِن كَانَت الْمَرْأَة منا ليبقى عَلَيْهَا شَيْء من سحورها فَتَقول لِبلَال: أمْهل حَتَّى أفرغ من سحوري) . وروى الدَّارمِيّ من حَدِيث الْأسود: (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ لرَسُول الله ثَلَاثَة مؤذنين: بِلَال وَأَبُو مَحْذُورَة وَعَمْرو بن أم مَكْتُوم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أذن عَمْرو فَإِنَّهُ ضَرِير الْبَصَر فَلَا يَغُرنكُمْ، وَإِذا أذن بِلَال فَلَا يطعمن أحد) . وروى النَّسَائِيّ أَيْضا: عَن يَعْقُوب عَن هشيم عَن مَنْصُور عَن خبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن عمته أنيسَة نَحْو حَدِيث ابْن خُزَيْمَة. قلت: يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جعل الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبا بَين بِلَال وَعَمْرو، فَأمر فِي بعض اللَّيَالِي بِلَالًا أَن يُؤذن أَولا بِاللَّيْلِ، فَإِذا نزل بِلَال صعد عَمْرو فَأذن بعده بِالنَّهَارِ، فَإِذا جَاءَت نوبَة عَمْرو بَدَأَ فَأذن بلَيْل فَإِذا نزل صعد بِلَال فَأذن بعده بِالنَّهَارِ، وَكَانَت مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت النّوبَة لِبلَال فِي الْأَذَان بِاللَّيْلِ، وَكَانَت مقَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن ابْن مَكْتُوم يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت النّوبَة فِي الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبَة ابْن أم مَكْتُوم، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم النَّاس فِي كلا الْوَقْتَيْنِ أَن الْأَذَان الأول مِنْهُمَا هُوَ أَذَان بلَيْل لَا بنهار، وَأَنه لَا يمْنَع من إراد الصَّوْم طَعَاما وَلَا شرابًا، وَإِن الْأَذَان الثَّانِي إِنَّمَا يمْنَع الْمطعم وَالْمشْرَب، إِذْ هُوَ بنهار لَا بلَيْل. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر بن الْهُذيْل: لَا يجوز أَن يُؤذن للفجر أَيْضا إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، كَمَا لَا يجوز لسَائِر الصَّلَوَات إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، لِأَنَّهُ للإعلام بِهِ، وَقبل دُخُوله تجهيل وَلَيْسَ بإعلام، فَلَا يجوز. وَأما الْجَواب عَن أَذَان بِلَال الَّذِي كَانَ يُؤذن بِاللَّيْلِ قبل دُخُول الْوَقْت فَلم يكن ذَلِك لأجل الصَّلَاة، بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لينتبه النَّائِم وليتسحر الصَّائِم، وليرجع الْغَائِب، بَين ذَلِك مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يمنعن أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُؤذن أَو يُنَادي بلَيْل ليرْجع غائبكم ولينتبه نائمك) الحَدِيث على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأخرجه مُسلم أَيْضا. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث طرق، وَلَفظه: (لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُنَادي أَو يُؤذن ليرْجع غائبكم ولينتبه نائمكم) . الحَدِيث، وَمعنى: (ليرْجع غائبكم) : ليرد غائبكم من الْغَيْبَة، وَرجع يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وَلَا يتَعَدَّى، وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: (ليرْجع قائمكم) من: الْقيام، وَمَعْنَاهُ: ليكمل ويستعجل بَقِيَّة ورده، وَيَأْتِي بوتره قبل الْفجْر. وَقَالَ عِيَاض مَا ملخصه: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة(5/130)
بعيد إِذْ لم يخْتَص هَذَا بِشَهْر رَمَضَان، وَإِنَّمَا أخبر عَن عَادَته فِي أَذَانه، وَلِأَنَّهُ الْعَمَل الْمَنْقُول فِي سَائِر الْحول بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُف حِين تحَققه، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ للسحور لم يخْتَص بِصُورَة الْأَذَان للصَّلَاة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بعيد لأَنهم لم يَقُولُوا بِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِشَهْر رَمَضَان، وَالصَّوْم غير مَخْصُوص بِهِ، فَكَمَا أَن الصَّائِم فِي رَمَضَان يحْتَاج إِلَى الإيقاظ لأجل السّحُور، فَكَذَلِك الصَّائِم فِي غَيره، بل هَذَا أَشد لِأَن من يحيي ليَالِي رَمَضَان أَكثر مِمَّن يحيي ليَالِي غَيره، فعلى قَوْله: إِذا كَانَ أَذَان بِلَال للصَّلَاة كَانَ يَنْبَغِي أَن يجوز أَدَاء صَلَاة الْفجْر بِهِ، بل هم يَقُولُونَ أَيْضا بِعَدَمِ جَوَازه، فَعلم أَن أَذَانه إِنَّمَا كَانَ لأجل إيقاظ النَّائِم، ولإرجاع الْقَائِم. وَمن أقوى الدَّلَائِل على أَن أَذَان بِلَال لم يكن لأجل الصَّلَاة مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن نَافِع: (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن بِلَالًا أذن قبل طُلُوع الْفجْر، فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرجع فينادي: أَلا إِن العَبْد نَام، فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، فَهَذَا ابْن عمر روى هَذَا، وَالْحَال أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم) ، فَثَبت بذلك أَن مَا كَانَ من ندائه قبل طُلُوع الْفجْر لم يكن للصَّلَاة. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح هُوَ حَدِيثه الَّذِي فِيهِ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) إِلَى آخِره؟ قلت: مَا قَالَه: لَا يكون مَحْفُوظًا، صَحِيحا، لِأَنَّهُ لَا مُخَالفَة بَين حديثيه، لأَنا قد ذكرنَا أَن حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ غير حَمَّاد إِنَّمَا كَانَ لأجل إيقاظ النَّائِم وإرجاع الْقَائِم، فَلم يكن للصَّلَاة. وَأما حَدِيث حَمَّاد فَإِنَّهُ كَانَ لأجل الصَّلَاة فَلذَلِك أمره بِأَن يعود وينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام) ، وَمِمَّا يُقَوي حَدِيث حَمَّاد مَا رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن بِلَالًا أذن قبل الْفجْر فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يصعد فينادي: إِن العَبْد نَام) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو يُوسُف عَن سعيد، وَغَيره يُرْسِلهُ، والمرسل أصح. قلت: أَبُو يُوسُف ثِقَة، وهم وثقوه، وَالرَّفْع من الثِّقَة زِيَادَة مَقْبُولَة، وَمِمَّا يقويه حَدِيث حَفْصَة بنت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن بِالْفَجْرِ قَامَ فصلى رَكْعَتي الْفجْر، ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد وَحرم الطَّعَام، وَكَانَ لَا يُؤذن حَتَّى يصبح) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: فَهَذِهِ حَفْصَة تخبر أَنهم كَانُوا لَا يُؤذنُونَ للصَّلَاة إلاَّ بعد طُلُوع الْفجْر. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مَحْمُول إِن صَحَّ على الْأَذَان الثَّانِي، وَقَالَ الْأَثْرَم: رَوَاهُ النَّاس عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن حَفْصَة، وَلم يذكرُوا فِيهِ مَا ذكره عبد الْكَرِيم عَن نَافِع. قلت: كَلَام الْبَيْهَقِيّ يدل على صِحَة الحَدِيث عِنْده، وَلكنه لما لم يجد مجالاً لتضعيفه ذهب إِلَى تَأْوِيله، وَعبد الْكَرِيم الْجَزرِي ثِقَة، أخرج لَهُ الْجَمَاعَة وَغَيرهم، فَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة لَا يُنكر عَلَيْهِ إِذا ذكر مَا لم يذكرهُ غَيره. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن يكون بِلَال كَانَ يُؤذن فِي وَقت يرى أَن الْفجْر قد طلع فِيهِ، وَلَا يتَحَقَّق لضعف فِي بَصَره، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، فَإِن فِي بَصَره شَيْئا) . وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا تَأْكِيدًا لذَلِك عَن أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: (أَنَّك تؤذن إِذا كَانَ الْفجْر ساطعا وَلَيْسَ ذَلِك الصُّبْح، إِنَّمَا الصُّبْح هَكَذَا مُعْتَرضًا) وَالْمعْنَى: أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن عِنْد طُلُوع الْفجْر الْكَاذِب الَّذِي لَا يخرج بِهِ حكم اللَّيْل، وَلَا تحل بِهِ صَلَاة الصُّبْح، وَمِمَّا يدل حَدِيث الْبَاب على اسْتِحْبَاب أَذَان وَاحِد بعد وَاحِد.
وَأما أَذَان اثْنَيْنِ مَعًا فَمنع مِنْهُ قوم، وَقَالُوا: أول من أحدثه بَنو أُميَّة. وَقَالَ الشَّافِعِيَّة: لَا يكره إلاَّ إِن حصل مِنْهُ تهويش. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَأما الزِّيَادَة على الْإِثْنَيْنِ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعرض إِلَيْهِ. وَنَصّ الشَّافِعِي على جَوَازه، وَلَفظه: وَلَا يضيق إِن أذن أَكثر من اثْنَيْنِ.
وَفِيه: جَوَاز تَقْلِيد الْأَعْمَى للبصير فِي دُخُول الْوَقْت، وَصحح النَّوَوِيّ فِي كتبه: أَن للأعمى والبصير إعتماد الْمُؤَذّن الثِّقَة.
وَفِيه: الِاعْتِمَاد على صَوت الْمُؤَذّن والاعتماد عَلَيْهِ أَيْضا فِي الرِّوَايَة إِذا كَانَ عَارِفًا بِهِ، وَإِن لم يُشَاهد الرَّاوِي.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب السّحُور وتأخيره. وَفِيه: جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد. وَفِيه: أَن مَا بعد الْفجْر حكم النَّهَار. وَفِيه جَوَاز ذكر الرجل بِمَا فِيهِ من العاهة إِذا كَانَ لقصد التَّعْرِيف وَفِيه جَوَاز نِسْبَة الرجل إِلَى أمه إِذا اشْتهر بذلك. وَفِيه: جَوَاز التكنية للْمَرْأَة.
(بابُ الآذَانِ بَعْدَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي الْأَذَان الْمُعْتَبر الْوَاقِع بعد طُلُوع الْفجْر، وَقدم هَذَا الْبَاب على الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ لكَونه أصلا، لِأَن الْأَذَان(5/131)
الْمُعْتَبر هُوَ الَّذِي يكون بعد دُخُول الْوَقْت، وَلِأَن الْأَذَان الْوَاقِع بعد طُلُوع الْفجْر لَا خلاف فِيهِ، بِخِلَاف الْأَذَان الَّذِي قبله.
618 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قالَ أخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا اعْتَكَفَ المُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة لَا يَسْتَقِيم إلاَّ على مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن مَالك: (كَانَ إِذا سكت الْمُؤَذّن صلى رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) . لِأَنَّهُ يدل على أَن رُكُوعه كَانَ مُتَّصِلا بأذانه، وَلَا يجوز أَن يكون رُكُوعه إِلَّا بعد الْفجْر، فَلذَلِك كَانَ الْأَذَان بعد الْفجْر، وعَلى هَذَا الْمَعْنى حمله البُخَارِيّ وَترْجم عَلَيْهِ: بَاب الْأَذَان بعد الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، تكَرر ذكرهم. وَفِي الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْفِعْل الْمُؤَنَّث فِي مَوضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، والرواة مدنيون مَا خلا عبد الله.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ. وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبيد الله ابْن سعيد وَعَن زُهَيْر عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم وَعَن اسحاق بن ابراهيم وَعَن مُحَمَّد بن عباد واخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَفِي الشَّمَائِل عَن احْمَد بن منيع وَعَن قُتَيْبَة عَن مَرْوَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن شُعَيْب وَعَن هِشَام بن عمار وَعَن يحيى بن مُحَمَّد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن للصبح) ، هَكَذَا رَوَاهُ عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَهَكَذَا هُوَ عِنْد جُمْهُور الروَاة من البُخَارِيّ، وَخَالف عبد الله سَائِر الروَاة عَن مَالك، فَرَوَوْه: (كَانَ إِذا سكت الْمُؤَذّن من الْأَذَان لصَلَاة الصُّبْح، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وَهُوَ الصَّوَاب: وَقَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْأصيلِيّ والقابسي وَأبي ذَر: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن للصبح وبدا الصُّبْح ركع رَكْعَتَيْنِ) . وَقَالَ الْقَابِسِيّ: معنى اعْتكف هُنَا: انتصب قَائِما للأذان، كَأَنَّهُ من مُلَازمَة مراقبة الْفجْر، وَفِي رِوَايَة الْهَمدَانِي: (كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن) . وَعند النَّسَفِيّ: (كَانَ إِذا اعْتكف أذن الْمُؤَذّن للصبح) ، وَقَالَ بَعضهم: وَقد أطلق جمَاعَة من الْحفاظ القَوْل: بِأَن الْوَهم فِيهِ من عبد الله بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ. انْتهى. قلت: الْحَاصِل هَهُنَا خمس رِوَايَات، ولكلها وَجه فَلَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة الْوَهم إِلَى أحد مِنْهُم. الرِّوَايَة الأولى: رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف كَانَ إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن للصبح، وَمعنى اعْتكف قد مر الْآن. وَالثَّانيَِة: إِذا سكت الْمُؤَذّن، وَهِي ظَاهِرَة لَا نزاع فِيهَا. وَالثَّالِثَة: كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن، وَهِي أَيْضا ظَاهِرَة كَذَلِك. وَالرَّابِعَة: كَانَ إِذا اعْتكف أذن الْمُؤَذّن، يَعْنِي إِذا اعْتكف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَوَاب: إِذا هُوَ قَوْله: (صلى رَكْعَتَيْنِ) ، وَقَوله: (أذن الْمُؤَذّن) ، جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) ، أَي: قد حصرت. الْخَامِسَة: (كَانَ إِذا اعْتكف وَأذن الْمُؤَذّن) . وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي: اعْتكف، هَهُنَا يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (وَأذن) عطف عَلَيْهِ. فَإِن قلت: على هَذَا يلْزم أَن يكون هَذَا مُخْتَصًّا بِحَال اعْتِكَافه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ كَذَلِك؟ قلت: الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن حَفْصَة راوية الحَدِيث الْمَذْكُور قد شاهدت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت، وَهُوَ فِي الِاعْتِكَاف، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل هَذَا الْوَقْت فِي الِاعْتِكَاف. فَافْهَم. قَوْله: (وبدا الصُّبْح) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، فعل مَاض من: البدو، وَهُوَ الظُّهُور، أُسند إِلَى الصُّبْح وَهُوَ فَاعله، و: الْوَاو، فِيهِ وَاو الْحَال لَا وَاو الْعَطف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: وندا الصُّبْح، بالنُّون من المناداة. قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح. وَقَالَ بَعضهم: ظن أَنه مَعْطُوف على قَوْله: (للصبح) ، فَيكون التَّقْدِير: لنداء الصُّبْح، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الحَدِيث فِي جَمِيع(5/132)
النّسخ من (الْمُوَطَّأ) وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهَا: بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قلت: لكَلَام الْكرْمَانِي وَجه من جِهَة التَّرْكِيب وَالْإِعْرَاب، وَأما من جِهَة الرِّوَايَة فَيحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَمَعَ هَذَا كَونه بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي جَمِيع النّسخ من (الْمُوَطَّأ) وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم لَا يسْتَلْزم نَفيهَا بالنُّون عِنْد غَيرهَا، قَوْله: (قبل أَن تُقَام) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: قبل قيام الصَّلَاة، وَهِي الْفَرْض.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن سنة الصُّبْح رَكْعَتَانِ وأنهما خفيفتان، وَأَن وَقت صَلَاة الْفجْر بعد طُلُوع الْفجْر، وَلَو صلى الْفَرْض قبله لم يجز، وعَلى هَذَا ترْجم البُخَارِيّ، رَحمَه الله.
619 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيى عنْ أبي سَلمَةَ عنْ عَائِشَةَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ والإقَامَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ (الحَدِيث 619 طرفه فِي: 1159) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة، وَهُوَ أَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِهَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة يدل على أَنه صلاهما بعد طُلُوع الْفجْر، وَأَن النداء أَيْضا بعد طُلُوع الْفجْر، وَهُوَ الْأَذَان بعد الْفجْر، فطابق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون، وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. قَوْله: (بَين النداء) أَي: الْأَذَان.
620 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبَرَنا مالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ بِلالاً يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِي ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ.
قد مر هَذَا الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب. أخرجه البُخَارِيّ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، الحَدِيث. وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا الْإِسْنَاد لم يخْتَلف عَن مَالك فِيهِ، وَوجه مطابقته للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة أَيْضا، لِأَن قَوْله: (حَتَّى يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم) ، يَقْتَضِي أَن نداءه حِين يطلع الْفجْر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ قبله لم يكن فرق بَين أَذَانه وأذان بِلَال. قَوْله: (يُنَادي) ، أَي: يُؤذن، وَالْبَاء فِي: بلَيْل، للظرفية.
(بابُ الأذَانِ قَبْلَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان قبل طُلُوع الْفجْر، هَل هُوَ مَشْرُوع أم لَا؟ وَإِذا شرع، هَل يَكْتَفِي بِهِ عَن إِعَادَة الْأَذَان بعد الْفجْر أم لَا؟ وميل البُخَارِيّ إِلَى الْإِعَادَة بِدَلِيل إِيرَاده الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب الدَّالَّة على الْإِعَادَة، وَقد بَينا الْمذَاهب فِيهِ مفصلة فِيمَا مضى.
621 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَن أبي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ أَو أحَدا مِنْكُمْ أذَانُ بِلالٍ مِنْ سْحُورِهِ فإنَّهُ يُؤَذِّنُ أوْ يُنَادِي بِلَيْلً لِيَرْجِعَ قائِمَكُمْ ولِيُنَبِّهَ نائِمَكُمْ ولَيْسَ أَن يَقُولَ الفَجْرُ أَو الصُّبْحُ وَقَالَ بِأصابِعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ وطَأْطأْ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقولَ هكذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الأخْرَى ثُمَّ مَدَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وعنْ شِمَالِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن أَذَان بِلَال كَانَ قبل الْفجْر، لِأَنَّهُ أخبر أَنه كَانَ يُؤذن بلَيْل، يَعْنِي: قبل طُلُوع الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس الْمَعْرُوف بشيخ الْإِسْلَام. الثَّانِي: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان(5/133)
ابْن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ: فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أحد الروَاة من المخضرمين وَهُوَ أَبُو عُثْمَان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سُلَيْمَان وَأَبُو عُثْمَان. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب إِلَى جده، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين. من الروَاة كوفيان والإثنان الْآخرَانِ بصريان. وَفِيه: عَن أبي عُثْمَان بالعنعنة، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه حَدثنَا أَبُو عُثْمَان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن مُحَمَّد بن نمير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ، وَعَن مُسَدّد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو ابْن عَليّ عَن يحيى بِهِ، وَفِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن حَكِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يمنعن أحدكُم) بِنصب: أحدكُم، وفاعله هُوَ قَوْله: (أَذَان بِلَال) . قَوْله: (أَو: أحدا مِنْكُم) ، شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) يحْتَمل أَن يكون هَذَا الشَّك من زُهَيْر، فَإِن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ فَقَالُوا: لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو وَاحِدًا مِنْكُم، ثمَّ قَالَ: هَل فرق بَين أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم؟ قلت: كِلَاهُمَا عَام، لَكِن الأول من جِهَة أَنه اسْم جنس مُضَاف، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي. انْتهى. قلت: الْفرق بَين أحد وَوَاحِد من جِهَة الْمَعْنى: أَن أحدا يرجع إِلَى الذَّات، وواحدا يرجع إِلَى الصِّفَات. قَوْله: (من سَحوره) ، بِفَتْح السِّين، وَهُوَ مَا يتسحر بِهِ، وَبِضَمِّهَا التسحر كَالْوضُوءِ وَالْوُضُوء، وَفِي بعض النّسخ: من، سحره، وَلم أعلم صِحَّته. قَوْله: (فَإِنَّهُ أَي: فَإِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل أَو يُنَادي، شكّ من الرَّاوِي ومعناهما وَاحِد. وَقَوله (بلَيْل) أَي فِي ليل قَوْله: (ليرْجع) ، بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْجِيم المخففة، يسْتَعْمل هَذَا لَازِما ومتعديا. تَقول: رَجَعَ زيد وَرجعت زيدا، وَهَهُنَا متعدٍ وفاعله: بِلَال. قَوْله: (قائمكم) ، بِالنّصب مَفْعُوله، وَمَعْنَاهُ: يرد الْقَائِم أَي المتهجد إِلَى رَاحَته ليقوم إِلَى صَلَاة الصُّبْح نشيطا، أَو يكون لَهُ حَاجَة إِلَى الصّيام فيتسحر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ليرْجع، إِمَّا من الرُّجُوع وَإِمَّا من الرجع. وقائمكم، مَرْفُوع أَو مَنْصُوب؟ قلت: فهم مِنْهُ أَنه جوز الْوَجْهَيْنِ هَهُنَا: أَحدهمَا كَون ليرْجع لَازِما، وَيكون قائمكم فَاعله مَرْفُوعا، وَالْآخر: يكون مُتَعَدِّيا، وَيكون قائمكم مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ. قَوْله: (ولينبه) من التَّنْبِيه أَي: وليوقظ نائمكم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ولينبه من التَّنْبِيه وَهُوَ الإنباه، وَفِي بَعْضهَا: ولينتبه من الانتباه. قلت: جوز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ أَيْضا، ثمَّ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنه إِنَّمَا يُؤذن بِاللَّيْلِ ليعلمكم أَن الصُّبْح قريب، فَيرد الْقَائِم المتهجد إِلَى رَاحَته لينام لَحْظَة ليُصبح نشيطا ويوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بِفعل مَا أَرَادَهُ من تهجد قَلِيل أَو تسحر أَو اغتسال. قلت: أَو لإيتار إِن كَانَ نَام عَن الْوتر، وَهَذَا كَمَا ترى جوز الْكرْمَانِي الْوَجْهَيْنِ فِي كل وَاحِد من قَوْله: (ليرْجع) و (لينبه) وَلم يبين أَنَّهُمَا رِوَايَة أم لَا، وَالظَّاهِر أَنه تصرف من جِهَة الْمَعْنى. وَقَالَ بَعضهم: من روى ليرْجع قائمكم، من الترجيع يَعْنِي: بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْجِيم فقد أَخطَأ. قلت: أَن كَانَ خَطؤُهُ من جِهَة الرِّوَايَة فَيمكن، وإلاَّ فَمن جِهَة الْمَعْنى فَلَيْسَ بخطأ، وتعليل هَذَا الْقَائِل الْخَطَأ بقوله فَإِنَّهُ يصير من الترجيع، وَهُوَ الترديد وَلَيْسَ بمرده هُنَا فِيهِ نظر، لِأَن الَّذِي روى من الترجيع لَهُ أَن يَقُول: مَا أردْت بِهِ الترديد، وَإِنَّمَا أردْت بِهِ التَّعْدِيَة، فَإِن رَجَعَ الَّذِي هُوَ لَازم يجوز تعديته بالتضعيف كَمَا فِي سَائِر الْأَلْفَاظ اللَّازِمَة. قَوْله: (وَلَيْسَ أَن يَقُول) بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهَذَا من كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ الْفجْر أَو الصُّبْح على الشَّك من الرَّاوِي، أَن يَقُول الشَّخْص هَكَذَا، وَأَشَارَ بإصبعيه ورفعهما إِلَى فَوق وطأطأ إِلَى أَسْفَل، وَأَشَارَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْفجْر الْكَاذِب، وَهُوَ الضَّوْء المستطيل من الْعُلُوّ إِلَى السّفل، وَهُوَ من اللَّيْل، وَلَا يدْخل بِهِ وَقت الصُّبْح، وَيجوز فِيهِ التسحر وَنَحْوه. قَوْله: (حَتَّى يَقُول) ، هَكَذَا إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى الصُّبْح الصَّادِق، وَقد فسر زُهَيْر الرَّاوِي الصَّادِق بقوله بسبابتيه إِلَى آخِره. وَاعْلَم أَن قَوْله: (الْفجْر) اسْم: لَيْسَ، وَخَبره هُوَ قَوْله: (أَن يَقُول) وَمعنى القَوْل بالأصابع: الْإِشَارَة بهَا، قَوْله: (بأصابعه) بِلَفْظ الْجمع رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بإصبعيه) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: (باصبعه) ، بِلَفْظ(5/134)
الْمُفْرد، وَلم يذكرهُ غَيره. وَفِي الْأصْبع عشر لُغَات: فتح الْهمزَة، وَضمّهَا، وَكسرهَا، وَكَذَلِكَ الْبَاء فَهَذِهِ تسع لُغَات، والعاشر الأصبوع، والسبابة من الْأَصَابِع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام، وَسميت بذلك لِأَن النَّاس يشيرون بهَا عِنْد الشتم. قَوْله: (إِلَى فَوق) رُوِيَ مَبْنِيا على الضَّم على نِيَّة الْإِضَافَة، ومنونا بِالْجَرِّ على عدم نِيَّتهَا، وَهَكَذَا حكم الْأَسْفَل لكنه غير منصرف فجره بِالْفَتْح، وَكَذَا سَائِر الظروف الَّتِي تقطع عَن الْإِضَافَة، وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} (الرّوم: 4) . قَوْله: (وطأطأ) على وزن: دحرج، أَي: خفض إصبعيه إِلَى أَسْفَل، وَهَذَا هُوَ الْإِشَارَة إِلَى كَيْفيَّة الصُّبْح الصَّادِق، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عِيسَى بن يُونُس عَن سُلَيْمَان قَالَ: الْفجْر لَيْسَ هَكَذَا، وَلَكِن الْفجْر هَكَذَا وَاخْتلف أَلْفَاظ الروَاة فِي هَذَا فَقَالَ بَعضهم وأخصر مَا وَقع فيهل رِوَايَة جرير عَن سُلَيْمَان عِنْد مُسلم (لَيْسَ الْفجْر الْمُعْتَرض وَلَكِن المستطيل) . قلت: رِوَايَة مُسلم: (لَا يَغُرنكُمْ من سحوركم أَذَان بِلَال، وَلَا بَيَاض الْأُفق المستطيل، هَكَذَا، حَتَّى يستطير هَكَذَا) . وَحَكَاهُ حَمَّاد بن زيد، وَقَالَ: يَعْنِي مُعْتَرضًا. وَفِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ من طَرِيق شُعْبَة عَن سوَادَة: سَمِعت سَمُرَة يخْطب، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَلَا هَذَا الْبيَاض حَتَّى يَبْرق الْفجْر أَو ينفجر الْفجْر) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْأَذَان الَّذِي كَانَ يُؤذن بِهِ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ لرجع الْقَائِم وإيقاظ النَّائِم، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة. قَالَ: وَلَا بُد من أَذَان آخر، كَمَا فعل ابْن أم مَكْتُوم، وَهُوَ قَول النَّوَوِيّ أَيْضا، وَقد ذكرنَا اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ فِيمَا مضى، وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي: الَّذين قَالُوا بِجَوَاز الْأَذَان للصبح قبل دُخُول الْوَقْت اخْتلفُوا فِي وقته، فَذكر بعض الشَّافِعِيَّة أَنه يكون فِي وَقت السحر بَين الْفجْر الصَّادِق والكاذب، وَيكرهُ التَّقْدِيم على ذَلِك الْوَقْت، وَعند الْبَعْض: يُؤذن عِنْد انْقِضَاء صَلَاة الْعَتَمَة من نصف اللَّيْل، وَقيل: عِنْد ثلث اللَّيْل، وَقيل: عِنْد سدسه الآخر.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأحمد وَمَالك فِي قَول الْجَوَاز: من نصف اللَّيْل، وَهُوَ الْأَصَح من أَقْوَال أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي: عِنْد طُلُوع الْفجْر فِي السحر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَصَححهُ القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ. وَالثَّالِث: يُؤذن لَهَا فِي الشتَاء لسبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لنصف سبع يبْقى. وَالرَّابِع: من ثلث اللَّيْل آخر الْوَقْت الْمُخْتَار. وَالْخَامِس: جَمِيع اللَّيْل وَقت لأذان الصُّبْح، حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: لَوْلَا حِكَايَة أبي عَليّ لَهُ، وَأَنه لم ينْقل إلاَّ مَا صَحَّ عِنْده لما استجزت نَقله، وَكَيف يحسن الدُّعَاء لصَلَاة الصُّبْح فِي وَقت الدُّعَاء للمغرب؟ والسرف فِي كل شَيْء مطروح، وَأما السَّبع وَنصف السَّبع فَحَدِيث بَاطِل عِنْد أهل الحَدِيث، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن بعض أَصْحَابه عَن الْأَعْرَج عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عمَارَة عَن أَبِيه عَن جده عَن سعيد الْقرظِيّ، وَهُوَ مُخَالف لمذهبه فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ آذاننا فِي الشتَاء لسبع وَنصف السَّبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لسبع يبْقى مِنْهُ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) ، وَتَقْدِيم الْأَذَان على الْفجْر مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَأَبُو يُوسُف. وَقَالَ بَعضهم: ادّعى بعض الْحَنَفِيَّة كَمَا حَكَاهُ السرُوجِي عَنْهُم أَن النداء قبل الْفجْر لم يكن بِأَلْفَاظ الْأَذَان، وَإِنَّمَا كَانَ تذكيرا أَو تسحيرا، كَمَا يَقع للنَّاس الْيَوْم، وَهَذَا مَرْدُود لِأَن الَّذِي يصنعه النَّاس الْيَوْم مُحدث قطعا، وَقد تظافرت الطّرق على التَّعْبِير بِلَفْظ الْأَذَان فَحَمله على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ مقدم. قلت: لفظ الْأَذَان يتَنَاوَل مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ والشرعي، وَقد قَامَ دَلِيل من الشَّارِع أَن المُرَاد من أَذَان بِلَال لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ أَذَان ابْن أم مَكْتُوم، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لم يُوجد الْفرق بَين أذانيهما، وَالْحَال أَن الشَّارِع فرق بَينهمَا، وَقد قَالَ: أَن أَذَان بِلَال لإيقاظ النَّائِم ولرجع الْقَائِم، وَقَالَ لَهُم: لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال. وَجعل أَذَان ابْن أم مَكْتُوم وَهُوَ الأَصْل كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مضى، وتظافر الطّرق لَا يصادم مَا ذَكرْنَاهُ.
وَفِيه: بَيَان الْفجْر الْكَاذِب والصادق.
وَفِيه: زِيَادَة الْإِيضَاح بِالْإِشَارَةِ تَأْكِيدًا للتعليم، وَقَالَ الْمُهلب يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْإِشَارَة تكون أقوى من الْكَلَام.
622 - حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ أخبرنَا أبُو أُسامةَ قَالَ عُبَيْدُ الله حَدثنَا عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ وَعَن نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحدَّثني يُوسُفُ بنُ عِيسَى المَرُوزِيُّ قَالَ حَدثنَا الفَضْلُ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ.(5/135)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَذَان بِلَال فِي اللَّيْل قبل دُخُول وَقت الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة: الأول: إِسْحَاق غير مَنْسُوب، وَزعم الجياني أَن إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة يحْتَمل أَن يكون إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي أَو إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج، أَو إِسْحَاق بن نصر السَّعْدِيّ وَزعم الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج الدِّمَشْقِي فِي (أَطْرَافه) : أَنه إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَوجد بِخَط الْحَافِظ الدمياطي على حَاشِيَته الصَّحِيح: أَن إِسْحَاق هَذَا هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ بَعضهم أما مَا وَقع بِخَط الدمياطي بِأَنَّهُ ابْن شاهين، فَلَيْسَ بصواب، لِأَنَّهُ لَا يعرف لَهُ عَن أبي أُسَامَة شَيْء. قلت: عدم مَعْرفَته بِعَدَمِ رِوَايَة ابْن شاهين عَن أبي أُسَامَة لَا يسْتَلْزم الْعَدَم مُطلقًا، وَجَهل الشَّخْص بِشَيْء لَا يسْتَلْزم جهل غَيره بِهِ. قلت: هَذَا الالتباس قدح فِي الأسناد؟ قلت: لَا، لِأَن أيا كَانَ مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة، وَهُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة وَقد تقدم. الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، وَهُوَ: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب الْمدنِي الْعمريّ الْعَدوي القريشي، وَقد تقدم. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تقدم. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: يُوسُف بن عِيسَى أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي، وَقد تقدم. السَّابِع: الْفضل بن مُوسَى السينَانِي، وسينان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، قَرْيَة من قرى مرو. الثَّامِن: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. التَّاسِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث عَن عبيد الله بن عمر من وَجْهَيْن ذكر لَهُ فِي أَحدهمَا إسنادين: نَافِع عَن ابْن عمر، وَالقَاسِم عَن عَائِشَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: اقْتصر فِيهِ على الْقَاسِم عَن عَائِشَة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد عَن إِسْحَاق وَعَن يُوسُف، ويروى بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: عبيد الله عَن الْقَاسِم، وَالْفضل عَن عبيد الله، ويوسف عَن الْفضل. وَمِنْهَا أَن فِيهِ: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع، وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع بعد إِسْحَاق وَبعد أبي أُسَامَة وَبعد يُوسُف وَبعد الْفضل.
قَوْله: (قَالَ عبيد الله: حَدثنَا عَن الْقَاسِم) فَاعل: قَالَ، هُوَ أَبُو أُسَامَة، وَعبيد الله هُوَ الْقَائِل بقوله: حَدثنَا. وَفِيه: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وأصل التَّرْكِيب: قَالَ أَبُو أُسَامَة: حَدثنَا عبيد عَن الْقَاسِم، وَكَأَنَّهُ رَاعى لفظ شَيْخه وَلم يذكرهُ على الأَصْل. قَوْله: (وَعَن نَافِع) ، عطف على الْقَاسِم أَي: قَالَ عبيد الله عَن نَافِع أَيْضا، وَمِنْهَا أَن فِيهِ كلمة: (ح) فِي أَكثر النّسخ، وَهِي إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر متن الحَدِيث، أَو إِشَارَة إِلَى الْحَائِل أَو إِلَى الحَدِيث، وَقد مر فِي الْكتاب مثل هَذَا فِي غير مَوضِع.
قَوْله: (حَتَّى يُؤذن) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى يُنَادي) ، وَقد أوردهُ البُخَارِيّ فِي الصّيام بِلَفْظ: (يُؤذن) ، وَزَاد وَفِي آخِره: (فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) . قَالَ الْقَاسِم: لم يكن بَين أذانهما إلاَّ أَن يرقى فِي هَذَا وَينزل هَذَا. فَإِن قلت: هَذَا مُرْسل. لِأَن الْقَاسِم تَابِعِيّ فَلم يدْرك الْقِصَّة الْمَذْكُورَة. قلت: ثَبت عِنْد الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة يحيى الْقطَّان، وَعند النَّسَائِيّ من رِوَايَة حَفْص بن غياث، كِلَاهُمَا عَن عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، فَذكر الحَدِيث، (قَالَت: فَلم يكن بَينهمَا إلاَّ أَن ينزل هَذَا ويصعد هَذَا) . وعَلى هَذَا فَمَعْنَى قَوْله: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، قَالَ الْقَاسِم، أَي: فِي رِوَايَته عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قد مر عَن قريب: قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يسن الْأَذَان قبل وَقت الصُّبْح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَن ذَلِك النداء من بِلَال لينبه النَّائِم وَيرجع الْقَائِم لَا للصَّلَاة، وَقَالَ غَيره: إِنَّه كَانَ نِدَاء لَا أذانا، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ يُنَادي. أَقُول للشَّافِعِيَّة: أَن يَقُولُوا: الْمَقْصُود بَيَان أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح، وَتَقْرِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَأما أَنه للصَّلَاة أَو لغَرَض آخر، فَذَلِك بحث آخر. وَأما رِوَايَة: (كَانَ يُنَادي) ، فمعارض بِرِوَايَة: (كَانَ يُؤذن) وَالتَّرْجِيح مَعنا لِأَن كل أَذَان نِدَاء بِدُونِ الْعَكْس، فَالْعَمَل بِرِوَايَة: (يُؤذن عمل بالروايتين، وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَالْعَكْس لَيْسَ كَذَلِك. قلت: أَرَادَ الْكرْمَانِي أَن ينتصر لمذهبه لَكِن لم يَأْتِ بِشَيْء عَلَيْهِ قبُول، فَقَوله: قَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن ذَلِك النداء من بِلَال لينبه النَّائِم وَيرجع الْقَائِم، هُوَ من كَلَام الشَّارِع، فَإِن أَرَادَ بذلك الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل. وَقَوله: لَا للصَّلَاة، مُسلم عِنْدهم أَيْضا، حَتَّى لَو صلى بذلك الْأَذَان صَلَاة الْفجْر لَا يجوز. وَقَوله: الْمَقْصُود بَيَان أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح، فَهَذَا لَا ننازعهم فِيهِ، وَنحن أَيْضا نقُول: إِنَّه وَقع قبل الصُّبْح، وَلَكِن لَا يعْتد بِهِ فِي حق الصَّلَاة. وَقَوله: وَتَقْرِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: أَن يرجع فينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام، فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث حَمَّاد(5/136)
ابْن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح مَا روى عبيد الله بن عمر وَغَيره عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) . قلت: مَا لحماد بن سَلمَة، وَهُوَ ثِقَة؟ . وَلَيْسَ حَدِيثه يُخَالف حَدِيث عبيد الله بن عمر، لِأَن حَدِيثه لإيقاظ النَّائِم وَرجع الْقَائِم، وَلم يكن لأجل الصَّلَاة، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يرجع وينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام) . وَأما حَدِيث حَمَّاد ابْن سَلمَة فقد كَانَ لأجل غَفلَة بِلَال عَن الْوَقْت، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ: أَذَان بِلَال لم يكن معتدا للصَّلَاة. وَقَوله: وَأما رِوَايَة (كَانَ يُنَادي) إِلَى آخِره، فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن كلاَّ من الْأَذَان والنداء فِي الْحَقِيقَة يرجع إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ الْإِعْلَام، وَلَا إِعْلَام قبل الْوَقْت. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: بِأَن الْأَذَان للإعلام بِوَقْت الصَّلَاة بالألفاظ الَّتِي عينهَا الشَّارِع، وَهُوَ لَا يصدق عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إعلاما بوقتها. فَأجَاب بِأَن الْإِعْلَام بِالْوَقْتِ أَعم من أَن يكون إعلاما بِأَن الْوَقْت دخل، أَو قرب أَن يدْخل. انْتهى. قلت: فعلى مَا ذكره إِذا أذن عِنْد قرب وَقت صَلَاة أَي صَلَاة كَانَت يَنْبَغِي أَن يَكْتَفِي بِهِ وَلَا يُعَاد، وَيصلى بِهِ. وَلم يقل بِهِ أحد فِي كل الصَّلَاة. وَقَالَ بَعضهم: وَاحْتج الطَّحَاوِيّ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان قبل الْفجْر، بقوله: (لما كَانَ بَين أذانيهما من الْقرب) ، مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة ثَبت أَنَّهُمَا كَانَا يقصدان وقتا وَاحِدًا وَهُوَ طُلُوع الْفجْر، فيخطئه بِلَال ويصيبه ابْن أم مَكْتُوم، وَتعقب بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما أقره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذنًا، وَاعْتمد عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ كَمَا ادّعى لَكَانَ وُقُوع ذَلِك مِنْهُ نَادرا. قلت: لَو اعْتمد عَلَيْهِ فِي أَذَان الْفجْر لَكَانَ لم يقل: لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَتَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه على ذَلِك لم يكن إلاَّ لِمَعْنى بَينه فِي الحَدِيث، وَهُوَ: تَنْبِيه النَّائِم وَرجع الْقَائِم، لمعان مَقْصُودَة فِي ذَلِك.
14 - بابٌ بَيْنَ الأَذَانِ والإقَامَةِ ومَنْ يَنْتَظِرُ إقَامَةَ الصَّلاَةِ
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة، فَحِينَئِذٍ يكون بَاب منونا مَرْفُوعا على أَنه خبر مبتد مَحْذُوف، وَقَالَ بَعضهم: أما بَاب، فَهُوَ فِي روايتنا بِلَا تَنْوِين. قلت: لَيْت شعري من هُوَ الرَّاوِي لَهُ، فَهَل هُوَ مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي تصرفه فِي التراكيب، وَهَذَا لَيْسَ لفظ الحَدِيث حَتَّى يقْتَصر فِيهِ على الْمَرْوِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام البُخَارِيّ، فَالَّذِي لَهُ يَد فِي تَحْقِيق النّظر فِي تراكيب النَّاس يتَصَرَّف فِيهِ بِأَيّ وَجه، يَأْتِي مَعَه على قَاعِدَة أهل النَّحْو واصطلاح الْعلمَاء فِيهِ، وَبَاب هُنَا منون، وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ، ومميز: كم، مَحْذُوف أَي: كم سَاعَة، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَالْإِقَامَة) أَي: إِقَامَة الصَّلَاة. قَوْله: (وَمن ينْتَظر الْإِقَامَة) لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ، وعَلى تَقْدِير وجوده يكون عطفا على الْمُقدر الَّذِي قدرناه، تَقْدِيره: وَيذكر فِيهِ من ينْتَظر إِقَامَة الصَّلَاة.
20 - (حَدثنَا إِسْحَاق الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا خَالِد عَن الْجريرِي عَن ابْن بُرَيْدَة عَن عبد الله بن مُغفل الْمُزنِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ بَين كل أذانين صَلَاة ثَلَاثًا لمن شَاءَ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن معنى قَوْله " بَين كل أذانين صَلَاة " بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَقَالَ بَعضهم وَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَشَارَ بذلك أَي بقوله بَاب كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبلَال اجْعَل بَين أذانك وإقامتك قدر مَا يفرغ الْآكِل من أكله والشارب من شربه والمقتصر إِذا دخل لقَضَاء حَاجَة " أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف (قلت) هَذَا كَلَام عَجِيب لِأَنَّهُ كَيفَ يترجم بَابا ويورد فِيهِ حَدِيثا صَحِيحا على شَرطه وَيُشِير بذلك إِلَى حَدِيث ضَعِيف فَأَي شَيْء هُنَا يدل على هَذِه الْإِشَارَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول اسحق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ وَفِي الروَاة اسحق بن وهب العلاف الوَاسِطِيّ وَلَكِن لَيست لَهُ رِوَايَة عَن خَالِد وَإِنَّمَا تميز اسحق هَهُنَا من غَيره من اسحق الْحَنْظَلِي واسحق بن نصر السَّعْدِيّ واسحق بن مَنْصُور الكوسج بقوله الوَاسِطِيّ الثَّانِي خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان وَقد تقدم الثَّالِث الْجريرِي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء الْمُهْملَة هُوَ سعيد بن إِيَاس الرَّابِع ابْن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة وَهُوَ عبد الله بن حصيب الْأَسْلَمِيّ قَاضِي مرو مَاتَ بهَا الْخَامِس عبد الله بن مُغفل بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء(5/137)
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه من الروَاة الْأَوَّلَانِ واسطيان والاثنان بصريان وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَأَنه لم يذكرهُ إِلَّا بنسبته إِلَى بَلَده وَاسِط (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن كهمس بن الْحسن وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع كِلَاهُمَا عَن كهمس بِهِ وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن الْجريرِي بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْجريرِي بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد عَن كهمس بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " بَين كل أذانين " أَي الْأَذَان وَالْإِقَامَة فَهُوَ من بَاب التغليب وَقَالَ الْخطابِيّ حمل أحد الاسمين على الآخر شَائِع كَقَوْلِهِم الأسودان للتمر وَالْمَاء وَالْأسود إِنَّمَا هُوَ أَحدهمَا وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يكون الِاسْم لكل وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقَة لِأَن الْأَذَان فِي اللُّغَة الْإِعْلَام وَالْأَذَان إِعْلَام بِحُضُور الْوَقْت وَالْإِقَامَة إِعْلَام بِفعل الصَّلَاة (قلت) الْأَذَان إِعْلَام الغائبين وَالْإِقَامَة إِعْلَام الْحَاضِرين وَقيل لَا يجوز حمل هَذَا على ظَاهره لِأَن الصَّلَاة وَاجِبَة بَين كل أذاني وَقْتَيْنِ والْحَدِيث يخبر بالتخيير بقوله " لمن شَاءَ " قَوْله " صَلَاة " أَي وَقت صَلَاة وموضعها قَوْله " ثَلَاثًا " أَي قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات وتفسره الرِّوَايَة الَّتِي تَأتي بعد بَاب وَهِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَين كل أذانين صَلَاة بَين كل أذانين صَلَاة ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة لمن شَاءَ " وَفِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي " قَالَ فِي الرَّابِعَة لمن شَاءَ " وَعند أبي دَاوُد " قَالَهَا مرَّتَيْنِ " وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَائِدَة هَذَا الحَدِيث أَنه يجوز أَن يتَوَهَّم أَن الْأَذَان للصَّلَاة يمْنَع أَن يفعل سوى الصَّلَاة الَّتِي أذن لَهَا فَبين أَن التَّطَوُّع بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة جَائِز (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة بَين كل أذانين يَعْنِي بَين الْإِقَامَة وَالْأَذَان وَالْحَاصِل أَن الْوَصْل بَينهمَا مَكْرُوه لِأَن الْمَقْصُود بِالْأَذَانِ إِعْلَام النَّاس بِدُخُول الْوَقْت لِيَتَأَهَّبُوا للصَّلَاة بِالطَّهَارَةِ فيحضروا الْمَسْجِد لإِقَامَة الصَّلَاة وبالوصل يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُود ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي حد الْفَصْل فَذكر التُّمُرْتَاشِيّ فِي جَامعه أَن الْمُؤَذّن يقْعد مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ أَو أَربع أَو مِقْدَار مَا يفرغ الْآكِل من أكله والشارب من شربه والحاقن من قَضَاء حَاجته وَقيل مِقْدَار مَا يقْرَأ عشر آيَات ثمَّ يثوب ثمَّ يُقيم كَذَا فِي الْمُجْتَبى وَفِي شرح الطَّحَاوِيّ يفصل بَينهمَا مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فِي كل رَكْعَة نَحوا من عشر آيَات وينتظر الْمُؤَذّن للنَّاس وَيُقِيم للضعيف المستعجل وَلَا ينْتَظر رَئِيس الْمحلة وكبيرها وَهَذَا كُله إِلَّا فِي صَلَاة الْمغرب عِنْد أبي حنيفَة لِأَن تَأْخِيرهَا مَكْرُوه فيكتفي بِأَدْنَى الْفَصْل وَهُوَ سكتة يسكت قَائِما سَاعَة ثمَّ يُقيم (فَإِن قلت) مَا مِقْدَار السكتة عِنْده (قلت) قدر مَا يتَمَكَّن فِيهِ من قِرَاءَة ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة مِقْدَار مَا يخطو ثَلَاث خطوَات وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يفصل بَينهمَا بجلسة خَفِيفَة مِقْدَار الجلسة بَين الْخطْبَتَيْنِ وَمذهب الشَّافِعِي مَا ذكره النَّوَوِيّ فَإِنَّهُ قَالَ يسْتَحبّ أَن يفصل بَين أَذَان الْمغرب وإقامتها فصلا يَسِيرا بقعدة أَو سكُوت أَو نَحْوهمَا وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عندنَا وَنقل صَاحب الْهِدَايَة عَن الشَّافِعِي أَنه يفصل بِرَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَفِيه نظر وَقَالَ أَحْمد يفصل بَينهمَا بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْمغرب اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَاحْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور (قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن حبَان بن عبد الله الْعَدوي حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَن عِنْد كل أذانين رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب " (فَإِن قلت) ذكر ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الموضوعات وَنقل عَن الفلاس أَنه قَالَ كَانَ حبَان هَذَا كذابا (قلت) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده فَقَالَ لَا نعلم من رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إِلَّا حبَان بن عبد الله وَهُوَ رجل مَشْهُور من أهل الْبَصْرَة لَا بَأْس بِهِ -
625 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ عَامِرٍ(5/138)
الأنصَارِيَّ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ كَانَ المُؤَذِّنُ إذَا أذَّنَ قامَ ناسٌ مِن أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرَبِ ولَمْ يَكُنْ بَيْنَ الآذَانِ والإقَامَةِ شَيْءٌ (انْظُر الحَدِيث 503) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وهم يصلونَ الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب) فَإِن صلَاتهم قبل صَلَاة الْمغرب بعد الْأَذَان فصل بَينه وَبَين الْإِقَامَة، وَبِهَذَا أَخذ أَحْمد وَإِسْحَاق. وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ من اسْتثِْنَاء الْمغرب فِي حَدِيث بُرَيْدَة الْمَذْكُور آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، ذكرُوا غير مرّة، وبشار على وزن: فعال بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ، مر فِي بَاب الْوضُوء من غير حدث.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني وواسطي، وَهُوَ شُعْبَة.
بَيَان مَحل تعدده وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَامر عَن سُفْيَان عَنهُ بِهِ نَحوه، وَفِي نُسْخَة عَن شُعْبَة بدل عَن سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ الْمُؤَذّن إِذا أذن) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِذا أَخذ الْمُؤَذّن فِي أَذَان الْمغرب) . قَوْله: (قَامَ نَاس) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (قَامَ كبار أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،) . قَوْله: (يبتدرون) ، أَي: يتسارعون ويستبقون. قَوْله: (السَّوَارِي) جمع سَارِيَة وَهِي: الأسطوانة، وَكَانَ غرضهم بالاستباق إِلَيْهَا الاستتار بهَا مِمَّن يمر بَين أَيْديهم لكَوْنهم يصلونَ فُرَادَى. قَوْله: (وهم كَذَلِك) ، أَي: فِي تِلْكَ الْحَالة هم مبتدرون منتظرون الْخُرُوج، وَفِي رِوَايَة مُسلم زِيَادَة وَهِي: (فَيَجِيء الْغَرِيب فيحسب أَن الصَّلَاة قد صليت من كَثْرَة من يُصليهَا) . رَوَاهَا من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: (وَهِي كَذَلِك) ، بدل: وهم، والأمران جائزان فِي ضمير الْعُقَلَاء، نَحْو: الرِّجَال فعلت وفعلوا. قَوْله: (قَالَ وَلم يكن بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة شَيْء) ، أَي: قَالَ أنس: وَلم يكن بَينهمَا زمَان أَو صَلَاة. فَإِن قلت: هَذَا أثر وَهُوَ ناف، وَالَّذِي سبق قبله من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُثبت، فَكيف الْجمع بَينهمَا؟ قلت: قَالَ ابْن الْمُنِير: يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِحمْل النَّفْي الْمُطلق على الْمُبَالغَة مجَازًا، وَالْإِثْبَات للتَّعْلِيل على الْحَقِيقَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن هَذَا خَاص بِأَذَان الْمغرب، وَذَاكَ عَام، وَالْخَاص إِذا عَارض الْعَام يخصصه عِنْد الشَّافِعِيَّة، سَوَاء علم تَأَخره أم لَا، وَالْمرَاد بقوله: (كل أذانين) غير أذاني الْمغرب، وَقيل: التَّنْوِين فِيهِ للتنكير والتعظيم، وَنفي الْكثير لَا يسْتَلْزم نفي الْقَلِيل، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث شُعْبَة: (وَكَانَ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة قرب. قلت: يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عُثْمَان بن جبلة وَأَبُو دَاوُد عَن شُعْبَة: (وَلم يكن بَينهمَا إلاَّ قَلِيل) . وَقيل: حَدِيث الْبَاب على ظَاهره، وَقَوله: وَلم يكن بَينهمَا شَيْء، يدل على أَن عُمُوم قَوْله: (بَين كل أذانين صَلَاة) مَخْصُوص بالمغرب، فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا يصلونَ بَينهمَا، بل كَانُوا يشرعون فِي الصَّلَاة فِي أثْنَاء الْأَذَان ويفرغون مَعَ فَرَاغه، وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث بُرَيْدَة الْمَذْكُور عَن قريب، فَإِن فِيهِ اسْتثِْنَاء الْمغرب كَمَا ذكرنَا. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل: ويفرغون مَعَ فَرَاغه، فِيهِ نظر لِأَنَّهُ مَا فِي الحَدِيث شَيْء يدل على ذَلِك، وشروعهم فِي الْأَذَان لَا يسْتَلْزم فراغهم مَعَ فرَاغ الْأَذَان، وَادّعى بعض الْمَالِكِيَّة نسخهما لِأَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر لما نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب، ثمَّ ندب الْمُبَادرَة إِلَى الْمغرب فِي أول وَقتهَا، فَلَو استمرت الْمُوَاظبَة على الِاشْتِغَال بغَيْرهَا لَكَانَ ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى مُخَالفَة إِدْرَاك أول وَقتهَا. وَقَالَ بَعضهم: دَعْوَى النّسخ لَا دَلِيل عَلَيْهَا. قلت: يسْتَأْنس لتأييد قَول هَذَا الْقَائِل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن طَاوس، قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّيهمَا. وَقَالَ أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ، وَلم يَفْعَله أحد بعد الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ النَّخعِيّ: إِنَّهَا بِدعَة، وَرُوِيَ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا لَا يصلونهما.(5/139)
قَالَ عُثْمَانُ بنُ جَبَلَةَ وأبُو دَاوُد عَن شُعْبَةَ لَمْ يَكُن بَيْنَهُمَا إلاَّ قَلِيلٌ
جبلة، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن أبي رواد، ابْن أخي عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، واسْمه: مَيْمُون الْأَزْدِيّ، مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ وَأَبُو دَاوُد: سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم، وَيُقَال أَبُو دَاوُد هَذَا: عمر بن سعيد الْحَفرِي الْكُوفِي، وحفر بِالْفَاءِ مَوضِع بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ أيضامن أَفْرَاد مُسلم. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه تَعْلِيق مِنْهُ لِأَن البُخَارِيّ كَانَ ابْن عشرَة عِنْد وَفَاة الطَّيَالِسِيّ.
15 - (بابُ مَنِ انْتَظَرَ الإقَامَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمع الْأَذَان وانتظر إِقَامَة الصَّلَاة، وَالظَّاهِر من وضع هَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْإِمَامِ لِأَن الْمَأْمُوم يسْتَحبّ أَن يحوز الصَّفّ الأول، وَيُمكن أَن يُشَارك الإِمَام فِي ذَلِك من كَانَ منزله قَرِيبا من الْمَسْجِد بِحَيْثُ يسمع الْإِقَامَة من منزله، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ متهيأ للصَّلَاة كَانَ انْتِظَاره لَهَا كانتظاره إِيَّاهَا وَهُوَ فِي الْمَسْجِد.
626 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عَائِشَةَ قالَتْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بالأُولَى مِن صلاةِ الفَجْرِ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صلاةِ الفَجْرِ بَعْدَ أنْ يَسْتَبِينَ الفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَأتِيهِ المُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اضْطجع على شقَّه الْأَيْمن) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِي رُوَاته حمصيان ومدنيان. .
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن عَليّ بن عَيَّاش، كِلَاهُمَا عَن شُعَيْب بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سكت الْمُؤَذّن) أَي: إِذا فرغ من الْأَذَان بِالسُّكُوتِ عَنهُ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْجُمْهُور الْمُعْتَمدَة، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. وَحكى ابْن التِّين: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَمَعْنَاهُ: صب الْأَذَان فِي الآذان، جمع الْأَذَان، واستعير الصب للإفاضة فِي الْكَلَام. وَقَالَ ابْن قرقول: ورويناه عَن الْخطابِيّ: (سكب الْمُؤَذّن) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ: وَرَأَيْت بِخَط أبي عَليّ الجياني عَن أبي مَرْوَان: سكب وَسكت، بِمَعْنى وَابْن الْأَثِير لم يذكر غير الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ: إِرَادَة إِذا أذن فاستعير السكب للإفاضة فِي الْكَلَام، كَمَا يُقَال: أفرغ فِي أُذُنِي حَدِيثا أَي: القى وصب، وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي (الْعباب) أَيْضا: بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَذكر أَن الْمُحدثين صحفوها بِالْمُثَنَّاةِ. وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. قلت: لم يبين وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الصَّاغَانِي مِمَّن يرد عَلَيْهِ فِي مثل هَذَا، وَقَالَ ابْن بطال والسفاقسي: إِن هَذِه رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ. قَالَا: وَلها وَجه من الصَّوَاب. قلت: بل هُوَ عين الصَّوَاب، لِأَن سكت بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق لَا يسْتَعْمل بِالْبَاء الْمُوَحدَة، بل يسْتَعْمل بِكَلِمَة: من، أَو: عَن، وسكب بِالْبَاء الْمُوَحدَة اسْتعْمل هُنَا بِالْبَاء. فَإِن قلت: الْبَاء تَجِيء بِمَعْنى: عَن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} (الْفرْقَان: 59) . أَي: عَنهُ. قلت: الأَصْل أَن يسْتَعْمل كل حرف فِي بَابه، وَلَا يسْتَعْمل فِي غير بَابه إلاَّ لنكتة، وَأي نُكْتَة هُنَا؟ قَوْله: (بِالْأولَى) ، مُرَاده الْأَذَان الأول، لِأَنَّهُ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِقَامَة، وَلكنه أنثه بِاعْتِبَار المناداة وَالْأَذَان الأول يُؤذن بِهِ عِنْد دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِقَامَة، وثان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَان الَّذِي قبل الْفجْر، وَيجوز أَن يؤول: الأولى، بالمرة الأولى وبالساعة الأولى. قَوْله: (بعد أَن يستبين الْفجْر) من الاستبانة، وَهُوَ: الظُّهُور، ويروى: يَسْتَنِير من الاستنارة، ويروى: يستيقن. قَوْله: (على شقَّه) أَي: على جنبه الْأَيْمن. قَالَ(5/140)
الْكرْمَانِي: وَالْحكمَة فِيهِ أَن لَا يسْتَغْرق فِي النّوم، لِأَن الْقلب من جِهَة الْيَسَار مُتَعَلق حِينَئِذٍ غير مُسْتَقر، وَإِذا نَام على الْيَسَار كَانَ فِي دعة واستراحة فيستغرق، وَأَيْضًا يكون انحدار الثّقل إِلَى سفل أسهل وَأكْثر فَيصير سَببا لدغدغة قَضَاء الْحَاجة فينتبه فِي أسْرع وَقت. قلت: لَا يستحسن هَذَا الْكَلَام فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا يمشي فِي حق غَيره، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء، وَجَمِيع مَا صدر عَنهُ من قَول وَفعل كَانَ على أحسن الْوُجُوه وأفضلها وأكملها، وَأَيْضًا النّوم على الْيَمين نوم الصَّالِحين، وعَلى الْيَسَار نوم الْحُكَمَاء، وعَلى الظّهْر نوم الجبارين والمتكبرين، وعَلى الْوَجْه نوم الْكفَّار.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبَاب التَّخْفِيف فِي سنة الْفجْر، وَاسْتحبَّ قوم تخفيفها، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين. وَقَالَ النَّخعِيّ، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ: لَا بَأْس بإطالتها، وَلَعَلَّه أَرَادَ بذلك غير محرم. وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة: عَن سعيد بن جُبَير: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُبمَا أَطَالَ رَكْعَتي الْفجْر) ، وَقَالَ مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يُطِيل رَكْعَتي الْفجْر، وَبَالغ قوم فَقَالُوا: لَا قِرَاءَة فِيهَا، حَكَاهُ عِيَاض والطَّحَاوِي: والْحَدِيث الصَّحِيح يرد ذَلِك، وَهُوَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الأولى بِفَاتِحَة الْكتاب و: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) . وَفِي الثَّانِيَة بِالْفَاتِحَةِ و {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) . وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرَأ فيهمَا: {قُولُوا آمنا بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 136) . وَبِقَوْلِهِ: {قل يَا أهل الْكتاب} (آل عمرَان: 64 و 98 و 99، والمائدة: 59 و 68 و 77) . وَاسْتحبَّ مَالك الِاقْتِصَار على الْفَاتِحَة، على ظَاهر قَول عَائِشَة: كَانَ يخففهما حَتَّى إِنِّي لأقول قد قَرَأَ فيهمَا بِأم الْكتاب. وَفِي (فَضَائِل الْقُرْآن الْعَظِيم) لأبي الْعَبَّاس الغافقي: (أَمر رجلا شكى إِلَيْهِ شَيْئا أَن يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة ألم نشرح، وَفِي الثَّانِيَة فِي الأولى بِالْفَاتِحَةِ وَسورَة ألم تَرَ كَيفَ) .
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِاضْطِجَاع على الْأَيْمن عِنْد النّوم، وَهُوَ سنة عِنْد الْبَعْض وَاجِب عِنْد الْحسن الْبَصْرِيّ، وَذكر القَاضِي عِيَاض: أَن عِنْد مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة بِدعَة. قلت: يَعْنِي الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صلى أحدكُم رَكْعَتي الْفجْر فليضطجع على يَمِينه) . وَاعْلَم أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يُوتر مِنْهَا بِوَاحِدَة، فَإِذا فرغ مِنْهَا اضْطجع على شقَّه حَتَّى يَأْتِيهِ الْمُؤَذّن فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، فَهَذَا الِاضْطِجَاع كَانَ بعد صَلَاة اللَّيْل، وَقبل صَلَاة رَكْعَتي الْفجْر، وَلم يقل أحد: إِن الِاضْطِجَاع قبلهمَا سنة، فَكَذَا بعدهمَا. وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (إِن كنت مستيقظة حَدثنِي وَإِلَّا اضْطجع) . فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِسنة، وَأَنه تَارَة كَانَ يضطجع قبل وَتارَة بعد وَتارَة لَا يضطجع.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب إتْيَان الْمُؤَذّن إِلَى الإِمَام الرَّاتِب وإعلامه بِحُضُور الصَّلَاة.
وَفِيه: دلَالَة على أَن الِانْتِظَار للصَّلَاة فِي الْبَيْت كالانتظار فِي الْمَسْجِد، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَسْجِد ليَأْخُذ لنَفسِهِ بحظها من فَضِيلَة الِانْتِظَار.
وَفِيه: أَن مُرَاعَاة الْوَقْت للمؤذن وَأَن الإِمَام يَجْعَل إِلَيْهِ ذَلِك. وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي حَدِيث عَائِشَة دلَالَة أَن الْمُؤَذّن لَا يكون إلاَّ عَالما بالأوقات، أَو يكون لَهُ من يعرفهُ بهَا.
وَفِيه: تَعْجِيل رَكْعَتي الْفجْر عِنْد طُلُوع الْفجْر، وَقد كره جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم أَصْحَابنَا التَّنَفُّل بعد أَذَان الْفجْر إِلَى صَلَاة الْفجْر بِأَكْثَرَ من رَكْعَتي الْفجْر، لما فِي مُسلم عَن حَفْصَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا طلع الْفجْر لَا يُصَلِّي إلاَّ رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) . وَعند أبي دَاوُد: (عَن يسَار مولى ابْن عمر، قَالَ: رَآنِي عبد الله وَأَنا أُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر، فَقَالَ: يَا يسَار إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فَقَالَ: لَا تصلوا بعد الْفجْر إلاَّ رَكْعَتَيْنِ) . وَقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث غرب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث قدامَة بن مُوسَى، وَهَذَا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعلم، كَرهُوا أَن يُصَلِّي الرجل بعد طُلُوع الْفجْر إلاَّ رَكْعَتي الْفجْر، وَإِلَى هَذَا ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد، ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: مثل الْجَمَاعَة، الثَّانِي: لَا تدخل الْكَرَاهَة حَتَّى يُصَلِّي سنة الْفجْر، الثَّالِث: لَا تدخل الْكَرَاهَة حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح، وَالله تَعَالَى أعلم.
16 -
بابٌ بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ لِمَنْ شاءَ
أَي: هَذَا بَاب بَيَان أَن بَين كل أذانين صَلَاة، وَقد قُلْنَا: إِن المُرَاد من الأذانين الْأَذَان وَالْإِقَامَة بطرِيق التغليب، كالعمرين والقمرين وَنَحْوهمَا، لَا يُقَال: هَذَا الْبَاب تكْرَار لِأَنَّهُ ذكر قبل هَذَا الْبَاب، لأَنا نقُول: إِنَّه قد ذكر هُنَاكَ بِبَعْض مَا دلّ عَلَيْهِ لفظ حَدِيث الْبَاب، وَهنا ذكر بِلَفْظ الحَدِيث، وَأَيْضًا لما كَانَ بعض اخْتِلَاف فِي رُوَاة الحَدِيث وَفِي مَتنه ذكره بترجمتين بِحَسب ذَلِك.(5/141)
627 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا كَهْمَسَ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شاءَ (انْظُر الحَدِيث 624) .
مطابقته للتَّرْجَمَة لَفظه كَمَا ذكرنَا، وَعبد الله بن يزِيد هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري مولى آل عمر الْبَصْرِيّ، ثمَّ الْمَكِّيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَنهُ فِي الْأَحْكَام، وَعَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عَنهُ فِي الْبيُوع، وروى عَنهُ مُسلم بِوَاسِطَة. وكهمس، بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْمِيم وبالسين الْمُهْملَة: ابْن الْحسن مكبر النمري، بِفَتْح النُّون وَالْمِيم: الْقَيْسِي، مَاتَ سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَبَاقِي الروَاة وَمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ قد ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين عبارَة حَدِيث ذَاك الْبَاب وَعبارَة حَدِيث هَذَا الْبَاب؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي هُنَا يُفَسر ذَاك الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَوله هُنَاكَ: ثَلَاثًا، من لفظ الرَّاوِي أَي: قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات، وَبَين ذَلِك رِوَايَة النَّسَائِيّ: (بَين كل أذانين صَلَاة، بَين كل أذانين صَلَاة، بَين كل أذانين صَلَاة) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه حَيْثُ قيد الثَّالِثَة بقوله: لمن شَاءَ، وَبَين الْمُطلق الَّذِي ثمَّة؟ قلت: هَذَا فِي الكرتين الْأَوليين مُطلق، وَذَاكَ مُقَيّد بقوله: (لمن شَاءَ) فِي المرات، وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، وإيضا ثمَّة نقل الزِّيَادَة فِي الْأَوليين، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْد الْمُحدثين. قلت: مَشِيئَة الصَّلَاة مُرَادة بَين كل أذانين على أَي وَجه كَانَ، أَلاَ ترى أَن عِنْد التِّرْمِذِيّ قَالَهَا مرّة، وَقَالَ فِي الرَّابِعَة لمن شَاءَ؟ وَعند أبي دَاوُد قَالَهَا مرَّتَيْنِ وَعند البُخَارِيّ ثَلَاثًا وَعند النَّسَائِيّ ثَلَاث مَرَّات مكررة بِغَيْر لفظ الْعدَد؟ وَالله تَعَالَى أعلم.
17 -
بابُ مَنْ قَال لِيُؤَذِّن فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ واحِدٌ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول: من قَالَ ... إِلَى آخِره،. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن وَاحِدًا من الْمُسَافِرين إِذا أذن يَكْفِي وَلَا يحْتَاج إِلَى أَذَان الْبَقِيَّة، لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ يتخيل أَنه لَا يَكْفِي الْأَذَان إلاَّ من جَمِيعهم، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل ظَاهرا أَن الْأَذَان فِي السّفر لَا يتَكَرَّر، سَوَاء كَانَ فِي الصُّبْح أَو فِي غَيره.
628 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قلاِبِةَ عنْ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ قالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَفَرٍ منْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وكانَ رَحِيما رَفيقا فَلَمَّا رَأى شَوْقَنا إلَى أهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فكونُوا فِيهِمْ وعَلِّمُوهُمْ وصَلوا فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمُّكُمْ أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعلى بن أَسد، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: أَبُو الْهَيْثَم الْبَصْرِيّ الْعمريّ، أَخُو بهز بن أَسد، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: وهيب، مصغر وهب، ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ الْكَرَابِيسِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم غير مرّة. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد. الْخَامِس: مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أَشْيَم اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على قَول من قَالَ: إِن أَيُّوب رأى أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِيه وَفِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَخلف بن هِشَام، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد(5/142)
الأشبح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حَاجِب بن الْوَلِيد وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بشر بن هِلَال الصَّواف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي نفر) ، بِفَتْح الْفَاء: عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم. وَفِي (الواعي) : وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا. قَوْله: (من قومِي) هم: بَنو لَيْث بن بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة. قَوْله: (فَأَقَمْنَا عِنْده) أَي: عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عشْرين لَيْلَة) : المُرَاد بأيامها، بِدَلِيل الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي الْبَاب: (بعد عشْرين يَوْمًا وَلَيْلَة) . قَوْله: (وَكَانَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (رحِيما) بِمَعْنى: ذَا رَحْمَة وشفقة ورقة قلب. قَوْله: (رَقِيقا) ، بقافين فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، قيل: والكشميهني أَيْضا، وَمَعْنَاهُ: كَانَ رَقِيق الْقلب، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (رَفِيقًا) بِالْفَاءِ أَولا ثمَّ بِالْقَافِ، من: الرِّفْق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رِوَايَة البُخَارِيّ بِوَجْهَيْنِ: بالقافين وبالفاء وَالْقَاف، وَرِوَايَة مُسلم بالقافين خَاصَّة. وَقَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْفَاءِ، والأصيلي وَأبي الْهَيْثَم بِالْقَافِ. قَوْله: (إِلَى أَهْلينَا) ، هُوَ جمع أهل، والأهل من النَّوَادِر حَيْثُ يجمع مكسرا نَحْو: الأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون نَحْو: الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. قَوْله: (ارْجعُوا) من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (وصلوا) زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب: (كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . قَوْله: (فَإِذا حضرت الصَّلَاة) يَعْنِي: إِذا حَان وَقتهَا. قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) . فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ فِي حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث أَيْضا: (إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما) ، وَبَينهمَا تعَارض ظَاهر؟ قلت: قيل مَعْنَاهُ: من أحب مِنْكُمَا أَن يُؤذن فليؤذن، وَذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْفضل، وَفِيه نظر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد يُقَال: فلَان قَتله بَنو تَمِيم، مَعَ أَن الْقَاتِل وَاحِد مِنْهُم، وَكَذَا فِي الْإِنْشَاء يُقَال: يَا تَمِيم اقْتُلُوهُ. قلت: حَاصله أَن التَّثْنِيَة تذكر وَيُرَاد بِهِ الْوَاحِد، مثل قَوْله:
(قفا نبْكِ)
وَمرَاده الْخطاب للْوَاحِد، وَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي الْجمع، وَقَالَ التَّيْمِيّ: المُرَاد من قَوْله: أذنا الْفضل وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء.
ذكر اخْتِلَاف الفاظ هَذَا الحَدِيث) : الرِّوَايَة هَهُنَا: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر من قومِي) ، وَعَن خَالِد بن أبي قلَابَة فِي بَاب الْأَذَان للمسافرين إِذا كَانُوا جمَاعَة: (أَتَى رجلَانِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر، فَقَالَ إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ ليؤمكما أكبركما) . وَفِي: بَاب: الإثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة: (إِذا حضرت الصَّلَاة فأذنا) الحَدِيث. وَفِي بَاب: إِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة: (فليؤمهم أكبرهم) ، قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شببة متقاربون، وَفِيه: (لَو رجعتم إِلَى بِلَادكُمْ فعلمتموهم فليصلوا صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، وَصَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا. وَفِي إجَازَة خبر الْوَاحِد: (فَلَمَّا ظن أَنا قد اشتقنا إِلَى أهلنا سَأَلنَا عَمَّن تركنَا بَعدنَا، فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: إرجعوا إِلَى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم ... وَذكر أَشْيَاء أحفظها أَو لَا أحفظها وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) الحَدِيث. وَفِي بَاب رَحْمَة النَّاس والبهائم، نَحوه. وَعند أبي دَاوُد: (كُنَّا يَوْمئِذٍ متقاربين فِي الْعلم) . وَفِي رِوَايَة لأبي قلَابَة: (فَأَيْنَ الْقُرْآن؟ قَالَ: إنَّهُمَا كَانَا متقاربين) . وَفِي رِوَايَة ابْن حزم: (متقارنين) ، بالنُّون فِي الْمَوْضِعَيْنِ، من: الْمُقَارنَة. يُقَال: فلَان قرين فلَان، إِذا كَانَ قرينه فِي السن، وَكَذَا إِذا كَانَ فِي الْعلم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأَلْفَاظ المتعددة كَانَت مِنْهُ فِي وفادتين أَو فِي وفادة وَاحِدَة، غير أَن النَّقْل تكَرر مِنْهُ، وَمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بِأَذَان للْجَمَاعَة، وَهُوَ عَام للْمُسَافِر وَغَيره، وكافة الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الْأَذَان للْمُسَافِر، إِلَّا عَطاء فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا لم يُؤذن وَلم يقم أعَاد الصَّلَاة، وإلاَّ مُجَاهدًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا نسي الْإِقَامَة أعَاد، وأخذا بِظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ: أذنا وأقيما. وَقيل: الْإِجْمَاع صَارف عَن الْوُجُوب، وَفِيه نظر، وَحكى الطَّبَرِيّ عَن مَالك أَنه: يُعِيد إِذا ترك الْأَذَان، ومشهور مذْهبه الِاسْتِحْبَاب. وَفِي (الْمُخْتَصر) عَن مَالك: وَلَا أَذَان على مُسَافر، وَإِنَّمَا الْأَذَان على من يجْتَمع إِلَيْهِ لتأذينه، وبوجوبه على الْمُسَافِر قَالَ دَاوُد. قَالَت طَائِفَة: هُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ أذن وَأقَام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول عُرْوَة وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تجزيه الْإِقَامَة، رُوِيَ ذَلِك عَن مَكْحُول وَالْحسن وَالقَاسِم، وَكَانَ ابْن عمر يُقيم فِي السّفر لكل صَلَاة إلاَّ الصُّبْح فَإِنَّهُ كَانَ يُؤذن لَهَا وَيُقِيم. وَقَالَ قاضيخان: من أَصْحَابنَا رجل صلى فِي سفر أَو فِي بَيته بِغَيْر أَذَان وَإِقَامَة يكره. قَالَ: فالكراهة مَقْصُورَة على الْمُسَافِر، وَمن صلى فِي بَيته فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يُؤذن وَيُقِيم ليَكُون على هَيْئَة الْجَمَاعَة، وَلِهَذَا كَانَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي(5/143)
حَقه أفضل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي قَوْله: (ثمَّ ليؤمكما أكبركما) يدل على تساويهما فِي شُرُوط الْإِمَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ. قلت: لِأَن هَؤُلَاءِ كَانُوا مستورين فِي بَاقِي الْخِصَال، لأَنهم هَاجرُوا جَمِيعًا، وَأَسْلمُوا جَمِيعًا وصحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين لَيْلَة، فاستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ. فَلم يبْق مَا يقدم بِهِ إلاَّ السن.
وَفِيه: حجَّة لِأَصْحَابِنَا فِي تَفْضِيل الْإِمَامَة على الْأَذَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ليؤمكما أكبركما) خص الْإِمَامَة بالأكبر.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْجَمَاعَة تصح بِإِمَام ومأموم، وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَفِيه: الحض على الْمُحَافظَة على الْأَذَان فِي الْحَضَر وَالسّفر.
وَفِيه: أَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة مشروعان على الْمُسَافِرين.
[رم 18
2
بابُ الآذَانِ للْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً والإِقَامَةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان للمسافرين، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن للْمُسَافِر أَن يُؤذن. وَقَوله: إِذا كَانُوا جمَاعَة. هُوَ مُقْتَضى أَحَادِيث الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهَا مَا يمْنَع أَذَان الْمُنْفَرد. وَقَوله: (للمسافرين) ، بِلَفْظ الْجمع هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ مُنَاسِب لقَوْله: (إِذا كَانُوا جمَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (للْمُسَافِر) ، بِلَفْظ الْإِفْرَاد، فيؤول على أَن تكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس، وَفِيه معنى الْجمع فحصلت الْمُنَاسبَة من هَذَا الْوَجْه. قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، بِالْجَرِّ عطفا على الآذان.
وكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ
أَي: وَكَذَلِكَ الْأَذَان وَالْإِقَامَة بِعَرَفَة وَجمع، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: وَهُوَ الْمزْدَلِفَة، سميت بِجمع لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا لَيْلَة الْعِيد. وَأما عَرَفَة فَإِنَّهَا تطلق على الزَّمَان، وَهُوَ التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، وعَلى الْمَكَان وَهُوَ الْموضع الْمَعْرُوف الَّذِي يقف فِيهِ الْحجَّاج يَوْم عَرَفَة، وَلم يذكر فِي: جمع، حَدِيثا، فَكَأَنَّهُ اكْتفى بِحَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي ذكره فِي كتاب الْجمع، وَفِيه: أَنه صلى الْمغرب بِأَذَان وَإِقَامَة، وَالْعشَاء بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله، وَكَذَلِكَ لم يذكر فِي عَرَفَة شَيْئا، وَقد روى جَابر فِي حَدِيث طَوِيل أخرجه مُسلم، وَفِيه: (أَن بِلَالًا أذن وَأقَام لما جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر يَوْم عَرَفَة) .
وقَوْلِ المُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوْ المَطِيرَةِ
وَقَول: مجرور أَيْضا عطفا على قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، وَإِلَى هُنَا كُله من التَّرْجَمَة. قَوْله: (الصَّلَاة) ، بِالنّصب أَي: أدوها، ويروى بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (فِي الرّحال) ، تَقْدِيره: الصَّلَاة تصلى فِي الرّحال. وَهُوَ جمع: رَحل، ورحل الشَّخْص: منزله. قَوْله: (أَو الْمَطِيرَة) بِفَتْح الْمِيم، على وزن: فعيلة، بِمَعْنى: الماطرة. وَإسْنَاد الْمَطَر إِلَى اللَّيْلَة بالمجاز، إِذْ اللَّيْل ظرف لَهُ لَا فَاعل، وللعلماء فِي: أنبت الرّبيع البقل، أَقْوَال أَرْبَعَة: مجَاز فِي الْإِسْنَاد، أَو فِي أنبت، أَو فِي الرّبيع، وَسَماهُ السكاكي: اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، أَو الْمَجْمُوع مجَاز عَن الْمَقْصُود، وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الْمجَاز الْعقلِيّ، وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الْمَطِيرَة بِمَعْنى الممطور فِيهَا لِأَن فعيلة إِنَّمَا تجْعَل بِمَعْنى مفعولة إِذا لم يذكر موصوفها مَعهَا، وَهَهُنَا اللَّيْلَة موصوفها مَذْكُور، فَلذَلِك دَخلهَا تَاء التَّأْنِيث، وَعند عدم ذَلِك لَا تدخل فِيهَا تَاء التَّأْنِيث.
628 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قلاِبِةَ عنْ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ قالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَفَرٍ منْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وكانَ رَحِيما رَفيقا فَلَمَّا رَأى شَوْقَنا إلَى أهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فكونُوا فِيهِمْ وعَلِّمُوهُمْ وصَلوا فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمُّكُمْ أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعلى بن أَسد، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: أَبُو الْهَيْثَم الْبَصْرِيّ الْعمريّ، أَخُو بهز بن أَسد، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: وهيب، مصغر وهب، ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ الْكَرَابِيسِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم غير مرّة. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد. الْخَامِس: مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أَشْيَم اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على قَول من قَالَ: إِن أَيُّوب رأى أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِيه وَفِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَخلف بن هِشَام، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد الأشبح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حَاجِب بن الْوَلِيد وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بشر بن هِلَال الصَّواف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي نفر) ، بِفَتْح الْفَاء: عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم. وَفِي (الواعي) : وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا. قَوْله: (من قومِي) هم: بَنو لَيْث بن بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة. قَوْله: (فَأَقَمْنَا عِنْده) أَي: عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عشْرين لَيْلَة) : المُرَاد بأيامها، بِدَلِيل الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي الْبَاب: (بعد عشْرين يَوْمًا وَلَيْلَة) . قَوْله: (وَكَانَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (رحِيما) بِمَعْنى: ذَا رَحْمَة وشفقة ورقة قلب. قَوْله: (رَقِيقا) ، بقافين فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، قيل: والكشميهني أَيْضا، وَمَعْنَاهُ: كَانَ رَقِيق الْقلب، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (رَفِيقًا) بِالْفَاءِ أَولا ثمَّ بِالْقَافِ، من: الرِّفْق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رِوَايَة البُخَارِيّ بِوَجْهَيْنِ: بالقافين وبالفاء وَالْقَاف، وَرِوَايَة مُسلم بالقافين خَاصَّة. وَقَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْفَاءِ، والأصيلي وَأبي الْهَيْثَم بِالْقَافِ. قَوْله: (إِلَى أَهْلينَا) ، هُوَ جمع أهل، والأهل من النَّوَادِر حَيْثُ يجمع مكسرا نَحْو: الأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون نَحْو: الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. قَوْله: (ارْجعُوا) من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (وصلوا) زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب: (كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . قَوْله: (فَإِذا حضرت الصَّلَاة) يَعْنِي: إِذا حَان وَقتهَا. قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) . فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ فِي حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث أَيْضا: (إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما) ، وَبَينهمَا تعَارض ظَاهر؟ قلت: قيل مَعْنَاهُ: من أحب مِنْكُمَا أَن يُؤذن فليؤذن، وَذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْفضل، وَفِيه نظر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد يُقَال: فلَان قَتله بَنو تَمِيم، مَعَ أَن الْقَاتِل وَاحِد مِنْهُم، وَكَذَا فِي الْإِنْشَاء يُقَال: يَا تَمِيم اقْتُلُوهُ. قلت: حَاصله أَن التَّثْنِيَة تذكر وَيُرَاد بِهِ الْوَاحِد، مثل قَوْله:
(قفا نبْكِ)
وَمرَاده الْخطاب للْوَاحِد، وَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي الْجمع، وَقَالَ التَّيْمِيّ: المُرَاد من قَوْله: أذنا الْفضل وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء.
ذكر اخْتِلَاف الفاظ هَذَا الحَدِيث) : الرِّوَايَة هَهُنَا: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر من قومِي) ، وَعَن خَالِد بن أبي قلَابَة فِي بَاب الْأَذَان للمسافرين إِذا كَانُوا جمَاعَة: (أَتَى رجلَانِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر، فَقَالَ إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ ليؤمكما أكبركما) . وَفِي: بَاب: الإثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة: (إِذا حضرت الصَّلَاة فأذنا) الحَدِيث. وَفِي بَاب: إِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة: (فليؤمهم أكبرهم) ، قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شببة متقاربون، وَفِيه: (لَو رجعتم إِلَى بِلَادكُمْ فعلمتموهم فليصلوا صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، وَصَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا. وَفِي إجَازَة خبر الْوَاحِد: (فَلَمَّا ظن أَنا قد اشتقنا إِلَى أهلنا سَأَلنَا عَمَّن تركنَا بَعدنَا، فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: إرجعوا إِلَى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم ... وَذكر أَشْيَاء أحفظها أَو لَا أحفظها وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) الحَدِيث. وَفِي بَاب رَحْمَة النَّاس والبهائم، نَحوه. وَعند أبي دَاوُد: (كُنَّا يَوْمئِذٍ متقاربين فِي الْعلم) . وَفِي رِوَايَة لأبي قلَابَة: (فَأَيْنَ الْقُرْآن؟ قَالَ: إنَّهُمَا كَانَا متقاربين) . وَفِي رِوَايَة ابْن حزم: (متقارنين) ، بالنُّون فِي الْمَوْضِعَيْنِ، من: الْمُقَارنَة. يُقَال: فلَان قرين فلَان، إِذا كَانَ قرينه فِي السن، وَكَذَا إِذا كَانَ فِي الْعلم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأَلْفَاظ المتعددة كَانَت مِنْهُ فِي وفادتين أَو فِي وفادة وَاحِدَة، غير أَن النَّقْل تكَرر مِنْهُ، وَمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بِأَذَان للْجَمَاعَة، وَهُوَ عَام للْمُسَافِر وَغَيره، وكافة الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الْأَذَان للْمُسَافِر، إِلَّا عَطاء فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا لم يُؤذن وَلم يقم أعَاد الصَّلَاة، وإلاَّ مُجَاهدًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا نسي الْإِقَامَة أعَاد، وأخذا بِظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ: أذنا وأقيما. وَقيل: الْإِجْمَاع صَارف عَن الْوُجُوب، وَفِيه نظر، وَحكى الطَّبَرِيّ عَن مَالك أَنه: يُعِيد إِذا ترك الْأَذَان، ومشهور مذْهبه الِاسْتِحْبَاب. وَفِي (الْمُخْتَصر) عَن مَالك: وَلَا أَذَان على مُسَافر، وَإِنَّمَا الْأَذَان على من يجْتَمع إِلَيْهِ لتأذينه، وبوجوبه على الْمُسَافِر قَالَ دَاوُد. قَالَت طَائِفَة: هُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ أذن وَأقَام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول عُرْوَة وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تجزيه الْإِقَامَة، رُوِيَ ذَلِك عَن مَكْحُول وَالْحسن وَالقَاسِم، وَكَانَ ابْن عمر يُقيم فِي السّفر لكل صَلَاة إلاَّ الصُّبْح فَإِنَّهُ كَانَ يُؤذن لَهَا وَيُقِيم. وَقَالَ قاضيخان: من أَصْحَابنَا رجل صلى فِي سفر أَو فِي بَيته بِغَيْر أَذَان وَإِقَامَة يكره. قَالَ: فالكراهة مَقْصُورَة على الْمُسَافِر، وَمن صلى فِي بَيته فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يُؤذن وَيُقِيم ليَكُون على هَيْئَة الْجَمَاعَة، وَلِهَذَا كَانَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي حَقه أفضل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي قَوْله: (ثمَّ ليؤمكما أكبركما) يدل على تساويهما فِي شُرُوط الْإِمَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ. قلت: لِأَن هَؤُلَاءِ كَانُوا مستورين فِي بَاقِي الْخِصَال، لأَنهم هَاجرُوا جَمِيعًا، وَأَسْلمُوا جَمِيعًا وصحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين لَيْلَة، فاستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ. فَلم يبْق مَا يقدم بِهِ إلاَّ السن.
وَفِيه: حجَّة لِأَصْحَابِنَا فِي تَفْضِيل الْإِمَامَة على الْأَذَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ليؤمكما أكبركما) خص الْإِمَامَة بالأكبر.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْجَمَاعَة تصح بِإِمَام ومأموم، وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَفِيه: الحض على الْمُحَافظَة على الْأَذَان فِي الْحَضَر وَالسّفر.
وَفِيه: أَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة مشروعان على الْمُسَافِرين.
[رم 18
2
بابُ الآذَانِ للْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً والإِقَامَةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان للمسافرين، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن للْمُسَافِر أَن يُؤذن. وَقَوله: إِذا كَانُوا جمَاعَة. هُوَ مُقْتَضى أَحَادِيث الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهَا مَا يمْنَع أَذَان الْمُنْفَرد. وَقَوله: (للمسافرين) ، بِلَفْظ الْجمع هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ مُنَاسِب لقَوْله: (إِذا كَانُوا جمَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (للْمُسَافِر) ، بِلَفْظ الْإِفْرَاد، فيؤول على أَن تكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس، وَفِيه معنى الْجمع فحصلت الْمُنَاسبَة من هَذَا الْوَجْه. قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، بِالْجَرِّ عطفا على الآذان.
وكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ
أَي: وَكَذَلِكَ الْأَذَان وَالْإِقَامَة بِعَرَفَة وَجمع، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: وَهُوَ الْمزْدَلِفَة، سميت بِجمع لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا لَيْلَة الْعِيد. وَأما عَرَفَة فَإِنَّهَا تطلق على الزَّمَان، وَهُوَ التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، وعَلى الْمَكَان وَهُوَ الْموضع الْمَعْرُوف الَّذِي يقف فِيهِ الْحجَّاج يَوْم عَرَفَة، وَلم يذكر فِي: جمع، حَدِيثا، فَكَأَنَّهُ اكْتفى بِحَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي ذكره فِي كتاب الْجمع، وَفِيه: أَنه صلى الْمغرب بِأَذَان وَإِقَامَة، وَالْعشَاء بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله، وَكَذَلِكَ لم يذكر فِي عَرَفَة شَيْئا، وَقد روى جَابر فِي حَدِيث طَوِيل أخرجه مُسلم، وَفِيه: (أَن بِلَالًا أذن وَأقَام لما جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر يَوْم عَرَفَة) .
وقَوْلِ المُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوْ المَطِيرَةِ
وَقَول: مجرور أَيْضا عطفا على قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، وَإِلَى هُنَا كُله من التَّرْجَمَة. قَوْله: (الصَّلَاة) ، بِالنّصب أَي: أدوها، ويروى بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (فِي الرّحال) ، تَقْدِيره: الصَّلَاة تصلى فِي الرّحال. وَهُوَ جمع: رَحل، ورحل الشَّخْص: منزله. قَوْله: (أَو الْمَطِيرَة) بِفَتْح الْمِيم، على وزن: فعيلة، بِمَعْنى: الماطرة. وَإسْنَاد الْمَطَر إِلَى اللَّيْلَة بالمجاز، إِذْ اللَّيْل ظرف لَهُ لَا فَاعل، وللعلماء فِي: أنبت الرّبيع البقل، أَقْوَال أَرْبَعَة: مجَاز فِي الْإِسْنَاد، أَو فِي أنبت، أَو فِي الرّبيع، وَسَماهُ السكاكي: اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ، أَو الْمَجْمُوع مجَاز عَن الْمَقْصُود، وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الْمجَاز الْعقلِيّ، وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الْمَطِيرَة بِمَعْنى الممطور فِيهَا لِأَن فعيلة إِنَّمَا تجْعَل بِمَعْنى مفعولة إِذا لم يذكر موصوفها مَعهَا، وَهَهُنَا اللَّيْلَة موصوفها مَذْكُور، فَلذَلِك دَخلهَا تَاء التَّأْنِيث، وَعند عدم ذَلِك لَا تدخل فِيهَا تَاء التَّأْنِيث.
629 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ المُهَاجِرِ بنِ أبي الحَسَنِ عنْ زَيْدِ بنِ وَهَبٍ عنْ أبي ذرٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لهُ أبْرِدْ ثمَّ أَرَادَ إِن يَأْذَن فَقَالَ لَهُ أبردحَتَّى ساوَى الظِّلُّ التُّلُولُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُؤَذّن أَرَادَ أَن يُؤذن فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإبراد ثَلَاث مَرَّات، وَلم يتَعَرَّض إِلَى ترك الْأَذَان، فَدلَّ على أَنه أذن بعد الْإِبْرَاد الْمَوْصُوف، وَأقَام، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الصَّحَابَة كَانُوا فِي سفر، فطابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. فَإِن قلت: لَا دلَالَة هُنَا على الْإِقَامَة، والترجمة مُشْتَمِلَة على الْأَذَان وَالْإِقَامَة مَعًا؟ قلت: الْمَقْصُود هُوَ الدّلَالَة(5/144)
فِي الْجُمْلَة، وَلَا يلْزم الدّلَالَة صَرِيحًا على كل جُزْء من التَّرْجَمَة، وَمن لَا يتْرك الْأَذَان فِي السّفر مَعَ كَونه مَظَنَّة التَّخْفِيف لَا يتْرك الْإِقَامَة الَّتِي هِيَ أخف من الْأَذَان، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه وَلَفظه قد مر فِي: بَاب الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي شدَّة الْحر، وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: بَاب الْإِبْرَاد مَعَ الظّهْر فِي السّفر، مَعَ اخْتِلَاف يسير فِي الروَاة والمتن، فَإِنَّهُ فِي الْكل عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، غير أَن شَيْخه فِي الأول: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَفِي الثَّانِي: عَن آدم عَن شُعْبَة وَهَهُنَا، كَمَا رَأَيْت: عَن مُسلم ابْن ابراهيم عَن شُعْبَة، وَمُسلم الْأَزْدِيّ الفراهيدي القصاب الْبَصْرِيّ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (سَاوَى) ، أَي: صَار الظل مُسَاوِيا التل. أَي: مثله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَحِينَئِذٍ يكون أول وَقت الْعَصْر عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَلَا يجوز تَأْخِير االظهر إِلَيْهِ؟ قلت: لَا نسلم، إِذْ لَيْسَ وَقت الظّهْر مُجَرّد كَون الظل مثله، بل هُوَ بعد الْفَيْء وظل الْمثل كليهمَا. قلت: أول وَقت الْعَصْر عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَبَين مُسَاوَاة الظل الْمثل، وَكَون ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ آنات عديدة.
630 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ أبي قِلاَبَةَ عَنْ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ قَالَ أتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدانِ السَّفَرَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أنْتُمَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا ثُمَّ أقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمُّكُمَا أكْبَرُكُمَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة لجمع الْمُسَافِرين، والْحَدِيث للتثنية؟ قلت: للتثنية حكم الْجمع، وَفِيه الْأَذَان وَالْإِقَامَة صريحان، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. فَإِن قلت: قد روى البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَمن أَيْن إِن سُفْيَان هُنَا هُوَ الثَّوْريّ؟ قلت: لِأَن الَّذِي يروي عَن ابْن عُيَيْنَة هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، وَلَيْسَت لَهُ رِوَايَة عَن الثَّوْريّ. فَإِن قلت: الْفرْيَابِيّ يروي أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة؟ قلت: نعم، وَلَكِن إِذا أطلق سُفْيَان فَالْمُرَاد بِهِ الثَّوْريّ، وَأما إِذا روى عَن ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ يُبينهُ.
قَوْله: (رجلَانِ) ، هما: مَالك بن الْحُوَيْرِث ورفيقه، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي: بَاب سفر الْإِثْنَيْنِ من كتاب الْجِهَاد: (انصرفت من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنا وَصَاحب لي) . قَوْله: (فأذنا) ، قد قُلْنَا فِي الْبَاب الْمَاضِي: إِن المُرَاد بِهِ أَحدهمَا، لِأَن الْوَاحِد قد يُخَاطب بِصِيغَة التَّثْنِيَة، كَمَا ذكرنَا هُنَاكَ، وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن خَالِد الْحذاء فِي هَذَا الحَدِيث: (إِذا كنت مَعَ صَاحبك فَأذن وأقم وليؤمكما أكبركما) . وَقَالَ ابْن الْقصار: أَرَادَ بِهِ الْفضل، وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء. قلت: نظر هُوَ إِلَى ظَاهر اللَّفْظ، وَلَيْسَ ظَاهر اللَّفْظ بِمُرَاد، لِأَن الْمَنْقُول عَن السّلف خلاف ذَلِك، وَأَن اراد أَن يُؤذن كل وَاحِد، فَلَيْسَ كَذَلِك أيضافإن أَذَان الْوَاحِد يَكْفِي الْجَمَاعَة. قَوْله: (ثمَّ ليؤمكما أكبركما) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يدل على تساويهما فِي شُرُوط الْإِقَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ، وَقَالَ ابْن بزيزة: يجوز أَن يكون أَشَارَ إِلَى كبر الْفضل وَالْعلم.
631 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ أبي قِلاَبَةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ قَالَ أتَيْنَا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْما وَلَيْلَةً وكانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحِيمَا رَفِيقا فلَمَّا ظَنَّ أنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أهْلَنَا أوْ قَدِ اشْتقْنَا سألَنا عَمنْ تَركْنَا بَعْدَنَا فأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إلَى أهْلِيكمْ فأقِيمُوا فِيهِمْ وعَلِّمُوهُمْ ومُرُوهُمْ وذَكَرَ أشْيَاءَ أحْفَظُها أَو لَا أحْفَظُهَا وَصَلُّوا كمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ ولْيُؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْكَلَام فِي أَكثر الحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد، وَمَالك هُوَ: ابْن الْحُوَيْرِث. قَوْله: (شببة) ، على وزن: فعلة بتحريك الْعين وَهُوَ جمع: شَاب، (ومتقاربون) ، صفته أَي: فِي السن. قَوْله: (سَأَلنَا) بِفَتْح اللَّام، قَوْله: (أَو قد اشتقنا) شكّ من الرَّاوِي، ويروى(5/145)
(وَقد اشتقنا) بواو الْعَطف بِغَيْر شكّ. قَوْله: (إِلَى أهليكم) ، ويروى: (إِلَى أهاليكم) . قَوْله: (أَو لَا أحفظها) شكّ من الرَّاوِي.
632 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ أخبرنَا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ حدَّثني نافِعٌ قَالَ أذَّنَ ابنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ثُمَّ قَالَ صَلوا فِي رِحَالِكُمْ فَأخْبَرَنا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَأمُرُ مُؤَذِّنا يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ على إثْرِهِ ألاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ (الحَدِيث 632 طرفه فِي: 666) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ: (وَقَول الْمُؤَذّن الصَّلَاة فِي الرّحال) إِلَى آخِره، ظَاهِرَة، لِأَن ابْن عمر هَذَا هُوَ الَّذِي أذن، ثمَّ قَالَ: صلوا فِي رحالكُمْ. قَوْله: (حَدثنَا يحيى) هُوَ الْقطَّان. قَوْله: (بضجنان) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْجِيم وَبعدهَا نون وَبعد الْألف نون أُخْرَى: وَهُوَ جبل على بريد من مَكَّة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: بَينه وَبَين مَكَّة خَمْسَة وَعِشْرُونَ ميلًا، وَبَينه وَبَين مر تِسْعَة أَمْيَال. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ويدلك أَن بَين ضجنَان وقديد لَيْلَة، قَول معبد الْخُزَاعِيّ:
(قد نفرت من رفقتي مُحَمَّد ... تهوي على دين أَبِيهَا الأتلد)
(قد جعلت مَاء قديد موعدي ... وَمَاء ضجنَان لنا ضحى الْغَد.)
وَهُوَ على وزن: فعلان، غير منصرف. قَوْله: (وَأخْبرنَا) عطف على قَوْله: أذن، قَوْله: (ثمَّ يَقُول) عطف على قَوْله: (يُؤذن) . قَوْله: (على إثره) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتحهَا: مَا بَقِي من رسم الشَّيْء. قَوْله: (فِي اللَّيْلَة الْبَارِدَة) ، ظرف لقَوْله: (كَانَ يَأْمر) وَقَوله: (ثمَّ يَقُول) يشْعر بِأَن القَوْل بِهِ كَانَ بعد الْأَذَان. فَإِن قلت: قد تقدم فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان أَنه كَانَ فِي أثْنَاء الْأَذَان؟ قلت: يجوز كِلَاهُمَا، وَهُوَ نَص الشَّافِعِي أَيْضا فِي (الْأُم) . وَلَكِن الأولى أَن يُقَال: بعد الْأَذَان. وَقَوله: (أَلاَ) كلمة تَنْبِيه وتحضيض، وَقد مر تَفْسِير (الْمَطِيرَة) وَكلمَة: أَو، فِيهِ للتنويع لَا للشَّكّ. وَفِي (صَحِيح أبي عوَانَة) : لَيْلَة بَارِدَة أَو ذَات مطر أَو ذَات ريح. وَهَذَا يدل على أَن كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة عذر فِي التَّأَخُّر عَن الْجَمَاعَة. وَنقل ابْن بطال فِيهِ الْإِجْمَاع، لَكِن الْمَعْرُوف عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن الرّيح عذر فِي اللَّيْل فَقَط. وَظَاهر الحَدِيث اخْتِصَاص الثَّلَاثَة بِاللَّيْلِ، وَلَكِن جَاءَ فِي (السّنَن) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع فِي هَذَا الحَدِيث: (فِي اللَّيْلَة الْمَطِيرَة والغداة القرة) .
633 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا جَعْفَرُ بنُ عَوْنٍ قَالَ حدَّثنا أبْو العُمَيْسِ عنْ عوْن ابنِ أبي جُحَيْفَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالأبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلاَلٌ فآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلالٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالأبْطَحِ وأقَامَ الصَّلاَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَصْحَابه فِي السّفر. والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه فِي مَوَاضِع من كتاب الطَّهَارَة وَكتاب الصَّلَاة. قَوْله: (إِسْحَاق) وَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت أَنه إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَبِذَلِك جزم خلف فِي الْأَطْهَار، وَتردد الكلاباذي: هَل هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم أَو ابْن مَنْصُور؟ وَرجح الجياني أَنه ابْن مَنْصُور، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَن مُسلما أخرج هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَأَبُو العميس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَأَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، واسْمه: وهب بن عبد الله السوَائِي. قَوْله: (بِالْأَبْطح) وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف خَارج مَكَّة، (والعنزة) ، بِفَتْح النُّون أطول من الْعَصَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وَفِي غَيره مُسْتَوفى.
19 - (بابٌ هَل يُتْبِعُ المُؤَذِّنُ فاهُ هَهنا وهَهُنا وهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يتبع الْمُؤَذّن ... إِلَى آخِره. قَوْله: (يتبع) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَإِسْكَان التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق(5/146)
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: من الإتباع، وَهُوَ رِوَايَة الإصيلي، و: الْمُؤَذّن، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: يتبع، و: فَاه، مَنْصُوب على أَنه مفعول. وَفِي رِوَايَة غَيره: يتتبع، بِفَتْح الْيَاء وبالتائين المثناتين من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة، من: التتبع من بَاب: التفعل. وَقد تكلّف الْكرْمَانِي وَقَالَ: لفظ: الْمُؤَذّن، بِالنّصب مُوَافق لقَوْله: (فَجعلت أتتبع فَاه) . فَإِن قلت: مَا فَاعله؟ قلت: الشَّخْص. فَإِن قلت: فَمَا وَجه نصب فَاه؟ قلت: بدل عَن الْمُؤَذّن. انْتهى. قلت: الْمُوَافقَة الَّتِي ذكرهَا لَيست بلازمة، فَجعل غير اللَّازِم لَازِما تعسف. قَوْله: (هَهُنَا وَهَهُنَا) يَعْنِي يَمِينا وَشمَالًا، وهما ظرفا مَكَان. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي جُحَيْفَة: (فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُول يَمِينا وَشمَالًا: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح) . وَعند أبي دَاوُد: (فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم يستدر) . وَعند النَّسَائِيّ: (فَجعل يَقُول فِي أَذَانه هَكَذَا، ينحرف يَمِينا وَشمَالًا) . وَعند الطَّبَرَانِيّ: (فَجعل يَقُول بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى فرغ من أَذَانه) . وَعند التِّرْمِذِيّ مصححا، من حَدِيث عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا سُفْيَان عَن عون عَن أَبِيه. قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن ويدور ويتتبع فَاه يَمِينا وَشمَالًا، هَهُنَا وَهَهُنَا) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) : فَجعل يتبع بِفِيهِ يَمِينا وَشمَالًا) . وَفِي رِوَايَة وَكِيع عَن سُفْيَان عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن يتتبع بِفِيهِ) . وَوصف سُفْيَان يمِيل بِرَأْسِهِ يَمِينا وَشمَالًا، وَالْحَاصِل أَن بِلَالًا كَانَ يتتبع بِفِيهِ الناحيتين، وَكَانَ أَبُو جُحَيْفَة ينظر إِلَيْهِ، فَكل مِنْهُمَا متتبع بِاعْتِبَار. قَوْله: (وَهل يلْتَفت) أَي: هَل يلْتَفت الْمُؤَذّن فِي الْأَذَان؟ نعم يلْتَفت، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَذْكُورَة، وَرِوَايَة أبي دَاوُد أَيْضا تدل عَلَيْهِ، وَالْمرَاد من الِالْتِفَات أَن يلوي عُنُقه وَلَا يحول صَدره عَن الْقبْلَة، وَلَا يزِيل قَدَمَيْهِ عَن مكانهما، وَسَوَاء المنارة وَغَيرهَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأحمد فِي رِوَايَة: وَقَالَ ابْن سِيرِين: يكره الِالْتِفَات، وَهُوَ قَول مَالك، إلاَّ أَن يُرِيد إسماع النَّاس. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) من الشَّافِعِيَّة: الِالْتِفَات فِي الحيعلتين سنة ليعم النَّاس بأسماعه، وَخص بذلك لِأَنَّهُ دُعَاء، وَفِي وَجه: يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا فيحيعل، ثمَّ يسْتَقْبل ثمَّ يلْتَفت فيحيعل، وَكَذَلِكَ الشمَال. قَالَ: ويلتفت فِي الْإِقَامَة أَيْضا على الْأَصَح، ثمَّ ذكر أَبُو دَاوُد فِي روايه، وَلم يستدر، وَتَمَامه: قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا قيس يَعْنِي ابْن الرّبيع وَحدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان جَمِيعًا عَن عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء من أَدَم، فَخرج بِلَال فَأذن، فَكنت اتتبع فَمه هَهُنَا وَهَهُنَا، قَالَ: ثمَّ خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء برود يَمَانِية قطري) ، وَقَالَ مُوسَى: قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا خرج إِلَى الأبطح فَأذن، فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم يستدر، ثمَّ دخل فَأخْرج العنزة) . وسَاق حَدِيثه. وَأخرج التِّرْمِذِيّ مصححا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا سُفْيَان عَن عون عَن أَبِيه، قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن ويدور ويتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَبْطح وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء، فَخرج بِلَال فَأذن فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانه وَجعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) . وَاعْترض الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ: الاستدارة فِي الْأَذَان لَيست فِي الطّرق الصَّحِيحَة فِي حَدِيث أبي جُحَيْفَة، وَنحن نتوهم أَن سُفْيَان رَوَاهُ عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عون، وَالْحجاج غير مُحْتَج بِهِ، وَعبد الرَّزَّاق وهم فِي إدراجه ثمَّ أسْند عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن سُفْيَان بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ الإستدارة. وَقد روينَاهُ من حَدِيث قيس بن الرّبيع عَن عون، وَفِيه: (وَلم يستدر) ، وَقَالَ الشَّيْخ فِي الإِمَام: أما كَونه غير مخرج فِي الصَّحِيح فَلَيْسَ بِلَازِم، وَقد صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ من أَئِمَّة الشان. وَأما عبد الرَّزَّاق وهم فِيهِ فقد تَابعه مُؤَمل، كَمَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن مُؤَمل عَن سُفْيَان بِهِ نَحوه، وَتَابعه أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) على كتاب البُخَارِيّ، وَقد جَاءَت الاستدارة من غير جِهَة الْحجَّاج، أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن زِيَاد بن عبد الله عَن إِدْرِيس الْأَزْدِيّ عَن عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه، قَالَ: (بَينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَضَرت الصَّلَاة، فَقَامَ بِلَال فَأذن وَجعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَجعل يستدير يَمِينا وَشمَالًا) . وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) من حَدِيث كَامِل بن أبي الْعَلَاء: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَمر أَبُو مَحْذُورَة أَن يستدير فِي أَذَانه.
ويُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أنَّهُ جَعَلَ إصْبَعَيْه فِي أُذُنَيْهِ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التمريض، وَقد ذكرناالآن عَن ابْن مَاجَه حَدِيثه، وَفِيه جعل يَعْنِي بِلَال إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ.(5/147)
وَكَذَا فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ الْمَذْكُورَة الْآن. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عمار: حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا أَن يَجْعَل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) . وَمن حَدِيث ابْن كاسب: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَعُمَيْر وعمار ابْني حَفْص عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم عَن بِلَال: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا أَذِنت فَاجْعَلْ إصبعيك فِي أذنيك، فَإِنَّهُ أرفع لصوتك) . وَذكر ابْن الْمُنْذر فِي كتاب (الْأَشْرَاف) : أَن أَبَا مَحْذُورَة (جعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) زَاد فِي (شرح الْهِدَايَة) : ضم أَصَابِعه الْأَرْبَع ووضعها على أُذُنَيْهِ، وَفِي (المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ إِذا أذن اسْتقْبل الْقبْلَة وَأرْسل يَدَيْهِ، فَإِذا بلغ: الصَّلَاة والفلاح، أَدخل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَفِي الصَّلَاة لأبي نعيم عَن سهل بن سعد، قَالَ: (من السّنة أَن تدخل إصبعيك فِي أذنيك) . وَكَانَ سُوَيْد بن غَفلَة يَفْعَله، وَكَذَا ابْن جُبَير، وَأمر بِهِ الشّعبِيّ وَشريك. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه قَالَ الْحسن، وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَقَالَ مَالك: ذَلِك وَاسع. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم فِي الْأَذَان. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: وَفِي الْإِقَامَة أَيْضا، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ مُبَاح عِنْد الْعلمَاء، وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن جعل إِحْدَى يَدَيْهِ على أُذُنَيْهِ فَحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد. قَوْله: (جعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) مجَاز عَن الْأُنْمُلَة من بَاب إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْجُزْء، وَالْحكمَة فِيهِ أَنه يُعينهُ على رفع صَوته، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث ابْن كاسب الْمَذْكُور: (فَإِنَّهُ أرفع لصوتك) . وَيُقَال: إِنَّه رُبمَا لَا يسمع صَوته من بِهِ صمم، فيستدل بِوَضْع إصبعيه على أُذُنَيْهِ على ذَلِك، وَلم يبين فِي الحَدِيث مَا هِيَ الإصبع، وَنَصّ النَّوَوِيّ على أَنَّهَا: المسبحة، وَلَو كَانَ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ عِلّة جعل الإصبع الْأُخْرَى فِي صماخه، وَصرح الرَّوْيَانِيّ: أَن ذَلِك لَا يسْتَحبّ فِي الْإِقَامَة لفقد الْمَعْنى الَّذِي علل بِهِ، وَعَن بَعضهم: أَنه يسْتَحبّ فِي الْإِقَامَة أَيْضا، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح، فَكَأَن ميله إِلَيْهِ. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا سُفْيَان عَن نسير قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يُؤذن على بعير، قَالَ سُفْيَان: فَقلت لَهُ: رَأَيْته يَجْعَل أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ؟ قَالَ: لَا. ونسير، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة: ابْن ذعلوق، بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم اللَّام وَفِي آخِره قَاف: أَبُو طعمة.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لاَ بَأسَ أنْ يُؤَذِّن عَلَى غَيرِ وُضُوءٍ
إِبْرَاهِيم هُوَ: النَّخعِيّ، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن جرير عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ: لَا بَأْس أَن يُؤذن على غير وضوء، ثمَّ ينزل فيتوضأ. وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس أَن يُؤذن على غير وضوء. وَعَن قَتَادَة وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَحَمَّاد: لَا بَأْس أَن يُؤذن الرجل وَهُوَ على غير وضوء، وَعَن الْحسن: لَا بَأْس أَن يُؤذن غير طَاهِر، وَيُقِيم وَهُوَ طَاهِر. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من أَصْحَابنَا: وَيَنْبَغِي أَن يُؤذن وَيُقِيم على طهر، لِأَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة ذكر شرِيف، فَيُسْتَحَب فِيهِ الطَّهَارَة، فَإِن أذن على غير وضوء جَازَ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَعَامة أهل الْعلم، وَعَن مَالك: أَن الطَّهَارَة شَرط فِي الْإِقَامَة دون الْأَذَان. وَقَالَ عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة: تشْتَرط فيهمَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَيكرهُ أَن يُقيم على غير وضوء لما فِيهِ من الْفَصْل بَين الْإِقَامَة وَالصَّلَاة، بالاشتغال بأعمال الْوضُوء. وَعَن الْكَرْخِي: لَا تكره الْإِقَامَة بِلَا وضوء، وَتكره عندنَا أَن يُؤذن وَهُوَ جنب، وَذكر مُحَمَّد فِي (الْجَامِع الصَّغِير) : إِذا أذن الْجنب أحب إِلَيّ أَن يُعِيد الْأَذَان، وَإِن لم يعد أَجزَأَهُ. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الْأَشْبَه بِالْحَقِّ أَن يُعَاد أَذَان الْجنب، وَلَا تُعَاد الْإِقَامَة، لِأَن تكْرَار الْأَذَان مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة.
وَقَالَ عَطَاءٌ الوُضُوءُ حقٌّ وَسُنَّةٌ
أَي: عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: حق أَي ثَابت فِي الشَّرْع قَوْله (وَسنة) أَي: وَسنة للشَّرْع، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قَالَ: قَالَ لي عَطاء: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن الْمُؤَذّن إلاَّ متوضأ، هُوَ من الصَّلَاة، هُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأَسدي، عَن معقل بن عبيد الله، عَن عَطاء أَنه كره أَن يُؤذن الرجل وَهُوَ على غير وضوء، وَقد جَاءَت هَذِه اللَّفْظَة مَرْفُوعَة، وَذكرهَا أَبُو الشَّيْخ عَن أبي عَاصِم: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن مُعَاوِيَة عَن يحيى عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يُؤذن(5/148)
إِلَّا متوضىء) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: كَذَا رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي وَهُوَ ضَعِيف، وَالصَّحِيح رِوَايَة يُونُس وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيث يُونُس قَالَ: هَذَا أصح، يَعْنِي من الحَدِيث الْمَرْفُوع الَّذِي عِنْده من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَعند أبي الشَّيْخ من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل عَن أَبِيه قَالَ: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن إلاَّ وَهُوَ طَاهِر. وَقَالَهُ عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، وَرَوَاهُ عَن أَبِيه أَيْضا مَرْفُوعا، وَعند ابْن أبي شيبَة أَمر مُجَاهِد مؤذنه أَنه لَا يُؤذن حَتَّى يتَوَضَّأ.
وقَالَتْ عائِشَةُ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ الله عَلَى كلِّ أحْيَانِهِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم من حَدِيث عبد الله الْبَهِي عَنْهَا، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: حسن غَرِيب. فَإِن قلت: ذكر البُخَارِيّ هُنَا عَن بِلَال وَابْن عمر وَإِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَمَا وَجه ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَة، مَا يشْتَمل على شَيْء من ذَلِك؟ قلت: إِنَّه لما ترْجم هَذَا الْبَاب بِمَا ترْجم بِهِ، وَذكر فِيهِ الِاسْتِفْهَام فِي موضِعين، وَلم يجْزم بِشَيْء فيهمَا لأجل الِاخْتِلَاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ فيهمَا، أَشَارَ بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين بِلَال وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى أَن هَذَا الَّذِي شَاهد بِلَالًا حِين يتبعهُ فَاه، رَآهُ بِالضَّرُورَةِ أَنه جعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَالَّذِي شَاهد ابْن عمر لم ير مِنْهُ ذَلِك، فَكَانَ لذكر ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب وَجه من هَذِه الْحَيْثِيَّة، ثمَّ أَشَارَ بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين إِبْرَاهِيم وَعَطَاء: إِلَى أَن هَذَا الْمُؤَذّن الَّذِي يتبع فَاه أَو غَيره يتبع فَاه كَيفَ حَاله؟ أهوَ فِي الطَّهَارَة أم لَا؟ وَهُوَ أَيْضا وَجه مَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَوجدت الْمُنَاسبَة فِي ذكر هذَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَأدنى الْمُنَاسبَة كافٍ، لِأَن الْمقَام إقناعي غير برهاني. وَأما وَجه ذكر مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، هَهُنَا فَهُوَ لبَيَان عدم صِحَة إِلْحَاق الْأَذَان بِالصَّلَاةِ، فَإِن مِنْهُم من شَرط فِيهِ الطَّهَارَة، وَذكر أَن حكمه مُخَالف لحكم الصَّلَاة، لِأَنَّهُ من جملَة الْأَذْكَار، فَلَا تشْتَرط فِيهِ الطَّهَارَة كَمَا لَا تشْتَرط فِي سَائِر الْأَذْكَار، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور، لِأَن قَوْلهَا: (على كل أحيانه) متناول لحين الْحَدث، وَأَشَارَ بِهَذَا أيضاإلى أَن قَوْله فِي ذَلِك هُوَ مثل قَول النَّخعِيّ، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا أَيْضا. كَمَا ذَكرْنَاهُ.
634 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَوْنِ بنِ أبي جُحَيْفَةَ عنْ أبِيهِ أنَّهُ رَأى بِلالاً يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أتَتَبَّعُ فاهُ هَهُنَا وهَهُنَا بِالأذَانِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَعون، بِفَتْح الْعين: ابْن أبي جُحَيْفَة، وَأَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم: واسْمه وهب بن عبد الله، وَقد تقدمُوا كلهم.
وَأخرجه الغساني فِي الصَّلَاة عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَنهُ نَحوه، وَرِوَايَة وَكِيع عَن سُفْيَان عِنْد مُسلم أتم من رِوَايَة البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أوردهُ مُخْتَصرا، وفيهَا: (فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا يَمِينا وَشمَالًا يَقُول: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح) . وَفِيه تَقْيِيد الِالْتِفَات فِي الْأَذَان وَأَن مَحَله عِنْد الحيعلتين، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن خُزَيْمَة: انحراف الْمُؤَذّن عِنْد قَوْله: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، بفمه لَا بِبدنِهِ كُله. قَالَ: وَإِنَّمَا يُمكن الانحراف بالفم بانحراف الْوَجْه، ثمَّ سَاقه من طَرِيق وَكِيع أَيْضا بِلَفْظ: فَجعل يَقُول فِي أَذَانه هَكَذَا، ويحرف رَأسه يَمِينا وَشمَالًا، وَقد ذكرنَا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ فِي أول الْبَاب. وَالله أعلم.
20 - (بابُ قَوْلِ الرَّجلِ فاتَتْنَا الصلاةُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الرجل: فاتتنا الصَّلَاة، يَعْنِي: هَل يكره أم لَا؟
وَكَرِهَ ابنُ سِيرِينَ أنْ يَقُولَ فاتَتْنَا الصَّلاَةُ ولَكِنْ لِيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن أَزْهَر عَن ابْن عون، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد يكره أَن يَقُول: فاتتنا الصَّلَاة، وَيَقُول: لم أدْرك مَعَ بني فلَان. قَوْله: (أَن يَقُول) ، أَي: الرجل. قَوْله: (وَليقل) ، ويروى: (وَلَكِن ليقل) .
وَقَوْلُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصَحُّ(5/149)
(قَول النَّبِي) : كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَقَوله: (أصح) خَبره، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أفعل التَّفْضِيل، لِأَنَّهُ إِذا أُرِيد بِهِ التَّفْضِيل يلْزم أَن يكون قَول ابْن سِيرِين صَحِيحا. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصح مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا المُرَاد بالأصح: لِأَنَّهُ قد يذكر أفعل وَيُرَاد بِهِ التَّوْضِيح لَا التَّفْضِيل. وَهَذَا الْكَلَام من البُخَارِيّ رد على ابْن سِيرِين، لِأَن الشَّارِع جوز لفظ الْفَوات، وَابْن سِيرِين كرهه.
635 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ عنْ يَحْيَى عنْ عَبْدِ الله ابنِ أبي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ قالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ الرِّجَالِ فَلَمَّا صَلَّى قالْ مَا شَأنُكُمْ قالُوا اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلاَةِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلُوا إذَا أتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسكِينَةِ فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلوا وَما فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة. الْخَامِس: أَبُو قَتَادَة، واسْمه الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) أَصله: بَين، فزيدت فِيهِ: الْمِيم وَالْألف، وَرُبمَا تزاد الْألف فَقَط، فَيُقَال: بَينا، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والأفصح أَن لَا يكون إِذْ وَإِذا فِي جوابيهما. تَقول: بَينا زيد جَالس دخل عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذ دخل عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذا دخل عَلَيْهِ عَمْرو. وَقَوله: (جلبة الرِّجَال) بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (جلبة رجال) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، والجلبة، بالفتحات: الْأَصْوَات، وَذَلِكَ الصَّوْت كَانَ بِسَبَب حركتهم وَكَلَامهم واستعجالهم. قَوْله: (مَا شَأْنكُمْ؟) الشَّأْن بِالْهَمْزَةِ وَالتَّخْفِيف أَي: الْحَال. أَي: مَا حالكم حَيْثُ وَقع مِنْك الجلبة؟ قَوْله: (لَا تَفعلُوا) أَي: لَا تستعجلوا، وَذكر بِلَفْظ الْفِعْل لَا بِلَفْظ الاستعجال مُبَالغَة فِي النَّهْي عَنهُ. قَوْله: (بِالسَّكِينَةِ) ، بِفَتْح السِّين وَكسر الْكَاف: التأني والهينة، ويروى: (فَعَلَيْكُم السكينَة) ، بِدُونِ حرف الْجَرّ، وَبِالنَّصبِ نَحْو: عَلَيْك زيدا، أَي: إلزمه، وَيجوز الرّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (عَلَيْكُم) . قَوْله: (فَمَا أدركتم) أَي: الْقدر الَّذِي أدركتموه فِي الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فصلوا مَعَه، وَمَا فاتكم مِنْهَا فأتموه.
وَفِي هَذِه اللَّفْظَة اخْتِلَاف، فَعِنْدَ أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) ، وَكَذَا ذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث شَيبَان عَن يحيى، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، (فَمَا أدركتم فصلوا، وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَكَذَا هُوَ فِي أَكثر رِوَايَات مُسلم. وَفِي رِوَايَة: (فَاقْض مَا سَبَقَك) ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (فاقضوا مَا سبقكم) ، وَعند أَحْمد من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَنهُ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) . وَفِي (الْمحلى) : من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم مُقبلا إِلَى الصَّلَاة فليمش على رسله، فَإِنَّهُ فِي صَلَاة، فَمَا أدْرك فَليصل، وَمَا فَاتَهُ فليقض، بعد مَا قَالَ عَطاء: وَإِنِّي لَا أصنعه) . وَفِي (مُسْند أبي قُرَّة) : عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَنهُ بِلَفْظ: (فاقضوا) . قَالَ: وَذكر سُفْيَان عَن سعد بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي عَمْرو بن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَنهُ، بِلَفْظ: (وليقض مَا سبقه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي الْقَضَاء والإتمام الْمَذْكُورين: هَل هما بِمَعْنى وَاحِد أَو بمعنيين؟ وترتب على ذَلِك خلاف فِيمَا يُدْرِكهُ الدَّاخِل مَعَ الإِمَام: هَل هُوَ فِي أول صلَاته أَو آخرهَا؟ على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه أول صلَاته وَأَنه يكون بانيا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول، وَرِوَايَة عَن مَالك وَأحمد، وَاسْتَدَلُّوا بقوله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، لِأَن لفظ إلاتمام وَاقع على باقٍ من شَيْء(5/150)
قد تقدم سائره، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الْوَهَّاب: عَن عَطاء عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (مَا أدْركْت فَهُوَ أول صَلَاتك) ، وَعَن ابْن عمر بِسَنَد جيد مثله.
الثَّانِي: أَنه أول صلَاته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْعَال فيبنى عَلَيْهَا، وَآخِرهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَقْوَال فيقضيها، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ ابْن بطال عَنهُ: مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه يقْضِي مثل الَّذِي فَاتَهُ من الْقِرَاءَة بِأم الْقُرْآن وَسورَة، وَقَالَ سَحْنُون: هَذَا الَّذِي لم يعرف خِلَافه دَلِيله مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قَتَادَة: أَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: (مَا أدْركْت مَعَ الإِمَام فَهُوَ أول صَلَاتك، واقض مَا سَبَقَك بِهِ من الْقُرْآن) .
الثَّالِث: أَن مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه يقْرَأ فِيهَا. بِالْحَمْد وَسورَة مَعَ الإِمَام، وَإِذا قَامَ للْقَضَاء قضى بِالْحَمْد وَحدهَا، لِأَنَّهُ آخر صلَاته، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر.
الرَّابِع: أَنه آخر صلَاته وَأَنه يكون قَاضِيا فِي الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد فِي رِوَايَة، وسُفْيَان وَمُجاهد وَابْن سِيرِين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَشْبَه بمذهبنا وَمذهب أبي حنيفَة أَنه آخر صلَاته، وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَأبي قلَابَة، وَرَوَاهُ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَهُوَ قَول أَشهب وَابْن الْمَاجشون، وَاخْتَارَهُ ابْن حبيب، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَمَا فاتكم فاقضوا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن أبي ذَر، وَابْن حزم بِسَنَد مثله عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْبَيْهَقِيّ بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ على رَأْي جمَاعَة عَن معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالْجَوَاب عَمَّا اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي وَمن تبعه وَهُوَ قَوْله: (فَأتمُّوا) : أَن صَلَاة الْمَأْمُوم مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، فَحمل قَوْله: (فَأتمُّوا) على أَن: من قضى مَا فَاتَهُ فقد أتم لِأَن الصَّلَاة تنقص بِمَا فَاتَ، فقضاؤه إتْمَام لما نقص. فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: وَحجَّة الْجُمْهُور أَن أَكثر الرِّوَايَات: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) . وَأجِيب: عَن رِوَايَة: (واقض مَا سَبَقَك) بِأَن المُرَاد بِالْقضَاءِ الْفِعْل لَا الْقَضَاء المصطلح عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَقد كثر اسْتِعْمَال الْقَضَاء بِمَعْنى الْفِعْل، فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) . وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} (الْبَقَرَة: 200) . وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} (الْجُمُعَة: 10) . وَيُقَال: قضيت حق فلَان، وَمعنى الْجَمِيع: الْفِعْل. قلت: أما الْجَواب عَن قَوْله: (فَأتمُّوا) فقد ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَأما قَوْله: المُرَاد بِالْقضَاءِ: الْفِعْل، فمشترك الدّلَالَة، لِأَن الْفِعْل يُطلق على الْأَدَاء وَالْقَضَاء جَمِيعًا، وَمعنى: {فقضاهن سبع سموات} (فصلت: 12) . قدرهن، وَمعنى {قضيتم مَنَاسِككُم} (الْبَقَرَة: 200) . فَرَغْتُمْ عَنْهَا، وَكَذَا معنى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} (الْجُمُعَة: 10) . وَمعنى: قضيت حق فلَان، انهيت إِلَيْهِ حَقه، وَلَو سلمنَا أَن الْقَضَاء بِمَعْنى الْأَدَاء فَيكون مجَازًا، والحقيقة أولى من الْمجَاز، وَلَا سِيمَا على أصلهم أَن الْمجَاز ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة والتعذر. فَإِن قلت: حكى الْبَيْهَقِيّ عَن مُسلم أَنه قَالَ: لَا أعلم هَذِه اللَّفْظَة يَعْنِي: فاقضوا رَوَاهَا عَن الزُّهْرِيّ إلاَّ ابْن عُيَيْنَة، وَأَخْطَأ. قلت: تَابعه ابْن أبي ذِئْب فرواها عَن الزُّهْرِيّ، كَذَلِك، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة لمُسلم وَأبي دَاوُد كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، دَلِيل للشَّافِعِيَّة حَيْثُ قَالُوا: مَا أدْركهُ الْمَسْبُوق مَعَ الإِمَام فَهُوَ أَولهَا، لِأَن التَّمام لَا يكون إلاَّ للْآخر، لِأَنَّهُ لَا يَقع على بَاقِي شَيْء تقدم أَوله، وَعكس أَبُو حنيفَة فَقَالَ: ماأدراك مَعَ الإِمَام فَهُوَ آخرهَا. انْتهى. قلت: هُوَ عكس حَيْثُ غفل عَن رِوَايَة: فاقضوا، وَمَا قَالَ فِيهِ الْعلمَاء وَقد ذَكرْنَاهُ، وَلَو تأدب لأحسن فِي عِبَارَته، وَلَيْسَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِيمَا قَالَه وَحده، وَقد ذكرنَا أَنه قَول: عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَول سُفْيَان وَابْن سِيرِين وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَأبي قلَابَة وَآخَرين.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: الْحَث فِي الْإِتْيَان إِلَى الصَّلَاة بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار، وَسَوَاء فِيهِ سَائِر الصَّلَوَات، سَوَاء خَافَ فَوت تَكْبِيرَة الْإِحْرَام أم لَا. وَفِيه: جَوَاز قَول الرجل: فاتتنا الصَّلَاة، وَأَنه لَا كَرَاهَة فِيهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، وَالله أعلم.
21 - (بابٌ لاَ يَسْعَى إلَى الصَّلاَةِ وَلْيَأْتِ بالسَّكِينَةِ والوَقارِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يسْعَى الرجل إِلَى الصَّلَاة ... إِلَى آخِره، وَسَقَطت هَذِه التَّرْجَمَة من رِوَايَة الْأصيلِيّ وَمن رِوَايَة أبي ذَر عَن غير السَّرخسِيّ، وَفِي بعض نسخ السراج: بَاب مَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا، قَالَه أَبُو قَتَادَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَوْجه مَا مشينا عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَما فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا قالَهُ أبُو قَتَادَة عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(5/151)
أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: قَالَه، يرجع إِلَى الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (مَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَالْمعْنَى: قَالَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْبَاب السَّابِق.
636 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلاَةِ وعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ والوَقَارِ ولاَ تُسْرِعُوا فَما أدرَكْتُمْ فَصَلوا ومَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا. (الحَدِيث 636 طرفه فِي: 908) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه من طَرِيقين. الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة. الثَّانِي: عَن آدم أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الزُّهْرِيّ حدث عَن شيخين عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة، وَقد جمع البُخَارِيّ بَينهمَا فِي: بَاب الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة عَن آدم، فَقَالَ فِيهِ: عَن سعيد وَأبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ، عَنْهُمَا. وَالتِّرْمِذِيّ أخرجه من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع: عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن أبي سَلمَة وَحده، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَحده، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ عسقلاني.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَة) أَي: إِقَامَة الصَّلَاة، إِنَّمَا ذكر الْإِقَامَة تَنْبِيها على مَا سواهَا لِأَنَّهُ إِذا نهى عَن إتيانها مسرعا فِي حَال الْإِقَامَة مَعَ خوف فَوت بَعْضهَا، فَقبل الْإِقَامَة أولى. وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي التَّقْيِيد بِالْإِقَامَةِ أَن المسرع إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة يصل إِلَيْهَا وَقد انبهر، فَيقْرَأ فِي تِلْكَ الْحَالة فَلَا يحصل لَهُ تَمام الْخُشُوع فِي الترتيل، وَغَيره، بِخِلَاف من جَاءَ قبل ذَلِك، فَإِن الصَّلَاة قد لَا تُقَام حَتَّى يستريح. قَوْله: فَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَعَلَيْكُم السكينَة) ، بِالنّصب بِلَا: بَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس، وضبطها الْقُرْطُبِيّ الشَّارِح بِالنّصب على الإغراء، وضبطها النَّوَوِيّ بِالرَّفْع على أَنَّهَا جملَة فِي مَوضِع الْحَال. وَقيل: دُخُول الْبَاء لَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُم أَنفسكُم} (الْمَائِدَة: 105) ورد بِأَنَّهَا زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَلم تدخل للتعدية. وَجَاء فِي الْأَحَادِيث كثير من ذَلِك نَحْو: (عَلَيْكُم بِرُخْصَة الله تَعَالَى) ، (فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء) ، (وَعَلَيْكُم بِقِيَام اللَّيْل) . وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: ثمَّ إِن الَّذِي علل بقوله لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ غير موف بمقصوده، إِذْ لَا يلْزم من كَونه يتَعَدَّى بِنَفسِهِ امْتنَاع تعديته بِالْبَاء. انْتهى. قلت: هَذَا الْقَائِل لم يشم شَيْئا من علم التصريف، وَنفى الْمُلَازمَة غير صَحِيح. قَوْله: (وَالْوَقار) قَالَ عِيَاض والقرطبي: وَهُوَ بِمَعْنى السكينَة، وَذكر على سَبِيل التَّأْكِيد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: السكينَة: التأني فِي الحركات وَاجْتنَاب الْعَبَث وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة، كغض الْبَصَر وخفض الصَّوْت وَعدم الِالْتِفَات. قَوْله: (وَلَا تسرعوا) ، فِيهِ زِيَادَة تَأْكِيد، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} (الْجُمُعَة: 9) وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ يشْعر بالإسراع، لِأَن المُرَاد بالسعي الذّهاب، يُقَال: سعيت إِلَى كَذَا أَي: ذهبت إِلَيْهِ، وَالسَّعْي أَيْضا جَاءَ بِمَعْنى: الْعَمَل، وَبِمَعْنى: الْقَصْد. وَالْحكمَة فِي منع الْإِسْرَاع أَنه يُنَافِي الْخُشُوع، وَتَركه أَيْضا يسْتَلْزم كَثْرَة الخطى، وَهُوَ أَمر مَنْدُوب مَطْلُوب، وَردت فِيهِ أَحَادِيث: مِنْهَا حَدِيث مُسلم رَوَاهُ عَن جَابر: (إِن بِكُل خطْوَة دَرَجَة) . قَوْله: (فَمَا أدركتم) : الْفَاء، فِيهِ جَزَاء شَرط مَحْذُوف، أَي: إِذا بيّنت لكم مَا هُوَ أولى بكم فَمَا أدركتم فصلوا. قَوْله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) أَي: أكملوا، وَقد بَينا اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على حُصُول فَضِيلَة الْجَمَاعَة بِإِدْرَاك جُزْء من الصَّلَاة. لقَوْله: (فَمَا أدركتم فصلوا) ، وَلم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدُّخُول مَعَ الإِمَام فِي أَي: حَالَة وجده عَلَيْهَا. وَفِيه: الْحَث على التأني وَالْوَقار عِنْد الذّهاب إِلَى الصَّلَاة، وَمِنْه اسْتدلَّ قوم على أَن من أدْرك الإِمَام رَاكِعا لم تحسب لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَة لِلْأَمْرِ بإتمام مَا فَاتَهُ، وَقد فَاتَهُ الْقيام وَالْقِرَاءَة فِيهِ، وَهُوَ أَيْضا مَذْهَب من ذهب إِلَى وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة أَيْضا. وَاخْتَارَهُ ابْن(5/152)
خُزَيْمَة. وَعند أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: أَنه يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة لحَدِيث أبي بكرَة حَيْثُ ركع دون الصَّفّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زادك الله حرصا وَلَا تعد) . وَلم يَأْمُرهُ بِإِعَادَة تِلْكَ الرَّكْعَة، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة ابْن ابي سُفْيَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تبادروني بركوع وَلَا سُجُود، فَإِنَّهُ مهما أسبقكم بِهِ إِذا ركعت تدركوني بِهِ إِذا رفعت، وَإِنِّي قد بدنت) . وَهَذَا يدل على أَن الْمُقْتَدِي إِذا لحق الإِمَام وَهُوَ فِي الرُّكُوع فَلَو شرع مَعَه مَا لم يرفع رَأسه يصير مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، فَإِذا شرع وَقد رفع رَأسه لَا يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، وَلَو ركع الْمُقْتَدِي قبل الإِمَام فَلحقه الإِمَام قبل قِيَامه يجوز عندنَا خلافًا لزفَر، رَحمَه الله.
22 - (بابٌ مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إذَا رَأوُا الإِمامَ عِنْدَ الإِقَامَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَتى تقوم الْجَمَاعَة إِذا رَأَوْا الإِمَام عِنْد إِقَامَة الصَّلَاة، وَحَدِيث الْبَاب يبين ذَلِك.
637 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ كَتَبَ إلَيَّ يَحْيَى عنْ عَبْدِ الله بنِ أبي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أُقِيمَتِ االصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي ي: 638، 909) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى الحَدِيث أَن الْجَمَاعَة لَا يقومُونَ عِنْد الْإِقَامَة إلاَّ حِين يرَوْنَ أَن الإِمَام قَامَ، وَقد بَين ذَلِك معنى التَّرْجَمَة الَّتِي فِيهَا الِاسْتِفْهَام عَن وَقت قيام النَّاس إِلَى الصَّلَاة، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وَقت قيام النَّاس إِلَى الصَّلَاة على مَا نبينه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا. و: هِشَام هُوَ الدستوَائي، وَأَبُو قَتَادَة الْحَارِث بن ربعي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: الْكِتَابَة وَهِي طَرِيق من طرق الحَدِيث، وَهُوَ أَن يكْتب مسموعه لغَائِب أَو حَاضر إِمَّا أَن تكون مقرونة بِالْإِجَازَةِ أَو لَا، وَذَلِكَ عِنْدهم مَعْدُود فِي الْمسند الْمَوْصُول، وَظَاهر قَوْله: (كتب إِلَيّ يحيى) أَنه لم يسمعهُ مِنْهُ، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق هشيم عَن هِشَام وحجاج الصَّواف، وَكِلَاهُمَا عَن يحيى، وَهُوَ من تَدْلِيس الصِّيَغ، وَصرح أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من وَجه آخر: عَن هِشَام أَن يحيى كتب إِلَيْهِ أَن عبد الله بن أبي قَتَادَة حَدثهُ، فأمن من تَدْلِيس يحيى. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعبيد الله بن سعيد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى وَعَن أَحْمد بن صَالح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحُسَيْن ابْن حُرَيْث وَعَن عَليّ بن حجر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَوْله: (أُقِيمَت الصَّلَاة) أَي: ذكرت أَلْفَاظ الْإِقَامَة وَنُودِيَ بهَا. قَوْله: (حَتَّى تروني) أَي: تبصروني خرجت، وَبِه صرح ابْن حبَان من طَرِيق عبد الرَّزَّاق وَحده: (حَتَّى تروني خرجت) ، وَلَا بُد فِيهِ من التَّقْدِير، تَقْدِيره: لَا تقوموا حَتَّى تروني خرجت فَإِذا رَأَيْتُمُونِي خرجت فَقومُوا. وَقد اخْتلف السّلف مَتى يقوم النَّاس إِلَى الصَّلَاة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَنه لَيْسَ لقيامهم حد، وَلَكِن اسْتحبَّ عامتهم الْقيام إِذا أَخذ الْمُؤَذّن فِي الْإِقَامَة، وَكَانَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقوم إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة وَكبر الإِمَام، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن سُوَيْد بن غَفلَة، وَكَذَا قيس بن أبي حَازِم وَحَمَّاد، وَعَن سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الله إكبر، وَجب الْقيام، وَإِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، اعتدلت الصُّفُوف، وَإِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، كبر الإِمَام. وَذَهَبت عَامَّة الْعلمَاء إِلَى أَنه: لَا يكبر حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة. وَفِي (المُصَنّف) : كره هِشَام يَعْنِي ابْن عُرْوَة أَن يقوم حَتَّى يَقُول الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة، وَعَن يحيى بن وثاب: إِذا فرغ الْمُؤَذّن كبر، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول: إِذا قَامَت الصَّلَاة كبر، وَمذهب الشَّافِعِي وَطَائِفَة أَنه يسْتَحبّ أَن لَا يقوم حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف، وَعَن(5/153)
مَالك رَحمَه الله تَعَالَى: السّنة فِي الشُّرُوع فِي الصَّلَاة بعد الْإِقَامَة وبداية اسْتِوَاء الصَّفّ. وَقَالَ أَحْمد: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة، يقوم. وَقَالَ زفر: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة، مرّة قَامُوا، وَإِذا قَالَ ثَانِيًا افتتحوا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: يقومُونَ فِي الصَّفّ إِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، فَإِذا قَالَ: قد قَامَت الصَّلَاة كبر الإِمَام، لِأَنَّهُ أَمِين الشَّرْع، وَقد أخبر بقيامها فَيجب تَصْدِيقه وَإِذا لم يكن الإِمَام فِي الْمَسْجِد فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنهم لَا يقومُونَ حَتَّى يروه. فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أُقِيمَت الصَّلَاة فقمنا فعدلنا الصُّفُوف قبل أَن يخرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة: (إِن الصَّلَاة كَانَت تُقَام لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيَأْخُذ النَّاس مَصَافهمْ قبل أَن يقوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَامه) . وَفِي رِوَايَة جَابر بن سَمُرَة: (كَانَ بِلَال يُؤذن، إِذا دحضت الشَّمْس، فَلَا يُقيم حَتَّى يخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا خرج الإِمَام أَقَامَ الصَّلَاة حِين يرَاهُ) وَبَين هَذِه الرِّوَايَات مُعَارضَة. قلت: وَجه الْجمع بَينهمَا: أَن بِلَالًا كَانَ يراقب خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ لَا يرَاهُ غَيره، أَو إلاَّ الْقَلِيل، فَعِنْدَ أول خُرُوجه يُقيم، وَلَا يقوم النَّاس حَتَّى يروه، ثمَّ لَا يقوم مقَامه حَتَّى بِعدْل الصُّفُوف. وَقَوله فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: (فَيَأْخُذ النَّاس مَصَافهمْ قبل خُرُوجه) ، لَعَلَّه كَانَ مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو نَحْوهمَا، لبَيَان الْجَوَاز؛ أَو لعذر. وَلَعَلَّ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَلَا تقوموا حَتَّى تروني) كَانَ بعد ذَلِك. قَالَ الْعلمَاء: وَالنَّهْي عَن الْقيام قبل أَن يروه لِئَلَّا يطول عَلَيْهِم الْقيام، لِأَنَّهُ قد يعرض لَهُ عَارض فَيتَأَخَّر بِسَبَبِهِ.
23 - (بابٌ لاَ يَسْعَى إلَى الصَّلاَةِ مُسْتَعْجِلاً وَلْيُقِمْ بِالسَّكِينَةِ والوَقَارِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يقوم الشَّخْص إِلَى الصَّلَاة حَال كَونه مستعجلاً، وليقم إِلَى الصَّلَاة متلبسا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار، وَقد مر مَعْنَاهُ، وَالْفرق بَينهمَا، وَهَذَا هَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بَاب لَا يسْعَى إِلَى الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بَاب لَا يسْعَى إِلَى الصَّلَاة وَلَا يقوم إِلَيْهَا مستعجلاً.
638 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عنْ عبْدِ الله ابنِ أبي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ قالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ (انْظُر الحَدِيث 637) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى بن أبي كثير، وَهَذَا الحَدِيث قد مر عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام عَن يحيى عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، وَفِي هَذَا زِيَادَة على ذَلِك وَهُوَ قَوْله: (وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) ، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت: (وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) بِحَذْف: الْبَاء، وَكَذَا أخرجه أَبُو عوَانَة من طَرِيق شَيبَان، وَقد ذكرنَا إِعْرَاب الْوَجْهَيْنِ عَن قريب.
تَابَعَهُ عَلِيُّ بنُ المُبَارَكِ
أَي: تَابع عَليّ بن الْمُبَارك الْبَصْرِيّ شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير، وَقد وصل البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب الْجُمُعَة، وَلَفظه: (وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) بِغَيْر: بَاء. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي: تفرد شَيبَان وَعلي بن الْمُبَارك عَن يحيى بِهَذِهِ الزِّيَادَة، ورد عَلَيْهِ ذَلِك، لِأَن مُعَاوِيَة بن سَلام تابعهما عَن يحيى، ذكره أَبُو دَاوُد عقيب رِوَايَة أبان عَن يحيى، فَقَالَ: رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن سَلام وَعلي بن الْمُبَارك عَن يحيى وَقَالا فِيهِ: (حَتَّى تروني وَعَلَيْكُم السكينَة) .
24 - (بابٌ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ لِعِلَّةٍ؟)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يخرج الرجل من الْمَسْجِد بعد إِقَامَة الصَّلَاة لأجل عِلّة؟ أَي: ضَرُورَة؟ وَذَلِكَ مثل أَن يكون مُحدثا أَو جنبا أَو كَانَ حاقنا أَو حصل بِهِ رُعَاف أَو نَحْو ذَلِك، أَو كَانَ إِمَامًا بِمَسْجِد آخر؟ فَإِن قلت: رُوِيَ (عَن أبي هُرَيْرَة أَنه رأى رجلا يخرج من الْمَسْجِد بعد أَن أذن الْمُؤَذّن بالعصر، فَقَالَ: أما هَذَا فقد عصى أَبَا الْقَاسِم) . رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. قلت: هَذَا مَحْمُول على من خرج بِغَيْر ضَرُورَة، وَقد أوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه: (لَا يسمع النداء فِي مَسْجِدي ثمَّ يخرج مِنْهُ إِلَّا لحَاجَة ثمَّ لَا يرجع إِلَيْهِ إلاَّ مُنَافِق.(5/154)
639 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحِ بنِ كَيْسَان عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ وقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَعُدِّلَتِ الصُفُوفُ حَتَّى إذَا قامَ فِي مُصَلاَّهُ انْتَظَرْنا أنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ قالَ عَلَى مَكَانِكُمْ فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا حَتَّى خَرَجَ إلَيْنَا يَنْطُفُ رأسُهُ مَاء وقَدِ اغْتَسَلَ (انْظُر الحَدِيث 275 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم القريشي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم صَالح بن كيسَان فَإِنَّهُ رأى عبد الله بن عمر، وَالزهْرِيّ وَأَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَأخرج البُخَارِيّ فِي كتاب الْغسْل فِي: بَاب إِذا ذكر فِي الْمَسْجِد أَنه جنب يخرج كَمَا هُوَ وَلَا يتَيَمَّم: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر، قَالَ: حَدثنَا يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (أُقِيمَت الصَّلَاة وَعدلت الصُّفُوف قيَاما، فَخرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذكر أَنه جنب، فَقَالَ لنا: مَكَانكُمْ، ثمَّ رَجَعَ فاغتسل ثمَّ خرج إِلَيْنَا وَرَأسه يقطر، فَكبر وصلينا مَعَه) . وَقد قُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّه أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وتكلمنا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة، ولنتكلم هُنَا بِمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
فَقَوله: (خرج) أَي: من الْحُجْرَة، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون خُرُوجه فِي حَال الْإِقَامَة، وَيحْتَمل أَن تكون الْإِقَامَة تقدّمت خُرُوجه، وَهُوَ ظَاهر فِي الرِّوَايَة الَّتِي فِي الْبَاب الَّذِي بعده لتعقيب الْإِقَامَة بالتسوية، وتعقيب التَّسْوِيَة بِخُرُوجِهِ جَمِيعًا بِالْفَاءِ. قلت: لَيْسَ فِيهِ الاحتمالان اللَّذَان ذكرهمَا، بل معنى الْحَدِيثين سَوَاء، لِأَن الجملتين أَعنِي قَوْله: (وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة وَعدلت الصُّفُوف) . وقعتا حَالين، وَالْمعْنَى أَنه خرج وَالْحَال أَنهم أَقَامُوا الصَّلَاة وَعدلُوا الصُّفُوف، وَكَذَلِكَ معنى الحَدِيث الثَّانِي، لِأَن الْفَاء فِيهِ لَيست للتعقيب كَمَا ظَنّه هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا هَذِه: الْفَاء، تسمى: فَاء الْحَال، وَالْمعْنَى: حَال إِقَامَة الصَّلَاة وتعديل الصُّفُوف خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: السّنة أَن تكون الْإِقَامَة بِنَظَر الإِمَام، فَلم أُقِيمَت قبل خُرُوجه؟ وَتقدم حَدِيث: (لَا تقوموا حَتَّى تروني) فلِمَ عدلت الصُّفُوف قبل ذَلِك؟ قلت: لفظ: قد، يقرب الْمَاضِي من الْحَال، فَمَعْنَاه خرج فِي حَال الْإِقَامَة، وَفِي حَال التَّعْدِيل فَلَا يلْزم المحذوران الْمَذْكُورَان أَو علمُوا بالقرائن خُرُوجه، أَو أذن لَهُ فِي الْإِقَامَة وَلَهُم فِي الْقيام. انْتهى. قلت: لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: بِأَن لفظ: قد، يقرب الْمَاضِي من الْحَال، لِأَن الْجُمْلَة الَّتِي دخلت عَلَيْهَا لَفْظَة: قد، حَالية كَمَا ذكرنَا، وَالْأَصْل أَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة إِذا وَقعت حَالا تدخل عَلَيْهَا: قد، كَمَا تدخل: الْوَاو، على الْجُمْلَة الإسمية إِذا وَقعت حَالا، وَإِذا دخلت الْجُمْلَة الفعلية الْوَاقِعَة حَالا عَن لَفْظَة: قد، ظَاهرا تقدر فِيهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) . أَي: قد حصرت. قَوْله: (وَعدلت) أَي: سويت. قَوْله: (حَتَّى إِذا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ انتظرناه أَن يكبر انْصَرف) . وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ: (قبل أَن يكبر فَانْصَرف) . وَفِيه: دَلِيل على أَنه انْصَرف قبل أَن يدْخل فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت: يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان: (عَن أبي بكرَة ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل فِي صَلَاة الْفجْر فَكبر ثمَّ أَوْمَأ إِلَيْهِم) ، وَمَا رَوَاهُ مَالك من طَرِيق عَطاء بن يسَار مُرْسلا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كبر فِي صَلَاة من الصَّلَوَات ثمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ، أَن: امكثوا قلت: إِذا قُلْنَا إنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فَلَا تعَارض، وإلاَّ فَالَّذِي فِي الصَّحِيح أصح. قَوْله: (انتظرنا) ، جملَة حَالية عَامل فِي الظّرْف. قَوْله: (أَن يكبر) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: انتظرنا تكبيره. قَوْله: (انْصَرف) أَي: إِلَى الْحُجْرَة، وَهُوَ جَوَاب: إِذا. قَوْله: (قَالَ) ، اسْتِئْنَاف. قَوْله: (على مَكَانكُمْ) ، أَي: توقفوا على مَكَانكُمْ والزموا موضعكم. قَوْله: (فَمَكثْنَا) ، من: الْمكْث، وَهُوَ: اللّّبْث. قَوْله: (على هيئتنا) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة بعْدهَا التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَي: على الْهَيْئَة وَالصُّورَة الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا، وَهِي: قيامهم فِي الصُّفُوف المعدلة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (على هينتنا) بِكَسْر الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، والهينة: الرِّفْق والتأني، وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أصوب وأوجه. قَوْله: (ينطف) ، بِكَسْر الطَّاء وَضمّهَا أَي: يقطر، كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الَّتِي تَأتي بعْدهَا هَذِه، وَهَذِه الْجُمْلَة حَال، وَكَذَا(5/155)
قَوْله: (وَقد اغْتسل) ، و: مَاء، نصب على التَّمْيِيز، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر: عَن ابي هُرَيْرَة فَقَالَ: (إِنِّي كنت جنبا فنسيت أَن أَغْتَسِل) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث: جَوَاز النسْيَان على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي أَمر الْعِبَادَة للتشريع. وطهارة المَاء الْمُسْتَعْمل. وانتظار الْجَمَاعَة لإمامهم مَا دَامَ فِي سَعَة من الْوَقْت. وَجَوَاز الْفَصْل بَين الْإِقَامَة وَالصَّلَاة لِأَن قَوْله: (فصلى) ، ظَاهر فِي أَن الْإِقَامَة لم تعد، وَالظَّاهِر أَنه مُقَيّد بِالضَّرُورَةِ، وَعَن مَالك: إِذا بَعدت الْإِقَامَة من الْإِحْرَام تُعَاد. قلت: الظَّاهِر أَنه إِذا لم يكن لَهُ عذر، وَفِيه: أَنه لَا حَيَاء فِي أَمر الدّين. وَفِيه: جَوَاز الْكَلَام بَين الْإِقَامَة وَالصَّلَاة. وَجَوَاز تَأْخِير الْجنب الْغسْل عَن وَقت الْحَدث. وَفِيه: أَنه لَا يجب على من احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِد فَأَرَادَ الْخُرُوج مِنْهُ أَن يتَيَمَّم.
25 - (بابٌ إذَا قالَ الإمامُ مكانَكُمْ حَتَّى نَرْجِعَ انْتَظِرُوه)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الإِمَام للْجَمَاعَة: إلزموا مَكَانكُمْ حَتَّى نرْجِع. قَوْله: (انتظروه) على صِيغَة الْمَاضِي جَوَاب إِذا، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا اللَّفْظ فِي رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ كَمَا مضى فِي الْغسْل. قلت: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ فِي رِوَايَة يُونُس، فَإِن لَفظه: (فَقَالَ لنا: مَكَانكُمْ، ثمَّ رَجَعَ) . وَلَو قَالَ: هَذَا اللَّفْظ أَخذه من معنى رِوَايَة يُونُس لَكَانَ أصوب. قَوْله: (حَتَّى نرْجِع) ، بالنُّون فِي رِوَايَة الْكشميهني، وبالهمزة: (أرجع) للأصيلي، (وَيرجع) ، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، لبَقيَّة الروَاة، وعل كل حَال: هُوَ مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة.
640 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا الأوزاعيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ أقِيمَتِ الصَّلاةُ فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَقَدَّمَ وَهْوَ جنُبٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى مكانِكُمْ فاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقطُرُ مَاء فَصَلَّى بِهِمْ. (انْظُر الحَدِيث 275 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق هَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي جَمِيع الرِّوَايَات، قَالَ الغساني: لَعَلَّه إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَجوزهُ ابْن طَاهِر، وَجزم بِهِ الْمزي. وَمُحَمّد بن يُوسُف: هُوَ الْفرْيَابِيّ وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَأكْثر الرِّوَايَة عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة، وَالْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَالزهْرِيّ: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ. نَحوه: (أُقِيمَت الصَّلَاة وصف النَّاس صفوفهم وَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ مقَامه، فَأَوْمأ إِلَيْهِم بِيَدِهِ أَن: مَكَانكُمْ، فَخرج وَقد اغْتسل وَرَأسه يقطر المَاء، فصلى بهم) . وَعَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن الْوَلِيد بن مُسلم مُخْتَصرا، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن مُؤَمل بن الْفضل عَن الْوَلِيد بن مُسلم نَحْو حَدِيث زُهَيْر بن حَرْب، وَفِي الصَّلَاة عَن مَحْمُود بن خَالِد وَدَاوُد بن رشيد، وَكِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بن مُسلم نَحْو حَدِيث إِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى، قَوْله: (فَتقدم وَهُوَ جنب) ، يَعْنِي: فِي نفس الْأَمر، لَا أَنهم اطلعوا على ذَلِك مِنْهُ، قبل أَن يعلمهُمْ، وَقد مضى فِي رِوَايَة يُونُس فِي الْغسْل: (فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذكر أَنه جنب) ، وَفِي رِوَايَة أبي نعيمٍ: (ذكر أَنه لم يغْتَسل) . قَوْله: (على مَكَانكُمْ) ، أَي: اثبتوا فِي مَكَانكُمْ وَلَا تفَرقُوا. قَوْله: (فَرجع) أَي: إِلَى الْحُجْرَة. قَوْله: (وَرَأسه) مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (يقطر) ، وَالْجُمْلَة حَال، و: مَا، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (فصلى بهم) ، ظَاهره أَنه لم يَأْمُرهُم بِإِعَادَة الْإِقَامَة، وَفِي بعض النّسخ بعده، قيل لأبي عبد الله: إِن بدا لِأَحَدِنَا مثل هَذَا يفعل كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: فَأَي شَيْء يصنع؟ فَقيل: ينتظرونه قيَاما وقعودا، قَالَ: إِن كَانَ قبل التَّكْبِير فَلَا بَأْس، أَن يقعدوا، وَإِن كَانَ بعد التَّكْبِير ينتظرونه قيَاما.
26 - (بابُ قَوْلِ الرَّجلِ مَا صَلَّيْنا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَول الرجل: مَا صلينَا، وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَول الرجل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا صلينَا. وَقَالَ ابْن بطال:(5/156)
فِيهِ رد لقَوْل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: يكره أَن يَقُول الرجل: لم نصل، وَكَرَاهَة النَّخعِيّ لَيست على إِطْلَاقهَا، بل إِنَّمَا هِيَ فِي حق منتظر الصَّلَاة، ومنتظر الصَّلَاة فِي الصَّلَاة، فَقَوْل المنتظر: مَا صلينَا يَقْتَضِي نفي مَا أثْبته الشَّارِع، فَلذَلِك كرهه، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن البُخَارِيّ لَو أَرَادَ الرَّد عَلَيْهِ مُطلقًا لصرح بذلك كَمَا صرح بِالرَّدِّ على ابْن سِيرِين فِي تَرْجَمَة: فاتتنا الصَّلَاة.
641 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ أخبرنَا جابِرُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَوْمَ الخَنْدَقِ فَقَالَ يَا رسولَ الله وَالله مَا كِدْتُ أنْ أصَلِّيَ حَتَّى كادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ وذَلِكَ بَعْدَ مَا أفْطَرَ الصَّائِمُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله مَا صَلَّيْتُها فَنَزَلَ النبيُّ ألَى بُطْحَانَ وأنَا مَعَهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى يَعْنِي العَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ. .
قَالَ الْكرْمَانِي: مَا يظْهر من كَلَامه أَن مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا كدت أَن أُصَلِّي) ، وَهُوَ معنى: مَا صليت، بِحَسب عرف الِاسْتِعْمَال، فَهَذَا قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: ثمَّ إِن اللَّفْظ الَّذِي أوردهُ الْمُؤلف وَقع النَّفْي فِيهِ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من قَول الرجل، لَكِن فِي بعض طرقه وُقُوع ذَلِك من الرجل أَيْضا، وَهُوَ عمر كَمَا أوردهُ فِي الْمَغَازِي، وَهَذِه عَادَة مَعْرُوفَة للمؤلف، يترجم بِبَعْض مَا وَقع فِي طرق الحَدِيث الَّذِي يَسُوقهُ، وَلَو لم يَقع فِي الطَّرِيق الَّتِي يوردها فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْأَوْجه لِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يترجم بِبَعْض مَا فِي حَدِيث أورد فِي غير الْبَاب الَّذِي ترْجم بِهِ، وَالْأَحْسَن أَن تقع الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي ذكره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم: الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ وَيحيى ابْن أبي كثير.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ جمَاعَة بعد ذهَاب الْوَقْت، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا كدت أَن أُصَلِّي) خبر: كَاد، قد يسْتَعْمل: بِأَن اسْتِعْمَال: عَسى، وَالْأَصْل عدمهَا، وَقد اسْتعْمل هَهُنَا على الْوَجْهَيْنِ حَيْثُ قَالَ: (ان اصلي وتغرب) . قَوْله: (وَذَلِكَ) أَي: القَوْل. قَوْله: (بَعْدَمَا أفطر الصَّائِم) أَي: بعد الْغُرُوب، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْمَجِيء بعد الْغُرُوب، وَقد صرح بِأَنَّهُ جَاءَ يَوْم الخَنْدَق؟ قلت: أَرَادَ بِالْيَوْمِ الزَّمَان، كَمَا يُقَال رَأَيْته يَوْم ولادَة فلَان، وَإِن كَانَت بِاللَّيْلِ، وَالْغَرَض مِنْهُ بَيَان التَّارِيخ لَا خُصُوصِيَّة الْوَقْت. قَوْله: (بطحان) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء، وَهُوَ وَاد بِالْمَدِينَةِ، غير منصرف.
27 - (بابُ الإمامِ تَعْرِضُ لَهُ الحاجَةُ بَعْدَ الإِقَامَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الإِمَام تعرض ... إِلَى آخِره، و: تعرض، بِكَسْر الرَّاء: أَي، تظهر، وَبعده مُقَدّر، تَقْدِيره: هَل يُبَاح لَهُ التشاغل بِالْحَاجةِ قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة أم لَا؟ وَالْحَاصِل: أَنه يجوز. وَقيد بقوله: (بعد الْإِقَامَة) ، لِأَن قبل الْإِقَامَة الْجَوَاز بِالطَّرِيقِ الأولى
642 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرِ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ صُهَيْبٍ عَنْ أنَسٍ قَالَ أقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنَاجِي رَجُلاً فِي جانِبِ المَسْجِدِ فَما قامَ إلَى الصَّلاَةِ حَتَّى نَامَ القَوْمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناجى ذَلِك الرجل وَالصَّلَاة قد أُقِيمَت، وَأطَال الْمُنَاجَاة فَهَذَا هُوَ عرُوض الْحَاجة لَهُ، فَلذَلِك قيد فِي التَّرْجَمَة بِالْإِمَامِ. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: خص الإِمَام بِالذكر يَعْنِي فِي التَّرْجَمَة مَعَ أَن الحكم عَام. قلت: إِنَّمَا قيدها بِالْإِمَامِ لتَعلق هَذَا الحكم بِهِ، لِأَن الْمَأْمُوم إِذا عرضت لَهُ حَاجَة لَا يتَقَيَّد بِهِ غَيره من الْقَوْم، بِخِلَاف الإِمَام، فَإِنَّهُ إِذا(5/157)
عرضت لَهُ حَاجَة يتَقَيَّد بِهِ الْقَوْم جَمِيعًا، وَمَعَ هَذَا فقد أَشَارَ إِلَى بَيَان عُمُوم الحكم بِالْبَابِ الَّذِي بعده، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة قد ذكرُوا، وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. قَوْله: (عَن أنس) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (سمع أنسا) .
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن شَيبَان بن فروخ، وَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أُقِيمَت الصَّلَاة) ، وَكَانَت صَلَاة الْعشَاء، بَينه حَمَّاد بن ثَابت عَن أنس عَن مُسلم، ودلت الْقَرِينَة أَيْضا أَنَّهَا كَانَت صَلَاة الْعشَاء، وَهِي قَوْله: (حَتَّى نَام الْقَوْم) قَوْله (وَالنَّبِيّ) ، مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: (يُنَاجِي) ، وَالْجُمْلَة حَال، وَالْمعْنَى: يُنَاجِي رجلا يحادثه. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمنجي فِي جَانب الْمَسْجِد) ، يَعْنِي: مناج، كنديم، بِمَعْنى: منادم، ووزير بِمَعْنى موازر، وَإِنَّمَا ذكر من بَاب المفاعلة ليدل على أَن الرجل أَيْضا يُشَارِكهُ فِي الحَدِيث. قيل: لم يعرف اسْم الرجل مَا هُوَ؟ وَقيل: كَانَ كَبِيرا فِي قومه فَأَرَادَ أَن يتألفه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْإِسْلَام، وَلَيْسَ لهَذَا دَلِيل. قلت: لَا يبعد أَن يكون هَذَا ملكا، وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَآهُ فِي صُورَة رجل. قَوْله: (حَتَّى نَام الْقَوْم) ، وَزَاد شُعْبَة عَن عبد الْعَزِيز: (ثمَّ قَامَ فصلى) ، وَهَذِه الزِّيَادَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الاسْتِئْذَان، وَلمُسلم أَيْضا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ونام الْقَوْم، أَي: نعس بعض الْقَوْم. قلت: الظَّاهِر أَنه فسر هَذَا هَكَذَا من عِنْده، وَلكنه وَقع هَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن حبَان من وَجه آخر: عَن أنس، وَوَقع فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: عَن ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز فِيهِ: حَتَّى نعس بعض الْقَوْم، وَلَو كَانَ وَقت الْكرْمَانِي على هَذَا لَكَانَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِوَجْه مَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز مُنَاجَاة الِاثْنَيْنِ بِحُضُور الْجَمَاعَة، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي الحَدِيث جَوَاز مُنَاجَاة الْوَاحِد بِحَضْرَة الْجَمَاعَة. قلت: بَاب المفاعلة لَا يسند إِلَى الْوَاحِد، وَلَو كَانَ هَذَا الْقَائِل وقف على مَعَاني الْأَفْعَال لقَالَ مثل مَا قُلْنَا. وَفِيه: جَوَاز الْفَصْل بَين الْإِقَامَة وَالْإِحْرَام للضَّرُورَة، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَفِيه: جَوَاز الْكَلَام بعد الْإِقَامَة، وَإِن كَانَ إِبْرَاهِيم وَالزهْرِيّ وتبعهما الحنفيون: كَرهُوا ذَلِك، حَتَّى قَالَ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة وَجب على الإِمَام التَّكْبِير. وَقَالَ مَالك: إِذا بَعدت الْإِقَامَة رَأَيْت أَن تُعَاد الْإِقَامَة اسْتِحْبَابا. قلت: إِنَّمَا كره الْحَنَفِيَّة الْكَلَام بَين الْإِقَامَة وَالْإِحْرَام إِذا كَانَ لغير ضَرُورَة، وَأما إِذا كَانَ لأمر من أُمُور الدّين فَلَا يكره. وَفِيه: جَوَاز تَأْخِير الصَّلَاة عَن أول وَقتهَا.
28 -
بابُ الكَلاَمِ إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ أَي: هَذَا بَاب جَوَاز الْكَلَام لأجل مُهِمّ من الْأُمُور عِنْد إِقَامَة الصَّلَاة، وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بذلك الرَّد على من كرهه مُطلقًا.
643 - حدَّثنا عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلى قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ قالَ سألْتُ ثابِتا البُنَانِيَّ عنِ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تُقَامُ الصَّلاَةُ فَحَدَّثَنِي عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَعَرَضَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَ مَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فحبسه بَعْدَمَا أُقِيمَت الصَّلَاة) ، لِأَن مَعْنَاهُ: حَبسه عَن الصَّلَاة بِسَبَب التَّكَلُّم مَعَه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد، بِفَتْح الْوَاو وَكسر اللَّام، وَقد تقدم فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثَّانِي: عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة، مر فِي: بَاب الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء: الطَّوِيل، وَقد تقدم. الرَّابِع: ثَابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أسلم الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى مَكْسُورَة، وَهِي نِسْبَة إِلَى: بنانة، زَوْجَة سعد بن لؤَي بن غَالب ابْن فهر. وَقيل: كَانَت حاضنة لِبَنِيهِ فَقَط، وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي (الوشاح) : فِي: بَاب من دخل فِي قبائل قُرَيْش وهم فيهم إِلَى الْيَوْم؛(5/158)
وهم الَّذين يُقَال لَهُم: بَنو بنانة، وبنانة حاضنتهم، وَلَيْسَ بِنسَب. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَقَوله: عَن الرجل، لَيْسَ لَهُ تعلق فِي الْإِسْنَاد. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن حميدا روى هَهُنَا عَن أنس بِوَاسِطَة، وَهُوَ يروي عَنهُ كثيرا بِلَا وَاسِطَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن حُسَيْن بن معَاذ عَن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (فحبسه) أَي: مَنعه من الدُّخُول فِي الصَّلَاة، وَزَاد هشيم فِي رِوَايَته: (حَتَّى نعس بعض الْقَوْم) . وَقَالَ التَّيْمِيّ: هَذَا رد على من قَالَ: إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: قد قَامَت الصَّلَاة، وَجب على الإِمَام تَكْبِيرَة الْإِحْرَام.
وَفِيه: دَلِيل على ان اتِّصَال الْإِقَامَة بِالصَّلَاةِ لَيْسَ من وَكيد السّنَن، وَإِنَّمَا هُوَ مستحبها.
29 - (بابُ وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة، وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا بت الحكم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَكَانَ ذَلِك لقُوَّة دليلها عِنْده، لَكِن أطلق الْوُجُوب وَهُوَ أَعم من كَونه وجوب عين أَو كِفَايَة، إلاَّ أَن الْأَثر الَّذِي ذكره عَن الْحسن يشْعر بِأَنَّهُ يُرِيد وجوب عين. قلت: لَا يُقَال: هَذِه الْقِسْمَة إلاَّ فِي الْفَرْض، فَيُقَال: فرض عين وَفرض كِفَايَة، أللهم إلاَّ أَن يكون عِنْد من لم يفرق بَين الْوَاجِب وَالْفَرْض، وَمن أَيْن علم أَن البُخَارِيّ أَرَادَ وجوب الْعين؟ وَمن أَيْن يدل عَلَيْهِ أثر الْحسن؟ وَكَيف يجوز الِاسْتِدْلَال على وجوب الْعين بالأثر الْمَرْوِيّ عَن التَّابِعِيّ وَهَذَا مَحل نظر.
وقالَ الحَسَنُ إنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي الجَماعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، يَعْنِي إِن منعت الرجل أمه عَن الْحُضُور إِلَى صَلَاة الْعشَاء مَعَ الْجَمَاعَة شَفَقَة عَلَيْهِ أَي: لأجل الشَّفَقَة لم يطع أمه فِيهِ، فَهَذَا يدل على أَن الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فرض عِنْده، وَلِهَذَا قَالَ: لم يطع أمه، مَعَ أَن طَاعَة الْوَالِدين فرض فِي غير الْمعْصِيَة، وَإِنَّمَا عين الْعشَاء، مَعَ أَن الحكم فِي كل الصَّلَوَات سَوَاء لكَونهَا من أثقل الصَّلَاة على الْمُنَافِقين. فَإِن قلت: الْفجْر كَذَلِك. قلت: ذكر أَحدهمَا يُغني عَن الآخر، وَإِنَّمَا عين الْأُم مَعَ أَن الْأَب كَذَلِك فِي وجوب طاعتهما، لِأَن الْأُم أَكثر شَفَقَة من الْأَب على الْأَوْلَاد، وَلم يذكر صَاحب (التَّلْوِيح) وَلَا صَاحب (التَّوْضِيح) وصل هَذَا الْأَثر مَعَ كَثْرَة تتبع صَاحب (التَّلْوِيح) لمثل هَذَا، واتساع اطِّلَاعه فِي هَذَا الْبَاب، وَذكر بَعضهم أَنه وجد مَعْنَاهُ، بل أتم مِنْهُ، وأصرح، فِي كتاب (الصّيام) للحسين بن الْحسن الْمروزِي بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن الْحسن فِي رجل يَصُوم، يَعْنِي تَطَوّعا فتأمره أمه أَن يفْطر. قَالَ: فليفطر، وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَله أجر الصَّوْم وَأجر الْبر. قيل: فتنهاه أَن يُصَلِّي الْعشَاء بِجَمَاعَة. قَالَ: لَيْسَ ذَاك لَهَا، هَذِه فَرِيضَة.
40 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد هَمَمْت أَن آمُر بحطب فيحطب ثمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ فَيُؤذن لَهَا ثمَّ آمُر رجلا فيؤم النَّاس ثمَّ أُخَالِف إِلَى رجال فَأحرق عَلَيْهِم بُيُوتهم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو يعلم أحدهم أَنه يجد عرقا سمينا أَو مرماتين حسنتين لشهد الْعشَاء) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يدل على وجوب الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة لما فِيهِ من وَعِيد شَدِيد يدل على أَن تاركها يدْخل فِيهِ (ذكر رِجَاله ولطائف إِسْنَاده) أما رِجَاله فقد ذكرُوا غير مرّة وَأَبُو زناد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَأما لطائف إِسْنَاده فَفِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَالْأَخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه اثْنَان لم يذكرَا باسمهما فأحدهما ذكر بالكنية وَالْآخر باللقب وَفِيه عَن الْأَعْرَج وَفِي رِوَايَة السراج من طَرِيق شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد سمع الْأَعْرَج. وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن إِسْمَاعِيل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة(5/159)
أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن مَالك. (ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث) وَعند البُخَارِيّ فِي بَاب فضل صَلَاة الْعشَاء فِي الْجَمَاعَة لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْفجْر وَالْعشَاء " الحَدِيث وَفِي لفظ لَهُ " لقد هَمَمْت أَن آمُر الْمُؤَذّن فيقيم " وَفِيه " ثمَّ آخذ شعلا من نَار فَأحرق على من لَا يخرج إِلَى الصَّلَاة بِغَيْر عذر " وَفِي لفظ " ثمَّ أُخَالِف إِلَى أَقوام لَا يشْهدُونَ الصَّلَاة فَأحرق عَلَيْهِم " وَعند أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " لَوْلَا مَا فِي الْبيُوت من النِّسَاء والذرية أَقمت صَلَاة الْعشَاء وَأمرت فتياني يحرقون مَا فِي الْبيُوت بالنَّار " وَعند أبي دَاوُد " ثمَّ آتِي قوما يصلونَ فِي بُيُوتهم لَيست بهم عِلّة فأحرقها عَلَيْهِم " وَفِي مُسْند السراج " آمُر فتيتي إِذا سمعُوا الْإِقَامَة من تخلف أَن يحرقوا عَلَيْهِم أَنكُمْ لَو تعلمُونَ مَا فيهمَا لأتيتموهما وَلَو حبوا " وَفِي لفظ آخر " أخر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاة الْعشَاء حَتَّى تهور اللَّيْل وَذهب ثلثه أَو نَحوه ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد فَإِذا النَّاس عزون وَإِذا هم قَلِيلُونَ فَغَضب غَضبا شَدِيدا لَا أعلم أَنِّي رَأَيْته غضب غَضبا أَشد مِنْهُ ثمَّ قَالَ لقد هَمَمْت أَن آمُر رجلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثمَّ أتتبع هَذِه الدّور الَّتِي تخلف أهلوها عَن هَذِه الصَّلَاة فأضرمها عَلَيْهِم بالنيران " وَفِي كتاب الطوسي مصححا " ثمَّ آتِي قوما يتخلفون عَن هَذِه الصَّلَاة فَأحرق عَلَيْهِم " يَعْنِي صَلَاة الْعشَاء وَفِي مُسْند عبد الله بن وهب حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب حَدثنَا عجلَان عَنهُ " لينتهين رجال من حول الْمَسْجِد لَا يشْهدُونَ الْعشَاء أَو لأحرقن بُيُوتهم " وَفِي كتاب الثَّوَاب لحميد بن زَنْجوَيْه " آمُر رجَالًا فِي أَيْديهم حزم حطب لَا يُؤْتى رجل فِي بَيته سمع الْأَذَان إِلَّا أضرم عَلَيْهِ بَيته " وَفِي الْأَوْسَط للطبراني " آمُر رجَالًا إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة أَن يتخلفوا دون من لَا يشْهد الصَّلَاة فيضرموا عَلَيْهِم بُيُوتهم " قَالَ " وَلَو أَن رجلا أذن النَّاس إِلَى طَعَام لأتوه وَالصَّلَاة يُنَادى بهَا فَلَا يأتونها " وَفِي مُعْجمَة الصَّغِير " ثمَّ أنظر فَمن لم يشْهد الْمَسْجِد فَأحرق عَلَيْهِ بَيته " وَفِي كتاب التَّرْغِيب والترهيب لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ الْأَصْبَهَانِيّ " خرج بَعْدَمَا تهور اللَّيْل فَذهب ثلثه ثمَّ قَالَ لَو أَن رجلا نَادَى النَّاس إِلَى عرق أَو مرماتين أَتَوْهُ لذَلِك وهم يتخلفون عَن هَذِه الصَّلَاة " وَعند الدَّارَقُطْنِيّ فِي مُسْنده " لَو كَانَ عرقا سمينا أَو مغرفتين لشهدوها " وَفِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق بِسَنَد صَحِيح " لقد هَمَمْت أَن آمُر فتياني أَن يجمعوا إِلَيّ حزما من حطب ثمَّ أَنطلق فَأحرق على قوم بُيُوتهم لَا يشْهدُونَ الْجُمُعَة " رَوَاهُ عَن جَعْفَر بن برْقَان عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن أبي هُرَيْرَة وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أَحْمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي عَن عبد الرَّزَّاق كَذَا قَالَ كَذَا الْجُمُعَة وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن أبي الْأَحْوَص عَن ابْن مَسْعُود وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ سَائِر الرِّوَايَات أَنه عبر بِالْجمعَةِ عَن الْجَمَاعَات وَرُوِيَ فِي المعجم الْأَوْسَط عَن ابْن مَسْعُود بِالْإِطْلَاقِ من غير تَقْيِيد بِالْجمعَةِ وَالَّذِي فِيهِ التَّقْيِيد بِالْجمعَةِ رَوَاهُ السراج عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ " أَي وَالله الَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَهُوَ قسم كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كثيرا مَا كَانَ يقسم بِهِ قَوْله " لقد هَمَمْت " جَوَاب الْقسم أكده بِاللَّامِ وَكلمَة قد وَمعنى هَمَمْت أَي قصدت من الْهم وَهُوَ الْعَزْم وَقيل دونه قَوْله " فيحطب " بِالْفَاءِ وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي " ليحطب " بِاللَّامِ وَرِوَايَة الْكشميهني هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين وَرِوَايَة الْمُوَطَّأ أَيْضا وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات " ليحطب " بِالنّصب وَلَام كي وبالجزم وَلَام الْأَمر وَقَالَ أَيْضا ليحتطب أَي ليجمع يُقَال حطبت واحتطبت إِذا جمعت الْحَطب وَقَالَ بَعضهم وَمعنى يحطب يكسر ليسهل إشعال النَّار بِهِ (قلت) لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك وَالْمعْنَى أَن آمُر بحطب فيحطب أَي فَيجمع وَكَذَلِكَ معنى يحتطب كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلم يقل أحد من أهل اللُّغَة أَن معنى يحطب يكسر قَوْله " ثمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ " الْألف وَاللَّام فِيهَا إِن كَانَت للْجِنْس فَهُوَ عَام وَإِن كَانَت للْعهد فَفِي رِوَايَة أَنَّهَا الْعشَاء وَفِي أُخْرَى الْفجْر وَفِي أُخْرَى الْجُمُعَة وَفِي أُخْرَى يتخلفون عَن الصَّلَاة مُطلقًا وَلَا تضَاد بَينهَا لجَوَاز تعدد الْوَاقِعَة نعم إِذا كَانَ المُرَاد الْجُمُعَة فالجماعة شَرط فِيهَا وَمحل الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي غَيرهَا وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ سَائِر الرِّوَايَات أَنه عبر بِالْجمعَةِ عَن الْجَمَاعَة ونوزع فِيهِ لِأَن أَبَا دَاوُد وَالطَّبَرَانِيّ رويا من طَرِيق يزِيد بن جَابر عَن يزِيد بن الْأَصَم فَذكر الحَدِيث قَالَ يزِيد قلت ليزِيد بن الْأَصَم يَا أَبَا عَوْف الْجُمُعَة أَو غَيرهَا قَالَ صمت أذناي إِن لم أكن سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يؤثره عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا ذكر جُمُعَة وَلَا غَيرهَا فَظهر من ذَلِك أَن الرَّاجِح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا غير الْجُمُعَة وَظهر من هَذَا أَن الْبَيْهَقِيّ وهم فِي هَذَا نعم جَاءَ فِي حَدِيث ابْن(5/160)
مَسْعُود أخرجه مُسلم وَفِيه الْجَزْم بِالْجمعَةِ وَهُوَ حَدِيث مُسْتَقل بِرَأْسِهِ ومخرجه مُغَاير لحَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا يقْدَح أَحدهمَا فِي الآخر لِإِمْكَان كَونهمَا وَاقِعَتَيْنِ كَمَا أَشَرنَا إِلَى ذَلِك عَن قريب قَوْله " فَيُؤذن لَهَا " كَذَا هُوَ بِاللَّامِ أَي أعلم النَّاس لأَجلهَا ويروى بِالْبَاء أَي أعلمت بهَا وَالْهَاء مفعول ثَان قَوْله " ثمَّ أُخَالِف " من بَاب المفاعلة قَالَ الْجَوْهَرِي قَوْلهم هُوَ يُخَالف إِلَى فلَان أَي يَأْتِيهِ إِلَى غَابَ عَنهُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ يُقَال خالفني إِلَى كَذَا إِذا قَصده وَأَنت مولى عَنهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ} وَالْمعْنَى أُخَالِف المشتغلين بِالصَّلَاةِ قَاصِدا إِلَى بيُوت الَّذين لم يخرجُوا عَنْهَا إِلَى الصَّلَاة فأحرقها عَلَيْهِم وَيُقَال معنى أُخَالِف إِلَى رجال أذهب إِلَيْهِم وَالتَّقْيِيد بِالرِّجَالِ يخرج الصّبيان وَالنِّسَاء قَوْله " فَأحرق " بِالتَّشْدِيدِ من التحريق وَالْمرَاد بِهِ التكثير يُقَال حرقه بِالتَّشْدِيدِ إِذا بَالغ فِي تحريقه ويروى " فَأحرق من الإحراق " وَرِوَايَة التَّشْدِيد أَكثر وَأشهر قَوْله " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ " أعَاد يَمِينه لأجل الْمُبَالغَة فِي التهديد قَوْله " عرقا " بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء جمعه عراق قَالَ الْأَزْهَرِي فِي التَّهْذِيب هِيَ الْعِظَام الَّتِي يُؤْخَذ مِنْهَا هبر اللَّحْم وَيبقى عَلَيْهَا لُحُوم رقيقَة طيبَة فتكسر وتطبخ وَتُؤْخَذ إهالتها من طفاختها ويؤكل مَا على الْعِظَام من لحم رَقِيق وتشمس الْعِظَام ولحمها من أطيب اللحوم عِنْدهم يُقَال عرقت اللَّحْم وتعرقته وأعرقته إِذا أخذت اللَّحْم مِنْهُ نهشا بأسنانك وَعظم معروق إِذا ألقِي عَنهُ لَحْمه أَي قشر والعرام مثل الْعرَاق قَالَه الرياشي وَقَالَ القتيبي سَمِعت الرياشي يروي عَن أبي زيد أَنه قَالَ قَول النَّاس ثريدة كَثِيرَة الْعرَاق خطأ لِأَن الْعرَاق الْعِظَام وَفِي الموعب لِابْنِ التياني عَن ابْن قُتَيْبَة تسمى عراقا إِذا كَانَت جرداء لَا لحم عَلَيْهَا وَتسَمى عراقا وَعَلَيْهَا اللَّحْم وَزعم الْكَلْبِيّ أَن الْعرَاق الْعظم الَّذِي أَخذ أَكثر مِمَّا بَقِي عَلَيْهِ وَبَقِي عَلَيْهِ شَيْء يسير وَعَن الْأَصْمَعِي الْعرق بجزم الرَّاء الفدرة من اللَّحْم وَفِي الْمُحكم الْعرَاق الْعظم بِغَيْر لحم فَإِن كَانَ عَلَيْهِ لحم فَهُوَ عرق والعرق الفدرة من اللَّحْم وَجَمعهَا عراق وَهُوَ من الْجمع الْعَزِيز وَحكى ابْن الْأَعرَابِي فِي جمعه عراق بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَقيس وَفِي الْمغرب الْعرق الْعظم قَوْله " أَو مرماتين " بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَهِي تَثْنِيَة مرماة وَقَالَ الْخَلِيل هِيَ مَا بَين ظلفي الشَّاة وَحَكَاهُ أَبُو عبيد وَقَالَ لَا أَدْرِي مَا وَجهه وَنَقله الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَته فِي كتاب الْأَحْكَام عَن الْفربرِي عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن البُخَارِيّ قَالَ المرماة بِكَسْر الْمِيم مثل منساة وميضاة مَا بَين ظلفي الشَّاة من اللَّحْم قَالَ عِيَاض فالميم على هَذَا أَصْلِيَّة وَقَالَ الْأَخْفَش المرماة لعبة كَانُوا يلعبونها بنصال محددة يَرْمُونَهَا فِي كوم من تُرَاب فَأَيهمْ أثبتها فِي الكوم غلب وَهِي المرماة والمدحاة وَحكى الْحَرْبِيّ عَن الْأَصْمَعِي أَن المرماة سهم الهدف وَقَالَ وَيُؤَيِّدهُ مَا حَدثنِي ثمَّ سَاق من طَرِيق أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ " لَو أَن أحدهم إِذا شهد الصَّلَاة معي كَانَ لَهُ عظم من شَاة سَمِينَة أَو سَهْمَان لفعل " وَقيل المرماة سهم يتَعَلَّم عَلَيْهِ الرَّمْي وَهُوَ سهم دَقِيق مستو غير محدد وَقَالَ أَبُو سعيد المرماتان فِي الحَدِيث سَهْمَان يَرْمِي بهما الرجل فيحرز سبقه يَقُول يسابق إِلَى إِحْرَاز الدُّنْيَا وسبقها ويدع سبق الْآخِرَة (فَإِن قلت) لم وصف الْعرق بالسمن والمرماة بالْحسنِ (قلت) ليَكُون الْبَاعِث النفساني فِي تحصيلهما وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الحسنتين بدل المرماتين إِذا أُرِيد بهَا الْعظم الَّذِي لَا لحم عَلَيْهِ وَإِن أُرِيد بهما السهْمَان الصغيران فالحسنتان بِمَعْنى الجيدتان صفة للمرماتين قَالَ والمضاف مَحْذُوف يَعْنِي فِي قَوْله " لشهد الْعشَاء " أَي صَلَاة الْعشَاء فَالْمَعْنى لَو علم أَنه لَو حضر الصَّلَاة لوجد نفعا دنيويا وَإِن كَانَ خسيسا حَقِيرًا لحضرها لقُصُور همته على الدُّنْيَا وَلَا يحضرها لما لَهَا من مثوبات العقبى وَنَعِيمهَا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ أَن جمَاعَة استدلوا بِهِ على أَن الْجَمَاعَة فرض عين وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح اخْتلف فِي صَلَاة الْجَمَاعَة هَل هِيَ شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة كَمَا قَالَ دَاوُد بن عَليّ وَأحمد بن حَنْبَل أَو فرض على الْأَعْيَان كَمَا قَالَه جمَاعَة من الْعلمَاء ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر وَهُوَ قَول عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَحْمد وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل أَنه قَول للشَّافِعِيّ وَعَن أَحْمد وَاجِبَة لَيست بِشَرْط وَقيل سنة مُؤَكدَة كَمَا قَالَه الْقَدُورِيّ وَفِي شرح الْهِدَايَة عَامَّة مَشَايِخنَا أَنَّهَا وَاجِبَة وَقد سَمَّاهَا بعض أَصْحَابنَا سنة مُؤَكدَة وَفِي الْمُفِيد الْجَمَاعَة وَاجِبَة وتسميتها سنة لوُجُوبهَا بِالسنةِ وَفِي الْبَدَائِع إِذا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَة لَا يجب عَلَيْهِ الطّلب فِي مَسْجِد آخر بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا لَكِن إِن أَتَى مَسْجِدا يَرْجُو إِدْرَاك الْجَمَاعَة فِيهِ فَحسن وَإِن صلى فِي مَسْجِد حيه فَحسن وَعَن الْقَدُورِيّ يجمع بأَهْله وَفِي التُّحْفَة إِنَّمَا تجب على من قدر عَلَيْهَا من غير(5/161)
حرج وَتسقط بالعذر فَلَا تجب على الْمَرِيض وَلَا على الْأَعْمَى والزمن وَنَحْوهم هَذَا إِذا لم يجد الْأَعْمَى والزمن من يحملهُ وَكَذَا إِذا وجدا عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يجب وَعَن شرف الْأَئِمَّة وَغَيره تَركهَا بِغَيْر عذر يُوجب التعذير وَيَأْثَم الْجِيرَان بِالسُّكُوتِ عَن تاركها وَعَن بَعضهم لَا تقبل شَهَادَته فَإِن اشْتغل بتكرار اللُّغَة لَا يعْذر فِي ترك الْجَمَاعَة وبتكرار الْفِقْه أَو مطالعته يعْذر فَإِن تَركهَا أهل نَاحيَة قوتلوا بِالسِّلَاحِ وَفِي الْقنية يشْتَغل بكرار الْفِقْه لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يحضر الْجَمَاعَة لَا يعْذر وَلَا نقبل شَهَادَته وَقَالَ أَبُو حنيفَة سَهَا أَو نَام أَو شغله عَن الْجَمَاعَة شغل جمع بأَهْله فِي منزله وَإِن صلى وَحده يجوز وَاخْتلف الْعلمَاء فِي إِقَامَتهَا فِي الْبَيْت وَالأَصَح أَنَّهَا كإقامتها فِي الْمَسْجِد وَفِي شرح خُوَاهَر زَاده هِيَ سنة مُؤَكدَة غَايَة التَّأْكِيد وَقيل فرض كِفَايَة وَهُوَ اخْتِيَار الطَّحَاوِيّ والكرخي وَغَيرهمَا وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الْمُخْتَار وَقيل سنة وَفِي الْجَوَاهِر عَن مَالك هِيَ سنة مُؤَكدَة وَقيل فرض كِفَايَة وَاسْتدلَّ من قَالَ بفرضية عينهَا بِحَدِيث الْبَاب وَقَالَ لَو كَانَت فرض كِفَايَة لَكَانَ قيام النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه بهَا كَافِيا وَلَو كَانَت سنة فتارك السّنة لَا يحرق عَلَيْهِ بَيته إِذْ سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يهم إِلَّا بِحَق وَيدل على وُجُوبهَا صَلَاة الْخَوْف إِذْ فِيهَا أَعمال مُنَافِيَة للصَّلَاة وَلَا يعْمل ذَلِك لأجل فرض كِفَايَة وَلَا سنة وَبِمَا فِي صَحِيح مُسلم " أَن أعمى قَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ لي قَائِد يقودني إِلَى الْمَسْجِد قَالَ هَل تسمع النداء قَالَ نعم قَالَ فأجب " وخرجه أَبُو عبد الله فِي مُسْتَدْركه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَبَّاس عَن ابْن أم مَكْتُوم " قلت يَا رَسُول الله إِن الْمَدِينَة كَثِيرَة الْهَوَام وَالسِّبَاع قَالَ تسمع حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح قَالَ نعم قَالَ فَحَيَّهَلا " وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد إِن كَانَ سمع عَن ابْن أم مَكْتُوم وَأخرجه من حَدِيث زَائِدَة عَن عَاصِم عَن أبي رزين عَن ابْن أم مَكْتُوم بِلَفْظ " إِنِّي كَبِير شاسع الدَّار لَيْسَ لي قَائِد يلازمني فَهَل تَجِد لي من رخصَة قَالَ تسمع النداء قلت نعم قَالَ مَا أجد لَك رخصَة " قَالَ الْحَاكِم وَله شَاهد بِإِسْنَاد صَحِيح فَذكر حَدِيث أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن حُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن شَدَّاد عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتقْبل النَّاس فِي صَلَاة الْعشَاء فَقَالَ " يَعْنِي ابْن أم مَكْتُوم " فَقَالَ لقد هَمَمْت أَن آتِي هَؤُلَاءِ الَّذين يتخلفون عَن هَذِه الصَّلَاة فَأحرق عَلَيْهِم بُيُوتهم قَالَ فَقلت يَا رَسُول الله لقد علمت مَا بِي " الحَدِيث وَعند أَحْمد " أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَسْجِد فَوجدَ فِي الْقَوْم رقة فَقَالَ إِنِّي لأهم أَن أجعَل للنَّاس إِمَامًا ثمَّ أخرج فَلَا أقدر على إِنْسَان يتَخَلَّف عَن الصَّلَاة فِي بَيته إِلَّا أحرقته عَلَيْهِ فَقَالَ ابْن أم مَكْتُوم يَا رَسُول الله إِن بيني وَبَين الْمَسْجِد نخلا وشجرا وَلَا أقدر على قَائِد كل سَاعَة أيسعني أَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي فَقَالَ أتسمع إِقَامَة الصَّلَاة قَالَ نعم قَالَ فَأْتِهَا " وأعل ابْن الْقطَّان حَدِيث ابْن أم مَكْتُوم فَقَالَ لِأَن الرَّاوِي عَنهُ أَبُو رزين وَابْن أبي ليلى فَأَما أَبُو رزين فَإنَّا لَا نعلم سنه وَلَكِن أكبر مَا عِنْده من الصَّحَابَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَابْن أم مَكْتُوم قتل بالقادسية زمن عمر رَضِي الله عَنهُ وَابْن أبي ليلى مولده لست بَقينَ من خلَافَة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْتهى قَالَ صَاحب التَّلْوِيح فِيهِ نظر من وُجُوه الأول أَن قَوْله أَبُو رزين لَا نعلم مولده غير جيد لِأَن ابْن حبَان ذكر أَنه كَانَ أكبر سنا من أبي وَائِل وَأَبُو وَائِل قد علم إِدْرَاكه لسيدنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلى هَذَا لَا تنكر رِوَايَته عَن ابْن أم مَكْتُوم الثَّانِي قَوْله أَعلَى مَا لَهُ الرِّوَايَة عَن عَليّ مَرْدُود بروايته الصَّحِيحَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الثَّالِث قَوْله مَاتَ ابْن أم مَكْتُوم بالقادسية مَرْدُود بقول ابْن حبَان فِي كتاب الصَّحَابَة شهد الْقَادِسِيَّة ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فَمَاتَ بهَا فِي خلَافَة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الرَّابِع قَوْله أَن سنّ ابْن أبي ليلى لَا يَقْتَضِي لَهُ السماع من عمر مَرْدُود بقول أبي حَاتِم الرَّازِيّ وَسَأَلَهُ ابْنه هَل يسمع عبد الرَّحْمَن من بِلَال فَقَالَ بِلَال خرج إِلَى الشَّام قَدِيما فِي خلَافَة عمر فَإِن كَانَ رَآهُ صَغِيرا فَهَذَا أَبُو حَاتِم لم يُنكر سَمَاعه من بِلَال الْمُتَوفَّى سنة سبع عشرَة أَو ثَمَان عشرَة بل جوزه فَكيف يُنكر من عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن شهَاب الْخياط عَن الْعَلَاء بن الْمسيب عَن ابْن أم مَكْتُوم " قلت يَا رَسُول الله إِن لي قائدا لَا يلازمني فِي هَاتين الصَّلَاتَيْنِ الْعشَاء وَالصُّبْح فَقَالَ لَو يعلم الْقَاعِدُونَ عَنْهُمَا مَا فيهمَا لأتوهما وَلَو حبوا " وَفِي الْأَوْسَط من حَدِيث الْبَزَّار " أَن ابْن أم مَكْتُوم شكى إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَأَلَهُ أَن يرخص لَهُ فِي صَلَاة الْعشَاء وَالْفَجْر وَقَالَ أَن بيني وَبَيْنك أشب " بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ كَثِيرَة الشّجر يُقَال بَلْدَة أشبة إِذا كَانَت ذَات شجر وَأَرَادَ هَهُنَا النّخل فَقَالَ هَل تسمع الْأَذَان قَالَ نعم مرّة أَو مرَّتَيْنِ فَلم يرخص لَهُ فِي ذَلِك وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث(5/162)
عدي بن ثَابت عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن كَعْب بن عجْرَة " جَاءَ رجل ضَرِير إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنِّي أسمع النداء فلعلي لَا أجد قائدا ويشق عَليّ أَن أَتَّخِذ مَسْجِدا فِي بَيْتِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيبلغك النداء قَالَ فَإِذا سَمِعت فأجب " وَقَالَ تفرد بِهِ زيد بن أبي أنيسَة عَن عبد الله بن مُغفل وَعند مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة " أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجل أعمى فَقَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ لي قَائِد يقودني إِلَى الْمَسْجِد فَسَأَلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يرخص لَهُ فَيصَلي فِي بَيته فَرخص لَهُ فَلَمَّا ولى دَعَاهُ فَقَالَ هَل تسمع النداء بِالصَّلَاةِ قَالَ نعم قَالَ فأجب " وَأخرجه السراج فِي مُسْنده من حَدِيث عَاصِم عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ أَتَى ابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى الحَدِيث وَبِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من يسمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ إِلَّا من عذر " خرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث سعيد بن جُبَير عَنهُ وَفسّر الْعذر فِي حَدِيث سلمَان بن قرم بِلَفْظ " من سمع النداء يُنَادى بِهِ صَحِيحا فَلم يَأْته من غير عذر لم يقبل الله لَهُ صَلَاة غَيرهَا قيل وَمَا الْعذر قَالَ الْمَرَض وَالْخَوْف " وَبِمَا رَوَاهُ ابْن ماجة من حَدِيث الدستوَائي عَن يحيى بن أبي كثير عَن الحكم بن مينا أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم سمعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول على أعواده " لينتهين أَقوام عَن ودعهم الْجَمَاعَة أَو ليختمن الله على قُلُوبهم " وَبِمَا رَوَاهُ ابْن ماجة أَيْضا من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم عَن الزبْرِقَان بن عَمْرو الضمرِي عَن أُسَامَة بن زيد قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لينتهين رجال على ترك الْجَمَاعَة أَو لأحرقن بُيُوتهم " وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو سعيد بن يُونُس فِي تَارِيخه من حَدِيث واهب بن عبد الله المغافري عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا " لأَنا على أمتِي فِي غير الْخمر أخوف عَلَيْهِم من الْخمر سُكْنى الْبَادِيَة وَترك الْمَسَاجِد " وَبِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط بِسَنَد جيد عَن أنس رَضِي الله عَنهُ " لَو أَن رجلا دَعَا النَّاس إِلَى عرق أَو مرماتين لأجابوه وهم يدعونَ إِلَى هَذِه الصَّلَاة فِي جمَاعَة فَلَا يؤتونها لقد هَمَمْت أَن آمُر رجلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي جمَاعَة فأضرمها عَلَيْهِم نَارا فَإِنَّهُ لَا يتَخَلَّف إِلَّا مُنَافِق " وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا " مَا من ثَلَاثَة فِي قَرْيَة وَلَا بَدو لَا تُقَام فيهم الصَّلَاة إِلَّا قد استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان فَعَلَيْك بِالْجَمَاعَة فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْب القاصية " وَبِمَا رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَرْفُوعا " من سمع النداء فَلم يجب فَلَا صَلَاة لَهُ إِلَّا من عذر " وَضَعفه وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الدكيني بِسَنَد صَحِيح يرفعهُ " من سمع النداء فَلم يجب من غير عذر فَلَا صَلَاة لَهُ " وَبِمَا رَوَاهُ الْكَجِّي فِي سنَنه عَن حَارِثَة بن النُّعْمَان يرفعهُ " يخرج الرجل فِي غنيمته فَلَا يشْهد الصَّلَاة حَتَّى يطبع على قلبه " فِي إِسْنَاده عمر مولى عفرَة وَعَن أبي زُرَارَة الْأنْصَارِيّ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من سمع النداء فَلم يجب كتب من الْمُنَافِقين " ذكره أَبُو يعلى أَحْمد بن عَليّ الْمثنى فِي مُسْنده بِسَنَد فِيهِ ضعف. وَبِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي شرح مُشكل الْآثَار عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا شَيْء لأمرت رجلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثمَّ لحرقت بُيُوتًا على مَا فِيهَا ". وَأما اسْتِدْلَال من قَالَ بِأَنَّهَا سنة أَو فرض كِفَايَة فِيمَا تقدم فِي هَذَا الْكتاب من الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا صَلَاة الْجَمَاعَة تفضل على صَلَاة الْفَذ لِأَن صِيغَة أفعل تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي الْفضل وترجيح أحد الْجَانِبَيْنِ وَمَا لَا يَصح لَا فضل فِيهِ وَلَا يجوز أَن يُقَال أَن أفضل قد يسْتَعْمل بِمَعْنى الْفَاضِل وَلَا يُقَال أَن ذَلِك مَحْمُول على صَلَاة الْمَعْذُور فَذا لِأَن الْفَذ مَعْرُوف بِالْألف وَاللَّام فَيُفِيد الْعُمُوم وَيدخل تَحْتَهُ كل فذ من مَعْذُور وَغَيره وَيدل أَيْضا أَنه أَرَادَ غير الْمَعْذُور بقوله " أَو فِي سوقه " لِأَن الْمَعْذُور لَا يروح إِلَى السُّوق وَأَيْضًا فَلَا يجوز أَن يحمل على الْمَعْذُور لِأَن الْمَعْذُور فِي أجر الصَّلَاة كَالصَّحِيحِ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " صَلَاة الرجل مَعَ الرجل أزكى من صلَاته وَحده وَصلَاته مَعَ رجلَيْنِ أزكى من صلَاته مَعَ رجل وَمَا كثر فَهُوَ أحب إِلَى الله عز وَجل " وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للَّذين صليا فِي رحالهما من غير جمَاعَة " إِذا صليتما فِي رحالكما ثمَّ أتيتما الْمَسْجِد فَصَليَا فَإِنَّهَا لَكمَا نَافِلَة " فَلَو كَانَت الْجَمَاعَة فرضا لأمرهما بِالْإِعَادَةِ وَمثل هَذَا جرى لمحجن الديلِي ذكره فِي الْمُوَطَّأ وَأما الْجَواب عَن حَدِيث الْبَاب فعلى أوجه. أَحدهمَا مَا قَالَه ابْن بطال وَهُوَ أَن الْجَمَاعَة لَو كَانَت فرضا لقَالَ حِين توعد بالإحراق من تخلف عَن الْجَمَاعَة لم تجزيه صلَاته لِأَنَّهُ وَقت الْبَيَان وَنظر فِيهِ ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ الْبَيَان قد يكون بالتنصيص وَقد يكون بِالدّلَالَةِ فَلَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لقد هَمَمْت " الخ دلّ على وجوب الْحُضُور وَهُوَ كَاف فِي الْبَيَان (قلت) لَيست فِيهِ دلَالَة(5/163)
من الدلالات الثَّلَاث الْمُطَابقَة والتضمن والالتزام وَلَا فِيهِ دلَالَة أصولية ففهم. الثَّانِي مَا قَالَه الْبَاجِيّ وَهُوَ أَن الْخَبَر ورد مورد الزّجر وَحَقِيقَته غير مُرَادة إِنَّمَا المُرَاد الْمُبَالغَة لِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على منع عُقُوبَة الْمُسلمين بذلك قيل أَن الْمَنْع وَقع بعد نسخ التعذيب بالنَّار وَكَانَ قبل ذَلِك جَائِزا فَحمل التهديد على حَقِيقَته غير مُمْتَنع. الثَّالِث مَا قَالَه ابْن بزيزة عَن بَعضهم أَنه استنبط من نفس الحَدِيث عدم الْوُجُوب لكَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هم بالتوجه إِلَى المتخلفين فَلَو كَانَت الْجَمَاعَة فرض عين مَا هم بِتَرْكِهَا إِذا توجه ثمَّ نظر فِيهِ ابْن بزيرة بِأَن الْوَاجِب يجوز تَركه لما هُوَ أوجب مِنْهُ. الرَّابِع مَا قيل أَن تَركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تحريقهم بعد التهديد يدل على عدم الْفَرْضِيَّة. الْخَامِس مَا قَالَه عِيَاض وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هم وَلم يفعل. السَّادِس مَا قَالَه النَّوَوِيّ وَهُوَ أَنَّهَا لَو كَانَت فرض عين لما تَركهم وَهَذَا أقرب من الأول. السَّابِع مَا قيل أَن المُرَاد بالتهديد قوم تركُوا الصَّلَاة رَأْسا لَا مُجَرّد الْجَمَاعَة ورد بِمَا رَوَاهُ مُسلم " لَا يشْهدُونَ الصَّلَاة " أَي لَا يحْضرُون وَفِي رِوَايَة عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة " لَا يشْهدُونَ الْعشَاء فِي الْجَمِيع " أَي فِي الْجَمَاعَة وَفِي حَدِيث أُسَامَة بن زيد عِنْد ابْن ماجة مَرْفُوعا " لينتهين رجال عَن تَركهم الْجَمَاعَات أَو لأحرقن بُيُوتهم ". الثَّامِن مَا قيل أَن الحَدِيث ورد فِي الْحَقِيقَة على مُخَالفَة أهل النِّفَاق والتحذير من التَّشَبُّه بهم. التَّاسِع أَنه ورد فِي حق الْمُنَافِقين فَلَيْسَ التهديد لترك الْجَمَاعَة بخصوصهم فَلَا يتم الدَّلِيل ورده بَعضهم بِأَنَّهُ يستبعد الاعتناء بتأديب الْمُنَافِقين على تَركهم الْجَمَاعَة مَعَ الْعلم بِأَنَّهُ لَا صَلَاة لَهُم وَبِأَنَّهُ كَانَ معرضًا عَنْهُم وَعَن عقوبتهم مَعَ علمه بطويتهم " وَقد قَالَ لَا يتحدث النَّاس بِأَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه " ورده ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ لَا يتم إِلَّا أَن ادّعى أَن ترك معاقبة الْمُنَافِقين كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ وَلَا دَلِيل على ذَلِك فَإِذا ثَبت أَنه كَانَ مخبرا فَلَيْسَ فِي إعراضه عَنْهُم مَا يدل على وجوب ترك عقوبتهم (قلت) قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْعشَاء وَالْفَجْر " يُوضح بِأَنَّهُ ورد فِي الْمُنَافِقين وَلَكِن المُرَاد بِهِ نفاق الْمعْصِيَة لَا نفاق الْكفْر بِدَلِيل قَوْله فِي رِوَايَة عجلَان " لَا يشْهدُونَ الْعشَاء فِي الْجَمِيع " وأوضح من ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " وَيصلونَ فِي بُيُوتهم وَلَيْسَ بهم عِلّة " فَهَذَا يدل على أَن نفاقهم نفاق مَعْصِيّة لَا نفاق كفر لِأَن الْكَافِر لَا يُصَلِّي فِي بَيته وَإِنَّمَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد رِيَاء وَسُمْعَة فَإِذا خلا فِي بَيته كَانَ كَمَا وَصفه الله تَعَالَى بِهِ من الْكفْر والاستهزاء نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ خُرُوج الْمُؤمن من هَذَا الْوَعيد لَيْسَ من جِهَة أَنهم إِذا سمعُوا النداء جَازَ لَهُم التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة بل إِن التَّخَلُّف لَيْسَ من شَأْنهمْ بل هُوَ من صِفَات الْمُنَافِقين وَيدل عَلَيْهِ قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لقد رَأَيْتنَا وَمَا يتَخَلَّف عَن الْجَمَاعَة إِلَّا مُنَافِق. الْعَاشِر مَا قيل أَن فَرضِيَّة الْجَمَاعَة كَانَ فِي أول الْإِسْلَام لأجل سد بَاب التَّخَلُّف عَن الصَّلَوَات على الْمُنَافِقين ثمَّ نسخ حَكَاهُ عِيَاض. الْحَادِي عشر مَا قيل أَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ الْجُمُعَة لَا بَاقِي الصَّلَوَات وَحسنه الْقُرْطُبِيّ ورد بالأحاديث الْوَارِدَة المصرحة بالعشاء. وَفِيه من الْفَوَائِد تَقْدِيم الْوَعيد والتهديد على الْعقُوبَة لِأَن الْمفْسدَة إِذا ارْتَفَعت بالأهون من الزّجر اكْتفى بِهِ عَن الْأَعْلَى بالعقوبة (قلت) يكون هَذَا من بَاب الدّفع بالأخف. وَفِيه جَوَاز الْعقُوبَة بِالْمَالِ بِحَسب الظَّاهِر وَاسْتدلَّ بِهِ قوم من الْقَائِلين بذلك من الْمَالِكِيَّة وعزى ذَلِك أَيْضا إِلَى مَالك وَأجَاب الْجُمْهُور عَنهُ بِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ. وَفِيه جَوَاز إِخْرَاج من طلب بِحَق من بَيته إِذا اختفى فِيهِ وَامْتنع بِكُل طَرِيق يتَوَصَّل إِلَيْهِ كَمَا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِخْرَاج المتخلفين عَن الصَّلَاة بإلقاء النَّار عَلَيْهِم فِي بُيُوتهم وَحكى الطَّحَاوِيّ فِي أدب القَاضِي الصَّغِير لَهُ أَن بَعضهم كَانَ يرى الهجوم على الْغَائِب وَبَعْضهمْ لَا يرى وَبَعْضهمْ يرى التسمير على الْأَبْوَاب وَبَعْضهمْ لَا يرَاهُ وَقَالَ بعض الْحُكَّام أَجْلِس رجلا على بَابه وَيمْنَع من الدُّخُول وَالْخُرُوج من منزله إِلَّا الطَّعَام وَالشرَاب فَإِنَّهُ لَا يمْنَع عَنْهُمَا ويضيق حَتَّى يخرج فَيحكم عَلَيْهِ قَالَ الْخصاف وَمن رأى الهجوم من أَصْحَابنَا على الْخصم فِي منزله إِذا تبين ذَلِك فَيكون ذَلِك بِالنسَاء والخدم وَالرِّجَال فَيقدم النِّسَاء فِي الدُّخُول ويفتش الدَّار ثمَّ يدْخل الْبَيْت الَّذِي فِيهِ النِّسَاء خَاصَّة فَإِذا وجد أخرج وَلَا يكون الهجم إِلَّا على غَفلَة من غير استئمار يدْخل النِّسَاء أَولا كَمَا قُلْنَا آنِفا. وَفِيه جَوَاز أَخذ أهل الجرائم على غرَّة. وَفِيه جَوَاز الْحلف من غير استحلاف كَمَا فِي حلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه جَوَاز التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة لعذر كالمرض وَالْخَوْف من ظَالِم أَو حَيَوَان وَمِنْه خوف فَوَات الْغَرِيم. وَفِيه جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل إِذا كَانَت فِيهِ مصلحَة وَاسْتدلَّ ابْن الْعَرَبِيّ مِنْهُ فِي شَيْئَيْنِ أَحدهمَا على جَوَاز اعدام مَحل الْمعْصِيَة كَمَا هُوَ(5/164)
مَذْهَب مَالك (قلت) وَبِذَلِك رُوِيَ عَن بعض أَصْحَابنَا وَادّعى الْجُمْهُور النّسخ فِيهِ كَمَا فِي الْعقُوبَة بِالْمَالِ وَالثَّانِي اسْتدلَّ بِهِ على مَشْرُوعِيَّة قتل تَارِك الصَّلَاة تهاونا بهَا وَفِيه نظر لَا يخفى وَالله تَعَالَى أعلم
30 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب فضل صَلَاة الْجَمَاعَة، لَا يُقَال: إِن بَين هَذِه التَّرْجَمَة وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله مُنَافَاة، لِأَن هَذِه فِي بَيَان الْفَضِيلَة وَتلك فِي بَيَان الْوُجُوب، لأَنا نقُول: كَون الشَّيْء متصفا بِالْوُجُوب لَا يُنَافِي اتصافه بالفضيلة.
وكانَ الأَسْوَدُ إذَا فاتَتْهُ الجَمَاعَةُ ذَهَبَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الْأسود بن يزِيد، التَّابِعِيّ الْكَبِير، كَانَ إِذا تفوته الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي مَسْجِد يذهب إِلَى مَسْجِد آخر ليُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَة، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَبُو بكر بن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه: (إِذا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَة فِي مَسْجِد قومه ذهب إِلَى مَسْجِد آخر) . وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن حُذَيْفَة وَسَعِيد بن جُبَير، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن الْكُوفِيّين وَمَالك إِن شَاءَ صلى فِي مَسْجده وَحده، وَإِن شَاءَ أَتَى مَسْجِدا آخر تطلب فِيهِ الْجَمَاعَة، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: إلاَّ أَن يكون فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَو فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يخرج مِنْهُ وَيُصلي فِيهِ وَحده، لِأَن الصَّلَاة فِي هذَيْن المسجدين أعظم أجرا مِمَّن صلى فِي جمَاعَة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا رَأينَا الْمُهَاجِرين يَبْتَغُونَ الْمَسَاجِد. وَفِي (مُخْتَصر ابْن شعْبَان) عَن مَالك: من صلى فِي جمَاعَة فَلَا يُعِيد فِي جمَاعَة إلاَّ فِي مَسْجِد مَكَّة وَالْمَدينَة.
وجاءَ أنَسٌ إلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وأقَامَ وصَلَّى جَمَاعةً
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة كَالَّتِي قبلهَا، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن الْجَعْد أبي عُثْمَان عَنهُ وَعَن هشيم أخبرنَا يُونُس بن عبيد حَدثنِي أَبُو عُثْمَان فَذكره، وَوَصله أَيْضا أَبُو يعلى فِي مُسْنده من طَرِيق الْجَعْد، قَالَ: مر بِنَا أنس بن مَالك ... فَذكر نَحوه، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي عبد الصَّمد الْعمي نَحوه، وَقَالَ: مَسْجِد بني رِفَاعَة. وَقَالَ: فجَاء أنس فِي نَحْو عشْرين من فتيانه. انْتهى. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْجَمَاعَة بعد الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد، فَروِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه صلى بعلقمة وَالْأسود فِي مَسْجِد قد جمع فِيهِ، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحسن فِي رِوَايَة، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَشْهَب عملا بِظَاهِر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة الْجَمَاعَة تفضل على صَلَاة الْفَذ) الحَدِيث. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يجمع فِي مَسْجِد جمع فِيهِ مرَّتَيْنِ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سَالم وَالقَاسِم وَأبي قلَابَة، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَابْن الْمُبَارك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا كره ذَلِك خشيَة افْتِرَاق الْكَلِمَة وَأَن أهل الْبدع يتطرقون إِلَى مُخَالفَة الْجَمَاعَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا كَانَ الْمَسْجِد على طَرِيق الإِمَام لَهُ أَن يجمع فِيهِ قوم بعد قوم، وَحَاصِل مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه: لَا يكره فِي الْمَسْجِد المطروق، وَكَذَا غَيره إِن بعد مَكَان الإِمَام وَلم يخف فِيهِ.
645 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً. (الحَدِيث 645 طرفه فِي: 649) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَفِيه: بَين مَالك وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان.
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة، وَلَفظ مُسلم: (صَلَاة الرجل فِي الْجَمَاعَة تزيد على صلَاته وَحده) ، رَوَاهُ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع.
قَوْله: (صَلَاة الْفَرد) وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، (صَلَاة الْفَذ) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: الْمُنْفَرد. يُقَال: فذ الرجل من أَصْحَابه إِذا بَقِي وَحده، وَقد استقصينا الْكَلَام فِي لفظ: سبع وَعشْرين دَرَجَة، فِي: بَاب الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق فِيمَا مضى.(5/165)
646 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ الهادِ عنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيِّ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَاللَّيْث بن سعد، وَيزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، وَعبد الله بن خباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ، وَلَيْسَ هُوَ بِابْن الْخَبَّاب بن الْأَرَت صَاحب رَسُول الله، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني، وَهَذَا الحَدِيث سَاقِط فِي بعض النّسخ ثَابت فِي الْأَطْرَاف لأبي مَسْعُود وَخلف. قلت: هُوَ سَاقِط فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وثابت فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَذكره أَبُو نعيم هُنَا بعد حَدِيث ابْن عمر، وَذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي أول الْبَاب الَّذِي قبله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تفضل صَلَاة الْفَذ) كَذَا هُوَ فِي عَامَّة نسخ البُخَارِيّ، وَعَزاهُ ابْن الْأَثِير إِلَيْهِ فِي (شرح الْمسند) بِلَفْظ: (على صَلَاة الْفَذ) ، ثمَّ أَولهَا: بِأَن تفضل لما كَانَت بِمَعْنى: تزيد، وَهِي تتعدى: بعلى، أَعْطَاهَا مَعْنَاهَا فعداها بهَا، وإلاَّ فَهِيَ متعدية بِنَفسِهَا. قَالَ: وَأما الَّذِي فِي مُسلم: أفضل من صَلَاة الْفَذ، فجَاء بهَا بِلَفْظ: أفعل، الَّتِي هِيَ للتفضيل، والتكثير فِي الْمَعْنى الْمُشْتَرك، وَهِي أبلغ من: تفضل، على مَا لَا يخفى. وَقد ذكرنَا أَن: الْفَذ، هُوَ: الْمُنْفَرد، ولغة عبد الْقَيْس: الفنذ، بالنُّون وَهِي: غنة، لَا نون حَقِيقَة. قَوْله: (بِخمْس وَعشْرين) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (خمْسا وَعشْرين) ، زَاد ابْن حبَان وَأَبُو دَاوُد من وَجه آخر عَن أبي سعيد: (فَإِذا صلاهَا فِي فلاة فَأَتمَّ ركوعها وسجودها بلغت خمسين صَلَاة) . أَي: بلغت صلَاته خمسين صَلَاة. وَالْمعْنَى: يحصل لَهُ أجر خمسين صَلَاة، وَذَلِكَ يحصل لَهُ فِي الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة، لِأَن الْجَمَاعَة لَا تتأكد فِي حق الْمُسَافِر لوُجُود الْمَشَقَّة، فَإِذا صلاهَا مُنْفَردا لَا يحصل لَهُ هَذَا التَّضْعِيف، وَإِنَّمَا يحصل لَهُ إِذا صلاهَا مَعَ الْجَمَاعَة خَمْسَة وَعِشْرُونَ لأجل أَنه صلاهَا مَعَ الْجَمَاعَة، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ أُخْرَى للَّتِي هِيَ ضعف تِلْكَ لأجل أَنه أتم رُكُوع صلَاته وسجودها، وَهُوَ فِي السّفر الَّذِي هُوَ مَظَنَّة التَّخْفِيف، فَمن أمعن نظره فِيهِ علم أَن الْإِشْكَال الَّذِي أوردهُ بَعضهم فِيهِ من لُزُوم زِيَادَة ثَوَاب الْمَنْدُوب على الْوَاجِب غير وَارِد.
647 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الواحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يقولُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الجَماعَةِ تُضَعِّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسا وعِشْرِينَ ضَعْفا وذَلِكَ أنَّهُ إذَا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى المَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إلاَّ الصَّلاَةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةَ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فإذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ.
هَذَا الحَدِيث عَن أبي مَسْعُود، مضى فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق، غير أَن هُنَاكَ أخرجه: عَن مُسَدّد عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَهَهُنَا: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان، وَاللَّفْظ: هُنَاكَ: (صَلَاة الْجمع تزيد على صلَاته فِي بَيته وَصلَاته فِي سوقه خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، فَإِن أحدكُم إِذا تَوَضَّأ فَأحْسن وأتى الْمَسْجِد لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة لم يخط خطْوَة إلاَّ رَفعه الله بهَا دَرَجَة، أَو حط عَنهُ بهَا(5/166)
خَطِيئَة حَتَّى دخل الْمَسْجِد، وَإِذا دخل الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة مَا كَانَت الصَّلَاة تحبسه، وَتصلي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ؛ اللَّهُمَّ ارحمه مَا لم يؤذ يحدث فِيهِ) . وَقد ذكرنَا هُنَاكَ من أخرجه غَيره، وَمَعْنَاهُ وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ مستقصىً، وَذكرنَا أَيْضا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ، والتوفيق بَينهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِعَادَة إلاَّ فِي بعض الْمَوَاضِع، كَمَا نذكرهُ الأن.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَقَوله: يَقُول: فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحل النصب على الْحَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي الْجَمَاعَة) وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني: (فِي جمَاعَة) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام. قَوْله: (تضعف) أَي: تزداد، والتضعيف أَن يُزَاد على أصل الشَّيْء فَيجْعَل بمثلين أَو أَكثر، والضعف بِالْكَسْرِ الْمثل قَوْله: (خَمْسَة وَعشْرين ضعفا) ، كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، ويروى (خمْسا وَعشْرين) ، ووجهها أَن يؤول الضعْف بالدرجة أَو بِالصَّلَاةِ، تَوْضِيحه أَن: ضعفا، مُمَيّز مُذَكّر فَتجب التَّاء فَقيل بالتأويل الْمَذْكُور، وَالْأَحْسَن أَن يَقُول: إِن وجوب التَّاء فِيمَا إِذا كَانَ الْمُمَيز مَذْكُورا، وَإِذا لم يكن مَذْكُورا يَسْتَوِي فِيهِ التَّاء وَعدمهَا، وَهَهُنَا مُمَيّز الْخمس غير مَذْكُور فَجَاز الْأَمْرَانِ فَإِن قلت: يَقْتَضِي قَوْله: (فِي بَيته وَفِي سوقه) أَن الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد جمَاعَة تزيد على الصَّلَاة فِي الْبَيْت، وَفِي السُّوق، سَوَاء كَانَت جمَاعَة أَو فُرَادَى، وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: هَذَا خَارج مخرج الْغَالِب، لِأَن من لم يحضر الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد يُصَلِّي مُنْفَردا فِي بَيته أَو سوقه، وَأما الَّذِي يُصَلِّي فِي بَيته جمَاعَة فَلهُ الْفضل فِيهَا على صلَاته مُنْفَردا بِلَا نزاع. قَوْله: (وَذَلِكَ) ، إِشَارَة إِلَى التَّضْعِيف الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (تضعف) : يَعْنِي: التَّضْعِيف الْمَذْكُور سَببه أَنه إِذا تَوَضَّأ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا يُخرجهُ) من الْإِخْرَاج. قَوْله: (إلاَّ الصَّلَاة) أَي: قصد الصَّلَاة فِي جمَاعَة. قَوْله: (لم يخط) ، بِفَتْح الْيَاء وَضم الطَّاء. قَوْله: (خطْوَة) ، يجوز فِيهِ ضم الْخَاء وَفتحهَا، وَجزم الْيَعْمرِي بِأَنَّهَا هَهُنَا بِالْفَتْح. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّهَا فِي رِوَايَات مُسلم بِالضَّمِّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخطوة، بِالضَّمِّ: مَا بَين الْقَدَمَيْنِ. وبالفتح: الْمرة الْوَاحِدَة. قَوْله: (فَإِذا صلى) المُرَاد بِهِ: فَإِذا صلى الصَّلَاة التَّامَّة ليستحق هَذِه الْفَضَائِل. قَوْله: (مُصَلَّاهُ) ، بِضَم الْمِيم: الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ. وَهَذَا خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فَلَو قَامَ فِي بقْعَة أُخْرَى من الْمَسْجِد مستمرا على نِيَّة انْتِظَار الصَّلَاة كَانَ كَذَلِك. قَوْله: (اللَّهُمَّ ارحمه) ، أَي: لم تزل الْمَلَائِكَة يصلونَ عَلَيْهِ حَال كَونهم قائلين: يَا الله إرحمه. وَزَاد ابْن مَاجَه: (اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من ذَلِك: الدّلَالَة على أَفضَلِيَّة الصَّلَاة على غَيرهَا من الْأَعْمَال، لِأَن فِيهَا صَلَاة الْمَلَائِكَة على فاعلها ودعاءهم لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة وَالتَّوْبَة. وَمِنْه: الدّلَالَة على تَفْضِيل صالحي النَّاس على الْمَلَائِكَة لأَنهم يكونُونَ فِي تَحْصِيل الدَّرَجَات بعبادتهم، وَالْمَلَائِكَة يشتغلون بالاستغفار وَالدُّعَاء لَهُم. كَذَا قيل قلت: هَذَا لَيْسَ على إِطْلَاقه، فَإِن خَواص بني آدم، وهم الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، أفضل من الْمَلَائِكَة، وعوامهم أفضل من عوام الْمَلَائِكَة، وخواص الْمَلَائِكَة أفضل من عوام بني آدم. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الْجَمَاعَة لَيست شرطا لصِحَّة الصَّلَاة، لِأَن قَوْله على صلَاته وَحده، يدل على صِحَة صلَاته مُنْفَردا لاقْتِضَاء صِيغَة: أفعل التَّفْضِيل، الِاشْتِرَاك فِي أصل التَّفَاضُل، فَذَلِك يَقْتَضِي وجود الْفَضِيلَة فِي صَلَاة الْمُنْفَرد، لِأَن مَا لَا يَصح من الصَّلَاة لَا فَضِيلَة فِيهِ. وَفِيه: رد على دَاوُد وَمن تبعه فِي اشتراطهم الْجَمَاعَة فِي صِحَة الصَّلَاة.
31 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، إِنَّمَا ذكر هَذِه التَّرْجَمَة مُقَيّدَة وَذكر التَّرْجَمَة الَّتِي قبلهَا مُطلقَة إِشَارَة إِلَى زِيَادَة خُصُوصِيَّة الْفجْر بالفضيلة.
648 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وَأَبُو سَلمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تَفْضُلُ صَلاَةُ الجَمِيعِ صَلاَةَ أحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءا وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ الليْلِ(5/167)
وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ فاقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودا. .
قَالَ شُعَيْبٌ وحدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا تَكْمِلَة الحَدِيث بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً (انْظُر الحَدِيث 645) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار) ، فَإِنَّهُ يدل على مزية لصَلَاة الْفجْر على غَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف أسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تفضل) أَي: تزيد صَلَاة الْجَمِيع الْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى فِي: لَا، بِمَعْنى اللَّام. فَافْهَم. قَوْله: (بِخَمْسَة وَعشْرين جزأ) ، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة نسخ البُخَارِيّ. وَقيل: وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ: (خمس وَعشْرين) ، بِدُونِ الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِدُون الْهَاء فِي آخِره، وَأول بِأَن لفظ: خمس، مجرور بِنَزْع الْخَافِض وَهُوَ: الْبَاء، كَمَا وَقع فِي نَظِيره فِي قَول الشَّاعِر:
(أشارت كُلَيْب بالأكف الْأَصَابِع)
وَتَقْدِيره: إِلَى كُلَيْب. وَأما حذف الْهَاء فعلى تَأْوِيل الْجُزْء بالدرجة. قلت: وَأما لِأَن الْمُمَيز غير مَذْكُور، وَهَهُنَا مُمَيّز: خمس، غير مَذْكُور. قَوْله: (وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل) إِلَى آخِره، وَهُوَ الْمُوجب لتفضيل صَلَاة الْفجْر مَعَ الْجَمَاعَة، وَكَذَا فِي صَلَاة الْعَصْر أَيْضا،، فَلذَلِك حث الشَّارِع على الْمُحَافظَة عَلَيْهِمَا ليَكُون من حضرهما ترفع الْمَلَائِكَة عمله وَتشفع لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: وَيُمكن أَن يكون اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة فيهمَا هما الدرجتان الزائدتان على الْخَمْسَة وَالْعِشْرين جزأ فِي سَائِر الصَّلَوَات الَّتِي لَا تَجْتَمِع الْمَلَائِكَة فِيهَا. قَوْله: (قُرْآن الْفجْر) ، كِنَايَة عَن صَلَاة الْفجْر، لِأَن الصَّلَاة مستلزمة لِلْقُرْآنِ. قَوْله: (مشهودا) أَي: محضورا فِيهِ. قَوْله: (قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، وَقَالَ: يحْتَمل أَن يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد الأول فتقديره: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب، وَأَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ. وَقَالَ بَعضهم: وحَدثني نَافِع، أَي: بِالْحَدِيثِ مَرْفُوعا نَحوه إلاَّ أَنه قَالَ: (بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) ، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة مَالك وَغَيره من نَافِع، وَطَرِيق شُعَيْب هَذِه مَوْصُولَة، وَجوز الْكرْمَانِي أَن تكون معلقَة وَهُوَ بعيد، بل هِيَ معطوفة على الاسناد الاول وَالتَّقْدِير حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ شُعَيْب انْتهى (قلت) استبعاده قَول الْكرْمَانِي بعيد لِأَنَّهُ مَا حكم بِالْجَزْمِ بل بِالِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ بِحَسب الظَّاهِر، بل الْقَرِيب مَا ذكره ويقويه أَن طَرِيق شُعَيْب هَذِه لم تَرَ إلاَّ عِنْد البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل: لم يستخرجها الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَا أَبُو نعيم وَلَا أوردهَا الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين فِي تَرْجَمَة شُعَيْب.
650 - حدَّثنا حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأَعْمشُ قَالَ سَمِعْتُ سالِما قَالَ سَمِعْتُ أم الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أبُو الدَّرْدَاءِ وَهْوَ مُغْضَبٌ فَقلْتُ مَا أغْضَبَكَ فَقَالَ وَالله مَا أعْرِفُ مِنْ أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا إلاَّ أنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَعمال الَّذين يصلونَ بِالْجَمَاعَة قد وَقع فِيهَا النَّقْص والتغيير مَا خلا صلَاتهم بِالْجَمَاعَة، وَلم يَقع فِيهَا شَيْء من ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن فضل الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي الْفجْر، وَالَّذِي يفهم من هَذَا الحَدِيث أَعم من ذَلِك، فَكيف يكون التطابق؟ قلت: إِذا طابق جُزْء من الحَدِيث التَّرْجَمَة يَكْفِي، وَمثل هَذَا وَقع لَهُ كثيرا فِي هَذَا الْكتاب.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عمر بن حَفْص النَّخعِيّ الْكُوفِي. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: سَالم بن أبي الْجَعْد. الْخَامِس: أم الدَّرْدَاء، الَّتِي اسْمهَا: هجيمة، وَهِي أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى التابعية، لَا الْكُبْرَى الَّتِي اسْمهَا: خيرة، وَهِي الصحابية. وَإِنَّمَا قُلْنَا كَذَلِك لِأَن الْكُبْرَى مَاتَت فِي حَيَاة أبي الدَّرْدَاء، وَعَاشَتْ الصُّغْرَى بعده بِزَمَان طَوِيل، وَقد جزم أَبُو حَاتِم بِأَن سَالم بن أبي الْجَعْد لم يدْرك أَبَا الدَّرْدَاء، فعلى هَذَا لم يدْرك أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أم الدَّرْدَاء هِيَ: خيرة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت أبي حَدْرَد الأسْلَمِيَّة، من فاضلات الصحابيات وعاقلاتهن وعابداتهن، مَاتَت بِالشَّام فِي خلَافَة عُثْمَان.(5/168)
قلت: هَذَا سَهْو مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ. السَّادِس: أَبُو الدَّرْدَاء، واسْمه: عُوَيْمِر بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: التَّابِعِيّ عَن التابعية. وَفِيه: أَن رُوَاته الْأَرْبَعَة كوفيون.
وَهَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مغضب) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة. قَوْله: (مَا أعرف من أمة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (من مُحَمَّد) بِدُونِ لَفْظَة: أمة، وَعَلِيهِ شرح ابْن بطال وَمن تبعه، فَقَالَ: يُرِيد من شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يتَغَيَّر عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلاَّ الصَّلَاة فِي جمَاعَة، فَحذف الْمُضَاف إِلَيْهِ لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (من أَمر مُحَمَّد) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره رَاء، وَكَذَا سَاقه الْحميدِي فِي (جمعه) ، وَكَذَا هُوَ فِي (مُسْند أَحْمد) و (مستخرجي الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم) : من طرق عَن الْأَعْمَش، وَعِنْدهم بِلَفْظ: (مَا أعرف فيهم) ، أَي: فِي أهل الْبَلَد الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبُو الدَّرْدَاء قيل: كَانَ لفظ: فيهم، لما حذف من رِوَايَة البُخَارِيّ صحف بعض النقلَة لفظ: أَمر، بِلَفْظَة: أمة، ليعود الضَّمِير فِي: أَنهم، على الْأمة. قلت: لَا مَحْذُور فِي كَون لَفْظَة: امة، بل الظَّاهِر هَذَا على مَا لَا يخفى. قَوْله: (يصلونَ جَمِيعًا) ، أَي: مُجْتَمعين، وانتصابه على الْحَال، ومفعول: يصلونَ، مَحْذُوف تَقْدِيره، يصلونَ الصَّلَاة أَو الصَّلَوَات.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز الْغَضَب عِنْد تغير شَيْء من أُمُور الدّين، وَجَوَاز إِنْكَار الْمُنكر بِالْغَضَبِ إِذا لم يسْتَطع أَكثر من ذَلِك.
651 - حدَّثنا مُحَمَّد بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بنِ عبْدِ الله عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْظَمُ النَّاسِ أجْرا فِي الصَّلاةِ أبْعَدُهُمْ فأبْعَدُهُمْ مَمْشًى والَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإِمَام أعْظَمُ أجْرا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (أعظم النَّاس أجرا فِي الصَّلَاة أبعدهم، فأبعدهم ممشى) ، بَيَان ذَلِك أَنه بَين فِيهِ أَن سَبَب أعظمية الْأجر فِي الصَّلَاة هُوَ: بعد الممشى، وَهُوَ الْمسَافَة، وَذَلِكَ لوُجُود الْمَشَقَّة فِيهِ. وَقد علم أَن أفضل الْأَعْمَال أحمزها، فَكل صَلَاة تُوجد فِيهَا الْمَشَقَّة من حَيْثُ بعد الممشى فَهِيَ أعظم أجرا وَأفضل من الصَّلَاة الَّتِي لَا يُوجد فِيهَا ذَلِك، فينتج من ذَلِك أَن صَلَاة الْفجْر إِذا كَانَ فِيهَا بُعْد الممشى مَعَ كَونه عقيب النّوم الَّذِي فِيهِ رَاحَة للبدن، مَعَ مصادفة الظلمَة أَحْيَانًا تكون أعظم أجرا وَأفضل من غَيرهَا، فبهذه الْحَيْثِيَّة طابق هَذَا الحَدِيث التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: تشاركها الْعشَاء فِي ذَلِك مَعَ دلَالَة آخر الحَدِيث على ذَلِك؟ قلت: نعم تشاركها فِي وجود تِلْكَ الْمَشَقَّة، وَلَا تشاركها فِي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا تشاركها مُطلقًا فَلَا يضر ذَلِك، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ مُطَابقَة مَا بَين الحَدِيث والترجمة، وَهِي مَوْجُودَة بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَهَذَا الْقدر فِيهِ الْكِفَايَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى مَا أَكْثَره بعض الشُّرَّاح من كَلَام فِيهِ مَا فِيهِ من حرارة فِي الْقلب من الْحَسَد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فيي: بَاب من علم، لَكِن ذكر أَبُو أُسَامَة ثمَّة باسمه حَمَّاد، وَهَهُنَا بكنيته، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو بردة اسْمه: عَامر، وَقيل: الْحَارِث، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى واسْمه: عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجرا) نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (أبعدهم) بِالرَّفْع خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي. قَوْله: (أعظم النَّاس) . قَوْله: (فأبعدهم) ، الْفَاء فِيهِ للاستمرار، كَمَا فِي قَوْلهم الأمثل فالأمثل، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت: لم يذكر أحد من النُّحَاة أَن الْفَاء تَجِيء بِمَعْنى الِاسْتِمْرَار، وَلَكِن يُمكن أَن تكون الْفَاء هَهُنَا للتَّرْتِيب مَعَ تفَاوت من بعض الْوُجُوه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: للفاء مَعَ الصِّفَات ثَلَاثَة أَحْوَال: أَحدهَا: أَن تدل على تَرْتِيب مَعَانِيهَا فِي الْوُجُود كَقَوْلِه:
(يَا لهف زيابة لِلْحَارِثِ الصابح ... فالغانم فالآيب)
أَي: الَّذِي صبح فغنم فآب. وَالثَّانِي: تدل على ترتيبها فِي التَّفَاوُت من بعض الْوُجُوه، نَحْو قَوْلك: خُذ الْأَكْمَل فَالْأَفْضَل، واعمل الْأَحْسَن فالأجمل. وَالثَّالِث: أَن تدل على تَرْتِيب موصوفاتها فِي ذَلِك، نَحْو: رحم الله المحلقين(5/169)
فالمقصرين. وَقيل: تقع الْفَاء تَارَة بِمَعْنى: ثمَّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 140) . فالفا آتٍ فِيهَا بِمَعْنى: ثمَّ، لتراخي معطوفاتها، فعلى هَذَا يجوز أَن تكون الْفَاء هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، بِمَعْنى أبعدهم ثمَّ أبعدهم. قَوْله: (ممشى) ، بِفَتْح الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة اسْم مَكَان، وَهُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَالْمعْنَى: أبعدهم مَسَافَة إِلَى الْمَسْجِد. قَوْله: (من الَّذِي يُصَلِّي) أَعم من أَن يكون مَعَ جمَاعَة أَو وَحده. قَوْله: (ثمَّ ينَام) قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: هَذَا التَّفْضِيل أَمر ظَاهر ضَرُورِيّ، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: مَعْنَاهُ أَن الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام آخر الْوَقْت أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا فِي وَقت الِاخْتِيَار وَحده، أَو: الَّذِي ينتظرها حَتَّى يُصليهَا مَعَ الإِمَام أعظم أجرا من الَّذِي يُصليهَا أَيْضا مَعَ الإِمَام بِدُونِ انْتِظَار، أَي: كَمَا أَن بعد الْمَكَان مُؤثر فِي زِيَادَة الْأجر كَذَلِك طول الزَّمَان، لِأَنَّهُمَا يتضمنان لزِيَادَة الْمَشَقَّة الْوَاقِعَة مُقَدّمَة للْجَمَاعَة قلت: قد علم أَن السَّبَب فِي تَحْصِيل هَذَا الْأجر الْعَظِيم انْتِظَار الصَّلَاة وإقامتها مَعَ الإِمَام، فَإِن وجد أَحدهمَا دون الْأُخَر فَلَا يحصل لَهُ ذَلِك، وَيعلم من هَذَا أَيْضا أَن تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقت الِاخْتِيَار لَا يَخْلُو عَن أجر كَمَا فِي تَأْخِير الظّهْر إِلَى أَن) يبرد الْوَقْت عِنْد اشتداد الْحر، وَتَأْخِير الْعَصْر إِلَى مَا قبل تغير قرص الشَّمْس، وَتَأْخِير الْعشَاء إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل، وَتَأْخِير الصُّبْح إِلَى وَقت الْإِسْفَار. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: فَمَا فَائِدَة: ثمَّ ينَام؟ قلت: أَشَارَ إِلَى الاسْتِرَاحَة الْمُقَابلَة للْمَشَقَّة الَّتِي فِي ضمن الِانْتِظَار.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الدّلَالَة على فضل الْمَسْجِد الْبعيد لأجل كَثْرَة الخطا، وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله.
32 - (بابُ فَضْلِ التَّهْجِيرِ إلَى الظُّهْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل التهجير إِلَى صَلَاة الظّهْر. التهجير: التبكير إِلَى كل شَيْء والمبادرة إِلَيْهِ، يُقَال: هجر يهجر تهجيرا فَهُوَ مهجر، وَهِي لُغَة قَليلَة حجازية، أَرَادَ الْمُبَادرَة إِلَى أول وَقت الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى الظّهْر مَعَ أَن لفظ التهجير يُغني عَنهُ لزِيَادَة التَّأْكِيد، وَعَامة نسخ البُخَارِيّ: بَاب فضل التهجير إِلَى الظّهْر. وَعَلِيهِ شرح ابْن التِّين وَغَيره، وَفِي بَعْضهَا: بَاب فضل التهجير إِلَى الصَّلَاة، وَعَلِيهِ شرح ابْن بطال، وَهَذِه النُّسْخَة أَعم وأشمل.
652 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالكٍ عنْ سُمَيّ مَوْلَى أبي بَكْرٍ عنْ أبي صالْحٍ السَّمَّانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسْولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. ثمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسٌ المَطْعُونُ والمَبْطُونُ والغَرِيقُ وصَاحِبُ الهدْمِ والشَّهِيدُ فِي سبِيلِ الله. وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ االنَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلاَّ أنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ. وَلَوْ يَعْلَمُون مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إلَيْهِ. ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا حَبْوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو يعلمُونَ مَا فِي التهجير لاستبقوا إِلَيْهِ) وَهَذَا الْمَتْن، الَّذِي ذكره مُشْتَمل على خَمْسَة أَحَادِيث: الأول: الَّذِي أَخذ الْغُصْن. الثَّانِي: الشُّهَدَاء، الثَّالِث: الاستهام. الرَّابِع: التهجير. الْخَامِس: الحبو، وَلم يفرق البُخَارِيّ بَينهَا كعادته لأجل التراجم، لِأَن قُتَيْبَة حدث بِهِ عَن مَالك هَكَذَا مجموعا.
ذكر رجال: وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَسُمَيّ، بِضَم السِّين مُهْملَة وَفتح الْمِيم: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة القريشي المَخْزُومِي الْمدنِي، وَأَبُو صَالح اسْمه: ذكْوَان، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَكَانَ يجلب السّمن وَالزَّيْت إِلَى الْكُوفَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا قُتَيْبَة بن سعيد، فَإِنَّهُ بغلاني، بغلان بَلخ من خُرَاسَان.(5/170)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ قَوْله: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء) إِلَى آخِره فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عتبَة بن عبد الله وقتيبة فرقهما، وَعَن الْحَارِث ابْن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، سبعتهم عَن مَالك بِهِ، وَأخرج قَوْله: (بَيْنَمَا رجل يمشي فِي طَرِيق) الحَدِيث فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب وَفِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا رجل) ، قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين، فاشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وزيدت فِيهِ الْمِيم، فَصَارَت: بَيْنَمَا. وَيُقَال: بَينا، بِدُونِ الْمِيم، أَيْضا، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والمبتدأ هُنَا قَوْله: (رجل) خصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (يمشي) وَخَبره قَوْله (وجد) قَوْله (فَأَخذه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (فَأَخَّرَهُ) عَن طَرِيق قَوْله (فَشكر الله لَهُ) ، مَعْنَاهُ: تقبل الله مِنْهُ وَأثْنى عَلَيْهِ، يُقَال: شكرته وشكرت لَهُ بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (الشُّهَدَاء) جمع: شَهِيد، سمي بِهِ لِأَن الْمَلَائِكَة يشْهدُونَ مَوته، فَكَانَ مشهودا. وَقيل: مشهود لَهُ بِالْجنَّةِ، فعلى هَذَا يكون الشَّهِيد على وزن: فعيل، بِمَعْنى: مفعول، وَقيل: لِأَنَّهُ حَيّ عِنْد الله حَاضر يشْهد حَضْرَة الْقُدس ويحضرها، وَقيل: لِأَنَّهُ شهد مَا أعد الله لَهُ من الكرامات. وَقيل: لِأَنَّهُ مِمَّن يستشهد مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْقِيَامَة على سَائِر الْأُمَم المكذبين، فعلى هَذِه الْمعَانِي يكون: الشَّهِيد، بِمَعْنى: شَاهد. قَوْله: (خمس) ، بِدُونِ التَّاء، هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: خَمْسَة، بِالتَّاءِ، وَهَذَا هُوَ الأَصْل. وَلَكِن إِذا كَانَ الْمُمَيز غير مَذْكُور جَازَ الْأَمْرَانِ، وَفِي رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : (الشُّهَدَاء سَبْعَة) ، وَنقص: الشَّهِيد فِي سَبِيل الله، وَزَاد: صَاحب ذَات الْجنب والحريق، وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع، أَي: الَّتِي تَمُوت وَوَلدهَا فِي بَطنهَا. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، من حَدِيث جَابر بن عتِيك مَرْفُوعا: (الشَّهَادَة سَبْعَة سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله: المطعون والغريق وَصَاحب الْجنب والمبطون وَصَاحب الْحَرِيق وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع) . وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه، من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (موت الْغَرِيب شَهَادَة) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وروى سُوَيْد بن سعيد الحدثاني عَن عَليّ بن مسْهر عَن أبي يحيى القَتَّات، عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عشق فعف وكتمه ثمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيدا) . وَقد أنكرهُ على سُوَيْد الْأَئِمَّة، قَالَه ابْن عدي فِي كَامِله، وَكَذَا أنكرهُ الْبَيْهَقِيّ وَابْن طَاهِر، وَقَالَ ابْن حبَان: من روى مثل هَذَا عَن عَليّ بن مسْهر تجب مجانبة رِوَايَته، وسُويد بن سعيد هَذَا وَإِن كَانَ مُسلم أخرج لَهُ فِي صَحِيحه فقد اعتذر مُسلم عَن ذَلِك، وَقَالَ: إِنَّه لم يَأْخُذ عَنهُ إلاَّ مَا كَانَ عَالِيا وتوبع عَلَيْهِ، وَلأَجل هَذَا أعرض عَن مثل هَذَا الحَدِيث، وَذكر ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عَبَّاس فِي تعداد الشُّهَدَاء: الشريق وَمَا أكله السَّبع. فَإِن قلت: الشُّهَدَاء فِي الصَّحِيح: خَمْسَة، وَفِي رِوَايَة مَالك: سَبْعَة، وَمَعَ رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن ابْن عَبَّاس تكون: ثَمَانِيَة، وَمَعَ رِوَايَة سُوَيْد بن غَفلَة عَن بن عَبَّاس: تِسْعَة، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَنهُ يكون أحد عشر؟ قلت: لَا تنَاقض بَينهَا لِأَن الِاخْتِلَاف فِي الْعدَد بِحَسب اخْتِلَاف الْوَحْي على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (المطعون) : هُوَ، الَّذِي يَمُوت فِي الطَّاعُون، أَي: الوباء، وَلم يرد المطعون بِالسِّنَانِ، لِأَنَّهُ الشَّهِيد فِي سَبِيل الله، والطاعون مرض عَام فَيفْسد لَهُ الْهَوَاء فتفسد الأمزجة والأبدان. قَوْله: (والمبطون) ، هُوَ صَاحب الإسهال، وَقيل: هُوَ الَّذِي بِهِ الاسْتِسْقَاء، وَقيل: هُوَ الَّذِي يشتكي بَطْنه. وَقيل: من مَاتَ بداء بَطْنه مُطلقًا. قَوْله: (وَصَاحب الْهدم) ، هُوَ الَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ اسْم مَا يَقع، وَأما بتسكين الدَّال فَهُوَ الْفِعْل، وَالَّذِي يَقع هُوَ الَّذِي يقتل، وَيجوز أَن ينْسب الْقَتْل إِلَى الْفِعْل. قَوْله: (والشهيد فِي سَبِيل الله) هَذَا هُوَ الْخَامِس من الشُّهَدَاء. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فَإِن قلت: خَمْسَة، خبر الْمُبْتَدَأ والمعدود هَذَا بَيَان لَهُ، فَكيف يَصح لَهُ فِي الْخَامِس، فَإِنَّهُ حمل الشَّيْء على نَفسه فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشَّهِيد هُوَ الشَّهِيد؟ قلت: هُوَ من بَاب.
(أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري)
وَقَالَ الْكرْمَانِي: الأولى أَن يُقَال: المُرَاد بالشهيد: الْقَتِيل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشُّهَدَاء كَذَا وَكَذَا والقتيل فِي سَبِيل الله. قَوْله: (إلاَّ أَن يستهموا) أَي: إلاَّ أَن يقترعوا، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الاستهام فِي الْأَذَان. قَوْله: (وَلَو حبوا) ، الحبو: حبو الصَّغِير على يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْحَيَوَان يمشي على يَدَيْهِ وركبتيه أَو استه، وحبا الْبَعِير، إِذا برك ثمَّ زحف من الإعياء، وحبا الصَّغِير إِذا زحف على أسته(5/171)
فَإِن قلت: بِمَا انتصب حبوا؟ قلت: على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: لأتوهما وَلَو كَانَ إتيانا حبوا. وَيجوز أَن يكون خبر: كَانَ، الْمُقدر وَالتَّقْدِير، وَلَو كَانَ إتيانكم حبوا.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ: فَضِيلَة إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَهِي أدنى شعب الْإِيمَان، فَإِذا كَانَ الله عز وَجل يشْكر عَبده وَيغْفر لَهُ على إِزَالَة غُصْن شوك من الطَّرِيق، فَلَا يدْرِي مَا لَهُ من الْفضل وَالثَّوَاب إِذا فعل مَا فَوق ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ: بَيَان الشُّهَدَاء، والشهيد عندنَا من قَتله الْمُشْركُونَ أَو وجد فِي المعركة وَبِه أثر لجراحه، أَو قَتله الْمُسلمُونَ ظلما وَلم يجب بقتْله دِيَة، وَعند [قعمالك [/ قع و [قعالشافعي [/ قع و [قعأحمد [/ قع: الشَّهِيد هُوَ الَّذِي قَتله الْعَدو غازيا فِي المعركة، ثمَّ الشَّهِيد يُكفن بِلَا خلاف وَلَا يغسل، وَفِي (الْمُغنِي) : إِذا مَاتَ فِي المعترك: فَإِنَّهُ لَا يغسل، رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ عَن [قعالحسن [/ قع و [قعابن الْمسيب [/ قع فَإِنَّهُمَا قَالَا: يغسل الشَّهِيد وَلَا يعْمل بِهِ، وَيصلى عَلَيْهِ عندنَا، وَهُوَ قَول بن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعتبَة ابْن عَامر وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ والمزني وَأحمد فِي رِوَايَة، واختارها الْخلال، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق: لَا يصلى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : الْجَزْم بِتَحْرِيم الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حزم: إِن شاؤا صلوا عَلَيْهِ وَإِن شاؤا تركوها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الشَّهِيد حكمه أَن لَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم غير ثَابت فِي الْأَرْبَعَة الأول بالِاتِّفَاقِ؟ قلت: مَعْنَاهُ أَنه يكون لَهُم فِي الْآخِرَة مثل ثَوَاب الشُّهَدَاء، قَالُوا: الشُّهَدَاء على ثَلَاثَة أَقسَام: شَهِيد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ من مَاتَ فِي قتال الْكفَّار بِسَبَبِهِ. وشهيد الْآخِرَة دون أَحْكَام الدُّنْيَا، وهم هَؤُلَاءِ المذكورون. وشهيد الدُّنْيَا دون الْآخِرَة، وَهُوَ من قتل مُدبرا أَو غل فِي الْغَنِيمَة أَو قَاتل لغَرَض دنياوي لَا لإعلاء كلمة الله تَعَالَى. فَإِن قلت: فإطلاق الشَّهِيد على الْأَرْبَعَة الأول مجَاز، وعَلى الْخَامِس حَقِيقَة، وَلَا يجوز إِرَادَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِاسْتِعْمَال وَاحِد قلت: جوزه الشَّافِعِي، وَأما غَيره فَمنهمْ من جوزه فِي لفظ الْجمع، وَمن مَنعه مُطلقًا حمل مثله على عُمُوم الْمجَاز، يَعْنِي: حمل على معنى مجازي أَعم من ذَلِك الْمجَاز والحقيقة قلت: الْعَمَل بِعُمُوم الْمجَاز هُوَ قَول أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. الثَّالِث فِيهِ: فَضِيلَة السَّبق إِلَى الصَّفّ الأول والاستهام عَلَيْهِ. الرَّابِع فِيهِ: فَضِيلَة التهجير إِلَى الظّهْر، وَعَلِيهِ ترْجم البُخَارِيّ، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين حَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ عِنْد اشتداد الْحر والتهجير هُوَ الأَصْل، وَهُوَ عَزِيمَة وَذَاكَ رخصَة. الْخَامِس: فِيهِ: فَضِيلَة الْعشَاء وَالصُّبْح لِأَنَّهُمَا ثقيلان على الْمُنَافِقين.
33 - (بابُ احْتِسَابِ الآثَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان احتساب الْآثَار، أَي: فِي عد الخطوات إِلَى الْمَسْجِد، والْآثَار جمع أثر، وَأَصله من أثر الْمَشْي فِي الأَرْض، وَالْمرَاد بهَا هَهُنَا: الخطوات، كَمَا فسره مُجَاهِد على مَا يَجِيء.
48 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب قَالَ حَدثنَا عبد الْوَهَّاب قَالَ حَدثنَا حميد عَن أنس قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا بني سَلمَة أَلا تحتسبون آثَاركُم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا وحوشب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ وَحميد ابْن أبي حميد الطَّوِيل. (وَمن لطائف إِسْنَاده) أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع والعنعنة فِي مَوضِع وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين طائفي وبصري وَفِيه القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع قَوْله " يَا بني سَلمَة " بِفَتْح السِّين وَكسر اللَّام وهم بطن كَبِير من الْأَنْصَار ثمَّ من الْخَزْرَج وَقَالَ الْقَزاز والجوهري وَلَيْسَ فِي الْعَرَب سَلمَة غَيرهم (قلت) لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن ابْن مَاكُولَا والرشاطي وَابْن حبيب ذكرُوا جماعات غَيرهم قَوْله " أَلا تحتسبون " كلمة أَلا للتّنْبِيه والتحضيض وَمَعْنَاهُ أَلا تَعدونَ خطاكم عِنْد مشيكم إِلَى الْمَسْجِد إِنَّمَا خاطبهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك حِين أَرَادوا النقلَة إِلَى قرب مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعند مُسلم من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " خلت الْبِقَاع حول الْمَسْجِد فَأَرَادَ بَنو سَلمَة أَن يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب الْمَسْجِد فَبلغ ذَلِك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ(5/172)
لَهُم أَنه بَلغنِي أَنكُمْ تُرِيدُونَ أَن تنتقلوا إِلَى قرب الْمَسْجِد قَالُوا نعم يَا رَسُول الله قد أردنَا ذَلِك فَقَالَ يَا بني سَلمَة دِيَاركُمْ تكْتب آثَاركُم دِيَاركُمْ تكْتب آثَاركُم " وَفِي لفظ " كَانَت دِيَارنَا نائية من الْمَسْجِد فأردنا أَن نبيع بُيُوتنَا فنقرب من الْمَسْجِد فنهانا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِن لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة " وَعند ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس " كَانَت الْأَنْصَار بعيدَة مَنَازِلهمْ من الْمَسْجِد فأرادوا أَن يتقربوا فَنزلت ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم قَالَ فثبتوا " زَاد عبد بن حميد فِي تَفْسِيره " فَقَالُوا بل نثبت مَكَاننَا " وَقَوله " تحتسبون " بنُون الْجمع على الأَصْل فِي عَامَّة النّسخ وَشَرحه الْكرْمَانِي بِحَذْف النُّون فَقَالَ (فَإِن قلت) مَا وَجه سُقُوط النُّون (قلت) جوز النُّحَاة إِسْقَاط النُّون بِدُونِ ناصب وجازم (وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} قَالَ خطاهم) فسر مُجَاهِد الْآثَار بالخطا وَعَن مُجَاهِد خطاهم آثَارهم أَي مَشوا فِي الأَرْض بأرجلهم وَفِي تَفْسِير عبد بن حميد عَن أبي سعيد مَوْقُوفا " نكتب مَا قدمُوا وآثارهم " قَالَ الخطا وَعند الْبَزَّار " فَقَالَ لَهُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَازِلكُمْ مِنْهَا تكْتب آثَاركُم " وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " شكت بَنو سَلمَة إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَنَازِلهمْ من الْمَسْجِد فَأنْزل الله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَازِلكُمْ فَإِنَّهَا تكْتب آثَاركُم " وَقَالَ حسن غَرِيب
(وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا يحيى بن أَيُّوب قَالَ حَدثنِي حميد قَالَ حَدثنِي أنس أَن بني سَلمَة أَرَادوا أَن يَتَحَوَّلُوا عَن مَنَازِلهمْ فينزلوا قَرِيبا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فكره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يعروا الْمَدِينَة فَقَالَ أَلا تحتسبون آثَاركُم. قَالَ مُجَاهِد خطاهم آثَارهم أَن يمشى فِي الأَرْض بأرجلهم) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله تقدمُوا وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ وَيحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ قَوْله " وَحدثنَا ابْن أبي مَرْيَم " هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم ثمَّ قَالَ هَكَذَا ذكر هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا وَكَذَا ذكره أَيْضا صَاحب الْأَطْرَاف قَالَ وَالَّذِي رَأَيْت فِي كثير من نسخ البُخَارِيّ وَحدثنَا ابْن أبي مَرْيَم وَقَالَ أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج كَذَا ذكره البُخَارِيّ بِلَا رِوَايَة يَعْنِي مُعَلّقا وَقَالَ بَعضهم هَذَا هُوَ الصَّوَاب (قلت) هَذِه دَعْوَى بِلَا دَلِيل قَوْله " عَن أنس " هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ حَدثنَا أنس وَكَذَا ذكره أَبُو نعيم أَيْضا قَوْله " فينزلوا قَرِيبا " أَي منزلا قَرِيبا من مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن دِيَارهمْ كَانَت بعيدَة عَن الْمَسْجِد وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله يَقُول " كَانَت دِيَارنَا بعيدَة من الْمَسْجِد فأردنا أَن نبتاع بُيُوتنَا فنتقرب من الْمَسْجِد فنهانا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِن لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة " وَفِي مُسْند السراج من طَرِيق أبي نَضرة عَن جَابر " أَرَادوا أَن يتقربوا من أجل الصَّلَاة " وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي نَضرة عَنهُ قَالَ " كَانَت مَنَازلنَا بسلع " (فَإِن قلت) فِي الاسْتِسْقَاء من حَدِيث أنس " وَمَا بَيْننَا وَبَين سلع من دَار " فَهَذَا يُعَارضهُ (قلت) لَا تعَارض لاحْتِمَال أَن تكون دِيَارهمْ كَانَت من وَرَاء سلع وَبَين سلع وَالْمَسْجِد قدر ميل قَوْله " أَن يعروا الْمَدِينَة " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " أَن يعروا مَنَازِلهمْ " وَهُوَ بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة أَي يتركوها عراء أَي فضاء خَالِيَة قَالَ عز وَجل {فنبذناه بالعراء} أَي بِموضع خَال قَالَ ابْن سَيّده هُوَ الْمَكَان الَّذِي لَا يسْتَتر فِيهِ شَيْء وَقيل الأَرْض الواسعة وَجمعه أعراء وَفِي الغريبين الْمَمْدُود المتسع من الأَرْض قيل لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا شجر فِيهِ وَلَا شَيْء يغطيه والعرا مَقْصُورا النَّاحِيَة وَوجه كَرَاهَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنعهم من الْقرب من الْمَسْجِد هُوَ أَنه أَرَادَ أَن تبقى جِهَات الْمَدِينَة عامرة بساكنيها قَوْله " وَقَالَ مُجَاهِد خطاهم آثَار الْمَشْي فِي الأَرْض بأرجلهم " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ وَقَالَ مُجَاهِد {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} قَالَ خطاهم وَهَكَذَا وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ قَالَ فِي قَوْله {ونكتب مَا قدمُوا} قَالَ أَعْمَالهم وَفِي قَوْله {وآثارهم} قَالَ خطاهم وَأَشَارَ البُخَارِيّ(5/173)
بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن قصَّة بني سَلمَة كَانَت سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة وَقد ورد مُصَرحًا بِهِ من طَرِيق سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ الدّلَالَة على كَثْرَة الْأجر لِكَثْرَة الخطا فِي الْمَشْي إِلَى الْمَسْجِد وَسُئِلَ أَبُو عبد الله بن لبَابَة عَن الَّذِي يدع مَسْجده وَيُصلي فِي الْمَسْجِد الْجَامِع للفضل فِي كَثْرَة النَّاس قَالَ لَا يدع مَسْجده وَإِنَّمَا فضل الْمَسْجِد الْجَامِع للْجُمُعَة فَقَط وَعَن أنس بن مَالك أَنه كَانَ يُجَاوز الْمَسَاجِد المحدثة إِلَى الْمَسَاجِد الْقَدِيمَة وَفعله مُجَاهِد وَأَبُو وَائِل وَأما الْحسن فَسئلَ أيدع الرجل مَسْجِد قومه وَيَأْتِي غَيره فَقَالَ كَانُوا يحبونَ أَن يكثر الرجل قومه بِنَفسِهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَهَذِه الْأَحَادِيث تدل على أَن الْبعد من الْمَسْجِد أفضل فَلَو كَانَ بجوار الْمَسْجِد فَهَل لَهُ أَن يُجَاوِزهُ للأبعد فكرهه الْحسن قَالَ وَهُوَ مَذْهَبنَا وَفِي تخطي مَسْجده إِلَى الْمَسْجِد الْأَعْظَم قَولَانِ وَاخْتلف فِيمَن كَانَت دَاره قريبَة من الْمَسْجِد وقارب الخطا بِحَيْثُ يُسَاوِي خطاه من دَاره بعيدَة هَل يُسَاوِيه فِي الْفضل أَو لَا وَإِلَى الْمُسَاوَاة مَال الطَّبَرِيّ (فَإِن قلت) روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أنس قَالَ " مشيت مَعَ زيد بن ثَابت إِلَى الْمَسْجِد فقارب بَين الخطا وَقَالَ أردْت أَن تكْثر خطانا إِلَى الْمَسْجِد " (قلت) لَا يلْزم مِنْهُ الْمُسَاوَاة فِي الْفضل وَإِن دلّ على أَن فِي كَثْرَة الخطا فَضِيلَة لِأَن ثَوَاب الخطى الشاقة لَيست كثواب الخطى السهلة واستنبط بَعضهم من الحَدِيث اسْتِحْبَاب قصد الْمَسْجِد الْبعيد وَلَو كَانَ بجنبه مَسْجِد قريب فَقيل هَذَا إِذا لم يلْزم من ذَهَابه إِلَى الْبعيد هجر الْقَرِيب وَإِلَّا فإحياؤه بِذكر الله أولى ثمَّ إِذا كَانَ إِمَام الْقَرِيب مبتدعا أَو لحانا فِي الْقِرَاءَة أَو قومه يكرهونه فَلهُ أَن يتْركهُ وَيذْهب إِلَى الْبعيد وَكَذَا إِذا كَانَ إِمَام الْبعيد بِهَذِهِ الصّفة وَفِي رَوَاحه إِلَيْهِ لَيْسَ هجر الْقَرِيب لَهُ أَن يتْرك الْبعيد وَيُصلي فِي الْقَرِيب. وَفِيه أَن أَعمال الْبر إِذا كَانَت خَالِصَة تكْتب آثارها حَسَنَات. وَفِيه اسْتِحْبَاب السُّكْنَى بِقرب الْمَسْجِد إِلَّا لمن حصلت مِنْهُ مَنْفَعَة أُخْرَى أَو أَرَادَ تَكْثِير الْأجر بِكَثْرَة الْمَشْي مَا لم يُكَلف نَفسه وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم طلبُوا السُّكْنَى بِقرب الْمَسْجِد للفضل الَّذِي علموه مِنْهُ فَمَا أنكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم ذَلِك وَإِنَّمَا كره ذَلِك لدرء الْمفْسدَة لإخلائهم جَوَانِب الْمَدِينَة كَمَا ذَكرْنَاهُ -
34 - (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة حَال كَونهَا فِي الْجَمَاعَة.
49 - (حَدثنَا عمر بن حَفْص قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش قَالَ حَدثنِي أَبُو صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْفجْر وَالْعشَاء وَلَو يعلمُونَ مَا فيهمَا لأتوهما وَلَو حبوا لقد هَمَمْت أَن آمُر الْمُؤَذّن فيقيم ثمَّ آمُر رجلا يؤم النَّاس ثمَّ آخذ شعلا من نَار فَأحرق على من لَا يخرج إِلَى الصَّلَاة بعد) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الثَّانِي لِأَنَّهُ يدل على زِيَادَة فَضِيلَة الْعشَاء وَالْفَجْر على غَيرهمَا من الصَّلَوَات فَوضع التَّرْجَمَة لبَيَان فَضِيلَة صَلَاة الْعشَاء. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. فالثلاثة الأول مَضَت متناسقة فِي سَنَد حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فِي بَاب فضل صَلَاة الْفجْر فِي الْجَمَاعَة وهم عمر بن حَفْص بن غياث النَّخعِيّ الْكُوفِي وَهُوَ يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث وَهُوَ يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَسليمَان يروي هُنَاكَ عَن سَالم بن أبي الْجَعْد وَهَهُنَا يروي عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان وَقد مضى هَذَا مفرقا قَوْله " لَيْسَ صَلَاة أثقل " هَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْكشميهني فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة عَنهُ وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين " لَيْسَ أثقل على الْمُنَافِقين " بِحَذْف اسْم لَيْسَ وَأما وَجه تذكير لَيْسَ فلَان الْفِعْل إِذا أسْند إِلَى الْمُؤَنَّث غير الْحَقِيقِيّ يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث وَقَوله أثقل أفعل التَّفْضِيل فَيدل على أَن الصَّلَوَات كلهَا ثَقيلَة على الْمُنَافِقين وَالْفَجْر وَالْعشَاء أثقل من غَيرهمَا أما الْفجْر فَلِأَنَّهُ وَقت لَذَّة النّوم وَأما الْعشَاء فَلِأَنَّهُ وَقت السّكُون والراحة.(5/174)
وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْمُنَافِقين {وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى} وَقيل وَجه ذَلِك هُوَ كَون الْمُؤمنِينَ يفوزون بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا من الْفضل لقيامهم بحقهما دون الْمُنَافِقين قَوْله " مَا فيهمَا " أَي فِي الْفجْر وَالْعشَاء من الثَّوَاب وَالْفضل قَوْله " لأتوهما " أَي لأتوا الْفجْر وَالْعشَاء وَلَو كَانَ إتيانهم حبوا لأتوهما حابين من حبا الصَّبِي إِذا زحف على إسته وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَقَالَ الْكرْمَانِي لَو يعلمُونَ مَا فيهمَا من الْفضل وَالْخَيْر ثمَّ لم يستطيعوا الْإِتْيَان إِلَيْهِمَا إِلَّا حبوا لحبوا إِلَيْهِمَا وَلم يفوتوا جماعتهما وَقَالَ بَعضهم لأتوهما أَي لأتوا إِلَى الْمحل الَّذِي تصليان فِيهِ جمَاعَة وَهُوَ الْمَسْجِد (قلت) هَذَا تَفْسِير لَا يُطَابق التَّرْكِيب أصلا وَالصَّحِيح الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَوْله " يؤم النَّاس " بِالرَّفْع فِي يؤم وَالنّصب فِي النَّاس وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله " رجلا " وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله " ثمَّ آمُر " وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ عطف على آمُر الأول الْمَنْصُوب بِأَن قَوْله " فيقيم " أَيْضا مَنْصُوب عطفا على مَا قبله قَوْله " ثمَّ آخذ " بِالنّصب لِأَنَّهُ عطف على قَوْله " ثمَّ آمُر " قَوْله " شعلا " بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَضم الْعين الْمُهْملَة جمع شعيلة وَهُوَ الفتيلة فِيهَا نَار نَحْو صحيفَة وصحف وبفتح الْعين جمع الشعلة من النَّار قَوْله " فَأحرق " بِالنّصب عطفا على " ثمَّ آخذ " قَوْله " بعد " نقيض قبل مَبْنِيّ على الضَّم فَلَمَّا حذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ بني على الضَّم وَسمي غَايَة لانْتِهَاء الْكَلَام إِلَيْهَا وَالْمعْنَى بعد أَن يسمع النداء إِلَى الصَّلَاة وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني لَفْظَة يقدر بدل بعد وَمَعْنَاهُ لَا يخرج إِلَى الصَّلَاة حَال كَونه يقدر وَقد علم أَن الْجُمْلَة الفعلية المضارعية إِذا وَقعت حَالا يجوز فِيهَا ترك الْوَاو وَوَقع عِنْد الدَّاودِيّ لَا لعذر عوض اللَّفْظَيْنِ الْمَذْكُورين أَي يقدر وَبعد وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لقد هَمَمْت أَن آمُر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثمَّ آتِي قوما يصلونَ فِي بُيُوتهم لَيست بهم عِلّة فأحرقها عَلَيْهِم " الحَدِيث وَلَكِن مَا روى هَذَا غير الدَّاودِيّ وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أطلق على الْمُؤمنِينَ الَّذين لَا يحْضرُون الْجَمَاعَة وَيصلونَ فِي بُيُوتهم من غير عذر وَلَا عِلّة تمنع عَن الْإِتْيَان اسْم الْمُنَافِقين على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي التهديد فَافْهَم -
35 - (بابٌ اثْنان فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب مترجم بِلَفْظ: إثنان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة. وَهُوَ لفظ حَدِيث ورد من طرق ضَعِيفَة، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن أَبِيه عَن جده عَن عَمْرو بن جَراد عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة) ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (كتاب الْأَحْكَام) : هَذَا خبر سَاقِط. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي زَرْبِي، وَهُوَ ضَعِيف، قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس ... فَذكره بِمثلِهِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده ... مثله، قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي (الْكَامِل) للجرجاني من حَدِيث الحكم بن عُمَيْر مَرْفُوعا مثله ... ، وَفِي سَنَده: عِيسَى بن طهْمَان، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث.
658 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ مالِكٍ بنِ الحُوَيْرِثِ عنِ النَّبِيِّ قَالَ إذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذِّنا وَأَقِيما ثُمَّ لِيَؤُمُّكُمَا أكْبَرُكُمَا. .
تَوْجِيه مطابقته حَدِيث االباب للتَّرْجَمَة مُشكل، فَقَالَ بَعضهم: ذَلِك مَأْخُوذ بالاستنباط من لَازم الْأَمر بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَو اسْتَوَت صلاتهما مَعًا مَعَ صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بِالصَّلَاةِ، كَأَن يَقُول: أذنا وأقيما وصليا قلت: هَذَا اللَّازِم لَا يسْتَلْزم كَون الِاثْنَيْنِ جمَاعَة، على مَا لَا يخفى، فَكيف يستنبط مِنْهُ مطابقته للتَّرْجَمَة؟ وَيُمكن أَن يذكر لَهُ وَجه، وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن تكلّف، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَمرهمَا بإمامة أَحدهمَا الَّذِي هُوَ أكبرهما ليحصل لَهما فَضِيلَة الْجَمَاعَة، فكأنهما لما صليا واحدهما إِمَام صَارا كَأَنَّهُمَا صليا مَعَ جمَاعَة، إِذْ حصل لَهما مَا يحصل لمن يُصَلِّي بِالْجَمَاعَة، فَصَارَ الِاثْنَان هَهُنَا كَأَنَّهُمَا جمَاعَة بِهَذَا الِاعْتِبَار(5/175)
لَا بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة فَافْهَم. وَتقدم حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث، فِي: بَاب الْأَذَان للمسافرين: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، قَالَ: (أَتَى رجلَانِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ ليؤمكما أكبركما) . وَهَهُنَا خَالِد هُوَ الْحذاء أَيْضا، وَأَبُو قلَابَة: بِكَسْر الْقَاف، عبد الله بن زيد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
36 - (بابُ مَنْ جَلَسَ فِي المَسْجِد يَنْتَظَرُ الصَّلاةَ وفَضْلِ المسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من جلس فِي الْمَسْجِد حَال كَونه ينْتَظر الصَّلَاة ليصليها بِالْجَمَاعَة وَفِي بَيَان فضل الْمَسَاجِد.
659 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المَلاَئِكَةُ تُصعلِّي على أحَدِكُمْ مَا دامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلَى أهْلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
هَذَا الحَدِيث إِلَى قَوْله. .: (لَا يزَال أحدكُم) ، ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب الْحَدث فِي الْمَسْجِد، أخرجه عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، نَحوه، غير أَن هُنَاكَ: (إِن الْمَلَائِكَة تصلي) وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَقَوله: (لَا يزَال أحدكُم) إِلَى آخِره، أفرده مَالك فِي (موطئِهِ) عَمَّا قبله، وَأكْثر الروَاة ضموه إِلَى الأول وجعلوه حَدِيثا وَاحِدًا. وَذكر البُخَارِيّ: فِي: بَاب فضل الْجَمَاعَة، حَدِيث أبي هُرَيْرَة مطولا، وَفِيه: (لَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة مَا انْتظر الصَّلَاة) .
قَوْله: (تصلي على أحدكُم) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن الصَّلَاة من الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار. فَإِن قلت: مَا النُّكْتَة فِي لفظ الصَّلَاة دون لفظ الاسْتِغْفَار؟ قلت: لتقع الْمُنَاسبَة بَين الْعَمَل وَالْجَزَاء. قَوْله: (مَا دَامَ) كلمة: مَا، للمدة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مَا دَامَ فِي مَوْضِعه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ منتظرا للصَّلَاة، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة من وَجه آخر. قَوْله: (اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) ، بَيَان لقَوْله: (تصلي) ، وَفِيه مُقَدّر، وَهُوَ إِمَّا لفظ: تَقول الْمَلَائِكَة: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وَإِمَّا: قائلين: اللَّهُمَّ ... ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ كِلَاهُمَا بِالنّصب على الْحَال. قَوْله: (فِي صَلَاة) أَي: فِي ثَوَاب صَلَاة، لَا فِي حكم الصَّلَاة، أَلاَ ترى أَنه يحل لَهُ الْكَلَام وَغَيره مِمَّا يمْنَع الصَّلَاة؟ قَوْله: (مَا دَامَت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا كَانَت) ، قَوْله: (لَا يمنعهُ) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. قَوْله: (أَن يَنْقَلِب) ، فَإِن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية تَقْدِيره: لَا يمنعهُ الانقلاب، أَي: الرواح إِلَى أَهله إِلَّا الصَّلَاة، وَكلمَة: إلاَّ، بِمَعْنى: غير، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه صرف نِيَّته عَن ذَلِك صَارف آخر انْقَطع عَنهُ الثَّوَاب الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ إِذا شَارك نِيَّة الِانْتِظَار أَمر آخر، وَيدخل فِي ذَلِك من أشبههم فِي الْمَعْنى مِمَّن حبس نَفسه على أَفعَال الْبر كلهَا.
660 - حدَّثنا مْحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني خبَيْبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ عنْ حفْصِ بنِ عاصِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ الإمامُ العادِلُ وشابُّ نَشأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ورَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أخَافُ الله ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ورَجُلٌ ذَكَرَ الله خالِيا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد) ، أَي: مُتَعَلق، وَلَو لم يكن للمساجد فضل لم يكن لمن قلبه مُعَلّق فِيهَا هَذَا الْفضل الْعَظِيم، وَهَذَا للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (وَفضل الْمَسَاجِد) ، وَيدل على هَذَا الْجُزْء أَيْضا قَوْله:(5/176)
(وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه) ، لِأَن من هَذِه صفته يكون لَهُ مُلَازمَة للمساجد بقالبه، وَأما عَن قلبه فَلَا يَخْلُو، وَإِن عرض لقالبه عَارض، وَهَذَا أَيْضا يدل على فضل الْمَسَاجِد.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن عمر الْعمريّ. الرَّابِع: خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، ابْن عبد الرَّحْمَن بن خبيب بن يسَاف، أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَهُوَ خَال عبيد الله بن عمر الْمَذْكُور، الْخَامِس: حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَهُوَ جد عبيد الله الْمَذْكُور لِأَبِيهِ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله وجده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وهما: مُحَمَّد بن بشار وَيحيى، والبقية مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَشْهُورا ببندار، وَيحيى مَشْهُور بالقطان. وَفِيه: عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة من حَدِيث يحيى بن يحيى وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث معن، قَالَا: حَدثنَا مَالك عَن خبيب عَن حَفْص ابْن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة أَو أبي سعيد قَالَ التِّرْمِذِيّ كَذَا روى غير وَاحِد عَن مَالك وَشك فِيهِ وَقَالَ ابْن عبد الْبر كل من رَوَاهُ عَن مَالك قَالَ فِيهِ أَو أبي سعيد، إلاَّ أَبَا قُرَّة ومصعبا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَن مَالك عَن خبيب عَن حَفْص بن عَاصِم عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد جَمِيعًا، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو معَاذ الْبَلْخِي عَن مَالك وَرَوَاهُ الْوَقار زَكَرِيَّا بن يحيى عَن ثَلَاثَة من أَصْحَاب مَالك عَن أبي سعيد وَحده وَلم يُتَابع. قلت: الثَّلَاثَة هم: عبد الله بن وهب، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، ويوسف بن عَمْرو بن يزِيد. وَفِي (غرائب) مَالك) للدارقطني: رَوَاهُ أَبُو معَاذ عَن أبي سعيد أَو عَن أبي هُرَيْرَة أَو عَنْهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَالَا ... فَذكره. قلت: وَفِيه رد لما ذكره ابْن عبد الْبر.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن مُسَدّد، وَفِي الرقَاق عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سوار بن عبد الله الْعَنْبَري وَمُحَمّد بن الْمثنى وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الرقَاق عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَبْعَة) أَي: سَبْعَة أشخاص، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا ليدْخل فِيهِ النِّسَاء، فالأصوليون ذكرُوا أَن إحكام الشَّرْع عَامَّة لجَمِيع الْمُكَلّفين، وَحكمه على الْوَاحِد حكم على الْجَمَاعَة إلاَّ مَا دلّ الدَّلِيل على خُصُوص الْبَعْض فَإِن قلت: مَا وَجه التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة؟ قلت: التَّنْصِيص بِالْعدَدِ فِي شَيْء لَا يَنْفِي الحكم عَمَّا عداهُ، وَقد روى مُسلم من حَدِيث أبي الْيُسْر مَرْفُوعا: (من أنظر مُعسرا أَو وضع لَهُ، أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله) . وَهَاتَانِ الخصلتان غير الْخِصَال السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، فَدلَّ على مَا قُلْنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما التَّخْصِيص بِذكر هَذِه السَّبْعَة فَيحْتَمل أَن يُقَال فِيهِ: ذَلِك لِأَن الطَّاعَة إِمَّا تكون بَين العَبْد وَبَين الله أَو بَينه وَبَين الْخلق، وَالْأول: إِمَّا أَن يكون بِاللِّسَانِ أَو بِالْقَلْبِ أَو بِجَمِيعِ الْبدن، وَالثَّانِي: إِمَّا أَن يكون عَاما وَهُوَ الْعدْل، أَو خَاصّا وَهُوَ إِمَّا من جِهَة النَّفس وَهُوَ التحاب أَو من جِهَة الْبدن، أَو من جِهَة المَال. انْتهى. قلت: أَرَادَ كَونه بِاللِّسَانِ هُوَ الذّكر، وَأَرَادَ كَونه بِالْقَلْبِ هُوَ الْمُعَلق بِالْمَسْجِدِ، وَأَرَادَ بِجِهَة جَمِيع الْبدن الناشيء بِالْعبَادَة، وبجهة المَال: الصَّدَقَة، وَمن جِهَة الْبدن فِي الصُّورَة الْخَاصَّة هِيَ: الْعِفَّة. قَوْله: (يظلهم الله) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر للمبتدأ أَعنِي قَوْله: (سَبْعَة) . وَقَالَ عِيَاض: إِضَافَة الظل إِلَى الله إِضَافَة ملك، وكل ظله فَهُوَ ملكه قلت: إِضَافَة الظل إِلَيْهِ إِضَافَة تشريف ليحصل امتياز هَذَا عَن غَيره، كَمَا يُقَال للكعبة: بَيت الله، مَعَ أَن الْمَسَاجِد كلهَا ملكه. وَأما الظل الْحَقِيقِيّ فَالله تَعَالَى منزه عَنهُ، لِأَنَّهُ من خَواص الْأَجْسَام، وَيُقَال: المُرَاد ظلّ الْعَرْش، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سَبْعَة يظلهم الله فِي ظلّ عَرْشه) فَذكر الحَدِيث، ثمَّ كَونهم فِي ظلّ عَرْشه يسْتَلْزم مَا ذكره بَعضهم من أَن معنى: (يظلهم الله) ، يسترهم فِي ستره وَرَحمته. تَقول الْعَرَب: أَنا فِي ظلّ فلَان، أَي: فِي ستره وكنفه، وتسمي الْعَرَب اللَّيْل: ظلاً، لبرده، وَيُقَال المُرَاد من الظل: ظلّ طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة، وَيرد هَذَا قَوْله: (يَوْم لَا ظلّ إلاَّ ظله) ، لِأَن المُرَاد(5/177)
من الْيَوْم الْمَذْكُور يَوْم الْقِيَامَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الْمُبَارك صرح بِهِ فِي رِوَايَته عَن عبد الله بن عمر على مَا يَجِيء فِي كتاب الْحُدُود، وظل طُوبَى أَو ظلّ الْجنَّة إِنَّمَا يكون بعد استقرارهم فِي الْجنَّة، وَهَذَا عَام فِي حق كل من يدخلهَا، والْحَدِيث يدل على امتياز هَؤُلَاءِ السَّبْعَة من بَين الْخلق، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين، وَدنت مِنْهُم الشَّمْس، ويشتد عَلَيْهِم حرهَا ويأخذهم الْغَرق وَلَا ظلّ هُنَاكَ لشَيْء إِلَّا ظلّ الْعَرْش.
قَوْله: (الْأَمَام الْعَادِل) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أحد السَّبْعَة: الْأَمَام الْعَادِل. وَالْكَلَام فِيهِ من وُجُوه: الأول: إِن قَوْله: (الْعَادِل) اسْم فَاعل من الْعدْل، وَقَالَ أَبُو عمر: أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) رَوَوْهُ ... عَادل، وَقد رَوَاهُ بَعضهم؛ عدل، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد أهل اللُّغَة. يُقَال: رجل عدل. وَرِجَال عدل، وَامْرَأَة عدل. وَيجوز أَمَام عَادل على اسْم الْفَاعِل، يُقَال: عدل فَهُوَ عَادل، كَمَا يُقَال: ضرب فَهُوَ ضَارب. وَقَالَ ابْن الاثير: الْعدْل فِي الأَصْل مصدر سمي بِهِ فَوضع مَوضِع الْعَادِل، وَهُوَ أبلغ مِنْهُ لِأَنَّهُ جعل الْمُسَمّى نَفسه عدلا. الثَّانِي: مَعْنَاهُ: الْوَاضِع كل شَيْء فِي مَوْضِعه. وَقيل: الْمُتَوَسّط بَين طرفِي الإفراط والتفريط، سَوَاء كَانَ فِي العقائد أَو فِي الْأَعْمَال أَو فِي الْأَخْلَاق. وَقيل: الْجَامِع بَين أُمَّهَات كمالات الْإِنْسَان الثَّلَاث، وَهِي: الْحِكْمَة والشجاعة والعفة الَّتِي هِيَ أوساط القوى الثَّلَاث، أَعنِي: الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوانية. وَقيل: الْمُطِيع لأحكام الله تَعَالَى. وَقيل المراعي لحقوق الرّعية وَهُوَ عَام فِي كل من أليه نظر فِي شَيْء من أُمُور الْمُسلمين من الْوُلَاة والحكام. الثَّالِث: قدم الإِمَام الْعَادِل فِي ذكر السَّبْعَة لِكَثْرَة مَصَالِحه وَعُمُوم نَفعه، فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ أمورا عَظِيمَة، وَيُقَال: لَيْسَ أحد أقرب منزلَة من الله تَعَالَى بعد الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِمَام عَادل. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. مَا حَكَمَ قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم إِمَامًا جائرا.
قَوْله: (وشاب) أَي: وَالثَّانِي: من السَّبْعَة شَاب نَشأ فِي عبَادَة ربه، يُقَال: نَشأ الصَّبِي ينشأ نَشأ فَهُوَ ناشيء إِذا كبر وشب. يُقَال: نَشأ وَأَنْشَأَ إِذا خرج وابتدا، وَأَنْشَأَ يفعل كَذَا أَي: ابتدا يفعل، وَفِي رِوَايَة الإِمَام أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (شَاب نَشأ بِعبَادة الله) ، وَهِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَزَاد حَمَّاد بن زيد من عبيد الله بن عمر: (حَتَّى توفّي على ذَلِك) ، أخرجه الجوزقي. وَفِي حَدِيث سلمَان: (أفنى شبابه ونشاطه فِي عبَادَة الله) . فَإِن قلت: لِمَ خص الثَّانِي من السَّبْعَة بالشباب، وَلم يقل: رجل نَشأ؟ قلت: لِأَن الْعِبَادَة فِي الشَّبَاب أَشد وأشق لِكَثْرَة الدَّوَاعِي وَغَلَبَة الشَّهَوَات، وَقُوَّة البواعث على اتِّبَاع الْهوى.
قَوْله: (وَرجل قلبه) أَي: الثَّالِث: رجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد، بِفَتْح اللَّام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي: بالمساجد، وحروف الْجَرّ بَعْضهَا يقوم مقَام بعض، وَمَعْنَاهُ: شَدِيد الْحبّ لَهَا والملازمة للْجَمَاعَة فِيهَا. قلت: رِوَايَة أَحْمد: (مُعَلّق بالمساجد) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (مُتَعَلق) ، بِزِيَادَة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الْمِيم، وَمَعْنَاهُ: شدَّة تعلق قلبه بالمساجد، وَإِن كَانَ خَارِجا عَنهُ، وَتعلق قلبه بالمساجد كِنَايَة عَن انْتِظَاره أَوْقَات الصَّلَوَات فَلَا يُصَلِّي صَلَاة وَيخرج مِنْهُ إلاَّ وَهُوَ منتظر وَقت صَلَاة أُخْرَى حَتَّى يُصَلِّي فِيهِ، وَهَذَا يسْتَلْزم صلَاته أَيْضا بِالْجَمَاعَة.
قَوْله: (ورجلان تحابا) أَي: الرَّابِع: رجلَانِ تحابا، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَصله تحاببا، فَلَمَّا اجْتمع الحرفان المتماثلان أسكن الأول مِنْهُمَا وأدرج فِي الثَّانِي وَهُوَ حد الْإِدْغَام، وَهُوَ من بَاب: التفاعل، وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: التفاعل هُوَ الْإِظْهَار إِذْ أصل الْفِعْل حَاصِل لَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ وَلَا يُرِيد حُصُوله نَحْو تجاهلت؟ قلت: قد يَجِيء لغير ذَلِك نَحْو: باعدته فتباعد. انْتهى. قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا أَن: تفَاعل، لمشاركة أَمريْن أَو أَكثر فِي أَصله يَعْنِي فِي مصدر فعله الثلاثي صَرِيحًا، نَحْو: تضارب زيد وَعَمْرو، فَلذَلِك نقص مَفْعُولا عَن فَاعل، وَحَاصِله أَن وضع فَاعل لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل مُتَعَلقا بِغَيْرِهِ، مَعَ أَن الْغَيْر فعل مثل ذَلِك وَوضع: تفَاعل، لنسبته إِلَى المشتركين فِي شَيْء من غير قصد إِلَى تعلق لَهُ، فَلذَلِك جَاءَ الأول زَائِدا على الثَّانِي بمفعول أبدا، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ الْمقَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: ورجلان تحاببا، من بَاب: المفاعلة، لَا من بَاب: التفاعل، ليدل على أَن الْغَيْر فعل مثل مَا فعل هُوَ، وَالْجَوَاب: عَنهُ أَن تفَاعل، قد يَجِيء للمطاوعة وَهِي كَونهَا دَالَّة على معنى حصل عَن تعلق فعل آخر مُتَعَدٍّ كَقَوْلِك: باعدته فتباعد، فقولك: تبَاعد، عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق فعل مُتَعَدٍّ، وَهَهُنَا كَذَلِك، فَإِن تحابا عبارَة عَن معنى حصل عَن تعلق حابب، وَالْجَوَاب الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي غير مُسْتَقِيم، لِأَن معنى ذَلِك هُوَ الدّلَالَة على أَن الْفَاعِل أظهر أَن الْمَعْنى الَّذِي اشتق مِنْهُ: تفَاعل، حصل لَهُ، مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة كَذَلِك. فَمَعْنَى: تجاهل زيد أَنه أظهر الْجَهْل من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة، وَلَيْسَ الْمَعْنى هَهُنَا أَنه أظهر الْمحبَّة من نَفسه، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَة. فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق. فَإِن قلت: قَالَ: رجلَانِ، فَيكون الْمَذْكُور ثَمَانِيَة لَا سَبْعَة؟(5/178)
قلت: مَعْنَاهُ: وَرجل يحب غَيره فِي الله، والمحبة أَمر نسبي فَلَا بُد لَهَا من المنتسبين، فَلذَلِك قَالَ: رجلَانِ. قَوْله: (فِي الله) أَي: لأجل الله لَا لغَرَض دنياوي، وَكلمَة: فِي، قد تَجِيء للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل) ، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (ورجلان قَالَ كل مِنْهُمَا للْآخر: إِنِّي أحبك فِي الله، فصدرا على ذَلِك) . قَوْله: (اجْتمعَا على ذَلِك) أَي: على الْحبّ فِي الله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (اجْتمعَا عَلَيْهِ) أَي: على الْحبّ الْمَذْكُور، وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي عَلَيْهِ، يَعْنِي: كَانَ سَبَب اجْتِمَاعهمَا حب الله والاستمرار عَلَيْهِ حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَا يحْتَاج إِلَى قَوْله: حَتَّى تفَرقا من مجلسهما، بل الْمَعْنى: أَنَّهُمَا داما على الْمحبَّة الدِّينِيَّة وَلم يقطعاها بِعَارِض دُنْيَوِيّ، سَوَاء اجْتمعَا حَقِيقَة أَو لَا، حَتَّى فرق بَينهمَا الْمَوْت.
قَوْله: (وَرجل طلبته) أَي: وَالْخَامِس: رجل طلبته امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (دَعَتْهُ امْرَأَة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلمُسلم وللبخاري أَيْضا فِي الْحُدُود: عَن ابْن الْمُبَارك، وَزَاد ابْن الْمُبَارك: (إِلَى نَفسهَا) ، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) ، من طَرِيق أبي صَالح: عَن أبي هُرَيْرَة: (فعرضت نَفسهَا عَلَيْهِ) ، وَظَاهر الْكَلَام أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَة، وَبِه جزم الْقُرْطُبِيّ. وَقيل: يحْتَمل أَن تكون طلبته إِلَى التَّزْوِيج بهَا فخاف أَن يشْتَغل عَن الْعِبَادَة بالافتتان بهَا، أَو خَافَ أَن لَا يقوم بِحَقِّهَا لشغله بِالْعبَادَة عَن التكسب بِمَا يَلِيق بهَا، وَالْأول أظهر لوُجُود قَرَائِن عَلَيْهِ. قَوْله: (ذَات منصب) المنصب، بِكَسْر الصَّاد: الْحسب وَالنّسب الشريف. قَالَ الْجَوْهَرِي: المنصب الأَصْل، وَكَذَلِكَ النّصاب، وَإِنَّمَا خصصها بِالذكر لِكَثْرَة الرَّغْبَة فِيهَا وعسر حُصُولهَا، وَهِي طالبة لذَلِك وَقد أغنت عَن مراودته. قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف الله) ، زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (رب الْعَالمين) ، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يحْتَمل أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ زجرا لَهَا عَن الْفَاحِشَة، وَيحْتَمل أَن يَقُول بِقَلْبِه لزجر نَفسه. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا يصدر ذَلِك عَن شدَّة الْخَوْف من الله وَالصَّبْر عَنْهَا لخوف الله من أكمل الْمَرَاتِب وَأعظم الطَّاعَات.
قَوْله: (وَرجل تصدق) أَي: وَالسَّادِس: رجل تصدق أخْفى، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، ومفعول: أخْفى، مَحْذُوف أَي: أخْفى الصَّدَقَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد: (تصدق فأخفى) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: عَن مُسَدّد عَن يحيى (تصدق بِصَدقَة فأخفاها) ، وَمثله لمَالِك فِي (الْمُوَطَّأ) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (تصدق إخفاء) ، بِكَسْر الْهمزَة ممدودا على أَنه مصدر مَنْصُوب، على أَنه حَال بِمَعْنى مخفيا. قَوْله: (حَتَّى لَا تعلم) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا، نَحْو: مرض حَتَّى لَا يرجونه، وسرت حَتَّى تغيب الشَّمْس. قَوْله: (شِمَاله) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (لَا تعلم) . قَوْله: (مَا تنْفق يَمِينه) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين وَالشمَال للْمُبَالَغَة فِي الْإخْفَاء والإسرار بِالصَّدَقَةِ، وَضرب الْمثل بهما لقرب الْيَمين من الشمَال ولملازمتهما، وَمَعْنَاهُ: لَو قدرت الشمَال رجلا متيقظا لما علم صَدَقَة الْيَمين لمبالغته فِي الْإخْفَاء. وَقيل: المُرَاد مَنْ على شِمَاله من النَّاس.
ثمَّ إعلم أَن أَكثر الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فِي البُخَارِيّ وَغَيره: (حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه) ، وَوَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَهُوَ: حَتَّى لَا تعلم يَمِينه مَا تنْفق شِمَاله. وَقَالَ عِيَاض: هَكَذَا فِي جَمِيع النّسخ الَّتِي وصلت إِلَيْنَا من (صَحِيح مُسلم) مقلوبا، وَالصَّوَاب الأول قلت: لِأَن السُّنَّة الْمَعْهُودَة إِعْطَاء الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، وَقد ترْجم عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة: بَاب الصَّدَقَة بِالْيَمِينِ، قَالَ: وَيُشبه أَن يكون الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مُسلم وَلَا مِنْهُ، بل هُوَ من شَيْخه أَو شيخ شَيْخه: يحيى الْقطَّان، وَقد طول الْكَلَام فِيهِ، وَلَا يُنكر الْوَهم من مُسلم وَلَا مِمَّن هُوَ دونه أَو فَوْقه، وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْقلب من الْكَاتِب واستمرت الروَاة عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَرجل) أَي: وَالسَّابِع: رجل ذكر الله خَالِيا، أَي: من الْخلق، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون أبعد من الرِّيَاء، وَقيل: خَالِيا من الِالْتِفَات إِلَى غَيره تَعَالَى، وَلَو كَانَ فِي الْمَلأ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ (ذكر الله بَين يَدَيْهِ) ، وَيُؤَيّد الأول رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد: (ذكر الله فِي خلاء) ، أَي: فِي مَوضِع خَال، وَقَالَ بَعضهم: (ذكر الله) أَي: بِقَلْبِه من التَّذَكُّر أَو بِلِسَانِهِ من الذّكر قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الذّكر بِالْقَلْبِ من: الذّكر، بِضَم الذَّال، وباللسان من: الذّكر، بِكَسْر الذَّال، وَأَيْضًا لفظ: ذكر بِلَا قيد، وَلَا يكون مشتقا من التَّذَكُّر، فَمن لَهُ يَد فِي علم التصريف يفهم هَذَا. قَوْله: (فَفَاضَتْ عَيناهُ) ، وَإِنَّمَا أسْند الْفَيْض إِلَى الْعين مَعَ أَن الْعين لَا تفيض، لِأَن الفائض هُوَ الدمع، مُبَالغَة كَأَنَّهَا هِيَ الفائض، وَذَلِكَ كَقَوْلِه: {وَترى أَعينهم تفيض من الدمع} (الْمَائِدَة: 83) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وفيض الْعين بِحَسب حَال الذاكر وبحسب مَا ينْكَشف لَهُ، فَفِي حَال أَوْصَاف الْجلَال يكون الْبكاء من خشيَة الله، وَفِي حَال أَوْصَاف الْجمال يكون الْبكاء من الشوق إِلَيْهِ، وَيشْهد للْأولِ مَا رَوَاهُ الجوزقي من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله) .(5/179)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة الإِمَام الْعَادِل، وَقد روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عمر رَفعه: (إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا) ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أَخْفَر قوم الْعَهْد إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَمَا نقص قوم الميكال إلاَّ منعُوا الْقطر، وَلَا كثر الرب فِي قوم إلاَّ سلط الله عَلَيْهِم الوباء، وَمَا حكم قوم بِغَيْر حق إلاَّ سلط عَلَيْهِم إِمَام جَائِر) . فالإمام الْعَادِل يصلح الله بِهِ. وَفِيه: فَضِيلَة الشَّاب الَّذِي نَشأ فِي عبَادَة ربه، وَفِي الحَدِيث: (تعجب رَبك من شَاب لَيست لَهُ ضبوة) . وَفِيه: فضل من سلم من الذُّنُوب واشتغل بِطَاعَة ربه طول عمره، وَقد يحْتَج بِهِ من قَالَ: إِن الْملك أفضل من الْبشر لأَنهم: {يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} (الْأَنْبِيَاء: 20) . وَقيل لِابْنِ عَبَّاس: رجل كثير الصَّلَاة كثير الْقيام يقارف بعض الْأَشْيَاء، وَرجل يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ويصوم مَعَ السَّلامَة. قَالَ: لَا أعدل بالسلامة شَيْئا، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إلاَّ اللمم} (النَّجْم: 32) . وَفِيه: فَضِيلَة من يلازم الْمَسْجِد للصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة، لِأَن الْمَسْجِد بَيت الله وَبَيت كل تَقِيّ، وحقيق على المزور إكرام الزائر، فَكيف بأكرام الكرماء؟ وَفِيه: فَضِيلَة التحاب فِي الله تَعَالَى، فَإِن الْحبّ فِي الله والبغض فِي الله من الْإِيمَان، وَعند مَالك من الْفَرَائِض، وروى ابْن مَسْعُود والبراء بن عَازِب مَرْفُوعا: إِن ذَلِك من أوثق عرى الْإِيمَان، وروى ثَابت عَن أنس رَفعه: (مَا تحاب رجلَانِ فِي الله إلاَّ كَانَ أفضلهما أشدهما حبا لصَاحبه) ، وروى أَبُو رزين، قَالَ: (قَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا رزين إِذا خلوت حرك لسَانك بِذكر الله، وَحب فِي الله وَأبْغض فِي الله، فَإِن الْمُسلم إِذا زار فِي الله شيعه سَبْعُونَ ألف ملك يَقُولُونَ: أللهم وَصله فِيك فَصله وَمن فضل المتحابين فِي الله أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِذا دَعَا لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب أَمن الْملك على دُعَائِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا. وَفِيه: فَضِيلَة من يخَاف الله قَالَ الله تَعَالَى: {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} (النازعات: 40، 41) . وَقَالَ: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 46) . وروى أَبُو معمر عَن سَلمَة بن نبيط عَن عبيد بن أبي الْجَعْد عَن كَعْب الْأَحْبَار، قَالَ: إِن فِي الْجنَّة، لدارا، درة فَوق درة، ولؤلؤة فَوق لؤلؤة، فِيهَا سَبْعُونَ ألف قصر، فِي كل قصر سَبْعُونَ ألف دَار، فِي كل دَار سَبْعُونَ ألف بَيت، لَا ينزلها إلاَّ نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد أَو مُحكم فِي نَفسه أَو إِمَام عَادل. قَالَ سَلمَة: فَسَأَلت عبيدا عَن: الْمُحكم فِي نَفسه: قَالَ: هُوَ الرجل يطْلب الْحَرَام من النِّسَاء أَو من المَال فيتعرض لَهُ، فَإِذا ظفر بِهِ تَركه مَخَافَة الله تَعَالَى، فَذَلِك الْمُحكم فِي نَفسه. وَفِيه: فَضِيلَة المخفي صدقته ومصداق هَذَا الحَدِيث فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} (الْبَقَرَة: 271) . وَقَالَت الْعلمَاء: هَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع، فالسر فِيهَا أفضل لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْإِخْلَاص، وَأبْعد من الرِّيَاء. وَأما الوجبة فإعلانها أفضل ليقتدي بِهِ فِي ذَلِك. وَيظْهر دعائم الْإِسْلَام، وَهَكَذَا حكم الصَّوْم فإعلان فرائضها أفضل. وَاخْتلف فِي السّنَن: كالوتر وركعتي الْفجْر، هَل إعلانهما أفضل أم كتمانهما؟ حَكَاهُ ابْن التِّين، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقد سمعنَا من بعض الْمَشَايِخ: إِن ذَلِك الْإخْفَاء أَن يتَصَدَّق على الضَّعِيف فِي صُورَة الْمُشْتَرى مِنْهُ، فيدفه لَهُ مثلا درهما فِي شَيْء يُسَاوِي نصف دِرْهَم، فالصورة مبايعة والحقيقة صَدَقَة، وَهُوَ اعْتِبَار حسن قيل: إِن أَرَادَ أَن المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث هَذِه الصُّورَة خَاصَّة، فَفِيهِ نظر. وَإِن أَرَادَ أَن هَذَا أَيْضا من صُورَة الصَّدَقَة المخفية فَمُسلم، وَفِي (مُسْند أَحْمد) رَحمَه الله، من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد حسن مَرْفُوعا: (إِن الْمَلَائِكَة قَالَت: يَا رب! هَل من خلقك شَيْء أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم، الْحَدِيد. قَالَت: فَهَل أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم، النَّار، قَالَت: فَهَل أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم، المَاء. قَالَت: فَهَل أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم، الرّيح. قَالَت: فَهَل أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم، ابْن آدم، يتَصَدَّق بِيَمِينِهِ فيخفيها عَن شِمَاله) . وَفِيه: فَضِيلَة ذكر الله فِي الخلوات مَعَ فيضان الدمع من عَيْنَيْهِ، وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (لَا يلج النَّار أحد بَكَى من خشيَة الله حَتَّى يعود اللَّبن فِي الضَّرع) . وروى أَبُو عمرَان: (عَن أبي الْخلد، قَالَ: قَرَأت فِي مَسْأَلَة دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ربه تَعَالَى: إلهي مَا جَزَاء من بَكَى من خشيتك حَتَّى تسيل دُمُوعه على وَجهه؟ قَالَ: أسلم وَجهه من لفح النَّار) . وروى الْحَاكِم من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: (من ذكر الله فَفَاضَتْ عَيناهُ من خشيَة الله حَتَّى يُصِيب الأَرْض من دُمُوعه لم يعذب يَوْم الْقِيَامَة) .
661 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أنَسٌ هِلِ اتَّخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاتَما فَقَالَ نَعَمْ أخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ(5/180)
بَعْدَ مَا صَلَّى فقالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خاتَمِهِ.
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (من جلس فِي الْمَسْجِد ينْتَظر الصَّلَاة) ، وَفِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: (وَلم تزالوا فِي صَلَاة مُنْذُ انتظرتموها) .
وَرِجَاله: قُتَيْبَة بن سعيد، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَحميد هُوَ الطَّوِيل. وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، عَن عبد الرَّحِيم الْمحَاربي عَن زَائِدَة عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس قَالَ: (أخر النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل ثمَّ صلى، ثمَّ قَالَ: قد صلوا النَّاس وناموا، أما إِنَّكُم فِي صَلَاة مَا انتظرتموها) . وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (إِلَى شطر اللَّيْل) أَي: نصفه، على مَا صرح بِهِ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (وبيص خَاتمه) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالصاد الْمُهْملَة، وَهُوَ: بريق الْخَاتم ولمعانه.
37 - (بابُ فَضْل منْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ ومنْ راحَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من يخرج إِلَى الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (من خرج) ، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب فضل من غَدا إِلَى الْمَسْجِد، مُوَافقا للفظ الحَدِيث. وَقَالَ ابْن سَيّده: الغدوة: البكرة علم للْوَقْت، والغداة كالغدوة وَجَمعهَا غدوات. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: غدية لُغَة فِي غدْوَة، كضحية لُغَة فِي ضحوة. والغد وَجمع غَدَاة نادرة، وَغدا عَلَيْهِ غدوا وغدوا، واغتدى: بكر، وغاداه: باكره. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الغدوة إسم سمي بِهِ الْوَقْت فَجعل معرفَة لذَلِك وَصَارَ إسما لشَيْء بِعَيْنِه. وَقَالَ الْخَلِيل: الغدو الْجمع مثل الغدوات، وَجمع غدْوَة غداو، وَفِي (الصِّحَاح) : الغدوة مَا بَين صَلَاة الْغَدَاة وَبَين طُلُوع الشَّمْس، والغدو نقيض الرواح، وَزعم ابْن قرقول أَنه قد اسْتعْمل الغدوة والرواح فِي جَمِيع النَّهَار. وَفِي (الْمُحكم) : الرواح: الْعشي. وَقيل: من لدن زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل، ورحنا رواحا وتروَّحنا: سرنا فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو: عَملنَا. وَفِي (الصِّحَاح) : الرواح نقيض الصَّباح، وَهُوَ اسْم للْوَقْت. وَيُقَال: الغدو: السّير فِي أول النَّهَار إِلَى زَوَال الشَّمْس، والرواح من الزَّوَال إِلَى آخر النَّهَار، وَيُقَال: غَدا: خرج مبكرا، وَرَاح: رَجَعَ. وَقد يستعملان فِي الْخُرُوج وَالرُّجُوع مُطلقًا توسعا.
662 - حدَّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ هارُونَ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ عنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ ورَاحَ أعَدَّ الله لَهُ نُزُلاً منَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أَو راحَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: يزِيد بن هَارُون بن زَاذَان الوَاسِطِيّ، تقدم. الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء وَكسر الرَّاء وبالفاء: أَبُو غَسَّان اللَّيْثِيّ الْمدنِي. الرَّابِع: زيد بن أسلم، بِلَفْظ الْمَاضِي، مولى عمر بن الْخطاب الْمدنِي. الْخَامِس: عَطاء ابْن يسَار، ضد الْيَمين. أَبُو مُحَمَّد الْهِلَالِي، مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أعد) من الإعداد وَهُوَ التهيئة. قَوْله: (نزلا) ، بِضَم النُّون وَسُكُون الزَّاي وَضمّهَا وَهِي: مَا يهيأ من الْأَشْيَاء للقادم، وَنزلا بالتنكير رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: نزله، بِالْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَابْن خُزَيْمَة وَأحمد مثل رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (كلما غَدا أَو رَاح) أَي: بِكُل غدْوَة وروحة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض الرِّوَايَات: وَرَاح، بواو الْعَطف، وَالْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه على: الْوَاو، لَا بُد لَهُ من الْأَمريْنِ حَتَّى يعد لَهُ(5/181)
النزل، وعَلى كلمة: أَو، يَكْفِي أَحدهمَا فِي الإعداد. وَقَالَ بَعضهم: الغدو والرواح فِي الحَدِيث كالبكرة والعشي. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} (مَرْيَم: 62) . يُرَاد بهَا: الديمومة، لَا الوقتان المعينان. وَالله تَعَالَى أعلم.
38 - (بابٌ إذَا أُقِيمَتِ الصلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إلاَّ المَكْتُوبَةُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا أُقِيمَت ... إِلَى آخِره، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا لفظ حَدِيث أخرجه مُسلم فِي: كتاب الصَّلَاة، من طرق كَثِيرَة عَن عَمْرو بن دِينَار الْمَكِّيّ عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بشر بن خلف. فَإِن قلت: مَا كَانَ الْمَانِع للْبُخَارِيّ جعل هَذَا تَرْجَمَة وَلم يُخرجهُ؟ قلت: اخْتلف هَذَا على عَمْرو بن دِينَار فِي رَفعه وَوَقفه، فَلذَلِك لم يُخرجهُ، وَلَكِن الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْبَاب يُغني عَن ذَلِك، كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
55 - (حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن عَاصِم عَن عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة قَالَ مر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَجُل. قَالَ وحَدثني عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدثنَا بهز بن أَسد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي سعد بن إِبْرَاهِيم قَالَ سَمِعت حَفْص بن عَاصِم قَالَ سَمِعت رجلا من الأزد يُقَال لَهُ مَالك بن بُحَيْنَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى رجلا وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاث بِهِ النَّاس فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آلصبح أَرْبعا آلصبح أَرْبعا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " آلصبح أَرْبعا " حَيْثُ أنكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الرجل الَّذِي كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بعد أَن أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ " آلصبح أَرْبعا " أَي الصُّبْح تصلى أَرْبعا لِأَنَّهُ إِذا صلى رَكْعَتَيْنِ بعد أَن أُقِيمَت الصَّلَاة ثمَّ يُصَلِّي مَعَ الإِمَام رَكْعَتَيْنِ صَلَاة الصُّبْح فَيكون فِي معنى من صلى الصُّبْح أَرْبعا فَدلَّ هَذَا على أَن لَا صَلَاة بعد الْإِقَامَة إِلَّا الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة (فَإِن قلت) حَدِيث التَّرْجَمَة أَعم لِأَنَّهُ يَشْمَل سَائِر الصَّلَوَات وَحَدِيث الْبَاب فِي صَلَاة الصُّبْح (قلت) كِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى وَاحِد لِأَن الحكم فِي الْإِنْكَار فِيهِ أَن يتفرغ الْمُصَلِّي للفريضة من أَولهَا حَتَّى لَا تفوته فَضِيلَة الْإِحْرَام مَعَ الإِمَام فَهَذَا يعم الْكل فِي الْحَقِيقَة وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن تكون اللَّام فِي حَدِيث التَّرْجَمَة عهدية فيتفقان (قلت) لَا حَاجَة إِلَى ذكر الِاحْتِمَال لِأَن الأَصْل فِي اللَّام أَن تكون للْعهد فِي الأَصْل فحين قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة " لَا نزاع أَنه كَانَ ذَلِك فِي وَقت صَلَاة من الصَّلَوَات (ذكر رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأوسي الْمدنِي. الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو اسحق الزُّهْرِيّ الْمدنِي. الثَّالِث أَبوهُ سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الرَّابِع حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة وبحينة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَفِي آخِره هَاء وَهِي بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب بن عبد منَاف وَهُوَ اسْم أم عبد الله وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي بُحَيْنَة أم أَبِيه مَالك ابْن القشب بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ لقب واسْمه جُنْدُب بن نَضْلَة بن عبد الله بن رَافع الْأَزْدِيّ وَقَالَ ابْن سعد بُحَيْنَة عَبدة بنت الْحَارِث لَهَا صُحْبَة وَقَالَ قدم مَالك بن القشب مَكَّة فِي الْجَاهِلِيَّة فحالف بني الْمطلب بن عبد منَاف وَتزَوج بُحَيْنَة بنت الْحَارِث بن الْمطلب وَأدْركت بُحَيْنَة الْإِسْلَام فَأسْلمت وصحبت وَأسلم ابْنهَا عبد الله قَدِيما وَحكى ابْن عبد الْبر خلافًا لبحينة هَل هِيَ أم عبد الله أَو أم مَالك وَالصَّوَاب أَنَّهَا أم عبد الله كَمَا قُلْنَا. السَّادِس عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي مَاتَ فِي سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. السَّابِع بهز بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي(5/182)
آخِره زَاي بن أَسد الْعمي أَبُو الْأسود الْبَصْرِيّ. الثَّامِن شُعْبَة بن الْحجَّاج. التَّاسِع مَالك بن بُحَيْنَة قَالَ ابْن الْأَثِير لَهُ صُحْبَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة مَالك بن بُحَيْنَة وَالِد عبد الله ورد عَنهُ حَدِيث وَصَوَابه لعبد الله وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمته مَالك بن بُحَيْنَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا وهم وَقَالَ ابْن معِين عبد الله هُوَ الَّذِي روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَ يروي أَبوهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا نَقله عَنهُ الغسائي (ذكر لطائف إِسْنَاده) هُنَا إسنادان الأول عَن عبد الْعَزِيز عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن حَفْص بن عَاصِم عَن عَمْرو بن مَالك. الْإِسْنَاد الثَّانِي عَن عبد الرَّحْمَن عَن بهز عَن شُعْبَة عَن سعد عَن حَفْص عَن مَالك بن بُحَيْنَة هَكَذَا يَقُول شُعْبَة فِي هَذَا الصَّحَابِيّ وَتَابعه على ذَلِك أَبُو عوَانَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَحكم الْحفاظ يحيى بن معِين وَأحمد وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ والإسماعيلي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو مَسْعُود وَآخَرُونَ عَلَيْهِم بالوهم فِي موضِعين أَحدهمَا أَن بُحَيْنَة وَالِدَة عبد الله لَا وَالِدَة مَالك. والآخران الصُّحْبَة وَالرِّوَايَة لعبد الله لَا لمَالِك وجنح الدَّاودِيّ إِلَى أَن مَالِكًا لَهُ صُحْبَة حَيْثُ قَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَاف لَا يضر فَأَي الرجلَيْن كَانَ فَهُوَ صَاحب (فَإِن قلت) لم لم يسق البُخَارِيّ لفظ رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وتحول إِلَى رِوَايَة شُعْبَة (قلت) كَأَنَّهُ أوهم أَنَّهُمَا متوافقتان وَلَيْسَ كَذَلِك وَقد سَاق مُسلم رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد بالسند الْمَذْكُور وَلَفظه " مر بِرَجُل يُصَلِّي وَقد أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فكلمة بِشَيْء لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا انصرفنا أحطنا نقُول مَاذَا قَالَ لَك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَالَ لي يُوشك أحدكُم أَن يُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " فَفِي هَذَا السِّيَاق مُخَالفَة لسياق شُعْبَة فِي كَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلم الرجل وَهُوَ يُصَلِّي وَرِوَايَة شُعْبَة تَقْتَضِي أَنه كَلمه بَعْدَمَا فرغ (قلت) يُمكن الْجمع بَينهمَا أَنه كَلمه أَولا سرا وَلِهَذَا احتاجوا أَن يسألوه ثمَّ كَلمه ثَانِيًا جَهرا فسمعوه وَفَائِدَة التّكْرَار تَقْرِير الْإِنْكَار وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي سَبْعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين نيسابوري وبصري ومدني وواسطي وَفِيه أَن شَيْخه عبد الْعَزِيز من أَفْرَاده وَفِيه اثْنَان من الصَّحَابَة على قَول من يَقُول مَالك بن بُحَيْنَة من الصَّحَابَة وَفِيه اثْنَان من التَّابِعين أَحدهمَا سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَ من أجلة التَّابِعين وَالْآخر حَفْص بن عَاصِم (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه وَعَن قُتَيْبَة عَن أبي عوَانَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن حَفْص بن عَاصِم عَن ابْن بُحَيْنَة بِهِ قَالَ وَقَوله عَن أَبِيه خطأ بُحَيْنَة هِيَ أم عبد الله قَالَ أَبُو مَسْعُود وَهَذَا يخطيء فِيهِ القعْنبِي بقوله عَن أَبِيه وَأسْقط مُسلم من أَوله عَن أَبِيه ثمَّ قَالَ فِي عقبه وَقَالَ القعْنبِي عَن أَبِيه وَأهل الْعرَاق مِنْهُم شُعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَأَبُو عوَانَة يَقُولُونَ عَن سعد عَن حَفْص عَن مَالك بن بُحَيْنَة وَأهل الْحجاز قَالُوا فِي نِسْبَة عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة وَهُوَ الْأَصَح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وهب بن جرير عَن شُعْبَة بِإِسْنَاد نَحوه وَقَالَ هَذَا خطأ وَالصَّوَاب عبد الله بن بُحَيْنَة وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " من الأزد " بِسُكُون الزَّاي وَيُقَال لَهُ الْأسد أَيْضا وهم أَزْد شنُوءَة وبالسين رِوَايَة الْأصيلِيّ قَوْله " رأى رجلا " هُوَ عبد الله الرَّاوِي كَمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِهِ وَهُوَ يُصَلِّي " وَفِي رِوَايَة " خرج وَابْن القشب يُصَلِّي " وَأخرج ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ " كنت أُصَلِّي وَأخذ الْمُؤَذّن بِالْإِقَامَةِ فجذبني النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ أَتُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " (فَإِن قلت) يحْتَمل أَن يكون الرجل هُوَ ابْن عَبَّاس (قلت) لَا بل هما قضيتان قَوْله " وَقد أُقِيمَت " هُوَ ملتقى الإسنادين وَالْقدر الْمُشْتَرك بَين الطَّرِيقَيْنِ إِذْ تَقْدِيره مر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرَجُل وَقد أُقِيمَت وَمَعْنَاهُ وَقد نُودي للصَّلَاة بالألفاظ الْمَخْصُوصَة قَوْله " فَلَمَّا انْصَرف " أَي من الصَّلَاة قَوْله " لاث بِهِ النَّاس " بالثاء الْمُثَلَّثَة الْخَفِيفَة أَي دَار وأحاط وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة أصل اللوث الطي وَيُقَال لاث عمَامَته أَي أدارها وَيُقَال فلَان يلوث بِي أَي يلوذ بِي وَالْمَقْصُود أَن النَّاس أحاطوا بِهِ والتفوا حوله وَالضَّمِير فِي بِهِ يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكِن طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد الْمُتَقَدّمَة تَقْتَضِي أَنه يرجع إِلَى الرجل قَوْله " آلصبح أَرْبعا " بِهَمْزَة ممدودة فِي أَوله وَيجوز قصرهَا وَهُوَ اسْتِفْهَام للإنكار التوبيخي وَالصُّبْح مَنْصُوب بإضمار فعل(5/183)
مُقَدّر تَقْدِيره أَتُصَلِّي الصُّبْح وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيجوز الصُّبْح بِالرَّفْع أَي الصُّبْح تصلى أَرْبعا (قلت) يكون الصُّبْح على هَذَا التَّقْدِير مُبْتَدأ وَقَوله تصلي أَرْبعا جملَة وَقعت خَبرا وَالضَّمِير مَحْذُوف لِأَن تَقْدِيره تصليه أَرْبعا وَالضَّمِير الَّذِي يَقع مَفْعُولا حذفه شَائِع ذائع وانتصاب أَرْبعا على الْحَال قَالَه ابْن مَالك وَقَالَ الْكرْمَانِي على الْبَدَلِيَّة (قلت) يكون بدل الْكل من الْكل لِأَن الصُّبْح صَار فِي معنى الْأَرْبَع وَيجوز أَن يكون بدل الْكل من الْبَعْض لِأَن الْأَرْبَع ضعف صَلَاة الصُّبْح وَيجوز أَن يكون بدل الاشتمال لِأَن الَّذِي صلاهَا الرجل أَربع رَكْعَات فِي الْمَعْنى (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن دخل الْمَسْجِد لصَلَاة الصُّبْح فأقيمت الصَّلَاة هَل يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر أم لَا فَكرِهت طَائِفَة أَن يرْكَع رَكْعَتي الْفجْر فِي الْمَسْجِد وَالْإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر محتجين بِهَذَا الحَدِيث وروى ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَسَعِيد بن جُبَير وَعُرْوَة وَابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَقَالَت طَائِفَة لَا بَأْس أَن يُصَلِّيهمَا خَارج الْمَسْجِد إِذا تَيَقّن أَنه يدْرك الرَّكْعَة الْأَخِيرَة مَعَ الإِمَام وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَّا أَن الْأَوْزَاعِيّ أجَاز أَن يركعهما فِي الْمَسْجِد وَقَالَ الثَّوْريّ إِن خشِي فَوت رَكْعَة دخل مَعَه وَلم يصلهمَا وَإِلَّا صلاهما فِي الْمَسْجِد وَقَالَ صَاحب الْهِدَايَة وَمن انْتهى إِلَى الإِمَام فِي صَلَاة الْفجْر وَهُوَ لم يصل رَكْعَتي الْفجْر إِن خشِي أَن تفوته رَكْعَة يَعْنِي من صَلَاة الْفجْر لاشتغاله بِالسنةِ وَيدْرك الرَّكْعَة الْأُخْرَى وَهِي الثَّانِيَة يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر عِنْد بَاب الْمَسْجِد ثمَّ يدْخل الْمَسْجِد لِأَنَّهُ أمكنه الْجمع بَين الفضيلتين يَعْنِي فَضِيلَة السّنة وفضيلة الْجَمَاعَة وَإِنَّمَا قيد بقوله عِنْد بَاب الْمَسْجِد لِأَنَّهُ لَو صلاهما فِي الْمَسْجِد كَانَ متنفلا فِيهِ مَعَ اشْتِغَال الإِمَام بِالْفَرْضِ وَإنَّهُ مَكْرُوه لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة " وخصت سنة الْفجْر بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تدعوهما وَإِن طردتكم الْخَيل " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة هَذَا إِذا كَانَ عِنْد بَاب الْمَسْجِد مَوضِع لذَلِك وَإِن لم يكن يُصَلِّيهمَا فِي الْمَسْجِد خلف سَارِيَة من سواريه خلف الصُّفُوف وَذكر فَخر الْإِسْلَام وأشدها كَرَاهَة أَن يُصَلِّي مخالطا للصف مُخَالفا للْجَمَاعَة وَالَّذِي يَلِي ذَلِك خلف الصَّفّ من غير حَائِل بَينه وَبَين الصَّفّ وَفِي الذَّخِيرَة السّنة فِي سنة الْفجْر يَعْنِي رَكْعَتي الْفجْر أَن يَأْتِي بهما فِي بَيته فَإِن لم يفعل فَعِنْدَ بَاب الْمَسْجِد إِذا كَانَ الإِمَام يُصَلِّي فِيهِ فَإِن لم يُمكنهُ فَفِي الْمَسْجِد الْخَارِج إِذا كَانَ الإِمَام فِي الْمَسْجِد الدَّاخِل وَفِي الدَّاخِل إِذا كَانَ الإِمَام فِي الْخَارِج وَفِي الْمُحِيط وَقيل يكره ذَلِك كُله لِأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة مَسْجِد وَاحِد وَعند الظَّاهِرِيَّة أَنه يقطع الصَّلَاة إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَفِي الْجلاب يُصَلِّيهمَا وَإِن فَاتَتْهُ الصَّلَاة مَعَ الإِمَام إِذا كَانَ الْوَقْت وَاسِعًا وَاسْتدلَّ من كره صلاتهما بِحَدِيث الْبَاب وَبِمَا فِي مُسلم من حَدِيث عبد الله بن سرجس " جَاءَ رجل وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الصُّبْح فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة فَلَمَّا انْصَرف قَالَ لَهُ يَا فلَان أَيَّتهمَا صَلَاتك الَّتِي صليتها وَحدك أَو الَّتِي صليت مَعنا " وَبِمَا ذكره ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " كنت أُصَلِّي " الحَدِيث وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن أنس " خرج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أُقِيمَت الصَّلَاة فَرَأى نَاسا يصلونَ رَكْعَتَيْنِ بالعجلة فَقَالَ صلاتان مَعًا فَنهى أَن تصليا فِي الْمَسْجِد إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة (فَإِن قلت) قد روى ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي عِنْد الْإِقَامَة فِي بَيت مَيْمُونَة (قلت) هَذَا الحَدِيث وهاه ابْن الْقطَّان وَغَيره فِي كتاب الصَّلَاة للدكيني عَن سُوَيْد بن غَفلَة كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يضْرب على الصَّلَاة قبل الْإِقَامَة وَرَأى ابْن جُبَير رجلا يُصَلِّي حِين أُقِيمَت الصَّلَاة فَقَالَ لَيست هَذِه سَاعَة صَلَاة وَعَن صَفْوَان بن موهب أَنه سمع مُسلم بن عقيل يَقُول للنَّاس وهم يصلونَ وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة وَيْلكُمْ إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة وَعند الْبَيْهَقِيّ رأى ابْن عمر رجلا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ والمؤذن يُقيم فَحَصَبه وَقَالَ أَتُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا وَذكر أَبُو أُميَّة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الطرسوسي فِي كِتَابه مُسْند ابْن عمر رَفعه من حَدِيث قدامَة بن مُوسَى عَن رجل من بني حَنْظَلَة عَن أبي عَلْقَمَة عَن يسَار بن نمير مولى ابْن عمر قَالَ " رَآنِي ابْن عمر وَأَنا أُصَلِّي الْفجْر فَقَالَ يَا يسَار إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فتغيظ علينا وَقَالَ ليبلغ شاهدكم غائبكم لَا صَلَاة بعد الْفجْر إِلَّا رَكْعَتَيْنِ " وَذكر ابْن حزم نَحوه عَن ابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم وَعند أبي نعيم الْفضل عَن طَاوس " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَأَنت فِي الصَّلَاة فدعها " وَعند عبد الرَّزَّاق(5/184)
قَالَ سعيد بن جُبَير " إقطع صَلَاتك عِنْد الْإِقَامَة " وَعند ابْن أبي شيبَة قَالَ سُفْيَان كَانَ قيس بن أبي حَازِم يأمنا فَأَقَامَ الْمُؤَذّن الصَّلَاة وَقد صلى رَكْعَة فَتَركهَا ثمَّ تقدم فصلى بِنَا وَكَذَا قَالَه الشّعبِيّ وَاسْتدلَّ من أجَاز ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق حجاج بن نصير عَن عباد بن كثير عَن لَيْث عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة إِلَّا رَكْعَتي الْفجْر " قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا وحجاج وَعباد ضعيفان (قلت) قَالَ يَعْقُوب بن شيبَة سَأَلت ابْن معِين عَن حجاج بن نصير الفساطيطي الْبَصْرِيّ فَقَالَ صَدُوق وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَعباد بن كثير كَانَ من الصَّالِحين وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه دخل الْمَسْجِد وَقد أُقِيمَت صَلَاة الصُّبْح فَرَكَعَ رَكْعَتي الْفجْر إِلَى أسطوانة بِمحضر حُذَيْفَة وَأبي مُوسَى قَالَ ابْن بطال وروى مثله عَن عمر بن الْخطاب وَأبي الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَعَن ابْن عمر أَنه أَتَى الْمَسْجِد لصَلَاة الصُّبْح فَوجدَ الإِمَام يُصَلِّي فَدخل بَيت حَفْصَة فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل فِي صَلَاة الإِمَام وَعند ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم كَانَ يَقُول إِن بَقِي من صَلَاتك شَيْء فأتممه وَعنهُ إِذا افتتحت الصَّلَاة تَطَوّعا وأقيمت الصَّلَاة فَأَتمَّ الثَّانِي من الْوُجُوه فِي حِكْمَة إِنْكَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة عِنْد إِقَامَة الْفَرْض فَقَالَ عِيَاض لِئَلَّا يَتَطَاوَل الزَّمَان فيظن وُجُوبهَا وَيُؤَيِّدهُ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد " يُوشك أحدكُم أَن يُصَلِّي الصُّبْح أَرْبعا " وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وعَلى هَذَا إِذا حصل الْأَمْن لَا يكره ذَلِك وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ متعقب بِعُمُوم حَدِيث التَّرْجَمَة (قلت) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} يخص هَذَا الْعَام مَعَ مَا روى عَن هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْمَذْكُورين آنِفا وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا وَقيل لِئَلَّا تَلْتَبِس صَلَاة الْفَرْض بالنفل وَإِلَى هَذَا جنح الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو كَانَ خَارج الْمَسْجِد أَو فِي زَاوِيَة مِنْهُ لم يكره وَهُوَ متعقب أَيْضا بِمَا ذكر انْتهى (قلت) دَعْوَاهُ التعقب متعقبة لِأَن الأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل وَهُوَ وَجه الْحِكْمَة فالعلة فِي حَدِيث التَّرْجَمَة هِيَ كَونه جَامعا بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فِي مَكَان وَاحِد فَإِذا صلى خَارج الْمَسْجِد أَو فِي زَاوِيَة مِنْهُ لَا يلْزم ذَلِك وَهُوَ كنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من صلى الْجُمُعَة أَن يُصَلِّي بعْدهَا تَطَوّعا فِي مَكَان وَاحِد كَمَا نهى من صلى الْجُمُعَة أَن يتَكَلَّم أَو يتَقَدَّم وَقَالَ هَذَا الْقَائِل هَذَا أَيْضا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن سَبَب الْإِنْكَار عدم الْفَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل لِئَلَّا يلتبسا وَإِلَى هَذَا جنح الطَّحَاوِيّ وَاحْتج لَهُ بالأحاديث الْوَارِدَة بِالْأَمر بذلك وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَو كَانَ فِي زَاوِيَة من الْمَسْجِد لم يكره وَهُوَ متعقب بِمَا ذكره. إِذْ لَو كَانَ المُرَاد مُجَرّد الْفَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل لم يحصل إِنْكَار أصلا لِأَن ابْن بُحَيْنَة سلم من صلَاته قطعا ثمَّ دخل فِي الْفَرْض انْتهى (قلت) ذكر شَيْئا لَا يجدي لرده مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ فَلَو نقل مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا لَكَانَ علم أَن رده لَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ أَنه روى بِسَنَدِهِ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِابْن بُحَيْنَة وَهُوَ يُصَلِّي بَين يَدي نِدَاء الصُّبْح فَقَالَ لَا تجْعَلُوا هَذِه الصَّلَاة كَصَلَاة الظّهْر وَاجْعَلُوا بَينهمَا فصلا " فَبَان بِهَذَا أَن الَّذِي كرهه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ بُحَيْنَة وَصله إِيَّاهَا بالفريضة فِي مَكَان وَاحِد دون أَن يفصل بَينهمَا بِشَيْء يسير (قلت) فَعلم بذلك أَنه مَا اعْتبر الْفَصْل الْيَسِير وَالسَّلَام مِنْهُ وَكَانَ سَبَب الْكَرَاهَة الْوَصْل بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فِي مَكَان وَاحِد وَلَا اعْتِبَار بِالْفَصْلِ بِالسَّلَامِ فَمُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يكره خَارج الْمَسْجِد وَلَا فِي زَاوِيَة مِنْهُ وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي استنباط الْأَحْكَام من النُّصُوص وَلَيْسَ ذَلِك بالتحسيس من الْخَارِج وَقَالَ النَّوَوِيّ الْحِكْمَة فِي الْإِنْكَار الْمَذْكُور أَن يتفرغ للفضيلة من أَولهَا فيشرع فِيهَا عقيب شُرُوع الإِمَام والمحافظة على مكملات الْفَرِيضَة أولى من التشاغل بالنافلة (قلت) الِاشْتِغَال بِسنة الْفجْر الَّذِي ورد فِيهِ التَّأْكِيد بالمحافظة عَلَيْهَا مَعَ الْعلم بإدراكه الْفَرِيضَة أولى (فَإِن قلت) فِي حَدِيث التَّرْجَمَة منع عَن التَّنَفُّل بعد الشُّرُوع فِي إِقَامَة الصَّلَاة سَوَاء كَانَ من الرَّوَاتِب أَو لَا لما روى مُسلم بن خَالِد عَن عَمْرو بن دِينَار فِي هَذَا الحَدِيث " قيل يَا رَسُول الله وَلَا رَكْعَتي الْفجْر قَالَ وَلَا رَكْعَتي الْفجْر " أخرجه ابْن عدي فِي تَرْجَمَة يحيى بن نصر ابْن حَاجِب (قلت) روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن على شَيْء من النَّوَافِل أَشد تعاهدا مِنْهُ على رَكْعَتَيْنِ قبل الصُّبْح " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تدعوهما وَإِن طردتكم الْخَيل " أَي لَا تتركوهما وَإِن طردتكم الفرسان فَهَذَا كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة وحث عَظِيم على مواظبتهما وَعَن هَذَا أَصْحَابنَا ذَهَبُوا فِيهِ إِلَى مَا ذكرنَا عَنْهُم على أَن فِيهِ الْجمع بَين الْأَمريْنِ(5/185)
فَافْهَم. الْوَجْه الثَّالِث أَن قَوْله فِي التَّرْجَمَة إِلَّا الْمَكْتُوبَة أَي الْمَفْرُوضَة يَشْمَل الْحَاضِرَة والفائتة وَلَكِن المُرَاد الْحَاضِرَة وَصرح بذلك أَحْمد والطَّحَاوِي من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الَّتِي أُقِيمَت " وَقد مر وَجه الْإِنْكَار فِيهِ مستقصى
(تَابعه غنْدر ومعاذ عَن شُعْبَة عَن مَالك) أَي تَابع بِهَذَا غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر أَبُو عبد الله بن امْرَأَة شُعْبَة وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَقد تقدم غير مرّة وَقد وصل أَحْمد طَرِيق غنْدر عَنهُ كَذَلِك قَوْله " ومعاذ " أَي وَتَابعه معَاذ أَيْضا وَهُوَ معَاذ ابْن معَاذ أَبُو الْمثنى الْبَصْرِيّ قاضيها وَوصل طَرِيقه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه قَوْله " فِي مَالك " أَي فِي الرِّوَايَة عَن مَالك بن بُحَيْنَة. ويروى عَن مَالك وَهِي أوضح وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
(وَقَالَ ابْن إِسْحَاق عَن سعد عَن حَفْص عَن عبد الله بن بُحَيْنَة) ابْن إِسْحَاق هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن حَفْص بن عَاصِم وَهَذِه الرِّوَايَة مُوَافقَة لرِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه وَهِي الراجحة وَقَالَ أَبُو مَسْعُود أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ عبد الله بن بُحَيْنَة وَأهل الْعرَاق يَقُولُونَ مَالك بن بُحَيْنَة وَالْأول هُوَ الصَّوَاب وَرَوَاهُ القعْنبِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة عَن أَبِيه قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَوْله عَن أَبِيه خطأ وَأسْقط مُسلم فِي كِتَابه من هَذَا الْإِسْنَاد قَوْله عَن أَبِيه من رِوَايَة القعْنبِي وَلم يذكرهُ لكنه نبه عَلَيْهِ وَقَالَ يحيى بن معِين ذكر أَبِيه خطأ لَيْسَ يروي أَبوهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا
(وَقَالَ حَمَّاد أخبرنَا سعد عَن حَفْص عَن مَالك) حَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة جزم بِهِ الْمزي وَجَمَاعَة آخَرُونَ وَكَذَا أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن مندة مَوْصُولا من طَرِيقه. وَقَالَ الْكرْمَانِي حَمَّاد أَي ابْن زيد وَهُوَ وهم مِنْهُ وَالْمرَاد أَن حَمَّاد بن سَلمَة وَافق شُعْبَة فِي قَوْله عَن مَالك بن بُحَيْنَة فَافْهَم -
39 - (بابُ حَدِّ المَرِيضِ أنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حد الْمَرِيض، لِأَن يشْهد الْجَمَاعَة، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: لشهود الْجَمَاعَة، وَحَاصِل الْمَعْنى: بَاب فِي بَيَان مَا يحد للْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة، حَتَّى إِذا جَاوز ذَلِك الْحَد لم يسْتَحبّ لَهُ شهودها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن رشيد، وَقد تكلّف الشُّرَّاح فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ العسف مِنْهُم ابْن بطال، فَقَالَ: معنى الْحَد هُنَا: الحدة، كَمَا قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد، أَي: الحدة. وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن التِّين، وَالْمعْنَى على هَذَا: الحض على شُهُود الْجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن التِّين أَيْضا: وَيصِح أَن يُقَال أَيْضا: فِي بَاب جد الْمَرِيض، بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، بِمَعْنى: بَاب اجْتِهَاد الْمَرِيض لشهود الْجَمَاعَة. ثمَّ قَالَ: لَكِن لم أسمع أحدا رَوَاهُ بِالْجِيم. قلت: روى ابْن قرقول رِوَايَة الْجِيم وَعَزاهَا للقابسي.
664 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَذَكَرْنَا المُوَاظَبَةَ عَلى الصَّلاَةِ والتَّعْظِيمَ لَهَا قالَتْ لمَّا مَرضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَضَهُ الَّذِي ماتَ فِيهِ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فأذَّنَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ إذَا قامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُصَلِّي بالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأعَادُوا لَهُ فَأعَادَ الثَّالِثَةَ فقالَ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وسلممِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأنِّي أنْظُرُ رجْلَيْهِ تَخُطَّانِ الأَرْضَ مِنَ الوَجَعِ فأرَادَ أبُو بَكْرٍ أنْ يَتأخَّرَ فَأوْمَأ إلَيْهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ(5/186)
وَسلم أنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِه قيلَ لِلأعْمَشِ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وأبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أبي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأسِهِ نَعَمْ. .
مناسبته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى الْجَمَاعَة وَهُوَ مَرِيض يهادي بَين اثْنَيْنِ، فَكَانَ هَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْحَد لحضور الْجَمَاعَة، حَتَّى لَو زَاد على ذَلِك أَو لم يجد من يحملهُ إِلَيْهَا لَا يسْتَحبّ لَهُ الْحُضُور، فَلَمَّا تحامل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَخرج بَين اثْنَيْنِ دلّ على تَعْظِيم أَمر الْجَمَاعَة، وَدلّ على فضل الشدَّة على الرُّخْصَة، وَفِيه ترغيب لأمته فِي شُهُود الْجَمَاعَة لما لَهُم فِيهِ من عَظِيم الْأجر، وَلِئَلَّا يعْذر أحد مِنْهُم نَفسه فِي التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة مَا أمكنه وَقدر عَلَيْهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: التَّصْرِيح باسم الْجد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: ة أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن منْجَاب ابْن الْحَارِث وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي كريب عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد.
ذكر اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِي هَذِه الْقِصَّة: عِنْد مُسلم فِي لفظ: (أول مَا اشْتَكَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيت مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَاسْتَأْذَنَ أَزوَاجه أَن يمرض فِي بَيْتِي فأذنَّ لَهُ. قَالَت: فَخرج وَيَده على الْفضل بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْأُخْرَى على رجل آخر، وَهُوَ يخط برجليه فِي الأَرْض. قَالَت: فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَجَعه قَالَ: أهريقوا عَليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعَلي أَعهد إِلَى النَّاس، فأجلسناه فِي مخضب لحفصة، ثمَّ طفقنا نصب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْقرب حَتَّى طفق يُشِير إِلَيْنَا أَن قد فعلتن. ثمَّ خرج إِلَى النَّاس فصلى بهم وخطبهم) (قَالَت عَائِشَة: إِن أَبَا بكر إِذا قَامَ مقامك لم يُسمع النَّاس من الْبكاء، فَمر عمر فليصلِّ بِالنَّاسِ. فَفعلت حَفْصَة، فَقَالَ: مَه، إنكن لأنتن صَوَاحِب يُوسُف، مروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَت لعَائِشَة: مَا كنت لأصيب مِنْك خيرا) وَفِي (فَضَائِل الصَّحَابَة) لأسد بن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة فِي حَدِيث طَوِيل فِي مرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَرَأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَفسه خفَّة، فَانْطَلق يهادي بَين رجلَيْنِ، فَذهب أَبُو بكر يسْتَأْخر فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ: مَكَانك، فَاسْتَفْتَحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر من الْقِرَاءَة) ، وَفِي حَدِيثه عَن الْمُبَارك بن فضَالة عَن الْحسن مُرْسلا: (فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد ذهب أَبُو بكر يجلس، فَأَوْمأ إِلَيْهِ، أَن: كَمَا كنت، فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلف أبي بكر لِيُرِيَهُمْ أَنه صَاحب صلَاتهم من بعده، وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يَوْمه ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ) . وَعند ابْن حبَان: (فأجلسناه فِي مخضب لحفصة من نُحَاس، ثمَّ خرج فَحَمدَ الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ واستغفر للشهداء الَّذين قتلوا يَوْم أحد) ، وعنها: (رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جَنَازَة بِالبَقِيعِ وَأَنا أجد صداعا فِي رَأْسِي، وَأَنا أَقُول: وَا رأساه، فَقَالَ: بل أَنا يَا عَائِشَة وارأساه. ثمَّ قَالَ: وَمَا ضرك لَو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وَصليت عَلَيْك ثمَّ دفنتك؟ فَقلت: لكَأَنِّي بك لَو فعلت ذَلِك رجعت إِلَى بَيْتِي فأعرست فِيهِ بِبَعْض نِسَائِك، فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بدا فِي وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ) . وعنها: (أُغمي عَلَيْهِ وَرَأسه فِي حجري، فَجعلت أمسحه وأدعو لَهُ بالشفاء، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: لَا، بل اسْأَل الله الرفيق الْأَعْلَى مَعَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل عَلَيْهِم السَّلَام) . وَفِي لفظ: (سمعته، وَأَنا مسندته إِلَى صَدْرِي يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الْأَعْلَى) . وَفِي لفظ: (إِن أَبَا بكر صلى بِالنَّاسِ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّفّ خَلفه) . وَلَفظه: عِنْد التِّرْمِذِيّ: (صلى خلف أبي بكر فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدا) . وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، وَعِنْده من حَدِيث أنس: (صلى فِي مَرضه خلف أبي بكر قَاعِدا فِي ثوب متوشحا بِهِ) . وَقَالَ: حسن صَحِيح. زَاد النَّسَائِيّ: وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا مَعَ الْقَوْم. قَالَ ابْن حبَان: خَالف شُعْبَة زَائِدَة بن قدامَة فِي متن هَذَا الْخَبَر عَن مُوسَى، فَجعل شُعْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما حَيْثُ صلى قَاعِدا، وَالْقَوْم قيام، وَجعله زَائِدَة إِمَامًا حَيْثُ صلى قَاعِدا وَالْقَوْم قيام، وهما متقنان حَافِظَانِ(5/187)
وَلَيْسَ بَين حديثيهما تضَاد وَلَا تهاتر وَلَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ، بل مُجمل مُفَسّر. وَإِذا ضم بَعْضهَا إِلَى بعض بَطل التضاد بَينهمَا، وَاسْتعْمل كل خبر فِي مَوْضِعه. بَيَان ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي علته صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد جمَاعَة لَا صَلَاة وَاحِدَة، فِي إِحْدَاهمَا: كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما، وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك فِي خبر عبد الله بن جريج: بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا الْعَبَّاس وَالْآخر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي خبر مَسْرُوق: خرج بَين بَرِيرَة ونوبة، فَهَذَا يدلك على أَنَّهَا كَانَت صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاة وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ التَّوْفِيق بَين كَلَام نعيم بن أبي هِنْد، وَبَين كَلَام عَاصِم بن أبي النجُود فِي متن خبر أبي وَائِل، فَإِن فِيهِ: (وَجِيء بِنَبِي لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع بحذاء أبي بكر فِي الصَّفّ) قَالَ أَبُو حَاتِم: فِي هَذِه الصَّلَاة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُوما وَصلى قَاعِدا خلف أبي بكر، فَإِن عَاصِمًا جعل أَبَا بكر مَأْمُوما وَجعل نعيم أَبَا بكر إِمَامًا، وهما ثقتان حَافِظَانِ متقنان. وَذكر أَبُو حَاتِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بَين الجاريتين إِلَى الْبَاب، وَمن الْبَاب أَخذه الْعَبَّاس وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حَتَّى دخلا بِهِ الْمَسْجِد، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) : (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهادي بَين الرجلَيْن: أُسَامَة وَالْفضل، حَتَّى صلى خلف أبي بكر) ، فِيمَا ذكره السُّهيْلي، وَزعم بعض النَّاس أَن طَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ الْعَبَّاس ألزمهم بِيَدِهِ، وَأُولَئِكَ يتناوبونها، فَذكرت عَائِشَة أَكْثَرهم مُلَازمَة ليده وَهُوَ: الْعَبَّاس، وعبرت عَن أحد المتناوبين بِرَجُل آخر. فَإِن قلت: لَيْسَ بَين الْمَسْجِد وبيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسَافَة تَقْتَضِي التناوب. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لزِيَادَة فِي إكرامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لالتماس الْبركَة من يَده وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ وجعا، فَأمر أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَوجدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خفَّة فجَاء فَقعدَ إِلَى جنب أبي بكر، فَأم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر وَهُوَ قَاعد، وَأم أَبُو بكر النَّاس وَهُوَ قَائِم) . وَفِي حَدِيث قيس عَن عبد الله ابْن أبي السّفر عَن الأرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مَرضه: مروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ، وَوجد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نَفسه خفَّة، فَخرج يهادي بَين رجلَيْنِ، فَتَأَخر أَبُو بكر فَجَلَسَ إِلَى جنب أبي بكر، فَقَرَأَ من الْمَكَان الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَبُو بكر من السُّورَة) ، وَفِي حَدِيث ابْن خُزَيْمَة أخرجه عَن سَالم بن عبيد قَالَ: (مرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق فَقَالَ: أحضرت الصَّلَاة؟ قُلْنَ: نعم. قَالَ: مروا بِلَالًا فليؤذن، ومروا أَبَا بكر فليصلِّ بِالنَّاسِ، ثمَّ أُغمي عَلَيْهِ) . فَذكر الحَدِيث. وَفِيه: (أُقِيمَت الصَّلَاة؟) قُلْنَ: نعم. قَالَ: جيئوني بِإِنْسَان فأعتمد عَلَيْهِ، فجاؤا ببريرة وَرجل آخر فاعتمد عَلَيْهِمَا. ثمَّ خرج إِلَى الصَّلَاة، فأجلس إِلَى جنب أبي بكر فَذهب أَبُو بكر يتَنَحَّى، فأمسكه حَتَّى فرغ من الصَّلَاة) . وَفِي كتاب عبد الرَّزَّاق: أَخْبرنِي ابْن جريج، أَخْبرنِي عَطاء قَالَ: (اشْتَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمر أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس يَوْمًا قَاعِدا وَجعل أَبَا بكر وَرَاءه بَينه وَبَين النَّاس، قَالَ: فصلى النَّاس وَرَاءه قيَاما، وَإِن صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا) . وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن زَمعَة، لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مروا أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ) ، خرج عبد الله ابْن زَمعَة، فَإِذا عمر فِي النَّاس، وَكَانَ أَبُو بكر غَائِبا، فَقَالَ: قُم يَا عمر فصلِّ بِالنَّاسِ، فَتقدم، فَلَمَّا سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوته قَالَ: أَيْن أَبُو بكر؟ يَأْبَى الله ذَلِك والمسلمون. فَبعث إِلَى أبي بكر فجَاء بعد أَن صلي عمر تِلْكَ الصَّلَاة، فصلى أَبُو بكر بِالنَّاسِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (والتعظيم لَهَا) ، بِالنّصب عطفا على: الْمُوَاظبَة، قَوْله: (مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ) ، قد بيَّن الزُّهْرِيّ فِي رِوَايَته كَمَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب، أَن ذَلِك كَانَ بعد أَن اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض وَاسْتقر فِي بَيت عَائِشَة. قَوْله: (فَأذن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، من: التأذين. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَأذن بِالْوَاو، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ أوجه قلت: لم يبين مَا وَجه الأوجهية، بل الْفَاء أوجه على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَإِذن) أَي: بِالصَّلَاةِ كَمَا فِي رِوَايَة أُخْرَى جَاءَ كَذَلِك، وَفِي أُخْرَى: وَجَاء بِلَال يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ، وَفِي أُخْرَى: إِن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الظّهْر. وَفِي مُسلم: خرج لصَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (مروا) أَصله: أؤمروا، لِأَنَّهُ من: أَمر، فحذفت الْهمزَة للاستثقال، واستغني عَن الْألف فحذفت، فَبَقيَ: مروا، على وزن: علو، لِأَن الْمَحْذُوف فَاء الْفِعْل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا أَمر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر، وَلَفظ: مروا، يدل على أَنهم الأمرون لَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أجَاب بقوله: الْأَصَح عِنْد الأصولي أَن الْمَأْمُور بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بِهِ، سِيمَا وَقد صرح النَّبِي بقوله هَهُنَا بِلَفْظ الْأَمر، حَيْثُ قَالَ: فَليصل. انْتهى. هَذِه مَسْأَلَة مَعْرُوفَة فِي الْأُصُول، وفيهَا خلاف. قَالَ بَعضهم: إِن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء يكون أمرا بِهِ، وَمِنْهُم من منع(5/188)
ذَلِك، وَقَالُوا: مَعْنَاهُ: بلغُوا فلَانا أَنِّي أَمرته. قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) الْفَاء فِيهِ للْعَطْف، تَقْدِيره: فَقولُوا لَهُ قولي: فَليصل. قَوْله: (فَقيل لَهُ) ، قَائِل ذَلِك عَائِشَة، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات. قَوْله: (أسيف) على وزن: فعيل، بِمَعْنى: فَاعل، من الأسف وَهُوَ شدَّة الْحزن، وَالْمرَاد: أَنه رَقِيق الْقلب سريع الْبكاء وَلَا يَسْتَطِيع لغَلَبَة الْبكاء وَشدَّة الْحزن، والأسف عِنْد الْعَرَب شدَّة الْحزن والندم. يُقَال مِنْهُ: أَسف فلَان على كَذَا يأسف، إِذا اشْتَدَّ حزنه، وَهُوَ رجل أسيف وأسوف، وَمِنْه قَول يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {يَا أسفي على يُوسُف} (يُوسُف: 84) يَعْنِي: واحزناه واجزعاه تأسفا وتوجعا لفقده. وَقيل: الأسيف: الضَّعِيف من الرِّجَال فِي بطشه. وَأما الأسف فَهُوَ: الغضبان المتلهف. قَالَ تَعَالَى: {فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا} (الْأَعْرَاف: 150) . وَسَيَأْتِي بعد سِتَّة أَبْوَاب من حَدِيث ابْن عمر فِي هَذِه الْقِصَّة، (فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: إِنَّه رجل رَقِيق الْقلب إِذا قَرَأَ غَلبه الْبكاء) . وَمن رِوَايَة مَالك عَن هِشَام عَن أَبِيه عَنْهَا، بِلَفْظ، قَالَت عَائِشَة: (قلت: إِن أَبَا بكر إِذا قَامَ فِي مقامك لم يسمع النَّاس من الْبكاء، فَمر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (وَأعَاد) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مقَالَته فِي أبي بكر بِالصَّلَاةِ. قَوْله: (فَأَعَادُوا لَهُ) أَي: من كَانَ فِي الْبَيْت، يَعْنِي: الْحَاضِرُونَ لَهُ مقالتهم فِي كَون أبي بكر أسيفا. فَإِن قلت: الْخطاب لعَائِشَة كَمَا ترى، فَمَا وَجه الْجمع؟ قلت: جمع لأَنهم كَانُوا فِي مقَام الموافقين لَهَا على ذَلِك، وَوَقع فِي حَدِيث أبي مُوسَى بِالْإِفْرَادِ، وَلَفظه: فَعَادَت، وَفِي رِوَايَة ابْن عمر: فعاودته. قَوْله: (فَأَعَادَ الثَّالِثَة) ، أَي: فَأَعَادَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمرة الثَّالِثَة فِي مقَالَته تِلْكَ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (فراجعته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) .
وَفِي اجْتِهَاد عَائِشَة فِي أَن لَا يتَقَدَّم والدها وَجْهَان: أَحدهمَا: مَا هُوَ مَذْكُور فِي بعض طرقه. (قَالَت) (وَمَا حَملَنِي على كَثْرَة مُرَاجعَته إلاَّ أَنه لم يَقع فِي قلبِي أَن يحب النَّاس من بعده رجلا قَامَ مقَامه أبدا، وَكنت أرى أَنه لن يقوم أحد مقَامه إلاَّ تشاءم النَّاس بِهِ، فَأَرَدْت أَن يعدل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر) . الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهَا علمت أَن النَّاس علمُوا أَن أَبَاهَا يصلح للخلافة، فَإِذا رَأَوْهُ استشعروا بِمَوْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف غَيره.
قَوْله: (إنكن صَوَاحِب يُوسُف) أَي: مثل صواحبه فِي التظاهر على مَا يردن من كَثْرَة الإلحاح فِيمَا يُمكن إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَن عَائِشَة وَحَفْصَة بالغتا فِي المعاودة إِلَيْهِ فِي كَونه أسيفا لَا يَسْتَطِيع ذَلِك. والصواحب جمع: صَاحِبَة، على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ شَاذ. وَقيل: يُرَاد بهَا امْرَأَة الْعَزِيز وَحدهَا، وَإِنَّمَا جمعهَا كَمَا يُقَال: فلَان يمِيل إِلَى النِّسَاء وَإِن كَانَ مَال إِلَى وَاحِدَة، وَعَن هَذَا قيل: إِن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب عَائِشَة وَحدهَا، كَمَا أَن المُرَاد زليخا وَحدهَا فِي قصَّة يُوسُف. قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (للنَّاس) . قَوْله: (فَخرج أَبُو بكر يُصَلِّي) فَإِن قلت: كَيفَ تتَصَوَّر الصَّلَاة وَقت الْخُرُوج؟ قلت: لفط: يُصَلِّي، وَقع حَالا من الْأَحْوَال المنتظرة. وَفِي رِوَايَة: فصلى، بفاء الْعَطف، وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي، وَرِوَايَة غَيرهمَا: يُصَلِّي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. وَظَاهره أَنه شرع فِي الصَّلَاة، وَيحْتَمل أَنه تهَيَّأ لَهَا، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْأَكْثَرين لِأَنَّهُ حَال، فَفِي حَالَة الْخُرُوج كَانَ متهيأ للصَّلَاة وَلم يكن مُصَليا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش: فَلَمَّا دخل فِي الصَّلَاة. قلت: يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: فَلَمَّا أَرَادَ الدُّخُول فِي الصَّلَاة، أَو: فَلَمَّا دخل فِي مَكَان الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة: فَأَتَاهُ الرَّسُول، أَي: بِلَال لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أعلم بِحُضُور الصَّلَاة. وَفِي رِوَايَة: فَقَالَ لَهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرك أَن تصلي بِالنَّاسِ. فَقَالَ أَبُو بكر، وَكَانَ رجلا رَقِيقا، يَا عمر! صل بِالنَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عمر: أَنْت أَحَق بذلك) . وَقَول أبي بكر هَذَا لم يرد بِهِ مَا أَرَادَت عَائِشَة. قَالَ النَّوَوِيّ: تَأَوَّلَه بَعضهم على أَنه قَالَه تواضعا وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَالَه للْعُذْر الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه رَقِيق الْقلب كثير الْبكاء، فخشي أَن لَا يسمع النَّاس. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فهم من الْإِمَامَة الصُّغْرَى الْإِمَامَة الْكُبْرَى، وَعلم مَا فِي تحملهَا من الْخطر، وَعلم قُوَّة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على ذَلِك فاختاره. وَيُؤَيِّدهُ أَنه عِنْد الْبيعَة أَشَارَ عَلَيْهِم أَن يبايعوه أَو يبايعوا أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح. قَوْله: (فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَفسه خفَّة) ظَاهره: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجدهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاة بِعَينهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك بعْدهَا. وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة: فصلى أَبُو بكر تِلْكَ الْأَيَّام، ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد من نَفسه خفَّة، فعلى هَذَا لَا يتَعَيَّن أَن تكون الصَّلَاة الْمَذْكُورَة هِيَ الْعشَاء، قَوْله: (يهادي بَين رجلَيْنِ) ، بِلَفْظ: الْمَجْهُول من المفاعلة، يُقَال: جَاءَ فلَان يهادي بَين اثْنَيْنِ، إِذا كَانَ يمشي بَينهمَا مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا من ضعفه، متمايلاً، إِلَيْهِمَا فِي مَشْيه من شدَّة الضعْف، وَالرجلَانِ هما: الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا يَأْتِي فِي الحَدِيث الثَّانِي من حَدِيثي الْبَاب، وَقد مر فِي بَيَان اخْتِلَاف(5/189)
الرِّوَايَات: فَخرج بَين بَرِيرَة ونوبة، بِضَم النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة؛ وَكَانَ عبدا أسود، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث سَالم بن عبيد فِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة بِلَفْظ: فَخرج بَين بَرِيرَة وَرجل آخر، وَقَالَ بَعضهم: وَذكره بَعضهم فِي النِّسَاء الصحابيات، وَهُوَ وهم، قلت: أَرَادَ بِالْبَعْضِ الذَّهَبِيّ، فَإِنَّهُ ذكر: نوبَة، فِي بَاب النُّون فِي الصحابيات، وَقَالَ: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَرضه بَين بَرِيرَة ونوبة، وَإِسْنَاده جيد، وَقد علمت أَن الذَّهَبِيّ من جهابذة الْمُتَأَخِّرين لَا يجاري فِي فنه. قَوْله: (يخطان الأَرْض) أَي: لم يكن يقدر على رفعهما من الأَرْض. قَوْله: (أَن مَكَانك) ، كلمة: أَن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون، ومكانك، مَنْصُوب على معنى: إلزم مَكَانك، وَفِي رِوَايَة عَاصِم: أَن اثْبتْ مَكَانك، وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة. فَأَوْمأ إِلَيْهِ بِأَن لَا يتَأَخَّر. قَوْله: (ثمَّ أُتِي بِهِ) بِضَم الْهمزَة أَي: أُتِي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جلس إِلَى جنبه، وَبَين ذَلِك فِي رِوَايَة الْأَعْمَش: حَتَّى جلس عَن يسَار أبي بكر، على مَا سَيَأْتِي فِي: بَاب مَكَان الْجُلُوس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي (شرح مُسلم) : لم يَقع فِي الصَّحِيح بَيَان جُلُوسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ عَن يَمِين أبي بكر أَو عَن يسَاره؟ قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، وَقد بيّن ذَلِك فِي (الصَّحِيح) كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَقيل للأعمش) ، هُوَ سُلَيْمَان، ويروى: قيل، بِدُونِ الْفَاء، وَظَاهر هَذَا أَنه مُنْقَطع لِأَن الْأَعْمَش لم يسْندهُ، لَكِن فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَنهُ ذكر ذَلِك مُتَّصِلا بِالْحَدِيثِ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُوسَى بن أبي عَائِشَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد من هَذِه الْقِصَّة: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى تَعْظِيم الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. الثَّانِي: فِيهِ تَقْدِيم أبي بكر وترجيحه على جَمِيع الصَّحَابَة. الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَة عمر بن الْخطاب بعده. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الثَّنَاء فِي الْوَجْه لمن أَمن عَلَيْهِ الْإِعْجَاب. الْخَامِس: فِيهِ ملاطفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأزواجه وخصوصا لعَائِشَة. السَّادِس: فِي هَذِه الْقِصَّة وجوب الْقسم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ فِيهَا: فأذنِّ لَهُ، أَي: فَأَذنت لَهُ نساؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالتمريض فِي بَيت عَائِشَة، على مَا سَيَأْتِي. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز مُرَاجعَة الصَّغِير للكبير. الثَّامِن: فِيهِ الْمُشَاورَة فِي الْأَمر الْعَام. التَّاسِع: فِيهِ الْأَدَب مَعَ الْكَبِير حَيْثُ أَرَادَ أَبُو بكر التَّأَخُّر عَن الصَّفّ. الْعَاشِر: الْبكاء فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا وَإِن كثر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم حَال أبي بكر فِي رقة الْقلب وَكَثْرَة الْبكاء وَلم يعدل عَنهُ، وَلَا نَهَاهُ عَن الْبكاء. وَأما فِي هَذَا الزَّمَان فقد قَالَ أَصْحَابنَا: إِذا بَكَى فِي الصَّلَاة فارتفع بكاؤه، فَإِن كَانَ من ذكر الْجنَّة أَو النَّار لم يقطع صلَاته، وَإِن كَانَ من وجع فِي بدنه أَو مُصِيبَة فِي مَاله أَو أَهله قطعهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَقَالَ الشَّافِعِي: الْبكاء والأنين والتأوه يبطل الصَّلَاة إِذا كَانَت حرفين، سَوَاء بَكَى للدنيا أَو للآخرة. الْحَادِي عشر: أَن الْإِيمَاء يقوم مقَام النُّطْق، لَكِن يحْتَمل أَن اقْتِصَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِشَارَة أَن يكون لضعف صَوته، وَيحْتَمل أَن يكون للإعلام، بِأَن مُخَاطبَة من يكون فِي الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ أولى من النُّطْق. الثَّانِي عشر: فِيهِ تَأْكِيد أَمر الْجَمَاعَة وَالْأَخْذ فِيهَا بالأشد، وَإِن كَانَ الْمَرَض يرخص فِي تَركهَا، وَيحْتَمل أَن يكون فعل ذَلِك لبَيَان جَوَاز الْأَخْذ بالأمثل، وَإِن كَانَت الرُّخْصَة أولى. الثَّالِث عشر: اسْتدلَّ بِهِ الشّعبِيّ على جَوَاز ائتمام بعض الْمَأْمُومين بِبَعْض، وَهُوَ مُخْتَار الطَّبَرِيّ أَيْضا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ورد بِأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ مبلغا، وعَلى هَذَا فَمَعْنَى الِاقْتِدَاء اقْتِدَاؤُهُ بِصَوْتِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَالِسا، وَأَبُو بكر كَانَ قَائِما، فَكَانَت بعض أَفعاله تخفى على بعض الْمَأْمُومين، فلأجل ذَلِك كَانَ أَبُو بكر كَالْإِمَامِ فِي حَقهم. الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز اسْتِخْلَاف الإِمَام لغير ضَرُورَة، لصنيع أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز مُخَالفَة موقف الإِمَام للضَّرُورَة، كمن قصد أَن يبلغ عَنهُ، ويلتحق بِهِ من زحم عَن الصَّفّ. السَّادِس عشر: فِيهِ إتباع صَوت المكبر وَصِحَّة صَلَاة المستمع وَالسَّامِع، وَمِنْهُم من شَرط فِي صِحَّته تقدم إِذن الإِمَام. السَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الطَّبَرِيّ على أَن للْإِمَام أَن يقطع الِاقْتِدَاء بِهِ، ويقتدي هُوَ بِغَيْرِهِ من غير أَن يقطع الصَّلَاة. الثَّامِن عشر: فِيهِ جَوَاز إنْشَاء الْقدْوَة فِي أثْنَاء الصَّلَاة. التَّاسِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على جَوَاز تقدم إِحْرَام الْمَأْمُوم على الإِمَام، بِنَاء على أَن أَبَا بكر كَانَ دخل فِي الصَّلَاة ثمَّ قطع الْقدْوَة وائتم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس: فابتدأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقِرَاءَة من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر، كَمَا قدمْنَاهُ. الْعشْرُونَ: اسْتدلَّ بِهِ على صِحَة صَلَاة الْقَادِر على الْقيام قَائِما خلف الْقَاعِد، خلافًا للمالكية وَأحمد حَيْثُ أوجب الْقعُود على من يُصَلِّي خلف الْقَاعِد. قلت: يُصَلِّي الْقَائِم خلف(5/190)
الْقَاعِد عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة. وَقَالَ أَحْمد وَالْأَوْزَاعِيّ: يصلونَ خَلفه قعُودا، وَبِه قَالَ حَمَّاد بن زيد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن أَرْبَعَة من الصَّحَابَة وهم: جَابر بن عبد الله، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأسيد ابْن حضير، وَقيس بن فَهد حَتَّى لَو صلوا قيَاما لَا يجزيهم، وَعند مُحَمَّد بن الْحسن: لَا تجوز صَلَاة الْقَائِم خلف الْقَاعِد، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَنهُ وَزفر. الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: اسْتدلَّ لَهُ ابْن الْمسيب على أَن مقَام الْمَأْمُوم يكون عَن يسَار الإِمَام، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس على يسَار أبي بكر، وَالْجَمَاعَة على خِلَافه، ويتمشى قَوْله على أَن الإِمَام هُوَ أَبُو بكر، وَأما من قَالَ: الإِمَام هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يتمشى. قَوْله: قلت: اخْتلفت الرِّوَايَات: هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام أَو أَبُو بكر الصّديق؟ فجماعة قَالُوا: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عَائِشَة صَرِيح فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ الإِمَام إِذا جلس عَن يسَار أبي بكر، وَلقَوْله: (فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسا وَأَبُو بكر قَائِما يَقْتَدِي بِهِ) ، وَكَانَ أَبُو بكر مبلغا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون للنَّاس إمامان. وَجَمَاعَة قَالُوا: كَانَ أَبُو بكر هُوَ الإِمَام، لما رَوَاهُ شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر) وَفِي رِوَايَة مَسْرُوق عَنْهَا: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خلف أبي بكر جَالِسا فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ، وَرُوِيَ حَدِيث عَائِشَة بطرق كَثِيرَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، وَفِيه اضْطِرَاب غير قَادِح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا تعَارض فِي أحاديثها، فَإِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَامًا هِيَ صَلَاة الظّهْر يَوْم السبت أَو يَوْم الْأَحَد، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُوما هِيَ صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْإِثْنَيْنِ. وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خرج من الدُّنْيَا. وَقَالَ نعيم بن أبي هِنْد: الْأَخْبَار الَّتِي وَردت فِي هَذِه الْقِصَّة كلهَا صَحِيحَة، وَلَيْسَ فِيهَا تعَارض، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، فِي إِحْدَاهمَا كَانَ إِمَامًا، وَفِي الْأُخْرَى كَانَ مَأْمُوما. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي وَابْن نَاصِر: صَحَّ وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى خَلفه مقتديا بِهِ فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ ثَلَاث مَرَّات، وَلَا يُنكر ذَلِك إلاَّ جَاهِل لَا علم لَهُ بالرواية. وَقيل: إِن ذَلِك كَانَ مرَّتَيْنِ جمعا بَين الْأَحَادِيث، وَبِه جزم ابْن حبَان. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْآثَار الصِّحَاح على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الإِمَام. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ تَقْدِيم الأفقه الأقرأ، وَقد جمع الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَين الْفِقْه وَالْقُرْآن فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا ذكره أَبُو بكر بن الطّيب وَأَبُو عَمْرو الدواني. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: فِيهِ جَوَاز تَشْبِيه أحد بِأحد فِي وصف مَشْهُور بَين النَّاس. الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أَن للمستخلف أَن يسْتَخْلف فِي الصَّلَاة وَلَا يتَوَقَّف على أذن خَاص لَهُ بذلك.
رواهُ أبُو داوُدَ عنْ شُعْبَةَ عنِ الأعْمَشِ بعْضَهُ
أَي: رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد وَسليمَان الطَّيَالِسِيّ. قَوْله: (بعضه) ، بِالنّصب بدل: من الضَّمِير الَّذِي فِي: رَوَاهُ، وَرِوَايَته هَذِه وَصلهَا الْبَزَّار، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو دَاوُد بِهِ. وَلَفظه: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُقدم بَين يَدي أبي بكر) ، هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصرا، يَعْنِي: يَوْم صلى بِالنَّاسِ وَأَبُو بكر إِلَى جنبه.
وَزَادَ أبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عنْ يَسَارِ أبِي بَكرٍ فَكانَ أبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِما
يَعْنِي: زَاد أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير فِي رِوَايَته عَن الْأَعْمَش بِإِسْنَادِهِ، وَهَذِه الزِّيَادَة أسندها البُخَارِيّ فِي: بَاب الرجل يأتم بِالْإِمَامِ ويأتم النَّاس بالمأموم، عَن قُتَيْبَة عَنهُ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَرَوَاهُ ابْن حبَان عَن الْحسن بن شعْبَان عَن ابْن نمير عَنهُ، بِلَفْظ: (فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدا وَأَبُو بكر قَائِما) .
665 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ يُوسُفَ عنْ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله قَالَ قالَتْ عائِشَةُ لَمَّا ثَقُلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واشْتَدَّ وجَعُهُ اسْتَأذَنَ أزْوَاجَهُ أنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذَنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأرْضِ وكانَ بَيْنَ العَبَّاسِ ورَجلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لابنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عائِشَةُ فقالَ لِي وهَلْ تَدْرِي(5/191)
مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ قَالَ هُوَ عَلِيُّ بنُ أبِي طالِبٍ.
مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد بن زَاذَان التَّمِيمِي الْفراء، أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين: ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله بتصغير الأول ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: هِشَام بن يُوسُف من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي ويماني وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب والقدح والخشب وَالْحِجَارَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره مطولا، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي وَفِي الطِّبّ وَفِي الصَّلَاة وَفِي الْهِبَة وَفِي الْخمس وَفِي ذكر اسْتِئْذَان أَزوَاجه. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا وَذكرنَا أَيْضا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَنَذْكُر بعض شَيْء.
فقولها: (ثقل) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبضم الْقَاف: من الثّقل وَهُوَ عبارَة عَن اشتداد الْمَرَض وتناهي الضعْف وركود الْأَعْضَاء عَن خفَّة الحركات. قَوْله: (اسْتَأْذن) من الاسْتِئْذَان، وَهُوَ طلب الْإِذْن. قَوْله: (فَأذن) ، بتَشْديد نون جمَاعَة النِّسَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فَأذن) بِلَفْظ الْمَجْهُول قلت: يَعْنِي بِصِيغَة الْإِفْرَاد، ثمَّ قَالَ: وَفِي بَعْضهَا بِلَفْظ الْمَعْرُوف بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث، وَجعلهَا رِوَايَة. قَوْله: (لم تسم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: لم مَا سمته ثمَّ قَالَ: مَا سمته تحقيرا أَو عَدَاوَة، حاشاها من ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثَبت أَيْضا أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَاءَ بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة وَأَيْضًا أَن الْفضل بن عَبَّاس كَانَ آخِذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة فوجهه أَن يُقَال: إِن الثَّلَاثَة كَانُوا يتناوبون فِي الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، وَكَانَ الْعَبَّاس يلازم الْأَخْذ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، وأكرموا الْعَبَّاس باختصاصه بِيَدِهِ واستمرارها لَهُ لما لَهُ من السن والعمومة وَغَيرهمَا، فَلذَلِك ذكرته عَائِشَة مُسَمّى صَرِيحًا وأبهمت الرجل الآخر، إِذْ لم يكن أحدهم ملازما فِي جَمِيع الطَّرِيق وَلَا معظمه، بِخِلَاف الْعَبَّاس. انْتهى. قلت: وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر: وَلَكِن عَائِشَة لَا تطيب نفسا لَهُ بِخَير، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) : عَن الزُّهْرِيّ: وَلكنهَا لَا تقدر على أَن تذكره بِخَير، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي هَذَا رد على من زعم أَنَّهَا أبهمت الثَّانِي لكَونه لم يتَعَيَّن فِي جَمِيع الْمسَافَة وَلَا معظمها. قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد على النَّوَوِيّ، وَلكنه مَا صرح باسمه لاعتنائه بِهِ ومحاماته لَهُ.
40 - (بابُ الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ والعِلَّةِ أنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرُّخْصَة عِنْد نزُول الْمَطَر وَعند حُدُوث عِلّة من الْعِلَل الْمَانِعَة من حُضُور الْجَمَاعَة، مثل: الرّيح الشَّديد والظلمة الشَّدِيدَة وَالْخَوْف فِي الطَّرِيق من الْبشر أَو الْحَيَوَان وَنَحْو ذَلِك، وَعطف الْعلَّة على الْمَطَر من عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (أَن يُصَلِّي) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة و: اللَّام، فِيهِ مقدرَة أَي: للصَّلَاة فِي رَحْله، وَهُوَ منزله ومأواه.
666 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ أذَّنَ بِالصَّلاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتَ بَرْدٍ وَرِيحٍ ثمَّ قَالَ إلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ثُمَّ قَالَ إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَأمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذَا كانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ ومَطَرٍ يَقُولُ ألاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. (انْظُر الحَدِيث 632) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْنَاده بِعَيْنِه مر غير مرّة، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب الْأَذَان للْمُسَافِر: عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن عبيد الله بن عمر بن نَافِع، الحَدِيث.(5/192)
667 - حدَّثنا إسماعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٌ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيعِ الأَنصَارِيِّ أنَّ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ كانَ يَؤُمُّ قَومَهُ وهُوَ أعْمَى وأنَّهُ قَالَ لِرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رسولَ الله إنَّها تكُونُ الظلمَةُ والسَّيْلُ وَأَنا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ فَصَلِّ يَا رسولَ الله فِي بَيْتِي مَكانا أتَّخِذُهُ مُصَلى فَجَاءَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ فأشَارَ إلَى مَكانٍ مِنَ البَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
مطابقته أَيْضا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مر مطولا فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت: عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ ... الحَدِيث، وَإِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ هُنَا هُوَ ابْن أبي أُويس.
قَوْله: (مَحْمُود بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء، وعتبان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالباء الْمُوَحدَة. قَوْله: (إِنَّهَا) ، أَي: أَن الْقِصَّة، أَو: أَن الْحَالة. قَوْله: (تكون) تَامَّة لَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر. قَوْله: (والسيل) سيل المَاء. قَوْله: (اتَّخذهُ) بِالرَّفْع والحزم. قَوْله: (مصلى) ، بِضَم الْمِيم أَي: موضعا للصَّلَاة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظلمَة هَل لَهَا دخل فِي الرُّخْصَة أم السَّيْل وَحده يَكْفِي فِيهَا؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ لَا دخل لَهَا وَكَذَا ضرارة الْبَصَر، بل كل وَاحِد من الثَّلَاثَة عذر كَاف فِي ترك الْجَمَاعَة، لَكِن عتْبَان جمع بَين الثَّلَاثَة بَيَانا لتَعَدد أعذاره ليعلم أَنه شَدِيد الْحِرْص على الْجَمَاعَة لَا يَتْرُكهَا إلاَّ عِنْد كَثْرَة الْمَوَانِع.
وَفِيه من الْفَوَائِد: جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى وَترك الْجَمَاعَة للْعُذْر. والتماس دُخُول الأكابر منزل الأصاغر. واتخاذ مَوضِع معِين من الْبَيْت مَسْجِدا وَغَيره.
قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر: ثمَّ قَالَ هَذَا مشْعر بِأَنَّهُ قَالَه بعد الْأَذَان، وَتقدم فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان أَنه كَانَ فِي اثناء الْأَذَان، فَعلم مِنْهُ جَوَاز الْأَمريْنِ. وَقَوله: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر الْمُؤَذّن) مُحْتَمل لَهما لَا تَخْصِيص لَهُ بِأَحَدِهِمَا. قَوْله: (ذَات برد) بِسُكُون الرَّاء، وَكَذَلِكَ حكمه: فِي لَيْلَة ذَات برد، بِفَتْح الرَّاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ابْن عمر أذن عِنْد الرّيح وَالْبرد، وَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عِنْد الْمَطَر وَالْبرد، فَمَا وَجه استدلاله؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ قَاس الرّيح على الْمَطَر بِجَامِع الْمَشَقَّة، ثمَّ قَالَ: هَل يَكْفِي الْمَطَر فَقَط أَو الرّيح أَو الْبرد فِي رخصَة ترك الْجَمَاعَة أم يحْتَاج إِلَى ضم أحد الْأَمريْنِ بالمطر؟ فَأجَاب: بِأَن كل وَاحِد مِنْهَا عذر مُسْتَقل فِي ترك الْحُضُور إِلَى الْجَمَاعَة نظرا إِلَى الْعلَّة، وَهِي الْمَشَقَّة، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
41 - (بابٌ هَلْ يُصَلِّي الإِمامُ بِمَنْ حَضَرَ وهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر من الَّذين لَهُم الْعلَّة المرخصة للتخلف عَن الْجَمَاعَة؟ يَعْنِي: يُصَلِّي بهم وَلَا يكره ذَلِك؟ فَإِن قلت: فَحِينَئِذٍ مَا فَائِدَة الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي الرّحال؟ قلت: فَائِدَته الْإِبَاحَة، لِأَن من كَانَ لَهُ الْعذر إِذا تكلّف وَحضر فَلهُ ذَلِك وَلَا حرج عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَهل يخْطب) أَي: الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة فِي الْمَطَر إِذا حضر أَصْحَاب الْأَعْذَار الْمَذْكُورين، يَعْنِي: يخْطب وَلَا يتْرك وَيُصلي بهم الْجُمُعَة.
668 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الحَمِيدِ صاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنِ الحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابنُ عَبَّاس فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ قلِ الصَّلاَةَ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أنْكَرُوا فَقَالَ كأنَّكُمْ أنْكَرْتُمْ هَذَا إنَّ هَذا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّهَا عَزْمَةٌ وإنِّي كَرِهْتُ أنْ أُحْرِجَكُمْ. (انْظُر الحَدِيث 616 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (خَطَبنَا) ، لِأَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ يَوْم الْمَطَر. وَمن قَوْله أَيْضا: (إِنَّهَا عَزمَة) أَي: إِن الْجُمُعَة متحتمة، وَمَعَ هَذَا كره ابْن عَبَّاس أَن يكلفهم بهَا لأجل الْحَرج.(5/193)
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، والْحَدِيث أَيْضا مضى فِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان. وَأخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب وَعبد الحميد صَاحب الزيَادي وَعَاصِم الْأَحْوَال عَن عبد الله بن الْحَارِث. قَالَ: خَطَبنَا ابْن عَبَّاس. . الحَدِيث. وَفِي متني الحَدِيث تفَاوت يقف عَلَيْهِ المعاود، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع تعلقات الحَدِيث.
وَشَيْخه هُنَا: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم فِي: بَاب ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فِي كتاب الْعلم.
قَوْله: (ذِي ردغ) أَي: ذِي وَحل. قَوْله: (الصَّلَاة) بِالنّصب أَي: الزموها، وَيجوز بِالرَّفْع، أَي: الصَّلَاة رخصَة فِي الرّحال. قَوْله: (كَأَنَّهُمْ) ، ويروى: فكأنهم. قَوْله: (إِن هَذَا فعله) على صِيغَة الْمَاضِي، ويروي: (هَذَا فعل رَسُول الله ت) . قَوْله: (أَن أحرجكم) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفتح الْجِيم: وَمَعْنَاهُ أَن أؤثمكم، من الْإِثْم، وأحرجكم من الإحراج، وثلاثيه من الْحَرج، وَهُوَ الْإِثْم. ويروى: (أَن أخرجكم) من الْإِخْرَاج، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
وعنْ حَمَّادٍ عنْ عَاصِمٍ عنْ عبْدِ الله بنِ الحَارِثِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ نحْوَهُ غَيْرَ أنَّهُ قَالَ كرِهْتُ أنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ وتَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ.
قَوْله: (وَعَن حَمَّاد عَن عَاصِم) عطف على قَوْله: (حَدثنَا حَمَّاد بن زيد) ، وَلَيْسَ بمعلق، وَقد ذكرنَا الْآن أَنه رَوَاهُ فِي: بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان، عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب وَعبد الحميد وَعَاصِم، وَهنا: عَن حَمَّاد عَن عَاصِم وَحده، وَعَاصِم هُوَ الْأَحول. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَلَكِن لما كَانَت فِيهِ زِيَادَة ذكرهَا بقوله: (غير أَنه قَالَ: كرهت أَن أؤثمكم) إِلَى آخِره، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا: (كرهت أَن أحرجكم) ، وَهنا: أؤثمكم، وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى قريب، والتفاوت فِي اللَّفْظ.
ثمَّ هَذِه اللَّفْظَة رويت على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أؤثمكم، من الإيثام من بَاب الإفعال، يُقَال: آثمه يؤثمه، إِذا أوقعه فِي الْإِثْم. وَالْآخر: أَن أؤثمكم من التأثيم من بَاب التفعيل. قَوْله: (فتجيئون) إِلَى آخِره، زَائِد صرف على الرِّوَايَة الأولى، وتجيئون: بالنُّون على الأَصْل فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فتجيئوا، بِحَذْف النُّون، وَهُوَ لُغَة للْعَرَب حَيْثُ يحذفون نون الْجمع بِدُونِ الْجَازِم والناصب. قَوْله: (وتدوسون الطين) من الدوس وَهُوَ الْوَطْء.
669 - حدَّثنا مَسْلِمُ بنُ إبْرَهِيمَ قَالَ حَدثنَا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ قَالَ سألْتُ أبَا سَعِيدٍ الخدْرِيَّ فَقَالَ جاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سالَ السَّقْفُ وكانَ مَنْ جَرِيدِ النخْلِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَرَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِي المَاءِ والطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الأول مِنْهَا من حَيْثُ إِن الْعَادة أَن فِي يَوْم الْمَطَر يتَخَلَّف بعض النَّاس عَن الْجَمَاعَة، فَلَا شكّ أَن صَلَاة الإِمَام تكون حِينَئِذٍ مَعَ من حضر، فينطبق على قَوْله: بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَإِن صَحَّ أَن هَذَا كَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة فدلالته على الْجُزْء الْأَخير ظَاهِرَة. قلت: سَيَأْتِي فِي الِاعْتِكَاف أَنَّهَا كَانَت فِي صَلَاة الصُّبْح.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير الْيَمَانِيّ الطَّائِي. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأهوازي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِكَاف عَن معَاذ بن فضَالة، وَفِي الصَّلَاة فِي موضِعين عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِيه أَيْضا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عبد الله بن مُنِير وَفِي الِاعْتِكَاف أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك وَعَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَعَن ابْن ابي عَمْرو، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عبد بن حميد وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن يحيى(5/194)
وَعَن مُؤَمل بن الْفضل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر بِبَعْضِه وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت أَبَا سعيد) : المسؤول عَنهُ مَحْذُوف بيَّنه فِي الِاعْتِكَاف وَهُوَ قَوْله: إِن أَبَا سَلمَة قَالَ: (سَأَلت أَبَا سعيد، قلت: هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر لَيْلَة الْقدر؟ قَالَ: نعم) وسرد تَمام الحَدِيث. قَوْله: (حَتَّى سَالَ السّقف) ، هُوَ إِسْنَاد مجازي، لِأَن السّقف لَا يسيل، وَإِنَّمَا يسيل المَاء الَّذِي يُصِيبهُ، وَهَذَا من قبيل قَوْلهم: سَالَ الْوَادي، أَي: مَاء الْوَادي، وَهُوَ من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (وَكَانَ من جريد النّخل) ، أَي: وَكَانَ سقف الْمَسْجِد من جريد النّخل، والجريد بِمَعْنى: المجرود، وَهُوَ الْقَضِيب الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص، يَعْنِي: يقشر، وَسَيَأْتِي تَمام الْكَلَام فِي بَاب الِاعْتِكَاف.
670 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ سِيرِينَ قَالَ سَمِعْتُ أنَسا يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ إنِّي لاَ أسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلاً ضَخْما فَصَنَعَ للنبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فَدَعَاهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرا ونَضَحَ طَرَفَ الحَصِيرِ فَصَلَّى علَيْهِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الجَارُودِ لأِنَسٍ أكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلّي الضُّحَى قَالَ مَا رَأيْتُهُ صَلاَّهَا إلاّ يَوْمَئِذٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِسَائِر الْحَاضِرين عِنْد غيبَة الرجل الضخم، فينطبق الحَدِيث على قَوْله: بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر؟ فَإِن قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث أنس ذكر الْخطْبَة. قلت: لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة، بل لَو دلّ الْبَعْض على الْبَعْض لكفى.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. الثَّالِث: أنس ابْن سِيرِين ابْن أخي مُحَمَّد بن سِيرِين، مولى أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، مَاتَ بعد سنة عشر وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وواسطي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة الضُّحَى عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ رجل من الْأَنْصَار) ، قَالَ بَعضهم: قيل: إِنَّه عتْبَان بن مَالك وَهُوَ مُحْتَمل لتقارب القضيتين. قلت: هُوَ مُبْهَم لَا يُفَسر بِهَذَا الِاحْتِمَال، وَأَيْضًا من هُوَ هَذَا الْقَائِل؟ ينظر فِيهِ. قَوْله: (مَعَك) أَي: فِي الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد قَوْله: (ضخما) أَي: سمينا، والضخم الغليظ من كل شَيْء. قَوْله: (حَصِيرا) قَالَ ابْن سَيّده: الْحَصِير سَقِيفَة تصنع من بردى واسل ثمَّ تفترش، سمي بذلك لِأَنَّهُ يَلِي وَجه الأَرْض، وَوجه الأَرْض سمي حَصِيرا. وَفِي (الجمهرة) : الْحَصِير عَرَبِيّ، سمي حَصِيرا لانضمام بعضه إِلَى بعض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَصِير البارية. قَوْله: (ونضح طرف الْحَصِير) ، النَّضْح بِمَعْنى: الرش إِن كَانَت النَّجَاسَة متوهمة فِي طرف الْحَصِير، وَبِمَعْنى: الْغسْل، إِن كَانَت متحققة، أَو يكون النَّضْح لأجل تليينه لأجل الصَّلَاة عَلَيْهِ. قَوْله: (رجل من آل الْجَارُود) ، وَفِي أبي دَاوُد: قَالَ فلَان بن الْجَارُود لأنس، و: الْجَارُود، بِالْجِيم وبضم الرَّاء وَبعد الرَّاء دَال مُهْملَة. قَوْله: (أَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ جَوَاز اتِّخَاذ الطَّعَام لأولي الْفضل ليستفيد من علمهمْ. الثَّانِي: فِيهِ اسْتِحْبَاب إِجَابَة الدعْوَة، وَقيل بِالْوُجُوب. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على الْحَصِير من غير كَرَاهَة، وَفِي مَعْنَاهُ: كل شَيْء يعْمل من نَبَات الأَرْض، وَهَذَا إِجْمَاع إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يعْمل لأجل التَّوَاضُع كَمَا(5/195)
فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل: (عفر وَجهك بِالتُّرَابِ) فَإِن قلت: مَا تَقول فِي حَدِيث يزِيد بن الْمِقْدَام عِنْد ابْن أبي شيبَة: عَن الْمِقْدَام عَن أَبِيه شُرَيْح أَنه سَأَلَ عَائِشَة: أَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي على الْحَصِير؟ فَإِنِّي سَمِعت فِي كتاب الله عز وَجل {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} (الْإِسْرَاء: 8) . فَقَالَت: لَا لم يكن يُصَلِّي عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لضعف يزِيد، وَيَردهُ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز التَّطَوُّع بِالْجَمَاعَة. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة الضُّحَى، لِأَن أنسا أخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاهَا، وَلَكِن مَا رَآهَا إلاَّ يَوْمئِذٍ، يَعْنِي: يَوْم كَانَ فِي منزل رجل من الْأَنْصَار. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم هانىء بنت أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (ان رَسُول الله صلى يَوْم الْفَتْح سبْحَة الضُّحَى ثَمَان رَكْعَات يسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ) وَرُوِيَ ايضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَن عبد الله بن شَقِيق سَأَلَهَا: هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَت: لَا إلاَّ أَن يَجِيء من مغيبه) الحَدِيث. وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مطولا ومختصرا، وَالْجمع بَين حَدِيث عَائِشَة فِي نفي صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وإثباتها هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصليهَا فِي بعض الْأَوْقَات لفضلها، وَيَتْرُكهَا فِي بَعْضهَا خشيَة أَن تفرض. وَتَأْويل قَوْلهَا: لَا إلاَّ أَن يَجِيء من مغيبه، مَا رَأَيْته، كَمَا قَالَت فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي سبْحَة الضُّحَى) . وَسَببه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا كَانَ يكون عِنْد عَائِشَة فِي وَقت الضُّحَى إلاّ فِي نَادِر من الْأَوْقَات، وَقد يكون فِي ذَلِك مُسَافِرًا، وَقد يكون حَاضرا وَلكنه فِي الْمَسْجِد أَو فِي مَوضِع آخر، وَإِذا كَانَ عِنْد نِسَائِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لَهَا يَوْم من تِسْعَة فَيصح قَوْلهَا: مَا رَأَيْته يُصليهَا، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَكَذَا يَصح قَوْلهَا: لَا، كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، أَو يكون معنى قَوْلهَا: لَا مَا رَأَيْته يُصليهَا ويداوم عَلَيْهَا، فَيكون نفيا للمداومة لَا لأصلها. فَافْهَم. فَإِن قلت: قد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ فِي الضُّحَى: هِيَ بِدعَة قلت: هُوَ مَحْمُول على أَن صلَاتهَا فِي الْمَسْجِد والتظاهر بهَا، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدعَة، لَا أَن أَصْلهَا فِي الْبيُوت وَنَحْوهَا مَذْمُوم، أَو يُقَال: قَوْله: بِدعَة أَي: الْمُوَاظبَة عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يواظب عَلَيْهَا خشيَة أَن تفرض. وَقد يُقَال: إِن ابْن عمر لم يبلغهُ فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى وَأمره بهَا، وَكَيف مَا كَانَ، فجمهور الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الضُّحَى، وَإِنَّمَا نقل التَّوَقُّف فِيهَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن تَوْبَة الْعَنْبَري عَن مُورق الْعجلِيّ، قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا عمر؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا أَبُو بكر؟ قَالَ: لَا. قلت: صلاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا أخال. حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي عُبَيْدَة، قَالَ: لم يُخْبِرنِي أحد من النَّاس أَنه رأى ابْن مَسْعُود يُصَلِّي الضُّحَى. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز ترك الْجَمَاعَة لأجل السّمن، وَزعم ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَنه تتبع الْأَعْذَار الْمَانِعَة من إتْيَان الْجَمَاعَة من السّنَن، فَوَجَدَهَا عشرا: الْمَرَض الْمَانِع من الْإِتْيَان إِلَيْهَا، وَحُضُور الطَّعَام عِنْد الْمغرب، وَالنِّسْيَان الْعَارِض فِي بعض الْأَحْوَال، وَالسمن المفرط، وَوُجُود الْمَرْء حَاجته فِي نَفسه، وَخَوف الْإِنْسَان على نَفسه وَمَاله فِي طَرِيقه إِلَى الْمَسْجِد، وَالْبرد الشَّديد، والمطر المؤذي، وَوُجُود الظلمَة الَّتِي يخَاف الْمَرْء على نَفسه الْمَشْي فِيهَا، وَأكل الثوم والبصل والكراث.
42 - (بابٌ إذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وأُقِيمتِ الصَّلاَةُ)
أَي: هَذَا بَاب ترْجم فِيهِ إِذا حضر الطَّعَام وأقيمت الصَّلَاة، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: يقدم الطَّعَام على الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب تَنْبِيها على أَن الحكم بِالنَّفْيِ أَو بالإثبات غير مجزوم بِهِ لقُوَّة الْخلاف فِيهِ.
وكانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالعِشَاءِ
هَذَا الْأَثر يبين أَن جَوَاب: إِذا، فِي التَّرْجَمَة الْإِثْبَات، وَفِيه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة، وَهَذَا الْأَثر مَذْكُور فِي الْبَاب بِمَعْنَاهُ مُسْندًا قَرِيبا حَيْثُ قَالَ: (وَكَانَ ابْن عمر يوضع لَهُ الطَّعَام وتقام الصَّلَاة فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى يفرغ وَإنَّهُ ليسمع قِرَاءَة الإِمَام) . وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) من طَرِيق صَحِيح: وتعشى ابْن عمر لَيْلَة وَهُوَ ليسمع الْإِقَامَة، و: الْعشَاء، بِفَتْح الْعين وبالمد: الطَّعَام بِعَيْنِه، وَهُوَ خلاف الْغَدَاء.
وَقَالَ أبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إقْبَالُهُ عَلَى حاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وقَلْبُهُ فارِغٌ
هَذَا الْأَثر مثل ذَلِك فِي بَيَان جَوَاب: إِذا، فِي التَّرْجَمَة. وَفِيه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة، لِأَن معنى قَوْله: (إقباله على حَاجته) أَعم من إقباله إِلَى الطَّعَام إِذا حضر، وَمن قَضَاء حَاجَة نَفسه إِذا دَعَتْهُ إِلَيْهِ. قَوْله: (وَقَلبه فارغ) أَي: من الشواغل الدنياوية ليقف بَين يَدي الرب،(5/196)
عز وَجل، على أكمل حَال. وَهَذَا الْأَثر وَصله عبد الله بن الْمُبَارك فِي (كتاب الزّهْد) . وَأخرجه مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي (كتاب تَعْظِيم قدر الصَّلَاة) من طَرِيق ابْن الْمُبَارك.
671 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ حدَّثني أبي قَالَ سَمِعْتُ عائِشةَ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إذَا وُضِعَ العَشَاءُ وأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فابْدَؤا بِالعِشَاءِ (الحَدِيث 671 طرفه فِي: 5465) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا وضع) وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن نمير وَحَفْص ووكيع بِلَفْظ: (إِذا حضر) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة السرّاج من طَرِيق يحيى بن سعيد الْأمَوِي عَن هِشَام بن عُرْوَة. (إِذا حضر) ، وَلَكِن الَّذين رَوَوْهُ بِلَفْظ: (إِذا وضع) أَكثر، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَالْفرق بَين اللَّفْظَيْنِ أَن الْحُضُور أَعم من الْوَضع، فَيحمل قَوْله: (حضر) أَي: بَين يَدَيْهِ، لتتفق الرِّوَايَتَانِ لِاتِّحَاد الْمخْرج. وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أنس الْآتِي بعده بِلَفْظ: (إِذا قدم الْعشَاء) ، وَلمُسلم: (إِذا قرب) ، وعَلى هَذَا فَلَا يناط الحكم بِمَا اذا حضر الْعشَاء، لكنه لم يقرب للْأَكْل كَمَا لَو لم يفرغ، وَنَحْوه. قَوْله: (وإقيمت الصَّلَاة) ، قيل: الْألف وَاللَّام فيهمَا للْعهد، وَهِي: الْمغرب. لقَوْله: (فابدأوا بالعشاء) ، وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فابدأوا بِهِ قبل أَن تصلوا الْمغرب) . والْحَدِيث يُفَسر بعضه بَعْضًا. وَقيل: الْألف وَاللَّام فِيهِ للاستغراق نظرا إِلَى الْعلَّة وَهِي التشويش المفضي إِلَى ترك الْخُشُوع، وَذكر الْمغرب لَا يَقْتَضِي الْحصْر فِيهَا، لِأَن الجائع غير الصَّائِم قد يكون أشوق إِلَى الْأكل من الصَّائِم. قَوْله: ((فابدأوا) اخْتلفُوا فِي هَذَا الْأَمر، فالجمهور على أَنه للنَّدْب. وَقيل: للْوُجُوب، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَقَالُوا: لَا يجوز لأحد حضر طَعَامه بَين يَدَيْهِ وَسمع الْإِقَامَة أَن يبْدَأ بِالصَّلَاةِ قبل الْعشَاء، فَإِن فعل فَصلَاته بَاطِلَة، وَالْجُمْهُور على الصِّحَّة وعَلى عدم الْإِقَامَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي هَذَا الْبَاب كَرَاهَة للصَّلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام الَّذِي يُرِيد أكله، لما فِيهِ من اشْتِغَال الْقلب وَذَهَاب كَمَال الْخُشُوع، وَهَذِه الْكَرَاهَة إِذا صلى كَذَلِك، وَفِي الْوَقْت سَعَة فَإِن ضَاقَ بِحَيْثُ لَو أكل خرج الْوَقْت لَا يجوز تَأْخِير الصَّلَاة. ولأصحابنا وَجه: أَنه يَأْكُل وَإِن خرج الْوَقْت، لِأَن الْمَقْصُود من الصَّلَاة الْخُشُوع فَلَا يفوتهُ. وَفِيه: دَلِيل على امتداد وق الْمغرب، وعَلى أَنه يَأْكُل حَاجته من الْأكل بِكَمَالِهِ. وَقَالَ فِي (شرح السّنة) : الِابْتِدَاء بِالطَّعَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كَانَت نَفسه شَدِيدَة التوقان إِلَى الْأكل، وَكَانَ فِي الْوَقْت سَعَة، وإلاّ فَيبْدَأ بِالصَّلَاةِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحتز من كتف شَاة، فدعي إِلَى الصَّلَاة فألقاها وَقَامَ يُصَلِّي. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: يؤول هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الحز من كتف شَاة بِأَن من شرع فِي الْأكل ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة أَنه يقوم إِلَى الصَّلَاة وَلَا يتمادى فِي الْأكل، لِأَنَّهُ قد أَخذ مِنْهُ مَا يمنعهُ من شغل البال، وَإِنَّمَا الَّذِي أَمر بِالْأَكْلِ قبل الصَّلَاة من لم يكن بَدَأَ بِهِ لِئَلَّا يشْتَغل باله بِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَيرد هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث ابْن عَمْرو: لَا يعجل حَتَّى يقْضِي حَاجته. انْتهى. قيل لَا رد عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَقُول: أَنه قد قضى حَاجته، كَمَا فِي الحَدِيث، إِذْ لَيْسَ من شَرطه أَنه يَسْتَوْفِي أكل الْكَتف لَا سِيمَا قلَّة أكله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه يَكْتَفِي بحزة وَاحِدَة، وَلَكِن لقَائِل أَن يَقُول: لَيست الصَّلَاة الَّتِي دعِي إِلَيْهَا فِي حَدِيث عَمْرو بن أُميَّة، وَهُوَ حَدِيث الحز من كتف الشَّاة، أَنَّهَا الْمغرب، وَإِذا ثَبت ذَلِك زَالَ مَا يؤول بِهِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذِه الْأَحَادِيث، فَذكر ابْن الْمُنْذر أَنه قَالَ بظاهرها عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَأَصله: شغل الْقلب وَذَهَاب كَمَال الْخُشُوع. وَقَالَ الشَّافِعِي: يبْدَأ بالعشاء إِذا كَانَت نَفسه شَدِيدَة التوقان إِلَيْهِ، فَإِن لم يكن كَذَلِك ترك الْعشَاء، وإتيان الصَّلَاة أحب إِلَيّ. وَذكر ابْن حبيب مثل مَعْنَاهُ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر، عَن مَالك: يبْدَأ بِالصَّلَاةِ إلاّ أَن يكون طَعَاما خَفِيفا. وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ، قَالَ حميد: كُنَّا عِنْد أنس، فَأذن بالمغرب، فَقَالَ أنس: ابدأوا بالعشاء، وَكَانَ عشاؤه خَفِيفا. وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يُصَلِّي بِحَال، بل يَأْكُل وَإِن خرج الْوَقْت، وَالصَّوَاب خِلَافه، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَقد ظن قوم أَن هَذَا من بَاب تَقْدِيم حَظّ العَبْد على حق الْحق، عز وَجل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة لحق الْحق ليدْخل الْعِبَادَة بقلوب غير مَشْغُولَة. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُؤخر الصَّلَاة لطعام وَلَا لغيره) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، فبالضعيف لَا يعْتَرض على الصَّحِيح، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَلهُ معنى غير معنى الآخر، بِمَعْنى إِذا وَجَبت(5/197)
لَا تُؤخر، وَإِذا كَانَ الْوَقْت بَاقِيا يبْدَأ بالعشاء فَاجْتمع مَعْنَاهُمَا وَلم يتهاترا.
672 - حدَّثنا يحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَس بنِ مالِكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أنْ تُصَلوا صَلاَةَ المَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عنْ عَشَائِكُمْ. (الحَدِيث 672 طرفه فِي: 5463) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لَكِن التَّرْجَمَة أَعم مِنْهُ وَهُوَ يَشْمَل الْمغرب وَغَيرهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تكَرر ذكرهم، وَاللَّيْث: هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: هُوَ ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن عقيل، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي عقيل وَفِيه.: ابْن شهَاب عَن أنس، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي أنس. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب إِلَى جده وَهُوَ: يحيى بن عبد الله ابْن بكير. وَفِيه: الِاثْنَان الْأَوَّلَانِ مصريان، وَالثَّالِث إيلي، وَابْن شهَاب مدنِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع أخر، وَلمُسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَالْعشَاء فابدأوا بالعشاء) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قدم الْعشَاء) ، زَاد ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُوسَى بن أعين: عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن ابْن شهَاب: (وأحدكم صَائِم) . وَقد أخرج مُسلم من طَرِيق ابْن وهب عَن عَمْرو بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة، وَذكر الطَّبَرَانِيّ أَن مُوسَى بن أعين تفرد بهَا. قلت: مُوسَى ثِقَة مُتَّفق عَلَيْهِ، وَلما ذكر الدَّارَقُطْنِيّ هَذِه الزِّيَادَة قَالَ: وَلَو لم تصح هَذِه الزِّيَادَة لَكَانَ مَعْلُوما من قَاعِدَة الشَّرْع الْأَمر بِحُضُور الْقلب فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا. قَوْله: (وَلَا تعجلوا) ، بِفَتْح التَّاء وَالْجِيم، من الثلاثي، ويروى: بِضَم التَّاء وَكسر الْجِيم، من الْأَفْعَال.
673 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أبِي أُسَامَةَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسولْ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا وُضِعَ عَشَاءُ أحَدِكُمْ وأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فابْدَؤا بالعَشَاءِ ولاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ. وكانَ ابنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأتِيهَا حَتَّى يَفْرَغَ وإنَّهُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَام.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد بن إِسْمَاعِيل الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْبَاقِي عنعنة.
وَأخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (وَلَا يعجل) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْأَحَد فِي: أحدكُم، قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْأَحَد إِذا كَانَ فِي سِيَاق النَّفْي يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع، وَفِي الحَدِيث فِي سِيَاق الْإِثْبَات، فَكيف وَجه الْأَمر إِلَيْهِ تَارَة بِالْجمعِ وَأُخْرَى بِالْإِفْرَادِ؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ جمع نظرا إِلَى لفظ: كم، وأفرد نظرا إِلَى لفظ الْأَحَد، وَالْمعْنَى: إِذا وضع عشَاء أحدكُم فابدأوا انتم بالعشاء، وَلَا يعجل هُوَ حَتَّى يفرغ مَعكُمْ مِنْهُ. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر) ، هُوَ مَوْصُول عطفا على الْمَرْفُوع، وَقد رَوَاهُ السراج من طَرِيق يحيى بن سعيد عَن عبد الله عَن نَافِع فَذكر الْمَرْفُوع، ثمَّ قَالَ: قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا حضر عشاؤه وَسمع الْإِقَامَة وَقِرَاءَة الإِمَام لم يقم حَتَّى يفرغ. قَوْله: (وَإنَّهُ يسمع) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ليسمع) ، بلام التَّأْكِيد فِي أَوله.
674 - حدَّثنا وقالَ زُهَيْرٌ ووَهَبُ بنُ عُثْمَانَ عَن مُوسَى بنِ عُقْبَةِ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا كانَ أحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِي حاجَتَهُ مِنْهُ وإنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ. (انْظُر الحَدِيث 673 وطرفه) .
زُهَيْر، بِضَم الزَّاي: هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، ووهب عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (عَن مُوسَى بن عقبَة) يَعْنِي: يرويان عَن مُوسَى عَن نَافِع إِلَى آخِره، وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَزعم الْحميدِي فِي كِتَابه (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : أَن الشَّيْخَيْنِ خرجاه من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة غير صَوَاب، لِأَن البُخَارِيّ علقه كَمَا ترى. وَأما مُسلم فَإِنَّهُ خرجه فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن(5/198)
أنس بن عِيَاض عَن مُوسَى، وَطَرِيق زُهَيْر الْمَذْكُورَة وَصلهَا أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) .
قالَ أبُو عَبْدِ الله رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ عنْ وَهَبِ بنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن وهب بن عُثْمَان، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر من شُيُوخ البُخَارِيّ، وَمن أَفْرَاده، ووهب بن عُثْمَان اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ هَهُنَا، وَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عقبَة أَيْضا حَفْص بن ميسرَة وَأَيْضًا أخرجه الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (ووهب مديني) ، بِكَسْر الدَّال، ويروى: مدنِي، بِفَتْحِهَا، وَكِلَاهُمَا نِسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غير أَن الْقيَاس فتح الدَّال كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى ربيعَة: ربعي، وَإِلَى جذيمة: جذمي. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر البُخَارِيّ نِسْبَة وهب بقوله مديني أَو مدنِي؟ قلت: لم يظْهر لي شَيْء يجدي إلاَّ أَنه أَشَارَ إِلَى أَنه مديني، كَمَا أَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الَّذِي روى عَنهُ مدنِي أَيْضا.
43 - (بابُ إذَا دُعِيَ الإمامُ إلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يأكُلُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا دعى الإِمَام إِلَى آخِره، وَالْوَاو فِي: (وَبِيَدِهِ) ، للْحَال. قَوْله: (مَا يَأْكُل) : مَا، مَوْصُولَة: وَيَأْكُل، صلتها، والعائد مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: مَا يَأْكُلهُ، ومحلها مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله: (بِيَدِهِ) ، وَيجوز أَن تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: وَبِيَدِهِ الْأكل، أَي: الْمَأْكُول، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب السَّابِق، تَنْبِيها على أَن الْأَمر فِيهِ للنَّدْب لَا للْإِيجَاب، إِذْ لَو كَانَ تَقْدِيم الْعشَاء على الصَّلَاة الَّتِي أُقِيمَت وَاجِبا، لَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمل أكله وَلَا ألْقى السكين فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي الْبَاب، وَلَا قَامَ إِلَى الصَّلَاة. فَإِن قلت: الْعلَّة فِي تَقْدِيم الْعشَاء إخلاء الْقلب عَن الشواغل الَّتِي أكبرها ميل النَّفس إِلَى الطَّعَام الَّذِي حضر، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَوِيا على مدافعة قُوَّة الشَّهْوَة: (وَأَيكُمْ يملك أربه) قلت: لَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ فِي خَاصَّة نَفسه بالعزيمة فَقدم الصَّلَاة على الطَّعَام، وَأمر غَيره بِالرُّخْصَةِ. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تَقْيِيد التَّرْجَمَة بِالْإِمَامِ؟ قلت: تَقْيِيده بِهِ يحْتَمل أَنه يرى التَّفْصِيل بَين مَا إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة قبل الشُّرُوع فِي الْأكل أَو بعده، كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ إِنَّه يرى بِأَن يكون الإِمَام مَخْصُوصًا بِهِ، وَغَيره من الْمَأْمُومين يكون الْأَمر مُتَوَجها إِلَيْهِم على الْإِطْلَاق.
675 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ عَنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي جَعْفَرُ بنُ عَمْرو بنِ أُمَيَّةَ أنَّ أبَاهُ قَالَ رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأكُلُ ذِرَاعا يَحْتَزُّ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلاَةِ فقامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى ولَمْ يَتَوَضَّأ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ مَا تضمنه معنى الحَدِيث وَهُوَ ظَاهر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الأويسي الْمدنِي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي الْمدنِي. السَّادِس: أَبوهُ عَمْرو بن أُميَّة بن خويلد، أَبُو أُميَّة الضمرِي شهد بَدْرًا وأحدا مُشْركًا، وَأسلم بعد، وَعَمْرو قَالَ الْوَاقِدِيّ: بَقِي إِلَى دهر مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ، وَمَات بهَا. وَقد مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب من لم يتَوَضَّأ من لحم الشَّاة، وتكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَالله تَعَالَى أعلم.
44 - (بابُ منْ كانَ فِي حاجَةِ أهْلِهِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من كَانَ ... إِلَى آخِره، وَأَشَارَ بِهَذَا الْبَاب إِلَى أَن حكم هَذَا خلاف حكم الْبَاب السَّابِق، إِذْ لَو قيس عَلَيْهِ(5/199)
كل أَمر تتشوق النَّفس إِلَيْهِ لم يبْق للصَّلَاة وَقت، وَإِنَّمَا حكم هَذَا أَن من كَانَ فِي حَاجَة بَيته فأقيمت الصَّلَاة يخرج إِلَيْهَا وَيتْرك تِلْكَ الْحَاجة، بِخِلَاف مَا إِذا حضر الْعشَاء، وأقيمت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ يقدم الْعشَاء على الصَّلَاة إلاَّ إِذا خَافَ فَوتهَا.
676 - حدَّثنا ادَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ سَألْتُ عائِشَةَ مَا كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قالَتْ كانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وآدَم ابْن إِيَاس، وَالْحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف: ابْن عُيَيْنَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ؛ وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله، وَهُوَ إِبْرَاهِيم يروي عَن خَاله الْأسود.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن حَفْص بن عمر، وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن عرْعرة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن هناد عَن وَكِيع، وَقَالَ: صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا كَانَ) ، كلمة: مَا، للاستفهام. قَوْله: (كَانَ يكون) فَائِدَة تَكْرِير: الْكَوْن، الِاسْتِمْرَار وَبَيَان أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يداوم عَلَيْهَا. وَاسم: كَانَ، ضمير الشان. قَوْله: (فِي مهنة أَهله) ، بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَسُكُون الْهَاء، وَقد فَسرهَا آدم شيخ البُخَارِيّ فِي نفس الحَدِيث، بقوله: (تَعْنِي: خدمَة أَهله) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المهنة، بِالْفَتْح: الْخدمَة. وَقَالَ ابْن سَيّده: المهنة: الحذق بِالْخدمَةِ، وَالْعَمَل، وَقَالَ بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا، وَفتح الْهَاء أَيْضا. وَأنكر الْأَصْمَعِي الْكسر، فَقَالَ: مهنهم يمهنهم مهنا، ومهنة، من بَاب: نصر ينصر، والماهن الْخَادِم، وَجمعه: مهان ومهنة، بِفَتْح الْمِيم وَالْهَاء. وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: فِي مهنة بَيت أَهله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْبَيْت تَارَة يُضَاف إِلَى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتارَة إِلَى أَهله، وَهُوَ فِي الْوَاقِع إِمَّا لَهُ أَو لَهُم. ثمَّ أجَاب بقوله: فِيمَا أَثْبَتَت الملكية فالإضافة حَقِيقِيَّة، وَفِيمَا لم تثبت فالإضافة فِيهِ بِأَدْنَى مُلَابسَة، وَهُوَ نَحْو كَونه مسكنا لَهُ. وَقد وَقع المهنة مفسرة فِي (الشَّمَائِل) لِلتِّرْمِذِي، من طَرِيق عمْرَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ: (مَا كَانَ إلاَّ بشرا من الْبشر يفلي ثَوْبه ويحلب شاته ويخدم نَفسه) . وَلأَحْمَد وَابْن حبَان من رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا: (يخيط ثَوْبه ويخصف نَعله) . وَزَاد ابْن حبَان: (ويرقع دلوه) ، وَزَاد الْحَاكِم فِي الإكليل) : (وَمَا رَأَيْته ضرب بِيَدِهِ امْرَأَة وَلَا خَادِمًا) .
45 - (بابُ مَنْ صَلَّى بالنَّاسِ وَهْوَ لاَ يُرِيدُ إلاَّ أنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسُنَّتَهْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمَة: من صلى بِالنَّاسِ ... إِلَى آخِره. و: الْوَاو، فِي قَوْله: وَهُوَ، للْحَال. قَوْله: (وَسنة) . وَهُوَ بِالنّصب عطف على صَلَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
677 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا أيوبُ عنْ أبي قِلاَبَةَ قَالَ جاءَنا مالِكُ بنُ الحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فقالَ أنِّي لأصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ أُصَلِّي كَيْفَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فَقُلْتُ لأبِي قِلاَبَةَ كَيْفَ كانَ يُصَلِّي قَالَ مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا وكانَ شَيْخا يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: وهيب تَصْغِير وهب بن خَالِد صَاحب الْكَرَابِيسِي. الثَّالِث: أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي. الْخَامِس: مَالك بن الْحُوَيْرِث اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ لِأَن أَيُّوب رأى أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون، وَمَالك بن الْحُوَيْرِث سكن الْبَصْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه(5/200)
وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُعلى بن أَسد، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَزِيَاد بن أَيُّوب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي مَسْجِدنَا هَذَا) ، الظَّاهِر أَنه مَسْجِد الْبَصْرَة. قَوْله: (إِنِّي لأصلي) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَهِي مَفْتُوحَة. قَوْله: (وَمَا أُرِيد الصَّلَاة) : الْوَاو، فِيهِ للْحَال أَي: لَيْسَ مَقْصُود أَدَاء فرض الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقت الْفَرْض، أَو لِأَنِّي صليته، بل الْمَقْصُود أَن أعلمكُم صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكيفيتها. فَإِن قلت: فِي هَذَا النَّفْي يلْزم وجود الصَّلَاة بِغَيْر قربَة، وَهَذَا لَا يَصح؟ قلت: أوضحت لَك مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ مُرَاده نفي الْقرْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان أَن السَّبَب الْبَاعِث لَهُ على ذَلِك قصد التَّعْلِيم. فَإِن قلت: هَل تعين التَّعْلِيم عَلَيْهِ حَتَّى فعل ذَلِك؟ قلت: يحْتَمل ذَلِك لِأَنَّهُ أحد من خُوطِبَ بذلك فِي قَوْله: (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . فَإِن قلت: فِيهِ نوع التَّشْرِيك فِي الْعِبَادَة قلت: لَا، لِأَن قَصده كَانَ التَّعْلِيم وَلَيْسَ للتشريك فِيهِ دخل. قَوْله: (أُصَلِّي كَيفَ رَأَيْت) أَي: أُصَلِّي هَذِه الصَّلَاة على الْكَيْفِيَّة الَّتِي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي، وَفِي الْحَقِيقَة، كَيفَ، مفعول فعل مُقَدّر، تَقْدِيره: أريكم كَيفَ رَأَيْت، وَالْمرَاد من الرُّؤْيَة لازمها، وَهِي كَيْفيَّة صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن كَيْفيَّة الرُّؤْيَة لَا يُمكن أَن يُرِيهم إِيَّاهَا. قَوْله: (فَقلت لأبي قلَابَة) الْقَائِل هُوَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. قَوْله: (مثل شَيخنَا) ، هَذَا هُوَ عَمْرو بن سَلمَة، كَمَا سَيَأْتِي فِي: بَاب اللّّبْث بَين السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ أَيُّوب: وَكَانَ ذَلِك الشَّيْخ يتم الرُّكُوع، وَإِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الثَّانِيَة جلس وَاعْتمد على الأَرْض ثمَّ قَامَ. قَوْله: (فِي الرَّكْعَة الأولى) يتَعَلَّق بقوله: (من السُّجُود) أَي: السُّجُود الَّذِي فِي الرَّكْعَة الأولى، لَا بقوله: قبل أَن ينْهض، لِأَن النهوض يكون مِنْهَا لَا فِيهَا، وَيجوز أَن يكون فِي الرَّكْعَة الأولى خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا الْجُلُوس أَو هَذَا الحكم بِهِ كَانَ فِي الرَّكْعَة الأولى، وَيجوز أَن تكون كلمة: فِي، بِمَعْنى: من فَإِن قلت: هَل جَاءَ: فِي، بِمَعْنى: من؟ قلت: نعم، كَمَا فِي قَول امرىء الْقَيْس:
(وَهل يعمن من كَانَ أحدث عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاث أَحْوَال)
أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال. فَإِن قلت: هَذِه ضَرُورَة الشَّاعِر قلت: لَا ضَرُورَة هُنَا لِأَن هَذَا من الطَّوِيل فَلَو قَالَ: من، لَا يخْتل الْوَزْن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَقَالَ: إِذا رفع رَأسه من السَّجْدَة الثَّانِيَة يجلس جلْسَة خَفِيفَة ثمَّ ينْهض مُعْتَمدًا يَدَيْهِ على الأَرْض. وَفِي (التَّلْوِيح) : اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الجلسة الَّتِي تسمى: جلْسَة الاسْتِرَاحَة، عقيب الْفَرَاغ من الرَّكْعَة الأولى وَالثَّالِثَة، فَقَالَ بهَا الشَّافِعِي فِي قَول: وَزعم ابْن الْأَثِير أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ فِي (الام) : يقوم من السَّجْدَة الثَّانِيَة، وَلم يَأْمر بِالْجُلُوسِ. فَقَالَ بعض أَصْحَابه: إِن ذَلِك على اخْتِلَاف حَالين إِن كَانَ كَبِيرا أَو ضَعِيفا جلس، وإلاَّ لم يجلس. وَقَالَ بعض أَصْحَابه: فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يجلس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعمر وَعلي وَأبي الزِّنَاد وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ ابْن قدامَة: وَعَن أَحْمد قَول: إِنَّه يجلس، وَهُوَ اخْتِيَار الْخلال. وَقيل: إِنَّه فصل بَين الضَّعِيف وَغَيره. وَقَالَ أَحْمد: وَترك الْجُلُوس عَلَيْهِ أَكثر الْأَحَادِيث. وَقَالَ النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش: أدْركْت غير وَاحِد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجلس. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم. وَقَالَ أَبُو (الزِّنَاد: تِلْكَ السّنة، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث بِأَنَّهُ: يحْتَمل ذَلِك أَن يكون بِسَبَب ضعف كَانَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ السفاقسي: قَالَ أَبُو عبد الْملك: كَيفَ ذهب هَذَا الَّذِي أَخذ بِهِ الشَّافِعِي على أهل الْمَدِينَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي بهم عشر سِنِين، وَصلى بهم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَالصَّحَابَة والتابعون؟ فَأَيْنَ كَانَ يذهب عَلَيْهِم هَذَا الْمَذْهَب؟ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَالنَّظَر يُوجب أَنه لَيْسَ بَين السُّجُود وَالْقِيَام جُلُوس، لِأَن من شَأْن الصَّلَاة التَّكْبِير فِيهَا والتحميد عِنْد كل خفض وَرفع وانتقال من حَال إِلَى حَال، فَلَو كَانَ بَينهمَا جُلُوس لاحتاج أَن يكبر عِنْد قِيَامه من ذَلِك الْجُلُوس تَكْبِيرَة، كَمَا يكبر عِنْد قِيَامه من الْجُلُوس فِي صلَاته إِذا أَرَادَ الْقيام إِلَى الرَّكْعَة الَّتِي بعد الْجُلُوس. وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يعْتَمد عِنْد قِيَامه، وَفعله مَسْرُوق وَمَكْحُول وَعَطَاء وَالْحسن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد محتجين بِهَذَا الحَدِيث. وَأَجَازَهُ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) ثمَّ كرهه، وَرَأَتْ طَائِفَة أَن لَا يعْتَمد على يَدَيْهِ إلاَّ أَن يكون شَيخا أَو مَرِيضا، وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري، وَكره الِاعْتِمَاد ابْن سِيرِين وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) . وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَهُوَ حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث، مَحْمُول على فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد(5/201)
مَا كبر وأسن. قلت: فِيهِ تَأمل، لِأَن إنهاء مَا عمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وَفِي هَذَا الْقدر لَا يعجز الرجل عَن النهوض، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا كَانَ لعذر مرض أَو جِرَاحَة وَنَحْوهمَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحمل مَالك هَذَا الحَدِيث على حَالَة الضعْف بعيد، وَكَذَا قَول من قَالَ أَن مَالك بن الْحُوَيْرِث رجل من أهل الْبَادِيَة أَقَامَ عِنْد رَسُول الله عشْرين لَيْلَة وَلَعَلَّه رَآهُ فعل ذَلِك فِي صَلَاة وَاحِدَة لعذر فَظن أَنه من سنة الصَّلَاة أبعد، وَأبْعد لَا يُقَال ذَلِك فِيهِ.
وجلسة الاسْتِرَاحَة ثَابِتَة فِي حَدِيث أبي حميد الساعدة، لَا كَمَا نفاها الطَّحَاوِيّ، بل هِيَ ثَابِتَة فِي حَدِيث الْمُسِيء فِي صلَاته فِي البُخَارِيّ. انْتهى. قلت: مَا نفى الطَّحَاوِيّ إلاَّ كَونهَا سنة، وَكَيف وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْهض فِي الصَّلَاة مُعْتَمدًا على صُدُور قَدَمَيْهِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم. فَإِن قلت: فِي سَنَده خَالِد بن إِيَاس، وَقيل: خَالِد بن إِيَاس ضعفه البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن معِين؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه، ويقويه مَا رُوِيَ عَن الصَّحَابَة فِي ذَلِك على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَفِيه: دَلِيل على أَنه يجوز للرجل أَن يعلم غَيره الصَّلَاة وَالْوُضُوء، عملا وعيانا، كَمَا فعل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن التَّعْلِيم بِالْفِعْلِ أوضح من القَوْل.
46 - (بابٌ أهْلُ العِلْمِ والفَضْلِ أحَقُّ بِالإمَامةِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ من غَيرهم مِمَّن لَيْسَ من أهل الْعلم، وَقَالَ بَعضهم: وَمُقْتَضَاهُ أَن الأعلم وَالْأَفْضَل أَحَق من الْعَالم والفاضل. قلت: هَذَا التَّرْكِيب لَا يَقْتَضِي أصلا هَذَا الْمَعْنى، بل مُقْتَضَاهُ أَن الْعَالم أَحَق من الْجَاهِل، والفاضل أَحَق من غَيره الْفَاضِل. ثمَّ قَالَ: وَذكر الْفضل بعد الْعلم من ذكر الْعَام بعد الْخَاص. قلت: هَذَا إِنَّمَا يتمشى إِذا أُرِيد من لفظ الْفضل معنى الْعُمُوم، وَأما إِذا أُرِيد مِنْهُ معنى خَاص لَا يتمشى هَذَا على مَا لَا يخفى.
678 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ عَن زَائِدَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ قَالَ حدَّثني أبُو بُرْدَةَ عَن أبي مُوسَى قَالَ مَرِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قالِتْ عَائِشَةُ إنَّهُ رجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ فأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَياةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الحَدِيث 678 طرفه فِي: 3385) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن أَبَا بكر أفضل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق ابْن نصر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة: وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع من كِتَابه، مرّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَمرَّة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر، فينسبه إِلَى جده. الثَّانِي: حُسَيْن ابْن عَليّ بن الْوَلِيد الْجعْفِيّ الكُوفي. الثَّالِث: زَائِدَة بن قدامَة. الرَّابِع: عبد الْملك بن عُمَيْر بتصغير عمر وبن سُوَيْد الْكُوفِي كَانَ مَعْرُوفا: بِعَبْد الْملك القبطي، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فرس سَابق يعرف بالقبطي، فنسب إِلَيْهِ. وَكَانَ على قَضَاء الْكُوفَة بعد الشّعبِيّ وَهُوَ أول من عبر نهر جيحون نهر بَلخ من طَرِيق سَمَرْقَنْد، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وعمره مائَة سنة وَثَلَاث سِنِين. الْخَامِس: أَبُو بردة بن أبي مُوسَى واسْمه: عَامر. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع، وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: نِسْبَة الرَّاوِي إِلَى جده وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون سوى شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، عَن الرّبيع عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.(5/202)
ذكر مَعْنَاهُ: وَقد ذكرنَا أَكثر مَعَانِيه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي: بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة، فَإِنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ من حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة، وبيَّنا هُنَاكَ مَا ذكر فِيهِ من اخْتِلَاف الرِّوَايَات. قَوْله: (رَقِيق) أَي: رَقِيق الْقلب. قَوْله: (لم يسْتَطع) أَي: من الْبكاء لِكَثْرَة الْحزن ورقة الْقلب. قَوْله: (فَعَادَت) أَي: عَائِشَة إِلَى مقالتها الأولى. قَوْله: (فَإِنَّكُنَّ) ، الْخطاب لجنس عَائِشَة، وإلاَّ فَالْقِيَاس أَن يُقَال: فَإنَّك، بِلَفْظ الْمُفْرد. قَوْله: (فَأَتَاهُ الرَّسُول) ، أَي: فَأتى أَبَا بكر رَسُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبليغ الْأَمر بِصَلَاتِهِ بِالنَّاسِ، وَكَانَ الرَّسُول هُوَ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فصلى بِالنَّاسِ فِي حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وسلمفإن قلت: أَي: إِلَى أَن مَاتَ، وَكَذَا صرح بِهِ مُوسَى بن عقبَة فِي (الْمَغَازِي) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ دلَالَة على فضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن أَبَا بكر صلى بِالنَّاسِ فِي حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت فِي هَذِه الْإِمَامَة الَّتِي هِيَ الصُّغْرَى دلَالَة على الْإِمَامَة الْكُبْرَى. الثَّالِث: فِيهِ أَن الأحق بِالْإِمَامَةِ هُوَ الأعلم، وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن هُوَ أولى بِالْإِمَامَةِ. فَقَالَت طَائِفَة: الأفقه، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالْجُمْهُور. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأحمد وَإِسْحَاق: الأقرأ، وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَلَا شكّ فِي اجْتِمَاع هذَيْن الوصفين فِي حق الصّديق، أَلا ترى إِلَى قَول أبي سعيد: وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، ومراجعة الشَّارِع بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي تدل على تَرْجِيحه على جَمِيع الصَّحَابَة وتفضيله. فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي مَسْعُود البدري الثَّابِت فِي مُسلم: (ليؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى) ، يُعَارض هَذَا؟ قلت: لَا، لِأَنَّهُ لَا يكَاد يُوجد إِذْ ذَاك قارىء إلاّ وَهُوَ فَقِيه، وَأجَاب بَعضهم: بِأَن تَقْدِيم الأقرأ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام حِين كَانَ حفاظ الْإِسْلَام قَلِيلا، وَقد قدم عَمْرو بن سَلمَة وَهُوَ صَغِير على الشُّيُوخ لذَلِك، وَكَانَ سَالم يؤم الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فِي مَسْجِد قبَاء حِين أَقبلُوا من مَكَّة لعدم الْحفاظ حِينَئِذٍ، وَقَالَ أَصْحَابنَا: أولى النَّاس بِالْإِمَامَةِ أعلمهم بِالسنةِ، أَي: بالفقه وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذا كَانَ يحسن من الْقِرَاءَة مَا تجوز بِهِ الصَّلَاة، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أبي يُوسُف: أَقرَأ النَّاس أولى بِالْإِمَامَةِ، يَعْنِي: أعلمهم بِالْقِرَاءَةِ وَكَيْفِيَّة أَدَاء حروفها ووقوفها وَمَا يتَعَلَّق بِالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ أحد الْوُجُود عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَفِي (الْمَبْسُوط) وَغَيره: أَنما قدم الأقرأ فِي الحَدِيث لأَنهم كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت يتلقونه بأحكامه، حَتَّى رُوِيَ أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حفظ سُورَة الْبَقَرَة فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة، فَكَانَ الأقرأ فيهم هُوَ الأعلم بِالسنةِ وَالْأَحْكَام، وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: مَا كَانَت تنزل السُّورَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ ونعلم أمرهَا ونهيها وزجرها وحلالها وحرامها، وَالرجل الْيَوْم يقْرَأ السُّورَة وَلَا يعرف من أَحْكَامهَا شَيْئا. فَإِن قلت: لما كَانَ أقرؤهم أعلمهم فَمَا معنى قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ؟) وأقرؤهم هُوَ: أعلمهم بِالسنةِ فِي ذَلِك الْوَقْت لَا محَالة على مَا قَالُوا؟ قلت: الْمُسَاوَاة فِي الْقِرَاءَة توجيهها فِي الْعلم فِي ذَلِك الزَّمَان ظَاهرا لَا قطعا، فَجَاز تصور مُسَاوَاة الْإِثْنَيْنِ فِي الْقِرَاءَة مَعَ التَّفَاوُت فِي الْأَحْكَام، ألاَ ترى أَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ أَقرَأ وَابْن مَسْعُود كَانَ أعلم وأفقه. وَفِي (النِّهَايَة) : اسْتَقل بِحِفْظ الْقُرْآن سِتَّة: أَبُو بكر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد وَأبي وَابْن مَسْعُود. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ أعلم وأفقه من عُثْمَان، وَلَكِن كَانَ يعسر عَلَيْهِ حفظ الْقُرْآن، فَجرى كَلَامه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْأَعَمّ الْأَغْلَب. فَإِن قلت: الْكَلَام فِي الْأَفْضَلِيَّة مَعَ الِاتِّفَاق على الْجَوَاز على أَي وَجه كَانَ، وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ) ، بِصِيغَة تدل على عدم جَوَاز إِمَامَة الثَّانِي عِنْد وجود الأول، لِأَن صيغته صِيغَة إِخْبَار، وَهُوَ فِي اقْتِضَاء الْوُجُوب آكِد من الْأَمر، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذكره بِالشّرطِ وَالْجَزَاء فَكَانَ اعْتِبَار الثَّانِي إِنَّمَا كَانَ بعد وجود الأول لَا قبله قلت: صِيغَة الْإِخْبَار لبَيَان الشَّرْعِيَّة لَا أَنه لَا يجوز غَيره، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يمسح الْمُقِيم يَوْمًا وَلَيْلَة) . وَلَئِن سلمنَا أَن صِيغَة الْإِخْبَار مَحْمُولَة على معنى الْأَمر، وَلَكِن الْأَمر يحمل على الِاسْتِحْبَاب لوُجُود الْجَوَاز بِدُونِ الِاقْتِدَاء بِالْإِجْمَاع. فَإِن قلت: لَو كَانَ المُرَاد فِي الحَدِيث من قَوْله: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم) هُوَ الأعلم لَكَانَ يلْزم تكْرَار الأعلم فِي الحَدِيث، وَيكون التَّقْدِير: يؤم الْقَوْم أعلمهم، فَإِن تساووا فأعلمهم؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: كَانَ أقرؤهم أعلمهم، يَعْنِي: أعلمهم بِكِتَاب الله دون السّنة. وَمن قَوْله: أعلمهم بِالسنةِ أعلمهم بِأَحْكَام الْكتاب وَالسّنة جَمِيعًا. فَكَانَ الأعلم الثَّانِي غير الأعلم الأول. فَإِن قلت: حَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم) ، الحَدِيث يُعَارضهُ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مروا أَبَا بكر يُصَلِّي(5/203)
بِالنَّاسِ) ، إِذْ كَانَ فيهم من هُوَ أَقرَأ مِنْهُ لِلْقُرْآنِ مثل: أبي، وَغَيره وَهُوَ أولى قلت: حَدِيث أبي مَسْعُود كَانَ فِي أول الْهِجْرَة وَحَدِيث أبي بكر فِي آخر الْأَمر، وَقد تفقهوا فِي الْقُرْآن، وَكَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أعلمهم وأفقههم فِي كل أمره، وَقَالَ أَصْحَابنَا: فَإِن تساووا فِي الْعلم وَالْقِرَاءَة فأولاهم أورعهم. وَفِي (البدرية) : الْوَرع الاجتناب عَن الشُّبُهَات، وَالتَّقوى الاجتناب عَن الْمُحرمَات، فَإِن تساووا فِي الْقِرَاءَة وَالْعلم والورع فأسنهم أولى بِالْإِمَامَةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وليؤمكما أكبركما) ، وَفِي (الْمُحِيط) : الأسن أولى من الأورع إِذا لم يكن فِيهِ فسق ظَاهر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالسِّنِّ سنّ مضى فِي الْإِسْلَام، فَلَا يقدم شيخ أسلم قَرِيبا على شَاب نَشأ فِي الْإِسْلَام، أَو أسلم قبله. قَالَ أَصْحَابنَا: فَإِن تساووا فِي السن فأحسنهم خلقا، وَزَاد بَعضهم: فَإِن تساووا فأحسنهم وَجها. وَفِي (مُخْتَصر الْجَوَاهِر) : يرجح بالفضائل الشَّرْعِيَّة والخلقية والمكانية وَكَمَال الصُّورَة، كالشرف فِي النّسَب وَالسّن، ويلتحق بذلك حسن اللبَاس. وَقيل: وبصباحة الْوَجْه وَحسن الْخلق وبملك رَقَبَة الْمَكَان أَو منفعَته. قَالَ المرغيناني: الْمُسْتَأْجر أولى من الْمَالِك، وَفِي (الْخُلَاصَة) : فَإِن تساووا فِي هَذِه الْخِصَال يقرع، أَو الْخِيَار إِلَى الْقَوْم. وَقيل: إِمَامَة الْمُقِيم أولى من الْعَكْس، وَقَالَ أَبُو الْفضل الْكرْمَانِي: هما سَوَاء، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ فِي الْقَدِيم: تَقْدِيم الْأَشْرَف ثمَّ الأقدم هِجْرَة ثمَّ الأسن، وَهُوَ الْأَصَح. وَالْقَوْل الثَّانِي: يقدم الأسن ثمَّ الْأَشْرَف ثمَّ الأقدم هِجْرَة، وَفِي تتمتهم: ثمَّ بعد الْكبر والشرف تقدم نظافة الثَّوْب، وَالْمرَاد بِهِ النَّظَافَة عَن الْوَسخ لَا عَن النَّجَاسَات، لِأَن الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَات لَا تصح، ثمَّ بعد ذَلِك حسن الصَّوْت، لِأَنَّهُ بِهِ تميل النَّاس إِلَى الصَّلَاة خَلفه فتكثر الْجَمَاعَة، ثمَّ حسن الصُّورَة.
679 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ أُمّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ الله تَعَالى عَنْهَا أنَّهَا قَالَتْ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّي بِالنَّاسِ قالَتْ عائِشَةُ قُلْتُ إنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فقالَتْ عائِشَةُ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ إنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ فَفَعلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَهْ إنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ للنَّاسِ فَقَالَتْ حَفْصَةُ لَعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لأصِيبَ مِنْكِ خَيْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد مروا غير مرّة.
قَوْله: (عَن عَائِشَة) ، رَوَاهُ حَمَّاد عَن مَالك مَوْصُولا، وَهُوَ فِي أَكثر نسخ (الْمُوَطَّأ) مُرْسلا لَيْسَ فِيهِ عَائِشَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق ابْن مُوسَى عَن معن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم.
قَوْله: (فَليصل بِالنَّاسِ) ، ويروى: (للنَّاس) ، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني، ويروى: (فليصلي) ، بِالْيَاءِ. قَوْله: (إنكن) ويروى: (فَإِنَّكُنَّ) ، أَي: إِن هَذَا الْجِنْس هن اللَّاتِي شوشن على يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وكدرنه وأوقعنه فِي الْمَلَامَة: فَجمع بِاعْتِبَار الْجِنْس، أَو لِأَن أقل الْجمع عِنْد طَائِفَة اثْنَان.
71 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَكَانَ تبع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وخدمه وَصَحبه أَن أَبَا بكر كَانَ يُصَلِّي بهم فِي وجع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي توفّي فِيهِ حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ وهم صُفُوف فِي الصَّلَاة فكشف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ستر الْحُجْرَة ينظر إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِم كَأَن وَجهه ورقة مصحف ثمَّ تَبَسم يضْحك فهممنا أَن نفتتن من الْفَرح بِرُؤْيَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنكص أَبُو بكر على عَقِبَيْهِ(5/204)
ليصل الصَّفّ وَظن أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَارج إِلَى الصَّلَاة فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أَتموا صَلَاتكُمْ وأرخى السّتْر فَتوفي من يَوْمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله " إِن أَبَا بكر كَانَ يُصَلِّي بهم " وَرِجَاله تقدمُوا وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب قَوْله " تبع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا ذكر الْمَتْبُوع فِيهِ ليشعر بِالْعُمُومِ أَي تبعه فِي العقائد والأقوال وَالْأَفْعَال والأخلاق قَوْله " وخدمه " أَي وخدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا ذكر خدمته لبَيَان زِيَادَة شرفه وَهُوَ كَانَ خَادِمًا لَهُ عشر سِنِين لَيْلًا وَنَهَارًا وَذكر صحبته مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَن الصُّحْبَة مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل أَحْوَال الْمُؤمنِينَ وَأَعْلَى مقاماتهم قَوْله " يَوْم الِاثْنَيْنِ " بِالنّصب أَي كَانَ الزَّمَان يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيجوز أَن تكون كَانَ تَامَّة وَيكون يَوْم الِاثْنَيْنِ مَرْفُوعا قَوْله " وهم صُفُوف " جملَة اسمية وَقعت حَالا وَكَذَا قَوْله " ينظر " جملَة وَقعت حَالا ويروى " فَنظر " قَوْله " كَأَن وَجهه ورقة مصحف " الورقة بِفَتْح الرَّاء والمصحف مُثَلّثَة الْمِيم وَوجه التَّشْبِيه عبارَة عَن الْجمال البارع وَحسن الْوَجْه وصفاء الْبشرَة قَوْله " يضْحك " جملَة وَقعت حَالا تَقْدِيره فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا وَسبب تبسمه فرحه بِمَا رأى من اجْتِمَاعهم على الصَّلَاة واتفاق كلمتهم وإقامتهم شَرِيعَته وَلِهَذَا استنار وَجهه ويروى " فَضَحِك " بفاء الْعَطف قَوْله " فهممنا " أَي قصدنا قَوْله " فنكص أَبُو بكر " أَي رَجَعَ قَوْله " ليصل الصَّفّ " من الْوُصُول لَا من الْوَصْل قَوْله " الصَّفّ " مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي إِلَى الصَّفّ قَوْله " فَتوفي من يَوْمه " ويروى " وَتُوفِّي " بِالْوَاو -
681 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ قَالَ لَمْ يَخْرُجِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاَثا فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ فَقَالَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وسلمما نَظرنَا منْظرًا كَانَ أعجب إِلَيْنَا من وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ وَضَحَ لَنا فَأَوْمَأ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إلَى أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ وأرْخَى النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى ماتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَوْمأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَى أبي بكر) لِأَن إِشَارَته إِلَيْهِ بالتقدم أَمر لَهُ بِالصَّلَاةِ للْقَوْم على سَبِيل الْخلَافَة، وَلم يومِ إِلَيْهِ إلاّ لكَونه أعلمهم وأفضلهم.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، والرواة كلهم بصريون.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مُوسَى وَهَارُون الْجمال، كِلَاهُمَا عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه بِهِ.
قَوْله: (ثَلَاثًا) ، أَي: ثَلَاثَة أَيَّام، وَقد قُلْنَا غير مرّة: إِن الْمُمَيز إِذا لم يكن مَذْكُورا جَازَ فِي لفظ الْعدَد التَّاء وَعَدَمه، وَكَانَ ابْتِدَاء الثَّلَاث من حِين خرج، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فصلى بهم قَاعِدا. قَوْله: (فَذهب أَبُو بكر فَتقدم) ، ويروى: (يتَقَدَّم) ، بياء المضارعة وموقعها حَال، أَي: فَذهب مُتَقَدما. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجاب، أَي: أَخذ الْحجاب فرفعه. وإجراء لفظ: قَالَ، بِمَعْنى: فعل، شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب. قَوْله: (فَلَمَّا وضح) أَي: فَلَمَّا ظهر وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن التِّين: أَي: ظهر لنا بياضه وَحسنه، لِأَن الوضاح، عِنْد الْعَرَب هُوَ: الْأَبْيَض اللَّوْن لحسنه. قَوْله: (مَا رَأينَا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا نَظرنَا) . قَوْله: (أَن يتَقَدَّم) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: فَأَوْمأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بالتقدم إِلَى الصَّلَاة ليُصَلِّي بهم. (فَلم يقدر عَلَيْهِ) ، أَي: على الْمَشْي، وَيقدر بِضَم الْيَاء وَفتح الدَّال بِلَفْظ الْمُفْرد الْغَائِب على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى: (فَلم نقدر) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الدَّال: بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، قَالَه الْكرْمَانِي.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ خَلِيفَته فِي الصَّلَاة، إِلَى مَوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(5/205)
وَلم يعزله عَنْهَا، كَمَا زعمت الشِّيعَة، أَنه عزل بِخُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتخلفه وَتقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأَن الْإِشَارَة بِالْيَدِ تقوم مقَام الْأَمر فِي مثل هَذَا الْموضع.
682 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَاب عنْ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ الله أنَّهُ أخْبَرَهُ عنْ أبِيهِ قالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالناس قالَتْ عائِشَةُ إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذا قَرَأ غَلَبَهُ البُكَاءُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إنَّكُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن يحيى أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي، سكن مصر وَمَات بهَا سنة ثَمَان، وَيُقَال: سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس ابْن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حَمْزَة بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَبُو عمَارَة أَخُو سَالم. السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وأيلي ومصري ومدني.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي: عشرَة النِّسَاء، عَن صَفْوَان بن عَمْرو عَن بشر بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن الزُّهْرِيّ. بِهِ
قَوْله: (فِي الصَّلَاة) أَي: فِي شَأْن الصَّلَاة وَتَعْيِين الإِمَام. قَوْله: (فَليصل) ويروى: (فليصلي) بِالْيَاءِ. قَوْله: (فعاودته) ، بِفَتْح الدَّال وَسُكُون التَّاء أَي: فعاودته عَائِشَة، ويروى: (فعاودنه) ، بِسُكُون الدَّال بعْدهَا نون الْجمع، وَهِي: عَائِشَة وَمن مَعهَا من النِّسَاء. قَوْله: (فَقَالَ) ويروى: (قَالَ) ، بِدُونِ الْفَاء. قَوْله: (فَليصل) ، ويروى (فليصلي) بِالْيَاءِ.
تابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ
أَي: تَابع يُونُس بن يزِيد الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد الْحِمصِي أَبُو الْهُذيْل. قَالَ: أَقمت مَعَ الزُّهْرِيّ عشر سِنِين بالرصافة، مَاتَ بِالشَّام سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَوصل الطَّبَرَانِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي مُسْند الشاميين من طَرِيق عبد الله بن سَالم الْحِمصِي عَنهُ مَوْصُولا مَرْفُوعا.
وابْنُ أخِي الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يُونُس أَيْضا ابْن أخي الزُّهْرِيّ، وَهُوَ: مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم، قَتله غلمانه بِأَمْر وَلَده فِي خلَافَة أبي جَعْفَر، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ وَلَده سَفِيها شاطرا، قَتله للميراث، فَوَثَبَ غلمانه بعد سنتَيْن فَقَتَلُوهُ. وَوصل مُتَابَعَته ابْن أخي الزُّهْرِيّ ابْن عدي من رِوَايَة الدَّرَاورْدِي عَنهُ.
وإسْحَاقُ بنُ يَحْيَى الكَلْبِيُّ
أَي: تَابع يُونُس أَيْضا إِسْحَاق بن يحيى الْكَلْبِيّ الْحِمصِي، وَوصل مُتَابَعَته هَذِه أَبُو بكر بن شَاذان الْبَغْدَادِيّ.
عنِ الزُّهْرِيِّ
يتَعَلَّق بِالثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْفرق بَين المتابعتين أَن الثَّانِيَة كَامِلَة من حَيْثُ رفع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأولَى نَاقِصَة حَيْثُ صَار مَوْقُوفا على الزُّهْرِيّ، وَيحْتَمل أَن يفرق بَينهمَا، بِأَن الأولى: هِيَ الْمُتَابَعَة فَقَط، وَالثَّانيَِة: مقاولة لَا مُتَابعَة، وفيهَا إرْسَال أَيْضا. قلت: الثَّانِيَة مُرْسلَة لَا غير.
وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عقيلاً ومعمرا خالفا يُونُس وَمن تَابعه فأرسلا الحَدِيث، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَقد تكَرر ذكرهمَا، وَقد وصل الذهلي رِوَايَة عقيل فِي الزهريات، وَأما معمر فَاخْتلف عَلَيْهِ، فَرَوَاهُ عبد الله ابْن الْمُبَارك عَنهُ مُرْسلا كَذَلِك أخرجه ابْن سعد وَأَبُو يعلى من طَرِيقه، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر مَوْصُولا، لَكِن قَالَ: عَن عَائِشَة، بدل قَوْله: عَن أَبِيه، كَذَلِك أخرجه مُسلم.(5/206)
47 - (بابُ منْ قامَ إلَى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَامَ من الْمُصَلِّين إِلَى جنب الإِمَام لأجل عِلّة، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن الأَصْل أَن يتَقَدَّم الإِمَام على الْمَأْمُوم، وَلَكِن للْمَأْمُوم أَن يقف بِجنب الإِمَام عِنْد وجود أَسبَاب تَقْتَضِي ذَلِك: أَحدهَا: هُوَ الْعلَّة الَّتِي ذكرهَا. وَالثَّانِي: ضيق الْموضع، فَلَا يقدر الإِمَام على التَّقَدُّم فَيكون مَعَ الْقَوْم فِي الصَّفّ. وَالثَّالِث: جمَاعَة العراة فَإِن إمَامهمْ يقف مَعَهم فِي الصَّفّ. وَالرَّابِع: أَن يكون مَعَ الإِمَام وَاحِد فَقَط يقف عَن يَمِينه، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس إِذْ أداره من خَلفه إِلَى يَمِينه، وَبِهَذَا يرد على التَّمِيمِي حَيْثُ حصر الْجَوَاز الْمَذْكُور على صُورَتَيْنِ، فَقَالَ: لَا يجوز أَن يكون أحد مَعَ الإِمَام فِي صف إلاّ فِي موضِعين: أَحدهمَا: مثل مَا فِي الحَدِيث من ضيق الْموضع وَعدم الْقُدْرَة على التَّقَدُّم. وَالثَّانِي: أَن يكون رجل وَاحِد مَعَ الإِمَام، كَمَا فعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِابْن عَبَّاس حَيْثُ أداره من خَلفه إِلَى يَمِينه.
683 - حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بَكْرٍ أنْ يُصلِّي بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكانَ يُصَلِّي بِهمْ، قَالَ عُرْوَةُ فَوجَدَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفسِهِ خِفَّةً فَخرَجَ فإذَا أبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أبْو بكْرٍ اسْتَأخَرَ فَأشَارَ إليْهِ كَمَا أنْتَ فَجلَسَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِذَاءَ أبِي بَكْرٍ إلَى جَنْبِهِ فكانَ أَبُو بكْرٍ يُصلِّي بِصلاةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والناسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أبِي بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن نمير هُوَ عبد الله بن نمير.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: من هَهُنَا إِلَى آخِره مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَهُوَ من مَرَاسِيل التَّابِعين وَمن تعليقات البُخَارِيّ، وَيحْتَمل دُخُوله تَحت الْإِسْنَاد الأول. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَوهم من جعله مُعَلّقا قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَول الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا إِن الْكرْمَانِي مَا جزم بِأَنَّهُ مُرْسل، بل قَالَ: يحْتَمل دُخُوله تَحت الْإِسْنَاد الأول. وَأخرجه ابْن مَاجَه بِهَذَا الْإِسْنَاد مُتَّصِلا بِمَا قبله، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا عبد الله بن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَ: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي مَرضه فَكَانَ يُصَلِّي بهم، فَوجدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خفَّة فَخرج، فَإِذا أَبُو بكر يؤم النَّاس، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن: كَمَا أَنْت، فَجَلَسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حذاء أبي بكر إِلَى جنبه، فَكَانَ أَبُو بكر يُصَلِّي بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس يصلونَ بِصَلَاة أبي بكر) ، فَإِن قلت: إِذا كَانَ الحَدِيث مُتَّصِلا فَلِمَ قطعه عُرْوَة عَن الْقدر الأول الَّذِي أَخذه عَن عَائِشَة؟ قلت: لاحْتِمَال أَن يكون عُرْوَة أَخذه عَن غير عَائِشَة، فَقطع الثَّانِي عَن الْقدر الأول لذَلِك. قَوْله: (اسْتَأْخَرَ) أَي: تَأَخّر. قَوْله: (أَن: كَمَا أَنْت) كلمة: مَا، مَوْصُولَة. وَأَنت، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: كَمَا أَنْت عَلَيْهِ أَو فِيهِ، و: الْكَاف، للتشبيه. أَي: كن مشابها لما أَنْت عَلَيْهِ، أَي: يكون حالك فِي الْمُسْتَقْبل مشابها بحالك فِي الْمَاضِي. وَيجوز أَن تكون الْكَاف زَائِدَة، أَي: الْتزم الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِمَامَة. قَوْله: (حذاء أبي بكر) أَي: محاذيا من جِهَة الْجنب لَا من جِهَة القدام وَالْخلف، وَلَا مُنَافَاة بَين قَوْله فِي التَّرْجَمَة: قَامَ إِلَى جنب الإِمَام، وَهنا قَالَ: جلس إِلَى جنبه، لِأَن الْقيام إِلَى جنب الإِمَام قد يكون انتهاؤه بِالْجُلُوسِ فِي جنبه، وَلَا شكّ أَنه كَانَ قَائِما فِي الِابْتِدَاء ثمَّ صَار جَالِسا، أَو قَاس الْقيام على الْجُلُوس فِي جَوَاز كَونه فِي الْجنب، أَو المُرَاد: قيام أبي بكر لَا قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمعْنَى: قَامَ أَبُو بكر بِجنب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محاذيا لَهُ لَا مُتَخَلِّفًا عَنهُ، لغَرَض مُشَاهدَة أَحْوَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(5/207)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْإِشَارَة المفهمة عِنْد الْحَاجة، وَجَوَاز جُلُوس الْمَأْمُوم بِجنب الإِمَام عِنْد الضَّرُورَة أَو الْحَاجة، وَفِي قَوْله: اسْتَأْخَرَ، دَلِيل وَاضح أَنه لم يكن عِنْده مستنكرا أَن يتَقَدَّم الرجل عَن مقَامه الَّذِي قَامَ فِيهِ فِي صلَاته ويتأخر، وَذَلِكَ عمل فِي الصَّلَاة من غَيرهَا، فَكل مَا كَانَ نَظِير ذَلِك وَفعله فَاعل فِي صلَاته لأمر دَعَاهُ إِلَيْهِ فَذَلِك جَائِز. قيل: فِي الحَدِيث إِشْعَار بِصِحَّة صَلَاة الْمَأْمُوم وَإِن لم يتَقَدَّم الإِمَام عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمَالِكِيَّة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ قد يكون بَينهمَا الْمُحَاذَاة مَعَ تقدم الْعقب على عقب الْمَأْمُوم، أَو جَازَ محاذاة العقبين لَا سِيمَا عِنْد الضَّرُورَة أَو الْحَاجة. وَفِيه: دلَالَة أَن الْأَئِمَّة إِذا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يراهم من يأتم بهم جَازَ أَن يرْكَع الْمَأْمُوم بركوع المكبر. وَفِيه: أَن الْعَمَل الْقَلِيل لَا يفْسد الصَّلَاة.
48 - (بابُ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ الناسَ فَجَاءَ الإمامُ الأوَّلُ فَتَأخَّرَ الأوَّلُ أوْ لَمْ يَتَأخَّرْ جازَتْ صَلاَتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته من دخل ... إِلَى آخِره. قَوْله: (الإِمَام) الأول أَي: الإِمَام الرَّاتِب. قَوْله: (فَتَأَخر الأول) أَي: الَّذِي أَرَادَ أَن يَنُوب عَن الرَّاتِب، والمعرة إِذا أُعِيدَت إِنَّمَا تكون عين الأول عِنْد عدم الْقَرِينَة الدَّالَّة على الْمُغَايرَة، ويروي: (فَتَأَخر الآخر) ، وَالْمرَاد مِنْهُ: الدَّاخِل. وكل مِنْهُمَا أول بِاعْتِبَار.
فِيهِ عنْ عَائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي الْمَذْكُور من قَوْله: (فجَاء الامام الاول فَتَأَخر الأول) إِلَى آخِره، رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثهَا الَّذِي روى عَنْهَا عُرْوَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق، وَهُوَ قَوْله: (فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر اسْتَأْخَرَ) ، أَي: فَلَمَّا رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبُو بكر فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ الأول لِأَنَّهُ الإِمَام الرَّاتِب، وَأَبُو بكر هُوَ الدَّاخِل وَيُطلق عَلَيْهِ الأول بِاعْتِبَار أَنه تقدم أَولا، وَيُطلق عَلَيْهِ الآخر لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول آخر. فَافْهَم.
684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي حازِمِ بنِ دِينَارٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَجَاءَ المُؤَذَّنُ إلَى أبِي بَكْرٍ فَقَالَ أتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى أبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسُ فِي الصَّلاةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وكانَ أبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأشَارَ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِ امْكُثْ مَكانَكَ فَرَفَعَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَدَيْهِ فَحَمِدَ الله عَلَى مَا أمَرَهُ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوى فِي الصَّفِّ وتَقَدَّمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلَّى فَلَمَّا انْصرَفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أنْ تَثْبُتَ إذْ أمَرْتُكَ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ مَا كانَ لابنِ أبي قحَافَةَ أنْ يصلّي بَيْنَ يَدَيْ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رسولُ الله ت مَا لِي رَأيْتُكُمْ أكْثَرْتُمُ التَّصفِيقَ منْ رَابَهُ شَيءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإنَّهُ إذَا سَبَّحَ الْتفت إلَيْهِ وإنَّما التصْفِيقُ لَلنِّساءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بكر حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفّ وَتقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي. القاني: مَالك بن أنس. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه سَلمَة بن دِينَار وَقد تقدم. الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن سهل، وَفِي رِوَايَة(5/208)
النَّسَائِيّ من طَرِيق سُفْيَان: عَن أبي حَازِم، سَمِعت سهلاً. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين تنسي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي سَبْعَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الصَّلَاة فِيمَا يجوز من التَّسْبِيح وَالْحَمْد للرِّجَال، وَرفع الْأَيْدِي فِيهَا لأمر ينزل بِهِ، وَالْإِشَارَة فِيهَا، والسهو، وَالصُّلْح وَالْأَحْكَام. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيع وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دواد عَن القعْنبِي وَعَن عَمْرو بن عَوْف. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن أَحْمد بن عَبدة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: إِلَى بني عَمْرو بن عَوْف) هم: من ولد مَالك بن الْأَوْس، وَكَانُوا بقباء، والأوس أحد قبيلتي الْأَنْصَار، وهما: الْأَوْس والخزرج، وَبَنُو عَمْرو بن عَوْف بطن كثير من الْأَوْس فِيهِ عدَّة أَحيَاء مِنْهُم: بَنو أُميَّة بن زيد، وَبَنُو ضبيعة بن زيد، وَبَنُو ثَعْلَبَة ابْن عَمْرو بن عَوْف، وَالسَّبَب فِي ذَهَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الصُّلْح من طَرِيق مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن أبي حَازِم: (أَن أهل قبَاء اقْتَتَلُوا حَتَّى تراموا بِالْحِجَارَةِ، فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، فَقَالَ إذهبوا بِنَا نصلح بَينهم) . وَرُوِيَ فِي الْأَحْكَام من طَرِيق حَمَّاد بن زيد: أَن توجهه كَانَ بعد أَن صلى الظّهْر، وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عَمْرو بن عَليّ عَن أبي حَازِم: أَن الْخَبَر جَاءَ بذلك، وَقد أذن بِلَال لصَلَاة الظّهْر. قَوْله: (فحانت الصَّلَاة) ، أَي: صَلَاة الْعَصْر، وَصرح بِهِ فِي الْأَحْكَام. وَلَفظه: فَلَمَّا حضرت صَلَاة الْعَصْر أذن بِلَال ثمَّ أَقَامَ ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) . وَلم يبين فَاعل ذَلِك، وَقد بَين ذَلِك أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) بِسَنَد صَحِيح، وَلَفظه: (كَانَ قتال بَين بني عَمْرو بن عَوْف فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَتَاهُم ليصلح بَينهم بعد الظّهْر، فَقَالَ لِبلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِن حضرت صَلَاة الْعَصْر وَلم آتِك فَمر أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ، فَلَمَّا حضرت صَلَاة الْعَصْر أذن بِلَال ثمَّ أَقَامَ ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) . وَعلم من ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله: (فجَاء الْمُؤَذّن) هُوَ: بِلَال. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الْمُؤَذّن الَّذِي هُوَ بِلَال. قَوْله: (أَتُصَلِّي للنَّاس؟) الْهمزَة فِيهَا للاستفهام على سَبِيل التَّقْرِير، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من يَقُول: هَذَا يُخَالف مَا ذكر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من قَوْله: (ثمَّ أَمر أَبَا بكر فَتقدم) ، ويروى: (أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ؟) بِالْبَاء الْمُوَحدَة عوض عَن اللَّام. قَوْله: (فأقيم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: بِالرَّفْع وَالنّصب، وَسكت على ذَلِك. قلت: وَجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أقيم، وَوجه النصب على أَنه جَوَاب الِاسْتِفْهَام، وَالتَّقْدِير: فَإِن أقيم. قَوْله: (قَالَ نعم) أَي: قَالَ أَبُو بكر: نعم أقِم الصَّلَاة، وَزَاد فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه لَفْظَة: (إِن شِئْت) . وَأخرج البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة فِي: بَاب رفع الْأَيْدِي، وَوجه هَذَا التَّفْوِيض إِلَيْهِ لاحْتِمَال أَن يكون عِنْده زِيَادَة علم من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك. قَوْله: (فصلى أَبُو بكر) ، لَيْسَ على حَقِيقَته، بل مَعْنَاهُ: دخل فِي الصَّلَاة، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (وَتقدم أَبُو بكر فَكبر) وَرِوَايَة المَسْعُودِيّ عَن أبي حَازِم: (فَاسْتَفْتَحَ أَبُو بكر الصَّلَاة) ، وَهِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قَوْله: (وَالنَّاس فِي الصَّلَاة) جملَة حَالية يَعْنِي: شرعوا فِيهَا مَعَ شُرُوع أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فتخلص) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: صَار خَالِصا من الاشغال قلت: لَيْسَ المُرَاد هَذَا الْمَعْنى هَهُنَا، بل مَعْنَاهُ: فتخلص من شقّ الصُّفُوف حَتَّى وصل إِلَى الصَّفّ الأول، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَتَّى وقف فِي الصَّفّ) أَي: فِي الصَّفّ الأول، وَالدَّلِيل على مَا قُلْنَا رِوَايَة عبد الْعَزِيز، عِنْد مُسلم: (فجَاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فخرق الصُّفُوف حَتَّى قَامَ عِنْد الصَّفّ الْمُقدم) . قَوْله: (فَصَفَّقَ النَّاس) ، بتَشْديد الْفَاء، من: التصفيق. قَالَ الْكرْمَانِي: التصفيق الضَّرْب الَّذِي يسمع لَهُ صَوت، والتصفيق بِالْيَدِ التصويت بهَا. انْتهى. التصفيق: هُوَ التصفيح بِالْحَاء، سَوَاء صفق بِيَدِهِ أَو صفح. وَقيل: هُوَ بِالْحَاء: الضَّرْب بِظَاهِر الْيَد إِحْدَاهمَا على صفحة الْأُخْرَى، وَهُوَ الْإِنْذَار والتنبيه. وبالقاف: ضرب إِحْدَى الصفحتين على الْأُخْرَى، وَهُوَ اللَّهْو واللعب. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ عِيسَى بن أَيُّوب: التصفيح للنِّسَاء ضرب بإصبعين من يَمِينهَا على كفها الْيُسْرَى. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِي بعض الرِّوَايَات: (فصفح الْقَوْم، وَإِنَّمَا التصفيح للنِّسَاء) . فَيحمل أَنهم ضربوا أكفهم على أَفْخَاذهم قلت: رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (فَأخذ النَّاس فِي التصفيح، قَالَ سهل: أَتَدْرُونَ مَا التصفيح؟ هُوَ التصفيق) . قَوْله: (وَكَانَ أَبُو بكر لَا يلْتَفت فِي صلَاته) وَذَلِكَ لعلمه بِالنَّهْي عَن ذَلِك، وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : سَأَلت عَائِشَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْتِفَات الرجل فِي الصَّلَاة، فَقَالَ: هُوَ اختلاس يختلسه الشَّيْطَان من صَلَاة الرجل. قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر النَّاس التصفيق) ، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد: (فَلَمَّا رأى التصفيح لَا يمسك عَنهُ الْتفت) ، قَوْله: (أَن أمكث مَكَانك) . كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالْمعْنَى: فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمكث(5/209)
فِي مَكَانَهُ. وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بِأَن يُصَلِّي) ، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن عَليّ: (فَدفع فِي صَدره لِيَتَقَدَّم فَأبى) . قَوْله: (فَرفع أَبُو بكر يَدَيْهِ فَحَمدَ الله) ظَاهره أَنه حمد الله تَعَالَى بِلَفْظِهِ صَرِيحًا، لَكِن فِي رِوَايَة الْحميدِي عَن سُفْيَان: (فَرفع أَبُو بكر رَأسه إِلَى السَّمَاء شكرا لله وَرجع الْقَهْقَرِي) ، وَادّعى ابْن الْجَوْزِيّ أَنه أَشَارَ إِلَى الشُّكْر وَالْحَمْد بِيَدِهِ وَلم يتَكَلَّم، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْحميدِي مَا يمْنَع أَن يكون بِلَفْظِهِ، وَيُقَوِّي ذَلِك مَا رَوَاهُ أَحْمد من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن أبي حَازِم: (يَا أَبَا بكر لم رفعت يَديك؟ وَمَا مَنعك أَن تثبت حِين أَشرت إِلَيْك؟ قَالَ: رفعت يَدي لِأَنِّي حمدت الله على مَا رَأَيْت مِنْك) . وَزَاد المَسْعُودِيّ: (فَلَمَّا تنحى تقدم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَنَحْوه فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد. قَوْله: (ثمَّ اسْتَأْخَرَ) أَي: تَأَخّر. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة، قَوْله: (إِذْ أَمرتك) أَي: حِين أَمرتك. قَوْله: (لِابْنِ أبي قُحَافَة) بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد الْألف فَاء: واسْمه عُثْمَان بن عَامر الْقرشِي، أسلم عَام الْفَتْح، وعاش إِلَى خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَات سنة أَربع عشرَة، وَإِنَّمَا لم يقل أَبُو بكر: مَا لي، أَو: مَا لأبي بكر، تحقيرا لنَفسِهِ واستصغارا لمرتبته عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَالْمرَاد من بَين يَدي: القدام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو لفظ يَدي مقحم؟ قلت: إِذا كَانَ لفظ: يَدي مقحما لَا يَنْتَظِم الْمَعْنى على مَا لَا يخفى. قَوْله: (مَا لي رأيتكم) تَعْرِيض، وَالْغَرَض: مَا لكم. قَوْله: (من نابه) أَي: من أَصَابَهُ. قَوْله: (فليسبح) ، أَي: فَلْيقل: سُبْحَانَ الله، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم، (فَلْيقل: سُبْحَانَ الله) . قَوْله: (الْتفت إِلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله: (وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء) ، وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (وَإِنَّمَا التصفيح للنِّسَاء) . وَوَقع فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد بِصِيغَة الْأَمر، وَلَفظه: (إِذا نابكم أَمر فليسبح الرِّجَال وليصفح النِّسَاء) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ فضل الْإِصْلَاح بَين النَّاس وحسم مَادَّة الْفِتْنَة بَينهم وجمعهم على كلمة وَاحِدَة.
الثَّانِي: فِيهِ توجه الإِمَام بِنَفسِهِ إِلَى بعض رَعيته للإصلاح، وَتَقْدِيم ذَلِك على مصلحَة الْإِمَامَة بِنَفسِهِ، لِأَن فِي ذَلِك دفع الْمفْسدَة وَهُوَ أولى من الْإِمَامَة بِنَفسِهِ، ويلتحق بذلك توجه الْحَاكِم لسَمَاع دَعْوَى بعض الْخُصُوم إِذا علم أَن فِيهِ مصلحَة.
الثَّالِث: قيل فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة بإمامين: أَحدهمَا بعد الآخر، وَأَن الإِمَام الرَّاتِب إِذا غَابَ يسْتَخْلف غَيره، وَإنَّهُ إِذا حضر بعد أَن دخل نَائِبه فِي الصَّلَاة يتَخَيَّر بَين أَن يأتم بِهِ أَو يؤم هُوَ وَيصير النَّائِب مَأْمُوما من غير أَن يقطع الصَّلَاة، وَلَا يبطل شَيْء من ذَلِك صَلَاة أحد الْمَأْمُومين. انْتهى. قلت: جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة بإمامين: أَحدهمَا بعد الآخر مُسلم، لِأَن الإِمَام إِذا أحدث واستخلف خَليفَة فَأَتمَّ الْخَلِيفَة صلَاته صَحَّ ذَلِك وَيُطلق عَلَيْهِ أَنه صَلَاة وَاحِدَة بإمامين، وَقَوله أَيْضا: إِن الإِمَام الرَّاتِب إِذا غَابَ يسْتَخْلف غَيره مُسلم أَيْضا. قَوْله: وَإنَّهُ إِذا حضر ... إِلَى آخِره، غير مُسلم. واحتجاج من يذهب إِلَى هَذَا بِهَذَا الحَدِيث غير صَحِيح، لِأَن ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر ذَلِك ابْن عبد الْبر، وَادّعى الْإِجْمَاع على عدم جَوَاز ذَلِك لغيره. قلت: لِأَنَّهُ لَا يجوز التَّقَدُّم بَين يَدي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ لسَائِر النَّاس الْيَوْم من الْفضل من يجب أَن يتَأَخَّر لَهُ، وَكَانَ جَائِزا لأبي بكر أَن لَا يتَأَخَّر لإشارة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَن امْكُث مَكَانك) : وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة أَيْضا: تَأَخّر أبي بكر وتقدمه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خواصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يفعل ذَلِك بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ بَعضهم: ونوقض يَعْنِي: دَعْوَى ابْن عبد الْبر الْإِجْمَاع الْمَذْكُور، بِأَن الْخلاف ثَابت، فَالصَّحِيح الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة الْجَوَاز. انْتهى. قلت: هَذَا خرق للْإِجْمَاع السَّابِق قبل هَؤُلَاءِ الشَّافِعِيَّة، وخرق الْإِجْمَاع بَاطِل.
الرَّابِع: قيل فِيهِ جَوَاز إِحْرَام الْمَأْمُوم قبل الإِمَام، وَأَن الْمَرْء قد يكون فِي بعض صلَاته إِمَامًا وَفِي بَعْضهَا مَأْمُوما انْتهى. قلت: قَوْله: فِيهِ جَوَاز إِحْرَام الْمَأْمُوم قبل الإِمَام، قَول غير صَحِيح يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كبر الإِمَام فكبروا) . وَلَفظ البُخَارِيّ: (فَإِذا كبر فكبروا) ، وَقد رتب تَكْبِير الْمَأْمُوم على تَكْبِير الإِمَام فَلَا يَصح أَن يسْبقهُ. وَقَالَ ابْن بطال: لَا أعلم من يَقُول: إِن من كبر قبل إِمَامه فَصلَاته تَامَّة إلاَّ الشَّافِعِي بِنَاء على مذْهبه، وَهُوَ أَن صَلَاة الْمَأْمُوم غير مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، وَسَائِر الْفُقَهَاء لَا يجيزون ذَلِك.
الْخَامِس: استنبط الطَّبَرِيّ مِنْهُ، وَقَالَ: فِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على خطأ من زعم أَنه لَا يجوز لمن أحرم بفريضة وَصلى بَعْضهَا ثمَّ أُقِيمَت عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاة أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يدْخل مَعَ الْجَمَاعَة(5/210)
فِي بَقِيَّة صلَاته حَتَّى يخرج مِنْهَا وَيسلم، ثمَّ يدْخل مَعَهم، فَإِن دخل مَعَهم دون سَلام فَسدتْ صلَاته وَلَزِمَه قَضَاؤُهَا. انْتهى. قلت: الحَدِيث يبين خطأه هُوَ، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ابتدا صَلَاة كَانَ أَبُو بكر صلى بَعْضهَا وائتم بِهِ أَصْحَابه فِيهَا، فَكَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مبتدئا وَالْقَوْم متممين.
السَّادِس: فِيهِ فضل أبي بكر على جَمِيع الصَّحَابَة.
السَّابِع: فِيهِ أَن إِقَامَة الصَّلَاة واستدعاء الإِمَام من وَظِيفَة الْمُؤَذّن، وَأَن الْمُؤَذّن هُوَ الَّذِي يُقيم وَهَذَا هُوَ السّنة، فَإِن أَقَامَ غَيره كَانَ خلاف السّنة. قيل: يعْتد بِإِذْنِهِ عِنْد الْجُمْهُور. قلت: وَبِغير إِذْنه أَيْضا يعْتد، وَإِذا أَقَامَ غير الْمُؤَذّن أَيْضا يعْتد عندنَا، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن زيد حِين رأى الْأَذَان: (ألقها على بِلَال فَإِنَّهُ أمد صَوتا مِنْك، وأقم أَنْت) . وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أذن فَهُوَ يُقيم) ، كَانَ فِي حق زِيَاد بن الْحَارِث الصدائي، وَكَانَ حَدِيث الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ، وَأمره بِهِ كَيْلا تدخله الوحشة.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز التَّسْبِيح وَالْحَمْد فِي الصَّلَاة لِأَنَّهُ من ذكر الله تَعَالَى، وَأما إِذا قَالَ: الْحَمد لله، وَأَرَادَ بِهِ الْجَواب اخْتلف الْمَشَايِخ فِي فَسَاد صلَاته. وَفِي (الْمُحِيط) : لَو حمد الله الْعَاطِس فِي نَفسه وَلَا يُحَرك لِسَانه، عَن أبي حنيفَة، لَا تفْسد وَلَو حرك تفْسد. وَفِي (فَتَاوَى العتابي) : لَو قَالَ السَّامع: الْحَمد على رَجَاء الثَّوَاب من غير إِرَادَة الْجَواب لَا تفْسد، وَإِذا فتح على إِمَامه لَا تفْسد، وعَلى غَيره تفْسد. وَقَالَ ابْن قدامَة: قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن فتح على الإِمَام بطلت صلَاته قلت: هَذَا غير صَحِيح. وَقَالَ السفاقسي: احْتج بِالْحَدِيثِ جمَاعَة من الحذاق على أبي حنيفَة فِي قَوْله: إِن فتح الرجل لغير إِمَامه لم تجز صلَاته. قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على هَذَا، وَالَّذِي لَيْسَ فِي صلَاته لَا يدْخل تَحت قَوْله: (من نابه شَيْء فِي صلَاته) ، وَلِأَنَّهُ يكون تَعْلِيما وتلقينا. وَقَالَ السفاقسي: قَالَ مَالك: من أخبر فِي صلَاته بسرور فَحَمدَ الله تَعَالَى لَا تضر صلَاته. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: من أخبر بمصيبة فَاسْتَرْجع، أَو أخبر بِشَيْء فَقَالَ: الْحَمد لله على كل حَال، أَو قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات، لَا يُعجبنِي، وَصلَاته مجزية. وَقَالَ أَشهب: إلاّ أَن يُرِيد بذلك قطع الصَّلَاة. وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا سبح لأعمى خوف أَن يَقع فِي بِئْر أَو دَابَّة أَو فِي حَيَّة إِنَّه جَائِز.
التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز الِالْتِفَات للْحَاجة، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على أَن الِالْتِفَات لَا يفْسد الصَّلَاة إِذا كَانَ يَسِيرا قلت: هَذَا إِذا كَانَ لحَاجَة، لما روى سهل بن الحنظلية من حَدِيث فِيهِ: (فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ يلْتَفت إِلَى الشّعب) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ أرسل فَارِسًا إِلَى الشّعب يحرس، وَقَالَ الْحَاكِم: سَنَده صَحِيح، وَأما إِذا كَانَ لَا لحَاجَة فَإِنَّهُ يكره، لما رُوِيَ عَن أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يزَال الله تَعَالَى مُقبلا على العَبْد وَهُوَ فِي صلَاته مَا لم يلْتَفت، فَإِذا الْتفت انْصَرف عَنهُ) . وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا وَلَا يلوي عُنُقه خلف ظَهره) . وَعند التِّرْمِذِيّ، واستغر بِهِ: (يلحظني يَمِينا وَشمَالًا) . وَقَالَ ابْن الْقطَّان: صَحِيح، وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن عَليّ بن شَيبَان، وَكَانَ أحد الْوَفْد قَالَ: (صليت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلمح بمؤخر عَيْنَيْهِ إِلَى رجل لَا يُقيم صلبه فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود) . وَعَن جَابر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ شَاك، فصلينا وَرَاءه قعُودا فَالْتَفت إِلَيْنَا فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد: لَا صَلَاة لملتفت قلت: ضعفه ابْن الْقطَّان وَغَيره.
الْعَاشِر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز اسْتِخْلَاف الإِمَام إِذا أَصَابَهُ مَا يُوجب ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَالْحسن وعلقمة وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري، وَعَن الشَّافِعِي وَأهل الظَّاهِر: لَا يسْتَخْلف الإِمَام.
الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز شقّ الصُّفُوف وَالْمَشْي بَين الْمُصَلِّين لقصد الْوُصُول إِلَى الصَّفّ الأول، لَكِن هَذَا فِي حق الإِمَام وَيكرهُ فِي حق غَيره.
الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز إِمَامَة الْمَفْضُول للفاضل.
الثَّالِث عشر: فِيهِ سُؤال الرئيس عَن سَبَب مُخَالفَة أمره قبل الزّجر عَن ذَلِك.
الرَّابِع عشر: فِيهِ إكرام الْكَبِير بمخاطبته بالكنية.
الْخَامِس عشر: فِيهِ أَن الْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا، لتأخر أبي بكر عَن مقَامه إِلَى الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ.
السَّادِس عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْأَصْلَح وَالْأَفْضَل.
السَّابِع عشر: فِيهِ تَقْدِيم غير الإِمَام إِذا تَأَخّر، وَلم يخف فتْنَة وَلَا إِنْكَار من الإِمَام.
الثَّامِن عشر: قيل فِيهِ تَفْضِيل الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت. قلت: إِنَّمَا صلوا فِي أول الْوَقْت ظنا مِنْهُم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْتِيهم فِي الْوَقْت وَالْجَمَاعَة كَانُوا حاضرين، وَفِي تأخيرهم كَانَ تشويش لَهُم من جِهَة أَن فيهم من كَانَ ذَا حَاجَة وَذَا ضعف وَنَحْو ذَلِك.
التَّاسِع عشر: فِيهِ أَن رفع الْيَد فِي الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا.
الْعشْرُونَ: فِيهِ أَن الْمُصَلِّي إِذا نابه شَيْء فليسبح، أَي فَلْيقل: سُبْحَانَ الله. وَعَن مَالك: الْمَرْأَة تسبح كَالرّجلِ لِأَن كلمة: من، فِي الحَدِيث تقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث. قَالَ: و: التصفيق(5/211)
مَنْسُوخ بقوله: (من نابه شَيْء فِي صلَاته فليسبح) ، وَأنْكرهُ بَعضهم، وَقَالَ: لِأَنَّهُ لَا يخْتَلف أَن أول الحَدِيث لَا ينْسَخ آخِره، وَمذهب الشَّافِعِي وَالْأَوْزَاعِيّ تَخْصِيص النِّسَاء بالتصفيق، وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : (إِذا نابكم شَيْء فِي صَلَاة فليسبح الرِّجَال وليصفق النِّسَاء.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ شكر الله على الوجاهة فِي الدّين. وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
49 - (بابٌ إذَا اسْتَوَوْا فِي القِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أكْبَرُهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا اسْتَووا ... إِلَى آخِره، يَعْنِي إِذا اسْتَوَى الْحَاضِرُونَ للصَّلَاة فِي الْقِرَاءَة فليؤمهم من كَانَ أكبر السن مِنْهُم.
685 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ مالِكِ بنِ الحُوَيْرِث قَالَ قدِمْنا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونَحْنُ شَبَبَة فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةٍ وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحِيما فَقَالَ لَوْ رَجَعْتُمْ إلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذا وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَإِن لم تذكر فِي الحَدِيث صَرِيحًا استواؤهم فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ اقْتِضَاء الْقِصَّة هَذَا الْقَيْد، لأَنهم أَسْلمُوا وَهَاجرُوا مَعًا، وصحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين لَيْلَة واستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ، فَلم يبْق مِمَّا يقدم بِهِ إلاّ السن. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التَّرْجَمَة منتزعة من حَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ مَرْفُوعا: يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى، فَإِن كَانَت قراءتهم سَوَاء فليؤمهم أقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء فليؤمهم أكبرهم سنا) . انْتهى. قلت: مَا أبعد هَذَا الْوَجْه لبَيَان التطابق بَين الحَدِيث والترجمة، فَكيف يضع تَرْجَمَة لحَدِيث أخرجه غَيره، وَالْمَطْلُوب من التطابق أَن يكون بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب؟
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، مضى ذكرهم غير مرّة، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة هُوَ عبد الله بن زيد الْجرْمِي، وَقد مضى حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث هَذَا فِي: بَاب من قَالَ ليؤذن فِي السّفر مُؤذن وَاحِد، أخرجه عَن مُعلى بن أَسد عَن وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر من قومِي) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع متعلقات الحَدِيث مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَنحن شببة) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، و: الشببة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة والباءين الموحدتين: جمع شَاب وَفِي رِوَايَة فِي الْأَدَب: (شببة متقاربون) ، أَي: فِي السن. قَوْله: (نَحوا من عشْرين) ، وَفِي رِوَايَة هُنَاكَ: (عشْرين لَيْلَة) ، بِتَعْيِين الْعشْرين جزما، وَالْمرَاد بأيامها، كَمَا وَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي خبر الْوَاحِد من طَرِيق عبد الْوَهَّاب: عَن أَيُّوب. قَوْله: (رحِيما) ، وَفِي رِوَايَة ابْن علية وَعبد الْوَهَّاب: (رحِيما رَقِيقا) . قَوْله: (لَو رجعتم) ، جَوَاب: لَو. قَوْله: (مُرُوهُمْ) ، وَقَوله: (فعلمتوهم) ، عطف على قَوْله: (رجعتم) ، وَيجوز أَن يكون جَوَاب: لَو، محذوفا تَقْدِيره: لَو رجعتم لَكَانَ خيرا لكا إِن 4 اقال، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك لِأَنَّهُ على مِنْهُم أَنهم اشتأقوا إِلَى أَهْليهمْ وأؤلادهم، وَالدَّلِيل على هَذَا رِوَايَة عبد الْوَهَّاب: (فَظن أَنا اشتقنا إِلَى أَهْلينَا) الحَدِيث. فَقَالَ ذَلِك على طَرِيق الإيناس، لِأَن فِي الْأَمر بِالرُّجُوعِ بِغَيْر هَذَا الْوَجْه تنفيرا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتحاشى عَن ذَلِك، ثمَّ على تَقْدِير أَن يكون جَوَاب: لَو، محذوفا يكون قَوْله: (مُرُوهُمْ) استئنافا، كَأَن سَائِلًا سَأَلَ: مَاذَا نعلمهُمْ؟ فَقَالَ: مُرُوهُمْ بالطاعات كَذَا وَكَذَا، وَالْأَمر بهَا مُسْتَلْزم للتعليم. قَوْله: (وليؤمكم أكبركم) ، يَعْنِي: بِالسِّنِّ عِنْد التَّسَاوِي فِي شُرُوط الْإِمَامَة، وإلاّ فالأسن إِذا وجد وَكَانَ مِنْهُم من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ وَلكنه أَقرَأ قدم الأقرأ، كَمَا فِي حَدِيث عَمْرو بن سَلمَة، وَكَانَ قد أم قومه فِي مَسْجِد عشيرته وَهُوَ صَغِير وَفِيهِمْ الشُّيُوخ والكهول، وَلَكِن قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ تَقْدِيم الأقرأ فِي ذَلِك الزَّمَان لِأَن كَانَ فِي أول الْإِسْلَام حِين كَانَ الْحفاظ قَلِيلا، وَتَقْدِيم عَمْرو كَانَ لذَلِك، أَو نقُول: لَا يكَاد يُوجد قارىء، إِذْ ذَاك إلاّ وَهُوَ فَقِيه، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ.(5/212)
50 - (بابٌ إِذا زَارَ الإمامُ قَوْما فَأمَّهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا زار الإِمَام أَي: الإِمَام الْأَعْظَم، أَو من يجْرِي مجْرَاه، إِذا زار قوما فَأمهمْ فِي الصَّلَاة، وَلم يبين حكمه فِي التَّرْجَمَة: هَل للْإِمَام ذَلِك أم يحْتَاج إِلَى إِذن الْقَوْم؟ فَاكْتفى بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب فَإِنَّهُ يشْعر بالاستئذان كَمَا سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
686 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ أسَدٍ قَالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله قَالَ أخْبرنا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي محْمُودُ بنُ الرَّبِيعَ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ الأنْصَارِيَّ قَالَ اسْتَأْذَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فأشَرْتُ لَهُ إلَى المَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فقامَ وَصَفَفْنا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلمْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالَ: أَيْن تحب أَن أُصَلِّي) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن أَمريْن: أَحدهمَا: قصدا، وَهُوَ تعْيين الْمَكَان من صَاحب الْمنزل. وَالْآخر: ضمنا، وَهُوَ الاسْتِئْذَان بِالْإِمَامَةِ فَإِن قلت: الإِمَام الْأَعْظَم سُلْطَان على الْمَالِك فَلَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان؟ قلت: فِي الاسْتِئْذَان رِعَايَة الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث أبي مَسْعُود: (لَا يؤم الرجل الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا يجلس على تكرمته إلاّ بِإِذْنِهِ) ، فَإِن مَالك الشَّيْء سُلْطَان عَلَيْهِ، وَقد نقل بَعضهم هُنَا وَجْهَيْن فِي ذكر التَّرْجَمَة، وَفِيهِمَا عسف وَبعد، وَالْوَجْه مَا ذكرته.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: معَاذ بن أَسد أَبُو عبد الله الْمروزِي نزيل الْبَصْرَة، وَلَيْسَ هُوَ أَخا لمعلى بن أَسد أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أَيْضا، وَكَانَ معَاذ الْمَذْكُور كَاتبا لعبد الله بن الْمُبَارك وَهُوَ شَيْخه فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَحكى عَنهُ البُخَارِيّ أَنه قَالَ فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. أَنا ابْن إِحْدَى وَسبعين سنة، كَأَنَّهُ ولد سنة خمسين وَمِائَة. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: معمر بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: مَحْمُود بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء: أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ أَبُو نعيم، عقل مجة مجها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجهه من دلو فِي دَارهم، ذكره الذَّهَبِيّ فِي كتاب (تَجْرِيد الصَّحَابَة) مِنْهُم، وَقد تقدم فِي بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت. السَّادِس: عتْبَان بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ والصحابي عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزيين والبصري وَالْمَدَنِي.
وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه، وَمن أخرجه غَيره فِي: بَاب إِذا دخل بَيْتا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَبَقِيَّة مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت.
قَوْله: (وصففنا خَلفه) ، بِفَتْح الْفَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة: جمع الْمُتَكَلّم، ويروى: (وَصفنَا) ، بتَشْديد الْفَاء أَي: صففنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَلفه.
51 - (بابٌ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم أَي: ليقتدي بِهِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة قِطْعَة من حَدِيث مَالك من أَحَادِيث الْبَاب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وصَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرَضِه الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهْوَ جَالِس
هَذَا التَّعْلِيق تقدم مُسْندًا من حَدِيث عَائِشَة فَإِن قلت: هَذَا لَا دخل لَهُ فِي التَّرْجَمَة، فَمَا فَائِدَة ذكره؟ قلت: إِنَّه يُشِير بِهِ إِلَى أَن التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قِطْعَة من الحَدِيث عَام يَقْتَضِي مُتَابعَة الْمَأْمُوم الإِمَام مُطلقًا، وَقد لحقه دَلِيل الْخُصُوص، وَهُوَ حَدِيث(5/213)
عَائِشَة: (فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ وَهُوَ جَالس وَالنَّاس خَلفه قيام، وَلم يَأْمُرهُم بِالْجُلُوسِ) ، فَدلَّ على دُخُول التَّخْصِيص فِي عُمُوم قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) .
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ إذَا رَفَعَ قَبْلَ الإمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإمَام
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من لفظ التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن هشيم أخبرنَا حُصَيْن عَن هِلَال بن يسَار عَن أبي حَيَّان الْأَشْجَعِيّ، وَكَانَ من أَصْحَاب عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَا تبَادرُوا أئمتكم بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود، وَإِذا رفع أحدكُم رَأسه وَالْإِمَام ساجد فليسجد ثمَّ ليمكث قدر مَا سبقه بِهِ الإِمَام) . وروى عبد الرَّزَّاق عَن عمر نَحْو قَول ابْن مَسْعُود بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه: (إيما رجل رفع رَأسه قبل الإِمَام فِي رُكُوع أَو سُجُود فليضع رَأسه بِقدر رَفعه إِيَّاه) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن لَهِيعَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روينَاهُ عَن إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ أَنه يعود فَيسْجد، وَحكى ابْن سَحْنُون عَن أَبِيه نَحوه، وَمذهب مَالك أَن من خفض أَو رفع قبل إِمَامه أَنه يرجع فيفعل مَا دَامَ إِمَامه لم يرفع من ذَلِك، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ نَحوه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْنه: من ركع أَو سجد قبل إِمَامه لَا صَلَاة لَهُ، وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: إِذا ركع أَو سجد قبله فَإِن إدركه الإِمَام فيهمَا أَسَاءَ، ويجزيه حَكَاهُ ابْن بطال، وَلَو أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فَكبر مقتديا بِهِ ووقف حَتَّى رفع الإِمَام رَأسه فَرَكَعَ، لَا يجْزِيه عندنَا، خلافًا لزفَر.
وقالَ الحَسنُ فيمَنْ يَرْكَعُ معَ الإمَامِ ركْعَتَيْنِ ولاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا وفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةٍ حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَالَّذِي قَالَه مَسْأَلَتَانِ: الأولى: قَوْله: (فِيمَن يرْكَع) إِلَى قَوْله: (بسجودها) ، وَوَصلهَا سعيد ب) مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس عَن الْحسن، وَلَفظه: (فِي الرجل يرْكَع يَوْم الْجُمُعَة فيزحمه النَّاس فَلَا يقدر على السُّجُود، قَالَ: إِذا فرغوا من صلَاتهم سجد سَجْدَتَيْنِ لركعته الأولى، ثمَّ يقوم فَيصَلي رَكْعَة وسجدتين) . قَوْله: (وَلَا يقدر على السُّجُود) أَي: لزحام وَنَحْوه على السُّجُود بَين الرَّكْعَتَيْنِ، وَقد فسره فِيمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور بقوله: (فِي الرجل يرْكَع يَوْم الْجُمُعَة فيزاحمه النَّاس فَلَا يقدر على السُّجُود) ، وَإِنَّمَا ذكر يَوْم الْجُمُعَة فِي هَذَا، وَإِن كَانَ الحكم عَاما، لِأَن الْغَالِب فِي يَوْم الْجُمُعَة ازدحام النَّاس. قَوْله: (الْآخِرَة) ، ويروى: (الْأَخِيرَة) ، وَإِنَّمَا قَالَ: الرَّكْعَة الأولى دون الثَّانِيَة لاتصال الرُّكُوع الثَّانِي بِهِ. الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قَوْله: (وفيمن نسي سَجْدَة) أَي: قَالَ الْحسن فِيمَن نسي سَجْدَة من أول صلَاته. قَوْله: (يسْجد) يَعْنِي: يطْرَح الْقيام الَّذِي فعله على غير نظم الصَّلَاة وَيجْعَل وجوده كَالْعدمِ، وَوَصلهَا ابْن أبي شيبَة بأتم مِنْهُ، وَلَفظه: (فِي رجل نسي سَجْدَة من أول صلَاته فَلم يذكرهَا حَتَّى كَانَ آخر رَكْعَة من صلَاته، قَالَ: يسْجد ثَلَاث سَجدَات، فَإِن ذكرهَا قبل السَّلَام يسْجد سَجْدَة وَاحِدَة، وَإِن ذكرهَا بعد انْقِضَاء الصَّلَاة يسْتَأْنف الصَّلَاة) فَإِن قلت: مَا مُطَابقَة الْمَرْوِيّ عَن الْحسن للتَّرْجَمَة؟ قلت: مطابقته لَهَا من حَيْثُ إِن فِيهِ مُتَابعَة الإِمَام بِوُجُود بعض الْمُخَالفَة فِيهِ، وَقَالَ مَالك فِي مَسْأَلَة الزحام: لَا يسْجد على ظهر أحد، فَإِن خَالف يُعِيد، وَقَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يسْجد وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ.
78 - (حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس قَالَ حَدثنَا زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة قَالَ دخلت على عَائِشَة فَقلت أَلا تحدثيني عَن مرض رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت بلَى ثقل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ أصلى النَّاس قُلْنَا لَا هم ينتظرونك قَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب قَالَت فَفَعَلْنَا فاغتسل فَذهب لينوء فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصلى النَّاس قُلْنَا لَا هم ينتظرونك يَا رَسُول الله قَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب قَالَت فَقعدَ فاغتسل ثمَّ ذهب لينوء(5/214)
فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ أصلى النَّاس فَقُلْنَا لَا وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله فَقَالَ ضَعُوا لي مَاء فِي المخضب فَقعدَ فاغتسل ثمَّ ذهب لينوء فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَقَالَ أصلى النَّاس فَقُلْنَا لَا هم ينتظرونك يَا رَسُول الله وَالنَّاس عكوف فِي الْمَسْجِد ينتظرون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة فَأرْسل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أبي بكر بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُول فَقَالَ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرك أَن تصلي بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بكر وَكَانَ رجلا رَقِيقا يَا عمر صل بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ عمر أَنْت أَحَق بذلك فصلى أَبُو بكر تِلْكَ الْأَيَّام ثمَّ إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجد من نَفسه خفَّة فَخرج بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا الْعَبَّاس لصَلَاة الظّهْر وَأَبُو بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر ذهب ليتأخر فَأَوْمأ إِلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن لَا يتَأَخَّر قَالَ أجلساني إِلَى جنبه فأجلساه إِلَى جنب أبي بكر قَالَ فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّاس بِصَلَاة أبي بكر وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاعد قَالَ عبيد الله فَدخلت على عبد الله بن عَبَّاس فَقلت لَهُ أَلا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثتنِي عَائِشَة عَن مرض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ هَات فعرضت عَلَيْهِ حَدِيثهَا فَمَا أنكر مِنْهُ شَيْئا غير أَنه قَالَ أسمعت لَك الرجل الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاس قلت لَا قَالَ هُوَ عَليّ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَكَون الإِمَام جعل ليؤتم بِهِ ظَاهر هَهُنَا. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي. الثَّانِي زَائِدَة بن قدامَة الْبكْرِيّ الْكُوفِي. الثَّالِث مُوسَى بن أبي عَائِشَة الْهَمدَانِي أَبُو بكر الْكُوفِي. الرَّابِع عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْهُذلِيّ أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين. الْخَامِس أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن الثَّلَاثَة الأول من الروَاة كوفيون وَفِيه شيخ البُخَارِيّ مَذْكُور باسم جده. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أخرجه هَذَا الحَدِيث مقطعا وَمُطَولًا ومختصرا فِي مَوَاضِع عديدة قد ذكرنَا أَكْثَرهَا وَأخرجه هُنَا عَن أَحْمد بن يُونُس وَوَافَقَهُ فِي ذَلِك مُسلم وَأخرجه عَن زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن ابْن عَبَّاس الْعَنْبَري عَن ابْن مهْدي عَن زَائِدَة بِهِ وَفِي الْوَفَاة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَائِدَة (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَلا " للعرض والاستفتاح قَوْله " بلَى " بِمَعْنى نعم أحَدثك قَوْله " لما ثقل " بِضَم الْقَاف يَعْنِي لما اشْتَدَّ مَرضه وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب وَفِي حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة وَغَيرهمَا وَنَذْكُر هَهُنَا بعض شَيْء مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ لسرعة الْوُقُوف عَلَيْهِ قَوْله " أصلى النَّاس " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام والاستخبار قَوْله " فَقُلْنَا لَا " ويروى " قُلْنَا " بِدُونِ الْفَاء قَوْله " وهم ينتظرونك " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " ضَعُوا لي مَاء " بِاللَّامِ وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي " ضعوني " بالنُّون والكرماني ذهل عَن رِوَايَة الْجُمْهُور الَّتِي هِيَ بِاللَّامِ وَسَأَلَ على رِوَايَة النُّون فَقَالَ الْقيَاس بِاللَّامِ لَا بالنُّون لِأَن المَاء مفعول وَهُوَ لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعولين ثمَّ أجَاب بِأَن الْوَضع ضمن معنى الإيتاء أَو لفظ المَاء تَمْيِيز عَن المخضب مقدم عَلَيْهِ أَن جَوَّزنَا التَّقْدِيم أَو هُوَ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض (قلت) كل هَذَا تعسف إِلَّا معنى التَّضْمِين فَلهُ وَجه قَوْله " فِي المخضب " بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة وَهُوَ المركن أَي الاجانة قَوْله " فَفَعَلْنَا فاغتسل " ويروى " فَفَعَلْنَا فَقعدَ فاغتسل " قَوْله " فَذهب " بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " ثمَّ ذهب " قَوْله " لينوء " بِضَم النُّون بعْدهَا همزَة أَي لينهض بِجهْد وَقَالَ الْكرْمَانِي وينوء كيقوم(5/215)
لفظا وَمعنى قَوْله " فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ " فِيهِ أَن الْإِغْمَاء جَائِز على الْأَنْبِيَاء لِأَنَّهُ شَبيه بِالنَّوْمِ وَقَالَ النَّوَوِيّ لِأَنَّهُ مرض من الْأَمْرَاض بِخِلَاف الْجُنُون فَإِنَّهُ لم يجز عَلَيْهِم لِأَنَّهُ نقص (قلت) الْعقل فِي الْإِغْمَاء يكون مَغْلُوبًا وَفِي الْمَجْنُون يكون مسلوبا قَوْله " قُلْنَا لَا " يَعْنِي لم يصلوا قَوْله " هم ينتظرونك " جملَة اسمية وَقعت حَالا بِلَا وَاو وَهُوَ جَائِز وَقد وَقع فِي الْقُرْآن نَحْو قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} وَكَذَلِكَ هم ينتظرونك الثَّانِي قَوْله " لصَلَاة الْعشَاء " كَذَا بِاللَّامِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني " الصَّلَاة الْعشَاء الْآخِرَة " قَوْله " عكوف " بِضَم الْعين جمع العاكف أَي مجتمعون وأصل العكف اللّّبْث وَمِنْه الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ لبث فِي الْمَسْجِد قَوْله " تِلْكَ الْأَيَّام " أَي الَّتِي كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مَرِيضا غير قَادر على الْخُرُوج قَوْله " لصَلَاة الظّهْر " هُوَ صَرِيح فِي أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة كَانَت صَلَاة الظّهْر وَزعم بَعضهم أَنَّهَا الصُّبْح قَوْله " أجلساني " من الإجلاس قَوْله " وَهُوَ يأتم بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي وَرِوَايَة الْأَكْثَرين " فَجعل أَبُو بكر يُصَلِّي وَهُوَ قَائِم " من الْقيام قَوْله " بِصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ويروى " بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَقد قَالَ الشَّافِعِي بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل بِالنَّاسِ فِي مرض مَوته فِي الْمَسْجِد إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَهِي هَذِه الَّتِي صلى فِيهَا قَاعِدا وَكَانَ أَبُو بكر فِيهَا إِمَامًا ثمَّ صَار مَأْمُوما يسمع النَّاس التَّكْبِير قَوْله " أَلا أعرض " الْهمزَة للاستفهام وَلَا للنَّفْي وَلَيْسَ حرف التَّنْبِيه وَلَا حرف التحضيض بل هُوَ اسْتِفْهَام للعرض (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَقد ذكرنَا أَكثر فَوَائِد هَذَا الحَدِيث فِي بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة وَنَذْكُر أَيْضا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ فِيهِ دَلِيل على أَن اسْتِخْلَاف الإِمَام الرَّاتِب إِذا اشْتَكَى أولى من صلَاته بالقوم قَاعِدا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتخْلف أَبَا بكر وَلم يصل بهم قَاعِدا غير مرّة وَاحِدَة وَفِيه صِحَة إِمَامَة الْمَعْذُور لمثله وَفِيه دَلِيل على صِحَة إِمَامَة الْقَاعِد للقائم أَيْضا خلافًا لما رُوِيَ عَن مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ ولمحمد بن الْحسن وَقَالا فِي ذَلِك أَن الَّذِي نقل عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ خَاصّا بِهِ وَاحْتج مُحَمَّد أَيْضا بِحَدِيث جَابر عَن الشّعبِيّ مَرْفُوعا " لَا يُؤمن أحد بعدِي جَالِسا " أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لم يروه عَن الشّعبِيّ غير جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَتْرُوك والْحَدِيث مُرْسل لَا تقوم بِهِ حجَّة وَقَالَ بن بزيزة لَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد مِنْهُ الصَّلَاة بالجالس (قلت) يَعْنِي يَجْعَل جَالِسا مَفْعُولا لَا حَال وَهَذَا خلاف ظَاهر التَّرْكِيب فِي زعم المحتج بِهِ وَزعم عِيَاض نَاقِلا عَن بعض الْمَالِكِيَّة أَن الحَدِيث الْمَذْكُور يدل على نسخ الْأَمر الْمُتَقَدّم لَهُم بِالْجُلُوسِ لما صلوا خَلفه قيَاما ورد بِأَن ذَلِك على تَقْدِير صِحَّته يحْتَاج إِلَى تَارِيخ ثمَّ اعْلَم أَن جَوَاز صَلَاة الْقَائِم خلف الْقَاعِد هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور (فَإِن قلت) روى البُخَارِيّ وَمُسلم وَالْأَرْبَعَة عَن أنس قَالَ " سقط رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن فرس " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا " وروى البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم عَن عَائِشَة قَالَت " اشْتَكَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدخل عَلَيْهِ نَاس من أَصْحَابه " الحَدِيث وَفِيه " إِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا " (قلت) هَؤُلَاءِ يجْعَلُونَ هذَيْن الْحَدِيثين منسوخين بِحَدِيث عَائِشَة الْمُتَقَدّم أَنه صلى آخر صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس خَلفه قيام وَأَيْضًا أَن تِلْكَ الصَّلَاة كَانَت تَطَوّعا والتطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض وَقد صرح بذلك فِي بعض طرقه كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ " ركب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرسا لَهُ فِي الْمَدِينَة فصرعه على جذع نَخْلَة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه فِي مشربَة لعَائِشَة يسبح جَالِسا قَالَ فقمنا خَلفه فَسكت عَنَّا ثمَّ أتيناه مرّة أُخْرَى نعوده فصلى الْمَكْتُوبَة جَالِسا فقمنا خَلفه فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا قَالَ فَلَمَّا قضى الصَّلَاة قَالَ إِذا صلى الإِمَام جَالِسا فصلوا جُلُوسًا فَإِذا صلى قَائِما فصلوا قيَاما وَلَا تَفعلُوا كَمَا يفعل أهل الْفَارِس بعظمائها " وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه كَذَلِك ثمَّ قَالَ وَفِي هَذَا الْخَبَر دَلِيل على أَن مَا فِي حَدِيث حميد عَن أنس أَنه صلى بهم قَاعِدا وهم قيام أَنه إِنَّمَا كَانَت الصَّلَاة سبْحَة فَلَمَّا حضرت الْفَرِيضَة أَمرهم بِالْجُلُوسِ فجلسوا فَكَانَ أَمر فَرِيضَة لَا فَضِيلَة (قلت) وَمِمَّا يدل على أَن التطوعات يحْتَمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْفَرَائِض مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أنس قَالَ " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إياك والالتفات فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ هلكة فَإِن كَانَ لَا بُد فَفِي التَّطَوُّع لَا فِي الْفَرِيضَة " وَقَالَ حَدِيث حسن -(5/216)
688 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَام بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أمّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ صلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسا وصَلَّى وَرَاءهُ قَوْمٌ قِياما فَأشَارَ إلَيْهِمْ أنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذَا رفَعَ فارْفَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ وإذَا صَلَّى جَالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة هِيَ بِعَينهَا. قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة، وَفِي السَّهْو عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي بَيته) أَي: فِي الْمشْربَة الَّتِي فِي حجرَة عَائِشَة، كَمَا بَينه أَبُو سُفْيَان عَن جَابر، وَهَذَا يدل على أَن تِلْكَ الصَّلَاة لم تكن فِي الْمَسْجِد، وَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجز عَن الصَّلَاة بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ يُصَلِّي فِي بَيته بِمن حضر، لكنه لم ينْقل أَنه اسْتخْلف، وَمن ثمَّة قَالَ عِيَاض: إِنَّه الظَّاهِر أَنه صلى فِي حجرَة عَائِشَة وَأتم بِهِ من حضر عِنْده، وَمن كَانَ فِي الْمَسْجِد. وَهَذَا الَّذِي قَالَه يحْتَمل، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون اسْتخْلف، وَإِن لم ينْقل. لَكِن يلْزم على الأول أَن تكون صَلَاة الإِمَام أَعلَى من صَلَاة الْمَأْمُومين، وَمذهب عِيَاض خِلَافه. قلت: لَهُ أَن يَقُول: إِنَّمَا يمْنَع كَون الإِمَام أَعلَى من الْمَأْمُوم، إِذا لم يكن مَعَه أحد، وَكَانَ مَعَه هُنَا بعض الصَّحَابَة. قَوْله: (وَهُوَ شَاك) ، بتَخْفِيف الْكَاف وَأَصله: شاكي. نَحْو: قاضٍ، وَأَصله قَاضِي، استثقلت الضمة على الْيَاء فحذفت فَصَارَت: شَاك، وَهُوَ: من الشكاية وَهِي: الْمَرَض، وَالْمعْنَى هُنَا: شَاك عَن مزاجه لانحرافه عَن الصِّحَّة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الشكو والشكوى والشكاة والشكاية: الْمَرَض. قَوْله: (فصلى جَالِسا) أَي: حَال كَونه جَالِسا. وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَن يكون أَصَابَهُ من السقطة رض فِي الْأَعْضَاء مَنعه من الْقيام، ورد هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَت قدمه منفكة، كَمَا فِي رِوَايَة بشر بن الْمفضل: عَن حميد عَن أنس عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا لأبي دَاوُد وَابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ: (ركب رَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرسا بِالْمَدِينَةِ فصرعه على جذع نَخْلَة فانفكت قدمه، فأتيناه نعوده فوجدناه فِي مشربَة لعَائِشَة. .) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَفِي رِوَايَة يزِيد بن حميد: (جحش سَاقه أَو كتفه) ، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أنس: (جحش شقَّه الْأَيْمن) ، وَالْحَاصِل هُنَا أَن عَائِشَة أبهمت الشكوى، وَبَين جَابر وَأنس السَّبَب وَهُوَ: السُّقُوط عَن الْفرس، وَعين جَابر الْعلَّة فِي الصَّلَاة قَاعِدا وَهِي انفكاك الْقدَم فَإِن قلت: وَقعت الْمُخَالفَة بَين هَذِه الرِّوَايَات فَمَا التَّوْفِيق بَينهَا؟ قلت: يحْتَمل وُقُوع هَذَا كُله قَوْله: (فَأَشَارَ عَلَيْهِم) ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ بِلَفْظ: عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فَأَشَارَ إِلَيْهِم) ، وروى أَيُّوب عَن هِشَام بِلَفْظ: (فَأَوْمأ إِلَيْهِم) ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن هِشَام بِلَفْظ: (فأخلف بِيَدِهِ يومي بهَا إِلَيْهِم) . قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة. قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) أَي: ليقتدى بِهِ وَيتبع، وَمن شَأْن التَّابِع أَن لَا يسْبق متبوعه وَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ فِي موقفه ويراقب أَحْوَاله. قَوْله: (فَإِذا ركع) أَي: الإِمَام (فاركعوا) ، الْفَاء فِيهِ وَفِي قَوْله: (فاسجدوا) ، للتعقيب، وَيدل على أَن الْمُقْتَدِي لَا يسْبق الإِمَام بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود حَتَّى إِذا سبق الإِمَام فيهمَا وَلم يلْحق الإِمَام فَسدتْ صلَاته، وَالدَّلِيل على أَن الْفَاء للتعقيب مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا تبَادرُوا الإِمَام إِذا كبر فكبروا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، من رِوَايَة مُصعب بن مُحَمَّد عَن أبي صَالح: (لَا تركعوا حَتَّى يرْكَع وَلَا تسجدوا حَتَّى يسْجد) . قَوْله: (وَإِذا رفع) أَي: الإِمَام راسه (فارفعوا) رؤسكم. فَإِن قلت: الْفَاء الَّتِي للتعقيب هِيَ الْفَاء العاطفة، وَالْفَاء الَّتِي هُنَا للربط فَقَط لِأَنَّهَا وَقعت جَوَابا للشّرط، فعلى هَذَا لَا تَقْتَضِي تَأَخّر أَفعَال الْمَأْمُوم عَن الإِمَام؟ قلت: وَظِيفَة الشَّرْط التَّقَدُّم على الْجَزَاء، مَعَ أَن رِوَايَة أبي دَاوُد تصرح بِانْتِفَاء التَّقَدُّم والمقارنة، وَلَا اعْتِبَار لقَوْل من يَقُول: إِن الْجَزَاء يكون مَعَ الشَّرْط. قَوْله: (فَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده) . قَوْله: سمع الله، مجَاز عَن الْإِجَابَة، والإجابة مجَاز عَن الْقبُول، فَصَارَ هَذَا مجَاز الْمجَاز، وَالْهَاء فِي: حَمده، هَاء السكتة والاستراحة لَا للكناية. قَوْله: (رَبنَا وَلَك الْحَمد) ، جَمِيع الرِّوَايَات فِي حَدِيث عَائِشَة(5/217)
بِإِثْبَات الْوَاو، وَكَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأنس إلاّ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ فِي بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، والكشميهني بِحَذْف الْوَاو، وَمِنْهُم من رجح إِثْبَات الْوَاو لِأَن فِيهَا معنى زَائِدا لكَونهَا عاطفة على مَحْذُوف تَقْدِيره: يَا رَبنَا استجب، أَو: يَا رَبنَا أطعناك وَلَك الْحَمد، فيشتمل على الدُّعَاء وَالثنَاء مَعًا. وَمِنْهُم من رجح حذفهَا لِأَن الأَصْل عدم التَّقْدِير فَتَصِير عاطفة على كَلَام غير تَامّ. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَالْأول أوجه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: ثبتَتْ الراوية بِإِثْبَات الْوَاو وحذفها، والوجهان جائزان بِغَيْر تَرْجِيح. قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا) أَي: حَال كَونه جَالِسا. قَوْله: (فصلوا جُلُوسًا) أَي: جالسين، وَهُوَ أَيْضا حَال. قَوْله: (أَجْمَعُونَ) ، تَأْكِيد للضمير الَّذِي فِي: صلوا، كَذَا وَقع بِالْوَاو فِي جَمِيع الطّرق فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاّ أَن الروَاة اخْتلفُوا فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة فَقَالَ بَعضهم: أَجْمَعِينَ، بِالْيَاءِ فوجهه أَن يكون مَنْصُوبًا على الْحَال، أَي: جُلُوسًا مُجْتَمعين، أَو يكون تَأْكِيدًا لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: يكون نصبا على التَّأْكِيد لضمير مُقَدّر مَنْصُوب، كَأَنَّهُ قَالَ: أعنيكم أَجْمَعِينَ. قلت: هَذَا تعسف جدا، لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يصحح هَذَا التَّقْدِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ جَوَاز صَلَاة القائمين وَرَاء الْجَالِس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب. الثَّانِي: فِيهِ وجوب مُتَابعَة الْمَأْمُوم الإِمَام حَتَّى فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَقَالَ الشَّافِعِي: يتبع فِي الْمُوَافقَة لَا فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مُتَابعَة الإِمَام وَاجِبَة فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة بِخِلَاف النِّيَّة؛ وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يسْتَدلّ من هَذَا الحَدِيث على عدم دُخُولهَا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحصْر فِي الِاقْتِدَاء بِهِ فِي أَفعاله لَا فِي جَمِيع أَحْوَاله، كَمَا لَو كَانَ مُحدثا أَو حَامِل نَجَاسَة، فَإِن الصَّلَاة خَلفه تصح لمن لم يعلم حَاله على الصَّحِيح. قلت: لَا دلَالَة فِيهِ على الْحصْر، بل يدل الحَدِيث على وجوب الْمُتَابَعَة مُطلقًا، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ مَعَ وجود الْمُتَابَعَة لَيْسَ شَيْء مِنْهَا شرطا فِي صِحَة الْقدْوَة إلاَّ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَاخْتلف فِي السَّلَام، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة اشْتِرَاطه مَعَ الْإِحْرَام وَالْقِيَام من التَّشَهُّد الأول. انْتهى. (قُلْنَا) : تَكْفِي الْمُقَارنَة، لِأَن معنى الائتمام: الِامْتِثَال، وَمن فعل مثل مَا فعل إِمَامه صَار ممتثلاً. الثَّالِث: اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بقوله: (وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد) على أَن وَظِيفَة الإِمَام: التسميع ووظيفة الْمَأْمُوم: التَّحْمِيد، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم، وَالْقِسْمَة تنَافِي الشّركَة، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة يَأْتِي الإِمَام بهما، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم وَأما الْمُؤْتَم فَلَا يَقُول إلاّ: رَبنَا وَلَك الْحَمد، لَيْسَ إلاّ عندنَا، وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجمع بَينهمَا.
689 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَن انس ابْن مَالك أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركِبَ فَرَسا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ قاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فإذَا صَلى قائِما فَصَلُّوا قِيَاما فإذَا رَكَعَ فارْكَعْوا وإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فقُولُوا رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ وإذَا صَلَّى قائِما فَصَلُّوا قِياما وإذَا صَلى جالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهُوَ أَنه مثل الحَدِيث الأول غير أَن ذَاك عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَهَذَا عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَاعْتبر الِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان. قَوْله: (عَن أنس) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي أنس قَوْله: (فصلى صَلَاة من الصَّلَوَات) ، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ: (فَحَضَرت الصَّلَاة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة حميد عَن أنس عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اللَّام للْعهد ظَاهرا، وَالْمرَاد الْفَرْض لِأَن الْمَعْهُود من عَادَتهم اجْتِمَاعهم للْفَرض بِخِلَاف النَّافِلَة، وَحكى عِيَاض عَن ابْن الْقَاسِم: أَن هَذِه الصَّلَاة كَانَت نفلا. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب: بِأَن فِي رِوَايَة جَابر عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَأبي دَاوُد الْجَزْم بِأَنَّهَا فرض، لكني لم أَقف على تَعْيِينهَا إلاّ فِي حَدِيث أنس: (فصلى بِنَا يَوْمئِذٍ) ، وَالظَّاهِر أَنَّهَا الظّهْر أَو الْعَصْر انْتهى. قلت: لَا ظَاهر هُنَا يدل على مَا دَعَاهُ وَلما لَا يجوز أَن تكون الَّتِي صلى بهم يَوْمئِذٍ نفلا. قَوْله: (فجحش) ، بجيم مَضْمُومَة ثمَّ حاء مُهْملَة مَكْسُورَة أَي: خدش،(5/218)
وَهُوَ أَن يتقشر جلد الْعُضْو. قَوْله: (فصلينا وَرَاءه قعُودا) أَي: حَال كوننا قَاعِدين. فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف حَدِيث عَائِشَة لِأَن فِيهِ: (فصلى جَالِسا وَصلى وَرَاءه قوم قيَاما) . قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِوُجُوه: الأول: أَن فِي رِوَايَة أنس اختصارا وَكَأَنَّهُ اقْتصر على مَا آل إِلَيْهِ الْحَال بعد أمره لَهُم بِالْجُلُوسِ. الثَّانِي: مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَهُوَ أَنه: يحْتَمل أَن يكون بَعضهم قعد من أول الْحَال، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أنس، وَبَعْضهمْ قَامَ حَتَّى أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْجُلُوسِ، وَهُوَ الَّذِي حكته عَائِشَة. الثَّالِث: مَا قَالَه قوم وَهُوَ احْتِمَال تعدد الْوَاقِعَة، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه بعد قلت: الْبعد فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين، وَالْوَجْه الثَّالِث هُوَ الْقَرِيب، وَيدل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنهم دخلُوا يعودونه مرَّتَيْنِ، فصلى بهما فيهمَا، وَبَين أَن الأولى كَانَت نَافِلَة وأقرهم على الْقيام وَهُوَ جَالس، وَالثَّانيَِة كَانَت فَرِيضَة وابتدأوا قيَاما فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالْجُلُوسِ. وَفِي رِوَايَة بشر عَن حميد عَن أنس نَحوه عِنْد الإسماعيل. قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا) قيل: إِن المُرَاد بِالْأَمر أَن يَقْتَدِي بِهِ فِي جُلُوسه فِي التَّشَهُّد وَبَين السَّجْدَتَيْنِ لِأَنَّهُ ذكر ذَلِك عقيب ذكر الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ، وَالسُّجُود فَيحمل على أَنه لما جلس بَين السَّجْدَتَيْنِ قَامُوا تَعْظِيمًا لَهُ فَأَمرهمْ بِالْجُلُوسِ تواضعا، وَقد نبه على ذَلِك بقوله فِي حَدِيث جَابر: (إِن كدتم آنِفا تَفْعَلُونَ فعل فَارس وَالروم، يقومُونَ على مُلُوكهمْ وهم قعُود فَلَا تَفعلُوا) . وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذَا بعيد لِأَن سِيَاق طرق الحَدِيث يأباه وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد بِالْجُلُوسِ فِي الرُّكْن لقَالَ: وَإِذا جلس فاجلسوا ليناسب قَوْله: (فَإِذا سجدوا) فَلَمَّا عدل عَن ذَلِك إِلَى قَوْله: (وَإِذا صلى جَالِسا) كَانَ كَقَوْلِه: (وَإِذا صلى قَائِما) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: غير مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، مَشْرُوعِيَّة ركُوب الْخَيل والتدرب على أخلاقها، واستحباب التأسي إِذا حصل مِنْهَا سُقُوط أَو عَثْرَة أَو غير ذَلِك بِمَا اتّفق للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْوَاقِعَة، وَبِه الأسوة الْحَسَنَة، وَمن ذَلِك أَنه يجوز على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجوز على الْبشر من الأسقام وَنَحْوهَا من غير نقص فِي مِقْدَاره بذلك، بل لِيَزْدَادَ قدره رفْعَة ومنصبه جلالة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ الحُمَيْدِيُّ قَوْلهُ إذَا صَلَّى جالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا هُوَ فِي مَرَضِهِ القَدِيمِ ثمَّ صلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسا والنَّاسُ خَلْفَهُ قِياما لَمْ يَأمُرْهُمْ بَالقُعودِ وإنَّمَا يُؤخَذُ بِالآخِرِ فالآخِرِ مِنْ فَعْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو عبد الله هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه، والْحميدِي هُوَ شيخ البُخَارِيّ وتلميذ الشَّافِعِي، واسْمه: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ابْن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، ويكنى أَبَا بكر، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَيفهم من هَذَا الْكَلَام أَن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَا قَالَه الْحميدِي، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور السّلف أَن الْقَادِر على الْقيام لَا يُصَلِّي وَرَاء الْقَاعِد إلاَّ قَائِما. وَقَالَ المرغيناني: الْفَرْض وَالنَّفْل سَوَاء. وَقَوله: إِنَّمَا يُؤْخَذ) إِلَى آخِره، إِشَارَة إِلَى أَن الَّذِي يجب بِهِ الْعَمَل هُوَ مَا اسْتَقر عَلَيْهِ آخر الْأَمر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما كَانَ آخر الْأَمريْنِ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته قَاعِدا وَالنَّاس وَرَاءه قيام، دلّ على أَن مَا كَانَ قبله من ذَلِك مَرْفُوع الحكم. فَإِن قلت: ابْن حبَان لم ير النّسخ، فَإِنَّهُ قَالَ، بعد أَن روى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور: وَفِي هَذَا الْخَبَر بَيَان وَاضح أَن الإِمَام إِذا صلى قَاعِدا كَانَ على الْمَأْمُومين أَن يصلوا قعُودا، وَأفْتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر بن عبد الله وَأَبُو هُرَيْرَة وَأسيد بن حضير وَقيس ابْن فَهد، وَلم يرو عَن غَيرهم من الصَّحَابَة خلاف هَذَا بِإِسْنَاد مُتَّصِل وَلَا مُنْقَطع، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقد أفتى بِهِ أَيْضا من التَّابِعين. وَأول من أبطل ذَلِك من الْأمة الْمُغيرَة بن مقسم، وَأخذ عَنهُ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان ثمَّ أَخذه عَنهُ أَبُو حنيفَة ثمَّ عَنهُ أَصْحَابه وَأَعْلَى حَدِيث احْتَجُّوا بِهِ حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) ، وَهَذَا لَو صَحَّ إِسْنَاده لَكَانَ مُرْسلا، والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان، لأَنا لَو قبلنَا إرْسَال تَابِعِيّ وَأَن كَانَ ثِقَة للزمنا قبُول مثله عَن اتِّبَاع التَّابِعين، وَإِذ قبلنَا لزمنا قبُوله من أَتبَاع التَّابِعين، وَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن نقبل من كل أحد إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا نقض الشَّرِيعَة، وَالْعجب أَن أَبَا حنيفَة يخرج عَن جَابر الْجعْفِيّ ويكذبه، ثمَّ لما اضطره الْأَمر جعل أحتج بحَديثه، وَذَلِكَ(5/219)
كَمَا أخبرنَا بِهِ الْحُسَيْن بن عبد الله بن يزِيد الْقطَّان بالرقة: حَدثنَا أَحْمد بن أبي الْحَوْرَاء سَمِعت أَبَا يحيى الجمان سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول: مَا رَأَيْت فِيمَن لقِيت أفضل من عَطاء، وَلَا لقِيت فِيمَن لقِيت أكذب من جَابر الْجعْفِيّ، مَا أثْبته بِشَيْء من رَأْيِي إلاّ جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيث. قلت: أما إِنْكَاره النّسخ فَلَيْسَ لَهُ وَجه على مَا بَيناهُ، وَأما قَوْله: أفتى بِهِ من الصَّحَابَة جَابر وَغَيره، فقد قَالَ الشَّافِعِي: إِنَّهُم لم يبلغهم النّسخ، وَعلم الْخَاصَّة يُوجد عِنْد بعض ويعزب عَن بعض. انْتهى. وَكَذَا من أفتى بِهِ من التَّابِعين لم يبلغهم خبر النّسخ، وَأفْتى بِظَاهِر الْخَبَر الْمَنْسُوخ، وَأما قَوْله: وَالْإِجْمَاع إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَغير مُسلم، فَإِن الْأَدِلَّة غير فارقة بَين أهل عصر بل تتَنَاوَل لأهل كل عصر كتناولها لأهل عصر الصَّحَابَة إِذْ لَو كَانَ خطابا للموجودين وَقت النُّزُول فَقَط يلْزم أَن لَا ينْعَقد إِجْمَاع الصَّحَابَة بعد موت من كَانَ مَوْجُودا وَقت النُّزُول، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يكون إِجْمَاعهم أجماع جَمِيع المخاطبين وَقت النُّزُول، وَيلْزم أَن لَا يعْتد بِخِلَاف من أسلم أَو ولد من الصَّحَابَة بعد النُّزُول لكَوْنهم خَارِجين عَن الْخطاب، وَقد اتفقتم مَعنا على إِجْمَاع هَؤُلَاءِ فَلَا يخْتَص بالمخاطبين، وَالْخطاب لَا يخْتَص بالموجودين كالخطاب بِسَائِر التكاليف، وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حبَان هُوَ من مَذْهَب دَاوُد وَأَتْبَاعه، وَأما قَوْله: والمرسل عندنَا وَمَا لم يرو سيان ... إِلَى آخِره، فَغير مُسلم أَيْضا لِأَن إرْسَال الْعدْل من الْأَئِمَّة تَعْدِيل لَهُ إِذْ لَو كَانَ غير عدل لوَجَبَ عَلَيْهِ التَّنْبِيه على جرحه والإخبار عَن حَاله، فالسكوت بعد الرِّوَايَة عَنهُ يكون تلبيسا أَو تحميلاً للنَّاس على الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِحجَّة، وَالْعدْل لَا يتهم بِمثل ذَلِك، فَيكون إرْسَاله توثيقا لَهُ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه كَانَ مَشْهُورا عِنْده فروى عَنهُ بِنَاء على ظَاهر حَاله، وفوض تَعْرِيف حَاله إِلَى السَّامع حَيْثُ ذكر اسْمه. وَقد اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا لقبُول الْمُرْسل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على قبُول رِوَايَات ابْن عَبَّاس مَعَ أَنه لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاّ أَربع أَحَادِيث لصِغَر سنه كَمَا ذكره الْغَزالِيّ، أَو بضع عشر حَدِيثا كَمَا ذكره شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ. وَقَالَ ابْن سِيرِين: مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة، وَقَالَ بَعضهم: رد الْمَرَاسِيل بِدعَة حَادِثَة بعد الْمِائَتَيْنِ، وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ من أهل الْكُوفَة، وَأَبُو الْعَالِيَة وَالْحسن من أهل الْبَصْرَة، وَمَكْحُول من أهل الشَّام كَانُوا يرسلون، وَلَا يظنّ بهم إلاّ الصدْق، فَدلَّ على كَون الْمُرْسل حجَّة نعم، وَقع الِاخْتِلَاف فِي مَرَاسِيل من دون الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث، فَعِنْدَ أبي الْحسن الْكُوفِي: يقبل إرْسَال كل عدل فِي كل عصر، فَإِن الْعلَّة الْمُوجبَة لقبُول الْمَرَاسِيل فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَهِي: الْعَدَالَة والضبط، تَشْمَل سَائِر الْقُرُون، فَبِهَذَا التَّقْدِير انْتقض قَوْله، وَفِي هَذَا نقض للشريعة. وَأما قَوْله: وَالْعجب من أبي حنيفَة ... إِلَى آخِره، كَلَام فِيهِ إساءة أدب وتشنيع بِدُونِ دَلِيل جلي: فَإِن أَبَا حنيفَة من أَيْن أحتج بِحَدِيث جَابر الْجعْفِيّ فِي كَونه نَاسِخا؟ وَمن نقل هَذَا من الثِّقَات عَن أبي حنيفَة حَتَّى يكون متناقضا فِي قَوْله وَفعله؟ بل احْتج أَبُو حنيفَة فِي نسخ هَذَا الْبَاب مثل مَا احْتج بِهِ غَيره كالثوري وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَجُمْهُور السّلف، كَمَا مر مُسْتَوفى.
52 - (بابُ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: مَتى يسْجد من خلف الإِمَام، يَعْنِي إِذا اعتدل أَو جلس بَين السَّجْدَتَيْنِ. قَوْله: (من) فَاعل قَوْله: (يسْجد) .
قَالَ أنَسٌ فإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين معنى مَتى يسْجد من خلف الإِمَام، وَهُوَ أَنه يسْجد إِذا سجد الإِمَام، بِنَاء على تقدم الشَّرْط على االجزاء، وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه مَوْصُولا فِي: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، فَإِن فِيهِ: وَإِذا سجد فاسجدوا. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ طرف من حَدِيثه الْمَاضِي فِي الْبَاب الَّذِي قبله قلت: لَيست هَذِه اللَّفْظَة فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَإِنَّمَا هِيَ فِي: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض النّسخ، قَالَ أنس: إِذا سجد فاسجدوا، يَعْنِي: من غير ذكره: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
690 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَن سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني أَبُو إسْحَاقَ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثني البَرَاءُ وَهْوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودا بَعْدَهُ(5/220)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ نقع سجودا بعده) ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون سُجُود من خلف الإِمَام إِذا شرع الإِمَام فِي السَّجْدَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله السبيعِي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى سبيع بطن من هَمدَان. الْخَامِس: عبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة الخطمي كَذَا وَقع مَنْسُوبا عِنْد الإسماععيلي فِي رِوَايَة شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى خطمي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الطَّاء: بطن من الْأَوْس. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن يزِيد بن زيد ابْن حُصَيْن بن عَمْرو الأوسي الخطمي أَبُو مُوسَى، شهد الْحُدَيْبِيَة وَمَات قبل ابْن الزبير. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: عبد الله بن يزِيد الصَّحَابِيّ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ. وَذكر الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) وَالِد عبد الله ووالد الْبَراء كليهمَا من الصَّحَابَة، فَقَالَ: يزِيد بن زيد بن حُصَيْن الْأنْصَارِيّ الخطمي، وَالِد عبد الله وجد عدي بن ثَابت لأمه. وَقَالَ أَيْضا: عَازِب بن الْحَارِث وَالِد الْبَراء، قَالَ البراءوفيه: اشْترى أَبُو بكر من عَازِب رجلا. وَفِيه: أَن أَبَا إِسْحَاق كَانَ مَعْرُوفا بالرواية عَن الْبَراء بن عَازِب لكنه روى الحَدِيث الْمَذْكُور هَهُنَا بِوَاسِطَة. وَهُوَ: عبد الله بن يزِيد. وَفِيه: أَن أحد الروَاة كَانَ أَمِيرا وَهُوَ: عبد الله بن يزِيد، وَكَانَ أَمِيرا على الْكُوفَة فِي زمن عبد الله بن الزبير، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي: بَاب رفع الْبَصَر فِي الصَّلَاة: أَن أَبَا إِسْحَاق قَالَ: سَمِعت عبد الله ابْن يزِيد يخْطب. وَفِيه: قَوْله: (غير كذوب) وَهُوَ على وزن: فعول، وَهُوَ صِيغَة مُبَالغَة: كصبور وشكور، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا قيل: فِي حق من؟ فَقَالَ يحيى بن معِين والْحميدِي وَابْن الْجَوْزِيّ: إِن الْإِشَارَة فِي قَول أبي إِسْحَاق: غير كذوب، إِلَى عبد الله بن يزِيد، لَا إِلَى الْبَراء، لِأَن الصَّحَابَة عدُول فَلَا يحْتَاج أحد مِنْهُم إِلَى تَزْكِيَة وتعديل. وَقَالَ الْخَطِيب: إِن كَانَ هَذَا القَوْل من أبي إِسْحَاق فَهُوَ فِي عبد الله بن يزِيد، وَإِن كَانَ من عبد الله فَهُوَ فِي الْبَراء. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا القَوْل لَا يُوجب تُهْمَة فِي الرَّاوِي؛ وَإِنَّمَا يُوجب حَقِيقَة الصدْق لَهُ لِأَن هَذِه عَادَتهم إِذا أَرَادوا تَأْكِيد الْعلم بالراوي وَالْعَمَل بِمَا روى، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: سَمِعت خليلي الصَّادِق المصدوق، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: حَدثنِي الصَّادِق المصدوق، وسلك عِيَاض أَيْضا هَذَا المسلك وَقَالَ: لم يرد بِهِ التَّعْدِيل وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَقْوِيَة الحَدِيث إِذْ حدث بِهِ الْبَراء، وَهُوَ غير مُتَّهم: وَمثل هَذَا قَول أبي مُسلم الْخَولَانِيّ: حَدثنِي الحبيب الْأمين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الْكَلَام: حَدثنِي الْبَراء وَهُوَ غير مُتَّهم، كَمَا علمْتُم فثقوا بِمَا أخْبركُم بِهِ عَنهُ.
قلت: قد ظهر من كَلَام الْخطابِيّ وعياض وَالنَّوَوِيّ أَن هَذَا القَوْل فِي الْبَراء، ويترجح هَذَا بِوَجْهَيْنِ: الأول: أَنه رُوِيَ عَن أبي إِسْحَاق فِي بعض طرقه: سَمِعت عبد الله بن يزِيد وَهُوَ يخْطب يَقُول: حَدثنَا الْبَراء، وَكَانَ غير كذوب. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه كَلَام عبد الله بن يزِيد. قلت: إِذا كَانَ هَذَا كَلَام عبد الله فَيكون ذَاك فِي الْبَراء، وأوضح من هَذَا وَأبين مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق محَارب بن دثار، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن يزِيد على الْمِنْبَر يَقُول: حَدثنِي الْبَراء وَكَانَ غير كذوب. الثَّانِي: أَن الضَّمِير أَعنِي قَوْله: وَهُوَ يرجع إِلَى أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ الْبَراء، فَإِن قلت: كَيفَ نزه يحيى بن معِين الْبَراء عَن التَّعْدِيل لأجل صحبته وَلم ينزه عبد الله بن يزِيد وَهُوَ أَيْضا صَحَابِيّ؟ قلت: يحيى بن معِين لَا تثبت صحبته فَلذَلِك تنْسب هَذِه اللَّفْظَة إِلَيْهِ، وَوَافَقَهُ على ذَلِك مُصعب الزبيرِي، وَتوقف فِي صحبته أَحْمد وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو دَاوُد، وأثبتها ابْن البرقي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَآخَرُونَ. فَإِن قلت: نفي الكذوبية لَا يسْتَلْزم نفي الكاذبية، مَعَ أَنه يجب نفي مُطلق الْكَذِب عَنْهُمَا قلت: مَعْنَاهُ غير ذِي كذب، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} (فصلت: 46) . أَي: وَمَا رَبك بِذِي ظلم. فَإِن قلت: مَا سَبَب رِوَايَة عبد الله ابْن يزِيد هَذَا الحَدِيث؟ قلت: روى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيقه أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ النَّاس يضعون رؤوسهم قبل أَن يضع رَأسه، ويرفعون قبل أَن يرفع رَأسه، فَذكر الحَدِيث فِي إِنْكَاره عَلَيْهِم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن حجاج عَن شُعْبَة وَعَن آدم عَن إِسْرَائِيل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أَحْمد بن يُونُس وَيحيى بن يحيى كِلَاهُمَا عَن زُهَيْر وَعَن أبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه(5/221)
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن عَليّ بن الْحُسَيْن الدرهمي عَن أُميَّة بن خَالِد، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع فَقَالَ: سمع الله لمن حَمده لم نزل قيَاما) . قَوْله: (لم يحن) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة، من: حنيت الْعود عطفته وحنوت لُغَة، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يحنو أحد، وَلَا يحني) ، رِوَايَتَانِ أَي: لَا يقوس ظَهره. قَوْله: (حَتَّى يَقع سَاجِدا) أَي: حَال كَونه سَاجِدا، وَفِي رِوَايَة الإسرائيلي عَن أبي إِسْحَاق: (حَتَّى يضع جَبهته على الأَرْض) ، وَنَحْوه وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (حَتَّى يسْجد ثمَّ يَسْجُدُونَ) . قَوْله: (ثمَّ نقع) بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر. قَوْله: (سجودا) حَال، وَهُوَ جمع: ساجد، ونقع، مَرْفُوع لَا غير، و: يَقع، الأول الَّذِي هُوَ مَنْصُوب فَاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ: الرّفْع وَالنّصب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: وجوب مُتَابعَة الإِمَام فِي أَفعاله، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن الْجَوْزِيّ على أَن الْمَأْمُوم لَا يشرع فِي الرُّكْن حَتَّى يتمه الإِمَام، وَفِيه نظر، لِأَن الإِمَام إِذا أتم الرُّكْن ثمَّ شرع الْمَأْمُوم فِيهِ لَا يكون مُتَابعًا للْإِمَام وَلَا يعْتد بِمَا فعله، وَمعنى الحَدِيث أَن الْمَأْمُوم يشرع بعد شُرُوع الإِمَام فِي الرُّكْن وَقبل فَرَاغه مِنْهُ حَتَّى تُوجد الْمُتَابَعَة، وَوَقع فِي حَدِيث عَمْرو بن سليم أخرجه مُسلم: (فَكَانَ لَا يحني أحد منا ظَهره حَتَّى يَسْتَقِيم سَاجِدا) . وروى أَبُو يعلى من حَدِيث أنس: (حَتَّى يتَمَكَّن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من السُّجُود) ، وَمعنى هَذَا كُله ظَاهر فِي أَن الْمَأْمُوم يشرع فِي الرُّكْن بعد شُرُوع الإِمَام فِيهِ، وَقبل فَرَاغه مِنْهُ. وَاسْتدلَّ بِهِ قوم على طول الطُّمَأْنِينَة، وَفِيه نظر، لِأَن الحَدِيث لَا يدل على هَذَا. وَفِيه: جَوَاز النّظر إِلَى الْأَمَام لأجل اتِّبَاعه فِي انتقالاته فِي الْأَركان.
حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ عنْ سُفْيَانَ عنْ أبي أسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا
أَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ السبيعِي الْمَذْكُور، وَهَذَا السَّنَد وَقع فِي البُخَارِيّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَلَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة البَاقِينَ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا السَّنَد مَذْكُور فِي نُسْخَة سَمَاعنَا، وَفِي بعض النّسخ عَلَيْهِ ضرب، وَلم يذكرهُ أَصْحَاب الْأَطْرَاف: أَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَخلف وَأَبُو مَسْعُود فَمن بعدهمْ، وَلم يذكرهُ أَيْضا أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) قلت: أخرجه أَبُو عوَانَة عَن الصَّاغَانِي وَغَيره عَن أبي نعيم، وَلَفظه: (كُنَّا إِذا صلينَا خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحن أحد منا ظَهره حَتَّى يضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَبهته) .
53 - (بابُ إثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من رفع رَأسه فِي الصَّلَاة قبل رفع الإِمَام رَأسه. قَالَ بَعضهم: أَي: من السُّجُود. قلت: وَمن الرُّكُوع أَيْضا، فَلَا وَجه لتخصيص السُّجُود لِأَن الحَدِيث أَيْضا يَشْمَل الْإِثْنَيْنِ بِحَسب الظَّاهِر كَمَا يَجِيء. فَإِن قلت: لهَذَا الْقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا قلت: أَي من السُّجُود، لِأَنَّهُ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عَمْرو عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما يخْشَى أَو ألاَ يخْشَى أحدكُم إِذا رفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد) الحَدِيث فَتبين أَن المُرَاد الرّفْع من السُّجُود. قلت: رِوَايَة البُخَارِيّ تتَنَاوَل الْمَنْع من تقدم الْمَأْمُوم على الإِمَام فِي الرّفْع من الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعًا، وَلَا يجوز أَن تخصص رِوَايَة البُخَارِيّ بِرِوَايَة أبي دَاوُد، لِأَن الحكم فيهمَا سَوَاء، وَلَو كَانَ الحكم مَقْصُورا على الرّفْع من السُّجُود لَكَانَ لدعوى التَّخْصِيص وَجه، وَمَعَ هَذَا فالقائل الْمَذْكُور ذكر الحَدِيث عَن الْبَراء من رِوَايَة مليح ابْن عبد الله السَّعْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الَّذِي يخْفض وَيرْفَع قبل الإِمَام إِنَّمَا ناصيته بيد الشَّيْطَان) . وَهَذَا ينْقض عَلَيْهِ مَا قَالَه، وَيَردهُ عَلَيْهِ. وأعجب من هَذَا أَنه رد على ابْن دَقِيق الْعِيد حَيْثُ قَالَ: إِن الحَدِيث نَص فِي الْمَنْع من تقدم الْمَأْمُوم على الإِمَام فِي الرّفْع من الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعًا، فَهَذَا دَقِيق الْكَلَام الَّذِي قَالَه ابْن الدَّقِيق، ومستنده فِي الرَّد عَلَيْهِ هُوَ قَوْله: وَإِنَّمَا هُوَ نَص فِي السُّجُود، ويلتحق بِهِ الرُّكُوع لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا كَلَام سَاقِط جدا، لِأَن الْكَلَام هَهُنَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهَا نَص فِي السُّجُود، بل هُوَ نَص عَام فِي السُّجُود وَالرُّكُوع. وَدَعوى(5/222)
التَّخْصِيص لَا تصح كَمَا ذكرنَا، نعم لَو ذكر النُّكْتَة فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي تَخْصِيص السَّجْدَة بِالذكر لَكَانَ لَهُ وَجه، وَهِي أَن رِوَايَة أبي دَاوُد من بَاب الِاكْتِفَاء، فَاكْتفى بِذكر حكم السَّجْدَة عَن ذكر حكم الرُّكُوع لكَون الْعلَّة وَاحِدَة وَهِي السَّبق على الإِمَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 81) . أَي: وَالْبرد أَيْضا، وَإِنَّمَا لم يعكس الْأَمر لِأَن السَّجْدَة أعظم من الرُّكُوع فِي إِظْهَار التَّوَاضُع والتذلل، وَالْعَبْد أقرب مَا يكون إِلَى الرب وَهُوَ ساجد.
691 - ح دَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أمَا يَخْشَى أحَدُكُمْ أوْ ألاَ يَخْشَى أحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ الله رَأسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أوْ يَجْعَلَ الله صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ان فِيهِ وعيدا شَدِيدا وتهديدا، ومرتكب الشَّيْء الَّذِي فِيهِ الْوَعيد آثم بِلَا نزاع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: حجاج بن منهال السّلمِيّ الْأنمَاطِي الْبَصْرِيّ أَبُو مُحَمَّد، وَقد مر ذكره فِي: بَاب مَا جَاءَ إِن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، فِي آخر كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: الجُمَحِي الْمدنِي سكن الْبَصْرَة. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة وَلَكِن بِهَذَا الْإِسْنَاد أخرجه مُسلم عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن حَفْص بن عَمْرو عَن شُعْبَة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد زِيَاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن حميد بن مسْعدَة وسُويد بن سعيد عَن حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) من حَدِيث مُوسَى بن عبد الله بن يزِيد عَن أَبِيه: (أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ هَهُنَا وَكَانَ النَّاس يضعون رؤوسهم قبل أَن يضع رَأسه ويرفعون رؤوسهم قبل أَن يرفع راسه، فَلَمَّا انْصَرف الْتفت إِلَيْهِم فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس لِمَ تأثمون وتؤثمون، صليت بكم صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أخرم عَنْهَا) . وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (مَا يَأْمَن الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يعود رَأسه رَأس كلب، ولينتهين أَقوام يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء، أَو لتخطفن أَبْصَارهم) . وروى أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ: (صلى رجل خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجعل يرْكَع قبل أَن يرْكَع، وَيرْفَع قبل أَن يرفع، فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلَاته قَالَ: من الْفَاعِل هَذَا؟ قَالَ: أَنا يَا رَسُول الله. قَالَ: اتَّقوا خداج الصَّلَاة، إِذا ركع الإِمَام فاركعوا وَإِذا رفع فارفعوا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أما يخْشَى أحدكُم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أوَ لاَ يخْشَى) . قلت: اخْتلفت أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث، فرواية مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه: (أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (ألاَ يخْشَى) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَأبي دَاوُد من رِوَايَة شُعْبَة: (أمَا يخْشَى أَو أَلا يخْشَى) بِالشَّكِّ، قَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من أبي هُرَيْرَة، وَكلمَة: أما، بتَخْفِيف الْمِيم: حرف استفتاح مثل أَلاَ. وَأَصلهَا: مَا، النافية دخلت عَلَيْهَا همزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ هَهُنَا اسْتِفْهَام توبيخ وإنكار. قَوْله: (إِذا رفع رَأسه قبل الإِمَام) ، زَاد ابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: (فِي صلَاته) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عمر: (الَّذِي يرفع رَأسه وَالْإِمَام ساجد) . قَوْله: (أَن يَجْعَل الله رَأسه رَأس حمَار؟) وَهَهُنَا أَيْضا اخْتلفت أَلْفَاظ الحَدِيث، فَفِي رِوَايَة يُونُس بن عبيد عِنْد مُسلم: (مَا يَأْمَن الَّذِي يرفع رَأسه فِي صلَاته أَن يحول الله صورته فِي صُورَة حمَار؟) . وَفِي رِوَايَة الرّبيع بن مُسلم عِنْد مُسلم: (أَن يَجْعَل الله وَجهه وَجه حمَار؟) وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان، من رِوَايَة مُحَمَّد بن ميسرَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: (أَن يحول الله رَأسه رَأس كلب) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة(5/223)
عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (مَا يُؤمن من يرفع رَأسه قبل الإِمَام ويضعه) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة مليح السَّعْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام وَيخْفِضهُ قبل الإِمَام فَإِنَّمَا ناصيته بيد شَيْطَان) . وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا، كَمَا ذكرنَا وَذكرنَا الْآن أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود: (أَن يعود رَأسه رَأس كلب؟) وَهُوَ مَوْقُوف، وَلكنه لَا يدْرك بِالرَّأْيِ، فَحكمه حكم الْمَرْفُوع. قَوْله: (أَو يَجْعَل صورته صُورَة حمَار؟) قَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: الشَّك فِيهِ من أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ بَعضهم: الشَّك من شُعْبَة ثمَّ أكد هَذَا بقوله، فقد رَوَاهُ الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة وَابْن خُزَيْمَة من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد وَمُسلم من رِوَايَة يُونُس بن عبيد وَالربيع بن مُسلم، كلهم عَن مُحَمَّد بن زِيَاد بِغَيْر تردد. قلت: لَا يلْزم من إخراجهم بِغَيْر تردد أَن لَا يخرج غَيرهم بِغَيْر تردد، وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يحْتَمل أَن يكون التَّرَدُّد من شُعْبَة أَو من مُحَمَّد بن زِيَاد أَو من أبي هُرَيْرَة، فَمن ادّعى تعْيين وَاحِد مِنْهُم فَعَلَيهِ الْبَيَان، وَأما اخْتلَافهمْ فِي الرَّأْس أَو الصُّورَة فَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة: رَأس، وَفِي رِوَايَة يُونُس: صُورَة وَفِي رِوَايَة الرّبيع، وَجه. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه من تصرف الروَاة. قلت: كَيفَ يكون من تصرفهم وَلكُل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ معنى فِي اللُّغَة يغاير معنى الآخر؟ أما الرَّأْس فَإِنَّهُ اسْم لعضو يشْتَمل على الناصية والقفاء والفودين. وَالصُّورَة: الْهَيْئَة، وَيُقَال: صورته حَسَنَة أَي: هَيئته وشكله، وَيُطلق على الصّفة أَيْضا يُقَال: صُورَة الْأَمر كَذَا وَكَذَا أَي: صفته، وَيُطلق على الْوَجْه أَيْضا يُقَال: صورته حَسَنَة أَي: وَجهه، وَيُطلق على شكل الشَّيْء وعَلى الْخلقَة. وَالْوَجْه اسْم لما يواجهه الْإِنْسَان، وَهُوَ من منبت الناصية إِلَى أَسْفَل الذقن طولا وَمن شحمة الْأذن إِلَى شحمة الْأذن عرضا. وَالظَّاهِر أَن هَذَا الِاخْتِلَاف من اخْتِلَاف تعدد الْقَضِيَّة، ورواة الرَّأْس أَكثر، وَعَلِيهِ الْعُمْدَة. وَقَالَ عِيَاض: هَذِه الرِّوَايَات متفقة لِأَن الْوَجْه فِي الرَّأْس، ومعظم الصُّورَة فِيهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الْوَجْه خلاف الرَّأْس لُغَة وَشرعا.
ثمَّ الْعلمَاء تكلمُوا فِي معنى: (أَن يَجْعَل رَأسه رَأس حمَار أَو صورته صُورَة حمَار؟) قَالَ الْكرْمَانِي: قيل هَذَا مجَاز عَن البلادة، لِأَن المسخ لَا يجوز فِي هَذِه الْأمة. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: لَيْسَ قَوْله: (أَن يحول الله رَأسه راس حمَار) فِي هَذِه الْأمة بموجود، فَإِن المسخ فِيهَا مَأْمُون، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ معنى الْحمار من قلَّة البصيرة وَكَثْرَة العناد، فَإِن من شَأْنه إِذا قيد حزن وَإِذا حبس طفر لَا يُطِيع قائدا وَلَا يعين حابسا. قلت: فِي كَلَامهمَا: إِن المسخ لَا يجوز فِي هَذِه الْأمة، وَإِن المسخ فِيهَا مَأْمُون، نظر، وَقد رُوِيَ وُقُوع ذَلِك فِي آخر الزَّمَان عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يكون فِي آخر هَذِه الْأمة خسف ومسخ وَقذف. .) الحَدِيث، وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَعمْرَان بن حُصَيْن، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَسَهل بن سعد وروى أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي امامة وروى عبد الله بن أَحْمد فِي (زَوَائِد الْمسند) من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت وَابْن عَبَّاس وروى أَبُو يعلى وَالْبَزَّار من حَدِيث أنس وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن بشر وَسَعِيد بن أبي رَاشد وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الصَّغِير) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس أَيْضا، وَلَكِن أسانيدها لَا تَخْلُو من مقَال. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن الحَدِيث يَقْتَضِي تَغْيِير الصُّورَة الظَّاهِرَة، وَيحْتَمل أَن يرجع إِلَى أَمر معنوي مجَازًا، فَإِن الْحمار مَوْصُوف بالبلادة. قَالَ: ويستعار هَذَا الْمَعْنى للجاهل بِمَا يجب عَلَيْهِ من فروض الصَّلَاة ومتابعة الإِمَام، وَرُبمَا يرجح هَذَا الْمجَاز بِأَن التَّحْوِيل فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة لم يَقع من كَثْرَة رفع الْمَأْمُومين قبل الإِمَام، وَقد بَينا أَن الحَدِيث لَا يدل على وُقُوع ذَلِك، وَإِنَّمَا يدل على كَون فَاعله متعرضا لذَلِك بِكَوْن فعله صَالحا لِأَن يَقع ذَلِك الْوَعيد، وَلَا يلْزم من التَّعَرُّض للشَّيْء وُقُوع ذَلِك الشَّيْء. قلت: وَإِن سلمنَا ذَلِك فلِمَ لَا يجوز أَن يُؤَخر الْعقَاب إِلَى وَقت يُريدهُ الله تَعَالَى؟ كَمَا وقفنا فِي بعض الْكتب وَسَمعنَا من الثِّقَات أَن جمَاعَة من الشِّيعَة الَّذين يسبون الصَّحَابَة قد تحولت صورتهم إِلَى صُورَة حمَار وخنزير عِنْد مَوْتهمْ، وَكَذَلِكَ جرى على من عق وَالِديهِ، وخاطبهما باسم الْحمار أَو الْخِنْزِير أَو الْكَلْب؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: كَمَال شفقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمته وَبَيَانه لَهُم الْأَحْكَام وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَفِيه: الْوَعيد الْمَذْكُور لمن رفع رَأسه قبل الإِمَام، وَنظر ابْن مَسْعُود إِلَى من سبق إِمَامه فَقَالَ: لَا وَحدك صليت وَلَا بإمامك اقتديت. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَأمره بِالْإِعَادَةِ. وَالْجُمْهُور على عدم الْإِعَادَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: من خَالف الإِمَام فقد خَالف(5/224)
سنة الْمَأْمُوم وأجزأته صلَاته عِنْد جَمِيع الْعلمَاء. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَإِن سبق إِمَامه فَعَلَيهِ أَن يرفع ليَأْتِي بذلك مؤتما بِالْإِمَامِ فَإِن لم يفعل حَتَّى لحقه الإِمَام سَهوا أَو جهلا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، فَإِن سبقه عَالما بِتَحْرِيمِهِ. فَقَالَ أَحْمد فِي رسَالَته: لَيْسَ لمن سبق الإِمَام صَلَاة، لقَوْله: (أما يخْشَى الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام ... ؟) الحَدِيث، وَلَو كَانَ لَهُ صَلَاة لرجى لَهُ الثَّوَاب، وَلم يخْش عَلَيْهِ الْعقَاب، وَقَالَ ابْن بزيزة: اسْتدلَّ بِظَاهِرِهِ قوم لَا يعْقلُونَ على جَوَاز التناسخ. قلت: هَذَا مَذْهَب مَرْدُود، وَقد بنوه على دعاوى بَاطِلَة بِغَيْر دَلِيل وبرهان.
54 - (بابُ إمامَةِ العَبْدِ والمَوْلَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم إِمَامَة العَبْد وَالْمولى، وَأَرَادَ بِهِ الْمولى الْأَسْفَل، وَهُوَ المعتوق، وللفظ الْمولى معانٍ مُتعَدِّدَة، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: المعتوق، قيل: لم يفصح بِالْجَوَازِ،، لَكِن لوح بِهِ لإيراده أدلته.
وكانَتْ عَائِشَةُ يِؤُمُّهِا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ المُصْحَفِ
إِيرَاد هَذَا الْأَثر يدل على أَن مُرَاده من التَّرْجَمَة الْجَوَاز، وَإِن كَانَت التَّرْجَمَة مُطلقَة، وَوصل هَذَا ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أبي بكر بن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أعتقت غُلَاما عَن دبر، فَكَانَ يؤمها فِي رَمَضَان فِي الْمُصحف. وروى أَيْضا عَن ابْن علية: عَن أَيُّوب سَمِعت الْقَاسِم يَقُول: كَانَ يؤم عَائِشَة عبد يقْرَأ فِي الْمُصحف، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة أَنهم كَانُوا يأْتونَ عَائِشَة بِأَعْلَى الْوَادي هُوَ وَعبيد بن عُمَيْر والمسور بن مخرمَة وناس كثير، فيؤمهم أَبُو عمر وَمولى عَائِشَة، وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَام لم يعْتق. وَكَانَ إِمَام بني مُحَمَّد بن أبي بكر وَعُرْوَة. وَعند الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي عتبَة أَحْمد بن الْفرج الْحِمصِي: حَدثنَا مُحَمَّد بن حمير حَدثنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن هِشَام عَن أَبِيه أَن أَبَا عَمْرو ذكْوَان كَانَ عبدا لعَائِشَة، فأعتقته وَكَانَ يقوم بهَا شهر رَمَضَان يؤمها، وَهُوَ عبد. وروى ابْن أبي دَاوُد فِي (كتاب الْمَصَاحِف) من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة كَانَ يؤمها غلامها ذكْوَان فِي الْمُصحف. وذكوان: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وكنيته أَبُو عَمْرو، مَاتَ فِي أَيَّام الْحرَّة أَو قتل بهَا. قَوْله: (وَهُوَ يَوْمئِذٍ غُلَام) ، الْغُلَام هُوَ الَّذِي لم يَحْتَلِم، وَلَكِن الظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُرَاهق، وَهُوَ كَالْبَالِغِ. قَوْله: (من الْمُصحف) ، ظَاهره يدل على جَوَاز الْقِرَاءَة من الْمُصحف فِي الصَّلَاة، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين وَالْحسن وَالْحكم وَعَطَاء، وَكَانَ أنس يُصَلِّي وَغُلَام خَلفه يمسك لَهُ الْمُصحف، وَإِذا تعايا فِي آيَة فتح لَهُ الْمُصحف. وَأَجَازَهُ مَالك فِي قيام رَمَضَان، وَكَرِهَهُ النَّخعِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن الْحسن. وَقَالَ: هَكَذَا يفعل النَّصَارَى، وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة وَسليمَان بن حَنْظَلَة وَمُجاهد بن جُبَير وَحَمَّاد وَقَتَادَة، وَقَالَ ابْن حزم: لَا تجوز الْقِرَاءَة من الْمُصحف وَلَا من غَيره لمصل إِمَامًا كَانَ أَو غَيره، فَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته، وَبِه قَالَ ابْن الْمسيب وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهُوَ غَرِيب لم أره عَنهُ. قلت: الْقِرَاءَة من مصحف فِي الصَّلَاة مفْسدَة عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ عمل كثير، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز، لِأَن النّظر فِي الْمُصحف عبَادَة، وَلكنه يكره لما فِيهِ من التَّشَبُّه بِأَهْل الْكتاب فِي هَذِه الْحَالة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَعند مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. لَا تفْسد فِي النَّفْل فَقَط.
وَأما إِمَامَة العَبْد، فقد قَالَ أَصْحَابنَا: تكره إِمَامَة العَبْد لاشتغاله بِخِدْمَة مَوْلَاهُ، وأجازها أَبُو ذَر وَحُذَيْفَة وَابْن مَسْعُود، ذكره ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَعَن أبي سُفْيَان أَنه كَانَ يؤم بني عبد الْأَشْهَل وَهُوَ مكَاتب وَخَلفه صحابة مُحَمَّد بن مسلمة وَسَلَمَة بن سَلام، وَصلى سَالم خلف زِيَاد مولى ابْن الْحسن وَهُوَ عبد، وَمن التَّابِعين ابْن سِيرِين وَالْحسن وَشُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحكم، وَمن الْفُقَهَاء الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَقَالَ مَالك: تصح إِمَامَته فِي غير االجمعة، وَفِي رِوَايَة: لَا يؤم إلاّ إِذا كَانَ قَارِئًا وَمن خَلفه الْأَحْرَار لَا يقرأون، وَلَا يؤم فِي جُمُعَة وَلَا عيد. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤم إلاْ أَهله. وَمِمَّنْ كره الصَّلَاة خَلفه: أَبُو مجلز، فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة، وَالضَّحَّاك بِزِيَادَة: وَلَا يؤم من لم يحجّ قوما فيهم من قد حج. وَفِي (الْمَبْسُوط) : إِن إِمَامَته جَائِزَة وَغَيره أحب. قلت: وَلَا شكّ أَن الْحر أولى مِنْهُ لِأَنَّهُ منصب جليل، فالحر أليق بهَا، وَقَالَ ابْن خيران من أَصْحَاب الشَّافِعِيَّة: تكره إِمَامَته للْحرّ، وَخَالف سليم الرَّازِيّ، وَلَو اجْتمع عبد فَقِيه وحر غير فَقِيه فَثَلَاثَة أوجه: أَصَحهَا أَنَّهُمَا(5/225)
سَوَاء، ويترجح قَول من قَالَ: العَبْد الْفَقِيه أولى لما أَن سالما مولى أبي حُذَيْفَة كَانَ يؤم الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فِي مَسْجِد قبَاء فيهم عمر وَغَيره، لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا.
وَلَدِ البَغِيِّ
عطف على قَوْله: وَالْمولى، وَلَكِن فصل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ بأثر عَائِشَة، و: الْبَغي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وتشديدها: وَهِي الزَّانِيَة، وَنقل ابْن التِّين أَنه رَوَاهُ بِفَتْح الْبَاء وَسُكُون الْغَيْن، وَقَالَ بَعضهم: وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَالتَّخْفِيف. قلت: قَوْله: وَالتَّخْفِيف، غلط لِأَن السّكُون يُغني عَن ذكره، وَأما إِمَامَة ولد الزِّنَا فجائزة عِنْد الْجُمْهُور، وَأَجَازَ النَّخعِيّ إِمَامَته، وَقَالَ: رب عبدٍ خير من مَوْلَاهُ، وَالشعْبِيّ وَعَطَاء وَالْحسن، وَقَالَت عَائِشَة: لَيْسَ عَلَيْهِ من وزر أَبَوَيْهِ شَيْء، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَمُحَمّد بن عبد الحكم، وكرهها عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَمَالك إِذا كَانَ راتبا. وَقَالَ صَاحب؛ التَّوْضِيح) : وَلَا تكره إِمَامَته عندنَا خلافًا للشَّيْخ أبي حَامِد والعبدري، وَقَالَ الشَّافِعِي: وأكره أَن أنصب من لَا يعرف أَبوهُ إِمَامًا، وَتَابعه الْبَنْدَنِيجِيّ، وَغَيره صرح بعدمها، وَقَالَ ابْن حزم: الْأَعْمَى والخصي وَالْعَبْد وَولد الزِّنَا وأضدادهم، والقرشي سَوَاء، لَا تفاضل بَينهم إلاّ بِالْقِرَاءَةِ، وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: تكره إِمَامَة العَبْد وَولد الزِّنَا لِأَنَّهُ يستخف بِهِ، فَإِن تقدما جَازَت الصَّلَاة.
والأَعْرَابِيِّ
بِالْجَرِّ عطف على: ولد الْبَغي، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة، وَقد نصب إِلَى الْجمع لِأَنَّهُ صَار علما لَهُم، فَهُوَ فِي حكم الْمُفْرد، والأعراب: سكان الْبَادِيَة من الْعَرَب. وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) خَاصَّة: وَالْجمع أعاريب، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب، كَمَا أَن الأنباط جمع للنبط، وَذكر النَّضر وَغَيره أَن الْأَعْرَاب جمع عرب، مثل: غنم وأغنام، وَإِنَّمَا سموا أعرابا لأَنهم عرب تجمعت من هَهُنَا وَهَهُنَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة إِمَامَته مَعَ الْكَرَاهَة لغَلَبَة الْجَهْل عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَصلى ابْن مَسْعُود خلف أَعْرَابِي، وَلم ير بهَا بَأْسا إِبْرَاهِيم وَالْحسن وَسَالم. وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (لَا يتَقَدَّم الصَّفّ الأول أَعْرَابِي وَلَا عجمي وَلَا غُلَام لم يَحْتَلِم) .
والغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَحْتلِمْ
بِالْجَرِّ أَيْضا عطف على مَا قبله، وَظَاهره مُطلق يتَنَاوَل الْمُرَاهق وَغَيره، وَلَكِن يخرج مِنْهُ من كَانَ دون سنّ التَّمْيِيز بِدَلِيل آخر، وَيفهم أَن البُخَارِيّ يجوز إِمَامَته، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا، وَمذهب أبي حنيفَة: أَن الْمَكْتُوبَة لَا تصح خَلفه، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ دَاوُد: فِي النَّفْل رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة، وبالجواز فِي النَّفْل قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ دَاوُد: لَا تصح فِيمَا حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن الشّعبِيّ وَمُجاهد وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء، وَأما نَقله: ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة وصاحبيه أَنَّهَا مَكْرُوهَة فَلَا يَصح هَذَا النَّقْل، وَعند الشَّافِعِي فِي الْجُمُعَة قَولَانِ، وَفِي غَيرهَا يجوز لحَدِيث عَمْرو بن سَلمَة الَّذِي فِيهِ: أؤمهم وَأَنا ابْن سبع أَو ثَمَان سِنِين، وَعَن الْخطابِيّ أَن أَحْمد كَانَ يضعف هَذَا الحَدِيث، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا يؤم الْغُلَام حَتَّى يَحْتَلِم، وَذكر الْأَثْرَم بِسَنَد لَهُ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يؤم الْغُلَام حَتَّى تجب عَلَيْهِ الْحُدُود، وَعَن إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس أَن يؤم الْغُلَام قبل أَن يَحْتَلِم فِي رَمَضَان، وَعَن الْحسن مثله وَلم يُقَيِّدهُ.
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَؤُمُّهُمْ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله
هَذَا تَعْلِيل لجمع مَا ذكر قبله من: العَبْد وَولد الْبَغي والأعرابي والغلام الَّذِي لم يَحْتَلِم، معنى الحَدِيث: لم يفرق بَين الْمَذْكُورين وَغَيرهم، وَلَكِن الَّذِي يظْهر من هَذَا أَن إِمَامَة أحد من هَؤُلَاءِ إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَ أَقرَأ الْقَوْم. ألاَ ترى أَن الْأَشْعَث بن قيس قدم غُلَاما، فعابوا ذَلِك عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا قَدمته. وَلَكِن قدمه الْقُرْآن الْعَظِيم، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله) ، تَعْلِيق، وَهُوَ طرف من حَدِيث أبي مَسْعُود، أخرجه مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن بِلَفْظ: (يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله تَعَالَى) ، وروى أَبُو سعيد عِنْده أَيْضا مَرْفُوعا: (أَحَق بِالْإِمَامَةِ أقرؤهم) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (وليؤمهم أقرؤهم) .
وَلاَ يُمْنَعُ العَبْدُ مِنَ الجَمَاعَةِ بَغَيْرِ عِلَّةٍ
هَذِه الْجُمْلَة معطوفة على التَّرْجَمَة، وَهِي من كَلَام البُخَارِيّ وَلَيْسَت من الحَدِيث الْمُعَلق، وَوجه عدم مَنعه من حُضُور الْجَمَاعَة لِأَن حق الله مقدم على حق الْمولى فِي بَاب الْعِبَادَة، وَقد ورد وَعِيد شَدِيد فِي ترك حُضُور الْجَمَاعَة بِغَيْر ضَرُورَة، أَشَارَ إِلَيْهَا(5/226)
بقوله: بِغَيْر عِلّة، أَي: بِغَيْر ضَرُورَة. وَقَالَ بَعضهم: بِغَيْر ضَرُورَة لسَيِّده. قلت: قيد السَّيِّد لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن عِنْد الضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة لَيْسَ عَلَيْهِ الْحُضُور مُطلقًا، كَمَا فِي حق الْحر.
692 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنسُ بنُ عِياضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنْ ابنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ العُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءَ قَبْلَ مَقْدَمِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَؤُمُّهُمْ سالِمٌ مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ وكانَ أكْثَرَهُمْ قُرْآنا (الحَدِيث 692 طرفه فِي: 7175) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ دلَالَة على جَوَاز إِمَامَة الْمولى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمدنِي، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: أُنس بن عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، مر فِي: بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير العَبْد الْعمريّ، وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن القعْنبِي عَن أنس بن عِيَاض، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَزَاد: وَفِيهِمْ أَبُو بكر وَعمر وَأَبُو سَلمَة وَزيد بن حَارِثَة وعامر بن ربيعَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وإمامته لأبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يحْتَمل أَن تكون بعد قدومه مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما قدم الْمُهَاجِرُونَ) أَي: من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ. قَوْله: (الْأَولونَ) ، أَي: الَّذين قدمُوا أَولا قبل قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الْعصبَة) ، بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة لِأَنَّهُ اسْم مَوضِع. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كتاب (أَسمَاء الْبلدَانِ) : الْعصبَة مَوضِع بَقَاء، قَالَ الشَّاعِر:
(بنيته بعصبة من ماليا ... أخْشَى ركيبا أَو رجيلاً عاديا)
وَفِي (التَّوْضِيح) ضَبطه شَيخنَا عَلَاء الدّين فِي (شَرحه) : بِفَتْح الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَضَبطه الْحَافِظ شرف الدّين الدمياطي: بِضَم الْعين، وَكَذَا ضَبطه الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: مَوضِع بقباء. روى البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْأَولونَ المعصب كَانَ يؤمهم سَالم مولى أبي حُذَيْفَة وَكَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا، كَذَا ثَبت فِي متن الْكتاب، وَكتب عبد الله بن إِبْرَاهِيم الْأصيلِيّ عَلَيْهِ الْعصبَة مهملاً غير مضبوط. قَوْله: موضعا) ، يجوز فِيهِ النصب، وَالرَّفْع، أما النصب فعلى أَنه بدل من الْعصبَة، أَو بَيَان لَهُ، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ مَوضِع. قَوْله: (بقباء) فِي مَحل النصب على الوصفية أَي: موضعا كَائِنا بقباء، وقباء يمد وَيقصر، وَيصرف وَيمْنَع، وَيذكر وَيُؤَنث. قَوْله: (سَالم) ، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْم: كَانَ. (وَكَانَ) أَي: سَالم (أَكْثَرهم) ، أَي: أَكثر الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قُرْآنًا، وَهُوَ نصب على التَّمْيِيز، وَكَانَ سَالم مولى امْرَأَة من الْأَنْصَار فاعتقته، وَإِنَّمَا قيل لَهُ مولى أبي حُذَيْفَة لِأَنَّهُ لَازم أبي حُذَيْفَة بعد أَن أعتق فَتَبَنَّاهُ، فَلَمَّا نهوا عَن ذَلِك قيل لَهُ: مَوْلَاهُ، وَاسْتشْهدَ سَالم بِالْيَمَامَةِ فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَيُقَال: قتل شَهِيدا هُوَ وَأَبُو حُذَيْفَة فَوجدَ رَأس سَالم عِنْد رجل أبي حُذَيْفَة وَرَأس أبي حُذَيْفَة عِنْد رجل سَالم، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة من كبار الْبَدْرِيِّينَ، مَشْهُور كَبِير الْقدر، يُقَال لَهُ: سَالم بن معقل، وَكَانَ من أهل فَارس من اصطخر، وَقيل: إِنَّه من الْعَجم من سبي كرمان، وَكَانَ يعد فِي قُرَيْش لتبني أبي حُذَيْفَة لَهُ، ويعد فِي الْعَجم لأصله، ويعد فِي الْمُهَاجِرين لهجرته، ويعد فِي الْأَنْصَار لِأَن معتقته أنصارية، ويعد من الْقُرَّاء، لِأَنَّهُ كَانَ أقرؤهم أَي: أَكْثَرهم قُرْآنًا، وَأَبُو حُذَيْفَة بن عتبَة ب ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف العبشمي أحد السَّابِقين. قَوْله: (وَكَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا) ، إِشَارَة إِلَى سَبَب تقديمهم لَهُ مَعَ كَونه أشرف مِنْهُ وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرهم قُرْآنًا) . وَكَانَت إِمَامَته بهم قبل أَن يعْتق لِأَن المبحث فِيهِ.
693 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيى قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثني أبُو التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اسْمَعُوا وأطِيعُوا وإنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِي كأنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ(5/227)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة للْعَبد إِذا اسْتعْمل وَلَو كَانَ عبدا حَبَشِيًّا، فأذا أَمر بِطَاعَتِهِ فقد أَمر بِالصَّلَاةِ خَلفه، أَو إِن الْمُسْتَعْمل هُوَ الَّذِي فوض إِلَيْهِ الْعَمَل، يَعْنِي: جعل أَمِيرا أَو واليا، وَالسّنة أَن يتَقَدَّم فِي الصَّلَاة الوالى.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد بن حميد الضبعِي، مر فِي: بَاب رفع الْعلم فِيمَا مضى. الْخَامِس: ابْن مَالك.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رواتهما بَين بَصرِي وواسطي، وَهُوَ شُعْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن أبان عَن غنْدر، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن بنْدَار وَأبي بكر بن خلف، كِلَاهُمَا عَن يحيى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اسمعوا وَأَطيعُوا) ، يَعْنِي: فِي الْمَعْرُوف لَا فِي الْمُنكر. قَوْله: (وَإِن اسْتعْمل) أَي: وَإِن جعل عَاملا، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام: عَن مُسَدّد عَن يحيى: (وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي) . قَوْله: (كَأَن راسه زبيبة) ، يُرِيد سوادها، وَقيل يُرِيد قصر شعرهَا واجتماع بعضه وتفرقه حَتَّى يصير كالزبيب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَأَن رَأسه زبيبة أَي: حَبَّة من الْعِنَب يابسة سَوْدَاء، وَهَذَا تَمْثِيل فِي الحقارة وسماجة الصُّورَة وَعدم الِاعْتِدَاد بهَا، وَقيل: مَعْنَاهُ صَغِيرَة، وَذَلِكَ مَعْرُوف فِي الْحَبَشَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الدّلَالَة على صِحَة إِمَامَة العَبْد لِأَنَّهُ إِذا أَمر بِطَاعَتِهِ فقد أَمر بِالصَّلَاةِ خَلفه، كَمَا ذَكرْنَاهُ الأن، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا فِي الْأُمَرَاء والعمال لَا الْأَئِمَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِن الْخلَافَة فِي قُرَيْش لَا مدْخل فِيهَا لغَيرهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يكون العَبْد واليا وَشرط الْولَايَة الْحُرِّيَّة؟ قلت: بِأَن يوليه بعض الْأَئِمَّة أَو يتغلب على الْبِلَاد بِالشَّوْكَةِ. وَفِيه: النَّهْي عَن الْقيام على السلاطين وَإِن جاروا، لِأَن فِيهِ تهييج فتْنَة تذْهب بهَا الْأَنْفس وَالْحرم وَالْأَمْوَال، وَقد مثله بَعضهم بِالَّذِي يَبْنِي قصرا ويهدم مصرا. وَفِيه: دلَالَة على وجوب طَاعَة الْخَارِجِي لِأَنَّهُ قَالَ: حبشِي، والخلافة فِي قُرَيْش، فَدلَّ على أَن الحبشي إِنَّمَا يكون متغلبا، وَالْفُقَهَاء على أَنه يطاع مَا أَقَامَ الْجمع وَالْجَمَاعَات والعيد وَالْجهَاد.
55 - (بابٌ إذَا لَمْ يُتِمَّ الإمَامُ وَأَتَم مَنْ خَلْفَهُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِذا لم يتم الإِمَام بِأَن قصر فِي الصَّلَاة وَأتم من خَلفه أَي: الْمُقْتَدِي، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يضر من خَلفه، وَلَكِن هَذَا لَا يمشي إلاَّ عِنْد من زعم أَن صَلَاة الإِمَام إِذا فَسدتْ لَا تفْسد صَلَاة الْمُقْتَدِي، وَإِذا قَدرنَا الْجَواب: يضر، لَا يمشي إلاَّ عِنْد من زعم أَن صَلَاة الإِمَام إِذا فَسدتْ تفْسد صَلَاة الْمُقْتَدِي، وَهَذَا مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، لِأَن صَلَاة الإِمَام متضمنة صَلَاة الْمُقْتَدِي صِحَة وَفَسَادًا وَالْأول مَذْهَب الشَّافِعِيَّة. لِأَن الِاقْتِدَاء عِنْدهم بِالْإِمَامِ فِي مُجَرّد الْمُتَابَعَة فَقَط، وَترك البُخَارِيّ الْجَواب ليشْمل المذهبين إلاَّ أَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن جَوَابه: لَا يضر.
694 - حدَّثنا الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ قَالَ حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُوسَى الأشْيَبُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ يُصَلُّونَ لَكُمْ فإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ وإنْ أخْطَؤُا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الإِمَام إِذا لم يتم الصَّلَاة وأتمها الْمُقْتَدِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ معنى قَوْله: (فَإِن أَصَابُوا) يَعْنِي فَإِن أَتموا، وَبِه صرح ابْن حبَان فِي رِوَايَة من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (يكون أَقوام يصلونَ الصَّلَاة فَإِن أَتموا فلكم وَلَهُم) ، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا،
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: الْفضل بن سهل بن إِبْرَاهِيم الْأَعْرَج الْبَغْدَادِيّ، من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ، مَاتَ قبل البُخَارِيّ لَيْلَة عيد الْفطر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَمَات الْفضل بن سهل(5/228)
بِبَغْدَاد يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثلاث لَيَال بَقينَ من صفر سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: الْحسن بن مُوسَى الأشيب أَبُو عَليّ الْكُوفِي، سكن بَغْدَاد وَأَصله من خُرَاسَان، ولي قَضَاء حمص والموصل ثمَّ قَضَاء طبرستان، وَمَات بِالريِّ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ، والإشيب بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن دِينَار، مولى عبد الله بن عمر الْمدنِي. الرَّابِع: زيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة، مولى عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: أَبُو مُحَمَّد مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني. وَفِيه: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَأخرجه ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (سيليكم بعدِي وُلَاة فَاسْمَعُوا وَأَطيعُوا فِيمَا وَافق الْحق، وصلوا وَرَاءَهُمْ فَإِن أَحْسنُوا فَلهم، وَإِن أساؤا فَعَلَيْهِم) . وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد حسن، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (يكون عَلَيْكُم أُمَرَاء من بعدِي يؤخرون الصَّلَاة، فَهِيَ لكم وَهِي عَلَيْهِم، فصلوا مَعَهم مَا صلوا الْقبْلَة) . وَرَوَاهُ أَبُو ذَر وثوبان أَيْضا مَرْفُوعا، وروى الْحَاكِم مصححا عَن سهل بن سعد: (الإِمَام ضَامِن فَإِن أحسن فَلهُ وَلَهُم، وَإِن أَسَاءَ فَعَلَيهِ لَا عَلَيْهِم) . وَأخرجه على شَرط مُسلم. وَأخرج أَيْضا على شَرط البُخَارِيّ عَن عقبَة بن عَامر: (من أم النَّاس فَأَتمَّ) ، وَفِي نُسْخَة: (فَأصَاب فَالصَّلَاة لَهُ وَلَهُم، وَمن انْتقصَ من ذَلِك شَيْئا فَعَلَيهِ وَلَا عَلَيْهِم) . وَأعله الطَّحَاوِيّ بِانْقِطَاع مَا بَين عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة وَأبي عَليّ الْهَمدَانِي الرَّاوِي عَن عقبَة، وَفِي مُسْند عبد الله ابْن وهب: عَن أبي شُرَيْح الْعَدوي: (الإِمَام جنَّة فَإِن أتم فلكم وَله، وَإِن نقص فَعَلَيهِ النُّقْصَان وَلكم التَّمام) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يصلونَ) أَي: الْأَئِمَّة. قَوْله: (لكم) أَي: لأجلكم، فَاللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (فَإِن أَصَابُوا) يَعْنِي: فَإِن أَتموا، يدل عَلَيْهِ حَدِيث عقبَة بن عَامر الْمَذْكُور، آنِفا. وَقَالَ ابْن بطال: (إِن أَصَابُوا) يَعْنِي: الْوَقْت، فَإِن بني أُميَّة كَانُوا يؤخرون الصَّلَاة تَأْخِيرا شَدِيدا. قلت: يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد جيد: عَن قبيصَة بن وَقاص، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يكون عَلَيْكُم أُمَرَاء من بعدِي يؤخرون الصَّلَاة، فَهِيَ لكم وَهِي عَلَيْهِم، فصلوا مَعَهم مَا صلوا الْقبْلَة) ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ستدركون أَقْوَامًا يصلونَ الصَّلَاة لغير وَقتهَا، فَإِن أدركتموهم فصلوا فِي بُيُوتكُمْ للْوَقْت الَّذِي تعرفُون، ثمَّ صلوا مَعَهم واجعلوها سبْحَة) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن أَصَابُوا فِي الْأَركان والشرائط وَالسّنَن فلكم. قَوْله: (وان أخطأوا) أَي: وَإِن لم يُصِيبُوا. قَوْله: (فلكم) أَي: ثَوَابهَا، (وَعَلَيْهِم) أَي: عقابها، لِأَن: على تسْتَعْمل فِي الشَّرّ، و: اللَّام، فِي الْخَيْر. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك قَوْله: (فلكم) يُرِيد ثَوَاب الطَّاعَة والسمع، (وَعَلَيْهِم) إِثْم مَا صَنَعُوا واخطأوا، وَقيل: إِن صليتم أفذاذا فِي الْوَقْت فصلاتكم تَامَّة إِن أخطأوا فِي صلَاتهم وائتممتم بهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْخَطَأ عِقَابه مَرْفُوع عَن الْمُكَلّفين، فَكيف يكون عَلَيْهِم؟ وَأجَاب بِأَن الأخطاء هَهُنَا فِي مُقَابلَة الْإِصَابَة لَا فِي مُقَابلَة الْعمد، وَهَذَا الَّذِي فِي مُقَابلَة الْعمد هُوَ الْمَرْفُوع لَا ذَاك، وَسَأَلَ أَيْضا مَا معنى كَون غير الصَّوَاب لَهُم إِذْ لَا خير فِيهِ حَتَّى يكون لَهُم؟ وَأجَاب بقوله: مَعْنَاهُ صَلَاتكُمْ لكم وَكَذَا ثَوَاب الْجَمَاعَة لكم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة خلف الْبر والفاجر إِذا خيف مِنْهُ، يعنيوفيه: إِذا كَانَ صَاحب شَوْكَة. وَفِي (شرح السّنة) فِيهِ: دَلِيل على أَنه إِذا صلى بِقوم مُحدثا أَنه تصح صَلَاة الْمَأْمُومين خَلفه وَعَلِيهِ الْإِعَادَة قلت: هَذَا على مَذْهَب الشَّافِعِي كَمَا ذكرنَا أَن الْمُؤْتَم عِنْده تبع للْإِمَام فِي مُجَرّد الْمُوَافقَة لَا فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعِنْدنَا يتبع لَهُ مُطلقًا، يَعْنِي: فِي الصِّحَّة وَالْفساد، وَثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي مسَائِل: مِنْهَا: أَن الإِمَام إِذا ظهر مُحدثا أَو جنبا لَا يُعِيد الْمُؤْتَم صلَاته عِنْدهم. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء الْقَائِم بالمومى. وَمِنْهَا: قِرَاءَة الإِمَام لَا تنوب عَن قِرَاءَة الْمُقْتَدِي. وَمِنْهَا: أَنه يجوز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وبمن يُصَلِّي فرضا آخر. وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَدِي يَقُول: سمع الله لمن حَمده. وَعِنْدنَا: الحكم بِالْعَكْسِ فِي كلهَا، وَدَلِيلنَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم مصححا عَن سهل بن سعد: (الإِمَام ضَامِن) ، يَعْنِي: صلَاتهم فِي ضمن صلَاته صِحَة وَفَسَادًا. وَقد اسْتدلَّ بِهِ قوم: أَن الائتمام بِمن يحل بِشَيْء من الصَّلَاة ركنا كَانَ أَو غَيره صَحِيح إِذا أتم الْمَأْمُوم، قيل: هَذَا وَجه عِنْد الشَّافِعِيَّة بِشَرْط(5/229)
أَن يكون الإِمَام هُوَ الْخَلِيفَة أَو نَائِبه. وَقَالَ قوم المُرَاد: بقوله: (فَإِن اخطأوا فلكم) يَعْنِي: صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ فِي الْوَقْت، وَكَذَلِكَ كَانَ جمَاعَة من السّلف يَفْعَلُونَ، رُوِيَ عَن ابْن عمر أَن الْحجَّاج لما أخر الصَّلَاة بِعَرَفَة صلى ابْن عمر فِي رَحْله ووقف فَأمر بِهِ الْحجَّاج فحبس، وَكَانَ الْحجَّاج يُؤَخر الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ أَبُو وَائِل يَأْمُرنَا أَن نصلي فِي بُيُوتنَا ثمَّ نأتي الْحجَّاج فنصلي مَعَه، وَفعله مَسْرُوق مَعَ زِيَاد، وَكَانَ عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير فِي زمن الْوَلِيد إِذا أخر الصَّلَاة صليا فِي مَحلهمَا ثمَّ صليا مَعَه، وَفعله مَكْحُول مَعَ الْوَلِيد أَيْضا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَكَانَ جمَاعَة من السّلف يصلونَ فِي بُيُوتهم فِي الْوَقْت ثمَّ يعيدون مَعَهم، وَهُوَ مَذْهَب مَالك، وَعَن بعض السّلف: لَا يعيدون. وَقَالَ النَّخعِيّ: كَانَ عبد الله يُصَلِّي مَعَهم إِذا أخروا عَن الْوَقْت قَلِيلا، وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا قسام قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ عَن الصَّلَاة خلف الْأُمَرَاء قَالَ: صلِّ مَعَهم وَقيل لجَعْفَر ابْن مُحَمَّد: كَانَ أَبوك يُصَلِّي إِذا رَجَعَ إِلَى الْبَيْت؟ فَقَالَ: لَا وَالله مَا كَانَ يزِيد على صَلَاة الْأَئِمَّة، وَالله أعلم.
56 - (بابُ إمَامَةِ المَفْتُونِ والمُبْتَدِعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم إِمَامَة الْمفْتُون، وَهُوَ من فتن الرجل فَهُوَ مفتون إِذا ذهب مَاله وعقله، والفاتن: المضل عَن الْحق، والمفتون المضل، بِفَتْح الضَّاد، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم: أَي الَّذِي دخل فِي الْفِتْنَة فَخرج على الإِمَام. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَا ينطبق إلاّ على الفاتن، لِأَن الَّذِي يدْخل فِي الْفِتْنَة وَيخرج على الإِمَام هُوَ الْفَاعِل، وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ أَيْضا أَن يَقُول: بَاب إِمَامَة الفاتن. قَوْله: (والمبتدع) وَهُوَ الَّذِي يرتكب الْبِدْعَة، والبدعة لُغَة: كل شَيْء عمل عَليّ غير مِثَال سَابق، وَشرعا إِحْدَاث مَا لم يكن لَهُ أصل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي عل قسمَيْنِ: بِدعَة ضَلَالَة، وَهِي الَّتِي ذكرنَا، وبدعة حَسَنَة: وَهِي مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا وَلَا يكون مُخَالفا للْكتاب أَو السّنة أَو الْأَثر أَو الْإِجْمَاع، وَالْمرَاد هُنَا الْبِدْعَة: الضَّلَالَة.
وَقَالَ الحسَنُ صَلِّ وعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ
كَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف المبتدع، فَقَالَ: صل وَعَلِيهِ إِثْم بدعته، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن هِشَام بن حسان: أَن الْحسن سُئِلَ عَن الصَّلَاة خلف صَاحب بِدعَة فَقَالَ: صل خَلفه وَعَلِيهِ بدعته.
(قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ لنا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ قَالَ حَدثنَا الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبيد الله بن عدي بن خِيَار أَنه دخل على عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَحْصُور فَقَالَ إِنَّك إِمَام عَامَّة وَنزل بك مَا ترى وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة ونتحرج فَقَالَ الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس فَإِذا أحسن النَّاس فَأحْسن مَعَهم وَإِذا أساؤا فاجتنب إساءتهم)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة " إِلَى آخِره. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ. الثَّانِي عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مر فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان. الْخَامِس عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عدي بِفَتْح الْعين وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن خِيَار بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفة الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء النَّوْفَلِي الْمدنِي التَّابِعِيّ أدْرك زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم تثبت رُؤْيَته وَكَانَ من فُقَهَاء قُرَيْش وثقاتهم مَاتَ زمن الْوَلِيد بن عبد الْملك (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ أَولا قَالَ البُخَارِيّ قَالَ لنا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ صَاحب التَّلْوِيح كَأَنَّهُ أَخذ هَذَا الحَدِيث مذاكرة فَلهَذَا لم يقل فِيهِ حَدثنَا وَقيل أَنه مِمَّا تحمله بِالْإِجَازَةِ أَو المناولة أَو الْعرض وَقيل أَنه مُتَّصِل من حَيْثُ اللَّفْظ مُنْقَطع من حَيْثُ الْمَعْنى وَقَالَ بَعضهم هُوَ مُتَّصِل لَكِن لَا يعبر بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَّا إِذا كَانَ الْمَتْن مَوْقُوفا أَو كَانَ فِيهِ راو لَيْسَ على شَرطه وَالَّذِي هُنَا من قبيل الأول (قلت) إِذا كَانَ الرَّاوِي على غير شَرطه كَيفَ يذكرهُ فِي كِتَابه. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض وهم الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن عبيد الله وَفِيه الزُّهْرِيّ عَن حميد وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ أَخْبرنِي حميد وَفِيه حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ وَفِي رِوَايَة ابْن(5/230)
الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ وَفِيه عَن حميد عَن عبيد الله وَفِي رِوَايَة أبي نعيم والإسماعيلي حَدثنِي عبيد الله بن عدي. (ذكر من وَصله) وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ حَدثنَا عبد الله بن يحيى السَّرخسِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا أَحْمد بن يُوسُف حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنَا الزُّهْرِيّ فَذكره وَقَالَ أَيْضا حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن هَانِيء حَدثنَا الزيَادي حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا عَنْبَسَة حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عبيد الله بن عدي بِهِ وَمن طَرِيق هِقْل بن زِيَاد سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ حَدثنِي حميد وَمن طَرِيق عِيسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد حَدثنِي عبيد الله بن عدي وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من طَرِيق الْحسن بن سُفْيَان عَن حبَان عَن عبد الله بن الْمُبَارك أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ فَذكره (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " وَهُوَ مَحْصُور " جملَة اسمية وَقعت حَالا على الأَصْل بِالْوَاو أَي مَحْبُوس فِي الدَّار مَمْنُوع عَن الْأُمُور قَوْله " إِمَام عَامَّة " بِالْإِضَافَة أَي إِمَام جمَاعَة وَفِي رِوَايَة يُونُس " وَأَنت الإِمَام " أَي الإِمَام الْأَعْظَم قَوْله " مَا نرى " بنُون الْمُتَكَلّم ويروى " مَا ترى " بتاء الْمُخَاطب أَي مَا ترى من الْحصار وَخُرُوج الْخَوَارِج عَلَيْهِ قَوْله " وَيُصلي لنا إِمَام فتْنَة " أَي رَئِيس فتْنَة وَقَالَ الدَّاودِيّ أَي فِي وَقت فتْنَة وَقَالَ ابْن وضاح إِمَام الْفِتْنَة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عديس البلوي وَهُوَ الَّذِي جلب على عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أهل مصر وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَقد صلى كنَانَة بن بشر أحد رُؤْس الْخَوَارِج بِالنَّاسِ أَيْضا وَكَانَ هَؤُلَاءِ لما هجموا على الْمَدِينَة كَانَ عُثْمَان يخرج فَيصَلي بِالنَّاسِ شهرا ثمَّ خرج يَوْمًا فحصبوه حَتَّى وَقع على الْمِنْبَر وَلم يسْتَطع الصَّلَاة يَوْمئِذٍ فصلى بهم أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف فمنعوه فصلى بهم عبد الرَّحْمَن بن عديس تَارَة وكنانة بن بشر تَارَة فبقيا على ذَلِك عشرَة أَيَّام (فَإِن قلت) صلى بهم أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف وَعلي بن أبي طَالب وَسَهل بن حنيف وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَطَلْحَة بن عبيد الله فَكيف يُقَال فِي حَقهم إِمَام فتْنَة (قلت) وَلَيْسَ وَاحِد من هَؤُلَاءِ مُرَاد بقوله " إِمَام فتْنَة " دلّ على ذَلِك تَفْسِير الدَّاودِيّ بقوله أَي فِي وَقت فتْنَة أَو يَقُول أَنهم استأذنوه فِي الصَّلَاة فَأذن لَهُم لعلمه أَن المصريين لَا يصلونَ إِلَيْهِم بشر (فَإِن قلت) هَل ثَبت صَلَاة هَؤُلَاءِ (قلت) أما صَلَاة أبي أُمَامَة فقد رَوَاهُ عمر بن شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح وَرَوَاهُ المدايني من طَرِيق أبي هُرَيْرَة وَأما صَلَاة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي تَارِيخ بَغْدَاد من رِوَايَة ثَعْلَبَة بن يزِيد الجماني قَالَ فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْعِيد عيد الْأَضْحَى جَاءَ عَليّ فصلى بِالنَّاسِ وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك فِيمَا رَوَاهُ الْحسن الْحلْوانِي لم يصل بهم غير صَلَاة الْعِيد وَفعل ذَلِك عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِئَلَّا تضاع السّنة وَقَالَ غَيره صلى بهم عدَّة صلوَات وَأما صَلَاة سهل بن حنيف فَرَوَاهُ عمر بن شيبَة أَيْضا بِإِسْنَاد قوي قَوْله " ونتحرج " بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالجيم من التحرج أَي نَخَاف الْوُقُوع فِي الاثم وأصل الْحَرج الضّيق ثمَّ اسْتعْمل للاثم لِأَنَّهُ يضيق على صَاحبه وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك " وَإِنَّا لنتحرج من الصَّلَاة مَعَهم " وَهَذَا القَوْل ينْصَرف إِلَى صَلَاة من صلى من رُؤَسَاء الْخَوَارِج فِي وَقت الْفِتْنَة وَلَا يدْخل فِيهِ من ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة قَوْله " فَقَالَ الصَّلَاة أحسن " أَي قَالَ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الصَّلَاة أحسن فَقَوله الصَّلَاة مُبْتَدأ وَقَوله أحسن مُضَاف إِلَى مَا بعده خَبره وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك " أَن الصَّلَاة أحسن " وَفِي رِوَايَة هِقْل بن زِيَاد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الْإِسْمَاعِيلِيّ " الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس " (فَإِن قلت) هَذَا يدل على أَن عُثْمَان لم يذكر الَّذِي أمّهم من رُؤَسَاء الْخَوَارِج بمكروه وَتَفْسِير الدَّاودِيّ على هَذَا لَا اخْتِصَاص لَهُ بالخارجي (قلت) لَا يلْزم من كَون الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس أَو من أحسن مَا عمل النَّاس أَن لَا يسْتَحق فاعلها ذما عِنْد وجود مَا يَقْتَضِيهِ قَوْله " فَإِذا أحسن النَّاس فَأحْسن مَعَهم " ظَاهره أَن عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رخص لَهُ فِي الصَّلَاة مَعَهم كَأَنَّهُ يَقُول لَا يَضرك كَونه مفتونا إِذا أحسن فوافقه على إحسانه وأترك مَا افْتتن بِهِ وَبِهَذَا تُوجد الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة وَقَالَ ابْن الْمُنِير يحْتَمل أَن يكون رأى أَن الصَّلَاة خَلفه لَا تصح فحاد عَن الْجَواب بقوله " الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس " لِأَن الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أحسن هِيَ الصَّلَاة الصَّحِيحَة وَصَلَاة الْخَارِجِي غير صَحِيحَة لِأَنَّهُ إِمَّا كَافِر أَو فَاسق انْتهى (وَأجِيب) بِأَن هَذَا الَّذِي قَالَه إِنَّمَا هُوَ نصْرَة لمذهبه فِي عدم صِحَة الصَّلَاة خلف الْفَاسِق وَهَذَا مَرْدُود لما روى سيف بن عمر فِي الْفتُوح عَن سهل بن يُوسُف الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه قَالَ كره النَّاس الصَّلَاة خلف الَّذين حصروا عُثْمَان إِلَّا عُثْمَان فَإِنَّهُ قَالَ من دَعَا إِلَى الصَّلَاة فأجيبوه(5/231)
(ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ تحذير من الْفِتْنَة وَالدُّخُول فِيهَا وَمن جَمِيع مَا يُنكر من قَول أَو فعل أَو اعْتِقَاد يدل عَلَيْهِ قَوْله " وَإِذا أساؤا فاجتنب " وَفِيه أَن الصَّلَاة خلف من تكره الصَّلَاة خَلفه أولى من تَعْطِيل الْجَمَاعَة وَقَالَ بَعضهم وَفِيه رد على من زعم أَن الْجُمُعَة لَا تجزيء أَن تُقَام بِغَيْر إِذن الإِمَام (قلت) لَيْسَ فِيهِ رد بل دَعْوَى الرَّد على ذَلِك مَرْدُودَة لِأَن عليا صلى يَوْم عيد الْأَضْحَى الَّذِي شَرطهَا أَن يُصَلِّي من يُصَلِّي الْجُمُعَة فَمن أَيْن ثَبت أَنه صلى بِغَيْر إِذن عُثْمَان وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنهُ أَنه صلى عدَّة صلوَات وفيهَا الْجُمُعَة فَمن ادّعى أَنه صلى بِغَيْر اسْتِئْذَان فَعَلَيهِ الْبَيَان وَلَئِن سلمنَا أَنه صلى بِغَيْر اسْتِئْذَان وَلَكِن كَانَ ذَلِك بسب تخلف الإِمَام عَن الْحُضُور وَإِذا تعذر حُضُور الإِمَام فعلى الْمُسلمين إِقَامَة رجل مِنْهُم يقوم بِهِ وَهَذَا كَمَا فعل الْمُسلمُونَ بِمَوْتِهِ لما قتل الْأُمَرَاء اجْتَمعُوا على خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَو نقُول أَن عليا لم يتَوَصَّل إِلَيْهِ فَعَن هَذَا قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن لَو غلب على مصر متغلب وَصلى بهم الْجُمُعَة جَازَ وَنقل ذَلِك عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَانَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أولى بذلك لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم رَضوا بِهِ وصلوا وَرَاءه وَسَوَاء كَانَ بِإِذن أَو لَا بِإِذن فَلَا نرى جَوَازهَا بِغَيْر إِذن الإِمَام وَكَيف وَقد روى ابْن ماجة عَن جَابر بن عبد الله قَالَ " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَفِيه " فَمن تَركهَا " أَي الْجُمُعَة " فِي حَياتِي أَو بعدِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا فَلَا جمع الله شَمله وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بر لَهُ حَتَّى يَتُوب " الحَدِيث وَمن هَذَا أَخذ أَصْحَابنَا وَقَالُوا لَا تجوز إِقَامَتهَا إِلَّا للسُّلْطَان وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم أَو لمن أمره كالنائب وَالْقَاضِي والخطيب (فَإِن قلت) هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَفِي سَنَده عبد الله بن مُحَمَّد وَهُوَ تكلم فِيهِ (قلت) هَذَا رُوِيَ من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة فَحصل لَهُ بذلك قُوَّة فَلَا يمْنَع من الِاحْتِجَاج بِهِ وَأما الصَّلَاة خلف الْخَوَارِج وَأهل الْبدع فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فأجازت طَائِفَة مِنْهُم ابْن عمر إِذا صلى خلف الْحجَّاج وَكَذَلِكَ ابْن أبي ليلى وَسَعِيد بن جُبَير ثمَّ خرجا عَلَيْهِ وَقَالَ النَّخعِيّ كَانُوا يصلونَ وَرَاء الْأُمَرَاء مَا كَانُوا وَكَانَ أَبُو وَائِل يجمع مَعَ المختارين عبيد وَسُئِلَ مَيْمُون بن مهْرَان عَن الصَّلَاة خلف رجل يذكر أَنه من الْخَوَارِج فَقَالَ أَنْت لَا تصلي لَهُ إِنَّمَا تصلي لله عز وَجل وَقد كُنَّا نصلي خلف الْحجَّاج وَكَانَ حروريا أزرقيا وروى أَشهب عَن مَالك لَا أحب الصَّلَاة خلف الأباضية والواصلية وَلَا السُّكْنَى مَعَهم فِي بلد وَقَالَ ابْن الْقَاسِم أرى الْإِعَادَة فِي الْوَقْت على من صلى خلف أهل الْبدع وَقَالَ أصبغ يُعِيد أبدا وَقَالَ الثَّوْريّ فِي القدري لَا تقدموه وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل لَا يصلى خلف أحد من أهل الْأَهْوَاء إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى هَوَاهُ وَمن صلى خلف الْجَهْمِية والرافضية والقدرية يُعِيد وَقَالَ أَصْحَابنَا تكره الصَّلَاة خلف صَاحب هوى وبدعة وَلَا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري لأَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن الله لَا يعلم الشَّيْء قبل حُدُوثه وَهُوَ كفر والمشبهة وَمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَكَانَ أَبُو حنيفَة لَا يرى الصَّلَاة خلف المبتدع وَمثله عَن أبي يُوسُف وَأما الْفَاسِق بجوارحه كالزاني وشارب الْخمر فَزعم ابْن حبيب أَن من صلى خلف من شرب الْخمر يُعِيد أبدا إِلَّا أَن يكون واليا وَقيل فِي رِوَايَة يَصح وَفِي الْمُحِيط لَو صلى خلف فَاسق أَو مُبْتَدع يكون مُحرز لثواب الْجَمَاعَة وَلَا ينَال ثَوَاب من صلى خلف المتقي وَفِي الْمَبْسُوط يكره الِاقْتِدَاء بِصَاحِب الْبِدْعَة
(وَقَالَ الزبيدِيّ قَالَ لزهري لَا نرى أَن يُصَلِّي خلف المخنث إِلَّا من ضَرُورَة لَا بُد مِنْهَا) الزبيدِيّ بِضَم الزَّاي وَفتح الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمَكْسُورَة وَهِي نِسْبَة إِلَى زبيدى وَهُوَ بطن فِي مذْحج وَفِي الأزد وَفِي خولان القضاعية وَهُوَ صَاحب الزُّهْرِيّ واسْمه مُحَمَّد بن الْوَلِيد أَبُو الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي قَالَ ابْن سعد مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة وَهُوَ ابْن سبعين سنة وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب قَوْله " أَن يُصَلِّي " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " المخنث " بِكَسْر النُّون وَفتحهَا وَالْكَسْر أفْصح وَالْفَتْح أشهر وَهُوَ الَّذِي خلقه خلق النِّسَاء وَهُوَ نَوْعَانِ من يكون ذَلِك خلقَة لَهُ لَا صنع لَهُ فِيهِ وَهَذَا لَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا ذمّ وَمن تكلّف ذَلِك وَلَيْسَ لَهُ خلقيا وَهَذَا هُوَ المذموم وَقيل بِكَسْر النُّون من فِيهِ تكسر وتثن وتشبه بِالنسَاء وبالفتح من يُؤْتى فِي دبره وَقَالَ أَبُو عبد الْملك أَرَادَ الزُّهْرِيّ الَّذِي يُؤْتى فِي دبره وَأما من يتكسر فِي كَلَامه ومشيه فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ خَلفه وَقَالَ الدَّاودِيّ أرادهما لِأَنَّهُمَا بِدعَة وجرحة وَذَلِكَ لِأَن الْإِمَامَة مَوضِع كَمَال وَاخْتِيَار أهل الْفضل وكما أَن إِمَام الْفِتْنَة والمبتدع كل مِنْهُمَا مفتون فِي طَرِيقَته فَلَمَّا شملهم معنى الْفِتْنَة(5/232)
ذهبت إمامتهم إِلَّا من ضَرُورَة وَلِهَذَا أَدخل البُخَارِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا وَقَالَ ابْن بطال ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا لِأَن المخنث مفتتن فِي طَرِيقَته قَوْله " إِلَّا من ضَرُورَة " أَي إِلَّا أَن يكون ذَا شَوْكَة فَلَا تعطل الْجَمَاعَة بِسَبَبِهِ وَقد رَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ بِغَيْر قيد أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنهُ وَلَفظه " قلت فالمخنث قَالَا وَلَا كَرَامَة لَا تأتم بِهِ " وَهُوَ مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار -
696 - مُ حَمَّدُ بنُ أبانَ قَالَ حدَّثنا غُنَّدَرٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ أبي التَّيَّاحِ أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاِبِي ذَرٍّ اسْمَعْ وَأَطِعْ ولَوْ لِحَبَشِيٍّ كأنَّ رَأسَهُ زَبِيبَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الصِّفَات لَا تُوجد غَالِبا إلاّ فِيمَن هُوَ غَايَة الْجَهْل، ومفتون بِنَفسِهِ. وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب إِمَامَة العَبْد، غير أَن هُنَاكَ: مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا: مُحَمَّد بن أبان الْبَلْخِي مستملي وَكِيع، وَقيل: هُوَ واسطي، وَهُوَ يحْتَمل، وَلَكِن لَيْسَ للواسطي رِوَايَة عَن غنْدر، والبلخي يروي عَنهُ، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال: وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن امْرَأَة شُعْبَة عَن أبي التياح يزِيد بن حميد، وَهُنَاكَ الْخطاب للْجَمَاعَة وَهنا الْخطاب لأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَلَو لحبشي) أَي: وَلَو كَانَ الطَّاعَة أَو الْأَمر لحبشي، سَوَاء كَانَ ذَلِك الحبشي مفتونا أَو مبتدعا.
57 - (بابٌ يَقُومُ عنْ يَمِينِ الإمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إذَا كانَا اثْنَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته يقوم إِلَى آخِره، وَالضَّمِير فِي: يقوم، يرجع إِلَى الْمَأْمُوم بِقَرِينَة ذكر الإِمَام. قَوْله: (بحذائه) ، الْحذاء ممدودا الإزاء وَالْجنب. قَوْله: (سَوَاء) أَي: مُسَاوِيا، وانتصابه على الْحَال. قَوْله: (إِذا كَانَا) أَي: الإِمَام وَالْمَأْمُوم، وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مأمومان مَعَ إِمَام فَالْحكم أَن يتَقَدَّم الإِمَام عَلَيْهِمَا، وَهَكَذَا نسخ البُخَارِيّ بَاب يقوم. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: النُّسْخَة بَاب من يقوم بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى: من، ثمَّ تردد بَين كَون: من، مَوْصُولَة أَو استفهامية لكَون الْمَسْأَلَة مُخْتَلفا فِيهَا. وَقَالَ بَعضهم: الْوَاقِع أَن: من، محذوفة، والسياق ظَاهر فِي أَن المُصَنّف جازم بِحكم الْمَسْأَلَة لَا مُتَرَدّد. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن الْوَاقِع أَن: من، محذوفة، فَكيف يجوز حذف: من، سَوَاء كَانَت استفهامية أَو مَوْصُولَة؟ وَالنُّسْخَة الْمَشْهُورَة صَحِيحَة فَلَا تحْتَاج إِلَى تَقْدِير وارتكاب تعسف، بل الصَّوَاب مَا قُلْنَا، وَهُوَ: أَن لَفْظَة: بَاب، مَرْفُوع على أَنه خبر مبتدإ مَحْذُوف أَي: هَذَا بَاب، وَقَوله: يقوم، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: تَرْجَمته يقوم الْمَأْمُوم ... إِلَى آخِره، كَمَا ذكرنَا.
697 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءَ ثُأ جاءَ فَصَلَّى أرْبَعَ رَكْعَاتٍ ثُمَّ قامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُأ نامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أوْ قَالَ خَطِيطَهُ ثُمَّ خرَجَ إلَى الصَّلاَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فجعلني عَن يَمِينه) ، وَهَذَا الحَدِيث قد ذكره فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، بأطول مِنْهُ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن الحكم بن عتيبة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تكلمنا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأُمُور مُسْتَوفى. قَوْله: (جَاءَ) أَي: من الْمَسْجِد إِلَى منزله. قَوْله: (فَجئْت) الْفَاء،، فِيهِ فصيحة أَي: قَامَ من النّوم فَتَوَضَّأ فَأحْرم بِالصَّلَاةِ فَجئْت، وَيحْتَمل أَن لَا تكون فصيحة بِأَن يكون المُرَاد: ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة، وَالْقِيَام على الْوَجْه الأول، بِمَعْنى النهوض. وعَلى الثَّانِي بِمَعْنى المنهوض وَالْمرَاد من الصَّلَاة: صَلَاة الصُّبْح.
58 - (بابٌ إذَا قامَ الرَّجُلُ عنْ يَسارِ الإمَامِ فَحَوَّلَهُ الإمَامُ إلَى يَمِينِهِ لَمْ تَفْسُدْ صلاَتُهُمَا)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا قَامَ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (الرجل) ، وَفِي بعض النّسخ: (إِذا قَامَ رجل) قَوْله: (لم تفْسد صلاتهما) ، جَوَاب:(5/233)
إِذا، أَي: صَلَاة الرجل وَالْإِمَام، وَفِي بعض النّسخ: لم تفْسد صلَاته، أَي: صَلَاة الرجل.
698 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وعنْ عَبْدِ رَبّهِ بنِ سَعِيدٍ عنْ مَخْرَمَةَ بنَ سُلَيْمَانَ عنْ كُرَيْبٍ مَوْلى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْدَها تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَن يَمِينِهِ فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نامَ حَتَّى نَفَخَ وكانَ إذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أتَاهُ المُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ. قَالَ عَمْرٌ وفَحَدَّثْتُ بِهِ بَكِيرا فَقَالَ حدَّثني كُرَيْبٌ بِذَلِكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأخذني فجعلني عَن يَمِينه) .
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد، ذكر كَذَا غير مَنْسُوب فِي النّسخ المتداولة، وَقَالَ ابْن السكن فِي نسخته، وَابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : هُوَ أَحْمد بن صَالح. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَحْمد بن عِيسَى، وَقيل: ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ ابْن مندة: لم يخرج البُخَارِيّ عَن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي ابْن وهب فِي (الصَّحِيح) شَيْئا، وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نسبه. الثَّانِي: عبد الله بن وهب. الثَّالِث: عَمْرو بن الْحَارِث الْمصْرِيّ. الرَّابِع: عبد ربه، بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ أَخُو يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: مخرمَة، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة ابْن سُلَيْمَان قد مر فِي: بَاب قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث. السَّادِس: كريب، بِضَم الْكَاف: مولى ابْن عَبَّاس، السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وَثَلَاثَة مدنيين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: قد ذكرنَا فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب القرآة بعد الْحَدث، أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن مخرمَة فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَهَهُنَا عَن عبد ربه عَن مخرمَة، وَذكرنَا هُنَاكَ أَيْضا من أخرجه غَيره وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء مُسْتَوفى.
قَوْله: (نمت) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بت) ، من البيتوتة. قَوْله: (قَالَ عَمْرو) أَي: ابْن الْحَارِث الْمَذْكُور. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (قَالَ عَمْرو) ، وَالظَّاهِر أَنه مقول ابْن وهب، وَيحْتَمل التَّعْلِيق. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من زعم أَنه من تَعْلِيق البُخَارِيّ، فقد سَاقه أَبُو نعيم مثل سِيَاقه قلت: أَرَادَ بقوله: وهم من زعم أَنه تَعْلِيق، الْكرْمَانِي، والكرماني لم يهم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ: يحْتَمل التَّعْلِيق، وَبَين الْوَهم وَالِاحْتِمَال فرق كَبِير، لِأَن الْوَهم غلط، ومدعي الِاحْتِمَال لَيْسَ بغالط، وَكَون سِيَاق أبي نعيم نَحْو سِيَاق عَمْرو لَا يسْتَلْزم نفي احْتِمَال التَّعْلِيق فِي سِيَاق البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ أَن الْكرْمَانِي قَالَ أَولا: الظَّاهِر أَنه مقول ابْن وهب أَي: عبد الله بن وهب الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث. قَوْله: (فَحدثت بِهِ بكيرا) ، هُوَ بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، وَنبهَ عَمْرو بذلك على أَن سَنَد رِوَايَته عَن بكير أَعلَى من رِوَايَته الْمَذْكُورَة أَولا.
59 - (بابٌ إذَا لَمْ يَنْوِ الإمَامْ أَن يَؤُمَّ ثُمَّ جاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا لم ينْو الإِمَام أَن يؤم، فَأن: مَصْدَرِيَّة: أَي: الْإِمَامَة، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، لِأَن فِي هَذِه الْمَسْأَلَة اخْتِلَافا فِي أَنه: هَل يشْتَرط للْإِمَام أَن يَنْوِي الْإِمَامَة أم لَا؟ وَحَدِيث الْبَاب لَا يدل على النَّفْي، وَلَا على الْإِثْبَات، وَلَا على أَنه نوى فِي ابْتِدَاء صلَاته، وَلَا بعد أَن أَقَامَ ابْن عَبَّاس فصلى مَعَه؟ وَلَكِن فِي إيقاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عَبَّاس مِنْهُ موقف الْمَأْمُوم مَا يشْعر بِالثَّانِي، وَالْمذهب عندنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نِيَّة الإِمَام الْإِمَامَة فِي حق الرِّجَال لَيست بِشَرْط، لِأَنَّهُ لَا يلْزمه باقتداء الْمَأْمُوم حكم، وَفِي حق النِّسَاء شَرط عندنَا لاحْتِمَال فَسَاد صلَاته بمحاذاتها إِيَّاه، وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ وَمَالك: لَيست بِشَرْط، كَمَا فِي الرِّجَال. وَقَالَ السفاقسي وَقَالَ الثَّوْريّ، وَرِوَايَة عَن أَحْمد وَإِسْحَاق: على الْمَأْمُوم الْإِعَادَة إِذا لم ينْو الإِمَام الْإِمَامَة، وَعَن ابْن الْقَاسِم مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَعَن أَحْمد: أَنه شَرط أَن يَنْوِي فِي الْفَرِيضَة دون النَّافِلَة.(5/234)
699 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ أيُّوبَ عنْ عَبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فقَامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأسِي فَأقَامَنِي عنْ يَمِينِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث يتَضَمَّن أَن ابْن عَبَّاس اقْتدى بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصلى مَعَه وَأقرهُ على ذَلِك كَمَا فِي حَدِيث انس صلى فِي رَمَضَان، قَالَ: فَجئْت فَقُمْت إِلَى جنبه وَجَاء آخر فَقَامَ إِلَى جَنْبي حَتَّى كُنَّا رهطا، فَلَمَّا أحس بِنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تجوز فِي صلَاته) . وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه لم ينْو الْإِمَامَة ابْتِدَاء، وهم ائتموا بِهِ وأقرهم عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مقسم الْأَسدي الْبَصْرِيّ، وَأمه علية مولاة لبني أَسد. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن سعيد بن جُبَير. الْخَامِس: أَبوهُ سعيد بن جُبَير. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن عبد الله بن سعيد من أَقْرَان أَيُّوب الرَّاوِي عَنهُ. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون،.
وَأخرجه النَّسَائِيّ إيضا فِي الصَّلَاة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ.
قَوْله: (بت) من البيوتة. قَوْله: (فَقُمْت عَن يسَاره) وَهُوَ عطف على: قُمْت، الأول وَلَيْسَ بعطف الشَّيْء على نَفسه، لِأَن الْقيام الأول بِمَعْنى النهوض، وَالثَّانِي بِمَعْنى الْوُقُوف، أَو أَن: قُمْت، الأول بِمَعْنى أردْت. قَوْله: (أُصَلِّي) جملَة وَقعت حَالا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن موقف الْمَأْمُوم إِذا كَانَ بحذاء الإِمَام على يَمِينه مُسَاوِيا لَهُ، وَهُوَ قَول عمر وَابْنه وَأنس وَابْن عَبَّاس وَالثَّوْري وَإِبْرَاهِيم وَمَكْحُول وَالشعْبِيّ وَعُرْوَة وَأبي حنيفَة وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق، وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن: يضع أَصَابِع رجلَيْهِ عِنْد عقب الإِمَام، وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْتَحبّ أَن يتَأَخَّر عَن مُسَاوَاة الإِمَام قَلِيلا. وَعَن النَّخعِيّ: يقف خَلفه إِلَى أَن يرْكَع فَإِذا جَاءَ أحد وإلاَّ قَامَ عَن يَمِينه. وَقَالَ أَحْمد: إِن وقف عَن يسَاره تبطل صلَاته. وَفِيه: أَن الْعَمَل الْقَلِيل، وَهِي إدارته إِلَى يَمِينه من شِمَاله، لَا يبطل الصَّلَاة.
60 - (بابٌ إذَا طَوَّلَ الإمامُ وكانَ لِلرَّجُلِ حاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا طول الإِمَام ... إِلَى آخِره. قَوْله: (طول الإِمَام) ، يَعْنِي: صلَاته. قَوْله: (وَكَانَ الرجل) أَرَادَ بِهِ الْمَأْمُوم. قَوْله: (فَخرج) يحْتَمل الْخُرُوج من اقتدائه أَو من صلَاته بِالْكُلِّيَّةِ أَو الْخُرُوج من الْمَسْجِد، لَكِن فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مَا يَنْفِي خُرُوجه من الْمَسْجِد، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: (فَانْصَرف الرجل فصلى فِي نَاحيَة الْمَسْجِد) . وَفِي رِوَايَة مُسلم مَا يدل على أَنه خرج من الِاقْتِدَاء، أَو من الصَّلَاة أَيْضا بِالْكُلِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ: (فانحرف رجل فَسلم ثمَّ صلى وَحده) ، وَبِهَذَا يرد على ابْن رشيد قَوْله: الظَّاهِر أَنه خرج إِلَى منزله فصلى فِيهِ، وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الحَدِيث: (فَانْصَرف الرجل وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (فصلى) ، بِالْفَاءِ، وَجَوَاب، إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: وَصلى صحت صلَاته، وَالْحَاصِل أَن للْمَأْمُوم أَن يقطع الِاقْتِدَاء وَيتم صلَاته مُنْفَردا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَمَال إِلَيْهِ البُخَارِيّ، ونذكره عَن قريب مفصلا.
700 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وعنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله أنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ كانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا بعض الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي عَقِيبه، وَالْكل حَدِيث وَاحِد. وَفِيه: (فَانْصَرف الرجل) ، على مَا يَأْتِي. وَفِيه الْمُطَابقَة. فَإِن قلت: فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فلِمَ قطعه؟ قلت: للتّنْبِيه على فائدتين: الأولى: أَنه أَشَارَ بِالطَّرِيقِ الأولى إِلَى علو الْإِسْنَاد. الثَّانِيَة: أَنه أَشَارَ بِالثَّانِيَةِ إِلَى التَّصْرِيح بِسَمَاع عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن عبد الله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، وَعَمْرو بن دِينَار، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن بنْدَار عَن غنْدر على مَا يَأْتِي الْآن، وَنَذْكُر عَن قريب متعلقات الحَدِيث، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(5/235)
701 - قَالَ وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ كانَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى العِشَاءَ فقَرَأَ بِالبَقَرَةِ فانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأنَّ مُعَاذا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فَتَّانٌ فَتَّانُ فَتَّانٌ ثَلاثَ مِرَارٍ أوْ قالَ فاتِنا فاتِنا فاتِنا وأمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أوْسَطِ المُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌ ولاَ أحْفَظهُمَا.
هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي رَوَاهَا عَن بنْدَار عَن غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، تَتِمَّة الحَدِيث الَّذِي أخرجه قبله عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة، وَقد ذكرنَا وَجه تقطيعه إِيَّاه وَوجه مطابقته للتَّرْجَمَة.
ذكر الطّرق الْمُخْتَلفَة فِي هَذَا الحَدِيث إِلَى جَابر بن عبد الله وَغَيره: وروى البُخَارِيّ أَيْضا لحَدِيث جَابر هَذَا فِي: بَاب، من شكا إِمَامه إِذا طول، من حَدِيث محَارب ابْن دثار عَن جَابر: (أقبل رجلَيْنِ بناضحين وَقد جنح اللَّيْل فَوَافَقَ معَاذًا يُصَلِّي) الحَدِيث، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فِي بَابه. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي الزبير: عَن جَابر عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي الزبير عَنهُ، وَعَن مُحَمَّد بن رمح عَن اللَّيْث بِلَفْظ: (قَرَأَ معَاذ فِي الْعشَاء بالبقرة) . وَأخرجه مُسلم وَلَفظه: (فَافْتتحَ سُورَة الْبَقَرَة) . وَفِي رِوَايَة: (بِسُورَة الْبَقَرَة أَو النِّسَاء) على الشَّك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح. وَأخرجه السراج عَن محَارب بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بالبقرة وَالنِّسَاء) . بِالْوَاو، بِلَا شكّ. (فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما يَكْفِيك أَن تقْرَأ: وَالسَّمَاء والطارق، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو هَذَا؟) وَأخرجه عبد الله بن وهب فِي مُسْنده: أخبرنَا ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث عَن أبي الزبير، فَذكره وَفِيه: (طوَّل على أَصْحَابه فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أفتَّان أَنْت؟ خفف على النَّاس واقرأ: سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو ذَلِك وَلَا تشق على النَّاس) . وَعند أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث بُرَيْدَة بِإِسْنَاد قوي: (فَقَرَأَ: اقْتَرَبت السَّاعَة) ، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث سُفْيَان: عَن عَمْرو عَن جَابر: (أخر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء ذَات لَيْلَة فصلى مَعَه معَاذ ثمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتقدم ليؤمنا فَافْتتحَ بِسُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا رأى ذَلِك رجل من الْقَوْم تنحى فصلى وَحده) ، وَفِيه: (فَأمر بسور قصار لَا أحفظها، فَقُلْنَا لعَمْرو: إِن أَبَا الزبير قَالَ لَهُم: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: إقرأ بالسماء والطارق، وَالسَّمَاء ذَات البروج، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَاللَّيْل إِذا يغشى) . قَالَ عَمْرو بِنَحْوِ هَذَا. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : عَن بنْدَار عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن أبي الزبير عَن جَابر بِلَفْظ: (فَقَالَ معَاذ: إِن هَذَا يَعْنِي: الْفَتى يتناولني ولأخبرن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ الْفَتى: يَا رَسُول الله نطيل الْمكْث عنْدك ثمَّ نرْجِع فَيطول علينا. فَقَالَ أفتان أَنْت يَا معَاذ؟ كَيفَ تصنع يَابْنَ أخي إِذا صليت؟ قَالَ: أَقرَأ الْفَاتِحَة وأسأل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِهِ من النَّار، أَي: لَا أَدْرِي مَا دندنتك ودندنة معَاذ. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا ومعاذ حولهَا ندندن) الحَدِيث. وَفِي (مُسْند أَحْمد) من حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة: (عَن رجل من بني سَلمَة يُقَال لَهُ سليم أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِي الله إِنَّا نظل فِي أَعمالنَا فنأتي حِين نمسي فنصلي، فَيَأْتِي معَاذ بن جبل فينادي بِالصَّلَاةِ فنأتيه فَيطول علينا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا معَاذ لَا تكن فاتنا) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من هَذَا الْوَجْه: عَن معَاذ بن رِفَاعَة (أَن رجلا من بني سَلمَة) ، فَذكره مُرْسلا. وَرَوَاهُ الْبَزَّار من وَجه آخر: عَن جَابر وَسَماهُ سليما أَيْضا، وَوَقع عِنْد ابْن حزم من هَذَا الْوَجْه: أَن اسْمه: سلم، بِفَتْح أَوله وَسُكُون اللَّام، فَكَأَنَّهُ تَصْحِيف. وَالله أعلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة مَنْصُور عَن عَمْرو: (عشَاء اآخرة) ، فَكَأَن معَاذًا كَانَ يواظب فِيهَا على الصَّلَاة مرَّتَيْنِ. قَوْله: (ثمَّ يرجع فيؤم قومه) وَفِي رِوَايَة مَنْصُور: (فَيصَلي بهم تِلْكَ الصَّلَاة) . قَالَ بَعضهم: وَفِي هَذَا رد على من زعم أَن المُرَاد: إِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ يُصليهَا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غير الصَّلَاة الَّتِي كَانَ يُصليهَا بقَوْمه، قلت: الْجَواب عَنهُ من وُجُوه: (الأول: أَن الِاحْتِجَاج بِهِ من بَاب ترك الْإِنْكَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَشرط ذَلِك علمه بالواقعة، وَجَاز أَن لَا يكون علم بهَا. الثَّانِي: أَن النِّيَّة أَمر مبطن لَا يطلع عَلَيْهِ إلاَّ بِإِخْبَار الناوي، وَمن الْجَائِز أَن يكون معَاذ كَانَ يَجْعَل صلَاته مَعَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنية النَّفْل ليتعلم سنة الْقِرَاءَة(5/236)
مِنْهُ، وأفعال الصَّلَاة، ثمَّ تَأتي قومه فَيصَلي بهم صَلَاة الْفَرْض. فَإِن قلت: يستبعد من معَاذ أَن يتْرك فَضِيلَة الْفَرْض خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَأْتِي بِهِ مَعَ قومه، وَكَيف يظنّ بمعاذ بعد سَمَاعه قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إلاّ الْمَكْتُوبَة) . وَلَعَلَّ صَلَاة وَاحِدَة مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خير لَهُ من كل صَلَاة صلاهَا فِي عمره، وَلَا سِيمَا فِي مَسْجده الَّتِي هِيَ خير من ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ قلت: أَلَيْسَ تفوت الْفَضِيلَة مَعَه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سَائِر أَئِمَّة مَسَاجِد الْمَدِينَة، وفضيلة النَّافِلَة خَلفه من أَدَاء الْفَرْض مَعَ قومه يقوم مقَام أَدَاء الْفَرِيضَة خَلفه، وامتثال أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي إِمَامَة قومه زِيَادَة طَاعَة. الثَّالِث: قَالَ الْمُهلب: يحْتَمل أَن يكون حَدِيث معَاذ كَانَ أول الْإِسْلَام وَقت عدم الْقُرَّاء، أَو وَقت لَا عوض للْقَوْم من معَاذ، فَكَانَت حَالَة ضَرُورَة فَلَا تجْعَل أصلا يُقَاس عَلَيْهِ. قلت: هَذَا كَانَ قبل أحد، فَلَا حَاجَة إِلَى ذكر الِاحْتِمَال. الرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَلَاة النَّهَار، وَمَعَ قومه صَلَاة اللَّيْل، لأَنهم كَانُوا أهل خدمَة لَا يحْضرُون صَلَاة النَّهَار فِي مَنَازِلهمْ، فَأخْبر الرَّاوِي عَن حَال معَاذ فِي وَقْتَيْنِ لَا فِي وَقت وَاحِد. الْخَامِس: أَنه حَدِيث مَنْسُوخ على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (فصلى الْعشَاء) ، كَذَا فِي مُعظم الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة لأبي عوَانَة والطَّحَاوِي من طَرِيق محَارب: (صلى بِأَصْحَابِهِ الْمغرب) وَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من رِوَايَة أبي الزبير. وَقَالَ بَعضهم: فَإِن حمل على تعدد الْقَضِيَّة أَو على أَن الْمغرب أُرِيد بِهِ الْعشَاء مجَازًا وإلاّ فَمَا فِي الصَّحِيح أصح؟ قلت: رجال الطَّحَاوِيّ فِي رِوَايَته رجال الصَّحِيح، فَمن أَيْن يَأْتِي الأصحية فِي رِوَايَة الْعشَاء؟ قَوْله: (فَقَرَأَ بالبقرة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عُيَيْنَة: (فَقَرَأَ بِسُورَة الْبَقَرَة) . وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقَالَ بَعضهم: فَالظَّاهِر أَن ذَلِك من تصرف الروَاة. قلت: لَيْسَ ذَلِك من تصرف الروَاة، بل من تعدد الْقَضِيَّة.
قَوْله: (فَانْصَرف الرجل) ، إماأن يُرَاد بِهِ الْجِنْس، والمعرف تَعْرِيف الْجِنْس كالنكرة فِي مؤداه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رجل أَو يُرَاد الْمَعْهُود من رجل معِين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَقَامَ رجل وَانْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة سليم بن حبَان: (فتحول رجل فصلى صَلَاة خَفِيفَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن عُيَيْنَة: (فانحرف رجل فَسلم ثمَّ صلى وَحده) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ ظَاهر فِي أَنه قطع الصَّلَاة. وَنقل عَن النَّوَوِيّ أَنه قَالَ: قَوْله: (فَسلم) ، دَلِيل على أَنه قطع الصَّلَاة من أَصْلهَا ثمَّ استأنفها، فَيدل على جَوَاز قطع الصَّلَاة وإبطالها لعذر، قلت: ذكر الْبَيْهَقِيّ أَن مُحَمَّد بن عباد شيخ مُسلم تفرد بِهِ بقوله: (ثمَّ سلم) وَأَن الْحفاظ من أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة وَمن أَصْحَاب شَيْخه عَمْرو بن دِينَار وَأَصْحَاب جَابر لم يذكرُوا السَّلَام، وَكَأَنَّهُ فهم أَن هَذِه اللَّفْظَة تدل على أَن الرجل قطع الصَّلَاة لِأَن السَّلَام يتَحَلَّل بِهِ من الصَّلَاة، وَسَائِر الرِّوَايَات تدل على أَنه قطع الصَّلَاة فَقَط وَلم يخرج من الصَّلَاة، بل اسْتمرّ فِيهَا مُنْفَردا. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وَذَلِكَ لِأَن ابْن جريج روى عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر فِي حَدِيث الْبَاب: (هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة) . قلت: هَذِه زِيَادَة، وَقد تكلمُوا فِيهَا، فَزعم أَبُو البركات ابْن تَيْمِية: أَن الإِمَام أَحْمد ضعف هَذِه الزِّيَادَة، وَقَالَ: أخْشَى أَن لَا تكون مَحْفُوظَة، لِأَن ابْن عُيَيْنَة يزِيد فِيهَا كلَاما لَا يَقُوله أحد، وَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : وروى الحَدِيث مَنْصُور بن زَاذَان وَشعْبَة فَلم يَقُولَا مَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، وَلَو صحت لكَانَتْ ظنا من جَابر، وبنحوه ذكره ابْن الْعَرَبِيّ فِي (الْعَارِضَة) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة روى عَن عَمْرو حَدِيث جَابر أتم من سِيَاق ابْن جريج، وَلم يذكر هَذِه الزِّيَادَة. وَقَالَ بَعضهم: وتعليل الطَّحَاوِيّ بِهَذَا لَيْسَ بقادح فِي صِحَّته، لِأَن ابْن جريج أسن وَأجل من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ، وَلَو لم يكن كَذَلِك فَهِيَ زِيَادَة ثِقَة حَافظ لَيست مُنَافِيَة لرِوَايَة من هُوَ أحفظ مِنْهُ قلت: هَذِه مُكَابَرَة لتمشية كَلَامه فِي حق الطَّحَاوِيّ، فَهَل ذكر هَذَا عِنْد قَول أَحْمد، وَهُوَ أجل من ابْن جريج وَابْن عُيَيْنَة: هَذِه الزياة ضَعِيفَة، أَو عِنْد كَلَام ابْن الْجَوْزِيّ: إِن هَذِه الزِّيَادَة لَا تصح، أَو عِنْد كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ على مَا ذكرنَا؟ وَهَذَا الرَّافِعِيّ الَّذِي هُوَ من أكَابِر أئمتهم، وَمِمَّنْ يعْتَمد عَلَيْهِم وَيُؤْخَذ عَلَيْهِم، قَالَ فِي شرح هَذَا الحَدِيث: هَذَا غير مَحْمُول على مَا قَالُوا، لِأَن الْفَرْض لَا يقطع بعد الشُّرُوع فِيهِ، وَكَون ابْن جريج أسن من ابْن عُيَيْنَة وأقدم أخذا عَن عَمْرو بن دِينَار مِنْهُ بعد التَّسْلِيم لَا يسْتَلْزم نفي مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَقد قَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، ورده بَعضهم بِأَن الأَصْل عدم الإدراج حَتَّى يثبت التَّفْصِيل، فمهما كَانَ مضموما إِلَى الحَدِيث(5/237)
فَهُوَ مِنْهُ قلت: لَا دَلِيل على كَونهَا مدرجة لجَوَاز أَن تكون من ابْن جريج، وَجَوَاز أَن تكون من عَمْرو بن دِينَار، وَيجوز أَن تكون من قَول جَابر، فَمن أَي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كَانَ هَذَا القَوْل؟ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على حَقِيقَة مَا كَانَ يفعل معَاذ، وَلَو ثَبت أَنه عَن معَاذ لم يكن فِيهِ دَلِيل أَنه كَانَ بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: فمهما كَانَ مضموما إِلَى الحَدِيث فَهُوَ مِنْهُ، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن لَا يُوجد مدرج أصلا، وَسَنذكر مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قلت: هَل علم اسْم هَذَا الرجل؟ قلت: هُنَا لم يسم، وَلَكِن روى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وَالْبَزَّار من طَرِيقه: عَن طَالب بن حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن جَابر عَن أَبِيه قَالَ: (مر حزم بن أبي كَعْب بمعاذ بن جبل وَهُوَ يُصَلِّي بقَوْمه صَلَاة الْعَتَمَة، فَافْتتحَ بِسُورَة طَوِيلَة وَمَعَ حزم نَاضِح لَهُ) الحَدِيث. قَالَ الْبَزَّار: لَا نعلم أحدا سَمَّاهُ عَن جَابر إلاّ ابْن جَابر. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : حزم ابْن أبي كَعْب، قيل: هُوَ الَّذِي طول عَلَيْهِ معَاذ فِي الْعشَاء ففارقه مِنْهَا، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا طَالب بن حبيب، قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن جَابر يحدث عَن حزم بن أبي كَعْب أَنه أَتَى معَاذًا وَهُوَ يُصَلِّي بِقوم صَلَاة الْمغرب، فِي هَذَا الْخَبَر قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا معَاذ لَا تكن فتانا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَك الْكَبِير والضعيف وَذُو الْحَاجة وَالْمُسَافر) .
قَوْله: فِي هَذَا الْخَبَر، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ عَمْرو عَن جَابر: (كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يرجع فيؤمنا) الحَدِيث. وَقيل: اسْم الرجل حرَام، روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن أنس قَالَ: (كَانَ معَاذ يؤم قومه فَدخل حرَام وَهُوَ يُرِيد أَن يسْقِي نخله) الحَدِيث، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: حرَام ضد الْحَلَال ابْن ملْحَان، بِكَسْر الْمِيم: خَال أنس بن مَالك. وَقَالَ بَعضهم: وَظن بَعضهم أَنه حرَام ابْن ملْحَان، خَال أنس بن مَالك، لَكِن لم أره مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَة، وَيحْتَمل أَن يكون مُصحفا من حزم. قلت: عدم رُؤْيَته مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَة لَا يدل على أَنه مصحف من حزم. وَقَالَ فِي (التَّلْوِيح) : وَهُوَ فِي (مُسْند أَحْمد) : بِسَنَد صَحِيح: عَن أنس (كَانَ معَاذ يؤم قومه، فَدخل حرَام يَعْنِي: ابْن ملْحَان وَهُوَ يُرِيد أَن يسْقِي نخله، فَلَمَّا رأى معَاذًا طول، تحول وَلحق بنخله يسْقِيه) . وَقيل: إسمه سليم، رجل من بني سَلمَة، وروى أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) من حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة: عَن سليم رجل من بني سَلمَة أَنه أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن معَاذًا) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ مُسْتَوفى عَن قريب.
قَوْله: (فَكَانَ معَاذ ينَال مِنْهُ) أَي: من الرجل الْمَذْكُور، وَمعنى: ينَال مِنْهُ أَي: يُصِيب مِنْهُ، أَي: يعِيبهُ ويتعرض بِهِ بالإيذاء. وَقَوله: (كَانَ) ، فعل مَاض، ومعاذ بِالرَّفْع اسْمه. وَقَوله: (ينَال مِنْهُ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنه خبر: لَكَانَ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (يتَنَاوَل مِنْهُ) من بَاب التفاعل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَكَأَن معَاذًا) بِالْهَمْزَةِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة. وَقَوله: (معَاذًا) بِالنّصب اسْم: كَأَن، وَقد فسر ذَلِك فِي رِوَايَة سليم بن حبَان. وَلَفظه: (فَبلغ ذَلِك معَاذًا فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِق) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي الزبير وَابْن عُيَيْنَة: (فَقَالُوا لَهُ: أنافقت يَا فلَان؟ قَالَ: لَا وَالله، لَآتِيَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلأخبرنه) . فَكَأَن معَاذًا قَالَ ذَلِك فِي غيبَة الرجل، وبلّغه إِلَى الرجل أَصْحَابه. قَوْله: (فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فَبلغ ذَلِك الْأَمر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد بَين ابْن عُيَيْنَة ومحارب بن دثار فِي روايتهما أَنه الَّذِي جَاءَ فاشتكى من معَاذ، وَفِي رِوَايَة للنسائي: (فَقَالَ معَاذ: لَئِن أَصبَحت لأذكرنّ ذَلِك للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا حملك على الَّذِي صنعت؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عملت على نَاضِح لي بِالنَّهَارِ، فَجئْت وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة فَدخلت الْمَسْجِد، فَدخلت مَعَه فِي الصَّلَاة فَقَرَأَ بِسُورَة كَذَا وَكَذَا، فَانْصَرَفت فَصليت فِي نَاحيَة الْمَسْجِد. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَفتانا يَا معَاذ؟ أَفتانا يَا معَاذ؟ قَوْله: (فتان فتان فتان ثَلَاث مرار) ، ويروى: (ثَلَاث مَرَّات و: فتان، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: أَنْت فتان، والتكرار للتَّأْكِيد، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (أفتان أَنْت) ؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار، وَمَعْنَاهُ: أَنْت منفر، لِأَن التَّطْوِيل سَبَب لخروجهم من الصَّلَاة، وللتكره للصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (فتان) أَي: معذب، لِأَنَّهُ عذبهم بالتطويل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج: 10) . عذبوهم. قَوْله: ((أَو قَالَ: فاتنا فاتنا فاتنا؟) هَذَا شكّ من الرَّاوِي، ونصبه على أَنه خبر: يكون، مُقَدرا أَي: يكون فاتنا. وَفِي رِوَايَة أبي الزبير: أَتُرِيدُ أَن تكون فاتنا؟ وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي حَدِيث معَاذ بن رِفَاعَة الْمُتَقَدّم ذكره: (يَا معَاذ لَا تكن فاتنا) . وَزَاد فِي حَدِيث أنس: (لَا تطول بهم) . قَوْله: (من أَوسط الْمفصل) أَوسط الْمفصل من: كورت إِلَى الضُّحَى، وطوال الْمفصل من سُورَة: الحجرات إِلَى: وَالسَّمَاء ذَات البروج، وقصار الْمفصل من:(5/238)
الضُّحَى إِلَى آخر الْقُرْآن. وَقيل: أول الطوَال من: قَاف، وَقَالَ الْخطابِيّ: رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع، وَحكى القَاضِي عِيَاض أَنه من: الجاثية، وسمى الْمفصل لِكَثْرَة الْفُصُول فِيهِ. وَقيل: لقلَّة الْمَنْسُوخ فِيهِ. قَوْله: (قَالَ عَمْرو: لَا أحفظهما) أَي: قَالَ عَمْرو ابْن دِينَار: لَا أحفظ الصُّورَتَيْنِ الْمَأْمُور بهما، وَكَانَ عمرا ذال ذَلِك فِي حَال تحديثه لشعبة، وإلاّ فَفِي رِوَايَة سليم بن حبَان عَن عَمْرو: إقرأ: وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَنَحْوهَا. وَذكرنَا شَيْئا من هَذَا فِيمَا رَوَاهُ عبد الله بن وهب فِي (مُسْنده) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل على أَن معَاذًا كَانَ يَنْوِي بِالْأولَى الْفَرْض، وبالثانية النَّفْل. وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَسليمَان بن حَرْب وَدَاوُد، وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يُصَلِّي المفترض خلف المتنفل، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث عَنهُ، وَقَالَ ابْن قدامَة: اخْتَار هَذِه الرِّوَايَة أَكثر أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ وَأبي قلَابَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَبِه قَالَ مُجَاهِد وطاووس، وَقَالَ بَعضهم: وَيدل عَلَيْهِ أَي: على صِحَة اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَالشَّافِعِيّ والطَّحَاوِي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم من طَرِيق ابْن جريج: عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر فِي حَدِيث الْبَاب زَاد: (هِيَ لَهُ تطوع وَلَهُم فَرِيضَة) ، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح، وَرِجَاله رجال الصَّحِيح، وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن هَذِه زِيَادَة قد ذكرنَا مَا قَالُوا فِيهَا، ونقول أَيْضا: إِن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة النَّهَار وَمَعَ قومه صَلَاة اللَّيْل، فَأخْبر الرَّاوِي فِي قَوْله: (فَهِيَ لَهُم فَرِيضَة وَله نَافِلَة) بِحَال معَاذ فِي وَقْتَيْنِ لَا فِي وَقت وَاحِد، أَو نقُول: هِيَ حِكَايَة حَال لم نعلم كيفيتها فَلَا نعمل بهَا، ونستدل بِمَا فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : (الإِمَام ضَامِن) ، بِمَعْنى: يضمنهَا صِحَة وَفَسَادًا، وَالْفَرْض لَيْسَ مَضْمُونا فِي النَّفْل. وَقَالَ ابْن بطال: وَلَا اخْتِلَاف أعظم من اخْتِلَاف النيات، وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ بِنَاء المفترض على صَلَاة المتنفل لما شرعت صَلَاة الْخَوْف مَعَ كل طَائِفَة، بَعْضهَا، وارتكاب الْأَعْمَال الَّتِي لَا تصح الصَّلَاة مَعهَا فِي غير الْخَوْف، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي مَعَ كل طَائِفَة جَمِيع صلَاته وَتَكون الثَّانِيَة لَهُ نَافِلَة وللطائفة الثَّانِيَة فَرِيضَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا حجَّة فِيهَا لِأَنَّهَا لم تكن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا تَقْرِيره، ورده بَعضهم بقوله: فَجَوَابه أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَن رَأْي الصَّحَابِيّ إِذا لم يُخَالِفهُ غَيره حجَّة، وَالْوَاقِع هُنَاكَ كَذَلِك، فَإِن الَّذين كَانَ يُصَلِّي بهم معَاذ كلهم صحابة، وَفِيهِمْ ثَلَاثُونَ عقبيا، وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا، قَالَه ابْن حزم. قَالَ: وَلَا يحفظ عَن غَيرهم من الصَّحَابَة امْتنَاع ذَلِك، بل قَالَ بَعضهم بِالْجَوَازِ عمر وَابْنه وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأنس وَغَيرهم. قلت: يحْتَمل أَن يكون عدم مُخَالفَة غَيره لَهُ بِنَاء على ظنهم أَن فعله كَانَ بِأَمْر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكون من هَذَا الْوَجْه أَيْضا عدم امْتنَاع غَيره من ذَلِك. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: لَو سلمنَا جَمِيع ذَلِك لم يكن فِيهِ حجَّة لاحْتِمَال أَن ذَلِك كَانَ فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت الْفَرِيضَة تصلى فِيهِ مرَّتَيْنِ، فَيكون مَنْسُوخا. قَالَ بَعضهم: فقد تعقبه ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِثْبَات النّسخ بِالِاحْتِمَالِ، وَهُوَ لَا يسوغ قلت: يسْتَدلّ على ذَلِك بِوَجْه حسن، وَذَلِكَ إِن إِسْلَام معَاذ مُتَقَدم، وَقد صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد سِنِين من الْهِجْرَة صَلَاة الْخَوْف غير مرّة من وَجه وَقع فِيهِ مُخَالفَة ظَاهِرَة بالأفعال المناقضة للصَّلَاة، فَيُقَال: لَو جَازَت صَلَاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إِيقَاع الصَّلَاة مرَّتَيْنِ على وَجه لاتقع فِيهَا الْمُنَافَاة، والمفسدات فِي غير هَذِه الْحَالة، وَحَيْثُ صليت على هَذَا الْوَجْه مَعَ إِمْكَان دفع المفسدات على تَقْدِير جَوَاز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل دلّ على أَنه لَا يجوز ذَلِك. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يلْزم الطَّحَاوِيّ إِقَامَة الدَّلِيل على مَا ادَّعَاهُ من إِعَادَة الْفَرِيضَة. قلت: كَأَنَّهُ لم يقف على كِتَابه، فَإِنَّهُ قد سَاق فِيهِ دَلِيل ذَلِك، وَهُوَ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَفعه: (لَا تصلوا الصَّلَاة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ) . وَمن وَجه آخر مُرْسل: إِن أهل الْعَالِيَة كَانُوا يصلونَ فِي بُيُوتهم ثمَّ يصلونَ مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبَلغهُ ذَلِك فنهاهم. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي الِاسْتِدْلَال بذلك على تَقْدِير صِحَّته نظر، لاحْتِمَال أَن يكون النَّهْي عَن أَن يصلوها مرَّتَيْنِ على أَنَّهَا فَرِيضَة، وَبِذَلِك جزم الْبَيْهَقِيّ جمعا بَين الْحَدِيثين قلت: إِن كَانَ الرَّد بِالِاحْتِمَالِ، وَنحن أَيْضا نقُول: يحْتَمل أَن يكون النَّهْي فِي ذَلِك لأجل أَن أحدا يَقْتَدِي بِهِ فِي وَاحِدَة من الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ صلاهما على أَنَّهُمَا فرض، وَفِي نفس الْأَمر فَرْضه إِحْدَاهمَا(5/239)
من غير تعْيين، فَيكون الِاقْتِدَاء بِهِ فِي صَلَاة مَجْهُولَة، فَلَا يَصح. وَقَالَ بَعضهم: وَأما اسْتِدْلَال الطَّحَاوِيّ على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى معَاذًا عَن ذَلِك بقوله فِي حَدِيث سليم بن الْحَارِث: إِمَّا أَن تصلي معي، وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك. ودعواه أَن مَعْنَاهُ: إِمَّا أَن تصلي معي وَلَا تصلي بقومك، وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك وَلَا تصلي معي، فِيهِ نظر، لِأَن للمخالف أَن يَقُول: بل التَّقْدِير إِمَّا أَن تصلي معي فَقَط، إِذا لم تخفف، وَإِمَّا أَن تخفف بقومك فَتُصَلِّي معي، وَهُوَ أولى من تَقْدِيره لما فِيهِ من مُقَابلَة التَّخْفِيف بترك التَّخْفِيف، لِأَنَّهُ هُوَ المسؤول عَنهُ الْمُتَنَازع فِيهِ. قلت: الَّذِي قدره الْمُخَالف بَاطِل، لِأَن لفظ الحَدِيث: لَا تكن فتانا، إِمَّا أَن تصلي معي وَإِمَّا أَن تخفف عَن قَوْمك، فَهَذَا يدل على أَنه يفعل أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا الصَّلَاة مَعَه أَو بقَوْمه وَلَا يجمعهما، فَدلَّ على أَن المُرَاد عدم الْجمع وَالْمَنْع، وكل أَمريْن بَينهمَا منع الْجمع كَانَ بَين نقضيهما منع الْخُلُو، كَمَا قد بَين هَكَذَا فِي مَوْضِعه.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبَاب تَخْفيف الصَّلَاة مُرَاعَاة لحَال الْمَأْمُومين لما روى البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث الْأَعْرَج: عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم للنَّاس فليخفف، فَإِنَّمَا فيهم الضَّعِيف والسقيم وَالْكَبِير، وَإِذا صلى لنَفسِهِ فليطول مَا شَاءَ) . فَهَذَا يدل على أَن الإِمَام يَنْبَغِي لَهُ أَن يُرَاعِي حَال قومه، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد، وَمن ذَلِك: أَن الْحَاجة من أُمُور الدُّنْيَا عذر فِي تَخْفيف الصَّلَاة، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة الْوَاحِدَة فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ. فَإِن قلت: لَيْسَ هَذَا بِمُطلق، لِأَن إِعَادَته على سَبِيل أَنَّهُمَا فرض مَمْنُوعَة بِالنَّصِّ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَقَالَ بَعضهم أَيْضا: وَفِيه: جَوَاز خُرُوج الْمَأْمُوم من الصَّلَاة لعذر، وَأما بِغَيْر عذر فاستدل بِهِ بَعضهم أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. قلت: فِي (شرح الْمُهَذّب) : اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن دخل مَعَ إِمَام فِي صَلَاة فصلى بَعْضهَا، هَل يجوز لَهُ أَن يخرج مِنْهَا؟ فاستدل أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث على أَن للْمَأْمُوم أَن يقطع الْقدْوَة وَيتم صلَاته مُنْفَردا، وَإِن لم يخرج مِنْهَا. وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه: أَصَحهَا: أَنه يجوز لعذر ولغير عذر، وَالثَّانِي: لَا يجوز مُطلقًا. وَالثَّالِث: يجوز لعذر وَلَا يجوز لغيره، وَتَطْوِيل الْقِرَاءَة عذر على الْأَصَح. قلت: أَصْحَابنَا لَا يجوزون شَيْئا من ذَلِك، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ لِأَن فِيهِ إبِْطَال الْعَمَل، وَالْقُرْآن قد منع عَن ذَلِك. وَمن ذَلِك: جَوَاز صَلَاة الْمُنْفَرد فِي الْمَسْجِد الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ بِالْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ بِعُذْر قلت: يجوز مُطلقًا. وَمن ذَلِك: جَوَاز القَوْل بالبقرة لِأَن مَعْنَاهُ: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَورد أَيْضا: بِسُورَة الْبَقَرَة، كَمَا ذكرنَا. وَمن ذَلِك: الْإِنْكَار فِي المكروهات والاكتفاء فِي التَّعْزِير بالْكلَام.
61 - (بابُ تَخْفِيفِ الإمَامِ فِي القِيامِ وإتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَخْفيف الإِمَام فِي الْقيام وَفِي حكم إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاو، فِي: وإتمام، بِمَعْنى: مَعَ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَاب التَّخْفِيف بِحَيْثُ لَا يفوتهُ شَيْء من الْوَاجِبَات، فَهُوَ تَفْسِير لقَوْله فِي الحَدِيث: فليتجوز، لِأَنَّهُ لَا يَأْمر بالتجوز الْمُؤَدِّي إِلَى فَسَاد الصَّلَاة قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، لِأَن الْمَأْمُور بِهِ فِي نفس الْأَمر هُوَ إتْمَام جَمِيع الْأَركان، وَإِنَّمَا ذكر التَّخْفِيف فِي الْقيام لِأَنَّهُ مَظَنَّة التَّطْوِيل.
702 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسا قَالَ أَخْبرنِي أبُو مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلاً قَالَ وَالله يَا رسولَ الله إنِّي لأَتَأخَّرُ عنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ أجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَما رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْعِظَةٍ أشَدَّ غَضَبا مِنْهُ يوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأيُّكُمْ مَا صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فإنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الْأَئِمَّة بتَخْفِيف الصَّلَاة على الْقَوْم. فَإِن قلت: كَيفَ الْمُطَابقَة وَالْأَمر بِالتَّخْفِيفِ فِي الحَدِيث أَعم، وَفِي التَّرْجَمَة خص التَّخْفِيف بِالْقيامِ؟ قلت: لما ذكرنَا الْآن: أَن الْقيام مَظَنَّة التَّطْوِيل فِي غَالب الْأَحْوَال، وَغير الْقيام لَا يشق إِتْمَامه على أحد، وَإِن كَانَ تطويله يشق. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَأن البُخَارِيّ ركب من حَدِيث معَاذ وَأبي مَسْعُود تَرْجَمَة، فَإِن فِي حَدِيث معَاذ تَخْفيف الْقيام خَاصَّة، وَبَينه بِالْقِرَاءَةِ هُنَا فِي الْقيام، وَبَقِي الرُّكُوع وَالسُّجُود(5/240)
على حَاله.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس الْكُوفِي. الثَّانِي: زُهَيْر، بِضَم الزَّاي: ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود البدري الْأنْصَارِيّ، واسْمه: عقبَة ابْن عَمْرو، وَلم يشْهد بَدْرًا، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: البدري، لِأَنَّهُ من مَاء بدر سكن الْكُوفَة.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: اإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب إِلَى جده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة، أخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي خَالِد عَن قيس بن أبي حَازِم عَن أبي مَسْعُود، فَانْظُر إِلَى التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْمَتْن، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.
قَوْله: (ان رجلا لم سم من هُوَ قَوْله (إِنِّي لأتأخر عَن صَلَاة الْغَدَاة) يَعْنِي: لَا أحضرها مَعَ الْجَمَاعَة لأجل التَّطْوِيل. قَوْله: (مِمَّا يُطِيل بِنَا) ، كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: من تطويله، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن الْمُبَارك فِي الْأَحْكَام: (وَالله إِنِّي لأتأخر) بِزِيَادَة الْقسم، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان الْآتِيَة قَرِيبا عَن الصَّلَاة فِي الْفجْر، وَإِنَّمَا خصها بِالذكر لِأَنَّهَا تطول فِيهَا الْقِرَاءَة غَالِبا، وَلِأَن الِانْصِرَاف مِنْهَا وَقت التَّوَجُّه لمن لَهُ حِرْفَة إِلَيْهَا. قَوْله: (أَشد) ، بِالنّصب على الْحَال من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنصب (غَضبا) على التَّمْيِيز. وَقَالَ بَعضهم: أَشد، بِالنّصب نعت لمصدر مَحْذُوف، أَي: غَضبا أَشد. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لفساد الْمَعْنى يذوقه من لَهُ يَد فِي الْعَرَبيَّة. قَوْله: (يَوْمئِذٍ) أَي: يَوْم أخبر بذلك. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: سَبَب الْغَضَب: إِمَّا لمخافة الموعظة أَو للتقصير فِي تعلم مَا يَنْبَغِي تعلمه. وَقَالَ ابو الْفَتْح الْيَعْمرِي: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يتَوَقَّف على تقدم الْإِعْلَام بذلك. قلت: يحْتَمل تقدم الْإِعْلَام بِهِ بِقصَّة معَاذ، وَلِهَذَا لم يذكر فِي حَدِيثه الْغَضَب، وواجهه وَحده بِالْخِطَابِ. وَهنا قَالَ: (إِن مِنْكُم منفرين) ، بِصِيغَة الْجمع، وَهُوَ من التنفير، وَيُقَال: نفر ينفر نفورا ونفارا إِذا فر وَذهب. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مَا ظهر من الْغَضَب لإِرَادَة الاهتمام بِمَا يلقيه لأَصْحَابه ليكونوا من سَمَاعه على بَال. قَوْله: (فَأَيكُمْ) أَي: أَي وَاحِد مِنْكُم. قَوْله: (مَا صلى بِالنَّاسِ) ، كلمة: مَا، زَائِدَة، وزيادتها مَعَ: أَي: الشّرطِيَّة كَثِيرَة، وفائدتها التوكيد وَزِيَادَة التَّعْمِيم. قَوْله: (فليتجوز) جَوَاب الشَّرْط أَي: فليخفف. يُقَال: تجوز فِي صلَاته أَي: خفف، وأصل اللَّام فِيهِ أَن تكون مَكْسُورَة، وَجَاز فِيهَا السّكُون. وَقَالَ ابْن بطال: لما أَمر الشَّارِع بِالتَّخْفِيفِ كَانَ المطول عَاصِيا، وَمُخَالفَة العَاصِي جَائِزَة لِأَنَّهُ لَا طَاعَة إلاّ فِي الْمَعْرُوف. وَقيل: إِن التَّطْوِيل وَالتَّخْفِيف من الْأُمُور الإضافية فقد يكون الشَّيْء خَفِيفا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَة قوم طَويلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَة آخَرين. وَقَالَ الْيَعْمرِي: الْأَحْكَام إِنَّمَا تناط بالغالب لَا بِالضَّرُورَةِ النادرة، فَيَنْبَغِي للأئمة التَّخْفِيف مُطلقًا. قَالَ: وَهَذَا كَمَا شرع الْقصر فِي الصَّلَاة فِي حق الْمُسَافِر وَعلل بالمشقة، وَهِي مَعَ ذَلِك تشرع، وَلَو لم تشق عملا بالغالب، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا يطْرَأ عَلَيْهِ، وَهنا كَذَلِك. قلت: يُؤَيّد كَلَامه صِيغَة الْأَمر بِالتَّخْفِيفِ، فَإِنَّهُ أَمر بعد الْغَضَب الشَّديد، وَظَاهره يَقْتَضِي الْوُجُوب. قَوْله: (فَإِن فيهم الضَّعِيف وَالْكَبِير) وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة: (فَإِن فيهم الْمَرِيض والضعيف) ، وَالْمرَاد بالضعيف هُنَا الْمَرِيض، وَهُنَاكَ من يكون الضعْف فِي خلقته: كالنحيف والمسن، وكل مَرِيض ضَعِيف من غير عكس.
62 - (بابٌ إذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شاءَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُصَلِّي إِذا صلى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْأَمر بِالتَّخْفِيفِ على الْإِطْلَاق إِنَّمَا هُوَ فِي حق الْأَئِمَّة لِأَن خَلفه من لَا يُطيق التَّطْوِيل، وَأما إِذا صلى وَحده فَلَا حجر عَلَيْهِ إِن شَاءَ طول، وَإِن شَاءَ خفف، وَلَكِن لَا يَنْبَغِي التَّطْوِيل إِلَى أَن يخرج الْوَقْت، أَو يدْخل فِي حد الْكَرَاهَة.
703 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فإنَّ فِيهُمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ وإذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شاءَ(5/241)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهَذَا الْإِسْنَاد بهؤلاء الرِّجَال قد مر غير مرّة. وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله ابْن ذكْوَان، والأعرج: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
قَوْله: (للنَّاس) أَي: إِذا صلى إِمَامًا للنَّاس، أَو لأجل ثَوَاب النَّاس أَو لخيرهم الْحَاصِل من الْجَمَاعَة. قَوْله: (فَإِن فيهم) هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِن مِنْهُم) ، وَالْمرَاد بالضعيف هُنَا: ضَعِيف الْخلقَة، وبالسقيم: الْمَرِيض. وَزَاد مُسلم من وَجه آخر عَن أبي الزِّنَاد: (وَالصَّغِير وَالْكَبِير) . وَزَاد الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ: (وَالْحَامِل والمرضع) ، وَله من حَدِيث عدي بن حَاتِم: (والعابر السَّبِيل) ، وَحَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي مضى عَن قريب يَشْمَل الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة. قَوْله: (فليطول مَا شَاءَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَليصل كَيفَ شَاءَ) أَي: مخففا أَو مطولا. وَفِي (مُسْند السراج) : حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكر الحَدِيث. وَفِيه: (إِذا صلى وَحده فليطول إِن شَاءَ) . انْتهى. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يعلم من نَفسه مَا لَا يعلم من غَيره، وَقد ذكر الرب، جلّ جَلَاله، الْأَعْذَار الَّتِي من أجلهَا أسقط فرض قيام اللَّيْل عَن عباده فَقَالَ تَعَالَى: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} (المزمل: 20) الْآيَة، فَيَنْبَغِي للْإِمَام التَّخْفِيف مَعَ إِكْمَال الْأَركان، أَلاَ ترى أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للَّذي لم يتم رُكُوعه وَلَا سُجُوده: (إرجع فصل فَإنَّك لم تصل) ! وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تجزىء صَلَاة من لَا يُقيم ظَهره فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود) ، وَمِمَّنْ كَانَ يُخَفف الصَّلَاة من السّلف أنس بن مَالك، قَالَ ثَابت: صليت مَعَه الْعَتَمَة فَتجوز مَا شَاءَ الله، وَكَانَ سعد إِذا صلى فِي الْمَسْجِد خفف الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَتجوز، وَإِذا صلى فِي بَيته أَطَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالصَّلَاة، فَقيل لَهُ: فَقَالَ: إِنَّا أَئِمَّة يَقْتَدِي بِنَا، وَصلى الزبير بن الْعَوام صَلَاة خَفِيفَة فَقيل لَهُ: أَنْتُم أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخف النَّاس صَلَاة، فَقَالَ: إِنَّا نبادر هَذَا الوسواس، وَقَالَ عمار: إحذفوا هَذِه الصَّلَاة قبل وَسْوَسَة الشَّيْطَان، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يتم الرُّكُوع وَالسُّجُود ويتجوز، فَقيل لَهُ: هَكَذَا كَانَت صَلَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم وأجوز. وَقَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: لما طعن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تقدم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَرَأَ بأخصر سورتين فِي الْقُرْآن: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1) و {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} (النَّصْر: 1) وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُخَفف الصَّلَاة وَيتم الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَقَالَ أَبُو مجلز: كَانُوا يتمون ويتجوزون ويبادرون الوسوسة، ذكر هَذِه الْآثَار ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
63 - (بابُ منْ شكا إمامَهُ إذَا طَوَّلَ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من شكى إِمَامه إِذا طول عَلَيْهِم الصَّلَاة.
وَقَالَ أبُو أُسَيْدٍ طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن قَول أبي أسيد لِابْنِهِ: طولت بِنَا الصَّلَاة، كالشكاية من تطويله، وَأَبُو أسيد، بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَأسيد، بِضَم الْهمزَة، كَذَا بِخَط الدمياطي. وَقَالَ الجياني فِي نُسْخَة أبي ذَر من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: أَبُو أسيد، بِفَتْح الْهمزَة. وَقَالَ أَبُو عبد الله: قَالَ عبد الرَّزَّاق ووكيع: أَبُو أسيد، وَهُوَ الصَّوَاب، واسْمه: مَالك بن ربيعَة الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ الْمدنِي، شهد الْمشَاهد كلهَا، وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة سِتِّينَ، وَفِيه اخْتِلَاف كثير، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الْبَدْرِيِّينَ وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن الغسيل، قَالَ: حَدثنِي الْمُنْذر بن أبي أسيد الْأنْصَارِيّ قَالَ: كَانَ أبي يُصَلِّي خَلْفي، فَرُبمَا قَالَ لي: يَا بني طولت بِنَا الْيَوْم بالصافات. انْتهى. وَعلم من هَذَا أَن اسْم أبي أسيد: الْمُنْذر، وَقَوله: يَا بني بِالتَّصْغِيرِ لأجل الشَّفَقَة دون التحقير. وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ البُخَارِيّ: وَكره عَطاء أَن يؤم الرجل أَبَاهُ، هَذَا التَّعْلِيق مَذْكُور فِي بعض النّسخ، فلئن صَحَّ فقد رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: عَن وَكِيع حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أبي يزِيد الْمَكِّيّ عَن عَطاء قَالَ: لَا يؤم الرجل أَبَاهُ.
704 - حدَّثنا مُحَمَّد بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَن إسْمَاعِيلَ بنِ أبِي خالِدٍ عنْ قَيْسِ ابنِ أبِي حازِمٍ عنْ أبي مسْعُودٍ قَالَ قَالَ رجُلٌ يَا رسولَ الله إنِّي لاَتأخَّرُ عنِ الصَّلاَةِ فِي الفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ(5/242)
بِنَا فُلانٌ فِيهَا فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رأيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كانَ أشَدَّ غَضَبا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثمَّ قالَ يَا أيّهَا الناسُ إنَّ مِنْكُمْ منَفِّرِينَ فَمَنْ أمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإنَّ خَلْفَهُ الضَعِيفَ والكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب الَّذِي سبق قبل الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن إِسْمَاعِيل، وَهَهُنَا: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقيل: مُحَمَّد بن يُوسُف: هُوَ أَبُو مُحَمَّد البُخَارِيّ البيكندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأول أصح، نَص عَلَيْهِ أَبُو نعيم. وَأَبُو مَسْعُود: هُوَ عقبَة ابْن عَمْرو البدري. قَوْله: (فِي موعظة) ، ويروى: (فِي مَوضِع) . قَوْله: (منفرين) ، ويروى: (المنفرين) ، بلام التَّأْكِيد، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث أبي وَاقد فَأخْرجهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم: عَن نَافِع بن سرجس قَالَ: عدنا أَبَا وَاقد اللَّيْثِيّ فَسَمعته يَقُول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخف النَّاس صَلَاة على النَّاس، فأطول النَّاس صَلَاة لنَفسِهِ) . وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: عَن أَبِيه سَمِعت ابْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَيّكُم أم النَّاس فليخفف، فَإِن فيهم الضَّعِيف وَالْكَبِير وَذَا الْحَاجة) . وَأما حَدِيث ابْن عمر فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا بِالتَّخْفِيفِ ويؤمنا) ، وَأما حَدِيث عُثْمَان فَأخْرجهُ مُسلم عَنهُ يرفعهُ: (من أم النَّاس فليخفف فَإِن فيهم الْكَبِير، وَإِن فيهم الضَّعِيف، وَإِن فيهم ذَا الْحَاجة فَإِذا صلى أحدكُم فَليصل كَيفَ شَاءَ) . وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْمَوَاضِع عمم الْخطاب وَلم يُخَاطب معَاذًا بِخُصُوصِهِ، وَقَالَ: (إِن مِنْكُم) ، وَفِي بَعْضهَا خصصه، وَقَالَ: (أفتَّان أَنْت؟) قلت: نظرا إِلَى الْمقَام، فَحَيْثُ بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن معَاذًا نَالَ مِنْهُ خاطبه بِالصَّرِيحِ، وَحَيْثُ لم يبلغهُ عممه تضعيفا للتعزير بِتَضْعِيف الجريمة.
705 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُحَارِبُ بنُ دِثَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله الأنْصَارِيّ قَالَ أقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذا يُصَلِّي فَتَرَكَ ناضِحَهُ وأقْبَلَ إلَيَّ مُعَاذٍ فَقَرأ بِسُورَةِ البَقَرَةِ أَو النِّساءِ فانْطَلَقَ الرّجُلْ وَبَلَغَهُ أنَّ معَاذًا نَالَ منْهُ فأتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشَكا إلَيْهِ مُعَاذا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا مُعَاذُ أفَتَّانٌ أنْتَ أوْ أفَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى والشمْسِ وضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَي فَإنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ والضَعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ أحْسِبُ هذَا فِي الحَدِيثِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ شكوى صَاحب الناضح إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من معَاذ حِين طول الصَّلَاة وَهُوَ إِمَام.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، قد ذكرُوا فِيمَا مضى، ومحارب، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء. و: دثار، بِكَسْر الدَّال: خلاف الشعار.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بناضحين) الناضح، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة: مَا اسْتعْمل من الْإِبِل فِي سقِِي النّخل وَالزَّرْع، وَهُوَ الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ. قَوْله: (وَقد جنح اللَّيْل) أَي: أقبل بظلمته، وَهُوَ بِفَتْح النُّون من بَاب: فتح يفتح. قَوْله: (فَقَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة) ، يُقَال: قَرَأَهَا وَقَرَأَ بهَا، لُغَتَانِ. قَوْله: (أَو النِّسَاء) الشَّك من محَارب، دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة: شكّ محَارب، وَبِهَذَا يرد على من زعم أَن الشَّك فِيهِ من جَابر. قَوْله: (وبلغه) أَي: بلغ الرجل، وَهُوَ صَاحب الناضح. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أفتان أَنْت؟) فتان صفة وَاقعَة بعد ألف الِاسْتِفْهَام رَافِعَة لظَاهِر، وَيجوز أَن يكون مبتدإ و: أَنْت، سَادًّا مسد الْخَبَر، وَيجوز أَيْضا أَن تكون: أَنْت مُبْتَدأ و: هُوَ، خَبره، و: فتان، صِيغَة مُبَالغَة. فاتن. وَقَوله: (أَو فاتن) على وزن: فَاعل، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (فلولا صليت) أَي: فَهَلا صليت. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ فَهَلا قَرَأت. وَقد(5/243)
علم أَن لَوْلَا تَأتي على أَرْبَعَة أوجه: مِنْهَا: أَن تكون للتخصيص وَالْعرض فتختص بالمضارع أَو مَا فِي تَأْوِيله. وَمِنْهَا: أَن تكون للتوبيخ والتنديم فتختص بالماضي. وَمِنْهَا: لربط امْتنَاع الثَّانِيَة بِوُجُود الأولى نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك. وَمِنْهَا: أَن تكون للاستفهام نَحْو: {لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب} (المُنَافِقُونَ: 10) . وَفِيه خلاف، وَهَهُنَا بِمَعْنى الْقسم، الثَّالِث، وَهُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى) الخ، فِيهِ دَلِيل على أَن أوساط الْمفصل إِلَى: وَالضُّحَى، لِأَن هَذِه الصَّلَاة صَلَاة الْعشَاء، وَالسّنة فِيهَا الْقِرَاءَة من أوساط الْمفصل لَا من قصاره، ثمَّ ذكر هَذِه السُّور الثَّلَاث لَيْسَ للتخصيص بِعَينهَا، لِأَن المُرَاد هَذِه الثَّلَاث أَو نَحْوهَا من الْقصار، كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات لفظ: وَنَحْوهَا. قَوْله: (أَحسب هَذَا فِي الحَدِيث) قَائِل: أَحسب، هُوَ شُعْبَة الرَّاوِي عَن محَارب، وَلَفْظَة: هَذَا، إِشَارَة إِلَى الْجُمْلَة الْأَخِيرَة. وَهِي قَوْله: (فَإِنَّهُ يُصَلِّي) إِلَى آخِره، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المحسوب هُوَ:: (فلولا صليت) إِلَى آخِره، لِأَن الحَدِيث بِرِوَايَة عَمْرو فِيمَا تقدم آنِفا انْتهى عِنْده حَيْثُ قَالَ: وَلَا أحفظهما. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: أَحسب يحْتَمل أَن يكون كَلَام محَارب أَو من بعده. قلت: قد بَين أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ أَن قَائِله شُعْبَة، كَمَا ذكرنَا، وَقد رَوَاهُ غير شُعْبَة من أَصْحَاب محَارب عَنهُ بِدُونِهَا، وَكَذَا أَصْحَاب جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: وَقيل: أَو إِنَّه من كَلَام البُخَارِيّ، وَأَن المُرَاد بِهِ لفظ: ذُو الْحَاجة، فَقَط. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه تخمين وحسبان، فَلذَلِك قَالَ: هُوَ لَكِن لم يتَحَقَّق لي ذَلِك لَا سَمَاعا وَلَا استنباطا من الْكتاب.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله وتَابَعَهُ سَعِيدُ بنُ مَسْرُوقٍ وَمِسْعَرٌ والشَّيْبَانِيُّ
أَي: تَابع شُعْبَة سعيد بن مَسْرُوق وَهُوَ وَالِد سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقد وصل رِوَايَته هَذِه أَبُو عوَانَة من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَنهُ. قَوْله: (ومسعر) ، بِالرَّفْع عطف على: سعيد، أَي: وتابع شُعْبَة أَيْضا مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن كدام الْكُوفِي، وَقد وصل رِوَايَته السراج: عَن زِيَاد بن أَيُّوب حَدثنَا أَبُو نعيم عَنهُ عَن محَارب بِلَفْظ: (فَقَرَأَ بالبقرة وَالنِّسَاء، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما يَكْفِيك أَن تقْرَأ بالسماء والطارق، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَنَحْو هَذَا؟) قَوْله: (والشيباني) ، بِالرَّفْع أَيْضا عطف على: مسعر، أَي: وتابع شُعْبَة أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان، واسْمه: فَيْرُوز الْكُوفِي، وَوصل رِوَايَته الْبَزَّار عَن محَارب ومتابعة هَؤُلَاءِ فِي أصل الحَدِيث لَا فِي جَمِيع أَلْفَاظه.
قَالَ عَمْرٌ ووَعُبَيْدُ الله بنُ مِقْسَمٍ وأبُو الزُّبَيْر عنّ جَابِرٍ قَرَأ مُعَاذٌ فِي العِشَاءِ بِالبَقَرَةِ
عَمْرو: هُوَ ابْن دِينَار، وَإِنَّمَا قَالَ: قَالَ عَمْرو، وَلم يقل: وَتَابعه، مثل مَا قَالَ فِي سابقه ولاحقه، لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لم يتابعوا أحدا فِي ذَلِك، أما رِوَايَة عَمْرو فقد تقدّمت فِي: بَاب إِذا طول الإِمَام، وَأما رِوَايَة عبيد الله بن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف: الْمدنِي فوصلها ابْن خُزَيْمَة عَن بنْدَار عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب، وَأما رِوَايَة أبي الزبير مُحَمَّد بن كنَانَة فوصلها عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ، وَهِي عِنْد مُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَنهُ، لَكِن لم يتَعَيَّن أَن السُّورَة الْبَقَرَة.
وتابَعَهُ الأعْمَشُ عنْ مُحَاربٍ
أَي: تَابع شُعْبَة سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن محَارب بن دثار، وَوصل رِوَايَته النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش عَن محَارب وَأبي صَالح، كِلَاهُمَا عَن جَابر بِطُولِهِ. وَقَالَ فِيهِ: (فطول بهم معَاذ وَلم يعين السُّورَة) ، وَالْفرق بَين المتابعتين أَعنِي السَّابِقَة واللاحقة أَن الأولى نَاقِصَة، إِذا لم يذكر المتابع عَلَيْهِ، والأخيرة كَامِلَة إِذا ذكره حَيْثُ قَالَ: عَن محَارب، وَالله أعلم.
64 - (بابُ الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإكْمَالِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إيجاز الصَّلَاة مَعَ إكمالها، أَي: إِكْمَال أَرْكَانهَا، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الإيجاز، فَقَط. وَمَعَ هَذَا هَذِه التَّرْجَمَة إِنَّمَا ثبتَتْ عِنْد الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا، وَلَيْسَت بموجودة فِي رِوَايَة البَاقِينَ.(5/244)
706 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوارِثِ قَالَ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوجِزُ الصَّلاَةَ ويُكْمِلُهَا (الحَدِيث 707 طرفه فِي: 868) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا فَإِن قلت: فعلى سُقُوط هَذِه التَّرْجَمَة، فَمَا وَجه مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث لترجمة الْبَاب السَّابِق؟ قلت: من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر فِي حَدِيث ذَلِك الْبَاب بالإيجاز، وَهَهُنَا فعله بِنَفسِهِ، فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الإيجاز مَعَ الْإِكْمَال مَنْدُوب لِأَنَّهُ ثَبت بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو المقعد، مر مرَارًا عديدة، وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب.
وَفِي إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْقَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَابْن مَاجَه وَلَفظه: (يوجز الصَّلَاة وَيتم الصَّلَاة) ، وَعند السراج: (يوجز فِي الصَّلَاة) ، وَفِي لفظ مُسلم: (كَانَ أتم النَّاس صَلَاة فِي إيجازه) . وَفِي لفظ: (أخف النَّاس صَلَاة فِي تَمام) ، وَفِي لفظ: (من أخف) ، وَفِي لفظ: (كَانَت صلَاته مُتَقَارِبَة) . وَكَانَت صَلَاة أبي بكر مُتَقَارِبَة، فَلَمَّا كَانَ عمر مد فِي صَلَاة الْفجْر. وَفِي لفظ: (مَا صليت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة أخف من صلَاته فِي تَمام رُكُوع وَسُجُود) ، وَفِي لفظ: (كَانَ إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، قَامَ حَتَّى تَقول قد أوهم، وَكَانَ يقْعد بَين السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نقُول قد أوهم) . قَوْله: (يوجز الصَّلَاة) من الإيجاز، وَهُوَ ضد الإطناب، والإكمال ضد النَّقْص.
65 - (بابُ منْ أخَفَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصّبِيِّ)
يجوز أَن يُضَاف: بَاب، إِلَى: من، الموصولة، وَيجوز أَن ينون على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا بَاب. قَوْله: (من أخف) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: تَرْجَمته من أخف، وَقَوله: أخف، على وزن أفعل، من الإخفاف، وَهُوَ التَّخْفِيف.
707 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا الولِيدُ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ عنْ يَحْيى بنِ أبي كَثِيرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ أبِي قَتَادَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأسْمَعُ بكاءَ الصَّبِي فأتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمِّهِ (الحَدِيث 707 طرفه فِي: 868) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ يعرف بالصغير، مر فِي: بَاب غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، مر فِي: بَاب وَقت الْمغرب. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير، وَقد مر أَيْضا. الْخَامِس: عبد الله بن أبي قَتَادَة أَبُو يحيى الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ. السَّادِس: أَبوهُ الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: عَن يحيى، وَفِي رِوَايَة بشر الْآتِيَة عَن يحيى الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي يحيى. وَفِيه: عَن عبد الله ابْن أبي قَتَادَة فِي رِوَايَة ابْن سَماع عَن الْأَوْزَاعِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي عبد الله ابْن أبي قَتَادَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي ودمشقي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مِسْكين عَن بشر بن بكر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن دُحَيْم عَن عمر بن عبد الْوَاحِد وَبشر بن بكر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنِّي لأَقوم فِي الصَّلَاة أُرِيد) وَفِي رِوَايَة بشر بن بكر: (لأَقوم إِلَى الصَّلَاة وَأَنا أُرِيد) ، وَالْوَاو فِي: وَأَنا أُرِيد، للْحَال. وَقَوله: أُرِيد، أَيْضا فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (أَن أطول) : أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: أُرِيد التَّطْوِيل فِي الصَّلَاة. قَوْله: (بكاء الصَّبِي) الْبكاء إِذا مددت أردْت بِهِ الصَّوْت الَّذِي يكون مَعَه، وَإِذا قصرت أردْت خُرُوج الدمع، وَهَهُنَا مَمْدُود لَا محَالة بِقَرِينَة: (فَأَسْمع) ، إِذْ السماع لَا يكون إلاّ فِي الصَّوْت. قَوْله: (فأتجوز) أَي: فأخفف. وَقَالَ ابْن سابط: التَّجَوُّز هُنَا: يُرَاد بِهِ تقليل الْقِرَاءَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان(5/245)
عَن أبي السَّوْدَاء النَّهْدِيّ: (عَن ابْن سابط: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى بِسُورَة نَحْو سِتِّينَ آيَة، فَسمع بكاء صبي فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَة بِثَلَاث آيَات) . قلت: ابْن سابط هُوَ: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن سابط الجُمَحِي، مَاتَ بِمَكَّة سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة. قَوْله: (كَرَاهِيَة) ، بِالنّصب على التَّعْلِيل مُضَاف إِلَى: أَن، المصدرية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز إِدْخَال الصَّبِي فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لاحْتِمَال أَن يكون الصَّبِي كَانَ مخلفا فِي بَيت يقرب من الْمَسْجِد. قلت: لَيْسَ هَذَا مَوضِع النّظر، لِأَن الظَّاهِر أَن الصَّبِي لَا يُفَارق أمه غَالِبا. وَفِيه: دلَالَة على جَوَاز صَلَاة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال. وَفِيه: دلَالَة على كَمَال شَفَقَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَصْحَابه، ومراعاة أَحْوَال الْكَبِير مِنْهُم وَالصَّغِير، وَبِه اسْتدلَّ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن الإِمَام إِذا كَانَ رَاكِعا فأحس بداخل يُرِيد الصَّلَاة مَعَه ينتظره ليدرك مَعَه فَضِيلَة الرَّكْعَة فِي جمَاعَة، وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ لَهُ أَن يحذف من طول الصَّلَاة لحَاجَة الْإِنْسَان فِي بعض أُمُور الدُّنْيَا كَانَ لَهُ أَن يزِيد فِيهَا لعبادة الله تَعَالَى، بل هَذَا أَحَق وَأولى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن هَذَا زِيَادَة عمل فِي الصَّلَاة بِخِلَاف الْحَذف. وَقَالَ ابْن بطال: وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك الشّعبِيّ وَالْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَظر مَا لم يشق على أَصْحَابه، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَالَ مَالك: لَا ينْتَظر لِأَنَّهُ يضر من خَلفه، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ السفاقسي عَن سَحْنُون: صلَاتهم بَاطِلَة. قلت: وَفِي (الذَّخِيرَة) من كتب أَصْحَابنَا: سمع الإِمَام فِي الرُّكُوع خَفق النِّعَال، هَل ينْتَظر؟ قَالَ أَبُو يُوسُف: سَأَلت أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى عَن ذَلِك فكرهاه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أخْشَى عَلَيْهِ أمرا عَظِيما يَعْنِي الشّرك وروى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه كره ذَلِك، وَعَن أبي مُطِيع: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا كَانَ ذَلِك مِقْدَار التسبيحة والتسبيحتين، وَقَالَ بَعضهم: يطول التسبيحات وَلَا يزِيد فِي الْعدَد، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفَّار: إِن كَانَ الجائي غَنِيا لَا يجوز، وَإِن كَانَ فَقِيرا يجوز انْتِظَاره. وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: إِن كَانَ الإِمَام عرف الجائي لَا ينتظره، وَإِن لم يعرفهُ فَلَا بَأْس بِهِ، إِذْ فِيهِ إِعَانَة على الطَّاعَة. وَقيل: إِن أَطَالَ الرُّكُوع لإدراك الجائي خَاصَّة وَلَا يُرِيد إطالة الرُّكُوع للتقرب إِلَى الله تَعَالَى، فَهَذَا مَكْرُوه، وَقيل: إِن كَانَ الجائي شريرا ظَالِما لَا يكره لدفع شَره.
تابَعَهُ بِشْرُ بنُ بَكْرٍ وابنُ المُبَارَكِ وَبَقِيَّةُ عنِ الأوزَاعِيِّ
أَي: تَابع الْوَلِيد بن مُسلم بن بشر بن بكر الشَّامي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة. وَبكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة. وَذكر البُخَارِيّ فِي: بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد، حَدِيث بشر مُسْندًا: حَدثنَا مُحَمَّد بن مِسْكين، قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكر، قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لأَقوم إِلَى الصَّلَاة) الحَدِيث. وَقَالَ بعض الشُّرَّاح فِي هَذَا الْموضع: هِيَ مَوْصُولَة عِنْد الْمُؤلف فِي كتاب الْجُمُعَة. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ وسهو، وَلَيْسَ الْأَمر إلاَّ كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَابْن الْمُبَارك) أَي: تَابع الْوَلِيد بن مُسلم أَيْضا عبد الله ابْن الْمُبَارك، ومتابعته هَذِه رَوَاهَا النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر، قَالَ: أخبرنَا عبد الله عَن الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِنِّي لأَقوم) الحَدِيث. قَوْله: (وَبَقِيَّة) أَي: وتابع الْوَلِيد بن مُسلم بَقِيَّة أَيْضا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن الْوَلِيد الكلَاعِي، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام: الْحَضْرَمِيّ، سكن حمص، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم وَالْبُخَارِيّ اسْتشْهد بِهِ، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وتابع مُسلم بن الْوَلِيد أَيْضا عمر بن عبد الْوَاحِد أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا عمر بن عبد الْوَاحِد وَبشر بن بكر عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي لأَقوم) الحَدِيث، وتابع الْوَلِيد أَيْضا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن سَمَّاعَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ.
708 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثنا شَرِيكُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يَقُولُ مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أخَ صَلاَةً ولاَ أتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(5/246)
وإنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفّفُ مَخَافَةَ أنْ تفْتَنَ أُمُّهُ (الحَدِيث 709 طرفه فِي: 710) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: البَجلِيّ الْكُوفِي، مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد التَّيْمِيّ. الثَّالِث: شريك بن عبد الله بن أبي نمير، أَبُو عبد الله الْقرشِي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ من أنفسهم، مَاتَ عَام أَرْبَعِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ كُوفِي وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون، وَقَالَ بَعضهم: والإسناد كُله مدنيون وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن خَالِد بن مخلد كُوفِي، كَمَا ذكرنَا، وَيُقَال لَهُ: الْقَطوَانِي أَيْضا، وقطوان محلّة على بَاب الْكُوفَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل ابْن جَعْفَر عَن شريك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخف) صفة للْإِمَام، وَصَلَاة نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (وَإِن كَانَ) ، إِن هَذِه لَفْظَة مُخَفّفَة وَأَصلهَا: وَأَنه، وَالضَّمِير فِيهِ للشان. قَوْله: (فيخفف) ، بَين مُسلم فِي رِوَايَة ثَابت مَحل التَّخْفِيف، وَلَفظه: (فَيقْرَأ بالسورة القصيرة) . قَوْله: (مَخَافَة) ، نصب على التَّعْلِيل مُضَاف إِلَى: أَن، المصدرية. قَوْله: (أَن تفتتن أمه) ، من الافتتان، أَي: تلتهي عَن صلَاتهَا لاشتغال قَلبهَا ببكائه، زَاد عبد الرَّزَّاق من مُرْسل عَطاء: (أَو تتركه فيضيع) . وَقَالَهُ الْكرْمَانِي: ويفتن من الثلاثي، وَمن الْأَفْعَال والتفعيل. وَالثَّالِث: (قلت) اشار بِهَذَا إِلَى ثَلَاثَة أوجه مِنْهُ الاول يفتن على صِيغَة الْمَجْهُول من فتن يفتن وَالثَّانِي من افتن على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا من التفتين، وَالَّذِي ذكرته من بَاب الافتعال، فَيكون على أَرْبَعَة أوجه.
709 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةَ أنَّ أنَسَ بنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وأنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا فاسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فأتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ منْ بُكَائِهِ (الحَدِيث 709 طرفه فِي: 710) .
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث أنس عَن عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ، عَن يزِيد بن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء، عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَرُوَاته كلهم بصريون.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن نصر بن عَليّ عَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (مِمَّا أعلم) ، كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، والعائد محذوفا. قَوْله: (وجد أمه) الوجد: الْحزن. قَالَ ابْن سَيّده: وجد الرجل وجدا ووجدا، كِلَاهُمَا عَن اللحياني: حزن. وَفِي (الفصيح) : وَوجدت فِي الْحزن وجدا، ومضارعه: يجد، وَحكى الْقَزاز عَن الْفراء: يجد، يَعْنِي بِضَم الْجِيم. وَفِي (الْمطَالع) : من موجدة أمه، أَي: من حبا إِيَّاه وحزنها لبكائه. قَالَ: وَقد رُوِيَ: (من وجد أمه) ، قَالَ بَعضهم: وَكَانَ ذكر الْأُم خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فَمن كَانَ فِي مَعْنَاهَا يلْتَحق بهَا، وَفِيه نظر، لِأَن غير الْأُم لَيْسَ كالأم فِي الموجدة، وَيفهم من قَوْله: (وَأَنا أُرِيد إطالتها) ، أَن من قصد فِي الصَّلَاة الْإِتْيَان بِشَيْء لَا يجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بِهِ، بل يسْتَحبّ، خلافًا لأَشْهَب، فَإِنَّهُ قَالَ: من نوى التَّطَوُّع قَائِما لَيْسَ لَهُ أَن يتمه جَالِسا.
710 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي عَدِيٍ عنْ سَعِيدٍ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ فأُرِيدُ إطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأتَجَوَّزُ مِمَّا أعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ (أُنظر الحَدِيث 709) .
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث أنس عَن مُحَمَّد بن بشار الملقب ببندار عَن مُحَمَّد بن أبي عدي وَاسم أبي عدي: إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ(5/247)
عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَرِجَاله كلهم بصريون. قَوْله: (مِمَّا أعلم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لما أعلم) ، بلام التَّعْلِيل.
وَقَالَ مُوسَى حدَّثنا أبانُ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ قَالَ حدَّثنا أنسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ
هَذَا تَعْلِيق، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَأَبَان هُوَ ابْن يزِيد الْعَطَّار.
وَفَائِدَة هَذَا التَّعْلِيق بَيَان سَماع قَتَادَة لَهُ من أنس، وَوَصله السراج فِي (مُسْنده) فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن جرير بن جبلة حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أبان بن يزِيد حَدثنَا قَتَادَة، فَذكره بِلَفْظ: (إِنِّي أقوم فِي الصَّلَاة وَأَنا أُرِيد إطالتها، فَأَسْمع بكاء الصَّبِي فأتجوز فِي صَلَاتي مِمَّا أعلم من شدَّة وجد أمه ببكائه) . وَفِي حَدِيث حميد وَعلي بن يزِيد عَنهُ: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جوز ذَات يَوْم فِي صَلَاة الْفجْر، فَقلت لَهُ: جوزت يَا رَسُول الله! قَالَ: سَمِعت بكاء صبي فَكرِهت أَن أشغل عَلَيْهِ أمه) . وَفِي لفظ: (سمع صَوت صبي وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فَخفف الصَّلَاة فظننا أَنه خفف رَحْمَة للصَّبِيّ من أجل أَن أمه فِي الصَّلَاة) . وَفِي حَدِيث ثَابت عَنهُ: (إِذا سمع بكاء الصَّبِي قَرَأَ بالسورة الْخَفِيفَة، أَو السُّورَة القصيرة، شكّ جَعْفَر بن سُلَيْمَان) .
66 - (بابُ إذَا صَلَّى ثُمَّ أمَّ قَوْما)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا صلى رجل مَعَ الإِمَام ثمَّ أم قوما وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، جَريا على عَادَته فِي ترك الْجَزْم بالحكم الْمُخْتَلف فِيهِ، وَالظَّاهِر أَن ميله إِلَى جَوَاز ذَلِك، فَحِينَئِذٍ يقدر الْجَواب لفظ: يجوز أَو يجزىء.
711 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وأبُو النُّعْمَانِ قَالَا حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ عَمْرِو بنِ دِينَار عنْ جَابِرٍ قَالَ كانَ مُعاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يَأتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد مروا غير مرّة، وَقد مر الْبَحْث فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ مُسْتَوفى.
67 - (بابُ مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أسمع النَّاس، وَهَذَا بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْمُؤَذّن وَغَيره مِمَّن يسمع النَّاس تَكْبِير الإِمَام فِي الصَّلَاة.
712 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ دَاوُدَ قالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا مَرِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَضَهُ الَّذِي ماتَ فِيهِ أتاهُ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فقالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ قُلْتُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ إنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي فَلاَ يَقْدِرُ عَلى القِرَاءَةِ قَالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَقُلْتُ مِثْلَهُ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَو الرَّابِعَةِ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ فَصَلَّى وخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ يَخُطُّ بِرِجْلَيْهِ الأرْضَ فَلَمَّا رَآهُ أبُو بَكْرٍ ذَهَبَ يَتأخَّرُ فأشَارَ إلَيْهِ أنْ صَلِّ فَتَأخَّرَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وقَعَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى جَنْبِهِ وأبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَبُو بكر يسمع النَّاس التَّكْبِير) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجُمُعَة. وَفِي: بَاب أهل الْعلم وَالْفضل أَحَق بِالْإِمَامَةِ.
قَوْله: (يُؤذنهُ) بِضَم الْيَاء من الإيذان، وَهُوَ الْإِعْلَام. قَوْله: (أسيف) أَي: رَقِيق الْقلب. قَوْله: (إِن يقم مقامك) ، وَقَالَ ابْن مَالك فِي بعض الرِّوَايَات: (إِن يقم مقامك يبكي) . قَوْله: (فَليصل) ، أَمر مجزوم، وَيجوز بِإِثْبَات الْيَاء فِيهِ فِي موضِعين، وَهُوَ من قبيل إِجْرَاء المعتل مجْرى الصَّحِيح، والاكتفاء بِحَذْف الْحَرَكَة.(5/248)
قَوْله: (يهادي) بِفَتْح الدَّال أَي: يمشي بَين اثْنَيْنِ مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا. قَوْله: (وَأَبُو بكر) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
تابَعَهُ مُحَاضِرٌ عنِ الأعْمَشِ
أَي: تَابع عبد الله بن دَاوُد محَاضِر عَن سُلَيْمَان عَن الْأَعْمَش، و: محَاضِر، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ وَبعد الْألف ضاد مُعْجمَة مَكْسُورَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن الْمُوَرِّع، بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَكسر الرَّاء: الْهَمدَانِي الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ.
68 - (بابٌ الرَّجُلُ يَأتَمُّ بالإمَامِ ويأتَمُّ النَّاسُ بِالمَأمُومِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الرجل الَّذِي يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ ويقتدي النَّاس بالمأموم الَّذِي اقْتدى بِالْإِمَامِ، وَالَّذِي يظْهر من هَذِه التَّرْجَمَة أَن البُخَارِيّ يمِيل إِلَى مَذْهَب الشّعبِيّ فِي ذَلِك، لِأَن الشّعبِيّ يرى أَن الْجَمَاعَة يتحملون عَن بَعضهم بَعْضًا مَا يتحمله الإِمَام، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ، فِيمَن أحرم قبل أَن يرفع الصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ رؤوسهم من الرَّكْعَة: إِنَّه أدْركهَا، وَلَو كَانَ الإِمَام رفع قبل ذَلِك، لِأَن بَعضهم لبَعض أَئِمَّة، فَهَذَا يدل على أَن كل وَاحِد من الْجَمَاعَة إِمَام للْآخر، مَعَ كَونهم مأمومين، وَأَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه يأتم بِالْإِمَامِ ويأتم النَّاس بِهِ فِي التَّبْلِيغ فَقَط. فَإِن قلت: ظَاهر حَدِيث الْبَاب السَّابِق يدل على أَن النَّاس كَانُوا مَعَ أبي بكر فِي مقَام التَّبْلِيغ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (وَأَبُو بكر يسمع النَّاس فِيهِ) . قلت: إسماع أبي بكر لَهُم التَّكْبِير جُزْء من أَجزَاء مَا يأتمون بِهِ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ نفي لغيره، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش فِي حَدِيث الْبَاب السَّابِق، وَفِيه: (وَالنَّاس يأتمون بِأبي بكر، وَأَبُو بكر يسمعهم) . وَمِمَّا يُؤَكد أَن ميل البُخَارِيّ إِلَى مَذْهَب الشّعبِيّ كَونه صدر هَذَا الْبَاب بِالْحَدِيثِ الْمُعَلق، فَإِنَّهُ صَرِيح فِي أَن الْقَوْم يأتمون بِالْإِمَامِ فِي الصَّفّ الأول، وَمن بعدهمْ يأتمون بهم، كَمَا نذكرهُ عَن قريب.
ويُذْكَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ائْتَمُّوا بِي ولْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ
هَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن الدَّارمِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الرقاشِي حَدثنَا بشر بن مَنْصُور عَن الْجريرِي عَن أبي نَضرة (عَن أبي سعيد: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى فِي أَصْحَابه تأخرا، فَقَالَ لَهُم: تقدمُوا فأئتموا بِي، وليأتم بكم من بعدكم، وَلَا يزَال قوم يتأخرون حَتَّى يؤخرهم الله تَعَالَى) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن عبد الله الْخُزَاعِيّ، قَالَا: حَدثنَا أَبُو الْأَشْهب عَن أبي نَضرة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... الحَدِيث، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
قَوْله: (ائتموا بِي) خطاب لأهل الصَّفّ الأول. قَوْله: (وليأتم بكم من بعدكم) مَعْنَاهُ عِنْد الْجُمْهُور: يستدلون بأفعالكم على أفعالي، لَا أَنهم يقتدون بهم، فَإِن الِاقْتِدَاء لَا يكون إِلَّا لإِمَام وَاحِد، وَمذهب من يَأْخُذ بِظَاهِرِهِ وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن.
وَفِيه: جَوَاز اعْتِمَاد الْمَأْمُوم فِي مُتَابعَة الإِمَام الَّذِي لَا يرَاهُ وَلَا يسمعهُ على مبلغ عَنهُ أَو صف قدامه يرَاهُ مُتَابعًا للْإِمَام.
قَوْله: (من) ، بِفَتْح الْمِيم، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل لقَوْله: (وليأتم) ، قَوْله: (وَلَا يزَال قوم يتأخرون) أَي: عَن الصَّفّ الأول حَتَّى يؤخرهم الله عَن عَظِيم فَضله أَو رفع مَنْزِلَته أَو نَحْو ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي، وَيذكر تَعْلِيق بِلَفْظ التمريض، قَالَ بَعضهم: هَذَا عِنْدِي لَيْسَ بصواب لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونه على غير شَرطه أَنه لَا يصلح للاحتجاج بِهِ عِنْده، بل قد يكون صَالحا للاحتجاج بِهِ عِنْده وَلَيْسَ هُوَ على شَرط صَحِيحه الَّذِي هُوَ على شُرُوط الصِّحَّة قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يخرم قَاعِدَته، لِأَنَّهُ إِذا لم يكن على شَرطه كَيفَ يحْتَج بِهِ؟ وإلاّ فَلَا فَائِدَة لذَلِك الشَّرْط، وَأَبُو نَضرة الَّذِي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، لَيْسَ على شَرطه، وَإِنَّمَا يصلح عِنْده للاستشهاد، وَلِهَذَا اسْتشْهد بِهِ عَن جَابر فِي كتاب الشُّرُوط على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَبُو نَضرة، بالنُّون الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: واسْمه الْمُنْذر بن مَالك الْعَوْفِيّ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْأَشْهب فِي مُسْند أبي دَاوُد واسْمه: جَعْفَر بن حبَان العطاردي السَّعْدِيّ الْبَصْرِيّ الْأَعْمَى، وَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.(5/249)
713 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الاسْوَدِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ لَما ثَقُلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ بِلاَلٌ يُؤذِنُهُ بِالصَّلاَةِ فَقَالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله إنَّ أبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّهُ مَتَى مَا يعمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ فَلَوْ أمَرْتَ عُمَرَ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ قُولِي إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أسِيفٌ وإنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعُ الناسَ فَلَوْ أمَرْتَ عُمَرَ قالَ إنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَ رسولُ الله فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فقامَ يُهَادِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ ورِجْلاَهُ يَخُطَّانِ فِي الأرْضِ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ فَلَمَّا سَمِعَ أبُو بَكْرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ أبُو بَكْرٍ يَتَأخَّرُ فأوْمأ إلَيْهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جَلَسَ عنْ يَسَارِ أبِي بَكْرٍ فَكَانَ أبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِما وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي قاعِدا يَقْتَدِي أبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسُ مُقْتَدُونَ بِصَلاَةِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَقْتَدِي أَبُو بكر بِصَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب حد الْمَرِيض أَن يشْهد الْجَمَاعَة، رَوَاهُ عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زَائِدَة عَن مُوسَى بن أبي عَائِشَة عَن عبيد الله بن عبد الله عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب من أسمع النَّاس تَكْبِير الإِمَام، عَن مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَقد مر الْكَلَام فِي مباحثه مُسْتَوْفِي. قَوْله: (يُؤذنهُ) أَي: يُعلمهُ. قَوْله: (مروا أَبَا بكر أَن يُصَلِّي) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مروا أَبَا بكر يُصَلِّي) . قَوْله: (مَتى مَا يقوم) ، هَكَذَا بِإِثْبَات الْوَاو فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَتى مَا يقم) ، بِالْجَزْمِ هَذَا على الأَصْل، لِأَن: مَتى، من كلم المجازاة، وَأما على رِوَايَة الْأَكْثَرين فشبهت: مَتى بإذا فأهملت كَمَا تشبه: إِذا بمتى، فتهمل كَمَا فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ. وتسبحا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتحمدا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) . قَوْله: (فَلَو أمرت) لَو، إِمَّا للشّرط وَجَوَابه مَحْذُوف، وَإِمَّا لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب. قَوْله: (تخطان فِي الأَرْض) . هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (تخطان الأَرْض) . قَوْله: (حسه) أَي: صَوته الْخَفي. قَوْله: (يتَأَخَّر) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ أَن لَا يتَأَخَّر. قَوْله: (حَتَّى جلس عَن يسَار أبي بكر) إِنَّمَا لم يجلس عَن الْيَمين، لِأَن الْيَسَار كَانَ من جِهَة حجرته، فَكَانَ أخف عَلَيْهِ. قَوْله: (مقتدون بِصَلَاة أبي بكر) على صِيغَة الْجمع باسم الْفَاعِل، ويروى: (يقتدون) ، بِصِيغَة الْمُضَارع.
69 - (بابٌ هِلْ يَأخُذُ الإمَامُ إذَا شَكَّ بِقَوْلِ الناسِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: هَل يَأْخُذ الإِمَام ... إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ: هَل يَأْخُذ الإِمَام بقول النَّاس إِذا شكّ، يَعْنِي فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يذكر الْجَواب لِأَنَّهُ مَشى على عَادَته أَن الحكم فِيهِ إِذا كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ لَا يذكرهُ بِالْجَزْمِ. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الإِمَام إِذا شكّ فِي صلَاته فَأخْبرهُ الْمَأْمُوم بترك رَكْعَة مثلا، هَل يرجع إِلَى قَوْله أم لَا؟ وَاخْتلف عَن مَالك فِي ذَلِك فَقَالَ مرّة: يرجع إِلَى قَوْلهم: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: وَقَالَ مرّة: يعْمل عمل يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابه. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شكّ بِإِخْبَار ذِي الْيَدَيْنِ، فَسَأَلَهُمْ إِرَادَة تَيَقّن أحد الْأَمريْنِ، فَلَمَّا صدقُوا ذَا الْيَدَيْنِ علم صِحَة قَوْله. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ البُخَارِيّ بتبويبه.
103 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك بن أنس عَن أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ)(5/250)
عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انْصَرف من اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصدق ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاس نعم فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصلى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثمَّ سلم ثمَّ كبر فَسجدَ مثل سُجُوده أَو أطول) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكّ فِيمَا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَرجع فِيهِ إِلَى قَول النَّاس وَهُوَ السَّبَب الظَّاهِر فِي ذَلِك وَإِن كَانَ يحْتَمل تذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَمر من تِلْقَاء نَفسه فَبنى عَلَيْهِ لَا على إِخْبَار النَّاس لِأَن هَذَا سَبَب خَفِي وَالشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ سببان ظَاهر وخفي فيسند إِلَى السَّبَب الظَّاهِر دون الْخَفي. (ذكر رِجَاله) قد ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه ذكر مَالك بنسبته إِلَى أَبِيه وَكَذَلِكَ أَيُّوب ذكر مَعَ نسبته إِلَى حرفته وَاسم أبي تَمِيمَة كيسَان وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وبصري وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَقد ذكرنَا مبَاحث هَذَا الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من كل شَيْء فِي بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَفِي بَاب التَّوَجُّه نَحْو الْقبْلَة قَوْله " انْصَرف من اثْنَتَيْنِ " أَي رَكْعَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ من الصَّلَاة الرّبَاعِيّة وَكَانَت إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء على مَا جَاءَ فِي لفظ البُخَارِيّ " صلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء " قَالَ ابْن سِيرِين سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَة وَلَكِن نسيت أَنا. وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد أكبر ظَنِّي أَنَّهَا الظّهْر وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي الْأَدَب وَفِي الْمُوَطَّأ الْعَصْر قَوْله " أصدق ذُو الْيَدَيْنِ " واسْمه الْخِرْبَاق بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة والهمزة فِي " أقصرت " للاستفهام عَن سَبَب تَغْيِير وضع الصَّلَاة وَنقص ركعاتها قَوْله " مثل سُجُوده " ظَاهره أَنه سَجْدَة وَاحِدَة وَلَكِن لفظ السُّجُود مصدر يتَنَاوَل السَّجْدَة والسجدتين والْحَدِيث الَّذِي يَأْتِي بعده يبين أَن المُرَاد سَجْدَتَانِ -
715 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ فَقَيلَ صلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سعد ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن عَمه أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عبد الله ابْن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله عَن بهز عَن شُعْبَة بِهِ، وَقَالَ: لَا أعلم أحدا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ، غير سعد بن إِبْرَاهِيم فَإِن قلت: روى ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا ابْن معِين حَدثنَا شُعَيْب بن أبي مَرْيَم حَدثنَا لَيْث وَابْن وهب عَن عبد الله الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ سَجْدَتي السَّهْو، قَالَ: وَكَانَ ابْن شهَاب يَقُول: إِذا عرف الرجل مَا نسي من صلَاته فأتمها فَلَيْسَ عَلَيْهِ سجدتا السَّهْو، لهَذَا الحَدِيث قلت: قَالَ مُسلم فِي التَّمْيِيز: قَول ابْن شهَاب، إِنَّه لم يسْجد يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، خطأ وَغلط، وَقد ثَبت أَنه سجد سَجْدَتي السَّهْو من رِوَايَة الثِّقَات ابْن سِيرِين وَغَيره.
70
- (بابٌ إذَا بَكَى الإمامُ فِي الصَّلاةِ
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا بَكَى الإِمَام فِي الصَّلَاة، يَعْنِي هَل تفْسد أم لَا؟ وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، لما فِيهِ من الْخلاف وَالتَّفْصِيل على مَا نذكرهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ إنَّمَا أشكُو بَثِّي وحُزْنِي إِلَى الله(5/251)
عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد تَابِعِيّ كَبِير لَهُ رِوَايَة، ولأبيه صُحْبَة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد الله بن شَدَّاد بن أُسَامَة بن الْهَاد الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ العثواري، من قدماء التَّابِعين. وَقَالَ فِي بَاب الشين: شَدَّاد بن الْهَاد، وَاسم الْهَاد: أُسَامَة بن عَمْرو، وَقيل لَهُ: الْهَاد، لِأَنَّهُ كَانَ يُوقد النَّار فِي اللَّيْل ليهتدي إِلَيْهِ الأضياف. وَقيل: الْهَاد، لقب جده عَمْرو، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل ابْن مُحَمَّد بن سعد سمع عبد الله بن شَدَّاد بِهَذَا، وَزَاد فِي صَلَاة الصُّبْح. وَأخرجه ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عبيد بن عُمَيْر، قَالَ: صلى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْفجْر فَافْتتحَ سُورَة يُوسُف فَقَرَأَ {وابيضت عَيناهُ من الْحزن فَهُوَ كظيم} (يُوسُف: 84) . فَبكى حَتَّى انْقَطع ثمَّ رَجَعَ) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن الْحسن وَأَبُو سعيد بن أبي عَمْرو أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق حَدثنَا حجاج، قَالَ: قَالَ ابْن جريج سَمِعت ابْن أبي مليكَة، يَقُول: أَخْبرنِي عَلْقَمَة بن وَقاص، قَالَ: كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقْرَأ فِي الْعَتَمَة بِسُورَة يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنا فِي مُؤخر الصَّفّ، حَتَّى إِذا جَاءَ ذكر يُوسُف سَمِعت نَشِيجه من مُؤخر الصَّفّ. قَوْله: (نَشِيجه) النشيج على وزن: فعيل، بِفَتْح النُّون وَكسر الشين الْمُعْجَمَة. وَفِي آخِره جِيم من: نشج الباكي ينشج نشجا: إِذا غص بالبكاء فِي حلقه، أَو تردد فِي صَدره وَلم ينتحب، وكل صَوت بَدَأَ كالنفحة فَهُوَ نشيج، ذكره أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) . وَفِي (الْمُحكم) : النشيج: أَشد الْبكاء، وَقيل: هِيَ فاقة يرْتَفع لَهَا النَّفس كالفواق، وَقَالَ أَبُو عبيد: النشيج هُوَ مثل بكاء الصَّبِي إِذا ردد صَوته فِي صَدره وَلم يُخرجهُ وَفِي (مجمع الغرائب) : هُوَ صَوته مَعَه توجع وتحزن. وَقَالَ السفاقسي: أجَاز الْعلمَاء الْبكاء فِي الصَّلَاة من خوف الله تَعَالَى وخشيته.
وَاخْتلفُوا فِي الأنين والتأوه قَالَ ابْن الْمُبَارك: إِذا كَانَ غَالِبا فَلَا بَأْس، وَعند أبي حنيفَة إِذا ارْتَفع تأوهه أَو بكاؤه فَإِن كَانَ من ذكر الْجنَّة وَالنَّار لم يقطعهَا، وَإِن كَانَ من وجع أَو مُصِيبَة قطعهَا، وَعَن الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر: لَا بَأْس بِهِ إلاّ أَن يكون كلَاما مفهوما، وَعَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ: يُعِيد صلَاته.
716 - حدَّثنا إسْمَاعيلُ قَالَ حَدثنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أم المُؤْمِنِينَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ مُرُوا أبِا بَكْرٍ يُصَلِّي بالناسِ قالَتْ عَائِشَةُ قُلْتُ إنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ فَقَالَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ للنَّاسِ قالَتْ عائِشَةُ لِحَفْصَةَ قُولِي لَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ إذَا قامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ الناسَ مِنَ البُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَهْ إنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ للناسِ قالَتْ حَفْصَةُ لَعَائِشَةَ مَا كُنْتُ لأِصِيبَ مِنْكِ خَيْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عَائِشَة أخْبرت فِيهِ أَن أَبَا بكر إِذا قَامَ فِي مقَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يبكي بكاء شَدِيدا حَتَّى لَا يسمع النَّاس قِرَاءَته من شدَّة الْبكاء. فَإِن قلت: هَذَا إِخْبَار عَمَّا سيقع وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه بَكَى قلت: هِيَ أخْبرت عَمَّا شاهدته من بكائه فِي صلَاته قبل ذَلِك، وقاست على هَذَا أَنه إِذا قَامَ مقَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يبكي أَشد من ذَلِك لرُؤْيَته خلو مَكَان النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ مَا عِنْده من الرقة وَسُرْعَة الْبكاء فَإِن قلت: مَا فِي الحَدِيث شَيْء يدل على أَن أَبَا بكر كَانَ إِمَامًا، فضلا عَن أَنه بكي وَهُوَ إِمَام؟ قلت: جَاءَ فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب عَن عَائِشَة: (قلت: يَا رَسُول الله إِن أَبَا بكر رجل رَقِيق، إِذا قَرَأَ الْقُرْآن لَا يملك دمعه) . فَثَبت بِهَذَا أَنه كَانَ يبكي إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، وَثَبت أَنه كَانَ إِمَامًا قبل أَن يَأْتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ قَرَأَ قبل ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِيهِ: فَاسْتَفْتَحَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر من الْقِرَاءَة، فَدلَّ ذَلِك على أَنه كَانَ يبكي وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، وَأَنه كَانَ يقْرَأ وَهُوَ إِمَام إِلَى وَقت مَجِيء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فطابق الحَدِيث التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. فَافْهَم. فَإِن أحدا مَا نبه على ذَلِك.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام مِمَّا لم نذكرهُ: أما رِجَاله فقد مر ذكرهم غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل بن أويس الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَكلهمْ(5/252)
مدنيون. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. قَوْله: (من الْبكاء) كلمة: من، للتَّعْلِيل أَي: لأجل الْبكاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي الْبكاء، أَي: لأجل الْبكاء، و: فِي، جَاءَ للسَّبَبِيَّة أَو هُوَ حَال، أَي: كَائِنا فِي الْبكاء، وَهُوَ من بَاب إِقَامَة بعض حُرُوف الْجَرّ مقَام بعض قلت: هَذَا إِنَّمَا يتَوَجَّه إِذا صحت رِوَايَة: فِي الْبكاء. قَوْله: (فَمر عمر فَليصل) ، ويروى: (يُصَلِّي) قَوْله: (بِالنَّاسِ) ويروى: (للنَّاس) . قَوْله: (فَفعلت) أَي: القَوْل الْمَذْكُور، وَلم تقل: فَقَالَت كَذَا وَكَذَا اختصارا. وَقَوله: (مَه) كلمة زجر، وَقد تقدم فِيمَا مضى.)
717 - حدَّثنا أبُو الوَلِيد هِشَامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ سالِمَ بنَ الجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي لفظ التَّسْوِيَة ظَاهِرَة وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق. قَوْله: (عِنْد الْإِقَامَة وَبعدهَا) ، وَلكنه أَشَارَ بذلك إِلَى مَا فِي بعض طرق الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك، وَقد روى مُسلم من حَدِيث النُّعْمَان قَالَ ذَلِك مَا كَاد أَن يكبر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: أَبُو عبد الله الجهمي، بِضَم الْجِيم: الْمرَادِي، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء: الْكُوفِي الْأَعْمَش، من الْأَئِمَّة العاملين، مَاتَ سنة عشرَة وَمِائَة. والجعد، بِفَتْح الْجِيم، وَبشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسمه وكنيته صَرِيحًا. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن الْمثنى وَابْن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لتسون) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: هَذِه اللَّام هِيَ الَّتِي يتلَقَّى بهَا الْقسم، وَالْقسم هُنَا مُقَدّر، وَلِهَذَا أكده بالنُّون الْمُشَدّدَة، وَقد أبرزه أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، حَدثنَا وَكِيع عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أبي الْقَاسِم الجدلي، قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يَقُول: (أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم، ثَلَاثًا، وَالله لتقيمن صفوفكم أَو ليخالفن الله فِي قُلُوبكُمْ) . الْحَدث، وأصل: لتسوون، لِأَنَّهُ من التَّسْوِيَة تَقول: تسوي تسويان تسوون، بِضَم الْوَاو الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة، وَالنُّون فِيهِ عَلامَة الْجمع، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ نون التَّأْكِيد الثَّقِيلَة حذفت نون الْجمع وَإِحْدَى الواوين لالتقاء الساكنين، فالمحذوف هُوَ: وَاو الْجمع، أَو: وَاو الْكَلِمَة؟ فِيهِ خلاف، وَقد علم فِي مَوْضِعه. وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (لتسوون) ، فالنون على هَذِه الرِّوَايَة نون الْجمع. فَإِن قلت: مَا معنى تَسْوِيَة الصُّفُوف؟ قلت: اعْتِدَال القائمين بهَا على سمت وَاحِد، وَيُرَاد بهَا أَيْضا سد الْخلَل الَّذِي فِي الصَّفّ على مَا سَيَأْتِي. قَوْله: (أَو ليخالفن الله) ، بِفَتْح اللَّام الأولى لِأَنَّهَا لَام التَّأْكِيد، وبكسر اللَّام الثَّانِيَة وَفتح الْفَاء، وَلَفظ: الله، مَرْفُوع بالفاعلية، وَكلمَة: أَو، فِي الأَصْل مَوْضُوعَة لأحد الشَّيْئَيْنِ أَو الْأَشْيَاء، وَقد تخرج إِلَى معنى: بل، وَإِلَى معنى: الْوَاو، وَهِي حرف عطف ذكر المتاخرون لَهَا مَعَاني كَثِيرَة، وَهَهُنَا لأحد الْأَمريْنِ، لِأَن الْوَاقِع أحد الْأَمريْنِ إِمَّا إِقَامَة الصُّفُوف وَإِمَّا الْمُخَالفَة. وَالْمعْنَى: ليخالفن الله إِن لم تُقِيمُوا الصُّفُوف، لِأَنَّهُ قَابل بَين الْإِقَامَة وَبَينه، فَيكون الْوَاقِع أحد الْأَمريْنِ، وَهَذَا وَعِيد لمن لم يقم الصُّفُوف بِعَذَاب من جنس ذنبهم لاختلافهم فِي مقامهم، وَقيل: يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء وَاخْتِلَاف الْقُلُوب، يُقَال: تغير وَجه فلَان عَليّ، أَي: ظهر لي من وَجهه كَرَاهِيَة فيَّ وَتغَير، لِأَن مخالفتهم فِي الصُّفُوف مُخَالفَة فِي الظَّاهِر، وَاخْتِلَاف الظَّاهِر سَبَب لاخْتِلَاف الْبَاطِن. وَقيل: هُوَ على حَقِيقَته، وَالْمرَاد(5/253)
تَشْوِيه الْوَجْه بتحويل خلقه عَن وَضعه بجعله مَوضِع الْقَفَا، وَهَذَا نَظِير الْوَعيد فِيمَن رفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يَجْعَل الله رَأسه راس حمَار، وَيُؤَيّد حمله على ظَاهره مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي أُمَامَة بِلَفْظ: (لتسون الصُّفُوف أَو لتطمسن الْوُجُوه) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ تَفْتَرِقُونَ فَيَأْخُذ كل وَاحِد وَجها غير الَّذِي أَخذ صَاحبه، لِأَن تقدم الشَّخْص على غَيره مَظَنَّة الْكبر الْمُفْسد للقلب الدَّاعِي إِلَى القطيعة، وَيُقَال: المُرَاد من الْوَجْه إِمَّا الذَّات فالمخالفة بِحَسب الْمَقَاصِد، وَإِمَّا الْعُضْو الْمَخْصُوص، فالمخالفة إِمَّا بِحَسب الصُّورَة الإنسانية وَغَيرهَا، وَإِمَّا بِحَسب الصّفة، وَإِمَّا بِحَسب القدام والوراء. قَوْله: (ليخالفن) ، من بَاب المفاعلة، وَلَكِن لَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة لِأَن مَعْنَاهُ: ليوقعن الله الْمُخَالفَة بِقَرِينَة لَفْظَة: بَين.
718 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَارِثِ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ عَنْ أنَسٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أقِيمُوا الصُّفُوفَ فإنِّي أرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِي
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْأَمر بِإِقَامَة الصُّفُوف هُوَ الْأَمر بالتسوية، وَرِجَاله قد مروا، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْبَصْرِيّ.
وَأخرجه مُسلم عَن شَيبَان عَن عبد الْوَارِث، وَعند النَّسَائِيّ: (كَانَ يَقُول: اسْتَووا اسْتَووا فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَاكُمْ من خَلْفي كَمَا أَرَاكُم بَين يَدي) .
قَوْله: (أقِيمُوا الصُّفُوف) أَي: عدلوا، يُقَال: أَقَامَ الْعود، أَي: عدله وسواه. قَوْله: (فَإِنِّي أَرَاكُم خلف ظَهْري) الْفَاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن سَبَب الْأَمر بذلك إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيق مِنْكُم خِلَافه، وَلَا يخفى ذَلِك على أَنِّي أرى من خلف ظَهْري، كَمَا إرى من بَين يَدي. ثمَّ إِن هَذَا يجوز أَن يكون إدراكا خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محققا انخرقت لَهُ الْعَادة وخلقت لَهُ عين وَرَاءه فَيرى بهَا، كَمَا ذكر مُخْتَار بن مُحَمَّد فِي رسَالَته الناصرية: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بَين كتفه عينان مثل سم الْخياط، فَكَانَ يبصر بهما، وَلَا تحجبهما الثِّيَاب. وَفِي حَدِيث: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى فِي الظلام كَمَا يرى فِي الضَّوْء. وَذكر بعض أهل الْعلم أَن ذَلِك رَاجع إِلَى الْعلم، وَأَن مَعْنَاهُ: لَا علم، وَهَذَا تَأْوِيل لَا حَاجَة إِلَيْهِ، بل حمل ذَلِك على ظَاهره أولى، وَيكون ذَلِك زِيَادَة فِي كرامات الشَّارِع، قَالَه الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ أَحْمد وَجُمْهُور الْعلمَاء: هَذِه الرُّؤْيَة رُؤْيَة الْعين حَقِيقَة وَلَا مَانع لَهُ من جِهَة الْعقل، وَورد الشَّرْع بِهِ فَوَجَبَ القَوْل بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بتسوية الصُّفُوف، وَهِي من سنة الصَّلَاة عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك، وَزعم ابْن حزم أَنه فرض، لِأَن إِقَامَة الصَّلَاة فرض، وَمَا كَانَ من الْفَرْض فَهُوَ فرض. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن تَسْوِيَة الصَّفّ من تَمام الصَّلَاة) . فَإِن قلت: الأَصْل فِي الْأَمر الْوُجُوب وَلَا سِيمَا فِيهِ الْوَعيد على ترك تَسْوِيَة الصُّفُوف، فَدلَّ على أَنَّهَا وَاجِبَة. قلت: هَذَا الْوَعيد من بَاب التَّغْلِيظ وَالتَّشْدِيد تَأْكِيدًا وتحريضا على فعلهَا، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَيْسَ بسديد. لِأَن الْأَمر المقرون بالوعيد يدل على الْوُجُوب، بل الصَّوَاب أَن يَقُول: فلتكن التَّسْوِيَة وَاجِبَة بِمُقْتَضى الْأَمر، وَلكنهَا لَيست من وَاجِبَات الصَّلَاة بِحَيْثُ أَنه إِذا تَركهَا فَسدتْ صلَاته أَو نقصتها. غَايَة مَا فِي الْبَاب إِذا تَركهَا يَأْثَم، وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُوكل رجَالًا بِإِقَامَة الصُّفُوف، فَلَا يكبر حَتَّى يخبر أَن الصُّفُوف قد اسْتَوَت، وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا كَانَا يتعاهدان ذَلِك ويقولان: اسْتَووا، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: تقدم يَا فلَان، وَتَأَخر يَا فلَان. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسَوِّي صُفُوفنَا إِذا قمنا للصَّلَاة وَإِذا استوينا كبر للصَّلَاة) ، وَلَفظ مُسلم: (كَانَ يُسَوِّي صُفُوفنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بهَا القداح، حَتَّى رأى أَنا قد غفلنا عَنهُ، خرج يَوْمًا حَتَّى كَاد أَن يكبر، فَرَأى رجلا باديا صَدره، فَقَالَ: عباد الله لتسونَّ صفوفكم) الحَدِيث.
72 - (بابُ إقْبَالِ الإمامِ النَّاسَ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُفُوفِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم إقبال الإِمَام، وَلَفظ الإقبال مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: النَّاس، بِالنّصب مَفْعُوله.
719 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبي رَجَاءِ قَالَ حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا زائِدَةُ(5/254)
بنُ قُدَامَةَ قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأقْبَلَ عَلَيْنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَجْهِهِ فَقَالَ أقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وتَرَاصُّوا فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن أبي رَجَاء، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْجِيم، وبالمد وَاسم أبي رَجَاء: عبد الله بن أَيُّوب أَبُو الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، مَاتَ بهراة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وقبره مشْهد يزار. الثَّانِي: مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، وَأَصله كُوفِي. الثَّالِث: زَائِدَة بن قدامَة، بِضَم الْقَاف: مر فِي: بَاب غسل الْمَذْي. الرَّابِع: حميد الطَّوِيل، بِضَم الْحَاء. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي جَمِيع الْإِسْنَاد، وَلم يَقع مثل هَذَا إِلَى هُنَا. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين هروي وبغدادي وكوفي وبصري. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن مُعَاوِيَة بن عَمْرو أَيْضا من شُيُوخ البُخَارِيّ، وَهُوَ من قدماء شُيُوخه، وروى لَهُ هَهُنَا بِوَاسِطَة أَحْمد بن أبي رَجَاء، وَالظَّاهِر أَنه لم يسمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ. وَفِيه: تَصْرِيح حميد بِالتَّحْدِيثِ عَن أنس، فأمن بذلك تدليسه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أقِيمُوا صفوفكم) : الْخطاب للْجَمَاعَة الْحَاضِرين لأَدَاء الصَّلَاة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِقَامَة الصُّفُوف: تسويتها. قَوْله: (وتراصوا) ، بِضَم الصَّاد الْمُشَدّدَة وَأَصله: تراصصوا، أدغمت الصَّاد فِي الصَّاد لِأَنَّهُمَا مثلان، فَوَجَبَ الْإِدْغَام وَمَعْنَاهُ: تضاموا وتلاصقوا حَتَّى يتَّصل مَا بَيْنكُم وَلَا يَنْقَطِع، وَأَصله من الرص، يُقَال: رص الْبناء يرصه رصا إِذا لصق بعضه بِبَعْض، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} (الصَّفّ: 4) . وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) و (صَحِيح ابْن حبَان) : من حَدِيث أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (رصوا صفوفكم وقاربوا بَينهَا وحاذوا بالأعناق، فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ أَنِّي لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ، كَأَنَّهُ الْحَذف) . والحذف، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره فَاء: وَهِي غنم صغَار سود تكون بِالْيمن، وفسرها مُسلم: بِالنَّقْدِ، بِالتَّحْرِيكِ، وَهِي جنس من الْغنم قصار الأرجل قباح الْوُجُود. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أَجود الصُّوف صوفها. وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا أَوْلَاد الْحَذف؟ قَالَ: ضَأْن جرد سود تكون بِأَرْض الْيمن) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَيُقَال: أَكثر مَا تكون بِأَرْض الْحجاز. قَوْله: (من وَرَاء ظَهْري) أَي: من خلف ظَهْري، وَهَهُنَا ذكر كلمة: من، بِخِلَاف الحَدِيث السَّابِق، والنكتة فِيهِ أَنه إِذا وجد من يكون صَرِيحًا فَإِن مبدأ الرُّؤْيَة ومنشأها من خلف بِأَن يخلق الله حاسة باصرة فِيهِ، وَإِذا عدم يحْتَمل أَن يكون منشؤها هَذِه الحاسة الْمَعْهُودَة، وَأَن تكون غَيرهَا مخلوقة فِي الوراء، وَلَا يلْزم رؤيتنا تِلْكَ الحاسة، إِذا الرُّؤْيَة إِنَّمَا هِيَ بِخلق الله تَعَالَى وإرادته.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز الْكَلَام بَين الْإِقَامَة وَبَين الصَّلَاة، وَوُجُوب تَسْوِيَة الصُّفُوف. وَفِيه: معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
73 - (بابُ الصَّفِّ الأَوَّلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ثَوَاب الصَّفّ الأول، وَاخْتلف فِي الصَّفّ الأول فَقيل: المُرَاد بِهِ مَا يَلِي الإِمَام مُطلقًا. وَقيل: المُرَاد بِهِ من سبق إِلَى الصَّلَاة وَلَو صلى آخر الصُّفُوف، قَالَه ابْن عبد الْبر. وَقيل: المُرَاد بِهِ أول صف تَامّ مسدود لَا يتخلله شَيْء مثل مَقْصُورَة وَنَحْوهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: القَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، وَبِه صرح الْمُحَقِّقُونَ، وَالْقَوْلَان الْآخرَانِ غلط صَرِيح. قلت: القَوْل الثَّانِي لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه أَحْمد: (وَأَن خير الصُّفُوف صُفُوف الرِّجَال الْمُقدم وشرها الْمُؤخر) الحَدِيث، وَالْقَوْل الثَّالِث لَهُ وَجه، لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث أنس أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره: (رصوا صفوفكم) ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَإِذا تخَلّل بَين الصَّفّ شَيْء ينْتَقض الرص، وَفِيه أَيْضا: (أَنِّي لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ) . وَأما كَون القَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح فوجهه أَن الأول إسم لشَيْء لم يسْبقهُ شَيْء وَلَا يُطلق على هَذَا إلاَّ على الصَّفّ الأول الَّذِي يَلِي الإِمَام مُطلقًا. فَإِن قلت: ورد فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب أخرجه أَحْمد: (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول أَو الصُّفُوف الأول) . قلت: لفظ الأول من الْأُمُور النسبية، فَإِن الثَّانِي أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِث، وَالثَّالِث أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّابِع، وهلم جرا ... وَلَكِن الأول الْمُطلق هُوَ الَّذِي لم يسْبقهُ شَيْء، ثمَّ الْحِكْمَة فِي التحريض والحث على الصَّفّ الأول الْمُطلق على وُجُوه:(5/255)
المسارعة إِلَى خلاص الذِّمَّة، والسبق لدُخُول الْمَسْجِد، والقرب من الإِمَام، واستماع قِرَاءَته والتعلم مِنْهُ، وَالْفَتْح عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجة، واحتياج الإِمَام إِلَيْهِ عِنْد الإستخلاف، والبعد مِمَّن يخترق الصُّفُوف، وسلامة الخاطر من رُؤْيَة من يكون بَين يَدَيْهِ، وخلوه مَوضِع سُجُوده من أذيال الْمُصَلِّين.
720 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عَنْ مالِكٍ عَن سُمَيِّ عَن أبي صالحٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّهَدَاءُ الغَرِقُ والمَطْعُونُ والمْبطُونُ والهَدِمُ. قَالَ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا ولَوْ حَبْوا ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأوَّلِ لاسْتَهَمُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَو يعلمُونَ مَا فِي الصَّفّ الأول لاستهموا) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: كلهم قد ذكرُوا، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل إسمه الضَّحَّاك بن مخلد، وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْقرشِي المَخْزُومِي أَبُو عبد الله الْمدنِي، مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني، فالبصري شيخ البُخَارِيّ وَالْبَاقُونَ مدنيون.
وَأخرج البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب فضل التهجير، عَن قُتَيْبَة عَن مَالك عَن سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بأتم مِنْهُ، وَلَفظه: (الشُّهَدَاء خمس: المطعون والمبطون والغريق وَصَاحب الْهدم والشهيد فِي سَبِيل الله) . وَفِيه: (والصف الأول) ، وَأخرجه فِي: بَاب الاستهام فِي الْأَذَان عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن سمي ... إِلَى آخِره، وَلَفظه: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء الأول والصف الأول ثمَّ لَا يَجدونَ إلاّ إِن يستهموا لاستهموا) الحَدِيث. وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: الشُّهَدَاء، وَذكرنَا فِي الْبَابَيْنِ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء. قَوْله: (الْغَرق) ، بِكَسْر الرَّاء بِمَعْنى: الغريق، (والمبطون) : هُوَ صَاحب الإسهال، (وَالْهدم) ، بِكَسْر الدَّال، وَقيل: بسكونها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ المهدوم. قلت: المهدوم هُوَ الَّذِي يهدم، وَأما الْهدم هُوَ الَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْهدم، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَصَاحب الْهدم، (والتهجير) : التبكير إِلَى كل شَيْء،. (وَالْعَتَمَة) صَلَاة الْعشَاء، و: الحبو، الزَّحْف على الأست. و: الاستهام: الاقتراع، و: الْمُقدم: ضد الْمُؤخر، وَهُوَ أَيْضا أَمر نسبي، ويروى: الصَّفّ الأول، فَإِن أردْت الإمعان فِي الْكَلَام فَعَلَيْك بِمَا فِي الْبَابَيْنِ الْمَذْكُورين.
74 - (بابٌ إقامةُ الصَّف مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِقَامَة الصَّفّ، وَهِي تسويته من تَمام الصَّلَاة، وَسَنذكر مَا المُرَاد من: تَمام الصَّلَاة.
722 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَن أبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ وإذَا سجَدَ فاسْجُدُوا وإذَا صَلَّى جَالِسا فَصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ وأقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصلاةِ فإنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصلاةِ (الحَدِيث 722 طرفه فِي: 734) .
ذكر البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة: من تَمام الصَّلَاة، وَفِي الحَدِيث: (من حسن الصَّلَاة) وَفِي حَدِيث أنس فِي الْبَاب: (فَإِن تَسْوِيَة الصُّفُوف من إِقَامَة الصَّلَاة) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ وَسليمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سووا صفوفكم فَإِن تَسْوِيَة الصَّفّ من تَمام الصَّلَاة) . وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عُثْمَان الدَّارمِيّ، كِلَاهُمَا عَنهُ، وَكَذَا مُسلم وَغَيره من طَرِيق جمَاعَة عَن شُعْبَة، ثمَّ تَوْجِيه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وحديثي الْبَاب من حَيْثُ إِن المُرَاد من الْحسن هُوَ الْكَمَال، لِأَن حسن الشَّيْء زَائِد على حَقِيقَته، فَتعين تَقْدِير هَذَا اللَّفْظ فِي التَّرْجَمَة هَكَذَا بَاب: إِقَامَة الصَّفّ من كَمَال تَمام الصَّلَاة أَو من حسن تَمام الصَّلَاة، وَلَا خَفَاء أَن تَسْوِيَة الصَّفّ لَيست من حَقِيقَة الصَّلَاة، وَإِنَّمَا هِيَ من حسنها وكمالها، وَإِن كَانَت هِيَ فِي نَفسهَا سنة أَو وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة على اخْتِلَاف الْأَقْوَال.(5/256)
وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي حَدِيث أنس: فَإِن تَسْوِيَة الصُّفُوف لَيست من إِقَامَة الصَّلَاة؟ لِأَن الصَّلَاة تُقَام بغَيْرهَا، وَالتَّقْدِير: فَإِن تَسْوِيَة الصُّفُوف من كَمَال إِقَامَة الصَّلَاة، وَقد تكلّف بعض الشُّرَّاح هَهُنَا بِكَلَام لَا طائل تَحْتَهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْجعْفِيّ المسندي، مَاتَ فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام أَبُو بكر الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: همام بن مُنَبّه الْيَمَانِيّ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ويمانيين.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَقد مضى فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا فِي موضِعين: أَحدهمَا: عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، لَكِن أَوله: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيته وَهُوَ شاكٍ فصلى وَهُوَ قَاعد وَصلى وَرَاءه قوم قيَاما، فَأَشَارَ عَلَيْهِم أَن اجلسوا، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، فَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا رفع فارفعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . انْتهى. وَالْآخر: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأوله: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركب فرسا فصرع عَنهُ، فجحش عَن شقَّه الْأَيْمن، فصلى صَلَاة من الصَّلَوَات وَهُوَ قَاعد فصلينا وَرَاءه قعُودا، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) ، إِلَى قَوْله: (أَجْمَعُونَ) . نَحوه مَعَ بعض تفَاوت فِي الْمَتْن يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة. قَوْله: (أقِيمُوا الصَّفّ) أَي: سووا وأعدلوا.
723 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلاَةِ
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْوَلِيد هُوَ: هِشَام بن عبد الْملك.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، وَكِلَاهُمَا عَن غنْدر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَفِيه: عَن أبي الْوَلِيد وَسليمَان بن حَرْب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار عَن يحيى وَعَن نصر بن عَليّ عَن أَبِيه وَبشر بن عمر.
قَوْله: (فَإِن تَسْوِيَة الصُّفُوف) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (الصَّفّ) بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (من إِقَامَة الصَّلَاة) ، كَذَا ذكره البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد، وَذكره غَيره عَنهُ بِلَفْظ: (من تَمام الصَّلَاة) ، وَتمسك ابْن بطال بِظَاهِر لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فاستدل بِهِ على أَن تَسْوِيَة الصَّفّ سنة. قَالَ: لِأَن حسن الشَّيْء زِيَادَة على تَمَامه، وَأورد عَلَيْهِ رِوَايَة: من تَمام الصَّلَاة، وَأجَاب ابْن دَقِيق الْعِيد، قَالَ: قد يُؤْخَذ من قَوْله: (تَمام الصَّلَاة) ، الِاسْتِحْبَاب. لِأَن تَمام الشَّيْء فِي الْعرف أَمر زَائِد على حَقِيقَته الَّتِي لَا يتَحَقَّق إلاَّ بهَا، وَإِن كَانَ يُطلق بِحَسب الْوَضع على بعض مَا لَا تتمّ الْحَقِيقَة إلاَّ بِهِ. قلت: وَفِيه: نظر، لِأَن أَلْفَاظ الشَّرْع لَا تسْتَعْمل بِحَسب الْعرف، بل الَّذِي يدل على الِاسْتِحْبَاب مَا ذَكرْنَاهُ، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال، وَهُوَ متصف بِصفة الْكَمَال.
75 - (بابُ إثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من لَا يتم الصُّفُوف عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة.
724 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ أسَدٍ قَالَ أخبرنَا الفَضْلُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا سَعِيدُ بنُ عُبَيْدٍ الطائيُّ عَنْ بُشَيْرِ بنِ يَسَارٍ الأنْصَارِيِّ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ قَدِمَ المَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ مَا أنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يوْمِ عَهِدْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا انْكَرْتُ شَيئا إلاّ أنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ.
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أنسا حصل مِنْهُ الْإِنْكَار على عدم إقامتهم الصُّفُوف، وإنكاره يدل على أَنه يرى تَسْوِيَة الصُّفُوف وَاجِبَة، فتارك الْوَاجِب آثم. وَظَاهر تَرْجَمَة البُخَارِيّ يدل على أَنه أَيْضا يرى وجوب التَّسْوِيَة، وَالصَّوَاب(5/257)
هَذَا لوُرُود الْوَعيد الشَّديد فِي ذَلِك. قيل: الْإِنْكَار قد يَقع على ترك السّنة فَلَا يدل ذَلِك على حُصُول الْإِثْم. قلت: الْإِنْكَار يسْتَلْزم الْمُنكر وفاعل الْمُنكر آثم، على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالتسوية. وَالْأَصْل فِي الْأَمر الْوُجُوب إلاَّ إِذا دلّت قرينَة على غَيره، وَمَعَ وُرُود الْوَعيد على تَركهَا وإنكار أنس ظَاهر فِي أَنهم خالفوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِقَامَة الصُّفُوف، فعلى هَذَا تَسْتَلْزِم الْمُخَالفَة التأثيم. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ ضَعِيف لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنه لَا يبْقى شَيْء مسنون لِأَن التأثيم إِنَّمَا يحصل من ترك وَاجِب. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل ضَعِيف، بل هُوَ كَلَام الْفساد لأَنا لَا نسلم إِن حُصُول التأثيم منحصر على ترك الْوَاجِب، بل التأثيم يحصل أَيْضا عَن ترك السّنة، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت مُؤَكدَة، وَمَعَ الْقَوْم بِوُجُوب التَّسْوِيَة فَتَركهَا لَا يضر صلَاته لِأَنَّهَا خَارِجَة عَن حَقِيقَة الصَّلَاة، أَلا ترى أَن أنسا، مَعَ إِنْكَاره عَلَيْهِم، لم يَأْمُرهُم بِإِعَادَة الصَّلَاة، وَلَا يعْتَبر مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم من بطلَان صلَاته مستدلاً بِمَا صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه ضرب قدم أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ لإِقَامَة الصَّفّ، وَبِمَا صَحَّ عَن سُوَيْد ابْن غَفلَة قَالَ: كَانَ بِلَال يُسَوِّي مناكبنا وَيضْرب أقدامنا فِي الصَّلَاة، فَقَالَ ابْن حزم: مَا كَانَ عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الْوَاجِب. قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لجَوَاز أَنَّهُمَا كَانَا يريان التَّعْزِير على ترك السّنة قلت: فِي هَذَا النّظر نظر، لِأَن قَائِله قد نَاقض فِي قَوْله حَيْثُ قَالَ، فِيمَا مر عَن قريب: التأثيم إِنَّمَا يحصل عَن ترك وَاجِب، فَإِذا لم يكن تَارِك السّنة آثِما فَكيف يسْتَحق التَّعْزِير؟ بل الظَّاهِر أَن ضربهما كَانَ لترك الْأَمر الَّذِي ظَاهره الْوُجُوب، ولاستحقاق الْوَعيد الشَّديد فِي التّرْك.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ، بِضَم الْمِيم: ابْن أَسد أَبُو عبد الله الْمروزِي نزل الْبَصْرَة. الثَّانِي: الْفضل بن مُوسَى الْمروزِي السينَانِي، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى: نِسْبَة إِلَى سينان، قَرْيَة من قرى مرو، مَاتَ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: سعيد بن عبيد الطَّائِي أَبُو الْهُذيْل الْكُوفِي. الرَّابِع: بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: الْمدنِي مولى الْأَنْصَار. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: بشير الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ فِي الْكتب السِّتَّة عَن أنس غير هَذَا الحَدِيث. والْحَدِيث أخرجه أَيْضا من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي ومدني، وتابع الْفضل أَبُو مُعَاوِيَة وَإِسْحَاق الْأَزْرَقِيّ عَن سعيد، كَمَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَنْهُمَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنه قدم الْمَدِينَة) ، أَي: من بصرة. قَوْله: (مَا أنْكرت) ، أَي: أَي شَيْء أنْكرت منا مُنْذُ يَوْم عهِدت؟ وَقد علمت أَن: مُنْذُ ومذ، حرفا جر، وَهُوَ الصَّحِيح. وَقيل: إسمان مضافان، فَيكون بِمَعْنى: من، إِن كَانَ الزَّمَان مَاضِيا وَبِمَعْنى: فِي، إِن كَانَ حَاضرا، وَبِمَعْنى: من وَإِلَى جَمِيعًا، إِن كَانَ معدودا نَحْو: مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْم الْخَمِيس أَو مُنْذُ يَوْمنَا أَو عامنا أَو مُنْذُ ثَلَاثَة أَيَّام، وَالْمعْنَى هَهُنَا: مَا أنْكرت منا من يَوْم عهِدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَالْمَذْكُور فِي الْمَتْن رِوَايَة الْكشميهني وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (مَا أنْكرت مُنْذُ يَوْم عهِدت؟) بِغَيْر لفظ منا. قَوْله: (مَا أنْكرت شَيْئا) إِلَى آخِره، يدل على أَن إِنْكَاره على ترك الْوَاجِب أَو السّنة الْمُؤَكّدَة، فَلذَلِك بوب البُخَارِيّ بالترجمة الْمَذْكُورَة.
وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عُبَيْدٍ عَنْ بُشَيْرِ بنِ يَسَارٍ قَدِمَ عَلَيْنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ المَدِينَةَ بِهَذَا
عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف: أَخُو سعيد بن عبيد، رَاوِي الْإِسْنَاد الَّذِي قبله، وَلَيْسَ للْبُخَارِيّ عَن عقبَة إلاَّ هَذَا الْمُعَلق، ويكنى عقبَة بِأبي الرّحال، بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة، وَقد وصل هَذَا الْمُعَلق أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن أبي بكر بن مَالك عَن عبد الله بن أَحْمد عَن أَبِيه، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة وَيحيى بن سعيد، قَالَا: حَدثنَا عقبَة بن عبيد فَذكره وَوَصله أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده عَن يحيى الْقطَّان عَن عقبَة بن عبيد الطَّائِي، حَدثنِي بشير بن يسَار، قَالَ: (جَاءَ أنس إِلَى الْمَدِينَة فَقُلْنَا: مَا أنْكرت منا من عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: مَا أنْكرت مِنْكُم شَيْئا غير أَنكُمْ لَا تقيمون الصُّفُوف) . وَهَذِه الْمُقدمَة لأنس غير الْمُقدمَة الَّتِي تقدم ذكرهَا فِي: بَاب وَقت الْعَصْر، فَإِن ظَاهر الحَدِيث فِيهَا أَنه أنكر تَأْخِير الظّهْر إِلَى أول وَقت الْعَصْر، وَهَذَا الْإِنْكَار أَيْضا غير الْإِنْكَار الَّذِي تقدم ذكره فِي: بَاب تَضْييع الصَّلَاة عَن وَقتهَا، حَيْثُ قَالَ: لَا أعرف شَيْئا مِمَّا كَانَ(5/258)
على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الصَّلَاة وَقد ضيعت. فَإِن ذَلِك كَانَ بِالشَّام، وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ، فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر هَذَا الْمُعَلق وَمَا الْفرق بَين الطَّرِيقَيْنِ؟ قلت: الْجَواب عَن الأول: أَن البُخَارِيّ أَرَادَ بِذكر الطَّرِيق الثَّانِي بَيَان سَماع بشير بن يسَار لَهُ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن الثَّانِي: أَنه فِي الأول روى عَن أنس، وَفِي الثَّانِي مَا روى عَنهُ، بل شَاهد بِنَفسِهِ الْحَال.
76 - (بابُ الصَاقِ المَنْكِبِ بِالمَنْكِبِ والقَدَم بالقَدَمِ فِي الصَّفِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إلصاق الْمنْكب بالمنكب ... إِلَى آخِره، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْمُبَالغَة فِي تَعْدِيل الصُّفُوف وسد الْخلَل فِيهِ، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي ذَلِك. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُحَمَّد بن مُسلم بن السَّائِب صَاحب (الْمَقْصُورَة) قَالَ: (صليت إِلَى جنب أنس بن مَالك يَوْمًا فَقَالَ: هَل تَدْرِي لم صنع هَذَا الْعود؟ فَقلت: لَا وَالله. قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضع يَده عَلَيْهِ وَيَقُول: اسْتَووا وَعدلُوا صفوفكم) . ثمَّ قَالَ: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا حميد الْأسود حَدثنَا مُصعب بن ثَابت عَن مُحَمَّد بن مُسلم عَن أنس بن مَالك بِهَذَا الحَدِيث قَالَ: (إِن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة أَخذه بِيَمِينِهِ ثمَّ الْتفت فَقَالَ: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثمَّ أَخذه بيساره، وَقَالَ اعتدلوا سووا صفوفكم) . وَفِي لفظ: (رصوا صفوفكم وقاربوا بَينهَا وحاذوا الْأَعْنَاق) ، الحَدِيث. وَفِي لفظ: (أَتموا الصَّفّ الْمُقدم ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ من نقص فَلْيَكُن فِي الصَّفّ الْمُؤخر) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : عَن الْبَراء بن عَازِب (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَلَّل الصَّفّ من نَاحيَة إِلَى نَاحيَة يمسح صدورنا ومناكبنا وَيَقُول: لَا تختلفوا فتختلف قُلُوبكُمْ) ، وَفِي لفظ: (فيمسح عواتقنا وصدورنا) ، وَعند السراج: (مناكبنا أَو صدورنا) ، وَفِي لفظ: (كَانَ يَأْتِي من نَاحيَة الصَّفّ إِلَى ناحيته القصوى بَين صُدُور الْقَوْم ومناكبهم) ، وَفِي لفظ: (يمسح عواتقنا أَو قَالَ: مناكبنا، أَو قَالَ صدورنا وَيَقُول: لَا تخْتَلف صدوركم فتختلف قُلُوبكُمْ) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي مَسْعُود: (كَانَ يمسح مناكبنا فِي الصَّلَاة وَيَقُول: اسْتَووا وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبكُمْ) الحَدِيث. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثا عيس بن ابراهيم الغافقى حَدثنَا ابْن وهب وَحدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا اللَّيْث وَحَدِيث ابْن وهب اتم من مُعَاوِيَة بن صَالح عَن ابى الزَّاهِرِيَّة عَن كثير بن مرّة عَن عبد الله بن عمر قَالَ قُتَيْبَة عَن ابى الزاهربة عَن ابى شَجَرَة لم يذكر ابْن عمر ان رسوا الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (اقيموا الصُّفُوف) بَين المناكب وسدوا الْخلَل، ولينوا بأيدي إخْوَانكُمْ وَلَا تذروا فرجات للشَّيْطَان، وَمن وصل صفا وَصله الله، وَمن قطع صفا قطعه الله) . قلت: ابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب وَأَبُو الزَّاهِرِيَّة: حدير بن كريب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، وَأَبُو شَجَرَة: هُوَ كثير بن مرّة. قَوْله: (ولينوا بأيدي إخْوَانكُمْ) قَالَ أَبُو دَاوُد: مَعْنَاهُ إِذا جَاءَ رجل إِلَى الصَّفّ فَذهب يخل فِيهِ فَيَنْبَغِي أَن يلين لَهُ كل رجل مَنْكِبه حَتَّى يدْخل فِي الصَّفّ. قَوْله: (وَلَا تذروا) أَي: وَلَا تتركوا.
وَقَالَ النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ
النُّعْمَان بن بشير بن سعيد بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ الخزرجي أَبُو عبد الله الْمدنِي صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَابْن صَاحبه، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْأَنْصَار بعد قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ يحيى بن معِين: أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ: لم يسمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأهل الْعرَاق يصححون سَمَاعه مِنْهُ، قتل فِيمَا بَين دمشق وحمص يَوْم راهط، وَكَانَ زبيريا. وَعَن أبي مسْهر: كَانَ عَاملا على حمص لِابْنِ الزبير، فَلَمَّا تمرد أهل حمص خرج هَارِبا فَاتبعهُ خَالِد بن عدي فَقتله، وَقيل: قتل فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسلمية، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن زَكَرِيَّا ب أبي زَائِدَة عَن أبي الْقَاسِم الجدلي، قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان بن بشير يَقُول: (أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على النَّاس بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (أقِيمُوا صفوفكم ثلاثاد وَالله لتقيمن صفوفكم أَو ليخالفن الله بَين قُلُوبكُمْ. فَقَالَ: فَرَأَيْت الرجل يلزق مَنْكِبه بمنكب صَاحبه وركبته بركبة صَاحبه وكعبه بكعبه) . وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَأَبُو الْقَاسِم الجدلي: اسْمه الْحُسَيْن بن الْحَارِث الْمَنْسُوب إِلَى جديلة قيس الْكُوفِي. قَوْله: (لتقيمن) بِضَم الْمِيم لِأَن أَصله: لتقيمون، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ نون التَّأْكِيد حذفت الْوَاو لالتقاء الساكنين. قَوْله: (أَو ليخالفن الله) : اللَّام الأولى للتَّأْكِيد مَفْتُوحَة، وَالْفَاء مَفْتُوحَة. قَوْله: (يلزق) ، بِضَم الْيَاء: من الإلزاق أَي: يلصق. قَوْله: (كَعبه بكعب صَاحبه) ، أَي: يلزق كَعبه بكعب صَاحبه الَّذِي بحذائه.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الكعب(5/259)
هُوَ الْعظم الناتىء فِي مفصل السَّاق والقدم، وَهُوَ الَّذِي يُمكن إلزاقه، وَقَالَ بَعضهم، خلافًا لمن ذهب: إِلَى أَن المُرَاد بالكعب مُؤخر الْقدَم، وَهُوَ قَول شَاذ ينْسب إِلَى بعض الْحَنَفِيَّة. قلت: هِشَام روى عَن مُحَمَّد بن الْحسن هَذَا التَّفْسِير، وَلكنه مَا أَرَادَ بِهَذَا الَّذِي فِي بَاب الْوضُوء، وَإِنَّمَا مُرَاده الَّذِي فِي بَاب الْحَج، فنسبة هَذَا إِلَى بعض الْحَنَفِيَّة على هَذَا غير صَحِيحَة.
725 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَن أنَسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وكانَ أحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكبَهُ بِمَنْكِبِ صاحِبِهِ وقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ. (أنظر الحَدِيث 718 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد مضوا غير مرّة، وَعَمْرو بن خَالِد بن فروخ الْحَرَّانِي الْجَزرِي سكن مصر، وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة، وَحميد الطَّوِيل، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم فَصرحَ فِيهِ بتحديث أنس لحميد، وَفِيه الزِّيَادَة الَّتِي فِي آخِره، وَهِي قَوْله: وَكَانَ أَحَدنَا ... إِلَى آخِره. وَصرح بِأَنَّهَا من قَول أنس. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة معمر عَن حميد بِلَفْظ: قَالَ أنس: فَلَقَد رَأَيْت أَحَدنَا ... إِلَى آخِره، وَزَاد مُعْتَمر فِي رِوَايَته: (وَلَو فعلت ذَلِك بأحدهم الْيَوْم لنفر كَأَنَّهُ بغل شموص) .
77 - (بابٌ إِذا قامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإمَامِ وَحَوَّلَهُ الإمامُ خَلْفَهُ إلَى يَمِينِهِ تَمَّتْ صلاتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا قَامَ ... إِلَى آخِره. وَقَوله: (تمت صلَاته) ، جَوَاب: إِذا، يَعْنِي: لَا يضر صلَاته. وَقَوله: (خَلفه) ، مَنْصُوب بالظرفية، أَي: فِي خَلفه، أَو بِنَزْع الْخَافِض أَي: من خَلفه، وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الإِمَام. قَالَ الْكرْمَانِي: أَو إِلَى الرجل، لَا يُقَال: الإِمَام أقرب، فَهُوَ أولى، لِأَن الْفَاعِل، وَإِن تَأَخّر لفظا، لكنه مقدم رُتْبَة، فَلِكُل مِنْهُمَا قرب من وَجه، فهما متساويان قلت: الأولى أَن يكون الضَّمِير للْإِمَام، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يحوله من خَلفه، ويحترز بِهِ من أَن يحوله من بَين يَدَيْهِ، وَلَا معنى لتحويله من خلف الرجل. وَقَوله: (تمت صلَاته) أَي: صَلَاة الْمَأْمُوم، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا حَيْثُ لم يكن يعلم فِي ذَلِك الْوَقْت موقفه، وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير للْإِمَام فَلَا تفْسد صلَاته، لِأَن تحويله إِيَّاه لم يكن عملا كثيرا مَعَ أَنه كَانَ فِي مقَام التَّعْلِيم والإرشاد، وَقد مر قبل هَذَا الْبَاب بِعشْرين بَابا: بَاب إِذا قَامَ الرجل عَن يسَار الإِمَام فحوله الإِمَام إِلَى يَمِينه، لم تفْسد صلاتهما، وَهَذِه التَّرْجَمَة مثل تَرْجَمَة هَذَا الْبَاب الَّذِي هُنَا، غير أَنه لم يذكر لفظ: خَلفه، هُنَاكَ وفيهَا قَالَ: لم تفْسد صلاتهما، وَهَذَا يدل على جَوَاز رُجُوع الضَّمِير فِي قَوْله: (تمت صلَاته) إِلَى الْمَأْمُوم وَإِلَى الإِمَام، كَمَا ذكرنَا.
726 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا دَاوُدُ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَن كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عباسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ ورَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى وَرَقَدَ فَجَاءَهُ المُؤَذِّنُ فقَامَ وصَلَّى ولَمْ يَتَوضَّأْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقُمْت عَن يسَاره) إِلَى آخِره، وَقد تكَرر هَذَا الحَدِيث فِيمَا مضى وَهَهُنَا فِي عدَّة مَوَاضِع، أَولهَا: فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب السمر بِالْعلمِ، ومباحث هَذَا الحَدِيث قد مر فِي الْأَبْوَاب الَّتِي تقدّمت، وأكثرها فِي كتاب الْعلم وَفِي: بَاب تَخْفيف الْوضُوء، وَدَاوُد الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْعَطَّار، وَيُقَال: دَاوُد بن عبد الله، يكنى أَبَا سُلَيْمَان، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة.
78 - (بابٌ المَرْأةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفّا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْمَرْأَة تكون صفا، اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: الْوَاحِد والواحدة لَا تسمى صفا إِذا انْفَرد، وَإِن جَازَت صلَاته مُنْفَردا خلف الصَّفّ، وَأَقل مَا يُسمى إِذا جمع بَين اثْنَيْنِ على طَريقَة وَاحِدَة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قيل فِي قَوْله تَعَالَى:(5/260)
{يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا} (النبإ: 38) . أَن الرّوح وَحده صف، وَالْمَلَائِكَة صف، وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَن المُرَاد أَنَّهَا لَا تقف فِي صف الرِّجَال، بل تقف وَحدهَا، وَيكون فِي حكم صف. أَو أَن جنس الْمَرْأَة غير مختلطة بِالرِّجَالِ تكون صفا.
727 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ إسْحَاقَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ صَلَّيْتُ أَنا ويَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأمي أم سليم خلفنا) ، لِأَنَّهَا وقفت خَلفهم وَحدهَا، فَصَارَت فِي حكم الصَّفّ. وَعبد الله بن أبي مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَإِسْحَاق ابْن عبد الله بن أبي طَلْحَة. وَفِي رِوَايَة الْحميدِي عِنْد أبي نعيم وَعلي بن الْمدنِي عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان حَدثنَا إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة: أَنه سمع أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مطولا فِي: بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن إِسْحَاق بن عبد الله، وَقد ذكرنَا مباحثه هُنَاكَ مستوفاة.
قَوْله: (صليت أَنا ويتيم) ، ذكر لَفْظَة: أَنا، ليَصِح الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع، وَهُوَ مَذْهَب الْبَصرِيين، والكوفيون لم يشترطوا ذَلِك، واليتيم هُوَ: ضميرَة بن أبي ضميرَة، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، لَهُ ولابنه صُحْبَة. قَوْله: (وَأمي أم سليم) وَأمي، عطف على: يَتِيم، و: أم سليم، عطف بَيَان، وَكَانَت مشتهرة بِهَذِهِ الكنية، وَاسْمهَا: سهلة، وَقيل: رميلة أَو رميثة أَو الرميصاء أَو الغميضاء، زَوْجَة أبي طَلْحَة، وَكَانَت فاضلة دينة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك: أَن النِّسَاء إِذا صلين مَعَ الرِّجَال يجوز، وَلَكِن يَقِفن فِي آخر الصُّفُوف، لما رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أخروهن من حَيْثُ أخرهن الله) . أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن أبي معمر عَن ابْن مَسْعُود، وَمن طَرِيقه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) . وَكلمَة: حَيْثُ، عبارَة عَن الْمَكَان، وَلَا مَكَان يجب تأخيرهن فِيهِ إلاّ مَكَان الصَّلَاة، فالمأمور بِالتَّأْخِيرِ الرِّجَال، فَإِذا حاذت الرجل امْرَأَة فَسدتْ صلَاته دون صلَاتهَا، لِأَنَّهُ ترك مَا هُوَ مُخَاطب بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: الْمَرْأَة لَا تصف مَعَ الرِّجَال، فَلَو خَالَفت أَجْزَأت صلَاتهَا عِنْد الْجُمْهُور، وَعند الْحَنَفِيَّة تفْسد صَلَاة الرجل دون الْمَرْأَة، وَهُوَ عَجِيب، وَفِي تَوْجِيهه تعسف. قلت: هَذَا الْقَائِل لَو أدْرك دقة مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة هَهُنَا مَا قَالَ: وَهُوَ عَجِيب، وتوجيهه مَا ذكرنَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعسف، والتعسف على الَّذِي لَا يفهم كَلَام القَوْل. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاسْتدلَّ بقوله: (فصففت أَنا واليتيم وَرَاءه) ، على أَن السّنة فِي موقف الْإِثْنَيْنِ أَن يصفا خلف الإِمَام، لمن قَالَ من الْكُوفِيّين: أَحدهمَا يقف عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره. قلت: الْقَائِل بذلك من الْكُوفِيّين هُوَ أَبُو يُوسُف، فَإِنَّهُ قَالَ: الإِمَام يقف بَينهمَا، لما روى التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) : عَن ابْن مَسْعُود أَنه صلى بعلقمة وَالْأسود فَقَامَ بَينهمَا. وَأما عِنْد أبي حنيفَة فَإِنَّهُ يتَقَدَّم على الْإِثْنَيْنِ لما فِي حَدِيث أنس الْمَذْكُور، وَأجِيب عَن حَدِيث ابْن مَسْعُود بِثَلَاثَة أجوبة: الأول:
ان ابْن مَسْعُود لم يبلغهمينه، وكل وَاحِد يُصَلِّي لنَفسِهِ، فَقَامَ ابْن مَسْعُود خلفهمَا فَأَوْمأ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشمَالِهِ، فَظن ابْن مَسْعُود أَن ذَلِك سنة الْموقف. وَلم يعلم أَنه لَا يؤمهما. وَعلمه أَبُو ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى قَالَ: يُصَلِّي كل رجل منّا لنَفسِهِ، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن بطال على صِحَة صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ، لِأَنَّهُ لما ثَبت ذَلِك للْمَرْأَة كَانَ للرجل أولى. وَقَالَ الْخطابِيّ: اخْتلف أهل الْعلم فِيمَن صلى خلف الصَّفّ وَحده، فَقَالَت طَائِفَة: صلَاته فَاسِدَة على ظَاهر حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يُصَلِّي خلف الصَّفّ وَحده فَقَالَ: أعد الصَّلَاة) . هَذَا قَول النَّخعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن حزم: صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ وَحده بَاطِلَة، لما فِي حَدِيث وابصة بن معبد، أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : (صلى رجل خلف الصَّفّ فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعد صَلَاتك فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لَك) . وَفِي حَدِيث عَليّ بن شَيبَان: (اسْتقْبل صَلَاتك) ، وَفِي لفظ: (أعد صَلَاتك فَإِنَّهُ لَا صَلَاة لمنفرد خلف الصَّفّ وَحده) . وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد خلف الإِمَام جَائِزَة.(5/261)
(وَأجِيب) : عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِأَن الْأَمر بِالْإِعَادَةِ على الِاسْتِحْبَاب دون الْإِيجَاب، وَعَن حَدِيث وابصة: أَنه لم يثبت عَن جمَاعَة، وَفِيه اضْطِرَاب، قَالَه أَبُو عمر. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي سَنَده اخْتِلَاف، وَعَن حَدِيث ابْن شَيبَان: أَن رِجَاله غير مشهورين، وَعَن الشَّافِعِي: لَو ثَبت هَذَا لَقلت بِهِ.
79 - (بابُ مَيْمَنَةِ المَسْجِدِ والإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن ميمنة الْمَسْجِد وَالْإِمَام هِيَ مَكَان الْمَأْمُوم إِذا كَانَ وَحده.
80 - (بابٌ إذَا كانَ بَيْنَ الإمَامِ وبَيْنَ القَوْمِ حائِطٌ أوْ سُتْرَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا كَانَ ... إِلَى آخِره، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يره ذَلِك، وَالْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَلَكِن مَا فِي الْبَاب يدل على أَن ذَلِك جَائِز، وَهُوَ مَذْهَب الْمَالِكِيَّة أَيْضا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن أنس وَأبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين وَسَالم، وَكَانَ عُرْوَة يُصَلِّي بِصَلَاة الإِمَام وَهُوَ فِي دَار بَينهَا وَبَين الْمَسْجِد طَرِيق، وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي وَبَينه وَبَين الإِمَام نهر صَغِير أَو طَرِيق، وَكَذَلِكَ السفن المتقاربة يكون الإِمَام فِي إِحْدَاهَا تجزيهم الصَّلَاة مَعَه، وَكره ذَلِك طَائِفَة، وَرُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِذا كَانَ بَينه وَبَين الإِمَام طَرِيق أَو حَائِط أَو نهر فَلَيْسَ هُوَ مَعَه، وَكره الشّعبِيّ وَإِبْرَاهِيم أَن يكون بَينهمَا طَرِيق وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا يجْزِيه إِلَّا أَن تكون الصُّفُوف مُتَّصِلَة فِي الطَّرِيق، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَشْهَب.(5/262)
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بَأسَ أنْ تُصَلِّي وبَيْنَكَ وبَيْنَهُ نَهْرٌ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْفَاصِل بَينه وَبَين الإِمَام كالحائط وَالنّهر لَا يضر. وروى سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح فِي الرجل يُصَلِّي خلف الإِمَام وَهُوَ فَوق سطح يأتم بِهِ لَا بَأْس بذلك، قَوْله: (وَبَيْنك) حَال، وَقَوله: (نهر) ، ويروى (نهير) مُصَغرًا، وَهُوَ يدل على أَن المُرَاد من النَّهر الصَّغِير وَالْكَبِير يمْنَع.
وقالَ أبُو مِجْلَزٍ يِأْتَمُّ بالإمامِ وإنْ كانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أوْ جِدَارٌ إذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة: اسْمه لَاحق بن حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن سعيد الْبَصْرِيّ الْأَعْوَر، من التَّابِعين الْمَشْهُورين، مَاتَ بِظهْر الْكُوفَة فِي سنة مائَة أَو إِحْدَى وَمِائَة، وَأخرج أَثَره مَوْصُولا ابْن أبي شيبَة عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن لَيْث بن أبي سليم عَنهُ وَلَيْث ضَعِيف، فِي امْرَأَة تصلي وَبَينهَا وَبَين الإِمَام حَائِط، قَالَ: إِذا كَانَت تسمع تَكْبِير الإِمَام أجزأها ذَلِك.
729 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدَةُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الأنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَةٍ وَجِدَارُ الحُجْرَةِ قَصِير فَرَأي الناسُ شَخْصَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ فَأصْبَحُوا فتَحَدَّثُوا بذَلِكَ فقامَ لَيْلَةَ الثَانِيةِ فَقامَ معَهُ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثَةً حَتَّى إذَا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَلَسَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَخْرُجْ فلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ إنِّي خَشِيتُ أنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَقَامَ نَاس يصلونَ بِصَلَاتِهِ) لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبينهمْ جِدَار الْحُجْرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام، قَالَه أَبُو نعيم، وَبِه جزم ابْن عَسَاكِر فِي رِوَايَته. الثَّانِي: عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان الْكلابِي، من أنفسهم، وَيُقَال: العامري الْكُوفِي، وَكَانَ اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه، فغلب عَلَيْهِ ويكنى أَبَا مُحَمَّد. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة المدنية. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: من غلب لقبه على اسْمه، وَهُوَ: عَبدة، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين البيكندي وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وكوفي ومدني. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِلَا نِسْبَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن أبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب عَن هشيم بن بشير عَن يحيى بِهِ مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي حجرته) أَي: فِي حجرَة بَيته، يدل عَلَيْهِ ذكر جِدَار الْحُجْرَة، وأوضح مِنْهُ رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن يحيى عِنْد أبي نعيم، بِلَفْظ: (كَانَ يُصَلِّي فِي حجرَة من حجر أَزوَاجه) ، والحجرة الْموضع الْمُنْفَرد من الدَّار. قَوْله: (شخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الشَّخْص سَواد الْإِنْسَان وَغَيره يرَاهُ من بعيد، وَإِنَّمَا قَالَ بِلَفْظ: الشَّخْص، لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك بِاللَّيْلِ وَلم يَكُونُوا يبصرون مِنْهُ إلاّ سوَاده. قَوْله: (فَقَامَ نَاس) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَقَامَ أنَاس) ، بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله. قَوْله: (بِصَلَاتِهِ) ، أَي: متلبسين بِصَلَاتِهِ أَو مقتدين بهَا. قَوْله: (فَأَصْبحُوا) أَي: دخلُوا فِي الصَّباح، وَهِي تَامَّة. قَوْله: (فَقَامَ لَيْلَة الثَّانِيَة) هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَقَامَ اللَّيْلَة الثَّانِيَة) ، وَجه الرِّوَايَة الأولى أَن فِيهِ حذفا تَقْدِيره: لَيْلَة الْغَدَاة الثَّانِيَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّيْلَة مُضَافَة إِلَى الثَّانِيَة من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته. قَوْله: (ذَلِك) أَي: الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِذا كَانَ) ، أَي: الْوَقْت وَالزَّمَان. قَوْله: (فَلم يخرج) ، أَي: إِلَى الْموضع الْمَعْهُود الَّذِي كَانَ صلى فِيهِ تِلْكَ اللَّيَالِي، فَلم يرَوا(5/263)
شخصه. قَوْله: (فَلَمَّا أصبح ذكر ذَلِك النَّاس) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر عبد الرَّزَّاق أَن الَّذِي خاطبه بذلك عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا. قَوْله: (أَن تكْتب) ، أَي: تفرض، وَقَالَ الْخطابِيّ: قد يُقَال عَلَيْهِ: كَيفَ يجوز أَن تكْتب علينا صَلَاة وَقد أكمل الله الْفَرَائِض، ورد عدد الْخمسين مِنْهَا إِلَى الْخمس؟ فَقيل: إِن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله الَّتِي تفضل بالشريعة وَاجِب على الْأمة الائتساء بِهِ فِيهَا، وَكَانَ أَصْحَابه إِذا رَأَوْهُ يواظب على فعل يقتدون بِهِ، ويرونه وَاجِبا، فَترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخُرُوج فِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة، وَترك الصَّلَاة فِيهَا لِئَلَّا يدْخل ذَلِك الْفِعْل فِي الْوَاجِبَات كالمكتوبة عَلَيْهِم من طَرِيق الْأَمر بالاقتداء بِهِ، فَالزِّيَادَة إِنَّمَا تجب عَلَيْهِم من جِهَة وجوب الِاقْتِدَاء بِأَفْعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا من جِهَة إنْشَاء فرض يسْتَأْنف زَائِدا، وَهَذَا كَمَا يُوجب الرجل على نَفسه صَلَاة نذر، وَلَا يدل ذَلِك على زِيَادَة جملَة فِي الشَّرْع الْمَفْرُوض فِي الأَصْل، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى فرض الصَّلَاة أَولا خمسين، ثمَّ حط بشفاعة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معظمها تَخْفِيفًا عَن أمته، فَإِذا عَادَتْ الْأمة فِيمَا استوهبت وتبرعت بِالْعَمَلِ بِهِ لم يستنكر أَن يكْتب فرضا عَلَيْهِم، وَقد ذكر الله عَن النَّصَارَى أَنهم ابتدعوا رَهْبَانِيَّة مَا كتبهَا الله عَلَيْهِم، ثمَّ لما قصروا فِيهَا لحقتهم الْمَلَامَة فِي قَوْله: {فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: 27) . فأشفق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون سبيلهم أُولَئِكَ، فَقطع الْعَمَل بِهِ تَخْفِيفًا عَن أمته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا قَالَه الْمُهلب جَوَاز الائتمام بِمن لم ينْو أَن يكون إِمَامًا فِي تِلْكَ الصَّلَاة، لِأَن النَّاس ائتموا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَرَاء الْحَائِط، وَلم يعْقد النِّيَّة مَعَهم على الْإِمَامَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ قلت: هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا إلاّ أَن أَصْحَابنَا قَالُوا: لَا بُد من نِيَّة الْإِمَامَة فِي حق النِّسَاء، خلافًا لزفَر. وَفِيه: أَن فعل النَّوَافِل فِي الْبَيْت أفضل. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: إِن التَّنَفُّل فِي الْبيُوت أفضل إِلَيّ مِنْهُ فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ للغرباء. وَفِيه: جَوَاز النَّافِلَة فِي جمَاعَة. وَفِيه: أَيْضا شفقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أمته خشيَة أَن تكْتب عَلَيْهِم صَلَاة اللَّيْل فيعجزوا عَنْهَا، فَترك الْخُرُوج لِئَلَّا يخرج ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ. وَفِيه: أَن الْجِدَار وَنَحْوه لَا يمْنَع الِاقْتِدَاء بِالْإِمَامِ، وَعَلِيهِ تَرْجَمَة الْبَاب. قلت: إِنَّمَا يجوز ذَلِك إِذا لم يلتبس عَلَيْهِ حَال الإِمَام.
81 - (بابُ صَلاَةِ اللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة اللَّيْل، لم تقع هَذِه التَّرْجَمَة على هَذَا الْوَجْه إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَلَا وَجه لذكرها هَهُنَا، لِأَن الْأَبْوَاب هَهُنَا فِي الصُّفُوف وإقامتها، وَلِهَذَا لَا يُوجد فِي كثير من النّسخ، وَلَا تعرض إِلَيْهِ الشُّرَّاح، ولصلاة اللَّيْل بخصوصها كتاب مُفْرد سَيَأْتِي فِي أَوَاخِر الصَّلَاة، وَقد تكلّف بَعضهم فَذكر مُنَاسبَة لذكر هَذِه التَّرْجَمَة هُنَا فَقَالَ: لما كَانَ الْمُصَلِّي الَّذِي بَينه وَبَين إِمَامه حَائِل من جِدَار وَنَحْوه قد يظنّ أَنه يمْنَع من إِقَامَة الصَّفّ، ذكر هَذِه التَّرْجَمَة بِمَا فِيهَا دفعا لذَلِك. وَقيل: وَجه ذَلِك أَن من صلى بِاللَّيْلِ مَأْمُوما كَانَ لَهُ فِي ذَلِك شبه بِمن صلى وَرَاء حَائِط.
730 - حدَّثنا إبراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي فُدَيْكٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَن المَقْبَرِيُّ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَهُ حَصِيرٌ يَبْسُطُهُ بالنَّهَارِ وَيَحْتَجِرُهُ بِاللَّيْلِ فَثَابَ إلَيْهِ ناسٌ فَصَلُّوا وَرَاءَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصفوا وَرَاءه) ، لِأَن صفهم وَرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي صَلَاة اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْمدنِي، وَقد مر ذكره غير مرّة. الثَّانِي: ابْن أبي الفديك، بِضَم الْفَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره كَاف، وَقد يسْتَعْمل بِالْألف وَاللَّام وبدونها: من فدكت الْقطن إِذا نفشته، وَهُوَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم بن أبي فديك، وَاسم أبي فديك: دِينَار الديلِي أَو إِسْمَاعِيل الْمدنِي. الثَّالِث: ابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذيب، وَاسم أبي ذيب هِشَام بن شُعْبَة أَبُو الْحَارِث الْمدنِي. الرَّابِع: المَقْبُري، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، وَقيل: بِفَتْحِهَا أَيْضا، وَهِي نِسْبَة إِلَى الْمقْبرَة، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا، سعيد بن أبي سعيد، وَاسم أبي سعيد: كيسَان أَبُو سعيد الْمدنِي، وَسمي بالمقبري(5/264)
لِأَن سكناهُ كَانَ بجوار الْمقْبرَة. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَرْبَعَة من الروَاة لم يسموا: أحدهم مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ، وَالْآخرُونَ مذكورون بالكنية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن أبي بكر عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله بن عمر عَن المَقْبُري بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن عبيد الله بن عمر بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِتَمَامِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن بشر عَن عبيد الله بن عمر مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَصِير) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَصِير البارية قلت: هُوَ الْمُتَّخذ من البردى وَغَيره، يبسط فِي الْبيُوت. قَوْله: (يبسطه بِالنَّهَارِ) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة لحصير. قَوْله: (ويحتجره) بالراء الْمُهْملَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَمَعْنَاهُ: يَتَّخِذهُ مثل الْحُجْرَة فَيصَلي فِيهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (يحجزه) ، بالزاي أَي: يَجعله حاجزا بَينه وَبَين غَيره. قَوْله: (فَثَابَ إِلَيْهِ نَاس) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة من: ثاب النَّاس إِذا اجْتَمعُوا وجاؤا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ثاب الرجل يثوب ثوبا وثوبانا: رَجَعَ بعد ذَهَابه، وثاب النَّاس اجْتَمعُوا وجاؤا، وَكَذَلِكَ: ثاب المَاء إِذا اجْتمع فِي الْحَوْض، وَمِنْه المثابة وَهُوَ الْموضع الَّذِي يُثَاب إِلَيْهِ أَي: يرجع إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس} (الْبَقَرَة: 125) . لِأَن أَهله يتصرفون فِي أُمُورهم ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ أَي يرجعونن، هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي: (فثار إِلَيْهِ نَاس) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء من: ثار يثور ثورا وثورانا إِذا انْتَشَر وارتفع. قَالَه ابْن الْأَثِير. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا سَطَعَ، وَقَالَ غَيره: الثوران الهيجان، وَالْمعْنَى هَهُنَا ارْتَفع النَّاس إِلَيْهِ، وَيُقَال: ثار بِهِ النَّاس إِذا وَثبُوا عَلَيْهِ، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ: آبوا، أَي: رجعُوا يُقَال: آب يؤب أوبا وأوبة وإيابا، والأوّاب التائب، والمآب الْمرجع. قَوْله: (فصلوا وَرَاءه) أَي: وَرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا، وَلَعَلَّ مُرَاده مِنْهُ بَيَان أَن الْحُجْرَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب كَانَت حَصِيرا، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وكل مَوضِع حجر عَلَيْهِ فَهُوَ حجرَة، وَفِي حَدِيث زيد بن ثَابت الْآتِي ذكره الْآن: (اتخذ حجرَة، قَالَ: حسبت أَنه قَالَ: من حَصِير) ، وَجَاء فِي رِوَايَة: (احتجر بخصفة أَو حَصِير فِي الْمَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة: (صلى فِي حُجْرَتي) ، رَوَاهُ عمْرَة عَن عَائِشَة، وَفِي رِوَايَة: (فَأمرنِي فَضربت لَهُ حَصِيرا يُصَلِّي عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّ هَذِه كَانَت فِي أَحْوَال.
731 - حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ سَالِمٍ أبي النضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخَذَ حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ منْ حصِيرٍ فِي رمَضَانَ فَصلَّى فيهَا ليالِيَ فَصَلَّى بِصَلاتِهه ناسٌ مِنْ أصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ. فَقَالَ قَدْ عرَفْتُ الَّذِي رَأيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فإنَّ أفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلاَّ المَكْتُوبَةَ. قالَ عفَّانُ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ عنْ بُسْرٍ عنْ زَيْدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث فِي صَلَاة اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم: كلهم ذكرُوا، فعبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، بتَشْديد الْمِيم: ابْن نصر أَبُو يحيى، مر فِي: بَاب الْجنب يخرج، ووهيب ابْن خَالِد مر فِي: بَاب من أجَاب الْفتيا، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش الْأَسدي. وَسَالم أَبُو النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: وَهُوَ ابْن أبي أُميَّة، مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد، مر فِي: بَاب الخوخة فِي الْمَسْجِد. وَزيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ كَاتب الْوَحْي، مر فِي: بَاب إقبال الْحيض.(5/265)
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مدنيون على نسق وَاحِد من التَّابِعين، أَوَّلهمْ: مُوسَى بن عقبَة ووهيب بَصرِي وَعبد الْأَعْلَى أَصله من الْبَصْرَة، سكن بَغْدَاد. وَفِيه: عَن سَالم أبي النَّضر، وروى ابْن جريج عَن مُوسَى فَلم يذكر سالما، وَأَبا النَّضر فِي هَذَا الْإِسْنَاد. أخرجه النَّسَائِيّ وَقَالَ: ذكر فِيهِ من اخْتِلَاف ابْن جريج ووهيب على مُوسَى بن عقبَة فِي خبر زيد بن ثَابت: أَخْبرنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم المصِّيصِي، قَالَ: سَمِعت حجاجا قَالَ، قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة) . أخبرنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم، قَالَ: حَدثنَا وهيب، قَالَ، سَمِعت مُوسَى بن عقبَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا النَّضر يحدث عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صلوا أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ فَإِن أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) . ثمَّ قَالَ: وَقفه مَالك. أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد أَن زيد بن ثَابت، قَالَ: (أفضل الصَّلَاة صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ (. يَعْنِي: إلاّ صَلَاة الْجَمَاعَة. قلت: وروى عَن مَالك خَارج (الْمُوَطَّأ) مَرْفُوعا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق عَن عَفَّان، وَفِي الْأَدَب، وَقَالَ الْمَكِّيّ: حَدثنَا عبد الله بن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله عَن مكي بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب، الْفَصْل الْأَخير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْفَصْل الْأَخير مِنْهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن عَفَّان بِهِ، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم عَن حجاج عَن ابْن جريج، الْفَصْل الْأَخير مِنْهُ. وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ الْفَصْل الْأَخير قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَجَابِر وَأبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَائِشَة وَعبد الله بن سعيد وَزيد بن خَالِد قلت: حَدِيث عمر بن الْخطاب عِنْد ابْن مَاجَه وَلَفظه: قَالَ عمر: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أما صَلَاة الرجل فِي بَيته فنور، فنوروا بُيُوتكُمْ) ، وَفِيه انْقِطَاع. وَحَدِيث جَابر عِنْد مُسلم فِي أَفْرَاده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم الصَّلَاة فِي مَسْجده فليجعل فِي بَيته نَصِيبا من صلَاته) . وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم صلَاته فليجعل لبيته مِنْهَا نَصِيبا، فَإِن الله عز وَجل جَاعل فِي بَيته من صلَاته خيرا) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، إِن الشَّيْطَان يفر من الْبَيْت الَّذِي تقْرَأ فِيهِ سُورَة الْبَقَرَة) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه أَحْمد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول: صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تجعلوها عَلَيْكُم قبورا) . وَحَدِيث عبد الله بن سعيد أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل، وَابْن مَاجَه قَالَ: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا أفضل: الصَّلَاة فِي بَيْتِي أَو الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد؟ قَالَ: أَلا ترى إِلَى بَيْتِي مَا أقربه من الْمَسْجِد؟ فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَحَدِيث زيد بن خَالِد أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبورا) . قلت: مِمَّا لم يذكرهُ عَن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وصهيب بن النُّعْمَان. أما حَدِيث الْحسن فَأخْرجهُ أَبُو يعلى. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبورا) الحَدِيث. وَأما حَدِيث صُهَيْب بن النُّعْمَان فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فضل صَلَاة الرجل فِي بَيته على صلَاته حَيْثُ يرَاهُ النَّاس كفضل الْمَكْتُوبَة على النَّافِلَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اتخذ حجرَة) ، بالراء عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بالزاي، أَيْضا، فَمَعْنَاه: شَيْئا حاجزا أَي: مَانِعا بَينه وَبَين النَّاس. قَوْله: (قد عرفت) ، ويروى: (قد علمت) . قَوْله: (من صنيعكم) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسر النُّون، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من صنعكم) ، بِضَم الصَّاد وَسُكُون النُّون أَي: حرصكم على إِقَامَة صَلَاة التَّرَاوِيح، وَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ لأجل صلَاتهم فَقَط، بل لكَوْنهم رفعوا أَصْوَاتهم وسبحوا بِهِ ليخرج إِلَيْهِم، وحصب بَعضهم الْبَاب لظنهم أَنه نَائِم، وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي الْأَدَب، وَزَاد فِي الِاعْتِصَام (حَتَّى خشيت أَن يكْتب عَلَيْكُم، وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ) قَوْله: (فَإِن أفضل الصَّلَاة. .) آخِره، ظَاهره يَشْمَل جَمِيع النَّوَافِل. قَوْله: (إلاّ الْمَكْتُوبَة) أَي: الْفَرِيضَة.(5/266)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن صَلَاة التَّطَوُّع فعلهَا فِي الْبيُوت أفضل من فعلهَا فِي الْمَسَاجِد، وَلَو كَانَت فِي الْمَسَاجِد الفاضلة الَّتِي تضعف فِيهَا الصَّلَاة على غَيرهَا، وَقد ورد التَّصْرِيح بذلك فِي إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد لحَدِيث زيد بن ثَابت، فَقَالَ فِيهَا: (صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته أفضل من صلَاته فِي مَسْجِدي هَذَا إلاّ الْمَكْتُوبَة) ، وإسنادها صَحِيح، فعلى هَذَا: لَو صلى نَافِلَة فِي مَسْجِد الْمَدِينَة كَانَت بِأَلف صَلَاة على القَوْل بِدُخُول النَّوَافِل فِي عُمُوم الحَدِيث، وَإِذا صلاهَا فِي بَيته كَانَت أفضل من ألف صَلَاة، وَهَكَذَا حكم مَسْجِد مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس إلاّ أَن التَّضْعِيف بِمَكَّة يحصل فِي جَمِيع مَكَّة، بل صحّح النَّوَوِيّ: أَن التَّضْعِيف يحصل فِي جَمِيع الْحرم، وَاسْتثنى من عُمُوم الحَدِيث عدَّة من النَّوَافِل، ففعلها فِي غير الْبَيْت أكمل، وَهِي: مَا تشرع فِيهَا الْجَمَاعَة: كالعيدين وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: وَكَذَلِكَ: تَحِيَّة الْمَسْجِد وركعتا الطّواف وركعتا الْإِحْرَام إِن كَانَ عِنْد الْمِيقَات مَسْجِد كذي الحليفة، وَكَذَلِكَ التَّنَفُّل فِي يَوْم الْجُمُعَة قبل الزَّوَال وَبعده. وَفِيه: حجَّة على من اسْتحبَّ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِد ليلية كَانَت أَو نهارية حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض وَالنَّوَوِيّ عَن جمَاعَة من السّلف، وعَلى من اسْتحبَّ نوافل النَّهَار فِي الْمَسْجِد دون نوافل اللَّيْل، وَحكى ذَلِك عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك. وَفِيه: مَا يدل على أصل التَّرَاوِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلاهَا فِي رَمَضَان بعض اللَّيَالِي ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تكْتب علينا، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي كَونهَا سنة أَو تَطَوّعا مُبْتَدأ، فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين الضَّرِير: نفس التَّرَاوِيح سنة، أما أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَة فمستحب، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا. وَقَالَ الشَّهِيد: هُوَ الصَّحِيح، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : التَّرَاوِيح سنة مُؤَكدَة، وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة، وَفِي (الرَّوْضَة) لِأَصْحَابِنَا: إِن الْجَمَاعَة فَضِيلَة. وَفِي (الذَّخِيرَة) لِأَصْحَابِنَا عَن أَكثر الْمَشَايِخ: إِن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على الْكِفَايَة، وَمن صلى فِي الْبَيْت فقد ترك فَضِيلَة الْمَسْجِد. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَو صلى إِنْسَان فِي بَيته لَا يَأْثَم، فعلهَا ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وَنَافِع وَإِبْرَاهِيم، ثمَّ إِنَّهَا عشرُون رَكْعَة. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَنَقله القَاضِي عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع، وَعند مَالك: تسع ترويحات بست وَثَلَاثِينَ رَكْعَة غير الْوتر، وَاحْتج على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ، قَالَ: كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِعشْرين رَكْعَة، وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مثله. فَإِن قلت: قَالَ فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: كَانَ النَّاس فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقومُونَ فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة؟ قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر، وَيزِيد لم يدْرك عمر، فَفِيهِ انْقِطَاع.
فَائِدَة: اسْتثِْنَاء الْمَكْتُوبَة مِمَّا يصلى فِي الْبيُوت هُوَ فِي حق الرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن صلاتهن فِي الْبيُوت أفضل، وَإِن أذن لَهُنَّ فِي حُضُور بعض الْجَمَاعَات، وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إِذا استأذنكم نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِد فأذنوا لَهُنَّ وبيوتهن خير لَهُنَّ.
أُخْرَى: قَوْله: (فِي بُيُوتكُمْ) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بذلك إِخْرَاج بيُوت الله تَعَالَى، وَهِي الْمَسَاجِد، فَيدْخل فِيهِ بَيت الْمصلى وَبَيت غَيره، كمن يُرِيد أَن يزور قوما فِي بُيُوتهم وَنَحْو ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يُرِيد بَيت الْمُصَلِّي دون بَيت غَيره، وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته) ، فَيخرج بذلك أَيْضا بَيت غير الْمصلى.
أُخْرَى: اخْتلف فِي المُرَاد بقوله: فِي حَدِيث ابْن عمر: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ) ، فَقَالَ الْجُمْهُور فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي عَنْهُم: إِن المُرَاد فِي صَلَاة النَّافِلَة اسْتِحْبَاب إخفائها. قَالَ: وَقيل هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم، قَالَ النَّوَوِيّ: وَالصَّوَاب أَن المُرَاد النَّافِلَة فَلَا يجوز حمله على الْفَرِيضَة.
أُخْرَى: إِنَّمَا حث على النَّوَافِل فِي الْبيُوت لكَونهَا أخْفى وَأبْعد من الرِّيَاء، وأصون من المحبطات، وليتبرك الْبَيْت بذلك، وتنزل فِيهِ الرَّحْمَة وَالْمَلَائِكَة، وتنفر مِنْهُ الشَّيَاطِين. وَالله تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
731 - حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ حَمَّادٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ سَالِمٍ أبي النضْرِ عنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتخَذَ حُجْرَةً قَالَ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ منْ حصِيرٍ فِي رمَضَانَ فَصلَّى فيهَا ليالِيَ فَصَلَّى بِصَلاتِهه ناسٌ مِنْ أصْحَابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ. فَقَالَ قَدْ عرَفْتُ الَّذِي رَأيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فإنَّ أفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلاَّ المَكْتُوبَةَ. قالَ عفَّانُ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ عنْ بُسْرٍ عنْ زَيْدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث فِي صَلَاة اللَّيْل.
ذكر رِجَاله: وهم: كلهم ذكرُوا، فعبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، بتَشْديد الْمِيم: ابْن نصر أَبُو يحيى، مر فِي: بَاب الْجنب يخرج، ووهيب ابْن خَالِد مر فِي: بَاب من أجَاب الْفتيا، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش الْأَسدي. وَسَالم أَبُو النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: وَهُوَ ابْن أبي أُميَّة، مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد، مر فِي: بَاب الخوخة فِي الْمَسْجِد. وَزيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ كَاتب الْوَحْي، مر فِي: بَاب إقبال الْحيض.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: ثَلَاثَة مدنيون على نسق وَاحِد من التَّابِعين، أَوَّلهمْ: مُوسَى بن عقبَة ووهيب بَصرِي وَعبد الْأَعْلَى أَصله من الْبَصْرَة، سكن بَغْدَاد. وَفِيه: عَن سَالم أبي النَّضر، وروى ابْن جريج عَن مُوسَى فَلم يذكر سالما، وَأَبا النَّضر فِي هَذَا الْإِسْنَاد. أخرجه النَّسَائِيّ وَقَالَ: ذكر فِيهِ من اخْتِلَاف ابْن جريج ووهيب على مُوسَى بن عقبَة فِي خبر زيد بن ثَابت: أَخْبرنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم المصِّيصِي، قَالَ: سَمِعت حجاجا قَالَ، قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الْمَكْتُوبَة) . أخبرنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم، قَالَ: حَدثنَا وهيب، قَالَ، سَمِعت مُوسَى بن عقبَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا النَّضر يحدث عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (صلوا أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ فَإِن أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاّ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) . ثمَّ قَالَ: وَقفه مَالك. أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد أَن زيد بن ثَابت، قَالَ: (أفضل الصَّلَاة صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ (. يَعْنِي: إلاّ صَلَاة الْجَمَاعَة. قلت: وروى عَن مَالك خَارج (الْمُوَطَّأ) مَرْفُوعا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق عَن عَفَّان، وَفِي الْأَدَب، وَقَالَ الْمَكِّيّ: حَدثنَا عبد الله بن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله عَن مكي بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب، الْفَصْل الْأَخير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْفَصْل الْأَخير مِنْهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن عَفَّان بِهِ، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم عَن حجاج عَن ابْن جريج، الْفَصْل الْأَخير مِنْهُ. وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ الْفَصْل الْأَخير قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر بن الْخطاب وَجَابِر وَأبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَائِشَة وَعبد الله بن سعيد وَزيد بن خَالِد قلت: حَدِيث عمر بن الْخطاب عِنْد ابْن مَاجَه وَلَفظه: قَالَ عمر: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أما صَلَاة الرجل فِي بَيته فنور، فنوروا بُيُوتكُمْ) ، وَفِيه انْقِطَاع. وَحَدِيث جَابر عِنْد مُسلم فِي أَفْرَاده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم الصَّلَاة فِي مَسْجده فليجعل فِي بَيته نَصِيبا من صلَاته) . وَحَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن مَاجَه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قضى أحدكُم صلَاته فليجعل لبيته مِنْهَا نَصِيبا، فَإِن الله عز وَجل جَاعل فِي بَيته من صلَاته خيرا) . وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكَبِير) وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر، إِن الشَّيْطَان يفر من الْبَيْت الَّذِي تقْرَأ فِيهِ سُورَة الْبَقَرَة) . وَحَدِيث ابْن عمر أخرجه الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه أَحْمد: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول: صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تجعلوها عَلَيْكُم قبورا) . وَحَدِيث عبد الله بن سعيد أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل، وَابْن مَاجَه قَالَ: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا أفضل: الصَّلَاة فِي بَيْتِي أَو الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد؟ قَالَ: أَلا ترى إِلَى بَيْتِي مَا أقربه من الْمَسْجِد؟ فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَحَدِيث زيد بن خَالِد أخرجه أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبورا) . قلت: مِمَّا لم يذكرهُ عَن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب وصهيب بن النُّعْمَان. أما حَدِيث الْحسن فَأخْرجهُ أَبُو يعلى. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبورا) الحَدِيث. وَأما حَدِيث صُهَيْب بن النُّعْمَان فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فضل صَلَاة الرجل فِي بَيته على صلَاته حَيْثُ يرَاهُ النَّاس كفضل الْمَكْتُوبَة على النَّافِلَة) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اتخذ حجرَة) ، بالراء عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بالزاي، أَيْضا، فَمَعْنَاه: شَيْئا حاجزا أَي: مَانِعا بَينه وَبَين النَّاس. قَوْله: (قد عرفت) ، ويروى: (قد علمت) . قَوْله: (من صنيعكم) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسر النُّون، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من صنعكم) ، بِضَم الصَّاد وَسُكُون النُّون أَي: حرصكم على إِقَامَة صَلَاة التَّرَاوِيح، وَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ لأجل صلَاتهم فَقَط، بل لكَوْنهم رفعوا أَصْوَاتهم وسبحوا بِهِ ليخرج إِلَيْهِم، وحصب بَعضهم الْبَاب لظنهم أَنه نَائِم، وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي الْأَدَب، وَزَاد فِي الِاعْتِصَام (حَتَّى خشيت أَن يكْتب عَلَيْكُم، وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ) قَوْله: (فَإِن أفضل الصَّلَاة. .) آخِره، ظَاهره يَشْمَل جَمِيع النَّوَافِل. قَوْله: (إلاّ الْمَكْتُوبَة) أَي: الْفَرِيضَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن صَلَاة التَّطَوُّع فعلهَا فِي الْبيُوت أفضل من فعلهَا فِي الْمَسَاجِد، وَلَو كَانَت فِي الْمَسَاجِد الفاضلة الَّتِي تضعف فِيهَا الصَّلَاة على غَيرهَا، وَقد ورد التَّصْرِيح بذلك فِي إِحْدَى روايتي أبي دَاوُد لحَدِيث زيد بن ثَابت، فَقَالَ فِيهَا: (صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته أفضل من صلَاته فِي مَسْجِدي هَذَا إلاّ الْمَكْتُوبَة) ، وإسنادها صَحِيح، فعلى هَذَا: لَو صلى نَافِلَة فِي مَسْجِد الْمَدِينَة كَانَت بِأَلف صَلَاة على القَوْل بِدُخُول النَّوَافِل فِي عُمُوم الحَدِيث، وَإِذا صلاهَا فِي بَيته كَانَت أفضل من ألف صَلَاة، وَهَكَذَا حكم مَسْجِد مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس إلاّ أَن التَّضْعِيف بِمَكَّة يحصل فِي جَمِيع مَكَّة، بل صحّح النَّوَوِيّ: أَن التَّضْعِيف يحصل فِي جَمِيع الْحرم، وَاسْتثنى من عُمُوم الحَدِيث عدَّة من النَّوَافِل، ففعلها فِي غير الْبَيْت أكمل، وَهِي: مَا تشرع فِيهَا الْجَمَاعَة: كالعيدين وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: وَكَذَلِكَ: تَحِيَّة الْمَسْجِد وركعتا الطّواف وركعتا الْإِحْرَام إِن كَانَ عِنْد الْمِيقَات مَسْجِد كذي الحليفة، وَكَذَلِكَ التَّنَفُّل فِي يَوْم الْجُمُعَة قبل الزَّوَال وَبعده. وَفِيه: حجَّة على من اسْتحبَّ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِد ليلية كَانَت أَو نهارية حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض وَالنَّوَوِيّ عَن جمَاعَة من السّلف، وعَلى من اسْتحبَّ نوافل النَّهَار فِي الْمَسْجِد دون نوافل اللَّيْل، وَحكى ذَلِك عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك. وَفِيه: مَا يدل على أصل التَّرَاوِيح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلاهَا فِي رَمَضَان بعض اللَّيَالِي ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تكْتب علينا، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي كَونهَا سنة أَو تَطَوّعا مُبْتَدأ، فَقَالَ الإِمَام حميد الدّين الضَّرِير: نفس التَّرَاوِيح سنة، أما أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَة فمستحب، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن التَّرَاوِيح سنة لَا يجوز تَركهَا. وَقَالَ الشَّهِيد: هُوَ الصَّحِيح، وَفِي (جَوَامِع الْفِقْه) : التَّرَاوِيح سنة مُؤَكدَة، وَالْجَمَاعَة فِيهَا وَاجِبَة، وَفِي (الرَّوْضَة) لِأَصْحَابِنَا: إِن الْجَمَاعَة فَضِيلَة. وَفِي (الذَّخِيرَة) لِأَصْحَابِنَا عَن أَكثر الْمَشَايِخ: إِن إِقَامَتهَا بِالْجَمَاعَة سنة على الْكِفَايَة، وَمن صلى فِي الْبَيْت فقد ترك فَضِيلَة الْمَسْجِد. وَفِي (الْمَبْسُوط) : لَو صلى إِنْسَان فِي بَيته لَا يَأْثَم، فعلهَا ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وَنَافِع وَإِبْرَاهِيم، ثمَّ إِنَّهَا عشرُون رَكْعَة. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَنَقله القَاضِي عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي أَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يقوم بِأَرْبَعِينَ رَكْعَة، ويوتر بِسبع، وَعند مَالك: تسع ترويحات بست وَثَلَاثِينَ رَكْعَة غير الْوتر، وَاحْتج على ذَلِك بِعَمَل أهل الْمَدِينَة، وَاحْتج أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن السَّائِب بن يزِيد الصَّحَابِيّ، قَالَ: كَانُوا يقومُونَ على عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِعشْرين رَكْعَة، وعَلى عهد عُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مثله. فَإِن قلت: قَالَ فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن يزِيد بن رُومَان قَالَ: كَانَ النَّاس فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقومُونَ فِي رَمَضَان بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة؟ قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالثَّلَاث هُوَ الْوتر، وَيزِيد لم يدْرك عمر، فَفِيهِ انْقِطَاع.
فَائِدَة: اسْتثِْنَاء الْمَكْتُوبَة مِمَّا يصلى فِي الْبيُوت هُوَ فِي حق الرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن صلاتهن فِي الْبيُوت أفضل، وَإِن أذن لَهُنَّ فِي حُضُور بعض الْجَمَاعَات، وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إِذا استأذنكم نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِد فأذنوا لَهُنَّ وبيوتهن خير لَهُنَّ.
أُخْرَى: قَوْله: (فِي بُيُوتكُمْ) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بذلك إِخْرَاج بيُوت الله تَعَالَى، وَهِي الْمَسَاجِد، فَيدْخل فِيهِ بَيت الْمصلى وَبَيت غَيره، كمن يُرِيد أَن يزور قوما فِي بُيُوتهم وَنَحْو ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يُرِيد بَيت الْمُصَلِّي دون بَيت غَيره، وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته) ، فَيخرج بذلك أَيْضا بَيت غير الْمصلى.
أُخْرَى: اخْتلف فِي المُرَاد بقوله: فِي حَدِيث ابْن عمر: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ) ، فَقَالَ الْجُمْهُور فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي عَنْهُم: إِن المُرَاد فِي صَلَاة النَّافِلَة اسْتِحْبَاب إخفائها. قَالَ: وَقيل هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم، قَالَ النَّوَوِيّ: وَالصَّوَاب أَن المُرَاد النَّافِلَة فَلَا يجوز حمله على الْفَرِيضَة.
أُخْرَى: إِنَّمَا حث على النَّوَافِل فِي الْبيُوت لكَونهَا أخْفى وَأبْعد من الرِّيَاء، وأصون من المحبطات، وليتبرك الْبَيْت بذلك، وتنزل فِيهِ الرَّحْمَة وَالْمَلَائِكَة، وتنفر مِنْهُ الشَّيَاطِين. وَالله تَعَالَى أعلم.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(أبْوابُ صِفَةُ الصَّلاَةِ)
لما فرغ من بَيَان أَحْكَام الْجَمَاعَة وَالْإِقَامَة وتسوية الصُّفُوف الْمُشْتَملَة على مائَة واثنين وَعشْرين حَدِيثا، الْمَوْصُول من ذَلِك(5/267)
سِتَّة وَتسْعُونَ حَدِيثا، وَالْمُعَلّق سِتَّة وَعِشْرُونَ، وعَلى سَبْعَة عشر أثرا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، شرع فِي بَيَان صفة الصَّلَاة بأنواعها وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بهَا بتفاصيلها، فَقَالَ:
82 - (بابُ إيجَاب التَّكبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِيجَاب تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، ثمَّ: الْوَاو، فِي: وافتتاح الصَّلَاة، قَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنَّهَا عاطفة إِمَّا على الْمُضَاف وَهُوَ إِيجَاب، وَإِمَّا على الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ التَّكْبِير، وَالْأول أولى إِن كَانَ المُرَاد بالافتتاح الدُّعَاء، لِأَنَّهُ لَا يجب. وَالَّذِي يظْهر من سِيَاقه أَن: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، وَإِن المُرَاد بالافتتاح: الشُّرُوع فِي الصَّلَاة. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن: الْوَاو، هُنَا عاطفة، فَلَا يَصح قَوْله: إِمَّا على الْمُضَاف وَإِمَّا على الْمُضَاف إِلَيْهِ، بل: الْوَاو، هُنَا إِمَّا بِمَعْنى: بَاء الْجَرّ، كَمَا فِي قَوْلهم: أَنْت أعلم وَمَالك، وَالْمعْنَى: إِيجَاب التَّكْبِير بافتتاح الصَّلَاة. وَأما بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، وَالْمعْنَى: إِيجَاب التَّكْبِير لأجل افْتِتَاح الصَّلَاة. ومجيء: الْوَاو، بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، ذكره الخارزنجي، وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: مَعَ، أَي: إِيجَاب التَّكْبِير مَعَ افْتِتَاح الصَّلَاة، ومجيء: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، شَائِع ذائع.
ثمَّ إعلم أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب وجوب التَّكْبِير، لِأَن الْإِيجَاب هُوَ الْخطاب الَّذِي يعْتَبر فِيهِ جَانب الْفَاعِل، وَالْوُجُوب هُوَ الَّذِي يعْتَبر فِيهِ جَانب الْمَفْعُول، وَهُوَ فعل الْمُكَلف، وَإِطْلَاق الْإِيجَاب على الْوُجُوب تسَامح.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ شَرط، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: ركن. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تَنْعَقِد الصَّلَاة بِمُجَرَّد النِّيَّة بِلَا تَكْبِير، قَالَ أَبُو بكر: وَلم يقل بِهِ غَيره. قَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى وجوب تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَنَّهَا سنة، رُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَالْحكم وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالُوا: إِن تَكْبِير الرُّكُوع يجْزِيه عَن تَكْبِير الْإِحْرَام، وَرُوِيَ عَن مَالك فِي الْمَأْمُوم مَا يدل على أَنه سنة، وَلم يخْتَلف قَوْله فِي الْمُنْفَرد وَالْإِمَام أَنه وَاجِب على كل وَاحِد مِنْهُمَا، وَأَن من نَسيَه يسْتَأْنف الصَّلَاة. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: التَّكْبِير ركن لَا تَنْعَقِد الصَّلَاة إِلَّا بِهِ، سَوَاء تَركه سَهوا أَو عمدا. قَالَ: وَهَذَا قَول ربيعَة وَالثَّوْري وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَحكى الثَّوْريّ وَأَبُو الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ عَن ابْن علية، والأصم كَقَوْل الزُّهْرِيّ فِي انْعِقَاد الصَّلَاة بِمُجَرَّد النِّيَّة بِغَيْر تَكْبِير، وَقَالَ عبد الْعَزِيز ابْن ابراهيم بن بزيزة: قَالَت طَائِفَة بِوُجُوب تَكْبِير الصَّلَاة كُله، وَعكس آخَرُونَ فَقَالُوا: كل تَكْبِيرَة فِي الصَّلَاة لَيست بواجبة مُطلقًا، مِنْهُم: ابْن شهَاب وَابْن الْمسيب، وأجازوا الْإِحْرَام بِالنِّيَّةِ لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) ، وَالْجُمْهُور أوجبوها خَاصَّة دون مَا عَداهَا. وَاخْتلف مَذْهَب مَالك: هَل يحملهَا الإِمَام عَن الْمَأْمُوم أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ فِي الْمَذْهَب.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء: هَل يجزىء الِافْتِتَاح بالتسبيح والتهليل مَكَان التَّكْبِير؟ فَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يجزىء إِلَّا: الله أكبر، وَعَن الشَّافِعِي أَنه يجزىء: الله الْأَكْبَر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: يجوز بِكُل لفظ يقْصد بِهِ التَّعْظِيم، وَذكر فِي (الْهِدَايَة) قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن كَانَ الْمُصَلِّي يحسن التَّكْبِير لم يجز إلاّ: الله أكبر، أَو: الله الْأَكْبَر، أَو الله الْكَبِير، وَإِن لم يحسن جَازَ. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِحَدِيث عَائِشَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْتَتح الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ) ، وَبِحَدِيث ابْن عمر: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتتح التَّكْبِير فِي الصَّلَاة) على تعْيين لفظ: التَّكْبِير، دون لفظ غَيره من أَلْفَاظ التَّعْظِيم، وَكَذَلِكَ استدلوا بِحَدِيث رِفَاعَة فِي قصَّة الْمُسِيء صلَاته، أخرجه أَبُو دَاوُد: (لَا تتمّ صَلَاة أحد من النَّاس حَتَّى يتَوَضَّأ فَيَضَع الْوضُوء موَاضعه ثمَّ يكبر) . وَبِحَدِيث أبي حميد: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة عقد قَائِما وَرفع يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: الله أكبر) ، أخرجه التِّرْمِذِيّ قلت: التَّكْبِير هُوَ التَّعْظِيم من حَيْثُ اللُّغَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأينه أكبرنه} (يُوسُف: 31) . أَي: عظمنه. {وَرَبك فَكبر} (المدثر: 3) أَي: فَعظم، فَكل لفظ دلّ على التَّعْظِيم وَجب أَن يجوز الشُّرُوع بِهِ، وَمن أَيْن قَالُوا: إِن التَّكْبِير وَجب بِعَيْنِه حَتَّى يقْتَصر على لفظ: أكبر؟ وَالْأَصْل فِي خطاب الشَّرْع أَن تكون نصوصه مَعْلُومَة معقولة، وَالتَّقْيِيد خلاف فِي الأَصْل على مَا عرف فِي الْأُصُول. وَقَالَ تَعَالَى: {وَذكر اسْم ربه فصلى} (الْأَعْلَى: 15) وَذكر اسْمه تَعَالَى أَعم من أَن يكون: باسم الله، أَو: باسم الرَّحْمَن، فَجَاز الرَّحْمَن أعظم، كَمَا جَازَ: الله أكبر، لِأَنَّهُمَا فِي كَونهمَا ذكرا سَوَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} (الْأَعْرَاف: 180) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إلاّ الله) ، فَمن(5/268)
قَالَ لَا إِلَه إلاّ الرَّحْمَن أَو الْعَزِيز كَانَ مُسلما، فَإِذا جَازَ ذَلِك فِي الْإِيمَان الَّذِي هُوَ أصل، فَفِي فروعه أولى. وَفِي (سنَن ابْن أبي شيبَة) : عَن أبي الْعَالِيَة أَنه سُئِلَ: بِأَيّ شَيْء كَانَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، يستفتحون الصَّلَاة؟ قَالَ: بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيح والتهليل. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: بِأَيّ شَيْء من أَسمَاء الله تَعَالَى افتتحت الصَّلَاة أجزأك، وَمثله عَن النَّخعِيّ وَعَن إِبْرَاهِيم: إِذا سبح أَو كبر أَو هلل أَجْزَأَ فِي الِافْتِتَاح، وَالْجَوَاب عَن حَدِيث رِفَاعَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أثبتها صَلَاة وَنفى قبُولهَا، وَيجوز أَن تكون جَائِزَة وَلَا تكون مَقْبُولَة، إِذْ لَا يلْزم من الْجَوَاز الْقبُول، وَعِنْدهم لَا تكون صَلَاة فَلَا حجَّة فِيهِ.
732 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ الأنْصَارِيُّ أنَّ رسُولَ الله رَكِبَ فَرَسا فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ قَالَ أنَسٌ رَضِي الله عنْهُ فَصَلَّى لَنَا يَوْمَئِذٍ صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ هْوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودا ثُمَّ قَالَ لَمَّا سَلَّمَ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فَإذَا صَلَّى قائِما فَصَلُّوا قِيَاما وإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا وإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ.
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ابْن شهَاب عَن أنس، وَبَينهمَا تفَاوت فِي بعض الْأَلْفَاظ، فهناك: (ركب فرسا فصرع عَنهُ فجحش) وَهُنَاكَ بعد قَوْله: (وَرَاءه قعُودا، فَلَمَّا إنصرف قَالَ: إِنَّمَا جعل الإِمَام) ، وَلَيْسَ هُنَاكَ: (وَإِذا سجد فاسجدوا) ، وَفِي آخِره هُنَاكَ: (وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . وَفِي نفس الْأَمر هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده فِي ذَلِك الْبَاب حَدِيث وَاحِد، فَالْكل من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَفِي الحَدِيث الَّذِي يتلوه: (وَإِذا كبر فكبروا) ، وَهُوَ مُقَدّر أَيْضا فِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن قَوْله: (إِذا ركع فاركعوا) ، يَسْتَدْعِي سبق التَّكْبِير بِلَا شكّ، والمقدر كالملفوظ، فَحِينَئِذٍ يظْهر التطابق بَين تَرْجَمَة الْبَاب وَبَين هذَيْن الْحَدِيثين، لِأَن الْأَمر بِالتَّكْبِيرِ صَرِيح فِي أَحدهمَا، مُقَدّر فِي الآخر، وَالْأَمر بِهِ للْوُجُوب، فَدلَّ على الْجُزْء الأول من التَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير.
وَأما دلَالَته على الْجُزْء الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: وافتتاح الصَّلَاة، فبطريق اللُّزُوم، لِأَن التَّكْبِير فِي أول الصَّلَاة لَا يكون إلاّ عِنْد افتتاحها، وافتتاحها هُوَ الشُّرُوع فِيهَا، فَإِذا أمعنت النّظر فِيمَا قلت عرفت أَن اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ على البُخَارِيّ هَهُنَا لَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيث شُعَيْب ذكر التَّكْبِير وَلَا ذكر الِافْتِتَاح، وَمَعَ هَذَا فَحَدِيث اللَّيْث الَّذِي ذكره إِنَّمَا فِيهِ: (إِذا كبر فكبروا) ، لَيْسَ فِيهِ بَيَان إِيجَاب التَّكْبِير، وَإِنَّمَا فِيهِ بَيَان إِيجَاب الَّتِي يكبرُونَ بهَا لَا يسبقون إمَامهمْ بهَا، وَلَو كَانَ ذَلِك إِيجَابا للتكبير بِهَذَا اللَّفْظ لَكَانَ قَوْله: (وَإِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد) ، إِيجَابا لهَذَا القَوْل على الْمُؤْتَم. انْتهى.
وَقد قُلْنَا: إِن هَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة فِي حكم حَدِيث وَاحِد وَقد بَينا وَجهه، وَأَنه يدل على وجوب التَّكْبِير، وبطريق اللُّزُوم يدل على افْتِتَاح الصَّلَاة، وَقَوله: وَلَيْسَ فِيهِ بَيَان إِيجَاب التَّكْبِير، مَمْنُوع، وَكَيف لَا يدل وَقد أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن التِّين وَابْن بطال: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَاجِبَة بِهَذَا اللَّفْظ، أَعنِي بقوله: (فكبروا) ، لِأَنَّهُ ذكر تَكْبِيرَة الْإِحْرَام دون غَيرهَا من سَائِر التَّكْبِيرَات، وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقَوله: وَلَو كَانَ ذَلِك إِيجَابا ... إِلَى آخِره، قِيَاس غير صَحِيح، لِأَن التَّحْمِيد غير وَاجِب على الْمُؤْتَم بِالْإِجْمَاع، وَلَا يضر ذَلِك إِيجَاب الظَّاهِرِيَّة إِيَّاه على الْمُؤْتَم، لِأَن خلافهم لَا يعْتَبر، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَيمكن أَن يكون البُخَارِيّ أَيْضا قَائِلا بِوُجُوب التَّحْمِيد، كَمَا يُوجِبهُ الظَّاهِرِيَّة. فَإِن قلت: روى عَن الْحميدِي أَنه قَالَ بِوُجُوبِهِ؟ قلت: يحْتَمل أَنه لم يكن اطلع على كَون الْإِجْمَاع فِيهِ على عدم الْوُجُوب، وَعرفت أَيْضا أَن قَول صَاحب (التَّلْوِيح) : وافتتاح الصَّلَاة لَيْسَ فِي ظَاهر الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْء أَيْضا، لِأَنَّهُ نظر إِلَى الظَّاهِر، وَلَو غاص فِيمَا غصناه لم يقل بذلك. والكرماني أَيْضا تصرف وتكلف هُنَا، ثمَّ توقف فاستشكل دلَالَته على التَّرْجَمَة حَيْثُ قَالَ: أَولا: الحَدِيث دلّ على الْجُزْء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، لِأَن لفظ: (إِذا صلى قَائِما) يتَنَاوَل لكَون الِافْتِتَاح فِي حَال الْقيام، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا افْتتح الإِمَام الصَّلَاة قَائِما فافتتحوا أَنْتُم أَيْضا قيَاما، إلاّ أَن تكون: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، وَالْغَرَض بَيَان إِيجَاب(5/269)
التَّكْبِير عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة، يَعْنِي: لَا يقوم مقَامه التَّسْبِيح والتهليل، فَحِينَئِذٍ دلَالَته على التَّرْجَمَة مُشكل. انْتهى. قلت: قَوْله: وَالْغَرَض ... إِلَى آخِره، غير صَحِيح، لِأَن الْغَرَض لَيْسَ مَا قَالَه، بل الْغَرَض بَيَان وجوب نفس تَكْبِيرَة الْإِحْرَام للْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، خلافًا لمن نفى وُجُوبهَا، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُقَال: عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا كَانَ فِي الْبَاب حَدِيث دَال على التَّرْجَمَة يذكرهُ، وبتبعيته يذكر أَيْضا مَا يُنَاسِبه، وَإِن لم يتَعَلَّق بالترجمة. انْتهى. قلت: هَذَا جَوَاب عَاجز عَن تَوْجِيه الْكَلَام على مَا لَا يخفى.
ثمَّ إعلم أَنا قد تكلمنا على مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث مستقصىً فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، وَشَيخ البُخَارِيّ أَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن نَافِع البهراني الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. .
وَمن لطائف أسناده: إِنَّه من رباعيات البُخَارِيّ. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبلفظ الْإِخْبَار فِي مَوضِع بِصِيغَة الْجمع، وَفِي مَوضِع بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة حمصيين ومدنيين.
733 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا لَيْثٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أنَسِ بنِ مالَكٍ أنَّهُ قَالَ خَرَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ فَصَلَّى لَنَا قَاعِدا فَصَلَّيْنَا مَعَهُ قُعُودا ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ إنَّمَا الإمَامُ أوْ إنَّمَا جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإذَا كَبَّرَ فكَبِّرُوا وإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وَإِذا رفَعَ فارْفَعُوا وَإِذا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ وَإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا.
هَذَا طَرِيق عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث بن سعيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أنس عَن مَالك. قَوْله: (خر) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء أَي: وَقع من الخرور، وَهُوَ السُّقُوط. قَوْله: (فجحش) بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة أَي: خدش وَهُوَ أَن يتقشر جلد الْعُضْو. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (ثمَّ انْصَرف) . قَوْله: (وَإِنَّمَا) شكّ من الرَّاوِي فِي زِيَادَة لفظ: (جعل) ومفعول: (فكبروا) ومفعول: (إرفعوا) محذوفان. قَوْله: (سمع الله لمن حَمده) قَالَ الْكرْمَانِي: فَلَا بُد أَن يسْتَعْمل بِمن لَا بِاللَّامِ. قلت: مَعْنَاهُ سمع الْحَمد لأجل الحامد مِنْهُ قلت: يُقَال: استمعت لَهُ وتسمعت إِلَيْهِ وَسمعت لَهُ وَسمعت عَنهُ، كُله بِمَعْنى أَي: أصيغت إِلَيْهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن} (فصلت: 26) وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يسَّمعون إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى} (الصافات: 8) . وَالْمرَاد مِنْهُ فِي التسميع، مجَاز بطرِيق إِطْلَاق اسْم السَّبَب وَهُوَ الإصغاء على الْمُسَبّب وَهُوَ الْقبُول والإجابة، أَي: أجَاب لَهُ وَقَبله، بِمَعْنى: قبل الله حمد من حَمده. يُقَال: سمع الْأَمِير كَلَام فلَان، إِذا قبل، وَيُقَال: مَا سمع كَلَامه أَي: رده وَلم يقبله، وَإِن سمع حَقِيقَة. قَوْله: (وَلَك الْحَمد) قَالَ الْكرْمَانِي، بِدُونِ: الْوَاو، وَفِي الرِّوَايَة السَّابِقَة، بِالْوَاو، والأمران جائزان، وَلَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر فِي مُخْتَار أَصْحَابنَا قلت: رُوِيَ هُنَا أَيْضا: بِالْوَاو، فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّصَرُّف. وَقَوله: لَا تَرْجِيح لأَحَدهمَا على الآخر، غير مُسلم لِأَن بَعضهم رجح الَّذِي بِدُونِ: الْوَاو، لكَونهَا زَائِدَة. وَفِي (الْمُحِيط) : رَبنَا لَك الْحَمد أفضل لزِيَادَة: الْوَاو، وَبَعْضهمْ رجح الَّذِي بِالْوَاو لِأَن تَقْدِيره: رَبنَا حمدناك وَلَك الْحَمد، فَيكون الْحَمد مكررا، ثمَّ لفظ: رَبنَا، لَا يُمكن أَن يتَعَلَّق بِمَا قبله، لِأَنَّهُ كَلَام الْمَأْمُوم وَمَا قبله كَلَام الإِمَام، بِدَلِيل: فَقولُوا، بل هُوَ ابْتِدَاء كَلَام، وَلَك الْحَمد، حَال مِنْهُ أَي: أَدْعُوك وَالْحَال أَن الْحَمد لَك لَا لغيرك، وَلَا يجوز أَن يعْطف على: أَدْعُوك، لِأَنَّهَا إنشائية، وَتلك خبرية.
734 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدَّثنِي أبُو الزِّنادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ ليُؤْتَمَّ بهِ فإذَا كَبَّرَ فكبِّرُوا وَإِذا ركَعَ فارْكَعُوا وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا ولكَ الحَمْدُ وإذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وَإذَا صَلَّى جالِسا فصَلُّوا جُلُوسا أجْمَعُونَ. (أنظر الحَدِيث 722) .
مطابقته للتَّرْجَمَة بيناها فِي حَدِيث أنس فِي أول الْبَاب: وَأخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع مثل مَا أخرج حَدِيث أنس عَن أبي الْيَمَان أَيْضا، غير أَن هُنَاكَ عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَهنا عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن عبد الله بن ذكْوَان(5/270)
عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ.
83 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى مَعَ الافْتِتَاحِ سَوَاءً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْمُصَلِّي يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مَعَ الِافْتِتَاح، أَي: الشُّرُوع فِي الصَّلَاة. قَوْله: (سَوَاء) أَي: حَال كَون رفع الْيَدَيْنِ مَعَ الِافْتِتَاح متساويين.
735 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ وإذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضا وَقَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ وكانَ لاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الله بن مسلمة هُوَ القعْنبِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَالْبَاقِي عنعنة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، وَعَن عَمْرو بن عَليّ، وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك.
قَوْله: (حَذْو مَنْكِبَيْه) أَي ازاء مَنْكِبَيْه الحذو والحذاء الازاء والمقابل قَوْله (رفعهما) جَوَاب لقَوْله: (وَإِذا رفع) . قَوْله: (كَذَلِك) أَي: حَذْو مَنْكِبَيْه. قَوْله: (وَكَانَ لَا يفعل ذَلِك فِي السُّجُود) أَي: لَا يرفع يَدَيْهِ فِي ابْتِدَاء السُّجُود وَالرَّفْع مِنْهُ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ رفع الْيَدَيْنِ عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلم يَخْتَلِفُوا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : أَجمعت الْأمة على اسْتِحْبَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع فِيهِ، وَنقل الْعَبدَرِي عَن الزيدية، وَلَا يعْتد بهم أَنه لَا يرفع يَدَيْهِ عِنْد الْإِحْرَام، وَفِي (فتاوي الْقفال) : إِن أَبَا الْحسن أَحْمد بن سيار الْمروزِي قَالَ: إِذا لم يرفع يَدَيْهِ لم تصح صلَاته لِأَنَّهَا وَاجِبَة، فَوَجَبَ الرّفْع لَهَا، بِخِلَاف بَاقِي التَّكْبِيرَات، لَا يجب الرّفْع لَهَا، لِأَنَّهَا غير وَاجِبَة. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا مَرْدُود بِإِجْمَاع من قبله. وَقَالَ ابْن حزم: رفع الْيَدَيْنِ فِي أول الصَّلَاة فرض لَا تجزىء الصَّلَاة إلاّ بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ. قلت: وَمِمَّنْ قَالَ بِالْوُجُوب: الْحميدِي وَابْن خُزَيْمَة، نَقله عَنهُ الْحَاكِم، وَحَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن عَن أَحْمد، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: كل من نقل عَنهُ الْإِيجَاب لَا تبطل الصَّلَاة بِتَرْكِهِ إلاّ رِوَايَة عَن الْأَوْزَاعِيّ والْحميدِي، وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْمَالِكِيَّة.
وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة الرّفْع، فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: يرفع ناشرا أَصَابِعه مُسْتَقْبلا بباطن كفيه الْقبْلَة، كَأَنَّهُ لمح مَا فِي (الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيثه عَن مُحَمَّد بن حزم، حَدثنَا عمر بن عمرَان عَن ابْن جريج عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: إِذا استفتح أحدكُم الصَّلَاة فَليرْفَعْ يَدَيْهِ وليستقبل بباطنهما الْقبْلَة، فَإِن الله تَعَالَى، عز وَجل، أَمَامه. وَفِي (الْمُحِيط) : وَلَا يفرج بَين الْأَصَابِع تفريجا، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن سمْعَان: (دخل علينا أَبُو هُرَيْرَة مَسْجِد بني زُرَيْق، فَقَالَ: ثَلَاث كَانَ يعْمل بِهن فَتَرَكَهُنَّ النَّاس؛ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ هَكَذَا، وَأَشَارَ أَبُو عَامر الْعَقدي بيدَيْهِ، وَلم يفرج بَين أَصَابِعه وَلم يضمها) . وَضَعفه. وَفِي (الْحَاوِي) للماوردي: يَجْعَل بَاطِن كل كف إِلَى الْأُخْرَى، وَعَن سَحْنُون: ظهورهما إِلَى السَّمَاء وبطونهما إِلَى الأَرْض. وَعَن القَاضِي: يقيمهما محنيتين شَيْئا يَسِيرا. وَنقل الْمحَامِلِي عَن أَصْحَابهم: يسْتَحبّ تَفْرِيق الْأَصَابِع. وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَا يتَكَلَّف ضما وَلَا تفريقا، بل يتركهما على هيئتهما. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: يفرق تفريقا وسطا. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: يسْتَحبّ أَن يمد أَصَابِعه وَيضم بَعْضهَا إِلَى بعض.
الْوَجْه الثَّانِي: فِي وَقت الرّفْع، فَظَاهر رِوَايَة البُخَارِيّ أَنه يبتدىء الرّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنه رفعهما ثمَّ كبر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: ثمَّ رفع يَدَيْهِ، فَهَذِهِ حالات فعلت لبَيَان جَوَاز كل مِنْهَا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهِي أوجه لِأَصْحَابِنَا أَصَحهَا الِابْتِدَاء بِالرَّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، وَنسبَة الْغَزالِيّ إِلَى الْمُحَقِّقين(5/271)
وَفِي (شرح الْهِدَايَة) : يرفع ثمَّ يكبر. وَقَالَ صَاحب (الْمَبْسُوط) : وَعَلِيهِ أَكثر مَشَايِخنَا. وَقَالَ خُوَاهَر زادة: يرفع مُقَارنًا للتكبير، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : الصَّحِيح أَن يكون ابْتِدَاء الرّفْع مَعَ التَّكْبِير وانتهاؤه مَعَ انتهائه، وَهُوَ الْمَنْصُوص. وَقيل: يرفع بِلَا تَكْبِير ثمَّ يبتدىء التَّكْبِير مَعَ إرْسَال الْيَدَيْنِ، وَقيل: يرفع بِلَا تَكْبِير ثمَّ يرسلهما بعد فرَاغ التَّكْبِير، وَهَذَا مصحح عِنْد الْبَغَوِيّ. وَقيل: يبتدىء بهما مَعًا وَيَنْتَهِي التَّكْبِير مَعَ انْتِهَاء الْإِرْسَال. وَقيل: يبتدىء الرّفْع مَعَ ابْتِدَاء التَّكْبِير، وَلَا اسْتِحْبَاب فِي الِانْتِهَاء، وَهَذَا مصحح عِنْد الرَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: ورفعهما تعبد، وَقيل: إِشَارَة إِلَى التَّوْحِيد. وَقيل: حكمته أَن يرَاهُ الْأَصَم فَيعلم دُخُوله فِي الصَّلَاة، وَالتَّكْبِير لإسماع الْأَعْمَى فَيعلم دُخُوله فِي الصَّلَاة. وَقيل: انقياد. وَقيل: إِشَارَة إِلَى طرح أُمُور الدُّنْيَا والإقبال بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الصَّلَاة. وَقيل: استعظام مَا دخل فِيهِ. وَقيل: إِشَارَة إِلَى تَمام الْقيام. وَقيل: إِلَى رفع الْحجاب بَين العَبْد والمعبود. وَقيل: ليستقبل بِجَمِيعِ بدنه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا أنسبها. وَقَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: مَا معنى رفع الْيَدَيْنِ؟ قَالَ: تَعْظِيم الله وَاتِّبَاع سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَنقل عَن عبد الْبر عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: رفع الْيَدَيْنِ من زِينَة الصَّلَاة، بِكُل رفع عشر حَسَنَات، بِكُل أصْبع حَسَنَة.
الْوَجْه الثَّالِث: إِلَى أَيْن يرفع؟ فَظَاهر الحَدِيث، يرفع حَذْو مَنْكِبَيْه، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا أصح قولي مَالك، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: إِلَى صَدره، لما روى مُسلم عَن مَالك بن الْحُوَيْرِث: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ) . وَفِي لفظ: (حَتَّى يُحَاذِي بهما فروع أُذُنَيْهِ) . وَعَن أنس مثله عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَسَنَده صَحِيح. وَعَن الْبَراء من عِنْد الطَّحَاوِيّ: (يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي أُذُنَيْهِ) ، وَذهب ابْن حبيب إِلَى رفعهما إِلَى حَذْو أُذُنَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: فَوق رَأسه،. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرّفْع مدا مَعَ الرَّأْس، وَرُوِيَ أَنه كَانَ يرفعهما حذاء أُذُنَيْهِ، وَرُوِيَ: إِلَى صَدره، وَرُوِيَ: حَذْو مَنْكِبَيْه، وَكلهَا آثَار مَحْفُوظَة مَشْهُورَة دَالَّة على التَّوسعَة. وَعَن ابْن طَاوُوس، عَن طَاوُوس: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُجَاوز بهما رَأسه، وَقَالَ: رَأَيْت ابْن عَبَّاس يصنعه، وَلَا أعلم إلاّ أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يصنعه. وَصَححهُ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه (الْوَهم وَالْإِيهَام) : وَيكبر مرّة وَاحِدَة. وَعند الرافضة: ثَلَاثًا. وَأخرج ابْن مَاجَه: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ عِنْد كل تَكْبِيرَة) . وَزعم النَّوَوِيّ: أَن هَذَا الحَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ.
الْوَجْه الرَّابِع فِيهِ: رفع الْيَدَيْنِ عِنْد تَكْبِير الرُّكُوع وَعند رفع رَأسه من الرُّكُوع، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَرِوَايَة عَن مَالك، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَمُجاهد وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم وَقَتَادَة وَمَكْحُول وَسَعِيد بن جُبَير وعبد الله بن الْمُبَارك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه (رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة) بعد أَن أخرجه من طَرِيق عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن تِسْعَة عشر رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم كَانُوا يرفعون أَيْديهم عِنْد الرُّكُوع، وَعدد أَكْثَرهم، وَزَاد الْبَيْهَقِيّ جماعات، وَذكر ابْن الْأَثِير فِي (شَرحه) : أَن ذَلِك رُوِيَ عَن أَكثر من عشْرين نَفرا، وَزَاد فيهم الْخُدْرِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: من جُمْلَتهمْ الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: قَالَ أَبُو عَليّ: روى الرّفْع عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَيف وَثَلَاثُونَ من الصَّحَابَة، وَفِي (التَّوْضِيح) : ثمَّ الْمَشْهُور أَنه لَا يجب شَيْء من الرّفْع، وَحكى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَحكى عَن دَاوُد إِيجَابه فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَبِه قَالَ ابْن سيار من أَصْحَابنَا، وَحكي عَن بعض الْمَالِكِيَّة، وَحكي عَن أبي حنيفَة مَا يَقْتَضِي الْإِثْم بِتَرْكِهِ. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: من ترك الرّفْع فِي الصَّلَاة فقد ترك ركنا من أَرْكَانهَا. وَفِي (قَوَاعِد) ابْن رشد: عَن بَعضهم وُجُوبه أَيْضا عِنْد السُّجُود، وَعند أبي حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولى، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وعلقمة بن قيس وَالْأسود بن يزِيد وعامر الشّعبِيّ وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وخيثمة والمغيرة ووكيع وَعَاصِم بن كُلَيْب وَزفر، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَهُوَ الْمَشْهُور من مذْهبه والمعمول عِنْد أَصْحَابه، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَبِه يَقُول غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَول سُفْيَان وَأهل الْكُوفَة. وَفِي (الْبَدَائِع) : رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْعشْرَة الَّذين شهد لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ مَا كَانُوا يرفعون أَيْديهم إلاّ فِي افْتِتَاح الصَّلَاة وَذكر غَيره عَن عبد الله بن مَسْعُود أَيْضا وَجَابِر بن سَمُرَة والبراء بن عَازِب وَعبد الله بن عمر وَأَبا(5/272)
سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتج أَصْحَابنَا بِحَدِيث الْبَراء بن عَازِب، قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا كبر لافتتاح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي أُذُنَيْهِ ثمَّ لَا يعود) . أخرجه أَبُو دَاوُد والطَّحَاوِي من ثَلَاث طرق وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : فَإِن قَالُوا: فِي حَدِيث الْبَراء قَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث هشيم وخَالِد وَابْن إِدْرِيس عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْبَراء، وَلم يذكرُوا: ثمَّ لَا يعود. وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يقل أحد فِي هَذَا: ثمَّ لَا يعود، غير شريك. وَقَالَ أَبُو عمر: تفرد بِهِ يزِيد، وَرَوَاهُ عَنهُ الْحفاظ فَلم يذكر وَاحِد مِنْهُم. قَوْله: (ثمَّ لَا يعود) . وَقَالَ الْبَزَّار: لَا يَصح حَدِيث يزِيد فِي رفع الْيَدَيْنِ ثمَّ لَا يعود. وَقَالَ عَبَّاس الدوري عَن يحيى بن معِين: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث واه، قد كَانَ يزِيد يحدث بِهِ لَا يذكر: ثمَّ لَا يعود، فَلَمَّا لقن أَخذ يذكرهُ فِيهِ. وَقَالَ جمَاعَة: إِن يزِيد كَانَ يُغير بِآخِرهِ، فَصَارَ يَتَلَقَّن. قُلْنَا: يُعَارض قَول أبي دَاوُد قَول ابْن عدي فِي (الْكَامِل) رَوَاهُ هشيم وَشريك وَجَمَاعَة مَعَهُمَا: عَن يزِيد بِإِسْنَادِهِ، وَقَالُوا فِيهِ: ثمَّ لم يعد، فَظهر أَن شَرِيكا لم ينْفَرد بِرِوَايَة هَذِه الزِّيَادَة، فَسقط بذلك أَيْضا كَلَام الْخطابِيّ: لم يقل فِي هَذَا: ثمَّ لَا يعود غير شريك. فَإِن قلت: يزِيد ضَعِيف وَقد تفرد بِهِ؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن رَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن أبي ليلى، فَكَذَلِك أخرجه الطَّحَاوِيّ، إِشَارَة إِلَى أَن يزِيد قد توبع فِي هَذَا. وَأما يزِيد فِي نَفسه فَإِنَّهُ ثِقَة. فَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ جَائِز الحَدِيث وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: هُوَ، وَإِن تكلم فِيهِ لتغيره، فَهُوَ مَقْبُول القَوْل عدل ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا ترك حَدِيثه، وَغَيره أحب إِلَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْن شاهين فِي كتاب (الثِّقَات) : قَالَ أَحْمد بن صَالح: يزِيد ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي قَول من يتَكَلَّم فِيهِ. وَخرج حَدِيثه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) . وَقَالَ السَّاجِي: صَدُوق، وَكَذَا قَالَ ابْن حبَان وَخرج مُسلم حَدِيثه، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يحمل أمره على أَنه حدث بِبَعْض الحَدِيث تَارَة، وبجملته أُخْرَى، أَو يكون قد نسي أَولا ثمَّ تذكر. وَقد اتقنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا للهداية) وَالَّذِي يحْتَج بِهِ الْخصم من الرّفْع مَحْمُول على أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الزبير رأى رجلا يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع رَأسه من الرُّكُوع، فَقَالَ لَهُ: لَا تفعل، فَإِن هَذَا شَيْء فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركه، وَيُؤَيّد النّسخ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله ابْن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ: صليت خلف ابْن عمر فَلم يكن يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي التَّكْبِيرَة الأولى من الصَّلَاة. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا ابْن عمر قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله.
وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو بكر بن عِيَاض عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ: مَا رَأَيْت ابْن عمر يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي أول مَا يفْتَتح، فَقَالَ الْخصم: هَذَا حَدِيث مُنكر، لِأَن طاووسا قد ذكر إِنَّه رأى ابْن عمر يفعل مَا يُوَافق مَا روى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك، قُلْنَا: يجوز أَن يكون ابْن عمر فعل مَا رَوَاهُ طَاوُوس يَفْعَله قبل أَن تقوم الْحجَّة عِنْده بنسخة، ثمَّ قَامَت الْحجَّة عِنْده بنسخة فَتَركه، وَفعل مَا ذكره عَنهُ مُجَاهِد، فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ، فَجَوَابه أَن أَبَا دَاوُد قد أخرجه من وُجُوه كَثِيرَة: أَحدهَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَلَيْسَ فِيهِ ذكر رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع، وَالطَّرِيق الَّذِي فِيهِ ذَلِك فَهُوَ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، فَهُوَ ضَعِيف. قَالُوا: إِنَّه مطعون فِي حَدِيثه فَكيف يحتجون بِهِ على الْخصم؟ فَإِن قلت: هُوَ من رجال مُسلم قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون ضَعِيفا عِنْد غَيره، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَالْحَدِيث مَعْلُول بِجِهَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي حميد وَلَا مِمَّن ذكر مَعَه فِي هَذَا الحَدِيث مثل أبي قَتَادَة وَغَيره فَإِنَّهُ توفّي فِي خلَافَة الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك، وَكَانَت خِلَافَته فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَلِهَذَا قَالَ ابْن حزم: وَلَعَلَّ عبد الحميد ابْن جَعْفَر وهم فِيهِ، يَعْنِي فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء. فَإِن قَالَ الْخصم: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : حكم البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : بِأَنَّهُ سمع أَبَا حميد، قُلْنَا: الْقَائِل بِأَنَّهُ لم يسمع من أبي حميد هُوَ الشّعبِيّ، وَهُوَ حجَّة فِي هَذَا الْبَاب، وَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة حَذْو مَنْكِبَيْه حِين يفْتَتح الصَّلَاة وَحين يرْكَع وَحين يسْجد) ، فَجَوَابه أَنه من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن صَالح بن كيسَان، وهم لَا يجْعَلُونَ إِسْمَاعِيل فِيمَا يرْوى عَن غير الشاميين حجَّة، فَكيف يحتجون بِمَا لَو احْتج بِمثلِهِ عَلَيْهِم لم يسوغوه إِيَّاه؟ وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِسْمَاعِيل ضَعِيف.(5/273)
وَقَالَ ابْن حبَان: كثير الْخَطَأ فِي حَدِيثه، فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَا يحْتَج بِهِ.
فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث وَائِل بن حجر قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ حِين يكبر للصَّلَاة وَحين يرْكَع وَحين يرفع رَأسه من الرُّكُوع يرفع يَدَيْهِ حِيَال أُذُنَيْهِ) أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، فَجَوَابه أَنه ضاده مَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه لم يكن رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل مَا ذكر من رفع الْيَدَيْنِ فِي غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فعبد الله أقدم صُحْبَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأفهم بأفعاله من وَائِل، وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب أَن يَلِيهِ الْمُهَاجِرُونَ ليحفظوا عَنهُ، وَكَانَ عبد الله كثير الولوج على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَائِل بن حجر أسلم فِي الْمَدِينَة فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَبَين إسلاميهما اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة، وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم للْمُغِيرَة، حِين قَالَ: إِن وائلاً حدث أَنه رأى (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ إِذا افْتتح الصَّلَاة وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) : إِن كَانَ وَائِل رَآهُ مرّة يفعل ذَلِك، فقد رَآهُ عبد الله خمسين مرّة لَا يفعل ذَلِك، فَإِن قلت: خبر إِبْرَاهِيم غير مُتَّصِل لِأَنَّهُ لم يدْرك عبد الله، لِأَنَّهُ مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بِالْكُوفَةِ، ومولد إِبْرَاهِيم سنة خمسين، كَمَا صرح بِهِ ابْن حبَان قلت: عَادَة إِبْرَاهِيم إِذا أرسل حَدِيثا عَن عبد الله لم يُرْسِلهُ ألاّ بعد صِحَّته عِنْده من الروَاة عَنهُ، وَبعد تكاثر الرِّوَايَات عَنهُ، وَلَا شكّ أَن خبر الْجَمَاعَة أقوى من خبر الْوَاحِد وَأولى.
فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْأَرْبَعَة، وَفِيه: رفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه، ويصنع مثل ذَلِك، إِذا قضى قِرَاءَته إِذا أَرَادَ أَن يرْكَع، ويصنعه إِذا ركع وَرفع من الرُّكُوع، فَجَوَابه أَنه رُوِيَ عَنهُ أَيْضا مَا يُنَافِيهِ ويعارضه، فَإِن عَاصِم ابْن كُلَيْب روى عَن أَبِيه أَن عليا كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة من الصَّلَاة ثمَّ لَا يرفع بعد، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) ، وَلَا يجوز لعَلي أَن يرى ذَلِك من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يتْرك هُوَ ذَلِك إلاّ وَقد ثَبت نسخ الرّفْع فِي غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَإسْنَاد حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب صَحِيح على شَرط مُسلم.
الْوَجْه الْخَامِس: فِيهِ أَنه قَالَ: سمع الله لمن حَمده رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَبِه اسْتدلَّ الشَّافِعِي أَن الإِمَام يجمع بَين التسميع والتحميد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
الْوَجْه السَّادِس: فِيهِ أَنه لَا يرفع يَدَيْهِ فِي ابْتِدَاء السُّجُود وَلَا فِي الرّفْع مِنْهُ، كَمَا صرح بِهِ فِيمَا يَأْتِي، وَبِه قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء، وَخَالف فِيهِ بَعضهم.
84 - (بابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ إذَا كَبَّرَ وإذَا رَكَعَ وإذَا رَفَعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْيَدَيْنِ إِذا كبر للافتتاح. قَوْله: (وَإِذا رفع) أَي: رَأسه من الرُّكُوع.
736 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رأيْتُ رسولَ الله إذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وكانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ ويَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَيقُولُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ولاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي المجاور بِمَكَّة، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف أسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن أَبِيه هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: عَن عبد الله بن عمر. وَفِيه: تَصْرِيح الزُّهْرِيّ بِإِخْبَار سَالم لَهُ بِهِ. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: من الروَاة اثْنَان مروزيان وَاثْنَانِ مدنيان وَوَاحِد أُيلي.(5/274)
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن قهزاد عَن سَلمَة بن سُلَيْمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر، وروى هَذَا الحَدِيث أَيْضا نَافِع عَن ابْن عمر، وَزَاد فِي رِوَايَة كَمَا ستعلمه فِي: بَاب رفع الْيَدَيْنِ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ، وَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عشرَة: مَالك. وَيُونُس. وَشُعَيْب. وَابْن أبي حَمْزَة. وَابْن جريج. وَابْن عُيَيْنَة. وَعقيل. والزبيدي. وَمعمر. وَعبد الله بن عمر. وَرَوَاهُ عَن مَالك جمَاعَة مِنْهُم: القعْنبِي وَيحيى بن يحيى الأندلسي فَلم يذكر فِيهِ الرّفْع عِنْد الانحطاط إِلَى الرُّكُوع، وَتَابعه على ذَلِك جماعات، وَرَوَاهُ عشرُون نفسا بإثباته، كَمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي (جمعه لغرائب مَالك الَّتِي لَيست فِي الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ جمَاعَة: إِن الْإِسْقَاط إِنَّمَا أَتَى من مَالك، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أوهم فِيهِ، وَنَقله ابْن عبد الْبر، قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث أحد الإحاديث الْأَرْبَعَة الَّتِي رَفعهَا سَالم بن عبد الله إِلَى ابْن عمر وَفعله، وَمِنْهَا مَا جعله عَن ابْن عمر عَن عمر، وَالْقَوْل فِيهَا قَول سَالم، وَلم يلْتَفت النَّاس فِيهَا إِلَى نَافِع، فَهَذَا أَحدهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قَامَ فِي الصَّلَاة) أَي: إِذا شرع فِيهَا، وَهُوَ غير قَائِم إِلَيْهَا وقائم لَهَا، وَلَا يخفى الْفرق بَين الثَّلَاث. قَوْله: (حِين يكبر للرُّكُوع) أَي: عِنْد ابْتِدَاء الرُّكُوع، وَهُوَ حَاصِل رِوَايَة مَالك بن الْحُوَيْرِث الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب حَيْثُ قَالَ: (وَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع رفع يَدَيْهِ) . وَسَيَأْتِي فِي: بَاب التَّكْبِير إِذا قَامَ من السُّجُود، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (ثمَّ يكبر حِين يرْكَع) . قَوْله: (وَيفْعل ذَلِك إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) يَعْنِي: إِذا أَرَادَ أَن يرفع. قَوْله: (وَلَا يفعل ذَلِك فِي السُّجُود) ، يَعْنِي لَا فِي الْهَوِي إِلَيْهِ. وَلَا فِي الرّفْع، وَفِيه: اقْتصر على التسميع وَلم يذكر التَّحْمِيد، وَالظَّاهِر أَن السقط من الرَّاوِي.
85 - (بابُ إلَى أيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته إِلَى أَيْن يرفع الْمُصَلِّي يَدَيْهِ عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة وَغَيره، وَإِنَّمَا لم يُصَرح بحده لكَون الْخلاف فِيهِ، لَكِن الظَّاهِر الَّذِي يذهب إِلَيْهِ مَا هُوَ مُصَرح فِي حَدِيث الْبَاب، كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيَّة، وَأما الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم أخذُوا بِحَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَلَفظه: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ) . وَعَن أنس مثله بِسَنَد صَحِيح من عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَعَن الْبَراء من عِنْد الطَّحَاوِيّ: (يرفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي(5/275)
أُذُنَيْهِ) . وَعَن وَائِل بن حجر: (حَتَّى حاذتا أُذُنَيْهِ) ، عِنْد أبي دَاوُد. وَقَالَ بَعضهم: وَرجح الأول يَعْنِي: مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لكَون إِسْنَاده أصح قلت: هَذَا تحكم لكَون الإسنادين فِي الأصحية سَوَاء، فَمن أَيْن التَّرْجِيح؟
وَقَالَ أبُو حُمَيْدٍ فِي أصْحَابِهِ رَفَعَ النبيُّ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
أَبُو حميد، بِضَم الْحَاء واسْمه: عبد الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، مر فِي: بَاب فضل اسْتِقْبَال الْقبْلَة، هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيثه الَّذِي أخرجه فِي: بَاب سنة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد. قَوْله: (فِي أَصْحَابه) جملَة وَقعت حَالا. وَكلمَة: فِي، بِمَعْنى: بَين، أَي: حَال كَونه بَين أَصْحَابه من الصَّحَابَة. قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ أَنه قَالَ: فِي حُضُور أَصْحَابه. أَو أَنه قَالَ: فِي جملَة من قَالَه من أَصْحَابه. قلت: الْمَعْنى بِحَسب الظَّاهِر على الْوَجْه الأول.
738 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا سالِمُ بنُ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بن عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتَتَحَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَجْعَلَهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وإذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ فَعَلَ مِثْلَهُ وإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فعَلَ مِثْلَهُ وَقَالَ رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ ولاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ ولاَ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهخ مِنَ السُّجُودِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى يجعلهما حَذْو مَنْكِبَيْه) ، وَهَذَا اللَّفْظ أَيْضا يُفَسر قَوْله: (إِلَى أَن يرفع يَدَيْهِ) الَّذِي هُوَ التَّرْجَمَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مَذْكُور فِي أول: بَاب إِيجَاب التَّكْبِير، لَكِن هُنَاكَ: عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَهَهُنَا: عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن عَليّ بن عَيَّاش وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُغيرَة عَن عُثْمَان بن سعيد كِلَاهُمَا عَن شُعَيْب.
قَوْله: (حَذْو) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بِمَعْنى: إزاء مَنْكِبَيْه، والمنكب، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْكَاف: مجمع عظم الْعَضُد والكتف. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الْمَذْكُور من رفع الْيَدَيْنِ حَذْو الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَذَلِكَ معنى: مثله، الثَّانِي. قَوْله: (وَلَا يفعل ذَلِك) ، أَي: رفع الْيَدَيْنِ فِي الْحَالَتَيْنِ، فِي حَالَة السَّجْدَة وَفِي حَالَة رفع رَأسه من السَّجْدَة فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث عُمَيْر بن حبيب اللَّيْثِيّ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ مَعَ كل تَكْبِيرَة فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة،) ، رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا رفدة بن قضاعة الغساني عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر عَن أَبِيه عَن جده عُمَيْر بن حبيب، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَذكره. قلت: قَالَ ابْن حبَان: هَذَا خبر مقلوب إِسْنَاده، وَمَتنه مُنكر، مَا رفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ فِي كل خفض وَرفع قطّ، وإخبار الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه مُصَرح بضده، وَأَنه لم يكن يفعل ذَلِك بَين السَّجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْن عدي: خديث الرّفْع يعرف برفده، وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد بن أبي روح الْبَغْدَادِيّ عَن مُحَمَّد بن مُصعب عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ مهنأ: سَأَلت أَحْمد وَيحيى عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَا: لَيْسَ بِصَحِيح، وَلَا يعرف عبيد بن عُمَيْر بِحَدِيث عَن أَبِيه شَيْئا، وَلَا عَن جده، وَبَقِيَّة مبَاحث الحَدِيث قد مَضَت مستوفاة فِيمَا مضى.
86 - (بابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إذَا قامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْمُصَلِّي يَدَيْهِ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ، يَعْنِي: بعد التَّشَهُّد.
739 - حدَّثنا عَيَّاشٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ كانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ ورَفَعَ يَدَيْهِ وَإذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ ورَفَعَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ إلَى نَبِيِّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَيَّاش، بِفَتْح(5/276)
الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ، مر فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثَّانِي: عبد الأعلى السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب أَبُو عُثْمَان الْمدنِي. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن النّصْف الأول من الروَاة بَصرِي، وَالنّصف الثَّانِي مدنِي. وَفِيه: إِن شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره وَمَا قيل فِيهِ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) فِي الصَّلَاة عَن نصر بن عَليّ عَنهُ أتم من الأول، وَعَن القعْنبِي عَن مَالك عَن نَافِع نَحوه وَلم يرفعهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: الصَّحِيح قَول ابْن عمر، وَلَيْسَ بمرفوع، وَرَوَاهُ القعْنبِي يَعْنِي: عبد الْوَهَّاب عَن عبيد الله وَأَوْقفهُ. وَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْث عَن سعد وَابْن جريج عَن نَافِع مَوْقُوفا، وَحكى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) الِاخْتِلَاف فِي رَفعه وَوَقفه، وَقَالَ: الْأَشْبَه بِالصَّوَابِ قَول عبد اذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: على، يَعْنِي حَدِيث البُخَارِيّ، وَحكى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن بعض مشايخه أَنه أَوْمَأ إِلَى أَن عبد الْأَعْلَى أَخطَأ فِي رَفعه، وميل البُخَارِيّ إِلَى رَفعه، فَلذَلِك أخرج هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: وَرفع ذَلِك ابْن عمر، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبيد الْمحَاربي، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن محَارب بن دثار عَن ابْن عمر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ كبر وَرفع يَدَيْهِ) ، وَصَححهُ البُخَارِيّ فِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ، وَيُقَوِّي ذَلِك أَيْضا حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ: أخرجه أَبُو دَاوُد مطولا، وَفِيه: (ثمَّ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ كبر وَرفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما مَنْكِبَيْه، كَمَا كبر عِنْد افْتِتَاح الصَّلَاة) ، وَكَذَلِكَ أخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه: (إِذا قَامَ من السَّجْدَتَيْنِ رفع يَدَيْهِ كَذَلِك وَكبر) . وَأخرج الْحَدِيثين ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وصححاهما، وَالْمرَاد من السَّجْدَتَيْنِ: الركعتان، وَهُوَ الْموضع الَّذِي اشْتبهَ على الْخطابِيّ لِأَنَّهُ قَالَ: أما مَا رُوِيَ فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ عِنْد الْقيام من السَّجْدَتَيْنِ فلست أعلم أحدا من الْفُقَهَاء ذهب إِلَيْهِ، فَإِن صَحَّ الحَدِيث فَالْقَوْل بِهِ وَاجِب قلت: اشْتبهَ عَلَيْهِ ذَلِك لكَونه لم يقف على طرق الحَدِيث. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) : وَقع فِي لفظ أبي دَاوُد: (السَّجْدَتَيْنِ) ، وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ: (الرَّكْعَتَيْنِ) ، وَالْمرَاد بالسجدتين: الركعتان. كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ: مَا زَاده ابْن عمر وَعلي وَأَبُو حميد فِي عشرَة من الصَّحَابَة من الرّفْع عِنْد الْقيام من الرَّكْعَتَيْنِ صَحِيح، لأَنهم لم يحكوا صَلَاة وَاحِدَة، فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَإِنَّمَا زَاد بَعضهم على بعض، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من أهل الْعلم. وَقَالَ ابْن بطال: هَذِه زِيَادَة يجب قبُولهَا لمن يَقُول بِالرَّفْع، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: هُوَ سنة وَإِن لم يذكرهُ الشَّافِعِي، فالإسناد صَحِيح. وَقد قَالَ: قُولُوا بِالسنةِ ودعوا قولي. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: قِيَاس نظر الشَّافِعِي أَن يسْتَحبّ الرّفْع فِيهِ لِأَنَّهُ أثبت عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ لكَونه زَائِدا على من اقْتصر عَلَيْهِ عِنْد الِافْتِتَاح، وَالْحجّة فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَة، وَأول رَاض سيرة من يسيرها. قَالَ: وَالصَّوَاب إثْبَاته، وَأما كَونه مذهبا للشَّافِعِيّ لكَونه قَالَ: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي فَفِيهِ نظر. انْتهى.
وَقَالَ بَعضهم وَجه النّظر أَن مَحل الْعَمَل بِهَذِهِ الْوَصِيَّة مَا إِذا عرف أَن الحَدِيث لم يطلع عَلَيْهِ الشَّافِعِي، أما إِذا عرف أَنه اطلع عَلَيْهِ ورده أَو تَأَوَّلَه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَا وَالْأَمر هُنَا مُحْتَمل. انْتهى. قلت: يحْتَمل أَنه ظهر عِنْده مَنْسُوخ، فالمنسوخ لَا يعْمل بِهِ وَإِن كَانَ صَحِيحا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خلاف هَذَا، يَعْنِي: خلاف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره عَنهُ، ثمَّ أخرج عَن أبي بكر النَّهْشَلِي: حَدثنَا عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يرفع يَدَيْهِ فِي أول تَكْبِيرَة من الصَّلَاة ثمَّ لَا يرفع بعده، قَالَ: فَلم يكن عَليّ ليرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع ثمَّ يتْركهُ إلاّ وَقد ثَبت عِنْده نسخه. قَالَ: ويضعف هَذِه الرِّوَايَة أَيْضا أَنه رُوِيَ من وَجه آخر، وَلَيْسَ فِيهِ الرّفْع، ثمَّ أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن عبد الله بن الْفضل عَن الْأَعْرَج بِهِ، وَلم يذكر فِيهِ الرّفْع فَإِن قلت: استنبط الْبَيْهَقِيّ من كَلَام الشَّافِعِي أَنه يَقُول بِهِ، لقَوْله فِي حَدِيث أبي حميد الْمُشْتَمل على هَذِه السّنة وَغَيرهَا: وَبِهَذَا نقُول. وَالنَّوَوِيّ أَيْضا أطلق فِي (الرَّوْضَة) أَنه نَص عَلَيْهِ قلت: الَّذِي فِي (الْأُم) خلاف ذَلِك، فَإِنَّهُ قَالَ فِي: بَاب رفع الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِير فِي الصَّلَاة، بعد أَن أورد حَدِيث ابْن عمر من طَرِيق سَالم وَتكلم عَلَيْهِ: وَلَا نأمره أَن يرفع يَدَيْهِ فِي شَيْء من الذّكر فِي الصَّلَاة الَّتِي لَهَا رُكُوع وَسُجُود، إلاّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة. فَإِن قلت: وَقع فِي آخر الْبُوَيْطِيّ: يرفع يَدَيْهِ فِي كل خفض وَرفع قلت: اجيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يحمل(5/277)
الْخَفْض على الرُّكُوع، وَالرَّفْع على الِاعْتِدَال، وَإِلَّا فَحَمله على ظَاهره يَقْتَضِي اسْتِحْبَابه فِي السُّجُود أَيْضا وَهُوَ خلاف مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور قلت: فِي قَوْله: وَالرَّفْع على الِاعْتِدَال، نظر لَا يخفى، وَمَعَ هَذَا ذهب إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم: ابْن الْمُنْذر وَأَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالْبَغوِيّ، وَهُوَ مَذْهَب البُخَارِيّ وَغَيره من الْمُحدثين.
وَرَوَاهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عنْ أيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي عبد الله الْحَافِظ، حَدثنَا مُحَمَّد بن يَعْقُوب، حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة حَدثنَا أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْه، وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) . وَصله البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد مَرْفُوعا، وَلَفظه: (كَانَ إِذا كبر رفع يَدَيْهِ وَإِذا ركع وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع) .
وَرَوَاهُ ابنُ طَهْمَانَ عَنْ أيُّوبَ وَمُوسَى بنِ عُقْبَةَ مُخْتَصَرا
يَعْنِي: رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أَيُّوب ... إِلَى آخِره. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْعلوِي حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن الْحَافِظ حَدثنَا أَحْمد بن يُوسُف السّلمِيّ حَدثنَا عَمْرو بن عبد الله بن رزين أَبُو الْعَبَّاس السّلمِيّ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أَيُّوب ومُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يرفع يَدَيْهِ حِين يفْتَتح الصَّلَاة، وَإِذا ركع، وَإِذا اسْتَوَى قَائِما من رُكُوعه، حَذْو مَنْكِبَيْه. وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو صَخْرَة عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَوْقُوفا، وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ وَفِيه: لَيْسَ فِي حَدِيث حَمَّاد وَلَا ابْن طهْمَان بِأَن الرّفْع من الرَّكْعَتَيْنِ الْمَعْقُود لأَجله الْبَاب، لِأَن الْبَاب فِي رفع الْيَدَيْنِ إِذا قَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيث حَمَّاد وَلَا ابْن طهْمَان، وَإِنَّمَا فِي حَدِيثهمَا: حَذْو مَنْكِبَيْه، قَالَ: فَلَعَلَّ الْمُحدث عَن أبي عبد الله يَعْنِي: البُخَارِيّ، دخل لَهُ هَذَا الْحَرْف فِي هَذِه التَّرْجَمَة، وَأجَاب بَعضهم: بِأَن البُخَارِيّ قصد الرَّد على من جزم بِأَن رِوَايَة نَافِع لأصل الحَدِيث مَوْقُوفَة، وَأَنه خَالف فِي ذَلِك سالما، كَمَا نَقله ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَقد بَين بِهَذَا التَّعْلِيق أَنه اخْتلف على نَافِع فِي رَفعه وَوَقفه لَيْسَ إلاّ.
87 - (بابُ وَضْعِ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى فِي الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وضع الْمُصَلِّي يَده الْيُمْنَى على الْيَد الْيُسْرَى فِي حَال الْقيام فِي الصَّلَاة.
128 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد قَالَ كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل الْيَد الْيُمْنَى على ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة قَالَ أَبُو حَازِم لَا أعلمهُ إِلَّا ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة عبد الله بن مسلمة القعْنبِي وَمَالك بن أنس وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة سَلمَة ابْن دِينَار الْأَعْرَج وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ قَوْله " كَانَ النَّاس يؤمرون " هَذَا حكمه الرّفْع لِأَنَّهُ مَحْمُول على أَن الْآمِر لَهُم بذلك هُوَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " أَن يضع " أَي بِأَن يضع لِأَن الْأَمر يسْتَعْمل بِالْبَاء وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال يضعون لَكِن وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر قَوْله " لَا أعلمهُ إِلَّا ينمي ذَلِك " أَي لَا أعلم الْأَمر إِلَّا أَن سهلا ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " ينمي " بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون النُّون وَكسر الْمِيم قَالَ الْجَوْهَرِي يُقَال نميت الْأَمر أَو الحَدِيث إِلَى غَيْرِي إِذا أسندته ورفعته وَقَالَ ابْن وهب ينمي يرفع وَمن اصْطِلَاح أهل الحَدِيث إِذا قَالَ الرَّاوِي ينميه فمراده يرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَو لم يُقيد قَوْله " على ذراعه الْيُسْرَى " لم يبين مَوْضِعه من الذِّرَاع وَفِي حَدِيث وَائِل عِنْد أبي دَاوُد النَّسَائِيّ " ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى على ظهر كَفه الْيُسْرَى والرسغ من الساعد " وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره والرسغ بِضَم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُعْجمَة هُوَ الْمفصل بَين الساعد والكف. ثمَّ اعْلَم أَن الْكَلَام فِي وضع الْيَد على الْيَد فِي الصَّلَاة على وُجُوه(5/278)
(الْوَجْه الأول) فِي أصل الْوَضع فعندنا يضع وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد واسحق وَعَامة أهل الْعلم وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مَالك وَفِي التَّوْضِيح وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَأبي مجلز وَأبي ثَوْر وَأبي عبيد وَابْن جرير وَدَاوُد وَهُوَ قَول أبي بكر وَعَائِشَة وَجُمْهُور الْعلمَاء قَالَ التِّرْمِذِيّ وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن عبد الله بن الزبير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين أَنه يرسلهما وَكَذَلِكَ عِنْد مَالك فِي الْمَشْهُور يرسلهما وَإِن طَال ذَلِك عَلَيْهِ وضع الْيُمْنَى على الْيُسْرَى للاستراحة قَالَه اللَّيْث بن سعد وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ هُوَ مُخَيّر بَين الْوَضع والإرسال. وَمن جملَة مَا احتججنا بِهِ فِي الْوَضع حَدِيث رَوَاهُ ابْن ماجة من حَدِيث الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن قبيصَة بن الْمُهلب عَن أَبِيه قَالَ " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يؤمنا فَيَأْخُذ شِمَاله بِيَمِينِهِ " وَحَدِيث آخر أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه عَن وَائِل بن حجر " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رفع يَدَيْهِ " الحَدِيث وَفِيه " ثمَّ وضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى " وَحَدِيث آخر أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة من حَدِيث الْحجَّاج بن أبي زَيْنَب سَمِعت أَبَا عُثْمَان يحدث عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه كَانَ يُصَلِّي فَوضع يَده الْيُسْرَى على الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَحَدِيث آخر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء أمرنَا بِأَن نمسك بأيماننا على شمالنا فِي الصَّلَاة " وَفِي إِسْنَاد طَلْحَة بن عَمْرو مَتْرُوك وَعَن ابْن معِين لَيْسَ بِشَيْء وَحَدِيث آخر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس وَفِي إِسْنَاده النَّضر بن إِسْمَاعِيل قَالَ ابْن معِين لَيْسَ بِشَيْء ضَعِيف (الْوَجْه الثَّانِي) فِي صفة الْوَضع وَهِي أَن يضع بطن كَفه الْيُمْنَى على رسغه الْيُسْرَى فَيكون الرسغ وسط الْكَفّ وَقَالَ الاسبيجابي عِنْد أبي يُوسُف يقبض بِيَدِهِ الْيُمْنَى رسغ يَده الْيُسْرَى وَقَالَ مُحَمَّد يَضَعهَا كَذَلِك وَيكون الرسغ وسط الْكَفّ وَفِي الْمُفِيد وَيَأْخُذ رسغها بالخنصر والإبهام وَهُوَ الْمُخْتَار وَفِي الدِّرَايَة يَأْخُذ كوعه الْأَيْسَر بكفه الْأَيْمن وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي رِوَايَة يضع بَاطِن أَصَابِعه على الرسغ طولا وَلَا يقبض وَاسْتحْسن كثير من مَشَايِخنَا الْجمع بَينهمَا بِأَن يضع بَاطِن كَفه الْيُمْنَى على كَفه الْيُسْرَى ويحلق بالخنصر والإبهام على الرسغ (الْوَجْه الثَّالِث) فِي مَكَان الْوَضع فعندنا تَحت السُّرَّة وَعند الشَّافِعِي على الصَّدْر ذكره فِي الْحَاوِي وَفِي الْوَسِيط تَحت صَدره وَاحْتج الشَّافِعِي بِحَدِيث وَائِل بن حجر أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه قَالَ " صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوضع يَده الْيُمْنَى على يَده الْيُسْرَى على صَدره " وَلم يذكر النَّوَوِيّ غَيره فِي الْخُلَاصَة وَكَذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الإِمَام وَاحْتج صَاحب الْهِدَايَة لِأَصْحَابِنَا فِي ذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن من السّنة وضع الْيُمْنَى على الشمَال تَحت السُّرَّة (قلت) هَذَا قَول عَليّ بن أبي طَالب وَإِسْنَاده إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير صَحِيح وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَته فِي سنَنَيْهِمَا من حَدِيث أبي جُحَيْفَة عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ إِن من السّنة وضع الْكَفّ على الْكَفّ تَحت السُّرَّة وَقَول عَليّ أَن من السّنة هَذَا اللَّفْظ يدْخل فِي الْمَرْفُوع عِنْدهم. وَقَالَ أَبُو عمر فِي التفصي وَاعْلَم أَن الصَّحَابِيّ إِذا أطلق اسْم السّنة فَالْمُرَاد بِهِ سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَذَلِكَ إِذا أطلقها غَيره مَا لم تضف إِلَى صَاحبهَا كَقَوْلِهِم سنة العمرين وَمَا أشبه ذَلِك (فَإِن قلت) سلمنَا هَذَا وَلَكِن الَّذِي رُوِيَ عَن عَليّ فِيهِ مقَال لِأَن فِي سَنَده عبد الرَّحْمَن بن اسحق الْكُوفِي قَالَ أَحْمد لَيْسَ بِشَيْء مُنكر الحَدِيث (قلت) روى أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ ويعضده مَا رَوَاهُ ابْن حزم من حَدِيث أنس من أَخْلَاق النُّبُوَّة وضع الْيَمين على الشمَال تَحت السُّرَّة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ وضع الْيَمين على الشمَال فِي الصَّلَاة وَرَأى بَعضهم أَن يَضَعهَا فَوق السُّرَّة وَرَأى بَعضهم أَن يَضَعهَا تَحت السُّرَّة وكل ذَلِك وَاسع (الْوَجْه الرَّابِع) وَقت وضع الْيَدَيْنِ وَالْأَصْل فِيهِ أَن كل قيام فِيهِ ذكر مسنون يعْتَمد فِيهِ أَعنِي اعْتِمَاد يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَمَا لَا فَلَا فيعتمد فِي حَالَة الْقُنُوت وَصَلَاة الْجِنَازَة وَلَا يعْتَمد فِي القومة عَن الرُّكُوع وَبَين تَكْبِيرَات الْعِيدَيْنِ الزَّوَائِد وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعند أبي عَليّ النَّسَفِيّ وَالْإِمَام أبي عبد الله وَغَيرهمَا يعْتَمد فِي كل قيام سَوَاء كَانَ فِيهِ ذكر مسنون أَو لَا. (الْوَجْه الْخَامِس) فِي الْحِكْمَة فِي الْوَضع على الصَّدْر أَو السُّرَّة فَقيل الْوَضع على الصَّدْر أبلغ فِي الْخُشُوع وَفِيه حفظ نور الْإِيمَان(5/279)
فِي الصَّلَاة فَكَانَ أولى من إِشَارَته إِلَى الْعَوْرَة بِالْوَضْعِ تَحت السُّرَّة وَهَذَا قَول من ذهب إِلَى أَن السّنة الْوَضع على الصَّدْر وَنحن نقُول الْوَضع تَحت السُّرَّة أقرب إِلَى التَّعْظِيم وَأبْعد من التَّشَبُّه بِأَهْل الْكتاب وَأقرب إِلَى ستر الْعَوْرَة وَحفظ الْإِزَار عَن السُّقُوط وَذَلِكَ كَمَا يفعل بَين يَدي الْمُلُوك وَفِي الْوَضع على الصَّدْر تشبه بِالنسَاء فَلَا يسن
(قَالَ إِسْمَاعِيل ينمى ذَلِك وَلم يقل ينمي) قَالَ صَاحب التَّلْوِيح إِسْمَاعِيل هَذَا يشبه أَن يكون إِسْمَاعِيل بن اسحق الرَّاوِي عَن القعْنبِي هَذَا الحَدِيث فِي سنَن الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ بَعضهم إِسْمَاعِيل هَذَا هُوَ إِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس شيخ البُخَارِيّ كَمَا جزم بِهِ الْحميدِي فِي الْجمع وَأنكر على صَاحب التَّلْوِيح فِيمَا قَالَه فَقَالَ ظن أَنه المُرَاد وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن اسحق مُوَافقَة لرِوَايَة البُخَارِيّ وَلم يذكر أحد أَن البُخَارِيّ روى عَنهُ وَهُوَ أحدث سنا من البُخَارِيّ وأحدث سَمَاعا (قلت) لَا يتَوَجَّه الرَّد على صَاحب التَّلْوِيح لِأَنَّهُ لم يجْزم بِمَا قَالَه وَلَا يلْزم من كَون إِسْمَاعِيل بن اسحق الْمَذْكُور أحدث سنا من البُخَارِيّ وأحدث سَمَاعا نفى رِوَايَة البُخَارِيّ عَنهُ قَوْله " ينمى " بِضَم الْيَاء وَفتح الْمِيم على صِيغَة الْمَجْهُول وَلم يقل ينمي بِفَتْح الْيَاء على صِيغَة الْمَعْلُوم فعلى صِيغَة الْمَجْهُول يكون الحَدِيث مُرْسلا لِأَن أَبَا حَازِم لم يعين من إنماء لَهُ وعَلى صِيغَة الْمَعْلُوم يكون الحَدِيث مُتَّصِلا لِأَن الضَّمِير فِيهِ يكون لسهل بن سعد لِأَن أَبَا حَازِم حِينَئِذٍ قد يتَعَيَّن لَهُ الْمسند وَهُوَ سهل بن سعد وَقَالَ بَعضهم فعلى الأول الْهَاء ضمير الشَّأْن فَيكون مُرْسلا (قلت) أَرَادَ بِالْأولِ صِيغَة الْمَجْهُول وَأَرَادَ بضمير الشَّأْن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي لَا أعلمهُ وَلَيْسَ هَذَا بضمير الشَّأْن وَإِنَّمَا هُوَ يرجع إِلَى مَا ذكر من الحَدِيث -
88 - (بابُ الخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُشُوع فِي الصَّلَاة، وَلما كَانَ الْبَاب السَّابِق فِي وضع الْيُمْنَى على الْيُسْرَى، وَهُوَ صفة السَّائِل الذَّلِيل، وَأَنه أقرب إِلَى الْخُشُوع وَأَمْنَع من الْعَبَث الَّذِي يذهب بالخشوع، وَذكر هَذَا الْبَاب عقيب ذَاك حثا وتحريضا للْمُصَلِّي على مُلَازمَة الْخُشُوع ليدْخل فِي زمرة الَّذين مدحهم الله تَعَالَى فِي كِتَابه بقوله: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} (الْمُؤْمِنُونَ: 1 و 2) . قَالَ ابْن عَبَّاس: مخبتون أذلاء. وَقَالَ الْحسن: خائفون. وَقَالَ مقَاتل: متواضعون. وَقَالَ عَليّ: الْخُشُوع فِي الْقلب، وَأَن تلين للْمُسلمِ كتفك وَلَا تلْتَفت. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ غض الْبَصَر وخفض الْجنَاح. وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار: لَيْسَ الْخُشُوع الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَلكنه السّكُون وَحسن الْهَيْئَة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن سِيرِين: هُوَ أَن لَا ترفع بَصرك عَن مَوضِع سجودك. وَقَالَ قَتَادَة: الْخُشُوع وضع الْيُمْنَى على الشمَال فِي الصَّلَاة. وَقيل: هُوَ جمع الهمة لَهَا والإعراض عَمَّا سواهَا. وَقَالَ أَبُو بكر الوَاسِطِيّ: هُوَ الصَّلَاة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعَالَى على الخلوص من غير عوض. وَعَن ابْن أبي الْورْد: يحْتَاج الْمُصَلِّي إِلَى أَربع خلال حَتَّى يكون خَاشِعًا: إعظام الْمقَام، وإخلاص الْمقَال، وَالْيَقِين التَّمام، وَجمع الْهم.
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر ذكر الْبَاب، وَهُوَ فِي رِوَايَة غَيره، وَالأَصَح الأولى ذكره.
741 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَهُنا وَالله مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعَكُمْ ولاَ خُشُوعَكُمْ وإنِّي لأَرًّكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي (أنظر الحَدِيث 418) .
هَذَا الحَدِيث أخرجه فِي: بَاب عظة الإِمَام النَّاس فِي إتْمَام الصَّلَاة، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره نَحوه، وَهَهُنَا أخرجه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، ابْن عَم مَالك بن أنس عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ من سَائِر الْوُجُوه، وَبَقِي هُنَا ذكر وَجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي قَوْله: (وَلَا خُشُوعكُمْ) تَنْبِيها إيَّاهُم على التَّلَبُّس بالخشوع فِي الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك، إلاّ وَقد رأى أَن فيهم الِالْتِفَات وَعدم السّكُون اللَّذين ينافيان الْخُشُوع، وَالْمُصَلي لَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} (الْمُؤْمِنُونَ: 1 و 2) .(5/280)
إلاّ بالخشوع، وَلَا شكّ أَن ترك الْخُشُوع يُنَافِي كَمَال الصَّلَاة، فَيكون مُسْتَحبا. وَحكى النَّوَوِيّ: أَن الْإِجْمَاع على أَن الْخُشُوع لَيْسَ بِوَاجِب، وَأورد عَلَيْهِ قَول القَاضِي حُسَيْن: إِن مدافعة الأخبثين إِذا انْتَهَت إِلَى حد يذهب مَعَه الْخُشُوع أبطلت الصَّلَاة. وَقَالَ أَيْضا أَبُو بكر الْمروزِي قلت: هَذَا لَيْسَ بوارد لاحْتِمَال كَلَامهمَا فِي مدافعة شَدِيدَة أفضت إِلَى خُرُوج شَيْء فَإِن قلت: الْبطلَان حِينَئِذٍ بِالْخرُوجِ لَا بالمدافعة قلت: المدافعة سَبَب لِلْخُرُوجِ، فَذكر السَّبَب وَأَرَادَ الْمُسَبّب للْمُبَالَغَة، وَأجَاب بَعضهم بجوابين غير طائلين: أَحدهمَا: قَوْله: لجَوَاز أَن يكون بعد الْإِجْمَاع السَّابِق. وَالثَّانِي: قَوْله: أَو المُرَاد بِالْإِجْمَاع أَنه لم يُصَرح أحد بِوُجُوبِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن الْخُشُوع فرض فِي الصَّلَاة، قيل لَهُ: يحْسب الْإِنْسَان أَن يقبل على صلَاته بِقَلْبِه وَنِيَّته، وَيُرِيد بذلك وَجه الله، وَلَا طاقه لَهُ بِمَا اعْتَرَضَهُ من الخواطر. قلت: وَقد رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: إِنِّي لأجهز جيشي فِي الصَّلَاة. وَعنهُ: (إِنِّي لأحسب جِزْيَة الْبَحْرين وَأَنا فِي صَلَاتي) . قَوْله: (هَل ترَوْنَ؟) الِاسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار، وَالْمرَاد من الْقبْلَة فَقَط، وَإِمَّا: الْمُقَابلَة وَهِي المواجهة، أَي: لَا تظنون مواجهتي هَهُنَا فَقَط، وَإِمَّا فِيهِ إِضْمَار أَي: لَا ترَوْنَ بَصرِي أَو رؤيتي فِي طرف الْقبْلَة فَقَط، وَإِمَّا أَنه من بَاب لَازم التَّرْكِيب، لِأَن كَون قبلته ثمَّة مُسْتَلْزم لكَون رُؤْيَته أَيْضا ثمَّة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَل ترَوْنَ رؤيتي هَهُنَا فَقَط؟ وَالله لأَرَاكُمْ من غَيرهَا أَيْضا. وَالْجُمْهُور على أَن المُرَاد من الرُّؤْيَة الإبصار بالحاسة، وَسبق تَحْقِيقه هُنَاكَ، وَقد يحْتَج بِهِ من يَقُول: إِن الطُّمَأْنِينَة فرض فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود، لِأَن الشَّارِع توعد على ذَلِك قلت: لَا يدل ذَلِك عَلَيْهِ، لِأَن الطُّمَأْنِينَة فِيهَا لَو كَانَت فرضا لأمرهم بِالْإِعَادَةِ، وَحَيْثُ لم يَأْمُرهُم بهَا دلّ على عدم الْفَرْضِيَّة.
742 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أقِيمُوا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ فَوَالله إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي ورُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ. (أنظر الحَدِيث 419 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن إِقَامَة الرُّكُوع وَالسُّجُود لَا تكون إلاّ بِالسُّكُونِ والطمأنينة، وَهُوَ الْخُشُوع، فَإِن الَّذِي يستعجل وَلَا يسكن فيهمَا تَارِك الْخُشُوع. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر.
قَوْله: (عَن أنس) ، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي مُوسَى عَن غنْدر: (سَمِعت أنس بن مَالك) . قَوْله: (أقِيمُوا) أَي: أكملوا، وَفِي رِوَايَة معَاذ عَن شُعْبَة: (أَتموا) بدل (أقِيمُوا) . قَوْله: (فوَاللَّه) فِيهِ جَوَاز الْحلف لتأكيد الْقَضِيَّة وتحقيقها. قَوْله: (لأَرَاكُمْ) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (من بعدِي) أَي: من خَلْفي. وَقَالَ الدَّاودِيّ يَعْنِي: من بعد وفاتي، يَعْنِي: إِن أَعمال الْأمة تعرض عَلَيْهِ، وَيَردهُ قَوْله: (وَرُبمَا قَالَ من بعد ظَهْري) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: النَّهْي عَن نُقْصَان الرُّكُوع وَالسُّجُود.
89 - (بابُ مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يقْرَأ الْمُصَلِّي بعد أَن يكبر للشروع. وَقَوله: (مَا يقْرَأ) هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب مَا يَقُول بعد التَّكْبِير.
131 - (حَدثنَا حَفْص بن عمر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي سعيد الْأَشَج وَحميد الطَّوِيل وَمُحَمّد بن نوح قَوْله " يفتتحون الصَّلَاة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " أَي بِهَذَا اللَّفْظ وَهَذَا ظَاهر فِي عدم الْجَهْر بالبسملة وتأويله على إِرَادَة اسْم السُّورَة يتَوَقَّف على أَن السُّورَة كَانَت تسمى عِنْدهم بِهَذِهِ الْجُمْلَة فَلَا يعدل عَن حَقِيقَة اللَّفْظ وَظَاهره إِلَى مجازه إِلَّا بِدَلِيل وَقَالَ بَعضهم لَا يلْزم من قَوْله " كَانُوا يفتتحون " أَنهم لم(5/281)
يقرؤا الْبَسْمَلَة سرا (قلت) لَا نزاع فِيهِ وَإِنَّمَا النزاع فِي جهر الْبَسْمَلَة لعدم كَونهَا آيَة من الْفَاتِحَة قَوْله " بِالْحَمْد لله " بِضَم الدَّال على سَبِيل الْحِكَايَة الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب على أنوع الأول أَنَّهَا هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم قَتَادَة وَإِسْحَق بن عبد الله وَمَنْصُور بن زَاذَان وَأَيوب على اخْتِلَاف فِيهِ وَأَبُو نعَامَة قيس بن عَبَايَة الْحَنَفِيّ وعائذ بن شُرَيْح بِخِلَاف وَالْحسن وثابت الْبنانِيّ وَحميد الطَّوِيل وَمُحَمّد بن نوح أما حَدِيث قَتَادَة عَن أنس فَأخْرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ كَمَا ذكرنَا الْآن وَأما حَدِيث إِسْحَق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس فَأخْرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن مُحَمَّد بن مهْرَان عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن إِسْحَق بن عبد الله عَن أنس " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَأما حَدِيث مَنْصُور فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ " فَلم يسمعنا قرَاءَتهَا " وَأما حَدِيث أَيُّوب فَأخْرجهُ الشَّافِعِي وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فَقَالَ النَّسَائِيّ أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ " صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَ أبي بكر وَمَعَ عمر فافتتحوا بِالْحَمْد " وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ اخْتلف فِيهِ عَن أَيُّوب فَقيل عَن قَتَادَة عَن أنس وَقيل عَن أبي قلَابَة عَن أنس وَقيل عَن أَيُّوب عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأما حَدِيث أبي نعَامَة فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ " لَا يقرؤن " يَعْنِي لَا يجهرون بهَا وَفِي لفظ " لَا يقرؤن " فَقَط وَأما حَدِيث عَائِذ بن شرح فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ اخْتلف عَنهُ فَقيل عَنهُ عَن أنس وَقيل عَنهُ عَن ثُمَامَة عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأما حَدِيث الْحسن عَن أنس فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ " كَانَ يسر بهَا " وَأما حَدِيث ثَابت فَذكره الْبَيْهَقِيّ والطَّحَاوِي من حَدِيث شُعْبَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ " لم يكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَأما حَدِيث حميد عَن أنس فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن وهب عَن مَالك عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس أَنه قَالَ " قُمْت وَرَاء أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فكلهم لَا يقرؤن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِذْ افْتتح الصَّلَاة " وَقَالَ الطَّحَاوِيّ حَدثنَا فَهد قَالَ حَدثنَا أَبُو غَسَّان قَالَ حَدثنَا زُهَيْر عَن حميد عَن أنس أَن أَبَا بكر وَعمر ويروى حميد أَنه قد ذكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ ذكر نَحوه وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن نوح عَن أنس فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن منقذ عَن عبد الله بن وهب عَن أبي لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب أَن مُحَمَّد بن نوح أَخا بني سعد بن بكر حَدثهُ عَن أنس بن مَالك قَالَ سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر وَعمر يستفتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وروى عَن قَتَادَة جمَاعَة شُعْبَة وَهِشَام وَأَبُو عوَانَة وَأَيوب وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة وَالْأَوْزَاعِيّ وشيبان. فرواية شُعْبَة عَن قَتَادَة أخرجهَا البُخَارِيّ وَمُسلم وَرِوَايَة هِشَام عَنهُ أخرجهَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا هِشَام عَن قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا يفتتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وَرِوَايَة أبي عوَانَة عَن قَتَادَة أخرجهَا التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يفتتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَقَالَ النَّسَائِيّ أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر وَعمر يفتتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وَقَالَ ابْن مَاجَه حَدثنَا جبارَة بن الْمُفلس حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك قَالَ فَذكره نَحْو رِوَايَة النَّسَائِيّ وَرِوَايَة أَيُّوب عَن قَتَادَة أخرجهَا النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَقد ذَكرنَاهَا الْآن وَرِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة أخرجهَا النَّسَائِيّ أخبرنَا عبد الله بن سعيد الْأَشَج أَبُو سعيد قَالَ حَدثنِي عقبَة قَالَ حَدثنَا شُعْبَة وَابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَرِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن قَتَادَة أخرجهَا مُسلم وَلَفظه " أَن قَتَادَة كتب إِلَيْهِ يُخبرهُ عَن أنس أَنه حَدثهُ قَالَ صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين لَا يذكرُونَ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي أول قِرَاءَة وَلَا فِي آخرهَا وَلَيْسَ للأوزاعي عَن قَتَادَة عَن أنس فِي الصَّحِيح غير هَذَا وَرِوَايَة شَيبَان عَن قَتَادَة أخرجهَا الطَّحَاوِيّ عَن ابْن أبي عمرَان وَعلي بن عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن الْجَعْد قَالَ(5/282)
أخبرنَا شَيبَان عَن قَتَادَة قَالَ " سَمِعت أنسا يَقُول صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وروى هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة أَيْضا جمَاعَة مِنْهُم حَفْص بن عمر كَمَا سبق عَن البُخَارِيّ وَمِنْهُم غنْدر فِي مُسلم وَلَفظه " صليت مَعَ أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يقْرَأ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَمِنْهُم الْأَعْمَش أخرجهَا الطَّحَاوِيّ حَدثنَا أَبُو أُميَّة قَالَ حَدثنَا الْأَحْوَص بن جَوَاب قَالَ حَدثنَا عمار بن زُرَيْق عَن الْأَعْمَش عَن شُعْبَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ " لم يكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَمِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد أخرجهَا الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن شُعَيْب الكيساني عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " النَّوْع الثَّانِي فِي اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فَلفظ البُخَارِيّ مَا مر وَلَفظ مُسلم " فَكَانُوا يستفتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي أول قِرَاءَة وَلَا فِي آخرهَا " وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالُوا فِيهِ " فَكَانُوا لَا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَزَاد ابْن حبَان " ويجهرون بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وَفِي لفظ للنسائي وَابْن حبَان أَيْضا " فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَفِي لفظ أبي يعلى فِي مُسْنده " فَكَانُوا يفتتحون الْقِرَاءَة فِيمَا يجْهر بِهِ بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " وَفِي لفظ للطبراني فِي مُعْجَمه وَأبي نعيم فِي الْحِلْية وَابْن خُزَيْمَة فِي مُخْتَصر الْمُخْتَصر " فَكَانُوا يسرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَرِجَال هَؤُلَاءِ الرِّوَايَات كلهم ثِقَات مخرج لَهُم فِي الصَّحِيح وروى التِّرْمِذِيّ حَدثنَا أَحْمد بن منيع قَالَ حَدثنَا سعيد الجزيري عَن قيس بن عَبَايَة " عَن عبد الله بن مُغفل قَالَ سمعني أبي وَأَنا فِي الصَّلَاة أَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَقَالَ أَي بني مُحدث إياك وَالْحَدَث قَالَ وَلم أر أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أبْغض إِلَيْهِ الْحَدث فِي الْإِسْلَام يَعْنِي مِنْهُ قَالَ وَقد صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَ أبي بكر وَمَعَ عمر وَمَعَ عُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُولهَا فَلَا تقلها إِذا أَنْت صليت فَقل الْحَمد لله رب الْعَالمين " قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَغَيرهم من بعدهمْ من التَّابِعين وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا وَلِحَدِيث أنس طرق أُخْرَى دون مَا أخرجه أَصْحَاب الصِّحَاح فِي الصِّحَّة وكل أَلْفَاظه ترجع إِلَى معنى وَاحِد يصدق بَعْضهَا بَعْضًا وَهِي سَبْعَة أَلْفَاظ. فَالْأول كَانُوا لَا يستفتحون الْقِرَاءَة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالثَّانِي فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول أَو يقْرَأ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالثَّالِث فَلم يَكُونُوا يقرؤن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالرَّابِع فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالْخَامِس فَكَانُوا لَا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالسَّادِس فَكَانُوا يسرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَالسَّابِع فَكَانُوا يستفتحون الْقِرَاءَة بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَهَذَا اللَّفْظ الَّذِي صَححهُ الْخَطِيب وَضعف مَا سواهُ لرِوَايَة الْحفاظ لَهُ عَن قَتَادَة ولمتابعة غير قَتَادَة لَهُ عَن أنس فِيهِ وَجعل اللَّفْظ الْمُحكم عَن أنس وَجعل غَيره متشابها وَحمل على الِافْتِتَاح بالسورة لَا بِالْآيَةِ وَهُوَ غير مُخَالف للألفاظ الْبَاقِيَة بِوَجْه فَكيف يَجْعَل مناقضا لَهَا فَإِن حَقِيقَة هَذَا اللَّفْظ الِافْتِتَاح بِالْآيَةِ من غير ذكر التَّسْمِيَة جَهرا أَو سرا فَكيف يجوز الْعُدُول عَنهُ بِغَيْر مُوجب وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم " لَا يذكرُونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " فِي أول قِرَاءَة وَلَا فِي آخرهَا (فَإِن قلت) قَالَ النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة وَقد ضعف الْحفاظ حَدِيث عبد الله بن مُغفل الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ وأنكروا على التِّرْمِذِيّ تحسينه كَابْن خُزَيْمَة وَابْن عبد الْبر والخطيب قَالُوا أَن مَدَاره على ابْن عبد الله بن مُغفل وَهُوَ مَجْهُول (قلت) وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي نعَامَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل قَالَ " كَانَ أَبونَا إِذا سمع أحدا منا يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يَقُول أَي بني صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل عَن أَبِيه مثله ثمَّ أخرجه عَن أبي سُفْيَان طريف بن شهَاب عَن يزِيد بن عبد الله بن مُغفل عَن أَبِيه قَالَ " صليت خلف إِمَام فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَلَمَّا فرغ من صلَاته قَالَ مَا هَذَا غيب عَنَّا هَذِه الَّتِي أَرَاك تجْهر بهَا(5/283)
فَإِنِّي قد صليت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم يجهروا بهَا " فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة رووا هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عبد الله بن مُغفل عَن أَبِيه وَهُوَ أَبُو نعَامَة الْحَنَفِيّ قيس بن عَبَايَة وَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره وَقَالَ ابْن عبد الْبر هُوَ ثِقَة عِنْد جَمِيعهم وَقَالَ الْخَطِيب لَا أعلم أحدا رَمَاه ببدعة فِي دينه وَلَا كذب فِي رِوَايَته وَعبد الله بن بُرَيْدَة وَهُوَ أشهر من أَن يثنى عَلَيْهِ وَأَبُو سُفْيَان السَّعْدِيّ وَهُوَ وَإِن تكلم فِيهِ وَلكنه يعْتَبر بِهِ فِيمَا تَابعه عَلَيْهِ غَيره من الثِّقَات وَهُوَ الَّذِي سمى ابْن عبد الله بن مُغفل يزِيد كَمَا هُوَ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فقد ارْتَفَعت الْجَهَالَة عَن ابْن عبد الله بن مُغفل بِرِوَايَة هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة عَنهُ وَقد تقدم فِي مُسْند الإِمَام أَحْمد عَن أبي نعَامَة عَن بني عبد الله بن مُغفل وَبَنوهُ الَّذين يروي عَنْهُم يزِيد وَزِيَاد وَمُحَمّد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا يحتجون بِمثل هَؤُلَاءِ مَعَ أَنهم مَشْهُورُونَ بالرواية وَلم يرو أحد مِنْهُم حَدِيثا مُنْكرا لَيْسَ لَهُ شَاهد وَلَا متابع حَتَّى يخرج بِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا رووا مَا رَوَاهُ غَيرهم من الثِّقَات فَأَما يزِيد فَهُوَ الَّذِي سمى فِي هَذَا الحَدِيث وَأما مُحَمَّد فروى لَهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن أَبِيه قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " مَا من إِمَام يبيت غاشا لرعيته إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة " وَزِيَاد أَيْضا روى لَهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ عَن أَبِيه مَرْفُوعا " لَا تخذفوا فَإِنَّهُ لَا يصاد بِهِ صيد وَلَا ينْكَأ الْعَدو وَلكنه يكسر السن ويفقأ الْعين " وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا حَدِيث صَرِيح فِي عدم الْجَهْر بالبسملة وَهُوَ وَإِن لم يكن من أَقسَام الصَّحِيح فَلَا ينزل عَن دَرَجَة الْحسن وَقد حسنه التِّرْمِذِيّ والْحَدِيث الْحسن يحْتَج بِهِ لَا سِيمَا إِذا تعدّدت شواهده وَكَثُرت متابعاته وَالَّذين تكلمُوا فِيهِ وَتركُوا الِاحْتِجَاج بِهِ بِجَهَالَة ابْن عبد الله بن مُغفل قد احْتَجُّوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا هُوَ أَضْعَف مِنْهُ بل احْتج الْخَطِيب بِمَا يعلم أَنه مَوْضُوع فَذَلِك جرْأَة عَظِيمَة لأجل تعصبه وحميته بِمَا لَا يَنْفَعهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَلم يحسن الْبَيْهَقِيّ فِي تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث إِذْ قَالَ بعد أَن رَوَاهُ فِي كتاب الْمعرفَة فَهَذَا حَدِيث تفرد بِهِ أَبُو نعَامَة قيس بن عَبَايَة وَابْن عبد الله بن مُغفل وَأَبُو نعَامَة وَابْن عبد الله بن مُغفل لم يحْتَج بهما صاحبا الصَّحِيح فَقَوله تفرد بِهِ أَبُو نعَامَة غير صَحِيح فقد تَابعه عبد الله بن بُرَيْدَة وَأَبُو سُفْيَان كَمَا ذَكرْنَاهُ وَقَوله وَأَبُو نعَامَة وَابْن عبد الله بن مُغفل لم يحْتَج بهما صاحبا الصَّحِيح لَيْسَ هَذَا لَازِما فِي صِحَة الْإِسْنَاد وَلَئِن سلمنَا فقد قُلْنَا أَنه حسن وَالْحسن يحْتَج بِهِ وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن ترك الْجَهْر عِنْدهم كَانَ مِيرَاثا عَن نَبِيّهم يتوارثونه خَلفهم عَن سلفهم وَهَذَا وَحده كَاف فِي الْمَسْأَلَة لِأَن الصَّلَاة الجهرية دائمة صباحا وَمَسَاء فَلَو كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجْهر بهَا دَائِما لما وَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف وَلَا الِاشْتِبَاه ولكان مَعْلُوما بالاضطرار وَلما قَالَ أنس يجْهر بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا خلفاؤه الراشدون وَلما قَالَ عبد الله بن مُغفل ذَلِك أَيْضا وَسَماهُ حَدثا وَلما اسْتمرّ عمل أهل الْمَدِينَة فِي محراب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومقامه على ترك الْجَهْر فيتوارثه آخِرهم عَن أَوَّلهمْ وَلَا يظنّ عَاقل أَن أكَابِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأكْثر أهل الْعلم كَانُوا يواظبون على خلاف مَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَله وَسَيَأْتِي الْجَواب عَن أَحَادِيث الْجَهْر إِن شَاءَ الله تَعَالَى النَّوْع الثَّالِث احْتج بِهِ مَالك وَأَصْحَابه على ترك التَّسْمِيَة فِي ابْتِدَاء الْفَاتِحَة وَأَنَّهَا لَيست مِنْهَا وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ والطبري وَقَالَ أَصْحَابنَا الْبَسْمَلَة آيَة من الْقُرْآن أنزلت للفصل بَين السُّور وَلَيْسَت من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة وَلَا يجْهر بهَا بل يَقُولهَا سرا وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَقَالَ أَبُو عمر قَالَ مَالك لَا تقرؤا الْبَسْمَلَة فِي الْفَرْض سرا وَلَا جَهرا وَفِي النَّافِلَة إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك وَهُوَ قَول الطَّبَرِيّ وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَأحمد يقْرَأ مَعَ أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة إِلَّا ابْن أبي ليلى فَإِنَّهُ قَالَ إِن شَاءَ جهر بهَا وَإِن شَاءَ أخفاها وَقَالَ الشَّافِعِي هِيَ آيَة من الْفَاتِحَة يخفيها إِذا أخْفى ويجهر بهَا إِذا جهر وَاخْتلف قَوْله هَل هِيَ آيَة من كل سُورَة أم لَا على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا نعم وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالثَّانِي لَا النَّوْع الرَّابِع فِي أَنَّهَا يجْهر بهَا أم لَا قَالَ صَاحب التَّوْضِيح وَعِنْدنَا يسْتَحبّ الْجَهْر بهَا فِيمَا يجْهر فِيهِ وَبِه قَالَ أَكثر الْعلمَاء وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْجَهْر كَثِيرَة مُتعَدِّدَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة يرتقي عَددهمْ إِلَى أحد وَعشْرين صحابيا رووا ذَلِك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُم من صرح بذلك وَمِنْهُم من فهم من عِبَارَته وَالْحجّة قَائِمَة بالجهر وبالصحة ثمَّ ذكر من الصَّحَابَة أَبَا هُرَيْرَة وَأم سَلمَة وَابْن عَبَّاس وأنسا وَعلي بن أبي طَالب وَسمرَة بن جُنْدُب (قلت) وَمن الَّذين عدهم عمار وَعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير وَالْحكم بن عُمَيْر وَمُعَاوِيَة وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وَجَابِر وَأَبُو سعيد وَطَلْحَة وَعبد الله بن أبي أوفى وَأَبُو بكر الصّديق ومجالد بن ثَوْر وَبشر بن مُعَاوِيَة وَالْحُسَيْن بن عرفطة وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَهَؤُلَاءِ أحد(5/284)
وَعِشْرُونَ نفسا. أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه من حَدِيث نعيم المجمر قَالَ " صليت وَرَاء أبي هُرَيْرَة فَقَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ثمَّ قَرَأَ بِأم الْقُرْآن حَتَّى قَالَ غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين قَالَ آمين فِي آخِره فَلَمَّا سلم قَالَ إِنِّي لأشبهكم صَلَاة برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَقَالَ أَنه على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَقَالَ حَدِيث صَحِيح وَرُوَاته كلهم ثِقَات وأخره الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَقَالَ إِسْنَاده صَحِيح وَله شَوَاهِد وَقَالَ فِي الخلافيات رُوَاته كلهم ثِقَات مجمع على عدالتهم مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيح وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه. الأول أَنهم مَعْلُول فَإِن ذكر الْبَسْمَلَة فِيهِ مِمَّا تفرد بِهِ نعيم المجمر من بَين أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة وهم ثَمَان مائَة مَا بَين صَاحب وتابع وَلَا يثبت عَن ثِقَة من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة أَنه حدث عَن أبي هُرَيْرَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجْهر بالبسملة فِي الصَّلَاة أَلا ترى كَيفَ أعرض صَاحب الصَّحِيح عَن ذكر الْبَسْمَلَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة كَانَ يكبر فِي كل صَلَاة من الْمَكْتُوبَة وَغَيرهَا الحَدِيث (فَإِن قلت) قد رَوَاهَا نعيم المجمر وَهُوَ ثِقَة وَالزِّيَادَة عَن الثِّقَة مَقْبُولَة (قلت) فِي هَذَا خلاف مَشْهُور فَمنهمْ من لَا يقبلهَا. الثَّانِي أَن قَوْله فَقَرَأَ أَو قَالَ لَيْسَ بِصَرِيح أَنه سَمعهَا مِنْهُ إِذْ يجوز أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة أخبر نعيما بِأَنَّهُ قَرَأَهَا سرا وَيجوز أَن يكون سَمعهَا مِنْهُ فِي مخافتته لقُرْبه مِنْهُ كَمَا روى عَنهُ من أَنْوَاع الاستفتاح وألفاظ الذّكر فِي قِيَامه وقعوده وركوعه وَسُجُوده وَلم يكن مِنْهُ ذَلِك دَلِيلا على الْجَهْر. الثَّالِث أَن التَّشْبِيه لَا يَقْتَضِي أَن يكون مثله من كل وَجه بل يَكْفِي فِي غَالب الْأَفْعَال وَذَلِكَ مُتَحَقق فِي التَّكْبِير وَغَيره دون الْبَسْمَلَة فَإِن التَّكْبِير وَغَيره من أَفعَال الصَّلَاة ثَابت صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة وَكَانَ مَقْصُوده الرَّد على من تَركه وَأما التَّسْمِيَة فَفِي صِحَّتهَا عَنهُ نظر فَيَنْصَرِف إِلَى الصَّحِيح الثَّابِت دون غَيره ويلزمهم على القَوْل بالتشبيه من كل وَجه أَن يَقُولُوا بالجهر بالتعوذ فَإِن الشَّافِعِي روى أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ عَن ربيعَة بن عُثْمَان عَن صَالح بن أبي صَالح أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة وَهُوَ يؤم النَّاس رَافعا صَوته فِي الْمَكْتُوبَة إِذا فرغ من أم الْقُرْآن رَبنَا إِنَّا نَعُوذ بك من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَهَلا أخذُوا بِهَذَا كَمَا أخذُوا بجهر الْبَسْمَلَة مستدلين بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ فَمَا أسمعنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسمعناكم وَمَا أخفانا أخفيناكم وَكَيف يظنّ بِأبي هُرَيْرَة أَنه يُرِيد التَّشْبِيه فِي الْجَهْر بالبسملة وَهُوَ الرَّاوِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ " يَقُول الله تَعَالَى قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ فنصفها لي وَنِصْفهَا لعبدي ولعبدي مَا سَأَلَ فَإِذا قَالَ العَبْد الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ الله تَعَالَى حمدني عَبدِي " الحَدِيث أخرجه مُسلم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَهَذَا ظَاهر فِي أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة وَإِلَّا لابتدأ بهَا وَقَالَ أَبُو عمر حَدِيث الْعَلَاء هَذَا قَاطع لقلق المنازعين وَهُوَ نصر لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَلَا أعلم حَدِيثا فِي سُقُوط الْبَسْمَلَة أبين مِنْهُ وَاعْترض بعض الْمُتَأَخِّرين على هَذَا الحَدِيث بأمرين. أَحدهمَا لَا يعْتَبر بِكَوْن هَذَا الحَدِيث فِي مُسلم فَإِن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن تكلم فِيهِ ابْن معِين فَقَالَ لَيْسَ حَدِيثه بِحجَّة مُضْطَرب الحَدِيث وَقَالَ ابْن عدي وَقد انْفَرد بِهَذَا الحَدِيث فَلَا يحْتَج بِهِ. الثَّانِي على تَقْدِير صِحَّته فقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات عَنهُ ذكر التَّسْمِيَة كَمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي فنصفها لَهُ يَقُول عَبدِي إِذا افْتتح الصَّلَاة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فيذكرني عَبدِي ثمَّ يَقُول الْحَمد لله رب الْعَالمين فَأَقُول حمدني عَبدِي " الحَدِيث وَهَذِه الرِّوَايَة وَإِن كَانَت ضَعِيفَة وَلكنهَا مفسرة بِحَدِيث مُسلم أَنه أَرَادَ السُّورَة لَا الْآيَة (قلت) هَذَا الْقَائِل حَملَة الْجَهْل وفرط التعصب ورداءة الرَّأْي والفكر على أَنه ترك الحَدِيث الصَّحِيح وَضَعفه لكَونه غير مُوَافق لمذهبه وَقَالَ لَا يعْتَبر بِكَوْنِهِ فِي مُسلم مَعَ أَنه قد رَوَاهُ عَن الْعَلَاء الْأَئِمَّة الثِّقَات الْأَثْبَات كمالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَابْن جريج وَشُعَيْب وَعبد الْعَزِيز الداروردي وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَمُحَمّد بن إِسْحَاق والوليد بن كثير وَغَيرهم والْعَلَاء فِي نَفسه ثِقَة صَدُوق وَهَذِه الرِّوَايَة مِمَّا انْفَرد بهَا عَنهُ ابْن سمْعَان وَقَالَ عمر بن عبد الْوَاحِد سَأَلت مَالِكًا عَنهُ أَي ابْن سمْعَان فَقَالَ كَانَ كذابا وَكَذَا قَالَ يحيى بن معِين وَقَالَ يحيى بن بكير قَالَ هِشَام بن عُرْوَة فِيهِ لقد كذب عَليّ وَحدث عني بِأَحَادِيث لم أحدثها لَهُ وَعَن أَحْمد مَتْرُوك الحَدِيث وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَاد من الْكَذَّابين (فَإِن قلت) أخرج الْخَطِيب عَن أبي أويس(5/285)
واسْمه عبد الله بن أويس قَالَ أَخْبرنِي الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا أم النَّاس جهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَابْن عدي فِي الْكَامِل فَقَالَا فِيهِ قَرَأَ عوض جهر وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى (قلت) أَبُو أويس ضعفه أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو حَاتِم فَلَا يحْتَج بِمَا انْفَرد بِهِ فَكيف إِذا انْفَرد بِشَيْء وَقد خَالفه فِيهِ من هُوَ أوثق مِنْهُ (فَإِن قلت) أخرج مُسلم لأبي أويس (قلت) صاحبا الصَّحِيح إِذا أخرجَا لمن تكلم فِيهِ إِنَّمَا يخرجَانِ بعد إنقائهما من حَدِيثه مَا توبع عَلَيْهِ وَظَهَرت شواهده وَعلم أَن لَهُ أصلا وَلَا يخرجَانِ مَا تفرد بِهِ سِيمَا إِذا خَالف الثِّقَات وَهَذِه الْعلَّة راجت على كثير مِمَّن استدرك على الصَّحِيحَيْنِ فتساهلوا فِي استدراكهم وَمن أَكْثَرهم تساهلا الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي كِتَابه الْمُسْتَدْرك فَإِنَّهُ يَقُول هَذَا على شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا وَفِيه هَذِه الْعلَّة إِذْ لَا يلْزم من كَون الرَّاوِي محتجا بِهِ فِي الصَّحِيح أَنه إِذا وجد فِي أَي حَدِيث كَانَ يكون ذَلِك الحَدِيث على شَرطه وَلِهَذَا قَالَ ابْن دحْيَة فِي كتاب الْعلم الْمَشْهُور وَيجب على أهل الحَدِيث أَن يتحفظوا من قَول الْحَاكِم أبي عبد الله فَإِنَّهُ كثير الْغَلَط ظَاهر السقط وَقد غفل عَن ذَلِك كثير مِمَّن جَاءَ بعده وقلده فِي ذَلِك (فَإِن قلت) قد جَاءَ فِي طَرِيق آخر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن خَالِد بن الياس عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلمنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الصَّلَاة فَقَامَ فَكبر لنا ثمَّ قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِيمَا يجْهر بِهِ فِي كل رَكْعَة " (قلت) هَذَا إِسْنَاد سَاقِط فَإِن خَالِد بن الياس مجمع على ضعفه وَعَن البُخَارِيّ عَن أَحْمد أَنه مُنكر الحَدِيث وَقَالَ ابْن معِين لَيْسَ بِشَيْء وَلَا يكْتب حَدِيثه وَقَالَ النَّسَائِيّ مَتْرُوك الحَدِيث وَقَالَ ابْن حبَان يروي الموضوعات عَن الثِّقَات وَقَالَ الْحَاكِم روى عَن المَقْبُري وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَهِشَام بن عُرْوَة أَحَادِيث مَوْضُوعَة (فَإِن قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن جَعْفَر بن مكرم حَدثنَا أَبُو بكر الْحَنَفِيّ حَدثنَا عبد الْمجِيد عَن جَعْفَر أَخْبرنِي نوح بن أبي بِلَال عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا قَرَأْتُمْ الْحَمد فاقرؤا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِنَّهَا أم الْقُرْآن وَأم الْكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِحْدَى آياتها " (قلت) قَالَ أَبُو بكر الْحَنَفِيّ ثمَّ لقِيت نوحًا فَحَدثني عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مثله وَلم يرفعهُ (فَإِن قلت) قَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه الْكُبْرَى رفع هَذَا الحَدِيث عبد الحميد بن جَعْفَر وَهُوَ ثِقَة وَثَّقَهُ ابْن معِين (قلت) كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يُضعفهُ وَيحمل عَلَيْهِ وَلَئِن سلمنَا رَفعه فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على الْجَهْر وَلَئِن سلم فَالصَّوَاب فِيهِ الْوَقْف قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ لِأَنَّهُ رَوَاهُ الْمعَافي بن عمرَان عَن عبد الحميد عَن نوح عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَرَوَاهُ أُسَامَة بن زيد وَأَبُو بكر الْحَنَفِيّ عَن نوح عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا (فَإِن قلت) هَذَا مَوْقُوف فِي حكم الْمَرْفُوع إِذْ لَا يَقُول الصَّحَابِيّ أَن الْبَسْمَلَة إِحْدَى آيَات الْفَاتِحَة إِلَّا عَن تَوْقِيف أَو دَلِيل قوي ظهر لَهُ فحين إِذن يكون لَهُ حكم سَائِر آيَات الْفَاتِحَة من الْجَهْر والإسرار (قلت) لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَة سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْرَأها فظنها من الْفَاتِحَة فَقَالَ إِنَّهَا إِحْدَى آياتها وَنحن لَا ننكر أَنَّهَا من الْقُرْآن وَلَكِن النزاع فِي موضِعين. أَحدهمَا أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة وَالثَّانِي أَن لَهَا حكم سَائِر آيَات الْفَاتِحَة جَهرا وسرا وَنحن نقُول أَنَّهَا آيَة مُسْتَقلَّة قبل السُّورَة وَلَيْسَت مِنْهَا جمعا بَين الْأَدِلَّة وَأَبُو هُرَيْرَة لم يخبر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ هِيَ إِحْدَى آياتها وقراءتها قبل الْفَاتِحَة لَا تدل على ذَلِك وَإِذا جَازَ أَن يكون مُسْتَند أبي هُرَيْرَة قِرَاءَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهَا وَقد ظهر أَن ذَلِك لَيْسَ بِدَلِيل على مَحل النزاع فَلَا تعَارض بِهِ أدلتنا الصَّحِيحَة الثَّابِتَة وَأَيْضًا فالمحفوظ الثَّابِت عَن أبي سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث عدم ذكر الْبَسْمَلَة كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْحَمد لله هِيَ أم الْقُرْآن وَهِي السَّبع المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح على أَن عبد الحميد بن جَعْفَر مِمَّن تكلم فِيهِ وَلَكِن وَثَّقَهُ أَكثر الْعلمَاء وَاحْتج بِهِ مُسلم فِي صَحِيحه وَلَيْسَ تَضْعِيف من ضعفه مِمَّا يُوجب رد حَدِيثه وَلَكِن الثِّقَة قد يغلط وَالظَّاهِر أَنه قد غلط فِي هَذَا الحَدِيث وَالله تَعَالَى أعلم. وَأما حَدِيث أم سَلمَة فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك عَن عمر بن هَارُون عَن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فِي الصَّلَاة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَعَدهَا آيَة الْحَمد لله رب الْعَالمين آيَتَيْنِ الرَّحْمَن الرَّحِيم ثَلَاث آيَات إِلَى آخِره " وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ(5/286)
وَالْبَيْهَقِيّ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن مدَار هَذِه الرِّوَايَة على عمر بن هَارُون الْبَلْخِي وَهُوَ مَجْرُوح تكلم فِيهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة فَعَن أَحْمد لَا أروي عَنهُ شَيْئا وَعَن يحيى لَيْسَ بِشَيْء وَعَن ابْن الْمُبَارك كَذَّاب وَعَن النَّسَائِيّ مَتْرُوك الحَدِيث وَعَن ابْن الْجَوْزِيّ عَن يحيى كَذَّاب خَبِيث لَيْسَ حَدِيثه بِشَيْء (فَإِن قلت) روى أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْحُرُوف حَدثنَا سعيد بن يحيى الْأمَوِي قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة " عَن أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ذكرت أَو كلمة غَيرهَا قِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين يقطع قِرَاءَته آيَة آيَة " وَأخرجه أَحْمد حَدثنَا يحيى بن سعيد الْأمَوِي إِلَى آخِره نَحوه وَلَفظه " أَنَّهَا سُئِلت عَن قِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت كَانَ يقطع آيَة آيَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين " (قلت) لَيْسَ فِيهِ حجَّة للخصم لِأَن فِيهِ ذكرهَا قِرَاءَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ كَانَت وَبَيَان ترتيله وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة (فَإِن قلت) قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الْمعرفَة قَالَ الْبُوَيْطِيّ فِي كِتَابه أَخْبرنِي غير وَاحِد عَن حَفْص بن غياث عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا قَرَأَ بِأم الْقُرْآن بَدَأَ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يعدها آيَة ثمَّ قَرَأَ الْحَمد لله رب الْعَالمين يعدها سِتّ آيَات " (قلت) قَالَ الطَّحَاوِيّ فِي كتاب الرَّد على الْكَرَابِيسِي لم يسمع ابْن أبي مليكَة هَذَا الحَدِيث من أم سَلمَة وَالَّذِي يروي عَن ابْن أبي مليكَة عَن يعلى بن مَالك عَن أم سَلمَة هُوَ الْأَصَح وَلِهَذَا أسْندهُ التِّرْمِذِيّ من جِهَة يعلى وَقَالَ غَرِيب حسن صَحِيح لِأَن فِيهِ ذكر قِرَاءَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أم سَلمَة نعت مِنْهَا لقِرَاءَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسَائِر الْقُرْآن كَيفَ كَانَت وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَالْعجب من الْبَيْهَقِيّ أَنه ذكر حَدِيث يعلى فِي بَاب ترتيل الْقِرَاءَة وَتَركه فِي بَاب الدَّلِيل على أَن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة تَامَّة من الْفَاتِحَة لكَونه لَا يُوَافق مَقْصُوده وَلِأَن فِيهِ بَيَان عِلّة حَدِيثه وَالْعجب ثمَّ الْعجب مِنْهُ رُوِيَ هَذَا من عمر بن هَارُون وألان القَوْل فِيهِ وَقَالَ وَرَوَاهُ عمر بن هَارُون الْبَلْخِي وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ وَذكره فِي بَاب لَا شُفْعَة فِيمَا ينْقل أَنه ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ ثمَّ أَن كَانَ الْعد بِلِسَانِهِ فِي الصَّلَاة فَذَلِك منَاف للصَّلَاة وَإِن كَانَ بأصابعه فَلَا يدل على أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة قَالَه الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصر السّنَن وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من حَدِيث ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج عَن أَبِيه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي السَّبع المثاني قَالَ هِيَ فَاتِحَة الْكتاب قَرَأَهَا ابْن عَبَّاس بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سبعا فَقلت لأبي أخْبرك سعيد عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة من كتاب الله قَالَ نعم ثمَّ قَالَ قَرَأَهَا ابْن عَبَّاس فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَأخرجه الطَّحَاوِيّ عَن أبي بكرَة عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن أَبِيه عَن سعيد بن جُبَير عَن عبد الله بن عَبَّاس " وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني قَالَ فَاتِحَة الْكتاب ثمَّ قَرَأَ ابْن عَبَّاس بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقَالَ هِيَ الْآيَة السَّابِعَة " قَالَ وَقَرَأَ على سعيد بن جُبَير كَمَا قَرَأَ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس (قلت) الْجَواب: أَولا أَن فِي إِسْنَاده عبد الْعَزِيز بن جريج وَالِد عبد الْملك وَقد قَالَ البُخَارِيّ حَدِيثه لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَثَانِيا أَنه لَا يُعَارضهُ مَا يدل على خِلَافه وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نَهَضَ من الثَّانِيَة استفتح بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين " رَوَاهُ مُسلم والطَّحَاوِي وَهَذَا دَلِيل صَرِيح على أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة إِذْ لَو كَانَت مِنْهَا لقرأها فِي الثَّانِيَة مَعَ الْفَاتِحَة (فَإِن قلت) روى الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك عَن عبد الله بن عَمْرو بن حسان عَن شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " قَالَ الْحَاكِم إِسْنَاده صَحِيح وَلَيْسَ لَهُ عِلّة (قلت) هَذَا غير صَرِيح وَلَا صَحِيح أما أَنه غير صَرِيح فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنه فِي الصَّلَاة وَأما أَنه غير صَحِيح فَلِأَن عبد الله بن عَمْرو بن حسان كَانَ يضع الحَدِيث قَالَه إِمَام الصَّنْعَة عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَيْسَ بِشَيْء كَانَ يكذب (فَإِن قلت) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي الصَّلْت الْهَرَوِيّ واسْمه عبد السَّلَام بن صَالح حَدثنَا عباد بن الْعَوام حَدثنَا شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجْهر فِي الصَّلَاة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " (قلت) هَذَا أَضْعَف من الأول فَإِن أَبَا الصَّلْت مَتْرُوك وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَيْسَ عِنْدِي بصدوق وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَافِضِي خَبِيث روى الْبَزَّار فِي(5/287)
مُسْنده عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن أبي خَالِد عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الصَّلَاة " وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه وَالتِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِهَذَا السَّنَد وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَكلهمْ قَالُوا فِيهِ كَانَ يفْتَتح صلَاته بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (قلت) قَالَ الْبَزَّار إِسْمَاعِيل لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث وَقَالَ التِّرْمِذِيّ لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدِيث ضَعِيف وَرَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي كِتَابه وَأعله بِإِسْمَاعِيل هَذَا وَقَالَ حَدِيثه غير مَحْفُوظ وَأَبُو خَالِد مَجْهُول وَلَا يَصح فِي الْجَهْر بالبسملة حَدِيث مُسْند وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق عمر بن حَفْص الْمَكِّيّ عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يزل يجْهر فِي السورتين بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم حَتَّى قبض " (قلت) هَذَا لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ فَإِن عمر بن حَفْص هَذَا ضَعِيف وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق أَجمعُوا على تَركه وَأما حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي المتَوَكل بن أبي السرى قَالَ " صليت خلف الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان من الصَّلَوَات مَا لَا أحصيها الصُّبْح وَالْمغْرب فَكَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قبل فَاتِحَة الْكتاب وَبعدهَا قَالَ الْمُعْتَمِر مَا آلو أَن أقتدي بِصَلَاة أبي وَقَالَ أبي مَا آلو أَن أقتدي بِصَلَاة أنس وَقَالَ أنس مَا أكره أَن أقتدي بِصَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) الْجَواب أَن هَذَا معَارض بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي مُخْتَصره وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه عَن أنس " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يسر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الصَّلَاة " وَزَاد ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو بكر وَعمر فِي الصَّلَاة (فَإِن قلت) روى الْحَاكِم من طَرِيق آخر عَن مُحَمَّد بن أبي السرى حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس حَدثنَا مَالك عَن حميد عَن أنس قَالَ " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَكلهمْ كَانُوا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " قَالَ الْحَاكِم وَإِنَّمَا ذكرته شَاهدا (قلت) قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصره أما يستحي الْحَاكِم أَن يُورد فِي كِتَابه مثل هَذَا الحَدِيث الْمَوْضُوع فَأَنا أشهد بِاللَّه وَالله إِنَّه لكذب وَقَالَ ابْن عبد الْهَادِي سقط مِنْهُ لَا وَقد روى الْحَاكِم عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم حَدِيثا آخر عَن أنس أَنه قَالَ صلى مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ صَلَاة فجهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَبَدَأَ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الحَدِيث مطولا وَفِيه مقَال كثير وروى الْخَطِيب أَيْضا عَن ابْن أبي دَاوُد عَن ابْن أخي ابْن وهب عَن عَمه عَن الْعمريّ وَمَالك وَابْن عُيَيْنَة عَن حميد عَن أنس أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الْفَرِيضَة " وَجَوَابه مَا قَالَه ابْن عبد الْهَادِي سقط مِنْهُ لَا كَمَا رَوَاهُ الباغندي وَغَيره عَن ابْن أخي ابْن وهب هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأما حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه عَن سعيد بن عُثْمَان الخراز حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد الْمُؤَذّن حَدثنَا قطر بن خَليفَة عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ وعمار " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجْهر فِي المكتوبات بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَلَا أعلم فِي رُوَاته مَنْسُوبا إِلَى الْجرْح (قلت) قَالَ الذَّهَبِيّ فِي مُخْتَصره هَذَا خبر واه كَأَنَّهُ مَوْضُوع لِأَن عبد الرَّحْمَن صَاحب مَنَاكِير ضعفه ابْن معِين وَسَعِيد إِن كَانَ الكريزي فَهُوَ ضَعِيف وَإِلَّا فَهُوَ مَجْهُول وَقَالَ ابْن عبد الْهَادِي هَذَا حَدِيث بَاطِل وَأما حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ البوشنجي " كَانَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سكتتان سكتة إِذا فرغ من الْقِرَاءَة وسكتة إِذا قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " فَأنْكر ذَلِك عمرَان بن حُصَيْن فَكَتَبُوا إِلَى أبي بن كَعْب فَكتب إِن صدق سَمُرَة قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ رجال إِسْنَاده ثِقَات وَصَححهُ أَبُو شامة وَغَيره (قلت) هَذَا لَا يدل على الْجَهْر بل هُوَ دَلِيل لنا على الْإخْفَاء وَأما حَدِيث عمار فقد ذَكرْنَاهُ مَعَ حَدِيث عَلَيْهِ رَضِي الله عَنهُ وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ حَدثنَا عمر بن الْحسن بن عَليّ الشَّيْبَانِيّ حَدثنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد بن مَرْوَان حَدثنَا أَبُو طَاهِر أَحْمد بن عِيسَى حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأبي بكر وَعمر فَكَانُوا يجهرون بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " (قلت) هَذَا بَاطِل من هَذَا الْوَجْه لم يحدث بِهِ ابْن أبي فديك قطّ وَالْمُتَّهَم بِهِ أَحْمد بن عِيسَى أَبُو طَاهِر الْقرشِي وَقد كذبه الدَّارَقُطْنِيّ فَيكون كَاذِبًا فِي رِوَايَته عَن مثل هَذَا الثِّقَة وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ ضَعِيف وَهُوَ أَيْضا ضعفه وَالْحسن بن عَليّ وجعفر بن مُحَمَّد تكلم فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ لَا يحْتَج بِهِ وَله طَرِيق آخر عِنْد الْخَطِيب عَن عبَادَة بن زِيَاد الْأَسدي حَدثنَا يُونُس بن أبي يَعْفُور الْعَبْدي عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن أبي عُبَيْدَة عَن مُسلم بن حَيَّان قَالَ " صليت خلف ابْن عمر فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي السورتين فَقيل لَهُ فَقَالَ صليت خلف رَسُول الله(5/288)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى قبض وَخلف أبي بكر حَتَّى قبض وَخلف عمر حَتَّى قبض فَكَانُوا يجهرون بهَا فِي السورتين فَلَا أدع الْجَهْر بهَا حَتَّى أَمُوت " (قلت) هَذَا أَيْضا بَاطِل وَعبادَة بن زِيَاد بِفَتْح الْعين كَانَ من رُؤْس الشِّيعَة قَالَه أَبُو حَاتِم وَقَالَ الْحَافِظ مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي هُوَ مجمع على كذبه وَشَيْخه يُونُس بن يَعْفُور ضعفه النَّسَائِيّ وَابْن معِين وَقَالَ ابْن حبَان لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ عِنْدِي وَمُسلم بن حَيَّان مَجْهُول. وَأما حَدِيث النُّعْمَان بن بشير فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَن يَعْقُوب بن يُوسُف ابْن زِيَاد الضَّبِّيّ حَدثنَا أَحْمد بن حَمَّاد الْهَمدَانِي عَن قطر بن خَليفَة عَن أبي الضُّحَى عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أمني جِبْرِيل عِنْد الْكَعْبَة فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " (قلت) هَذَا حَدِيث مُنكر بل مَوْضُوع وَأحمد بن حَمَّاد ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَيَعْقُوب بن يُوسُف لَيْسَ بِمَشْهُور وسكوت الدَّارَقُطْنِيّ والخطيب وَغَيرهمَا من الْحفاظ عَن مثل هَذَا الحَدِيث بعد روايتهم لَهُ قَبِيح جدا. وَأما حَدِيث الحكم بن عُمَيْر فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن بشر الْكُوفِي حَدثنَا أَحْمد بن مُوسَى بن اسحق الْجمار حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن حبيب حَدثنَا مُوسَى بن أبي حبيب الطَّائِفِي عَن الحكم بن عُمَيْر وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ " صليت خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي صَلَاة اللَّيْل وَصَلَاة الْغَدَاة وَصَلَاة الْجُمُعَة " (قلت) هَذَا من الْأَحَادِيث الغريبة الْمُنكرَة بل هُوَ حَدِيث بَاطِل لِأَن الحكم بن عُمَيْر لَيْسَ بَدْرِيًّا وَلَا فِي الْبَدْرِيِّينَ أحد اسْمه الحكم بن عُمَيْر بل لَا تعرف لَهُ صُحْبَة لَهُ أَحَادِيث مُنكرَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ الحكم بن عُمَيْر وَقيل عمر والثمالي الْأَزْدِيّ لَهُ أَحَادِيث ضَعِيفَة الْإِسْنَاد إِلَيْهِ ومُوسَى بن حبيب الرَّاوِي عَنهُ لم يلق صحابيا بل هُوَ مَجْهُول لَا يحْتَج بحَديثه وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير الحكم بن عُمَيْر ثمَّ روى لَهُ بضعَة عشر حَدِيثا مُنْكرا وَإِبْرَاهِيم بن حبيب وهم فِيهِ الدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيم بن اسحق الصيني وَوهم فِيهِ أَيْضا الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ الضَّبِّيّ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة. وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم أَن أَبَا بكر بن حَفْص بن عمر أخبرهُ أَن أنس بن مَالك قَالَ " صلى مُعَاوِيَة بِالْمَدِينَةِ صَلَاة فجهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَبَدَأَ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم لأم الْقُرْآن وَلم يقْرَأ بهَا للسورة الَّتِي بعْدهَا حَتَّى قضى تِلْكَ الصَّلَاة وَلم يكبر حِين يهوي حَتَّى قضى تِلْكَ الصَّلَاة فَلَمَّا سلم ناداه من سمع ذَاك من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَمن كَانَ على مَكَان يَا مُعَاوِيَة أسرقت الصَّلَاة أم نسيت أَيْن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَأَيْنَ التَّكْبِير إِذا خفضت وَإِذا رفعت فَلَمَّا صلى بعد ذَلِك قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم للسورة الَّتِي بعد أم الْقُرْآن وَكبر حِين يهوي سَاجِدا " قَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرط مُسلم وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ رُوَاته كلهم ثِقَات وَقد اعْتمد الشَّافِعِي على حَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا فِي إِثْبَات الْجَهْر وَقَالَ الْخَطِيب هُوَ أَجود مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَاب (قلت) مَدَاره على عبد الله بن عُثْمَان فَهُوَ وَإِن كَانَ من رجال مُسلم لكنه مُتَكَلم فِيهِ من يحيى أَحَادِيثه غير قَوِيَّة وَعَن النَّسَائِيّ لين الحَدِيث لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِيهِ وَعَن ابْن الْمَدِينِيّ مُنكر الحَدِيث وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ فَلَا يقبل مَا تفرد بِهِ مَعَ أَن إِسْنَاده مُضْطَرب بَيناهُ فِي شرح مَعَاني الْآثَار وَشرح سنَن أبي دَاوُد وَهُوَ أَيْضا شَاذ مُعَلل فَإِنَّهُ مُخَالف لما رَوَاهُ الثِّقَات الْأَثْبَات عَن أنس وَكَيف يرى أنس بِمثل حَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا محتجا بِهِ وَهُوَ مُخَالف لما رَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلم يعرف أحد من أَصْحَاب أنس المعروفين بِصُحْبَتِهِ أَنه نقل عَنهُ مثل ذَلِك وَمِمَّا يرد حَدِيث مُعَاوِيَة هَذَا أَن أنسا كَانَ مُقيما بِالْبَصْرَةِ وَمُعَاوِيَة لما قدم الْمَدِينَة لم يذكر أحد علمناه أَن أنسا كَانَ مَعَه بل الظَّاهِر أَنه لم يكن مَعَه وَأَيْضًا أَن مَذْهَب أهل الْمَدِينَة قَدِيما وحديثا ترك الْجَهْر بهَا وَمِنْهُم من لَا يرى قرَاءَتهَا أصلا قَالَ عُرْوَة بن الزبير أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة أدْركْت الْأَئِمَّة وَمَا يستفتحون الْقِرَاءَة إِلَّا بِالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَلَا يحفظ عَن أحد من أهل الْمَدِينَة بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه كَانَ يجْهر بهَا إِلَّا بِشَيْء يسير وَله محمل وَهَذَا عَمَلهم يتوارثه آخِرهم عَن أَوَّلهمْ فَكيف يُنكرُونَ على مُعَاوِيَة مَا هُوَ سنتهمْ وَهَذَا بَاطِل وَأما حَدِيث بُرَيْدَة بن الْحصيب فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم فِي الإكليل " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَيّ شَيْء تفتتح الْقُرْآن إِذا افتتحت الصَّلَاة قَالَ قلت بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ هِيَ هِيَ " (قلت) أسانيده واهية عَن عمر بن شمر عَن الْجعْفِيّ وَمن حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْمَحْشَر وَأبي خَالِد الدلاني وَعبد الْكَرِيم أبي أُميَّة وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي الإكليل " قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ تقْرَأ إِذا قُمْت فِي الصَّلَاة قلت أَقُول الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ قل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " (قلت) هَذَا لَا يدل على الْجَهْر(5/289)
وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الْحَافِظ البوشنجي " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بهم الْمغرب وجهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " (قلت) فِي إِسْنَاده نظر وَأما حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي الإكليل من حَدِيث سُلَيْمَان بن مُسلم الْمَكِّيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن أبي ابْن مليكَة عَنهُ بِلَفْظ " من ترك من أم الْقُرْآن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فقد ترك آيَة من كتاب الله " (قلت) لَا يدل على الْجَهْر. وَأما حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ ضعف قَالَ " جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن آخذ من الْقُرْآن شَيْئا فعلمني مَا يجزيني مِنْهُ فَقَالَ بِسم الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر " (قلت) ضَعِيف وَلَا يدل على إِثْبَات الْجَهْر. وَأما حَدِيث أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الغافقي الأندلسي فِي كِتَابه المسلسل بِسَنَد فِيهِ مَجَاهِيل أَنه قَالَ " عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن إسْرَافيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن رب الْعِزَّة عز وَجل فَقَالَ من قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مُتَّصِلَة بِفَاتِحَة الْكتاب فِي صلَاته غفرت ذنُوبه " (قلت) ضَعِيف وَلَا يدل على إِثْبَات الْجَهْر. وَأما حَدِيث مجَالد بن ثَوْر وَبشر بن مُعَاوِيَة فَأخْرجهُ الْخَطِيب بِسَنَد فِيهِ مَجْهُولُونَ أَنَّهُمَا كَانَا من الْوَفْد الَّذين قدمُوا على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلمهما يس وَقَرَأَ الْحَمد لله رب الْعَالمين والمعوذات الثَّلَاث وعلمهما الِابْتِدَاء بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم والجهر بهَا فِي الصَّلَاة. وَأما حَدِيث الْحُسَيْن بن عرفطة الْأَسدي فَأخْرجهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب الْمُسْتَفَاد بِالنّظرِ وبالكتابة فِي معرفَة الصَّحَابَة قَالَ كَانَ اسْمه حسيلا فَسَماهُ سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُسَيْنًا ثمَّ ذكر بِسَنَد فِيهِ مَجَاهِيل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَقل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين حَتَّى تختمها بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قل هُوَ الله أحد إِلَى آخرهَا. وَأما حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَأخْرجهُ البوشنجي بِإِسْنَادِهِ عَن أبي بردة عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (قلت) فِي إِسْنَاده نظر. وَأَحَادِيث الْجَهْر وَإِن كثرت رواتها فَكلهَا ضَعِيفَة وَأَحَادِيث الْجَهْر لَيست مخرجة فِي الصِّحَاح وَلَا فِي المسانيد الْمَشْهُورَة وَلم يرو أَكْثَرهَا إِلَّا الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ فالحاكم قد عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل الْمَوْضُوعَة وَالدَّارَقُطْنِيّ فقد مَلأ كِتَابه من الْأَحَادِيث الغريبة والشاذة والمعللة وَكم فِيهِ من حَدِيث لَا يُوجد فِيهِ غَيره وَفِي رواتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الَّذين لَا يوجدون فِي كتب التواريخ وَلَا فِي كتب الْجرْح وَالتَّعْدِيل كعمرو بن شمر وَجَابِر بن الْجعْفِيّ وحصين بن مُخَارق وَعمر بن حَفْص الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عَمْرو بن حسان وَأبي الصَّلْت الْهَرَوِيّ الملقب بجراب الْكَذِب وَعمر بن هَارُون الْبَلْخِي وَعِيسَى بن مَيْمُون الْمدنِي وَآخَرُونَ وَكَيف يجوز أَن يُعَارض بِرِوَايَة هَؤُلَاءِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة الثِّقَات الْأَثْبَات وَمِنْهُم قَتَادَة الَّذِي كَانَ أحفظ أهل زَمَانه وَيَرْوِيه عَنهُ شُعْبَة الملقب بأمير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث وتلقاه الْأَئِمَّة بِالْقبُولِ وَهَذَا البُخَارِيّ مَعَ شدَّة تعصبه وفرط تحمله على مَذْهَب أبي حنيفَة لم يودع فِي صَحِيحه مِنْهَا حَدِيثا وَاحِدًا وَقد تَعب كثيرا فِي تَحْصِيل حَدِيث صَحِيح فِي الْجَهْر حَتَّى يُخرجهُ فِي صَحِيحه فَمَا ظفر بِهِ وَكَذَلِكَ مُسلم لم يذكر شَيْئا من ذَلِك وَلم يذكرَا فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيث أنس الدَّال على الْإخْفَاء (فَإِن قلت) أَنَّهُمَا لم يلتزما أَن يودعا فِي صَحِيحَيْهِمَا كل حَدِيث صَحِيح فيكونان قد تركا أَحَادِيث الْجَهْر فِي جملَة مَا تركاه من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة (قلت) هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا كل مكابر أَو سخيف فَإِن مَسْأَلَة الْجَهْر من اعلام الْمسَائِل ومعضلات الْفِقْه وَمن أَكْثَرهَا دورانا فِي المناظرة وجولانا فِي المصنفات وَلَو حلف الشَّخْص بِاللَّه أيمانا مُؤَكدَة أَن البُخَارِيّ لَو اطلع على حَدِيث مِنْهَا مُوَافق لشرطه أَو قريب مِنْهُ لم يخل مِنْهُ كِتَابه وَلَإِنْ سلمنَا فَهَذَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة مَعَ اشْتِمَال كتبهمْ على الْأَحَادِيث السقيمة والأسانيد الضعيفة لم يخرجُوا مِنْهَا شَيْئا فلولا أَنَّهَا واهية عِنْدهم بِالْكُلِّيَّةِ لما تركوها وَقد تفرد النَّسَائِيّ مِنْهَا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وَهُوَ أقوى مَا فِيهِ عِنْدهم وَقد بَينا ضعفه من وُجُوه. (فَإِن قلت) أَحَادِيث الْجَهْر تقدم على أَحَادِيث الْإخْفَاء بأَشْيَاء. مِنْهَا كَثْرَة الروَاة فَإِن أَحَادِيث الْإخْفَاء رَوَاهَا اثْنَان من الصَّحَابَة وهما أنس بن مَالك وَعبد الله بن مُغفل وَأَحَادِيث الْجَهْر فرواها أَكثر من عشْرين صحابيا كَمَا ذكرنَا. وَمِنْهَا أَن أَحَادِيث الْإخْفَاء شَهَادَة على نفي وَأَحَادِيث الْجَهْر شَهَادَة على إِثْبَات وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي. وَمِنْهَا أَن أنسا قد رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار ذَلِك فِي الْجُمْلَة(5/290)
فروى أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعيد بن زيد أبي سَلمَة قَالَ سَأَلت أنسا أَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ إِنَّك لتسألني عَن شَيْء مَا أحفظ أَو مَا سَأَلَني أحد قبلك قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ إِسْنَاده صَحِيح (قلت) الْجَواب عَن الأول أَن الِاعْتِمَاد على كَثْرَة الروَاة إِنَّمَا تكون بعد صِحَة الدَّلِيل وَأَحَادِيث الْجَهْر لَيْسَ فِيهَا صَحِيح صَرِيح بِخِلَاف حَدِيث الْإخْفَاء فَإِنَّهُ صَحِيح صَرِيح ثَابت مخرجه فِي الصَّحِيح وَالْمَسَانِيد الْمَعْرُوفَة وَالسّنَن الْمَشْهُورَة مَعَ أَن جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة لَا يرَوْنَ التَّرْجِيح بِكَثْرَة الروَاة. وَعَن الثَّانِي أَن هَذِه الشَّهَادَة وَإِن ظَهرت فِي صُورَة النَّفْي فَمَعْنَاه الْإِثْبَات على أَن هَذَا مُخْتَلف فِيهِ فَعِنْدَ الْبَعْض هما سَوَاء وَعند الْبَعْض النَّافِي مقدم على الْمُثبت وَعند الْبَعْض على الْعَكْس. وَعَن الثَّالِث أَن إِنْكَار أنس لَا يُقَاوم مَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح وَيحْتَمل أَن يكون أنس نسي فِي تِلْكَ الْحَال لكبر سنه وَقد وَقع مثل هَذَا كثيرا كَمَا سُئِلَ يَوْمًا عَن مَسْأَلَة فَقَالَ عَلَيْكُم بالْحسنِ فَاسْأَلُوهُ فَإِنَّهُ حفظ ونسينا وَكم مِمَّن حدث وَنسي وَيحْتَمل أَنه إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن ذكرهَا فِي الصَّلَاة أصلا لَا عَن الْجَهْر بهَا وإخفائها (فَإِن قلت) يجمع بَين الْأَحَادِيث بِأَن يكون أنس لم يسمعهُ لبعده وَأَنه كَانَ صَبيا يَوْمئِذٍ (قلت) هَذَا مَرْدُود لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَاجر إِلَى الْمَدِينَة ولأنس يَوْمئِذٍ عشر سِنِين وَمَات وَله عشرُون سنة فَكيف يتَصَوَّر أَن يكون صلى خَلفه عشر سِنِين فَلَا يسمعهُ يَوْمًا من الدَّهْر يجْهر هَذَا بعيد بل يَسْتَحِيل ثمَّ قد روى فِي زمن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكيف وَهُوَ رجل فِي زمن أبي بكر وَعمر وكهل فِي زمن عُثْمَان مَعَ تقدمه فِي زمانهم وَرِوَايَته للْحَدِيث وَقَالَ الْحَازِمِي فِي النَّاسِخ والمنسوخ إِن أَحَادِيث الْجَهْر وَإِن صحت فَهِيَ مَنْسُوخَة بِمَا أخبرنَا وسَاق من طَرِيق أبي دَاوُد حَدثنَا عباد بن مُوسَى حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم بِمَكَّة قَالَ وَكَانَ أهل مَكَّة يدعونَ مُسَيْلمَة الرَّحْمَن وَقَالُوا أَن مُحَمَّدًا يَدْعُو لَهُ الْيَمَامَة فَأمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخفاها فَمَا جهر بهَا حَتَّى مَاتَ " (فَإِن قلت) هَذَا مُرْسل (قلت) نعم وَلكنه يتقوى بِفعل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين لأَنهم كَانُوا أعرف بأواخر الْأُمُور وَالْعجب من صَاحب التَّوْضِيح كَيفَ يَقُول وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الْجَهْر وَلم يرد تَصْرِيح بالإسرار عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا رِوَايَتَانِ أَحدهمَا عَن ابْن مُغفل وَهِي ضَعِيفَة وَالثَّانيَِة عَن أنس وَهِي معللة بِمَا أوجب سُقُوط الِاحْتِجَاج بهَا وَهل هَذَا إِلَّا من عدم البصيرة وفرط شدَّة العصبية الْبَاطِلَة وَقد عرفت فِيمَا مضى ظلم المتعصبين الَّذين عرفُوا الْحق وغمضوا أَعينهم عَنهُ وأعجب من هَذَا بَعضهم من الَّذين يَزْعمُونَ أَن لَهُم يدا طولى فِي هَذَا الْفَنّ كَيفَ يَقُول يتَعَيَّن الْأَخْذ بِحَدِيث من أَثْبَتَت الْجَهْر فَكيف يجترىء هَذَا ويصدر مِنْهُ هَذَا القَوْل الَّذِي تمجه الأسماع فَأَي حَدِيث صَحَّ فِي الْجَهْر عِنْده حَتَّى يَقُول هَذَا القَوْل النَّوْع الْخَامِس فِي كَونهَا من الْقُرْآن أم لَا وَفِي أَنَّهَا من الْفَاتِحَة أم لَا وَمن أول كل سُورَة أم لَا وَالصَّحِيح من مَذْهَب أَصْحَابنَا أَنَّهَا من الْقُرْآن لِأَن الْأمة أَجمعت على أَن مَا كَانَ مَكْتُوبًا بَين الدفتين بقلم الْوَحْي فَهُوَ من الْقُرْآن وَالتَّسْمِيَة كَذَلِك وَيَنْبَنِي على هَذَا أَن فرض الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة يتَأَدَّى بهَا عِنْد أبي حنيفَة إِذا قَرَأَهَا على قصد الْقِرَاءَة دون الثَّنَاء عِنْد بعض مَشَايِخنَا لِأَنَّهَا آيَة من الْقُرْآن وَقَالَ بَعضهم لَا يتَأَدَّى لِأَن فِي كَونهَا آيَة تَامَّة احْتِمَال فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه قَالَ مَا أنزل الله فِي الْقُرْآن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِلَّا فِي سُورَة النَّمْل وَحدهَا وَلَيْسَت بِآيَة تَامَّة وَإِنَّمَا الْآيَة من قَوْله {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَوَقع الشَّك فِي كَونهَا آيَة تَامَّة فَلَا يجوز بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ يحرم قرَاءَتهَا على الْجنب وَالْحَائِض وَالنُّفَسَاء على قصد الْقُرْآن أما على قِيَاس رِوَايَة الْكَرْخِي فَظَاهر لِأَن مَا دون الْآيَة يحرم عَلَيْهِم وَأما على رِوَايَة الطَّحَاوِيّ لاحْتِمَال أَنَّهَا آيَة تَامَّة فَيحرم عَلَيْهِم احْتِيَاطًا وَهَذَا القَوْل قَول الْمُحَقِّقين من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَدَاوُد وَأَتْبَاعه وَهُوَ الْمَنْصُوص عَن أَحْمد وَقَالَت طَائِفَة لَيست من الْقُرْآن إِلَّا فِي سُورَة النَّمْل وَهُوَ قَول مَالك وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْحَنَابِلَة وَقَالَت طائف أَنَّهَا آيَة من كل سُورَة أَو بعض آيَة كَمَا هُوَ الْمَشْهُور عَن الشَّافِعِي وَمن وَافقه وَقد نقل عَن الشَّافِعِي أَنَّهَا لَيست من أَوَائِل السُّور غير الْفَاتِحَة وَإِنَّمَا يستفتح بهَا فِي السُّور تبركا بهَا وَقَالَ الطَّحَاوِيّ لما ثَبت عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ترك الْجَهْر بالبسملة ثَبت أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن وَلَو كَانَت من الْقُرْآن لوَجَبَ أَن يجْهر بهَا كَمَا يجْهر بِالْقُرْآنِ سواهَا أَلا يرى أَن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الَّتِي فِي النَّمْل يجب أَن يجْهر بهَا كَمَا يجْهر بغَيْرهَا من الْقُرْآن لِأَنَّهَا(5/291)
من الْقُرْآن وَثَبت أَن يُخَافت بهَا كَمَا يُخَافت بالتعوذ والافتتاح وَمَا أشبههَا وَقد رأيناها أَيْضا مَكْتُوبَة فِي فواتح السُّور فِي الْمُصحف فِي فَاتِحَة الْكتاب وَفِي غَيرهَا وَلما كَانَت فِي غير فَاتِحَة الْكتاب لَيست بِآيَة ثَبت أَيْضا أَنَّهَا فِي فَاتِحَة الْكتاب لَيست بِآيَة (فَإِن قلت) إِذا لم تكن قُرْآنًا لَكَانَ مدخلها فِي الْقُرْآن كَافِرًا (قلت) الِاخْتِلَاف فِيهَا يمْنَع من أَن تكون آيَة وَيمْنَع من تَكْفِير من يعدها من الْقُرْآن فَإِن الْكفْر لَا يكون إِلَّا بمخالفة النَّص وَالْإِجْمَاع فِي أَبْوَاب العقائد فَإِن قيل نَحن نقُول أَنَّهَا آيَة فِي غير الْفَاتِحَة فَكَذَلِك أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة (قلت) هَذَا قَول لم يقل بِهِ أحد وَلِهَذَا قَالُوا زعم الشَّافِعِي أَنَّهَا آيَة من كل سُورَة وَمَا سبقه إِلَى هَذَا القَوْل أحد لِأَن الْخلاف بَين السّلف إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا من الْفَاتِحَة أَو لَيست بِآيَة مِنْهَا وَلم يعدها أحد آيَة من سَائِر السُّور وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنَّهَا آيَة من الْقُرْآن حَيْثُ كتبت وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِك لَيست من السُّور بل كتبت آيَة فِي كل سُورَة وَلذَلِك تتلى آيَة مُفْردَة فِي أول كل سُورَة كَمَا تَلَاهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين أنزلت عَلَيْهِ {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} وَعَن هَذَا قَالَ الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ وَهِي آيَة من الْقُرْآن أنزلت للفصل بَين السُّور وَعَن ابْن عَبَّاس كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يعرف فصل السُّورَة حَتَّى ينزل عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَفِي رِوَايَة لَا يعرف انْقِضَاء السُّورَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَقَالَ إِنَّه على شَرط الشَّيْخَيْنِ (فَإِن قلت) لَو لم تكن من أول كل سُورَة لما قَرَأَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكوثر (قلت) لَا نسلم أَنه يدل على أَنَّهَا من أول كل سُورَة بل يدل على أَنَّهَا آيَة مُنْفَرِدَة وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا ورد فِي حَدِيث بَدْء الْوَحْي " فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ لَهُ اقْرَأ فَقَالَ مَا أَنا بقارىء ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ لَهُ اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق " فَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة آيَة من أول كل سُورَة لقَالَ اقْرَأ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اقْرَأ باسم رَبك وَيدل على ذَلِك أَيْضا مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَيَّاش الْجُهَنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِن سُورَة من الْقُرْآن شفعت لرجل حَتَّى غفر لَهُ وَهِي تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك " وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة من أول كل سُورَة لافتتحها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك
744 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ قَالَ حدَّثنا عُمَارَةُ بنُ القَعْقَاعِ. قَالَ حدَّثنا أبُو زُرْعَةَ قَالَ حدَّثنا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وبَيْنَ القِرَاءَةِ إسْكَاتَةً قَالَ أحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأبِي وَأُمِّي يَا رسولَ الله إسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أقُولُ اللَّهُمَّ باعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايايَ بالماءِ وَالثَّلْجِ والبَرَدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث يتَضَمَّن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول بَين التَّكْبِير وَالْقِرَاءَة هَذَا الدُّعَاء الْمَذْكُور، فَيصدق عَلَيْهِ القَوْل: بعد التَّكْبِير، وَهَذَا ظَاهر فِي رِوَايَة: مَا يَقُول بعد التَّكْبِير، وَأما على رِوَايَة مَا يقْرَأ بعد التَّكْبِير فَيحمل على معنى مَا يجمع بَين الدُّعَاء وَالْقِرَاءَة بعد التَّكْبِير، لِأَن أصل هَذَا اللَّفْظ الْجمع، وكل شَيْء جمعته فقد قرأته، وَمِنْه سمي الْقُرْآن قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع بَين الْقَصَص وَالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد. والآيات والسور بَعْضهَا إِلَى بعض، وَقَول من قَالَ: لما كَانَ الدُّعَاء وَالْقِرَاءَة يقْصد بهما التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى، اسْتغنى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر كَمَا جَاءَ:
علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا
غير سديد، وَكَذَا قَول من قَالَ: دُعَاء الِافْتِتَاح يتَضَمَّن مُنَاجَاة الرب والإقبال عَلَيْهِ بالسؤال، وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة تَتَضَمَّن هَذَا الْمَعْنى، فظهرت الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين غير موجه، لِأَن الْمَقْصُود وجود الْمُنَاسبَة بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب لَا وجود الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري الْمَعْرُوف بالتبوذكي. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد ابْن زِيَاد الْعَبْدي أَبُو بشر الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع بن شبْرمَة الضَّبِّيّ الْكُوفِي.(5/292)
الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، هُوَ عَمْرو بن جرير البَجلِيّ، وَاخْتلف فِي اسْمه فَقيل: هرم، وَقيل: عبد الله، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: جرير. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي جَمِيع الْإِسْنَاد، وَهَذَا نَادِر فَلذَلِك اخْتَار البُخَارِيّ رِوَايَة عبد الْوَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: الإثنان الْأَوَّلَانِ من الروَاة بصريان، وَاثْنَانِ بعدهمَا كوفيان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد ابْن عبد الله بن نمير، وَعَن أبي كَامِل، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أبي كَامِل الجحدري بِهِ، وَعَن أَحْمد بن أبي شُعَيْب الْخُزَاعِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن سُفْيَان عَنهُ مُخْتَصرا، وَفِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن حجر عَن جرير بِتَمَامِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد الطنافسي، وروى الْبَزَّار بِسَنَد جيد من حَدِيث خبيب بن سُلَيْمَان بن سَمُرَة عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فَلْيقل: اللَّهُمَّ باعد بيني وَبَين خطاياي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك أَن تصدعني بِوَجْهِك يَوْم الْقِيَامَة، اللَّهُمَّ نقني من الْخَطَايَا كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، اللَّهُمَّ أحيني مُسلما وأمتني مُسلما) . وخبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَكَذَلِكَ وثق أَبَاهُ سُلَيْمَان، ورد ابْن الْقطَّان هَذَا الحَدِيث بِجَهْل حَالهمَا غير جيد، وَقَالَ الإشبيلي: الصَّحِيح فِي هَذَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا أمره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يسكت) ، بِفَتْح الْيَاء من: سكت يسكت سكُوتًا، ويروى: يسكت، بِضَم الْيَاء من أسكت يسكت إسكاتا. قَالَ الْكرْمَانِي: الْهمزَة للصيرورة. قلت: مَعْنَاهَا: صيرورة الشَّيْء إِلَى مَا اشتق مِنْهُ الْفِعْل، كأغد الْبَعِير أَي: صَار ذَا غُدَّة، وَمَعْنَاهُ هُنَا: يصير ذَا سكُوت، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الدُّخُول فِي الشَّيْء، تَقْدِيره: كَانَ يدْخل فِي السُّكُوت بَين التَّكْبِير وَبَين الْقِرَاءَة. قَوْله: (إسكاته) بِكَسْر الْهمزَة على وزن: إفعالة، قَالَ بَعضهم: إسكاتة من السُّكُوت. قلت: لَا بل من أسكت، وَالسُّكُوت من سكت، وَهَذَا الْوَزْن للمرة وَالنَّوْع من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَمن الْمُجَرّد يَجِيء على: سكتة، بِالْفَتْح للمرة، وبالكسر للنوع، وَالْأَصْل فِي الْمَزِيد فِيهِ من الثلاثي والرباعي الْمُجَرّد والمزيد أَن مصدرها إِذا كَانَ بِالتَّاءِ فالمرة وَالنَّوْع على مصدرها الْمُسْتَعْمل والفارق الْقَرَائِن نَحْو: استقامة ودحرجة وَاحِدَة أَو حَسَنَة، وَإِن لم يكن بِالتَّاءِ فلبناء على مصدره مزبدا فِيهِ التَّاء، نَحْو: انطلاقة وتدحرجة وَاحِدَة أَو حَسَنَة. وشذ قَوْلهم: أَتَيْته إتيانة، ولقيته لِقَاء، لِأَنَّهُمَا من الثلاثي الْمُجَرّد الَّذِي لَا تَاء فِي مصدره، إِذْ مصدرهما إتْيَان ولقاء. وَالْقِيَاس: إتية ولقية، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ سكُوتًا يَقْتَضِي بعده كلَاما أَو قِرَاءَة مَعَ قصر الْمدَّة، وَأُرِيد بِهَذَا النَّوْع من السُّكُوت ترك رفع الصَّوْت بالْكلَام. ألاَ ترَاهُ يَقُول: مَا تَقول فِي إسكاتك؟ وانتصاب إسكاته على أَنه مفعول مُطلق أما على رِوَايَة: يسكت، بِضَم الْيَاء فَظَاهر لِأَنَّهُ على الأَصْل، وَأما على رِوَايَة: يسكت، بِفَتْح الْيَاء فعلى خلاف الْقيَاس، لِأَن الْقيَاس سكُوتًا كَمَا جَاءَ بِالْعَكْسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا} (نوح: 17) . وَالْقِيَاس: إنباتا. قَوْله: (أَحْسبهُ قَالَ هنيَّة) أَي: قَالَ أَبُو زرْعَة: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة بدل إسكاته: هنيَّة، هَذِه رِوَايَة عبد الْوَاحِد بن زِيَاد بِالظَّنِّ، وَرَوَاهُ جرير عِنْد مُسلم وَغَيره وَابْن فُضَيْل عِنْد ابْن مَاجَه وَغَيره بِلَفْظ: (سكت هنيَّة) ، بِغَيْر تردد وَإِنَّمَا اخْتَار البُخَارِيّ رِوَايَة عبد الْوَاحِد لوُقُوع التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ فِيهَا فِي جَمِيع وَأما هنيئة فَفِيهِ أوجه: الأول: بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة، وَقَالَ ابْن قرقول: كَذَا عِنْد الطَّبَرِيّ، وَلَا وَجه لَهُ، وَقَالَ: وَعند الْأصيلِيّ وَابْن الْحذاء وَابْن السكن: هنيهة، بِالْهَاءِ الْمَفْتُوحَة مَوضِع الْهمزَة، وَهُوَ الْوَجْه الثَّانِي: قلت: هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَرِوَايَة إِسْحَاق والْحميدِي فِي مسنديهما عَن جرير. الْوَجْه الثَّالِث: قَالَه النَّوَوِيّ، هنيَّة، بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء بِغَيْر همزَة، وَمن همزها فقد أَخطَأ قلت: ذكر عِيَاض والقرطبي أَن أَكثر رُوَاة مُسلم بِالْهَمْزَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ أَصْلهَا: هنوة، فَلَمَّا صغرت صَارَت: هنيوة، فاجتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: هنيَّة هِيَ الْيَسِيرَة من الشَّيْء مَا كَانَ.
قَوْله: (بِأبي وَأمي) الْبَاء تتَعَلَّق بِمَحْذُوف إِمَّا إسم: فَيكون تَقْدِيره: أَنْت مفدرى بِأبي وَأمي، وَإِمَّا فعل:(5/293)