الْمَجْهُول من الْإِضْمَار، يُقَال: ضمر الْفرس، بِالْفَتْح وأضمرته أَنا والضمر، بِضَم الضَّاد وَسُكُون الْمِيم: الهزال، وَكَذَلِكَ الضمور، وتضمير الْفرس أَن يعلف حَتَّى يسمن ثمَّ يردهُ إِلَى الْقُوت، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَفِي (النِّهَايَة) : وتضمير الْخَيل هُوَ أَن تظاهر عَلَيْهَا الْعلف حَتَّى تسمن ثمَّ لَا تعلف إلاَّ قوتاً لتخف. وَقيل: تشد عَلَيْهَا سروجاً وتجلل بالأجلة حَتَّى تعرق تحتهَا فَيذْهب رهلها ويشتد لَحمهَا. قَوْله: رهلها، بِفَتْح الرَّاء وَالْهَاء وباللام، من رهل لَحْمه، بِالْكَسْرِ: اضْطربَ واسترخى، قَالَه الْجَوْهَرِي، والمضمر الَّذِي يضمر خيله لغزو أَو سباق، والمضمار الْموضع الَّذِي يضمر فِيهِ الْخَيل، وَتَكون وقتا للأيام الَّتِي يضمر فِيهَا.
قَوْله: (من الحفياء) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وبالياء آخر الْحُرُوف وَالْألف الممدودة، وَقدم بَعضهم الْيَاء على الْفَاء، وَهُوَ اسْم مَوضِع بَينه وَبَين ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة أَو سَبْعَة، وثنية الوادع عِنْد الْمَدِينَة سميت بذلك لِأَن الْخَارِج من الْمَدِينَة يمشي مَعَه المودعون إِلَيْهَا، والثنية: لُغَة الطَّرِيقَة إِلَى الْعقبَة، فَاللَّام فِيهِ للْعهد. قَوْله: (وأمدها) الأمد، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الْمِيم: الْغَايَة. قَوْله: (بني زُرَيْق) ، بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَبَنُو زُرَيْق ابْن عَامر حَارِثَة بن غضب بن جشم بن الْخَزْرَج. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَبَنُو زُرَيْق بطن من الْخَوَارِج قلت: تَفْسِيره بِهَذَا هُنَا غلط، وَالصَّحِيح هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَأَن عبد ا) ، يجوز أَن يكون مقول عبد اللَّه بن عمر بطرِيق الْحِكَايَة عَن نَفسه باسمه على لفظ الْغَيْبَة، كَمَا تَقول عَن نَفسك: العَبْد فعل كَذَا، وَيجوز ان يكون مقول نَافِع قَوْله: (بهَا) أَي: بِالْخَيْلِ أَو بِهَذِهِ الْمُسَابقَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْمُسَابقَة بَين الْخُيُول وَجَوَاز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدادها لذَلِك لينْتَفع بهَا عِنْد الْحَاجة فِي الْقِتَال كراً وفراً، وَهَذَا إِجْمَاع، وَعَن الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا سنة، وَقيل: مُبَاح، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يفعلونها فأقرها الْإِسْلَام، وَلَا يخْتَص جَوَازهَا بِالْخَيْلِ، خلافًا لقوم، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ بِغَيْر رهان، وَالْفُقَهَاء شرطُوا فِيهَا شُرُوطًا مِنْهَا: جَوَاز الرِّهَان من جَانب وَاحِد، وَمن الْجَانِبَيْنِ قمار إلاَّ بِمُحَلل، وَقد علم فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على جَوَاز ذَلِك وَلَا على مَنعه. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه سَابق بَين الْخَيل على حلل أَتَتْهُ من الْيمن، فَأعْطى السَّابِق ثَلَاث حلل وَأعْطى الثَّانِي حلتين وَالثَّالِث حلَّة وَالرَّابِع دِينَارا، وَالْخَامِس درهما، وَالسَّادِس فضَّة. وَقَالَ: (بَارك افيك. وَفِي كلكُمْ وَفِي السَّابِق والفسكل) . قلت: الفسكل، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بَينهمَا وَفِي آخِره اللَّام: وَهُوَ الَّذِي يَجِيء فِي الجلبة آخر الْخَيل.
وَفِيه: تجويع الْبَهَائِم على وَجه الصّلاح وَلَيْسَ من بَاب التعذيب. وَفِيه: بَيَان الْغَايَة وَمِقْدَار أمدها. وَفِيه: جَوَاز إِضَافَة الْمَسْجِد إِلَى بانيه وَإِلَى مصلَ فِيهِ، كَمَا ذكرنَا، وَكَذَلِكَ تجوز إِضَافَة أَعمال الْبر إِلَى أَرْبَابهَا ونسبتها إِلَيْهِم وَلَيْسَ فِي ذَلِك تَزْكِيَة لَهُم.
24 - (بابُ الْقِسْمَةِ وتعلْيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِد)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قسْمَة الشَّيْء فِي الْمَسْجِد يَعْنِي: يجوز لِأَنَّهُ فعلهَا كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ، يتَعَلَّق بِالْقِسْمَةِ. (وَتَعْلِيق القنو) عطف على الْقِسْمَة.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي أَحْكَام تتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ.
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّه القِنْوُ العِزْقُ والإِثْنَانِ قِنْوَانِ وَالجمَاعَةُ أيْضاً قُنْوَانٌ مثْلُ صِنْوٍ وصِنْوَانٍ.
أَبُو عبد اللَّه هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه، وَفسّر القنو بالعذق، والقنو، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون النُّون. وَقَالَ ابْن سَيّده: القنو والقنا الكياسة، والقنا بِالْفَتْح لُغَة فِيهِ عَن أبي حنيفَة، وَالْجمع فِي كل ذَلِك أقناء وقنوان وقنيان. وَفِي (الْجَامِع) : فِي القنوان لُغَتَانِ، بِكَسْر الْقَاف وَضمّهَا، وكل الْعَرَب تَقول: قنو وقنو فِي الْوَاحِد. قَوْله: (العذق) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة: هُوَ كالعنقود للعنب، والعذق، بِفَتْح الْعين: النَّخْلَة. قَوْله: (والاثنان قنوان) ، على وزن: فعلان، بِكَسْر الْفَاء، وَكَذَلِكَ الْجمع هَذَا الْوَزْن؟ فَإِن قلت: فَبِأَي شَيْء يفرق بَين التَّثْنِيَة وَالْجمع؟ قلت: بِسُقُوط النُّون فِي التَّثْنِيَة عِنْد الْإِضَافَة وثبوتها فِي الْجمع، وبكسرها فِي التَّثْنِيَة وإعرابها فِي الْجمع. قَوْله: (مثل صنو) يَعْنِي: فِي الحركات والسكنات، وَفِي التَّثْنِيَة وَالْجمع، والصنو هُوَ: النخلتان أَو ثَلَاثَة تخرج من أصل وَاحِدَة، وكل وَاحِد مِنْهُنَّ صنو، والإثنان صنْوَان، بِكَسْر النُّون، الْجمع: صنْوَان بإعرابها، وَالْبُخَارِيّ لم يذكر جمعه لظُهُوره من الأول.(4/159)
(وَقَالَ إِبْرَاهِيم يَعْنِي ابْن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ أُتِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَال من الْبَحْرين فَقَالَ انثروه فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَكثر مَال أُتِي بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الصَّلَاة وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ فَلَمَّا قضى الصَّلَاة جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَمَا كَانَ يرى أحدا إِلَّا أعطَاهُ إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاس فَقَالَ يَا رَسُول الله أَعْطِنِي فَإِنِّي فاديت نَفسِي وفاديت عقيلا فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذ فَحَثَا فِي ثَوْبه ثمَّ ذهب يقلهُ فَلم يسْتَطع فَقَالَ يَا رَسُول الله مر بَعضهم يرفعهُ إِلَيّ قَالَ لَا قَالَ فارفعه أَنْت عَليّ قَالَ لَا فنثر مِنْهُ ثمَّ ذهب يقلهُ فَقَالَ يَا رَسُول الله اؤمر بَعضهم يرفعهُ عَليّ قَالَ لَا قَالَ فارفعه أَنْت عَليّ قَالَ لَا فنثر مِنْهُ ثمَّ احتمله فَأَلْقَاهُ على كَاهِله ثمَّ انْطلق فَمَا زَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبعهُ بَصَره حَتَّى خَفِي علينا عجبا من حرصه فَمَا قَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وثمة مِنْهَا دِرْهَم) هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ ذكره البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ابْن طهْمَان فِيمَا أَحسب بِغَيْر إِسْنَاد يَعْنِي تَعْلِيقا وَفِي بعض الرِّوَايَة قَالَ إِبْرَاهِيم بِغَيْر ذكر أَبِيه وَالْأول هُوَ الْأَصَح وطهمان بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء ابْن شُعْبَة الْخُرَاسَانِي أَبُو سعيد مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة بِمَكَّة وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مُعَلّقا فِي الْجِهَاد وَفِي الْجِزْيَة وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي هَكَذَا هُوَ فِي البُخَارِيّ إِبْرَاهِيم غير مَنْسُوب وَذكره أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَخلف الوَاسِطِيّ فِي تَرْجَمَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عمر بن مُحَمَّد بن بجير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم وَنسبَة عمر إِلَى جده البجيري فِي صَحِيحه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس وَقيل أَنه عبد الْعَزِيز بن رفيع وَقد روى أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه حَدِيثا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أنس " تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور بركَة " وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ حَدِيثا من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن عبيد بن عُمَيْر عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَدِيث " لَا يحل دم امرىء مُسلم إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاث " الحَدِيث فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا وَالله أعلم أَيهمَا هُوَ وَقَالَ بَعضهم قَالَ الْمزي فِي الْأَطْرَاف قيل أَنه عبد الْعَزِيز بن رفيع وَلَيْسَ بِشَيْء (قلت) قَوْله لَيْسَ بِشَيْء رَاجع إِلَى قَوْله صَاحب هَذَا القيل لِأَن الْمزي قَالَ بِالِاحْتِمَالِ كَمَا ذكرنَا ثمَّ إِن هَذَا الْمُعَلق وَصله أَبُو نعيم الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن يزِيد حَدثنَا أَحْمد بن حَفْص بن عبد الله بن رَاشد حَدثنِي أبي حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عبد الْعَزِيز يَعْنِي ابْن صُهَيْب عَن أنس قَالَ " أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَال من الْبَحْرين " الحَدِيث (فَإِن قلت) التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ أَحدهمَا الْقِسْمَة فِي الْمَسْجِد وَالْآخر تَعْلِيق القنو فِيهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب إِلَّا مَا يُطَابق الْجُزْء الأول (قلت) ذكر أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة فِي غَرِيب الحَدِيث تأليفه فِي هَذَا أَنه لما خرج رأى أقناء معلقَة فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَمر بَين كل حَائِط بقنو يعلق فِي الْمَسْجِد ليَأْكُل مِنْهُ من لَا شَيْء لَهُ وَقَالَ ثَابت فِي كتاب الدَّلَائِل وَكَانَ عَلَيْهَا على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ انْتهى وَمن عَادَة البُخَارِيّ الإحالة على أصل الحَدِيث وَمَا أشبهه والمناسبة بَينهمَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا وضع فِي الْمَسْجِد للأخذ مِنْهُ لَا للادخار وَعدم الْتِفَات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ اسْتِقْلَالا للدنيا وَمَا فِيهِ فَسقط بِمَا ذكرنَا قَول ابْن بطال فِي عدم ذكر البُخَارِيّ حَدِيثا فِي تَعْلِيق القنو أَنه أغفله وَكَذَلِكَ سقط كَلَام ابْن التِّين أنساه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " بِمَال من الْبَحْرين " وَقد تعين المَال فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق حميد مُرْسلا أَنه كَانَ مائَة ألف وَأَنه أرسل بِهِ الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ من خراج الْبَحْرين قَالَ(4/160)
وَهُوَ أول خراج حمل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد روى البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من حَدِيث عمر بن عَوْف " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالح أهل الْبَحْرين وَأمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَبعث أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح إِلَيْهِم فَقدم أَبُو عُبَيْدَة بِمَال فَسمِعت الْأَنْصَار بقدومه " الحَدِيث (فَإِن قلت) ذكر الْوَاقِدِيّ فِي الرِّدَّة أَن رَسُول الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ بِالْمَالِ هُوَ الْعَلَاء بن حَارِثَة الثَّقَفِيّ (قلت) يحْتَمل أَنه كَانَ رَفِيق أبي عُبَيْدَة فاختصر فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ عَلَيْهِ (فَإِن قلت) فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ لَو جَاءَ مَال الْبَحْرين أَعطيتك " وَفِيه " فَلم يقدم مَال الْبَحْرين حَتَّى مَاتَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَهَذَا معَارض لحَدِيث الْبَاب (قلت) لَا مُعَارضَة لِأَن المُرَاد أَنه لم يقدم فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ كَانَ مَال خراج أَو جِزْيَة فَكَانَ يقدم من سنة إِلَى سنة وَأما الْبَحْرين فَهُوَ تَثْنِيَة بَحر فِي الأَصْل وَهِي بَلْدَة مَشْهُورَة بَين الْبَصْرَة وعمان وَهِي هجر وَأَهْلهَا عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار بن معد بن عدنان وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل بَينهَا وَبَين الْبَصْرَة أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ فرسخا. وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ لما صَالح أَهله رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَزعم أَبُو الْفرج فِي تَارِيخه أَنَّهَا رِيبَة وَأَن ساكنيها معظمهم مطحولون وَأنْشد
(وَمن يسكن الْبَحْرين يعظم طحاله ... ويغبط بِمَا فِي جَوْفه وَهُوَ ساغب)
وَزعم ابْن سعد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما انْصَرف من الْجِعِرَّانَة يَعْنِي بعد قسْمَة غَنَائِم حنين أرسل الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ إِلَى الْمُنْذر بن سَاوَى الْعَبْدي وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام فَكتب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْلَامِهِ وتصديقه قَوْله " انثروه " أَي صبوه قَوْله " إِلَيْهِ " أَي إِلَى المَال الَّذِي قدم قَوْله " إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاس " وَهُوَ عَم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْن عبد الْمطلب وَكلمَة إِذْ ظرف فِي الْغَالِب وَالْعَامِل فِيهِ يجوز أَن يكون قَوْله فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَيجوز أَن يكون قَوْله يرى قَوْله " فاديت نَفسِي " يَعْنِي يَوْم بدر حَيْثُ أَخذ أَسِيرًا وفاديت من المفاداة يُقَال فاداه يفاديه إِذا أعْطى فداءه وأنقذ نَفسه وَقَالَ فدى وأفدى وفادى ففدى إِذا أعْطى المَال لخلاص غَيره وفادى إِذا افتك الْأَسير بأسير مثله لخلاص نَفسه وأفدى إِذا أعْطى المَال قَوْله " وفاديت عقيلا " بِفَتْح الْعين وَهُوَ ابْن أبي طَالب وَكَانَ هُوَ أَيْضا أسر يَوْم بدر مَعَ عَمه الْعَبَّاس قَوْله " فَحثى " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْعَبَّاس يُقَال حثوت لَهُ إِذا أَعْطيته شَيْئا يَسِيرا قَوْله " فِي ثَوْبه " أَي فِي ثوب الْعَبَّاس قَوْله " يقلهُ " بِضَم الْيَاء من الإقلال وَهُوَ الرّفْع وَالْحمل قَوْله " فَلم يسْتَطع " أَي حمله قَوْله " مر بَعضهم يرفعهُ عَليّ " أَي مر بعض الْحَاضِرين يرفع المَال الَّذِي أَخَذته وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يسْتَطع حمله (فَإِن قلت) مَا وزن مر (قلت) عل لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ فَاء الْفِعْل لِأَن أَصله اؤمر لِأَنَّهُ من أَمر يَأْمر مَهْمُوز الْفَاء فحذفت همزَة الْكَلِمَة لِاجْتِمَاع المثلين فِي أول الْكَلِمَة الْمُؤَدِّي إِلَى الاستثقال فَبَقيَ أَمر فاستغنى عَن همزَة الْوَصْل لتحرك مَا بعْدهَا فحذفت فَصَارَ مر على وزن عل وَفِي رِوَايَة اؤمر على الأَصْل قَوْله " يرفعهُ " بياء الْمُضَارع وَالضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ يرجع إِلَى الْبَعْض والبارز إِلَى المَال الَّذِي جثاه الْعَبَّاس فِي ثَوْبه وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم أما الرّفْع فعلى الِاسْتِئْنَاف وَالتَّقْدِير هُوَ يرفعهُ وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الْأَمر ويروى بِرَفْعِهِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة (فَإِن قلت) كَيفَ مَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإعانته فِي الرّفْع وَلَا أَعَانَهُ بِنَفسِهِ (قلت) زجرا لَهُ عَن الاستكثار من المَال وَأَن لَا يَأْخُذ إِلَّا قدر حَاجته أَو لينبهه على أَن أحدا لَا يحمل عَن أحد شَيْئا قَوْله " فَأَلْقَاهُ " أَي الْعَبَّاس على كَاهِله والكاهل مَا بَين الْكَتِفَيْنِ قَوْله " يتبعهُ بَصَره " بِضَم الْيَاء من الِاتِّبَاع أَي لم يزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبع الْعَبَّاس بَصَره حَتَّى خَفِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ تَعَجبا من حرصه وَهُوَ معنى قَوْله عجبا من حرصه وانتصابه على أَنه مفعول مُطلق من قبيل مَا يجب حذف عَامله وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على أَنه مفعول لَهُ قَوْله " وثمة " بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي هُنَالك وَقَوله " دِرْهَم " مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله مِنْهَا مقدما وَالْجُمْلَة وَقعت حَالا وَالْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات الْقيام عِنْد انْتِفَاء الدِّرْهَم إِذْ الْحَال قيد للمنفي لَا للنَّفْي وَالْمَجْمُوع مُنْتَفٍ بِانْتِفَاء الْقَيْد لانْتِفَاء الْمُقَيد وَإِن كَانَ ظَاهره نفي الْقيام حَال ثُبُوت الدِّرْهَم (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام) مِنْهَا أَن الْقِسْمَة إِلَى الإِمَام على قدر اجْتِهَاده. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطال أَن الْعَطاء لأحد الْأَصْنَاف الثَّمَانِية الَّذين ذكرهم الله فِي كِتَابه دون غَيرهم لِأَنَّهُ أعْطى الْعَبَّاس لما شكى إِلَيْهِ من الْغرم وَلم يسوه فِي الْقِسْمَة مَعَ الثَّمَانِية الْأَصْنَاف فَلَو قسم ذَلِك على التَّسَاوِي لما أعْطى الْعَبَّاس بِغَيْر مكيال وَلَا ميزَان وَقَالَ الْكرْمَانِي لَا يَصح هَذَا الْكَلَام لِأَن الثَّمَانِية هِيَ(4/161)
مصارف الزَّكَاة وَالزَّكَاة حرَام على الْعَبَّاس بل كَانَ هَذَا المَال إِمَّا فَيْئا أَو غنيمَة (قلت) لم يكن هَذَا المَال فَيْئا وَإِنَّمَا كَانَ خراجا وَلَو وقف الْكرْمَانِي على مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن أبي شيبَة فِيمَا مضى عَن قريب لما قَالَ هَذَا الَّذِي قَالَه وَكَذَلِكَ ابْن بطال وهم فِيمَا قَالَه حَيْثُ جعل المَال من الزَّكَاة وَتَبعهُ صَاحب التَّلْوِيح حَيْثُ قَالَ وَفِيه دلَالَة لأبي حنيفَة وَمن قَالَ بقوله أَنه يجوز الِاقْتِصَار على بعض الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي الْآيَة الكرمية لِأَنَّهُ أعْطى الْعَبَّاس لما شكى الْغرم بِغَيْر وزن وَلم يسوه فِي الْقسم مَعَ الْأَصْنَاف الثَّمَانِية وَلم ينْقل أَنه أعْطى أحدا مثله (قلت) هَذَا أَيْضا كَلَام صادر من غير تَأمل لِأَنَّهُ لَيْسَ للأصناف الثَّمَانِية دخل فِي هَذَا وَلَا المَال كَانَ من مَال الزَّكَاة وَمِنْهَا أَن السُّلْطَان إِذا علم حَاجَة لأحد إِلَى المَال لَا يحل لَهُ أَن يدّخر مِنْهُ شَيْئا. وَمِنْهَا أَن فِيهِ كرم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وزهده فِي الدُّنْيَا وَأَنه لم يمْنَع شَيْئا سئله إِذا كَانَ عِنْده. وَمِنْهَا أَن للسُّلْطَان أَن يرْتَفع عَمَّا يدعى إِلَيْهِ من المهنة وَالْعَمَل بِيَدِهِ وَله أَن يمْتَنع من تَكْلِيف ذَلِك غَيره إِذا لم يكن للسُّلْطَان فِي ذَلِك حَاجَة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ وضع مَا النَّاس مشتركون فِيهِ من صَدَقَة وَغَيرهَا فِي الْمَسْجِد لِأَن الْمَسْجِد لَا يحجب من أحد من ذَوي الْحَاجة من دُخُوله وَالنَّاس فِيهِ سَوَاء وَقَالَ ابْن الْقَاسِم وَسُئِلَ مَالك عَن الافتاء فِي الْمَسْجِد وَمَا يشبه ذَلِك فَقَالَ لَا بَأْس بهَا وَسُئِلَ عَن المَاء الَّذِي يسقى فِي الْمَسْجِد أَتَرَى أَنه يشرب مِنْهُ قَالَ نعم إِنَّمَا جعل للعطش وَلم يرد بِهِ أهل المسكنة فَلَا أرى أَنه يتْرك شربه وَلم يزل هَذَا من أَمر النَّاس
34 - (بابُ مَنْ دَعا لِطَعَامٍ فى المَسْجِدِ وَمَنْ أجابَ مِنه)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من دعى إِلَى آخِره، وَقَوله: (فِي الْمَسْجِد) يتَعَلَّق بقوله: (دَعَا) ، لَا بقوله: (لطعام) . فَإِن قلت: صلَة: دَعَا، بِكَلِمَة: إِلَى، نَحْو: {وَا يدعوا إِلَى دَار السَّلَام} (يُونُس: 52) وبالباء فِي نَحْو: (دَعَا هِرقل بِكِتَاب رَسُول اصلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم) ، و: اللَّام، للاختصاص، فَمَا وَجه هَذَا؟ قلت: تخْتَلف صلات الْفِعْل بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي، فَإِذا قصد بَيَان الِانْتِهَاء جِيءَ بِكَلِمَة: إِلَى، وَإِذا قصد معنى الطّلب جِيءَ: بِالْبَاء، وَإِذا قصد معنى الِاخْتِصَاص جِيءَ: بِاللَّامِ، وَهَهُنَا قصد معنى الِاخْتِصَاص. قَوْله: (وَمن أجَاب مِنْهُ) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَمن أجَاب إِلَيْهِ) . فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: كلمة: من، فِي رِوَايَة: مِنْهُ للابتداء، وَالضَّمِير يعود على: الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة: إِلَى، يعود الضَّمِير إِلَى الطَّعَام. فَإِن قلت: مَا قصد البُخَارِيّ من هَذَا التَّبْوِيب؟ قلت: الْإِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من الْأُمُور الْمُبَاحَة، وَلَيْسَ من اللَّغْو وَالَّذِي يمْنَع فِي الْمَسَاجِد.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسب بَين هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله؟ قلت: من قَوْله: بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد، إِلَى قَوْله: بَاب ستْرَة الإِمَام، خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَابا كلهَا فِيمَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الْمَسَاجِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر وَجه الْمُنَاسبَة بَينهَا على الْخُصُوص.
224 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحاقَ بن عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أنَساً قَالَ وجَدْتُ النَّبيَّ فِي المَسْجِدِ مَعَهُ ناسٌ فَقُمْتُ فقالِ لِي أرْسَلَكَ أبُو طَلْحَةَ قُلْتُ نَعَمْ فقالَ لِطَعَامٍ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا فانْطَلَقَ وانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ. (الحَدِيث 224 أَطْرَافه فِي: 8753، 1835، 0545، 8866) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كلهَا ظَاهِرَة، أما الشق الأول: فلأنَّا قد ذكرنَا أَن: فِي الْمَسْجِد، يتَعَلَّق بقوله: دَعَا، لَا بقوله: لطعام، فَحصل الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام فِي الْمَسْجِد. وَأما الشق الثَّانِي: فَهُوَ إِجَابَة النَّبِي بقوله لمن حوله: قومُوا، فَبِهَذَا التَّقْرِير ينْدَفع اعْتِرَاض من يَقُول: إِن الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي فَقَط فَافْهَم.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، إِسْحَاق بن عبد اللَّه، ابْن أخي أنس من جِهَة الْأُم. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وفرقهما. وَأخرجه أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة مطولا، وَفِي الْأَطْعِمَة وَالْإِيمَان وَالنُّذُور. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَطْعِمَة. وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى، وَفِي المناقب وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة كلهم عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه فِي الْوَلِيمَة أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وجدت) أَي: أصبت، وَلِهَذَا اكْتفى بمفعول وَاحِد. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ، حَال من النَّبِي(4/162)
وَقَوله: (وَمَعَهُ نَاس) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أرسلك) ، ويروي: (أأرسلك) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. قَوْله: (أَبُو طَلْحَة) ، هُوَ: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ أحد نقباء الْعقبَة، شهد الْمشَاهد كلهَا، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، مِنْهَا للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، وَهُوَ زوج أم أنس، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ على الْأَصَح. قَوْله: (قَالَ لطعام) ، ويروى: (للطعام) . قَوْله: (قَالَ لمن حوله) مَنْصُوب بالظرفية أَي: لمن كَانَ حوله. قَوْله: (فَانْطَلق) أَي: إِلَى بَيت أبي طَلْحَة، وَفِي بعض النّسخ: (فَانْطَلقُوا) أَي: انْطلق النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن كَانَ مَعَه.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الحجابة، وَهُوَ أَن يتَقَدَّم بعض الخدام بَين يَدي الإِمَام وَنَحْوه. وَفِيه: الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام وَإِن لم يكن وَلِيمَة. وَفِيه: أَن الدُّعَاء إِلَى ذَلِك من الْمَسْجِد وَغَيره سَوَاء، لِأَن ذَلِك من أَعمال الْبر، وَلَيْسَ ثَوَاب الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد بِأَقَلّ من ثَوَاب الْإِطْعَام. وَفِيه: دُعَاء السُّلْطَان إِلَى الطَّعَام الْقَلِيل. وَفِيه: أَن الرجل الْكَبِير إِذا دعِي إِلَى طَعَام، وَعلم أَن صَاحبه لَا يكره أَن يجلب مَعَه غَيره ان الطَّعَام يكفيهم انه لَا بَأْس بِأَن يحمل مَعَه من حَضَره وانما حملهمْ النَّبِي بأصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، إِلَى طَعَام، أبي طَلْحَة، وَهُوَ قَلِيل، لعلمه أَنه يَكْتَفِي جَمِيعهم ببركته وَمَا خصّه اتعالى بِهِ من الْكَرَامَة والفضيلة، وَهُوَ من عَلَامَات النُّبُوَّة.
44 - (بابُ القَضاء واللِّعَانِ فِي المَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجال والنِّساء)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقَضَاء، وَهُوَ: الحكم وَحكم اللّعان فِي الْمَسْجِد، وَعطف اللّعان على الْقَضَاء من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن الْقَضَاء أَعم من أَن يكون فِي اللّعان أَو غَيره، وَاللّعان مصدر: لَا عَن من: اللَّعْن، وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد، وَسمي بِهِ لما فِيهِ من لعن نَفسه فِي الْخَامِسَة، وَهِي من تَسْمِيَة الْكل باسم الْبَعْض، كَالصَّلَاةِ تسمى رُكُوعًا وسجوداً. وَاللّعان، عندنَا: شَهَادَات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قَائِمَة مقَام الْقَذْف فِي حَقه، ومقام حد الزِّنَا فِي حَقّهَا، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: هُوَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة بِشَرْط أهليه الْيَمين، وَصفَة اللّعان مَا نطق بِهِ نَص الْقُرْآن فِي سُورَة النُّور، وَهُوَ أَن يبتدىء القَاضِي بِالزَّوْجِ فَيشْهد أَربع شَهَادَات يَقُول فِي كل مرّة أشهد با أَنِّي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا، يُشِير إِلَيْهَا فِي كل مرّة، وَيَقُول فِي الْخَامِسَة: لعنة اعليه إِن كَانَ من الْكَاذِبين، فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، ثمَّ تشهد الْمَرْأَة أَربع شَهَادَات تَقول فِي كل مرّة أشهد با أَنه لمن الْكَاذِبين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا، وَتقول فِي الْخَامِسَة: غضب اعليها إِن كَانَ من الصَّادِقين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا. قَوْله: (بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء) ، حَشْو، وَلِهَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
32448 - حدّثنا يَحْيَى قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ شِهابٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدِ أنَ رَجُلاً قَالَ يَا رسولَ اأرَأيَتَ رَجُلاً وجَدَ مَعَ امْرأتِهِ رَجُلاً أيقْتُلُهُ فَتَلاَعَنَا فِي المَسْجِدِ وَأَنا شاهِدٌ. (الحَدِيث 324 أَطْرَافه فِي: 5474، 6474، 9525، 8035، 9035، 4586، 5617، 6617، 4037) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ) ، لِأَنَّهُ لَو لم ير مُبَاشرَة تَامَّة لما سَأَلَ رَسُول اعن جَوَاز قتل الرجل، وَإِلَّا فمجرد وجدان الرجل مَعَ امْرَأَته من غير مُبَاشرَة لَا يَقْتَضِي سُؤال الْقَتْل فِيهِ، فَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ فِيهِ إِشْعَار بِالزِّنَا، وَلَا يَقْتَضِيهِ إلاَّ مَا يفهم من قَوْله: أَيَقْتُلُهُ؟ .
ذكر رِجَاله: خَمْسَة: الأول: يحيى بن مُوسَى أَبُو زَكَرِيَّا، يعرف بالخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ. الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سهل بن سعد بن مَالك بن خَالِد الخزرجي السَّاعِدِيّ، أَبُو الْعَبَّاس، وَقيل: أَبُو يحيى.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: ح دّثنا يحيى مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يحيى بن مُوسَى. وَقَالَ ابْن السكن: هُوَ يحيى بن مُوسَى، وَقيل: هُوَ يحيى بن جَعْفَر البيكندي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ: يحيى بن معِين، لِأَنَّهُ سمع من عبد الرَّزَّاق قلت: الْأَصَح مَا قَالَه ابْن السكن. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وصنعاني ومكي ومدني.(4/163)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، وَفِي التَّفْسِير عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، كِلَاهُمَا عَن مَالك، وَفِي الِاعْتِصَام عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب، وَفِي الْأَحْكَام، وَفِي الْمُحَاربين عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان، وَفِي التَّفْسِير عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن فليح، وَعَن إِسْحَاق عَن الْفرْيَابِيّ عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَفِي الطَّلَاق أَيْضا عَن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم فِي اللّعان عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك مطولا، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي بِبَعْضِه، وَعَن مُسَدّد ووهب بن بَيَان وَأحمد بن عَمْرو بن السَّرْح وَعَمْرو بن عُثْمَان، وَعَن مَحْمُود بن خَالِد، وَعَن أَحْمد بن صَالح، وَعَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ: قَوْله: (أَن رجلا) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: إِنَّه هِلَال بن أُميَّة وَقيل: عَاصِم بن عدي، وَقيل: عُوَيْمِر الْعجْلَاني. قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ: (عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ أَن عويمراً جَاءَ إِلَى عَاصِم ابْن عدي فَقَالَ: أَرَأَيْت رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فَقتله أتقتلونه؟ سل يَا عَاصِم رَسُول ا)
الحَدِيث، وَفِي حَدِيث أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، هِلَال بن أُميَّة، روى الطَّحَاوِيّ عَن حَدِيث ابْن سِيرِين: (عَن أنس بن مَالك أَن هِلَال بن أُميَّة قذف شريك ابْن سمحاء بامرأته، فَرفع ذَلِك إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: (ائْتِ بأَرْبعَة شُهَدَاء، وإلاَّ فحد فِي ظهرك)
الحَدِيث. وَفِيه: (فَنزلت آيَة اللّعان) ، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: عُوَيْمِر الْعجْلَاني: (أَن رَسُول الله لَا عَن بَين الْعجْلَاني وَامْرَأَته)
الحَدِيث، وَرَاه الطَّحَاوِيّ وَأحمد فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) وَوَقع فِي حَدِيث عبد اللَّه بن مَسْعُود: وَكَانَ رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ إِلَى رَسُول الله فلاعن امْرَأَته. وَقَالَ الْمُهلب: الصَّحِيح أَن الْقَاذِف: عُوَيْمِر، وَالَّذِي ذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس من قَوْله الْعجْلَاني هُوَ عُوَيْمِر، وَكَذَا فِي قَول عبد اللَّه بن مَسْعُود، وَكَانَ رجلا، وهلال بن أُميَّة خطأ، وَأَظنهُ غَلطا من هِشَام بن حسان، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا قصَّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل على ذَلِك توقفه فِيهَا حَتَّى نزلت الْآيَة الْكَرِيمَة، وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف على الحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا نزل عَلَيْهِ فِي الأولى. قلت: كَأَنَّهُ تبع فِي هَذَا الْكَلَام مُحَمَّد بن جرير، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث: هِلَال بن أُميَّة، وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر بن الْحَارِث بن زيد بن الْجد بن عجلَان. وَفِيمَا قَالَاه نظر لِأَن قَضِيَّة هِلَال وقذفه زَوجته بِشريك ثَابِتَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي موضِعين: الشَّهَادَات وَالتَّفْسِير وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس. وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّحِيح أَن هلالاً لَا عَن قبل عُوَيْمِر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي. الْأَكْثَرُونَ على أَن قصَّة هِلَال أسبق من قصَّة عُوَيْمِر، وَفِي (الشَّامِل) لِابْنِ الصّباغ قصَّة هِلَال، تبين أَن الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِيهِ أَولا.
قَوْله: (أَرَأَيْت رجلا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، أَي: أَخْبرنِي بِحكمِهِ فِي أَنه هَل يجوز قَتله أَو لَا؟ قَوْله: (فَتَلَاعَنا) ، فِيهِ حذف كثير وَقد بَين ذَلِك فِي غَيره من الْأَحَادِيث الَّتِي أخرجهَا البُخَارِيّ مكررة، كَمَا ذكرنَا، والمحذوف بعد قَوْله: (أَيَقْتُلُهُ) أم كَيفَ يفعل؟ فَأنْزل افي شَأْنه مَا ذكر فِي الْقُرْآن من أَمر المتلاعنين، فَقَالَ النَّبِي: قد قضى فِيك وَفِي امْرَأَتك، قَالَ: فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد وَأَنا شَاهد، فَلَمَّا فرغا قَالَ: كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول اإن أَمْسَكتهَا، فَطلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يإمره رَسُول الله حِين فرغا من التلاعن، ففارقها عِنْد النَّبِي فَقَالَ: (ذَاك تَفْرِيق بَين كلا متلاعنين)
الحَدِيث وَسَيَأْتِي أَحْكَام اللّعان مستقصاة فِي كتاب اللّعان، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا لأجل جَوَاز الْقُضَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ جَائِز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء، وَقَالَ مَالك: جُلُوس القَاضِي فِي الْمَسْجِد للْقَضَاء من الْأَمر الْقَدِيم الْمَعْمُول بِهِ، وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ من مضى من الْقَضَاء لَا يَجْلِسُونَ إلاَّ فِي رحاب الْمَسَاجِد خَارِجا. وَقَالَ أَشهب: لَا بَأْس أَن يقْضِي فِي بَيته أَو حَيْثُ أحب، وَاسْتحبَّ بَعضهم الرحاب، وَفِي (المعونة) : الأولى أَن يقْضِي فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ شُرَيْح وَابْن أبي ليلى يقضيان فِيهِ، وَرُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب كَرَاهِيَة ذَلِك، قَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء مَا تركت اثْنَيْنِ يختصمان فِي الْمَسْجِد. وَعَن الشَّافِعِي كراهيته فِي الْمَسْجِد إِذا أعده لذَلِك دون مَا إِذا انفقت لَهُ حُكُومَة فِيهِ، إِذْ فِيهِ حَدِيث: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ رفع أَصْوَاتكُم وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَلَا يعْتَرض على هَذَا بِاللّعانِ لِأَنَّهَا أَيْمَان وَيُرَاد بهَا التَّرْهِيب ليرْجع الْمُبْطل.
قلت: قَالَ أَصْحَابنَا جَمِيعًا: وَالْمُسْتَحب أَن يجلس فِي مجْلِس الحكم فِي الْجَامِع، فَإِن كَانَ مَسْجِدا(4/164)
بِجنب دَاره فَلهُ ذَلِك، وَإِن قضى فِي دَاره جَازَ، وَالْجَامِع أرْفق الْمَوَاضِع بِالنَّاسِ وأجدر أَن لَا يخفى على أحد جُلُوسه وَلَا يَوْم حكمه، وَقد كَانَ الشّعبِيّ يقْضِي فِي الْجَامِع، وَشُرَيْح يقْضِي فِي الْمَسْجِد ويخطب بِالسَّوَادِ، وَقد قضى النَّبِي فِي مَسْجده بَين الْأَنْصَار فِي مَوَارِيث تقادمت، وَكَانَت الْأَئِمَّة يقضون فِي الْمَسَاجِد، وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنهُ فِي الْحر يُقيم فِي الْمَسْجِد وَقضى بَين سقا وخصم لَهُ فِي الْمَسْجِد، وَإِن حضر فِي الْمَسْجِد لغير الحكم فَحَضَرَ خصمان لم يكره لَهُ أَن يحكم بَينهمَا، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: لَا يقْعد القَاضِي فِي الْمَسْجِد يدْخل فِيهِ الْمُشْركُونَ، فَإِنَّهُم نجس، وتلا الْآيَة. وَكَانَ يحيى بن يعمر فِي الطَّرِيق، وقصده رجل إِلَى منزله فَقَالَ: القَاضِي لَا يُؤْتى فِي منزله.
54 - (بابٌ إذَا دَخَلَ بَيْتاً يُصَلِّى حَيْثُ شاءَ أوْ حَيْثُ أمِرَ ولاَ يَتَجَسَّسُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا دخل رجل بَيت أحد يُصَلِّي فِيهِ حَيْثُ شَاءَ؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام مقدرَة فِيهِ تَقْدِيره أيصلي حَيْثُ شَاءَ؟ أَو حَيْثُ أَمر؟ أَو يُصَلِّي حَيْثُ أمره صَاحب الْبَيْت. وَفِي بعض النّسخ هَكَذَا بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى. على هَذَا وإلاَّ لَا يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة جَمِيعًا، وَلَا يُطَابق إلاَّ الشق الثَّانِي، وَهُوَ قَوْله، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم: (أَيْن تحب أَن أُصَلِّي لَك من بَيْتك؟) وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَا يَقْتَضِي لفظ الحَدِيث أَن يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَن يُصَلِّي حَيْثُ أَمر، لقَوْله: أَيْن تحب أَن أُصَلِّي لَك؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب دخل بَيْتا هَل يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَو حَيْثُ أَمر، لِأَنَّهُ استأذنه فِي مَوضِع الصَّلَاة وَلم يصل حَيْثُ شَاءَ، فَيبْطل حكم: حَيْثُ شَاءَ، وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله: وَلَا يتجسس، أَي: وَلَا يتفحص موضعا يُصَلِّي فِيهِ، وَهُوَ بِالْجِيم، وَقيل: بِالْحَاء، وَالْمعْنَى مُتَقَارب، وَالْأول أظهر وَأكْثر.
85 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن مَحْمُود بن الرّبيع عَن عتْبَان بن مَالك أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ فِي منزله فَقَالَ أَيْن تحب أَن أُصَلِّي لَك من بَيْتك قَالَ فأشرت لَهُ إِلَى مَكَان فَكبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصففنا خَلفه فصلى رَكْعَتَيْنِ) وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع مَحْمُود بن الرّبيع بِفَتْح الرَّاء الخزرجي الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ. الْخَامِس عتْبَان بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة الْأنْصَارِيّ السالمي الْمدنِي الْأَعْمَى وَكَانَ إِمَام قومه على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُوِيَ لَهُ عشرَة أَحَادِيث للْبُخَارِيّ مِنْهَا وَاحِد قَالَه فِي الْكَمَال مَاتَ بِالْمَدِينَةِ زمن مُعَاوِيَة. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَصرح أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده بِسَمَاع إِبْرَاهِيم بن سعد من ابْن شهَاب وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مدنيون وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مطولا ومختصرا فِي أَكثر من عشرَة مَوَاضِع فَفِي الصَّلَاة عَن هناد عَن عبد الله بن مسلمة وَعَن حبَان بن مُوسَى وَعَن معَاذ بن أَسد وَعَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك وَعَن اسحق عَن يَعْقُوب وَعَن سعيد بن عفير وَفِي الرقَاق عَن معَاذ بن أَسد وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن عَبْدَانِ وَفِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي وَعَن سعيد بن عفير وَعَن يحيى بن كثير وَعَن أَحْمد بن صَالح وَفِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن كثير وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي عدَّة مَوَاضِع فَفِي الصَّلَاة عَن حَرْمَلَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد وَعَن اسحق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْإِيمَان عَن شَيبَان بن فروخ عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس وَعَن أبي بكر بن نَافِع وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فَفِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن عبد الله وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن نصر بن عَليّ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي بكر بن نَافِع وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِطُولِهِ(4/165)
(ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ) قَوْله " أَتَاهُ فِي منزله " وَعند الطَّبَرَانِيّ " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ يَوْم السبت وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا " وَفِي لفظ " أَن عتْبَان لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم جُمُعَة فَقَالَ إِنِّي أحب أَن تَأتِينِي " وَفِي بَعْضهَا " أَن عتْبَان بعث إِلَيْهِ " وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث النَّضر بن أنس عَن أَبِيه قَالَ " لما أُصِيب عتْبَان " فَجعله من مُسْند أنس بن مَالك وَعند ابْن حبَان فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَن رجلا من الْأَنْصَار أرسل إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن تعال فَخط لي مَسْجِدا فِي دَاري أُصَلِّي فِيهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا عمي فجَاء فَفعل " انْتهى هَذَا كَأَنَّهُ عتْبَان وَالله تَعَالَى أعلم قَوْله " أَن أُصَلِّي لَك " هَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين " أَن أُصَلِّي من بَيْتك " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " فِي بَيْتك " (فَإِن قلت) الصَّلَاة لله فَكيف قَالَ لَك (قلت) نفس الصَّلَاة لله تَعَالَى وَالْأَدَاء فِي الْموضع الْمَخْصُوص لَهُ قَوْله " فصففنا " ويروى " وصففنا " بِالْوَاو ويروى " فصفنا " بِالتَّشْدِيدِ أَي صفنا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي جعلنَا صفا خَلفه. وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ اسْتِحْبَاب تعْيين مصلى فِي الْبَيْت إِذا عجز عَن حُضُور الْمَسَاجِد. وَفِيه جَوَاز الْجَمَاعَة فِي الْبيُوت. وَفِيه جَوَاز النَّوَافِل بِالْجَمَاعَة. وَفِيه إتْيَان الرئيس إِلَى بَيت المرؤس. وَفِيه تَسْوِيَة الصَّفّ خلف الإِمَام. وَفِيه مَا يدل على حسن خلقه وتواضعه مَعَ جلالة قدره وَعظم مَنْزِلَته
64 - (بابُ المَسَاجِدِ فِي البُيُوتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت، هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله فِي الْحَقِيقَة بَاب وَاحِد لِأَن للْبُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا عَن عتْبَان، وَإِنَّمَا أخرجه فِي عدَّة مَوَاضِع كَمَا ذكرنَا مفرقاً مطولا ومختصراً لأجل التراجم.
وَصَلَّى البَرَاءُ بنُ عازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ فِي جَمَاعَةٍ
هَذَا تَعْلِيق روى مَعْنَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي قصَّة. قَوْله: (فِي جمَاعَة) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (جمَاعَة) بِدُونِ كلمة: فِي، مَنْصُوبَة.
86 - (حَدثنَا سعيد بن عفير قَالَ حَدثنِي اللَّيْث قَالَ حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ أَن عتْبَان بن مَالك وَهُوَ من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّن شهد بَدْرًا من الْأَنْصَار أَنه أَتَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله قد أنْكرت بَصرِي وَأَنا أُصَلِّي لقومي فَإِذا كَانَت الأمطار سَالَ الْوَادي الَّذِي بيني وَبينهمْ لم أستطع أَن آتِي مَسْجِدهمْ فأصلي بهم ووددت يَا رَسُول الله أَنَّك تَأتِينِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي فأتخذه مصلى قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سأفعل إِن شَاءَ الله قَالَ عتْبَان فغدا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر حِين ارْتَفع النَّهَار فَاسْتَأْذن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَذنت لَهُ فَلم يجلس حِين دخل الْبَيْت ثمَّ قَالَ أَيْن تحب أَن أُصَلِّي من بَيْتك قَالَ فأشرت لَهُ إِلَى نَاحيَة من الْبَيْت فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكبر فقمنا فصفنا فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم قَالَ وحبسناه على خزيرة صنعناها لَهُ قَالَ فَثَابَ فِي الْبَيْت رجال من أهل الدَّار ذَوُو عدد فَاجْتمعُوا فَقَالَ قَائِل مِنْهُم أَيْن مَالك بن الدخيشن أَو ابْن الدخشن فَقَالَ بَعضهم ذَلِك مُنَافِق لَا يحب الله وَرَسُوله فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تقل ذَلِك أَلا ترَاهُ قد قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يُرِيد بذلك وَجه الله قَالَ الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإنَّا نرى وَجهه ونصيحته(4/166)
إِلَى الْمُنَافِقين قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن الله قد حرم على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يَبْتَغِي بذلك وَجه الله قَالَ ابْن شهَاب ثمَّ سَأَلت الْحصين بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ وَهُوَ أحد بني سَالم وَهُوَ من سراتهم عَن حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فَصدقهُ بذلك) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة سعيد بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير الْمصْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مصري وأيلي ومدني وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ (فَإِن قلت) من قَوْله أَن عتْبَان بن مَالك إِلَى قَوْله قَالَ عتْبَان من رِوَايَة مَحْمُود بن الرّبيع بِغَيْر وَاسِطَة فَيكون هَذَا الْقدر مُرْسلا فَلَا يكون رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَمن هَذَا قَالَ الْكرْمَانِي الظَّاهِر أَنه مُرْسل لِأَنَّهُ لَا جزم أَن مَحْمُودًا سمع من عتْبَان وَلَا أَنه رأى بِعَيْنِه ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا عِنْد وَفَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) قد وَقع تصريحه بِالسَّمَاعِ عِنْد البُخَارِيّ من طَرِيق معمر وَمن طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد كَمَا مر فِي الْبَاب الْمَاضِي وَوَقع التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ أَيْضا بَين عتْبَان ومحمود من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن شهَاب عِنْد أبي عوَانَة فَتكون رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ فَيحمل قَوْله قَالَ عتْبَان على أَن مَحْمُودًا أعَاد اسْم شَيْخه اهتماما بذلك لطول الحَدِيث وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن عتْبَان بن مَالك " ظَاهره الْإِرْسَال وَقد حققناه الْآن وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا قَالَ حَدثنَا فلَان أَن فلَانا قَالَ كَذَا أَو فعل كَذَا فَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَجَمَاعَة يكون مُنْقَطِعًا حَتَّى يتَبَيَّن السماع وَقَالَ الْجُمْهُور هُوَ كعن مَحْمُول على السماع بِشَرْط أَن يكون الرَّاوِي غير مُدَلّس وبشرط ثُبُوت اللِّقَاء على الْأَصَح قَوْله " مِمَّن شهد بَدْرًا من الْأَنْصَار " وَفَائِدَة ذكر قَوْله من أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَقْوِيَة الرِّوَايَة وتعظيمه والافتخار والتلذذ بِهِ وَإِلَّا كَانَ هُوَ مَشْهُورا بذلك أَو غَرَضه تَعْرِيف الْجَاهِل بِهِ قَوْله " أَن عتْبَان بن مَالك " فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله أَخْبرنِي قَوْله " أَنه أَتَى " بدل من أَن عتْبَان وَفِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس عَن عتْبَان (فَإِن قلت) جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم أَنه بعث إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يطْلب مِنْهُ ذَلِك فَمَا وَجه الرِّوَايَتَيْنِ (قلت) يحْتَمل أَن يكون جَاءَ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفسِهِ مرّة وَبعث إِلَيْهِ رَسُوله مرّة أُخْرَى لأجل التَّذْكِير وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون نسب إتْيَان رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى نَفسه مجَازًا (قلت) الأَصْل الْحَقِيقَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي أويس عَن ابْن شهَاب بِسَنَدِهِ أَنه قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم جُمُعَة لَو أتيتني يَا رَسُول الله وَفِيه أَنه أَتَاهُ يَوْم السبت قَوْله " قد أنْكرت بَصرِي " يحْتَمل مَعْنيين الْعَمى أَو ضعف الإبصار وَفِي رِوَايَة مُسلم " لما سَاءَ بَصرِي " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " جعل بَصرِي يكل " وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت أصابني فِي بَصرِي بعض الشَّيْء وكل ذَلِك يدل على أَنه لم يكن بلغ الْعَمى وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَاب الرُّخْصَة فِي الْمَطَر من طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب فَقَالَ فِيهِ " أَن عتْبَان كَانَ يؤم قومه وَهُوَ أعمى وَأَنه قَالَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا تكون الظلمَة والسيل وَأَنا رجل ضَرِير الْبَصَر " (فَإِن قلت) بَين هَذِه الرِّوَايَة وَالرِّوَايَات الَّتِي تقدّمت تعَارض ظَاهرا (قلت) لَا مُعَارضَة فِيهَا لِأَنَّهُ أطلق عَلَيْهِ الْعَمى فِي هَذِه الرِّوَايَة لقُرْبه مِنْهُ وَكَانَ قد قرب من الْعَمى بِالْكُلِّيَّةِ وَالشَّيْء إِذا قرب من الشَّيْء يَأْخُذ حكمه قَوْله " وَأَنا أُصَلِّي لقومي " أَي لأجلهم وَالْمعْنَى أَنه كَانَ يؤمهم وَصرح بذلك أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن سعد قَوْله " فَإِذا كَانَت الأمطار " أَي فَإِذا وجدت وَكَانَت تَامَّة فَلذَلِك لَيْسَ لَهَا خبر قَوْله " سَالَ الْوَادي " من قبيل إِطْلَاق اسْم الْمحل على الْحَال أَي سَالَ مَاء الْوَادي قَوْله " بيني وَبينهمْ " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " يسيل الْوَادي الَّذِي بيني وَبَين مَسْجِد قومِي فيحول بيني وَبَين الصَّلَاة مَعَهم " قَوْله " فأصلي بهم " بِالنّصب عطف على قَوْله " أَن آتِي " ويروى لَهُم بدل بهم قَوْله " ووددت " بِكَسْر الدَّال قَالَه ثَعْلَب وَمَعْنَاهُ تمنيت وَفِي الْجَامِع للقزاز وَحكى الْفراء عَن الْكسَائي وددت بِالْفَتْح وَلم يحكها غَيره والمصدر ود فيهمَا وَيُقَال فِي الْمصدر الود والود والوداد والوداد وَالْكَسْر أَكثر(4/167)
والودادة والودادة قَوْله " وَجَاء مَوَدَّة " حَكَاهُ مكي فِي شَرحه وَقَالَ اليزيدي فِي نوادره لَيْسَ فِي شَيْء من الْعَرَبيَّة وددت مَفْتُوحَة قَوْله " فَتُصَلِّي " بِسُكُون الْيَاء وَيجوز النصب لوُقُوع الْفَاء بعد التَّمَنِّي قَوْله " فاتخذه " بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ أَيْضا لِأَن الْفَاء وَقعت بعد التَّمَنِّي الْمُسْتَفَاد من الودادة قَوْله " إِن شَاءَ الله " تَعْلِيق بِمَشِيئَة الله عملا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} قَالَ الْكرْمَانِي وَلَيْسَ لمُجَرّد التَّبَرُّك إِذْ مَحل اسْتِعْمَاله إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مَجْزُومًا بِهِ (قلت) يجوز أَن يكون للتبرك لِأَن اطِّلَاعه بِالْوَحْي على الْجَزْم بِأَنَّهُ سيقع غير مستبعد فِي حَقه قَوْله " فغدا على " زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ " بالغد " وللطبراني من طَرِيق أبي أويس أَن السُّؤَال وَقع يَوْم الْجُمُعَة والتوجه إِلَيْهِ وَقع يَوْم السبت على مَا ذكرنَا قَوْله " وَأَبُو بكر " لم يذكر جُمْهُور الروَاة عَن ابْن شهَاب غَيره حَتَّى أَن فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ " فَاسْتَأْذَنا فَأَذنت لَهما " لَكِن فِي رِوَايَة أبي أويس وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أنس عَن عتْبَان " فَأَتَانِي وَمن شَاءَ الله تَعَالَى من أَصْحَابه " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن أنس " فِي نفر من أَصْحَابه " (فَإِن قلت) مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات (قلت) هُوَ أَن أَبَا بكر كَانَ مَعَه فِي ابْتِدَاء توجهه ثمَّ عِنْد الدُّخُول أَو قبله بِقَلِيل اجْتمع عمر وَغَيره من أَصْحَابه فَدَخَلُوا مَعَه قَوْله " فَلم يجلس حِين دخل " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " حَتَّى دخل " قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم زعم بَعضهم أَن حَتَّى غلط وَلَيْسَ بغلط إِذْ مَعْنَاهُ لم يجلس فِي الدَّار وَلَا فِي غَيرهَا حَتَّى دخل الْبَيْت مبادرا إِلَى قَضَاء حَاجته الَّتِي طلبَهَا مِنْهُ وَجَاء بِسَبَبِهَا وَهِي الصَّلَاة فِي بَيته وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب عِنْد البُخَارِيّ وَعند الطَّيَالِسِيّ أَيْضا " فَلَمَّا دخل لم يجلس حَتَّى قَالَ أَيْن تحب " وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر (قلت) إِنَّمَا يتَعَيَّن كَون رِوَايَة الْكشميهني غَلطا إِذا لم يكن لعتبان دَار فِيهَا بيُوت وَأما إِذا كَانَت لَهُ دَار فَلَا يتَعَيَّن قَوْله " فَقَامَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكبر " هَذَا يدل على أَنه حِين دخل الْبَيْت جلس ثمَّ قَامَ فَكبر للصَّلَاة وَبَينه وَبَين مَا قبله تعَارض وَدفعه يُمكن بِأَن يُقَال لما دخل قبل أَن يجلس قَالَ أَيْن تحب وَيحْتَمل أَنه جلس بعده جُلُوسًا مَا ثمَّ قَامَ فَكبر (فَإِن قلت) حَدِيث مليكَة فِي بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير " بَدَأَ بِالْأَكْلِ ثمَّ صلى " وَهَهُنَا " صلى ثمَّ أكل " فَمَا الْفرق بَينهمَا (قلت) كَانَ دُعَاء عتْبَان النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للصَّلَاة وَدعَاهُ مليكَة كَانَ للطعام فَفِي كل وَاحِد من الْمَوْضِعَيْنِ بَدَأَ بالأهم وَهُوَ مَا دعِي إِلَيْهِ قَوْله " أَن أُصَلِّي من بَيْتك " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَعند جُمْهُور الروَاة من الزُّهْرِيّ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده " أَن أُصَلِّي فِي بَيْتك " (فَإِن قلت) مَا معنى " من بَيْتك " وأصل من للابتداء (قلت) الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض فَمن هَهُنَا بِمَعْنى فِي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} قَوْله " وحبسناه " أَي منعناه عَن الرُّجُوع قَوْله " على خزيرة " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء فِي آخِره هَاء قَالَ ابْن سَيّده هِيَ اللَّحْم الغاث بالثاء الْمُثَلَّثَة أَي المهزول يُؤْخَذ فَيقطع صغَارًا ثمَّ يطْبخ بِالْمَاءِ فَإِذا أميت طبخا ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق فعصد بِهِ ثمَّ أَدَم بِأَيّ أدام بِشَيْء وَلَا تكون الخزيرة إِلَّا وفيهَا لحم وَقيل هِيَ ثَلَاثَة النخالة تصفى ثمَّ تطبخ وَقيل الخزيرة والخزير الحساء من الدسم والدقيق عَن أبي الْهَيْثَم إِذا كَانَ من دَقِيق فَهِيَ خزيرة وَإِذا كَانَ من نخالة فَهِيَ حَرِير بالمهملات وَفِي الجمهرة لِابْنِ دُرَيْد الخزير دَقِيق يلبك بشحم كَانَت الْعَرَب تعير بِأَكْلِهِ وَفِي مَوضِع يعير بِهِ بَنو مجاشع قَالَ والخزيرة السخينة وَقَالَ الْفَارِسِي أَكثر هَذَا الْبَاب على فعيلة لِأَنَّهُ فِي معنى مفعول وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عِنْد مُسلم " على جشيشة " بجيم ومعجمتين قَالَ أهل اللُّغَة هِيَ أَن تطحن الْحِنْطَة قَلِيلا ثمَّ يلقى فِيهَا شَحم أَو غَيره وَفِي الْمطَالع أَنَّهَا رويت فِي الصَّحِيحَيْنِ بخاء ورائين مهملات وَحكى البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن النَّضر أَنه تصنع من اللَّبن قَوْله " فَثَابَ فِي الْبَيْت رجال " بالثاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة أَي اجْتَمعُوا وَجَاءُوا يُقَال ثاب الرجل إِذا رَجَعَ بعد ذَهَابه وَقَالَ ابْن سَيّده ثاب الشَّيْء ثوبا وثؤبا رَجَعَ وثاب جِسْمه ثوبانا أقبل وَقَالَ الْخَلِيل المثابة مُجْتَمع النَّاس بعد افتراقهم وَمِنْه قيل للبيت مثابة قَوْله " من أهل الدَّار " أَي من أهل الْمحلة كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خير دور الْأَنْصَار دَار بني النجار " أَي محلتهم وَالْمرَاد أَهلهَا وَيُقَال الدَّار الْقَبِيلَة أَيْضا وَإِنَّمَا جَاءُوا لسماعهم بقدوم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " فَقَالَ قَائِل مِنْهُم " لم يسم هَذَا الْقَائِل قَوْله " مَالك بن الدخيشين " بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَفِي(4/168)
آخِره نون قَوْله " أَو ابْن الدخشن " بِضَم الدَّال وَسُكُون الْخَاء وَضم الشين وَحكى كسر أَوله وَالشَّكّ فِيهِ من الرَّاوِي هَل هُوَ مصغر أم مكبر وَعند البُخَارِيّ فِي الْمُحَاربين من رِوَايَة معمر الدخشن بالنُّون مكبرا من غير شكّ وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس وَعِنْده من طَرِيق معمر بِالشَّكِّ وَنقل الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن صَالح أَن الصَّوَاب الدخشن بِالْمِيم وَهِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ وَكَذَا فِي رِوَايَة لمُسلم عَن أنس عَن عتْبَان وَكَذَا للطبراني من طَرِيق النَّضر بن أنس عَن أَبِيه قَوْله " فَقَالَ بَعضهم " قيل هُوَ عتْبَان رَاوِي الحَدِيث وَبَعْضهمْ نسب هَذَا القَوْل بِأَنَّهُ عتْبَان إِلَى ابْن عبد الْبر وَهُوَ غير ظَاهر لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَصح عَن مَالك النِّفَاق وَقد ظهر من حسن إِسْلَامه مَا يمْنَع من اتهامه وَقَالَ أَيْضا لم يخْتَلف فِي شُهُود مَالك بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي أسر سُهَيْل بن عَمْرو ثمَّ سَاق بِإِسْنَاد حسن عَن أبي هُرَيْرَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لمن تكلم فِيهِ أَلَيْسَ قد شهد بَدْرًا " وَذكر ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث مَالِكًا هَذَا ومعن بن عدي فحرقا مَسْجِد الضرار فَدلَّ ذَلِك كُله أَنه بَرِيء مِمَّا اتهمَ بِهِ من النِّفَاق (فَإِن قلت) إِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف قَالَ هَذَا الْقَائِل أَنا نرى وَجهه ونصيحته لِلْمُنَافِقين (قلت) لَعَلَّ كَانَ لَهُ عذر فِي ذَلِك كَمَا كَانَ لحاطب بن أبي بلتعة وَهُوَ أَيْضا مِمَّن شهد بَدْرًا وَلَعَلَّ الَّذِي قَالَ بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر أَلا ترى أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيفَ قَالَ عِنْد قَوْله هَذَا " فَإِن الله حرم على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يَبْتَغِي بذلك وَجه الله " وَهَذَا إِنْكَار لقَوْله هَذَا وَيجوز أَن يكون اتهامه إِيَّاه بالنفاق غير نفاق الْكفْر كَذَا قيل قَوْله " لَا تقل ذَاك " أَي القَوْل بِأَنَّهُ مُنَافِق قَوْله " أَلا ترَاهُ قد قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله " وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ " أما يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله " وَفِي رِوَايَة مُسلم " أَلَيْسَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " قَوْله " يُرِيد بذلك وَجه الله " أَي ذَات الله وَهَذِه شَهَادَة من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بإيمانه بَاطِنا وبراءته من النِّفَاق " فَإنَّا نرى وَجهه " أَي توجهه قَوْله " ونصيحته لِلْمُنَافِقين " ويروى " إِلَى الْمُنَافِقين " وعَلى هَذِه الرِّوَايَة قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) يُقَال نصحت لَهُ لَا إِلَيْهِ ثمَّ أجَاب عَنهُ بقوله قد ضمن معنى الِانْتِهَاء وَقَالَ بَعضهم الظَّاهِر أَن قَوْله " إِلَى الْمُنَافِقين " مُتَعَلق بقوله " وَجهه " فَهُوَ الَّذِي يتَعَدَّى بإلى وَأما مُتَعَلق ونصيحته فمحذوف للْعلم بِهِ (قلت) كل مِنْهُمَا لم يمشي على قانون الْعَرَبيَّة لِأَن قَوْله " ونصيحته " عطف على قَوْله " وَجهه " دَاخل فِي حكمه لِأَنَّهُ تَابع وَكلمَة إِلَى تتَعَلَّق بقوله وَجهه وَلَا يحْتَاج إِلَى دَعْوَى حذف مُتَعَلق الْمَعْطُوف لِأَنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بمتعلق الْمَعْطُوف عَلَيْهِ قَوْله " يَبْتَغِي " أَي يطْلب بذلك وَجه الله فِيهِ رد على المرجئة الغلاة الْقَائِلين بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِيمَان النُّطْق فَقَط من غير اعْتِقَاد (فَإِن قلت) لَا بُد من مُحَمَّد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) قَالَ الْكرْمَانِي هَذَا إِشْعَار لكلمة الشَّهَادَة بِتَمَامِهَا (قلت) هَذَا فِي حق الْمُشرك وَأما فِي حق غَيره فَلَا بُد من ذَلِك قَوْله " فَإِن الله تَعَالَى قد حرم على النَّار " المُرَاد من التَّحْرِيم هُنَا تَحْرِيم التخليد جمعا بَينه وَبَين مَا ورد من دُخُول أهل الْمعْصِيَة فِيهَا وتوفيقا بَين الْأَدِلَّة وَعَن الزُّهْرِيّ أَنه نزلت بعد هَذَا الحَدِيث فَرَائض وَأُمُور نرى أَن الْأَمر انْتهى إِلَيْهَا وَعند الطَّبَرَانِيّ أَنه من كَلَام عتْبَان وَاعْترض ابْن الْجَوْزِيّ وَقَالَ أَن الصَّلَوَات الْخمس فرضت بِمَكَّة قبل هَذِه الْقَضِيَّة بِمدَّة وَظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي أَن مُجَرّد القَوْل يدْفع الْعَذَاب وَلَو ترك الصَّلَاة وَإِنَّمَا الْجَواب أَن من قَالَهَا مخلصا فَإِنَّهُ لَا يتْرك الْعَمَل بالفرائض إِذْ إخلاص القَوْل حَامِل على أَدَاء اللَّازِم أَو أَنه يحرم عَلَيْهِ خلوده فِيهَا وَقَالَ ابْن التِّين مَعْنَاهُ إِذا غفر لَهُ وَتقبل مِنْهُ أَو يكون أَرَادَ نَار الْكَافرين فَإِنَّهَا مُحرمَة على الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ الدَّاودِيّ سَبْعَة أَدْرَاك والمنافقون فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار مَعَ إِبْلِيس وَابْن آدم الَّذِي قتل أَخَاهُ قَوْله " قَالَ ابْن شهَاب " وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ أحد رُوَاة الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم أَي قَالَ ابْن شهَاب بِالْإِسْنَادِ وَوهم من قَالَ أَنه مُعَلّق (قلت) ظَاهره التَّعْلِيق فَإِنَّهُ قَالَ قَالَ ابْن شهَاب بِدُونِ الْعَطف على مَا قبله قَوْله " ثمَّ سَأَلت الْحصين بن مُحَمَّد " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " ثمَّ سَأَلت بعد ذَلِك الْحصين " بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالصاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَهَكَذَا ضَبطه عِنْد جَمِيع الروَاة إِلَّا الْقَابِسِيّ فَإِنَّهُ ضَبطه بالضاد الْمُعْجَمَة وغلطوه فِي ذَلِك وَهُوَ الْحصين بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي من ثِقَات التَّابِعين وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) مَحْمُود كَانَ عدلا فَلم سَأَلَ الزُّهْرِيّ غَيره (قلت) إِمَّا للتقوية ولاطمئنان الْقلب وَإِمَّا لِأَنَّهُ عرف أَنه نَقله مُرْسلا وَإِمَّا لِأَنَّهُ تحمله حَال الصِّبَا وَاخْتلف فِي قبُول المتحمل زمن الصِّبَا قَوْله " وَهُوَ من سراتهم " أَي الْحصين بن مُحَمَّد من سراة بني سَالم والسراة بِفَتْح السِّين جمع سرى وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ الْمُرْتَفع الْقدر وَفِي الْمُحكم السرو الْمُرُوءَة والشرف سرو سراوة وسروا الْأَخِيرَة عَن سِيبَوَيْهٍ واللحياني وسرى سروا وسرى يسري سراء وَلم يحك اللحياني مصدر سرى إِلَّا ممدودا وَرجل(4/169)
سرى من قوم أسرياء وشرفاء كِلَاهُمَا عَن اللحياني والسراة اسْم للْجمع وَلَيْسَ بِجمع عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَدَلِيل ذَلِك قَوْلهم سروات وَفِي الصِّحَاح وَجمع السرى سراة وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على فعلة وَلَا يعرف غَيره وَفِي الْجَامِع وَقَوْلهمْ فلَان سرى إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الرفيع وَهُوَ سرا الرجل يسرو صَار رفيعا وَأَصله من السراة وَهُوَ من أرفع الْمَوَاضِع من ظهر الدَّابَّة وَقيل بل السراة الرَّأْس وَهُوَ أرفع الْجِسْم قَوْله " عَن حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع " يتَعَلَّق بقوله " سَأَلت " قَوْله " فَصدقهُ بذلك " أَي بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون الْحصين سَمعه أَيْضا من عتْبَان وَيحْتَمل أَن يكون سَمعه من صَحَابِيّ آخر وَلَيْسَ للحصين وَلَا لعتبان فِي الصَّحِيحَيْنِ سوى هَذِه الحَدِيث (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام والفوائد) مِنْهَا جَوَاز إِمَامَة الْأَعْمَى وَمِنْهَا جَوَاز التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة للْعُذْر نَحْو الْمَطَر والظلمة أَو الْخَوْف على نَفسه وَمِنْهَا أَن فِيهِ إِخْبَار الْمَرْء عَن نَفسه بِمَا فِيهِ من عاهة وَلَيْسَ يكون من الشكوى وَمِنْهَا جَوَاز اتِّخَاذ مَوضِع معِين للصَّلَاة (فَإِن قلت) روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه النَّهْي إيطان مَوضِع معِين من الْمَسْجِد (قلت) هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا استلزم رِيَاء وَنَحْوه وَمِنْهَا أَن فِيهِ تَسْوِيَة الصُّفُوف وَقَالَ ابْن بطال فِيهِ رد على من قَالَ إِذا زار قوما فَلَا يؤمهم مستدلا بِمَا روى وَكِيع عَن أبان بن يزِيد عَن بديل بن ميسرَة عَن أبي عَطِيَّة عَن رجل مِنْهُم " كَانَ مَالك بن الْحُوَيْرِث يأتينا فِي مصلانا فَحَضَرت الصَّلَاة فَقُلْنَا لَهُ تقدم فَقَالَ لَا يتَقَدَّم بَعْضكُم فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ من زار قوما فَلَا يؤمهم وليؤمهم رجل مِنْهُم " قَالَ ابْن بطال هَذَا إِسْنَاده لَيْسَ بقائم وَأَبُو عَطِيَّة مَجْهُول يروي عَن مَجْهُول وَصَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيت عتْبَان مُخَالفَة لَهُ وَكَذَا ذكره السفاقسي وَفِيه نظر فِي مَوَاضِع. الأول رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَابْن مَاجَه عَن سُوَيْد عَن عبد الله وَأَبُو الْحُسَيْن الْمعلم عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الباغندي حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا أبان. الثَّانِي قَوْله إِسْنَاده لَيْسَ بقائم يردهُ قَول التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن. الثَّالِث الَّذِي فِي أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْمُصَنّف أَن أَبَا عَطِيَّة قَالَ كَانَ مَالك بن الْحُوَيْرِث يأتينا فذكروه من غير وَاسِطَة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَيرهم قَالُوا صَاحب الْمنزل أَحَق بِالْإِمَامَةِ من الزائر وَقَالَ بعض أهل الْعلم إِذا أذن لَهُ فَلَا بَأْس أَن يُصَلِّي بِهِ وَقَالَ اسحق لَا يُصَلِّي أحد بِصَاحِب الْمنزل وَإِن أذن لَهُ صَاحب الْمنزل وَكَذَلِكَ صَاحب الْمنزل لَا يُصَلِّي بهم فِي الْمَسْجِد إِذا زارهم يَقُول ليُصَلِّي بهم رجل مِنْهُم وَقَالَ مَالك يسْتَحبّ لصَاحب الْمنزل إِذا حضر فِيهِ من هُوَ أفضل مِنْهُ أَن يقدمهُ للصَّلَاة وَقد رُوِيَ عَن أبي مُوسَى أَنه أَمر ابْن مَسْعُود وجذبه فِي دَاره وَقَالَ أَبُو البركات ابْن تَيْمِية أَكثر أهل الْعلم على أَنه لَا بَأْس بإمامة الزائر بِإِذن رب الْمنزل. وَفِيه أَن الْمَسْجِد الْمُتَّخذ فِي الْبيُوت لَا يخرج عَن ملك صَاحبه بِخِلَاف الْمَسْجِد الْمُتَّخذ فِي الْمحلة وَفِيه التَّبَرُّك بمصلى الصَّالِحين ومساجد الفاضلين. وَفِيه أَن من دَعَا من الصلحاء إِلَى شَيْء يتبرك بِهِ مِنْهُ فَلهُ أَن يُجيب إِلَيْهِ إِذا أَمن الْعجب. وَفِيه الْوَفَاء بالعهد. وَفِيه صَلَاة النَّافِلَة فِي جمَاعَة بِالنَّهَارِ. وَفِيه إكرام الْعلمَاء إِذا دعوا إِلَى شَيْء بِالطَّعَامِ وَشبهه. وَفِيه التَّنْبِيه على أهل الْفسق والنفاق عِنْد السُّلْطَان. وَفِيه أَن السُّلْطَان يجب عَلَيْهِ أَن يستثبت فِي أَمر من يذكر عِنْد بفسق وَيُوجه لَهُ أجمل الْوُجُوه. وَفِيه أَن الْجَمَاعَة إِذا اجْتَمعُوا للصَّلَاة وَغَابَ أحد مِنْهُم أَن يسْأَلُوا عَنهُ فَإِن كَانَ لَهُ عذر وَإِلَّا ظن بِهِ الشَّرّ وَهُوَ مُفَسّر فِي قَوْله " لقد هَمَمْت أَن آمُر بحطب " وَفِيه جَوَاز استدعاء الْمَفْضُول للفاضل لمصْلحَة الْفَرْض. وَفِيه إِمَامَة الزائر المزور بِرِضَاهُ. وَفِيه أَن السّنة فِي نوافل النَّهَار رَكْعَتَانِ وَفِيه خلاف على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه جَوَاز استتباع الإِمَام والعالم أَصْحَابه. وَفِيه الاسْتِئْذَان على الرجل فِي منزله وَإِن كَانَ قد تقدم مِنْهُ استدعاء. وَفِيه أَنه يسْتَحبّ لأهل الْمحلة إِذا ورد رجل صَالح إِلَى منزل بَعضهم أَن يجتمعوا إِلَيْهِ ويحضروا مَجْلِسه لزيارته وإكرامه والاستفادة مِنْهُ. وَفِيه الذب عَمَّن ذكر بِسوء وَهُوَ بَرِيء مِنْهُ. وَفِيه أَنه لَا يخلد فِي النَّار من مَاتَ على التَّوْحِيد (قلت) ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصا تحرم عَلَيْهِ النَّار وَفِيه جَوَاز إِسْنَاد الْمَسْجِد إِلَى الْقَوْم
74 -(4/170)
(بابُ التيَمُّن فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي دُخُول الْمَسْجِد وَغَيره. قَالَ الْكرْمَانِي: وَغَيره، بِالْجَرِّ عطف على: الدُّخُول لَا على: الْمَسْجِد، وَلَا على: التَّيَمُّن، وَتَبعهُ بَعضهم على ذَلِك قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون عطفا على الْمَسْجِد، أَي: وَغير الْمَسْجِد، مثل: الْبَيْت والمنزل.
وكانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأ بِرِجْلِهِ اليُمْنَى فإذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ اليُسْرَى
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيُؤَيّد فعل ابْن عمر مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من طَرِيق مُعَاوِيَة بن قُرَّة: (عَن أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول: من السّنة إِذا دخلت السمجد أَن تبدأ برجلك الْيُمْنَى، وَإِذا خرجت أَن تبدأ برجلك الْيُسْرَى) . وَقَول الصَّحَابِيّ: من السّنة كَذَا، مَحْمُول على أَنه مَرْفُوع إِلَى النَّبِي، وَهُوَ الصَّحِيح. قَوْله: (يبْدَأ) أَي: فِي دُخُول الْمَسْجِد، وَذكر خرج فِي مُقَابِله قرينَة لَهُ.
62478 - حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنِ الأَشْعَثِ بنِ سُلَيْمٍ عنْ أبيهِ عَنْ مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ قالتْ كانَ النبيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وتَرجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ عُمُومه لِأَن عُمُومه يدل على الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي دُخُول الْمَسْجِد، وَذكر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب التَّيَمُّن فِي الْوضُوء وَالْغسْل عَن حَفْص بن عمر، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي أَشْعَث بن سليم، قَالَ: سَمِعت أبي عَن مَسْرُوق عَن عائشه، رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ النَّبِي يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره فِي شَأْنه كُله) ، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن الْجَمَاعَة أخرجُوا هَذَا الحَدِيث، وَأَن البُخَارِيّ أخرجه أَيْضا فِي اللبَاس وَفِي الأطمعة، وتكلمنا فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة مُسْتَوفى، ولنذكر مَا يتَعَلَّق بِهِ هَهُنَا.
قَوْله: (مَا اسْتَطَاعَ) كلمة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة وَتَكون بَدَلا من التَّيَمُّن، وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: مَا دَامَ، وَبِه احْتَرز عَمَّا لَا يَسْتَطِيع فِيهِ التَّيَمُّن شرعا كدخول الْخَلَاء وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد. قَوْله: (فِي شَأْنه) يتَعَلَّق بالتيمن، وَيجوز أَن يتَعَلَّق بالمحبة أَو بهما على سَبِيل التَّنَازُع. قَوْله: (فِي طهوره) ، بِضَم الطَّاء بِمَعْنى طهره. قَوْله: (وَترَجله) أَي: تمشيطه الشّعْر، قَوْله: (وتنعله) أَي: لبسه النَّعْل. فَإِن قلت: مَا موقع: فِي طهوره، من الْإِعْرَاب؟ قلت: بدل من: شَأْنه، بدل الْبَعْض من الْكل فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك يُفِيد اسْتِحْبَاب التَّيَمُّن فِي بعض الْأُمُور، وتأكيد شَأْنه بِالْكُلِّ يُفِيد اسْتِحْبَابه فِي كلهَا قلت: هَذَا تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، وَخص هَذِه الثَّلَاثَة بِالذكر اهتماماً بهَا وبياناً لشرفها، وَلَا مَانع أَن يكون بدل الْكل من الْكل، إِذْ الطّهُور مِفْتَاح أَبْوَاب الْعِبَادَات، والترجل يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ، والتنعل بِالرجلِ، وأحوال الْإِنْسَان إِمَّا أَن تتَعَلَّق بِجِهَة الفوق أَو بِجِهَة التحت أَو بالأطراف، فجَاء لكل مِنْهَا بمثال. قلت: كَيفَ قَالَت عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا (كَانَ النَّبِي يحب التَّيَمُّن) ، والمحبة أَمر باطني، فَمن أَيْن علمت ذَلِك؟ قلت: عملت حبه بِهَذِهِ الْأَشْيَاء إِمَّا بالقرائن أَو بإخباره، صلى اتعالى وَسلم، لَهَا بذلك.
84 - (بابٌ هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِليَّةِ وَيُتَّخَذُ مَكانُهَا مَسَاجِدَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ نبش قُبُور الْمُشْركُونَ الَّذين هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، يَعْنِي: يجوز ذَلِك لما صرح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب فَإِن قلت: كَيفَ يُفَسر كَذَلِك وَفِيه كلمة: هَل، للاستفهام؟ قلت: هَل هُنَا للاستفهام التقريري، وَلَيْسَ بإستفهام حَقِيقِيّ صرح بذلك جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَقَوله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَيَأْتِي: هَل، أَيْضا بِمَعْنى: قد كَذَا فسر الْآيَة جمَاعَة، مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَالْكسَائِيّ وَالْفراء والمبرد، وَذكر فى (المقتضب) هَل للاستفهام نَحْو: هَل جَاءَ زيد؟ وَتَكون بِمَنْزِلَة: قد، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {هَل اتى على الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَقد بَالغ الزَّمَخْشَرِيّ فَزعم أَنَّهَا أبدا بِمَعْنى: قد وَإِنَّمَا الِاسْتِفْهَام مُسْتَفَاد من همزَة مقدرَة مَعهَا، وَنَقله فِي (الْمفصل) عَن سِيبَوَيْهٍ، وَقَالَ فِي (الْكَشَّاف) : {هَل أَتَى} (الْإِنْسَان: 1) أَي: قد أَتَى، على معنى التَّقْرِير والتقريب فِيهِ جَمِيعًا، وَمن عكس الزَّمَخْشَرِيّ هَهُنَا فقد عكس نَفسه:(4/171)
(إِذا قَالَت حذام فصدقوها ... فَإِن القَوْل مَا قَالَت حذام)
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا أحسن من الَّذِي يُقَال: إِن ذكر كلمة: هَل، هَهُنَا لَيْسَ لَهُ مَحل، لِأَن عَادَته إِنَّمَا يذكر: هَل، إِذا كَانَ حكم الْبَاب فِيهِ خلاف، وَلَيْسَ هَهُنَا خلاف، وَلم أَرَ شارحاً هُنَا شفى العليل وَلَا أروى الغليل، وَقد فسر بَعضهم بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ بقوله: أَي: دون غَيرهَا من قُبُور الْأَنْبِيَاء وأتباعهم، قلت: هَذَا تَفْسِير عَجِيب مُسْتَفَاد من سوء التَّصَرُّف، لِأَن مَعْنَاهُ ظَاهر، وَهُوَ جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم فيستفاد مِنْهُ عدم جَوَاز نبش قُبُور غَيرهم سَوَاء كَانَت قُبُور الْأَنْبِيَاء أَو قُبُور غَيرهم من الْمُسلمين لما فِيهِ من الإهانة لَهُم، فَلَا يجوز ذَلِك، لِأَن حُرْمَة الْمُسلم لَا تَزُول حَيا وَمَيتًا، فَإِن كَانَ هَذَا الْقَائِل اعْتمد فِي هَذَا التَّفْسِير على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر النبش وَهُوَ ظَاهر، وانما فِيهِ أَنهم إِذا مَاتَ فيهم رجل صَالح يبنون على قَبره مَسْجِدا ويصورون فِيهِ تصاوير، وَلَا يلْزم من ذَلِك النبش، لِأَن بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر من غير نبش مُتَصَوّر. قَوْله: (ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) عطف على قَوْله: (تنبش) و: (مَكَانهَا) مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. و: (مَسَاجِد) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَهَذَا الْوَجْه إِذا جعل الإتخاذ مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد، وَأما إِذا جعل مُتَعَدِّيا إِلَى مفعولين على مَا هُوَ الأَصْل، لِأَنَّهُ من أَفعَال التصيير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ اإبراهيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) فَيكون أحد المفعولين: مَكَانهَا، فحينئذٍ يرفع على أَنه مفعول بِهِ قَامَ مقَام الْفَاعِل، بِخِلَاف الْوَجْه الأول فَإِنَّهُ فِيهِ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، كَمَا ذكرنَا، وَالْمَفْعُول الثَّانِي هُوَ: مَسَاجِد بِالنّصب. فَإِنَّهُم. فَإِن الْكرْمَانِي ذكر فِيهِ مَا لَا يَخْلُو عَن نظر وَتَأمل.
لَقْولِ النبيِّ: (لَعَنَ االيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أْنبِيَائِهمْ مَسَاجِدَ)
هَذَا تَعْلِيل قَوْله: (ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) ، خَاصَّة لِأَن التَّرْجَمَة شَيْئَانِ وَالتَّعْلِيل للشق الثَّانِي.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الْيَهُود لما خصوا باللعنة باتخاذهم قُبُور الْأَنْبِيَاء مَسَاجِد علم جَوَاز اتِّخَاذ قُبُور غَيرهم وَمن هم فِي حكمهم من الْمُسلمين. فَإِن قلت: أَلَيْسَ فِي اتِّخَاذ قُبُور الْمُشْركين مَسَاجِد تَعْظِيم لَهُم؟ قلت: لَا يسْتَلْزم ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذا نبشت قُبُورهم ورميت عظامهم تصير الأَرْض طَاهِرَة، مِنْهُم، وَالْأَرْض كلهَا مَسْجِد، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي آخر كتاب الْجَنَائِز فِي بَاب مَا جَاءَ فِي قبر النَّبِي، حدّثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حدّثنا أَبُو عوَانَة عَن هِلَال عَن عُرْوَة: (عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله فِي مَرضه الَّذِي لم يقم مِنْهُ: لعن االيهود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد) ، الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي مَوَاضِع أخر فِي الْجَنَائِز، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد.
ومَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي القُبُورِ
هَذَا عطف على قَوْله: (هَل تنبش) ، لَا يُقَال: إِن هَذِه جملَة خبرية وَقَوله: هَل تنبش، طلبية، فَكيف يَصح عطفها عَلَيْهَا؟ لأَنا نقُول: قد ذكرنَا أَن: هَل اسْتِفْهَام تقريري، وَهُوَ فِي حكم الْجُمْلَة الخبرية الثبوتية مثلهَا، وَقَوله هَذَا يتَنَاوَل مَا إِذا صلى على الْقَبْر أَو إِلَيْهِ أَو بَينهمَا، وَفِيه حَدِيث أبي مرْثَد، واسْمه كناز بن الْحصين. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: بِلَفْظ: (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا) ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) .
وَرَأى عُمَرُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْر فَقَالَ القَبْرَ القَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعادَةِ.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ وَكِيع بن الْجراح فِي مُصَنفه فِيمَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن سُفْيَان بن سعيد عَن حميد (عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أُصَلِّي إِلَى قبر، فنهاني، فَقَالَ: الْقَبْر أمامك) . قَالَ: وَعَن معمر عَن ثَابت (عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر أُصَلِّي عِنْد قبر فَقَالَ لي: الْقَبْر، لَا تصلي إِلَيْهِ. قَالَ ثَابت: فَكَانَ أنس يَأْخُذ بيَدي إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي فيتنحى عَن الْقُبُور) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ عَن حُرَيْث بن السَّائِب، قَالَ: سَمِعت الْحسن يَقُول: (بَينا أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يُصَلِّي إِلَى قبر فناداه عمر: الْقَبْر الْقَبْر، وَظن أَنه يَعْنِي الْقَمَر، فَلَمَّا رأى أَنه يَعْنِي الْقَبْر تقدم وَصلى وَجَاز الْقَبْر) . قَوْله: (الْقَبْر الْقَبْر) ، مَنْصُوب على التحذير، يجب حذف عَامله وَهُوَ: إتق، أَو اجْتنب. وَفِي بعض الرِّوَايَة بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. أَي: أَتُصَلِّي عِنْد الْقَبْر؟ قَوْله: (وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ)(4/172)
أَي: لم يَأْمر عمر أنسا بِإِعَادَة صلَاته تِلْكَ، فَدلَّ على أَنه يجوز وَلَكِن يكره.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز الصَّلَاة على الْمقْبرَة، فَذهب أَحْمد إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَلم يفرق بَين المنبوشة وَغَيرهَا، وَلَا بَين أَن يفرش عَلَيْهَا شَيْء يَقِيه من النَّجَاسَة أم لَا، وَلَا بَين أَن تكون بَين الْقُبُور أَو فِي مَكَان مُنْفَرد عَنْهَا، كالبيت والعلو، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يصلى فِي حمام وَلَا مَقْبرَة على ظَاهر الحَدِيث، يَعْنِي قَوْله: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام) . وَذهب الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَفرق الشَّافِعِي بَين الْمقْبرَة المنبوشة، وَغَيرهَا فَقَالَ: إِذا كَانَت مختلطة التُّرَاب بلحوم الْمَوْتَى وصديدهم وَمَا يخرج مِنْهَا لم يجز الصَّلَاة فِيهَا للنَّجَاسَة، فَإِن صلى رجل فِي مَكَان طَاهِر مِنْهَا أَجْزَأته صلَاته. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار، وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ: مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.
قلت: قَوْله: لَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، معَارض بِمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِي (معالم السّنَن) عَن عبد اللَّه بن عمر أَنه رخص فِي الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَحكي أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه صلى فِي الْمقْبرَة. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : حكى أَصْحَابنَا اخْتِلَافا فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، فَقيل: الْمَعْنى فِيهِ مَا تَحت مُصَلَّاهُ من النَّجَاسَة، وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو فرش فِي المجزرة والمزبلة شَيْئا وَصلى عَلَيْهِ صحت صلَاته، وَبقيت الْكَرَاهِيَة لكَونه مُصَليا على نَجَاسَة وَإِن كَانَ بَينهمَا حَائِل، وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: إِنَّه لَا كَرَاهَة مَعَ الْفرش على النَّجَاسَة مُطلقًا. وَحكى ابْن الرّفْعَة فِي (الْكِفَايَة) : أَن الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي: أَن الْكَرَاهَة لحُرْمَة الْمَوْتَى، وعَلى كل تَقْدِير من هذَيْن الْمَعْنيين، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْكَرَاهَة بِمَا إِذا حَاذَى الْمَيِّت، أما إِذا وقف بَين الْقُبُور بِحَيْثُ لَا يكون تَحْتَهُ ميت وَلَا نَجَاسَة فَلَا كَرَاهَة، إِلَّا أَن ابْن الرّفْعَة بعد أَن حكى الْمَعْنيين السَّابِقين قَالَ: لَا فرق فِي الْكَرَاهَة بَين أَن يُصَلِّي على الْقَبْر أَو بجانبه. أَو إِلَيْهِ، قَالَ: وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه: تكره الصَّلَاة بِجَانِب النَّجَاسَة وَخَلفهَا.
72488 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ للنَّبيِّ فَقَالَ إنَّ أُولَئِكِ إذَا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً وَصَوَّرُوا فيهِ تَلْكَ الصُّوَرَ فأُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ ايَوْمَ القِيَامَةِ. (الحَدِيث 724 أَطْرَافه فِي: 434، 1431، 8783) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لعن االيهود) ، من حَيْثُ إِنَّه يُوَافقهُ، وَذَلِكَ أَنه لعن الْيَهُود لكَوْنهم اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وَفِي هَذَا الحَدِيث ذمّ النَّصَارَى بِشَيْء أعظم من اللَّعْن فِي كَونهم كَانُوا إِذا مَاتَ الرجل الصَّالح فيهم بنوا على قَبره مَسْجِدا وصوروا فِيهِ تصاوير.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة بعد الثَّاء الْمُثَلَّثَة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: أَخْبَرتنِي عَائِشَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأَيْضًا أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أم حَبِيبَة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا: رَملَة، بِفَتْح الرَّاء على الْأَصَح بنت أبي سُفْيَان صَخْر الأموية، هَاجَرت مَعَ زَوجهَا عبد اللَّه بن جحش، بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة إِلَى الْحَبَشَة، فَتوفي هُنَاكَ فَتَزَوجهَا رَسُول الله وَهِي هُنَاكَ سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّجَاشِيّ أمهرها من عِنْده عَن رَسُول ا، وبعثها إِلَيْهِ، وَكَانَت من السابقات إِلَى الْإِسْلَام، توفيت سنة أَربع وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ على الْأَصَح. قَوْله: (وَأم سَلمَة) ، فتح اللَّام،(4/173)
أم الْمُؤمنِينَ أَيْضا، وَاسْمهَا: هِنْد، على الْأَصَح، بنت أبي أُميَّة المخزومية، هَاجر بهَا زَوجهَا أَبُو سَلمَة إِلَى الْحَبَشَة، فَلَمَّا رجعا إِلَى الْمَدِينَة مَاتَ زَوجهَا فَتَزَوجهَا رَسُول ا، تقدّمت فِي بَاب العظة بِاللَّيْلِ. قَوْله: (ذكرتا) ، بِلَفْظ التَّثْنِيَة للمؤنث من الْمَاضِي، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَهُوَ على الْأَصَح فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (ذكرا) ، بالتذكير وَهُوَ على خلاف الأَصْل، وَالْأَظْهَر أَنه من النساخ أَو من بعض الروَاة غير المميزين. قَوْله: (كَنِيسَة) بِفَتْح الْكَاف، وَهِي معبد النَّصَارَى. وَفِي مَوضِع آخر: يُقَال لَهَا مَارِيَة، والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة، وبتشديدها: القطاة الملساء. قَوْله: (رأينها) ، بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث من الْمَاضِي، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار من كَانَ مَعَ أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي: (رأتاها) ، على الأَصْل بضمير التَّثْنِيَة. قَوْله: (فِيهَا تصاوير) جملَة إسمية فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة كَنِيسَة، والتصاوير: التماثيل. قَوْله: (إِن أُولَئِكَ) ، بِكَسْر الْكَاف وَيجوز فتحهَا. قَوْله: (فَمَاتَ) ، عطف على قَوْله: (كَانَ) . قَوْله: (بنوا) جَوَاب: إِذا. قَوْله: (تيك الصُّور) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بدل اللَّام فِي: تِلْكَ، وَهِي لُغَة فِيهِ، وَهِي فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره: (تِلْكَ) .
قَوْله: (فَأُولَئِك) ، ويروى: (وَأُولَئِكَ) ، بِالْوَاو، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: أُولَئِكَ، الْمَاضِيَة. قَوْله: (شرار الْخلق) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة جمع: الشَّرّ، كالخيار جمع الْخَيْر، والبحار جمع الْبَحْر، وَأما الأشرار فَقَالَ يُونُس: وَاحِدهَا شَرّ أَيْضا. وَقَالَ الْأَخْفَش: شرير، مثل: يَتِيم وأيتام. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا صور أوائلهم الصُّور ليأتنسوا بِرُؤْيَة تِلْكَ الصُّور ويتذكروا أفعالهم الصَّالِحَة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون اعند قُبُورهم، ثمَّ خلف من بعدهمْ خلوف جهلوا مُرَادهم، ووسوس لَهُم الشَّيْطَان أَن أسلافكم كَانُوا يعْبدُونَ هَذِه الصُّور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النَّبِي عَن مثل ذَلِك سداً للذريعة المؤدية إِلَى ذَلِك، وسداً للذرائع فِي قَبره، وَكَانَ ذَلِك فِي مرض مَوته إِشَارَة إِلَى أَنه من الْأَمر الْمُحكم الَّذِي لَا ينْسَخ بعده، وَلما احْتَاجَت الصَّحَابَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، والتابعون إِلَى زِيَادَة مَسْجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بنوا على الْقَبْر حيطاناً مُرْتَفعَة مستديرة حوله لِئَلَّا تصل إِلَيْهِ الْعَوام فَيُؤَدِّي إِلَى ذَلِك الْمَحْذُور، ثمَّ بنوا جدارين بَين ركني الْقَبْر الشمالي حرفوها حَتَّى التقيا حَتَّى لَا يُمكن أحد أَن يسْتَقْبل الْقَبْر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: نهي عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَعَن فعل التصاوير، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ لاتخاذهم الْقُبُور والصور آلِهَة. وَفِيه: دَلِيل على تَحْرِيم تَصْوِير الْحَيَوَان خُصُوصا الْآدَمِيّ الصَّالح. وَفِيه: منع بِنَاء الْمَسَاجِد على الْقُبُور وَمُقْتَضَاهُ التَّحْرِيم، كَيفَ وَقد ثَبت اللَّعْن عَلَيْهِ؟ وَأما الشَّافِعِي وَأَصْحَابه فصرحوا بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ: وَالْمرَاد أَن يسوى الْقَبْر مَسْجِدا فيصلى فَوْقه، وَقَالَ: إِنَّه يكره أَن يبْنى عِنْده مَسْجِد فيصلى فِيهِ إِلَى الْقَبْر، وَأما الْمقْبرَة الداثرة إِذا بني فِيهَا مَسْجِد ليصلى فِيهِ فَلم أر فِيهِ بَأْسا، لِأَن الْمَقَابِر وقف، وَكَذَا الْمَسْجِد، فمعناها وَاحِد. وَقد ذكرنَا عَن قريب مَذَاهِب الْعلمَاء فِي الصَّلَاة على الْقَبْر. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: لما كَانَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لقبور الْأَنْبِيَاء تَعْظِيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبْلَة يتوجهون فِي الصَّلَاة نَحْوهَا، واتخذوها أوثاناً لعنهم النَّبِي وَمنع الْمُسلمين عَن مثل ذَلِك، فَأَما من اتخذ مَسْجِدا فِي جوَار صَالح وَقصد التَّبَرُّك بِالْقربِ مِنْهُ لَا للتعظيم لَهُ وَلَا للتوجه إِلَيْهِ فَلَا يدْخل فِي الْوَعيد الْمَذْكُور. وَفِيه: جَوَاز حِكَايَة مَا يُشَاهِدهُ الْمَرْء من الْعَجَائِب، وَوُجُوب بَيَان حكم ذَلِك على الْعَالم بِهِ. وَفِيه: ذمّ فَاعل الْمُحرمَات. وَفِيه: أَن الِاعْتِبَار فِي الْأَحْكَام بِالشَّرْعِ لَا بِالْعقلِ.
82498 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ قَالَ قَدِمَ النبيُّ المَدِينَةَ فَنَزَلَ أعْلَى المَدِينَةِ فِي حَيَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَأَقامَ النبيُّ فِيهِمْ أرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أرْسَلَ إِلَى بَنِي النجَّارِ فَجَاؤُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَيّ النبيِّ عَلى رَاحِلَتِهِ وأبُو بَكْر رِدْفُهُ وَمَلأَ بَني النجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى ألْقَى بِفِنَاءِ أبِي أيُّوبَ وَكَانَ يُحبُّ أَن يُصَلِّى حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنمِ وَأنَّهُ(4/174)
أمَرَ بِبِنَاءِ المسْجِدِ فَأرْسَلَ إلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقال يَا بَني النجَّارِ ثامِنونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلاَّ إلَى افقال أنَسٌ فكانَ فِيهِ مَا أقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْركِينَ وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النبيُّ بِقُبُورِ المْشرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالخِرِبِ فَسُوِّيَتْ وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وَجَعَلوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ وَجعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ والنبيُّ مَعَهْمُ وَهْوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لاَ خَيْر إلاَّ خَيْرُ الآخِرَه فَاغْفِرْ لِلاَّنْصَارِ والمهَاجِرَهْ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّيْمِيّ. الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد الضبغي، وَالْكل تقدمُوا. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف اسناده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة فِي موضِعين من الْوَصَايَا، وَفِي هِجْرَة النَّبِي عَن مُسَدّد، وَفِي الْحَج عَن أبي معمر عبد اللَّه بن عَمْرو، وَفِي الْبيُوع عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْوَصَايَا عَن إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد بن عبد الوراث، وَفِي الْهِجْرَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن الصَّمد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وشبيان بن فروخ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمان ابْن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد بن وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدم النَّبِي الْمَدِينَة) : قَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بورود النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول. وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع من تيرماه، وَمن شهور الرّوم الْعَاشِرَة من أيلول سنة سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لذِي القرنين، وَقَالَ الْخَوَارِزْمِيّ: من حِين ولد إِلَى حِين أسرِي بِهِ: أحد وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَمِنْه إِلَى الْيَوْم الَّذِي هَاجر: سنة وشهران وَيَوْم، فَذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس. وَفِي (وطبقات ابْن سعد) : أَن رَسُول الله خرج من الْغَار لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال خلون من شهر ربيع الأول، وَيُقَال: لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول، فَنزل على كُلْثُوم بن هدم، وَهُوَ الْمُثبت عندنَا، وَذكر البرقي أَنه قدم الْمَدِينَة لَيْلًا، وَعَن جَابر: لما قدم الْمَدِينَة نحر جزوراً. قَوْله: (فَنزل أَعلَى المدنية) ويروى: فِي الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَنزل فِي علو الْمَدِينَة) بِالضَّمِّ وَهِي الْعَالِيَة.
قَوْله: (فِي حَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء وَهِي: الْقَبِيلَة، وَجَمعهَا أَحيَاء. قَوْله: (بَنو عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح الْعين فيهمَا، (فَأَقَامَ فيهم أَربع عشرَة لَيْلَة) ، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن شَيْخه مُسَدّد، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (أَرْبعا وَعشْرين لَيْلَة) ، وَعَن الزُّهْرِيّ: أَقَامَ فيهم (بضع عشرَة لَيْلَة) . وَعَن عُوَيْمِر بن سَاعِدَة: (لبث فيهم ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة ثمَّ خرج) قَوْله: (ثمَّ أرسل إِلَى بني النجار) ، وَبَنُو النجار هم بَنو تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الجموح، والنجار قبيل كَبِير من الْأَنْصَار، مِنْهُ بطُون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هُوَ النجار، سمي بذلك لِأَنَّهُ اختتن بقدوم، وَقيل: بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه، ذكره الْكَلْبِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا طلب بني النجار لأَنهم كَانُوا أَخْوَاله، لِأَن هاشماً جده تزوج سلمى بنت عَمْرو بن زيد من بني عدي بن النجار بِالْمَدِينَةِ فَولدت لَهُ عبد الْمطلب. قَوْله: (فجاؤا متقلدي السيوف) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِإِضَافَة: متقلدين إِلَى السيوف وَسُقُوط النُّون للإضافة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين (متقلدين السيوف) ، بِنصب السيوف وَثُبُوت النُّون لعدم الْإِضَافَة، وعَلى كل حَال هُوَ مَنْصُوب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: جاؤوا، والتقلد جعل نجاد السَّيْف على الْمنْكب. قَوْله: (على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَكَانَت(4/175)
رَاحِلَته نَاقَة تسمى الْقَصْوَاء.
قَوْله: (وَأَبُو بكر ردفه) ، جملَة اسمية فِي مَوضِع النصب على الْحَال، والردف بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الدَّال: المرتدف، وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب. وأردفته أَنا إِذا أركبته مَعَك، وَذَاكَ الْموضع الَّذِي يركبه: رداف، وكل شَيْء تبع شَيْئا فَهُوَ: ردفه. وَكَانَ لأبي بكر نَاقَة، فَلَعَلَّهُ تَركهَا فِي بني عَمْرو بن عَوْف لمَرض أَو غَيره، وَيجوز أَن يكون ردهَا إِلَى مَكَّة ليحمل عَلَيْهَا أَهله، وَثمّ وَجه آخر حسن وَهُوَ: أَن نَاقَته كَانَت مَعَه، وَلكنه مَا ركبهَا لشرف الارتداف خَلفه، لِأَنَّهُ تَابعه والخليفة بعده. قَوْله: (وملأ بني النجار حوله) جملَة إسمية حَالية أَيْضا و: الْمَلأ، أَشْرَاف الْقَوْم ورؤساؤهم، سموا بذلك لأَنهم ملاء بِالرَّأْيِ والغنى، وَالْمَلَأ: الْجَمَاعَة، وَالْجمع أملاء. وَقَالَ ابْن سَيّده: وَلَيْسَ الْمَلأ من بَاب: رَهْط، وَإِن كَانَ إسمين، لِأَن رهطاً لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَالْمَلَأ: رجل مالىء جليل مَلأ الْعين بجهرته، فَهُوَ كالعرب وَالزَّوْج، حكى ملأته على الْأَمر أملؤه وملأته كَذَلِك، أَي: شاورته، و: مَا كَانَ الْأَمر عَن مَلأ منا أَي: عَن تشَاور وَإِجْمَاع. قَوْله: (ألْقى) أَي: حَتَّى ألْقى رَحْله وَالْمَفْعُول مَحْذُوف، يُقَال: ألقيت الشَّيْء إِذا طرحته. وَقَوله: (بِفنَاء أبي أَيُّوب) أَي: بِفنَاء دَار أبي أَيُّوب، الفناء، بِكَسْر الْفَاء: سَعَة أَمَام الدَّار وَالْجمع أفنية، وَفِي (الْمُجْمل) : فنَاء الدَّار مَا امْتَدَّ من جوانبها. وَفِي (الْمُحكم) : وتبدل الْبَاء من الْفَاء. وَاسم أبي أَيُّوب: خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي (شرف الْمُصْطَفى) : لما نزلت النَّاقة عِنْد دَار أبي أَيُّوب جعل جَبَّار ابْن صَخْر ينخسها بِرجلِهِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: يَا جَبَّار، أعن منزلي تنخسها؟ أما وَالَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ لَوْلَا الْإِسْلَام لضربتك بِالسَّيْفِ قلت: جَبَّار بن صَخْر بن أُميَّة بن خنساء السّلمِيّ، وَيُقَال: جَابر بن صَخْر الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وَهُوَ صَحَابِيّ كَبِير، روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي سعد الخطمي سمع جَبَّار بن عبد اللَّه قَالَ: (صليت خلف رَسُول الله أَنا وَجَابِر بن صَخْر فأقامنا خَلفه) . وَالصَّحِيح: أَن اسْمه: جَبَّار بن صَخْر. وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي كتاب (الْمُبْتَدَأ وقصص الْأَنْبِيَاء) ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تأليفه: أَن تبعا وَهُوَ ابْن حسان لما قدم مَكَّة قبل مولد رَسُول ا، بِأَلف عَام، وَخرج مِنْهَا إِلَى يثرب وَكَانَ مَعَه أَربع مائَة رجل من الْحُكَمَاء، فَاجْتمعُوا وتعاقدوا على أَن لَا يخرجُوا مِنْهَا، وسألهم تبع عَن سر ذَلِك فَقَالُوا: إِنَّا نجد فِي كتبنَا أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد هَذِه دَار مهاجره، فَنحْن نُقِيم لَعَلَّ أَن نَلْقَاهُ، فَأَرَادَ تبع الْإِقَامَة مَعَهم، ثمَّ بني لكل وَاحِد من أُولَئِكَ دَار، وَاشْترى لَهُ جَارِيَة وَزوجهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَالا جزيلاً، وكتاباً فِيهِ إِسْلَامه وَقَوله:
شهِدت على أَحْمد أَنه رَسُول من ابارىء النسم فِي أَبْيَات، وختمه بِالذَّهَب وَدفعه إِلَى كَبِيرهمْ، وَسَأَلَهُ أَن يَدْفَعهُ إِلَى مُحَمَّد إِن أدْركهُ وإلاَّ من أدْركهُ من وَلَده، وَبني للنَّبِي دَارا ينزلها إِذا قدم الْمَدِينَة، فتداول الدَّار الْملاك إِلَى أَن صَارَت لأبي أَيُّوب، رَضِي اتعالى عَنهُ وَهُوَ من ولد ذَلِك الْعَالم الَّذِي دفع إِلَيْهِ الْكتاب، قَالَ: وَأهل الْمَدِينَة من ولد أُولَئِكَ الْعلمَاء الْأَرْبَع مائَة، وَيَزْعُم بَعضهم أَنهم كَانُوا الْأَوْس والخررج، وَلما خرج رَسُول اصلى تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أرْسلُوا إِلَيْهِ كتاب تبع مَعَ رجل يُسمى أَبَا ليلى، فَلَمَّا رَآهُ قَالَت: أَنْت أَبُو ليلى ومعك كتاب تبع الأول، فَبَقيَ أَبُو ليلى متفكراً وَلم يعرف النَّبِي، فَقَالَ: من أَنْت فَإِنِّي لم أر فِي وَجهك أثر السحر، وتوهم أَنه سَاحر، فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد، هَات الْكتاب. فَلَمَّا قَرَأَهُ، قَالَ: مرْحَبًا بتبع الْأَخ الصَّالح، ثَلَاث مَرَّات، وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: اسْمه تبان أسعد أَبُو كرب، وَهُوَ الَّذِي كسى الْبَيْت الْحَرَام، وَفِي (مغايص الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (لَا تسبوا تبعا) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي اتعالى عَنهُ، إِنَّه قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده.
وَتبع، بِضَم التار الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: لقب لكل من ملك الْيمن، ككسرى لقب لكل من ملك الْفرس، وَقَيْصَر لكل من ملك الرّوم، وَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا سمي لِكَثْرَة أَتْبَاعه، وَكَانَ يعبد النَّار، فسألم قَالَ: وَهَذَا تبع الْأَوْسَط، قَالَ: وَأقَام ملكا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: ثَمَانِينَ سنة. وَقَالَ ابْن سِيرِين: هُوَ أول من كسى الْبَيْت وَملك الدُّنْيَا والأقاليم بأسرها، وَحكى الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: كَانَ إِذا عرض الْخَيل قَامُوا صفا من دمشق إِلَى صنعاء، وَهَذَا بعيد إِن أَرَادَ بِهِ صنعاء الْيمن، لِأَن بَينهَا وَبَين دمشق أَكثر من شَهْرَيْن، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بهَا صنعاء دمشق، وَهِي قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة(4/176)
بَاب الفرديس، واتصلت حيطانها بِالْعقبَةِ، وَهِي محلّة عَظِيمَة بِظَاهِر دمشق، وَذكر ابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه: أَن تبعا هَذَا لما قدم مَكَّة وكسى الْكَعْبَة وَخرج إِلَى يثرب كَانَ فِي مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا من الفرسان، وَمِائَة ألف وَثَلَاثَة عشر ألفا من الرجالة. وَذكر أَيْضا: أَن تبعا لما خرج من يثرب مَاتَ فِي بِلَاد الْهِنْد، وَذكر السُّهيْلي: أَن دَار أبي أَيُّوب هَذِه صَارَت بعده إِلَى أَفْلح مولى أبي أَيُّوب فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، بعد مَا خرب، الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بِأَلف دِينَار بعد حِيلَة احتالها عَلَيْهِ الْمُغيرَة، فأصلحه الْمُغيرَة وَتصدق بِهِ على أهل بَيت فُقَرَاء بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: (وَيُصلي فِي مرابض الْغنم) ، المرابض جمع: مربض، وَهُوَ: مأوى الْغنم. قَوْله: (إِنَّه أَمر) بِكَسْر الْهمزَة فِي: إِن، لِأَنَّهُ كَلَام مُسْتَقْبل بِذَاتِهِ، أَي: إِن النَّبِي أَمر بِبِنَاء الْمَسْجِد، ويروى: أَمر، على بِنَاء الْمَفْعُول، فعلى هَذَا يكون الضَّمِير فِي: أَنه، للشأن، وَالْمَسْجِد: هُوَ بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسْجد فِيهِ. وَفِي (الصِّحَاح) : الْمَسْجِد، بِفَتْح الْجِيم: مَوضِع السُّجُود، وبكسرها: الْبَيْت الَّذِي يصلى فِيهِ. وَمن الْعَرَب من يفتح فِي كلا الْوَجْهَيْنِ، وَعَن الْفراء: سمعنَا الْمَسْجِد وَالْمَسْجِد، وَالْفَتْح جَائِز وَإِن لم نَسْمَعهُ. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: كل مَوضِع يتعبد فِيهِ مَسْجِد. قَوْله: (ثامنوني) بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي بيعونيه بِالثّمن، وَقَالَ بَعضهم: أَي اذْكروا لي ثمنة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم وبايعوني فِيهِ. قلت: كل ذَلِك لَيْسَ تَفْسِيرا لموضوع هَذِه الْمَادَّة، وَإِن كَانَ يدل على الْمَقْصُود، وَالتَّفْسِير هُوَ الَّذِي ذكرته فِي (شرح سنَن أبي دَاوُد) وَهُوَ: أَن هَذِه اللَّفْظَة من: ثامنت الرجل، فِي البيع أثامنه، إِذا قاولته فِي ثمنه، وساومته على بَيْعه وشرائه. قَوْله: (بحائطكم) ، الْحَائِط هَهُنَا الْبُسْتَان يدل عَلَيْهِ قَوْله: (وَفِيه نخل) ، وبالنخل فَقطع، وَفِي لفظ: كَانَ مربداً، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يَجْعَل فِيهِ التَّمْر لينشف. قَوْله: (لَا نطلب ثمنه إلاَّ إِلَى اعز وَجل) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا حَاصله: لَا نطلب ثمن المصروف فِي سَبِيل ا، وَأطلق الثّمن على سَبِيل المشاكلة. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: ر
الطّلب يسْتَعْمل: بِمن، فَالْقِيَاس أَن يُقَال: إلاَّ من اقلت: مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن من أحد، لكنه مَصْرُوف إِلَى اتعالى، قلت: وَهَذَا كُله تعسف مَعَ تَطْوِيل، بل مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن إلاَّ من اتعالى، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا نطلب ثمنه إلاَّ من ا. وَقد جَاءَ: إِلَى، فِي كَلَام الْعَرَب للابتداء، كَقَوْلِه:
فَلَا يرْوى إِلَى ابْن أَحْمد. أَي: منى، وَيجوز أَن تكون: إِلَى هَهُنَا، على مَعْنَاهَا لانْتِهَاء الْغَايَة، وَيكون التَّقْدِير: ننهي طلب الثّمن إِلَى ا، كَمَا فِي قَوْلهم: أَحْمد إِلَيْك ا، وَالْمعْنَى: أنهِي حَمده إِلَيْك، وَالْمعْنَى لَا نطلب مِنْك الثّمن بل نتبرع بِهِ، ونطلب الثّمن أَي: الْأجر من اتعالى، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي (الصَّحِيحَيْنِ) . وَذكر مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) : على الْوَاقِدِيّ أَن النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، اشْتَرَاهُ مِنْهُم بِعشْرَة دَنَانِير، دَفعهَا أَبُو بكر الصّديق. وَيُقَال: كَانَ ذَلِك مربد اليتيمين، فدعاهما النّبي صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، فساومهما ليتخذه مَسْجِدا، فَقَالَا: بل نهبه لَك يَا رَسُول ا، فَأبى رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى ابتاعه مِنْهُمَا بِعشْرَة دَنَانِير، وَأمر أَبَا بكر أَن يعطيهما ذَلِك. وَفِي (الْمَغَازِي) لأبي معشر: فَاشْتَرَاهُ أَبُو أَيُّوب مِنْهُمَا وَأَعْطَاهُ الثّمن، فبناه مَسْجِدا. واليتيمان هما: سهل وَسُهيْل، ابْنا رَافع بن عَمْرو بن أبي عَمْرو، من بني النجار، كَانَا فِي حجر أسعد بن زُرَارَة، وَقيل: معَاذ بن عفراء، وَقَالَ معَاذ: يَا رَسُول اأنا أرضيهما، فاتخذه مَسْجِدا. وَيُقَال أَن بني النجار جعلُوا حائطهم وَقفا وَأَجَازَهُ النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَاسْتدلَّ ابْن بطال بِهَذَا على صِحَة وقف الْمشَاع. وَقَالَ: وقف الْمشَاع جَائِز عِنْد مَالك، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، خلافًا لمُحَمد بن الْحسن، وَالصَّحِيح أَن بني النجار لم يوقفوا شَيْئا، بل باعوه وَوَقفه النَّبِي، فَلَيْسَ وقف مشَاع.
قَوْله: (قُبُور الْمُشْركين) بِالرَّفْع بدل أَو بَيَان لقَوْله: (مَا أَقُول) . قَوْله: (وَفِيه خرب) قَالَ أَبُو الْفرج: الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة: (خرب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء، جمع خربه. كَمَا يُقَال: كلمة وكلم، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: حدّثناه الخراب، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء وَهُوَ: جمع الخراب، وَهُوَ مَا يخرب من الْبناء فِي لُغَة بني تَمِيم، وهما لُغَتَانِ صحيحتان رويتا، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَعَلَّ صَوَابه: خرب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع: خربة، وَهِي الخروق فِي الأَرْض إلاَّ أَنهم يَقُولُونَهَا فِي ثقبة مستديرة فِي أَرض أَو جِدَار، قَالَ: وَلَعَلَّ الرِّوَايَة جرف جمع الجرفة، ويه جمع الجرف، كَمَا يُقَال: خرج وخرجة، وترس وترسة، وابين من ذَلِك إِن ساعدته الرِّوَايَة أَن يكون حدباً جمع حدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله: فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب أَو مَوضِع من الأَرْض فِيهِ(4/177)
خروق وهدوم، فَأَما الخرب فَإِنَّهَا تعمر وَلَا تسوى، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا التَّكَلُّف لَا حَاجَة إِلَيْهِ فَإِن الَّذِي ثَبت فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعْنى، كَمَا أَمر يقطع النّخل لتسوية الأَرْض، أَمر بالخرب فَرفعت رسومها وسويت موَاضعهَا لتصير جَمِيع الأَرْض مبسوطة مستوية للمصلين، وَكَذَلِكَ فعل بالقبور. وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة، بِسَنَد صَحِيح: وَأمر بالحرث فحرث، وَهُوَ الَّذِي زعم ابْن الْأَثِير أَنه رُوِيَ بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، يُرِيد الْموضع المحروث للزِّرَاعَة. قلت: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَكِن قيل: إِنَّه وهم. قَوْله: (وبالنخل) أَي: أَمر بِالنَّخْلِ فَقطع. قَوْله: (فصفوا النّخل) من صففت الشَّيْء صفا، وَفِي (مغازي ابْن بكير) عَن ابْن إِسْحَاق: جعلت قبْلَة الْمَسْجِد من اللَّبن، وَيُقَال: بل من حِجَارَة منضودة بَعْضهَا على بعض، وَسَيَأْتِي فِي (الصَّحِيح) : أَن الْمَسْجِد كَانَ على عَهده مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَلَعَلَّ المُرَاد بالقبلة جِهَتهَا، لَا الْقبْلَة الْمَعْهُودَة الْيَوْم، فَإِن ذَلِك لم يكن ذَلِك الْوَقْت، وَورد أَيْضا أَنه كَانَ فِي مَوضِع الْمَسْجِد الْغَرْقَد فَأمر أَن يقطع، وَكَانَ فِي المربد قُبُور جَاهِلِيَّة فَأمر بهَا رَسُول الله فنبشت، وَأمر بالعظام أَن تغيب، وَكَانَ فِي المربد مَاء مستنجل فستره حَتَّى ذهب. قَوْله: نز قَلِيل الجري، من النجل وَهُوَ: المَاء الْقَلِيل، وَجعلُوا طوله مِمَّا يَلِي الْقبْلَة إِلَى مؤخره مائَة ذِرَاع، وَفِي هذَيْن الْجَانِبَيْنِ مثل ذَلِك فَهُوَ مربع،، وَيُقَال: كَانَ أقل من الْمِائَة، وَجعلُوا الأساس قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع على الأَرْض بِالْحِجَارَةِ ثمَّ بنوه بِاللَّبنِ، وَجعل النَّبِي ينْقل مَعَهم اللَّبن وَالْحِجَارَة بِنَفسِهِ وَيَقُول:
(هَذَا الْجمال لَا جمال خَيْبَر ... هَذَا أبر رَبنَا وأطهر)
وَجعل قبلته إِلَى الْقُدس، وَجعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب بَابا فِي مؤخره، وباباً يُقَال لَهُ: بَاب الرَّحْمَة، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يدعى بَاب العاتكة، وَالثَّالِث: الَّذِي يدْخل مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يَلِي آل عُثْمَان، وَجعل طول الْجِدَار قامة وبسطة، وعمده الْجُذُوع، وسقفه جريداً فَقيل لَهُ: أَلا تسقفه؟ فَقَالَ: عَرِيش كعريش مُوسَى خشيبات، وَتَمام الْأَمر أعجل من ذَلِك، وَسَيَأْتِي فِي الْكتاب عَن قريب: عَن ابْن عمر: أَن الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَزَاد فِيهِ عمر، وبناه على بنائِهِ فِي عهد النَّبِي بِاللَّبنِ والجريد وَأعَاد عمده خشباً ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة، وَبنى جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده حِجَارَة منقوشة، وسقفه بالساج. وَفِي (الإكليل) ثمَّ بناه الْوَلِيد بن عبد الْملك فِي إمرة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَفِي (الرَّوْض) : ثمَّ بناه الْمهْدي، ثمَّ زَاد فِيهِ الْمَأْمُون، ثمَّ لم يبلغنَا تغيره إِلَى الْآن. قَوْله: (عضادتيه) تَثْنِيَة: عضادة، بِكَسْر الْعين. قَالَ ابْن التياني فِي (الموعب) : قَالَ أَبُو عمر: وَهِي جَانب الْحَوْض، وَعَن صَاحب (الْعين) : أعضاد كل شَيْء مَا يشده من حواليه من الْبناء وَغَيره، مِثَال عضاد الْحَوْض، وَهِي صَفَائِح من حِجَارَة ينصبن على شفيره، وعضادتا الْبَاب مَا كَانَ عَلَيْهِمَا يطبق الْبَاب إِذا أصفق. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: عضادتا الْبَاب الخشبتان المنصوبتان عَن يَمِين الدَّاخِل مِنْهُ وشماله، وَزَاد الْقَزاز: فَوْقهمَا الْعَارِضَة. قَوْله: (يرتجزون) أَي: يتعاطون الرجز، من: الرجز، وَهُوَ ضرب من الشّعْر، وَقد رجز الراجز وأرجزه، وَقد اخْتلف العروضيون وَأهل الْأَدَب فِي الرجز هَل هُوَ شعر أم لَا، مَعَ اتِّفَاق أَكْثَرهم على أَن الرجز لَا يكون شعرًا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ من النَّبِي من ذَلِك: لِأَن الشّعْر حرَام عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ القرطبى: الصَّحِيح فِي الرجز أَنه من الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرجه من الشّعْر من أشكل عَلَيْهِ إنشاد النَّبِي إِيَّاه، فَقَالَ: لَو كَانَ شعرًا لما علمه. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن من أنْشد الْقَلِيل من الشّعْر أَو قَالَه أَو تمثل بِهِ على وَجه الندور لم يسْتَحق اسْم شَاعِر، وَلَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه يعلم الشّعْر، وَلَا ينْسب إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يُطلق على الرجز شعرًا، إِنَّمَا هُوَ كَلَام مرجز مسجع بِدَلِيل أَنه يُقَال لصانعه: راجز، وَلَا يُقَال: شَاعِر. وَيُقَال: أنْشد رجزاً وَلَا يُقَال أنْشد شعرًا. وَقيل: أَن مَا قَالَه الشَّاعِر لَيْسَ برجز وَلَا مَوْزُون، وَقد اخْتلف هَل يحل لَهُ الشّعْر؟ فعلى القَوْل بِنَفْي الْجَوَاز هَل يحْكى بَيْتا وَاحِدًا؟ فَقيل: لَا يتمه إلاَّ متغيراً وَأبْعد من قَالَ: الْبَيْت الْوَاحِد لَيْسَ بِشعر، وَلما ذكر قَول طرفه.
(ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا.)
قَالَ: قَالَ:
(ويأتيك من لم تزَود بالأخبار)
. فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الم يقل هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ:
(ويأتيك بالأخبار من لم تزَود.)
فَقَالَ: كِلَاهُمَا سَوَاء، فَقَالَ: أشهد أَنَّك لست بشاعر، وَلَا تُحسنهُ. وَلما أنْشد، على مَا ذكرنَا، خرج أَن يكون شعرًا، وَقد قيل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر} (يس: 96) أَي: صَنعته، وَهِي الْآلَة الَّتِي لَهُ، فَأَما أَن يحفظ مَا قَالَ النَّاس فَلَيْسَ بممتنع عَلَيْهِ. قَوْله:(4/178)
(وَالنَّبِيّ مَعَهم) ، جملَة حَالية، أَي: وَالنَّبِيّ يرتجز مَعَهم، وَكَذَا قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) حَال قَوْله: (اللَّهُمَّ) مَعْنَاهُ: يَا ا، وَقَالَ البصريون: اللَّهُمَّ، دُعَاء بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ إِذْ: الْمِيم، تشعر بِالْجمعِ كَمَا فِي: عَلَيْهِم، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصله اأمنا بِخَير، أَي: اقصدنا، فَخفف فَصَارَ: اللَّهُمَّ قَوْله: (لَا خير إلاَّ خير الْآخِرَة) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد.
(اللَّهُمَّ إِن الْخَيْر خير الْآخِرَة) . قَوْله: (فَاغْفِر للْأَنْصَار) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فَاغْفِر الْأَنْصَار) ، بِحَذْف: اللَّام، وَوَجهه أَن يضمن: أَغفر، معنى: اسْتُرْ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ وَشَيْخه أَيْضا، بِلَفْظ: (فانصر الْأَنْصَار) ، وَالْأَنْصَار جمع نصير، كأشراف جمع شرِيف، والنصير النَّاصِر من نَصره اعلى عدوه ينصره نصرا، والأسم: النُّصْرَة، وَسموا بذلك لأَنهم أعانوه على أعدائه وشدوا مِنْهُ، (والمهاجرة) الْجَمَاعَة المهاجرة، وهم الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة محبَّة فِيهِ وطلباً للآخرة،، وَالْهجْرَة فِي الأَصْل من الهجر ضد الْوَصْل، وَقد هجره هجراً وهجراناً، ثمَّ غلب على الْخُرُوج من أَرض إِلَى أَرض، وَترك الأولى للثَّانِيَة. يُقَال مِنْهُ هَاجر مهاجرة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَنه لَو قرىء هَذَا الْبَيْت بِوَزْن الشّعْر يَنْبَغِي أَن يُوقف على: الْآخِرَة، والمهاجرة، إلاَّ أَنه قيل: إِنَّه قرأهما بِالتَّاءِ متحركة خُرُوجًا عَن وزن الشّعْر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: فِيهِ: جَوَاز الإرداف. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم. وَفِيه: جَوَاز التَّصَرُّف فِي الْمقْبرَة الْمَمْلُوكَة بِالْهبةِ وَالْبيع. وَفِيه: جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم. فَإِن قلت: كَيفَ يجوز إخراجهم من قُبُورهم والقبر مُخْتَصّ بِمن دفن فِيهِ فقد جازه فَلَا يجوز بَيْعه وَلَا نَقله عَنهُ؟ قلت: تِلْكَ الْقُبُور الَّتِي أَمر النَّبِي بنبشها لم تكن أملاكاً لمن دفن فِيهَا، بل لَعَلَّهَا غصبت، فَلذَلِك بَاعهَا ملاكها وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم أَنَّهَا حبست فَلَيْسَ بِلَازِم، إِنَّمَا اللَّازِم تحبيس الْمُسلمين لَا الْكفَّار، وَلِهَذَا قَالَت الْفُقَهَاء: إِذا دفن الْمُسلم فِي أَرض مَغْصُوبَة يجوز إِخْرَاجه فضلا عَن الْمُشرك، وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ دعت الضَّرُورَة وَالْحَاجة إِلَى نبشهم فَجَاز، فَإِن قلت: هَل يجوز فِي هَذَا الزَّمَان نبش قُبُور الْكفَّار ليتَّخذ مَكَانهَا مَسَاجِد؟ قلت: أجَاز ذَلِك قوم محتجين بِهَذَا الحَدِيث، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي قَالَ: هَذَا قبر أبي رِغَال، وَهُوَ: أَبُو ثَقِيف، وَكَانَ من ثَمُود وَكَانَ بِالْحرم يدْفع عَنهُ، فَلَمَّا خرج أَصَابَته النقمَة فَدفن بِهَذَا الْمَكَان، وَآيَة ذَلِك أَنه دفن مَعَه غُصْن من ذهب فابتدر النَّاس فنبشوه وَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن، قَالُوا: فَإِذا جَازَ نبشها لطلب المَال فنبشها للِانْتِفَاع بمواضعها أولى، وَلَيْسَت حرمتهم موتى بأعظم مِنْهَا وهم أَحيَاء، بل هُوَ مأجور فِي ذَلِك، وَإِلَى جَوَاز نبش قُبُورهم لِلْمَالِ ذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَشْهَب بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يفعل، لِأَن رَسُول الله لما مر بِالْحجرِ قَالَ: (لَا تدْخلُوا بيُوت الَّذين ظلمُوا إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) . فَنهى أَن يدْخل عَلَيْهِم بُيُوتهم، فَكيف قُبُورهم؟ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قد أَبَاحَ دُخُولهَا على وَجه الْبكاء.
فَإِن قلت: هَل يجوز أَن تبنى على قُبُور الْمُسلمين؟ قلت: قَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو أَن مَقْبرَة من مَقَابِر الْمُسلمين عفت فَبنى قوم عَلَيْهَا مَسْجِدا لم أر بذلك بَأْسا، وَذَلِكَ لِأَن الْمَقَابِر وقف من أوقاف الْمُسلمين لدفن موتاهم لَا يجوز لأحد أَن يملكهَا، فَإِذا درست وَاسْتغْنى عَن الدّفن فِيهَا جَازَ صرفهَا إِلَى الْمَسْجِد، لِأَن الْمَسْجِد أَيْضا وقف من أوقاف الْمُسلمين لَا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هَذَا وَاحِد. وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْمَسْجِد إِذا خرب ودثر وَلم يبْق حوله جمَاعَة، والمقبرة إِذا عفت ودثرت تعود ملكا لأربابها، فَإِذا عَادَتْ ملكا يجوز أَن يبْنى مَوضِع الْمَسْجِد دَارا وَمَوْضِع الْمقْبرَة مَسْجِدا وَغير ذَلِك، فَإِذا لم يكن لَهَا أَرْبَاب تكون لبيت المَال.
وَفِيه: أَن الْقَبْر إِذا لم يبْق فِيهِ بَقِيَّة من الْمَيِّت وَمن ترابه الْمُخْتَلط بالصديد جَازَت الصَّلَاة فِيهِ. وَفِيه: جَوَاز قطع الْأَشْجَار المثمرة للضَّرُورَة والمصلحة إِمَّا لاستعمال خشبها أَو ليغرس موضعهَا غَيرهَا أَو لخوف سُقُوطهَا على شَيْء تتلفه أَو لاتخاذ موضعهَا مَسْجِدا، وَكَذَا قطعهَا فِي بِلَاد الْكفَّار إِذا لم يرج فتحهَا لِأَن فِيهِ نكاية وغيظاً لَهُم وإرغاماً. وَفِيه: جَوَاز الارتجاز وَقَول الْأَشْعَار وَنَحْوهَا لتنشيط النُّفُوس وتسهيل الْأَعْمَال وَالْمَشْي عَلَيْهَا.
94 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم، وَقد ذكرنَا أَن المرابض جمع: مربض، بِكَسْر الْبَاء، لِأَنَّهُ من ربض يربض، مثل:(4/179)
ضرب يضْرب، يُقَال: ربض فِي الأَرْض إِذا لصق بهَا، وَأقَام ملازماً لَهَا، وَاسم الْمَكَان: مربض، وَهُوَ مأوى الْغنم، وربوض الْغنم مثل بروك الْإِبِل. وَفِي (الصِّحَاح) : ربوض الْغنم وَالْبَقر وَالْفرس وَالْكَلب مثل بروك الْإِبِل، وجثوم الطير. وَضبط بَعضهم المربض، بِكَسْر الْمِيم: وَهُوَ غلط.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بِعَيْنِه طرف من الحَدِيث فِي الْبَاب السَّابِق لَكِن الْمَذْكُور هُنَاكَ أَنه كَانَ يحب الصَّلَاة حَيْثُ أَدْرَكته إِذا دخل وَقتهَا، سَوَاء كَانَ فِي مرابض الْغنم أَو غَيرهَا، وَالْمَذْكُور هَهُنَا: كَانَ يُصَلِّي فِي مرابض الْغنم قبل أَن يَبْنِي الْمَسْجِد.
924 - حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا شعْبَةُ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ النبيّ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يقُولُ كانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ قَبْلَ أنَّ يُبْنَى المَسْجِدُ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو التياح مضى ذكره فِي الْبَاب السَّابِق. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب أَبْوَال الْإِبِل فِي كل الْوُجُوه.
قَوْله: (ثمَّ سمعته بعد يَقُول) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ شُعْبَة، يَعْنِي: يَقُول ثمَّ سَمِعت أَبَا التياح يَقُول، بِقَيْد بعد أَن قَالَ مُطلقًا، قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون الْقَائِل هُوَ أَبَا التياح سمع من أنس أَولا بِإِطْلَاق، ثمَّ سمع بِقَيْد يَعْنِي: أَبُو التياح يَقُول ثمَّ سَمِعت أنسا بعد ذَلِك القَوْل يَقُول: كَانَ يُصَلِّي إِلَى آخِره، أَشَارَ بذلك إِلَى أَن قَوْله أَولا مُطلق وَقَوله ثَانِيًا مُقَيّد، فَالْحكم أَنَّهُمَا إِذا وردا سَوَاء يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد عملا بالدليلين، وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم.
05 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة فِي مَوضِع الْإِبِل، وَفِي بعض النّسخ: فِي مَوَاضِع الْإِبِل، بِالْجمعِ ثمَّ إِن البُخَارِيّ إِن إراد من مَوَاضِع الْإِبِل معاطنها فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة عِنْد قوم، خلافًا لآخرين، وَإِن أَرَادَ بهَا أَعم من ذَلِك فَالصَّلَاة فِيهَا غير مَكْرُوهَة بِلَا خلاف، وعَلى كل تَقْدِير لم يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا يدل على أحد الْفَصْلَيْنِ، وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَهُوَ لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَعَن هَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَنه صلى فِي مَوضِع الْإِبِل، وَإِنَّمَا صلى إِلَى الْبَعِير لَا فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ إِذا أُنِيخ الْبَعِير فِي مَوضِع صَار ذَلِك عطناً أَو مأوىً للابل. انْتهى. قلت: لِأَن العطن اسْم لمبرك الْإِبِل عِنْد المَاء ليشْرب عللاً بعد نهل، فَإِذا استوفت ردَّتْ إِلَى المراعي، وَأجَاب بَعضهم عَن كَلَام الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله: إِن مُرَاده الْإِشَارَة إِلَى مَا ذكر من عِلّة النَّهْي عَن ذَلِك وَهِي كَونهَا من الشَّيَاطِين، كَأَنَّهُ يَقُول: لَو كَانَ ذَلِك مَانِعا من صِحَة الصَّلَاة لامتنع مثله فِي جعلهَا أَمَام الْمُصَلِّي، وَكَذَلِكَ صَلَاة راكبها، وَقد ثَبت أَنه، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَة وَهُوَ على بعيره.
قلت: سُبْحَانَ اما أبعد هَذَا الْجَواب عَن موقع الْخطاب، فَإِنَّهُ مَتى ذكر عِلّة النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل حَتَّى يُشِير إِلَيْهِ، وَلم يذكر شَيْئا فِي كِتَابه من أَحَادِيث النَّهْي فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا ذكره غَيره، فَمُسلم ذكر حَدِيث جَابر بن سَمُرَة من رِوَايَة جَعْفَر بن أبي ثَوْر عَنهُ: (أَن رجلا سَأَلَ رَسُول ا: أأتوضأ من لُحُوم الْغنم؟ قَالَ: إِن شِئْت فَلَا تتوضأ. قَالَ: أتوضأ من لُحُوم الْإِبِل؟ قَالَ: فَتَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل. قَالَ: أُصَلِّي فِي مرابض الْغنم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أُصَلِّي فِي مبارك الْإِبِل؟ قَالَ: لَا.) وَأَبُو دَاوُد ذكر حَدِيث الْبَراء من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. وَفِيه: (سُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل فَقَالَ: لَا تصلوا فِي مبارك الْإِبِل، فَإِنَّهَا من الشَّيَاطِين) . وَالتِّرْمِذِيّ ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة من حَدِيث ابْن سِيرِين عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا،: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل) . وَابْن مَاجَه ذكر حَدِيث سُبْرَة بن معبد من رِوَايَة عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة ابْن معبد الْجُهَنِيّ أَخْبرنِي عَن أَبِيه أَن رَسُول الله قَالَ: (لَا تصلي فِي أعطان الْإِبِل وَتصلي فِي مراح الْغنم) . وَذكر ابْن مَاجَه أَيْضا حَدِيث عبد اللَّه بن مُغفل من رِوَايَة الْحسن عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلف من الشَّيَاطِين) . وَذكر أَيْضا حَدِيث ابْن عمر من حَدِيث محَارب بن دثار، يَقُول: سَمِعت(4/180)
عبد اللَّه بن عمر يَقُول: سَمِعت رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (توضأوا من لُحُوم الْإِبِل) . الحَدِيث. وَفِيه: (وَلَا تصلوا فِي معاطن الْإِبِل) . وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) حَدِيث أسيد بن حضير. قَالَ: قَالَ رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم: (توضأوا من لُحُوم الْإِبِل وَلَا تصلوا فِي مناخها) . وَأخرج أَيْضا فِي (الْكَبِير) حَدِيث سليك الْغَطَفَانِي عَن النَّبِي يعلى فِي (مُسْنده) حَدِيث طَلْحَة بن عبيد اللَّه، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله يتَوَضَّأ من ألبان الْإِبِل ولحومها وَلَا يُصَلِّي فِي أعطانها) . وَذكر أَحْمد فِي (مُسْنده) حَدِيث عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي: (كَانَ يُصَلِّي فِي مرابض الْغنم وَلَا يُصَلِّي فِي مرابد الْإِبِل وَالْبَقر) وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) أَيْضا وَلَفظه: (لَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل وصلوا فِي مراح الْغنم) . وَذكر الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، من حَدِيث عقبَة بن عَامر فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) عَن النَّبِي قَالَ: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل أَو فِي مبارك الْإِبِل) . وَذكر أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا حَدِيث يعِيش الْجُهَنِيّ الْمَعْرُوف بِذِي الْغرَّة من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَنهُ، قَالَ: (عرض أَعْرَابِي لرَسُول ا) . الحَدِيث، وَفِيه: (تدركنا الصَّلَاة وَنحن فِي أعطان الْإِبِل فنصلي فِيهَا؟ فَقَالَ رَسُول ا: لَا) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا. .
فَهَذَا كَمَا رَأَيْت وَقع فِي مَوضِع: مبارك الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: أعطان الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: مناخ الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: مرابد الْإِبِل. وَوَقع عِنْد الطَّحَاوِيّ فِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: (أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول اأصلي فِي مباءة الْغنم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أُصَلِّي فِي مباءة الْإِبِل؟ قَالَ: لَا، والمباءة الْمنزل الَّذِي تأوي إِلَيْهِ الْإِبِل) . والأعطان جمع عطن وَقد فسرناه، وَالْمبَارك جمع مبرك وَهُوَ مَوضِع بروك الْجمل فِي أَي مَوضِع كَانَ، والمناخ، بِضَم الْمِيم وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة: الْمَكَان الَّذِي تناخ فِيهِ الْإِبِل، والمرابد هِيَ، بِالدَّال الْمُهْملَة: الْأَمَاكِن الَّتِي تحبس فِيهَا الْإِبِل وَغَيرهَا من الْبَقر وَالْغنم. وَقَالَ ابْن حزم: كل عطن فَهُوَ مبرك، وَلَيْسَ كل مبرك عطناً، لِأَن العطن هُوَ الْموضع الَّذِي تناخ فِيهِ عِنْد وُرُودهَا المَاء فَقَط، والمبرك أَعم، لِأَنَّهُ الْموضع الْمُتَّخذ لَهُ فِي كل حَال، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تكره الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل ومواضعها، سَوَاء كَانَت عطناً أَو منَاخًا أَو مباءةً أَو مرابد أَو غير ذَلِك. فَدلَّ هَذَا كُله أَن عِلّة النَّهْي فِيهِ كَونهَا خلقت من الشَّيَاطِين وَلَا سِيمَا فَإِنَّهُ علل ذَلِك بقوله: (فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) ، وَقد مر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَإِنَّهَا من الشَّيَاطِين) ، وَفِي راوية ابْن مَاجَه: (فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) ، فَهَذَا يدل على أَن الْإِبِل خلقت من الْجِنّ، لِأَن الشَّيَاطِين من الْجِنّ على الصَّحِيح من الْأَقْوَال، وَعَن هَذَا قَالَ يحيى بن آدم: جَاءَ النَّهْي من قبل أَن الْإِبِل يخَاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذٍ أَلا ترى أَنه يَقُول: إِنَّهَا جن، وَمن جن خلقت، واستصوب هَذَا أَيْضا القَاضِي عِيَاض.
وَذكروا أَيْضا أَن عِلّة النَّهْي فِيهِ من ثَلَاثَة أوجه أُخْرَى:
أَحدهَا: من شريك بن عبد اللَّه أَنه كَانَ يَقُول: نهي عَن الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل لِأَن أَصْحَابهَا من عَادَتهم التغوط بِقرب إبلهم وَالْبَوْل، فينجسون بذلك أعطان الْإِبِل، فَنهى عَن الصَّلَاة فِيهَا لذَلِك، لَا لعِلَّة الْإِبِل، وَإِنَّمَا هُوَ لعِلَّة النَّجَاسَة الَّتِي تمنع من الصَّلَاة فِي أَي مَوضِع مَا كَانَت، بِخِلَاف مرابض الْغنم، فَإِن أَصْحَابهَا من عَادَتهم تنظيف مواضعهم وتترك الْبَوْل فِيهَا والتغوط، فأبيحت الصَّلَاة فِي مرابضها لذَلِك، وَهَذَا بعيد جدا مُخَالف لظَاهِر الحَدِيث.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن عِلّة النَّهْي هِيَ كَون أبوالها وأرواثها فِي معاطنها، وَهَذَا أَيْضا بعيد أَيْضا لِأَن مرابض الْغنم تشركها فِي ذَلِك.
وَالْوَجْه الثَّالِث: ذكره يحيى بن آدم. أَن الْعلَّة فِي اجْتِنَاب الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل: الْخَوْف من قبلهَا، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، بِخِلَاف الْغنم، لِأَنَّهُ لَا يخَاف مِنْهَا مَا يخَاف من الْإِبِل. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن كَانَت الْعلَّة هِيَ مَا قَالَ شريك فَإِن الصَّلَاة مَكْرُوهَة حَيْثُ يكون الْغَائِط وَالْبَوْل سَوَاء كَانَ عطنا أَو غَيره، وَإِن كَانَ مَا قَالَه يحيى، فَإِن الصَّلَاة مَكْرُوهَة حَيْثُ يخَاف على النُّفُوس، سَوَاء كَانَ عطناً أَو غَيره، وغمز بَعضهم فِي الطَّحَاوِيّ بقوله: قَالَ إِن النّظر يَقْتَضِي عدم التَّفْرِقَة بَين الْإِبِل وَالْغنم فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه، وَتعقب بِأَنَّهُ مُخَالف للأحاديث الصَّحِيحَة المصرحة بالتفرقة، فَهُوَ قِيَاس فَاسد الِاعْتِبَار.
قلت: هَذَا الْكَلَام فَاسد الِاعْتِبَار لِأَن الطَّحَاوِيّ مَا قَالَ قطّ: إِن النّظر يَقْتَضِي عدم التَّفْرِقَة، وَإِنَّمَا قَالَ: حكم هَذَا الْبَاب من طَرِيق النّظر أَنا رأيناهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مرابض الْغنم أَن الصَّلَاة فِيهَا جَائِزَة، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أعطان الْإِبِل، فقد رَأينَا حكم لحْمَان الْإِبِل كَحكم لحْمَان الْغنم فِي طَهَارَتهَا، ورأينا حكم أبوالها كَحكم أبوالها فِي طَهَارَتهَا أَو نجاستها، فَكَانَ يَجِيء فِي النّظر أَيْضا أَن يكون حكم الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل(4/181)
كَهُوَ فِي مَوَاضِع الْغنم قِيَاسا، ونظراً على مَا ذكرنَا، فَمن تَأمل مَا قَالَه علم أَن الْقيَاس الَّذِي ذكره لَيْسَ من جِهَة عدم التَّفْرِقَة، وَلَيْسَ هُوَ بمخالف للأحاديث الصَّحِيحَة المصرحة بالتفرقة، وَإِنَّمَا ذهب إِلَى عدم التَّفْرِقَة من حَيْثُ مُعَارضَة حَدِيث صَحِيح تِلْكَ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة. وَهُوَ قَوْله: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) ، فعمومه يدل على جَوَاز الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل وَغَيرهَا بعد أَن كَانَت طَاهِرَة، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَآخَرُونَ وكرهها الْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَة مَشْهُورَة عَنهُ أَنه إِذا صلى فِي أعطان الْإِبِل فَصلَاته فَاسِدَة، وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهَا. وَقَالَ أصبغ: يُعِيد فِي الْوَقْت وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) وَحمل الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْعلمَاء النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل على الْكَرَاهَة إِذا كَانَ بَينه وَبَين النَّجَاسَة الَّتِي فِي أعطانها حَائِل، فَإِن لم يكن بَينهمَا حَائِل لَا تصح صلَاته.
قلت: إِذا لم يكن بَين الْمُصَلِّي وَبَين النَّجَاسَة حَائِل لَا تجوز صلَاته فِي أَي مَكَان كَانَ، وَجَوَاب آخر عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة: إِن النَّهْي فِيهَا للتنزيه كَمَا أَن الْأَمر فِي مرابض الْغنم للْإِبَاحَة وَلَيْسَ للْوُجُوب اتِّفَاقًا وَلَا للنذب. فَإِن قلت: فِي حَدِيث الْبَراء عِنْد أبي دَاوُد: (وَسُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم؟ فَقَالَ: صلوا فَإِنَّهَا بركَة) . وَعند الطَّبَرِيّ فِي حَدِيث عبد اللَّه بن مُغفل: (فَإِنَّهَا بركَة من الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَإِنَّهَا أقرب من الرَّحْمَة) ، وَعند الْبَزَّار من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فَإِنَّهَا من دَوَاب الْجنَّة) . فَكل هَذَا يدل على اسْتِحْبَاب الصَّلَاة فِي مرابض لما فِيهَا من الْبركَة، وَقرب الرَّحْمَة قلت: ذكر هَذَا للترغيب فِي الْغنم لإبعادها عَن حكم الْإِبِل، إِذا وصف أَصْحَاب الْإِبِل بالغلظ وَالْقَسْوَة، وَوصف أَصْحَاب الْغنم بِالسَّكِينَةِ، وَلَا تعلق لاستحباب الصَّلَاة بمرابض الْغنم، فَإِن قلت: مرابد الْبَقر هَل تلْحق بمرابض الْغنم أم بمرابد الْإِبِل؟ قلت: ذكر أَبُو بكر بن الْمُنْذر أَنَّهَا مُلْحقَة بمرايد الْغنم، فَلَا تكره الصَّلَاة فِيهَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث عبد اللَّه بن عَمْرو من مُسْند أَحْمد إلحاقها بِالْإِبِلِ كَمَا تقدم قلت: فِي إِسْنَاده عبد اللَّه بن لَهِيعَة، وَالْكَلَام فِيهِ مَشْهُور.
91 - (حَدثنَا صَدَقَة بن الْفضل قَالَ أخبرنَا سُلَيْمَان بن حَيَّان قَالَ حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع قَالَ رَأَيْت ابْن عمر يُصَلِّي إِلَى بعيره وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَله) قد ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث يخبر أَنه يصلى إِلَى الْبَعِير لَا فِي مَوْضِعه فَلَا تطابق لَهُ للتَّرْجَمَة وَقد ذكر بَعضهم فَقَالَ كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي التَّفْرِقَة بَين الْإِبِل وَالْغنم لَيست على شَرطه لَكِن لَهَا طرق قَوِيَّة مِنْهَا حَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد مُسلم وَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَحَدِيث عبد الله بن مُغفل عِنْد النَّسَائِيّ وَحَدِيث سُبْرَة بن معبد عِنْد ابْن ماجة وفيهَا كلهَا التَّعْبِير بمعاطن الْإِبِل انْتهى (قلت) لَيْت شعري مَا وَجه هَذِه الْإِشَارَة وَبِمَا دلّ على مَا ذكر وَقَوله وفيهَا كلهَا التَّعْبِير بمعاطن الْإِبِل لَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْمَذْكُور فِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة مبارك الْإِبِل وَالْمبَارك غير المعاطن لِأَن المبرك أَعم وَقد ذَكرْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي دَاوُد لفظ الْمُبَارك. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول صَدَقَة بن الْفضل أَبُو الْفضل الْمروزِي مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقد تقدم فِي بَاب الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ. الثَّانِي سُلَيْمَان بن حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون منصرفا وَغير منصرف أَبُو خَالِد الْأَحْمَر الْأَزْدِيّ الْجَعْفَرِي الْكُوفِي الإِمَام مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب كَانَ من سَادَات أهل الْمَدِينَة فضلا وَعبادَة وَتُوفِّي سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع نَافِع مولى ابْن عمر تقدم. الْخَامِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل والرؤية فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا يَأْتِي ذكره عَن قريب وَترْجم عَلَيْهِ بَاب الصَّلَاة إِلَى الرَّاحِلَة وَالْبَعِير وَالشَّجر والرحل عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان إِلَى آخِره وَأخرجه مُسلم مُنْقَطِعًا وروى الشّطْر الأول عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر قَالَ ابْن أبي شيبَة كَانَ يُصَلِّي إِلَى رَاحِلَته وَقَالَ ابْن نمير صلى إِلَى بعير وروى الشّطْر الثَّانِي(4/182)
عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عمر بِلَفْظ كَانَ يُصَلِّي سبحته حَيْثُ مَا تَوَجَّهت نَاقَته وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة ووهب بن بَقِيَّة وَابْن أبي خلف وَعبد الله بن سعيد عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى إِلَى بعيره أَو رَاحِلَته وَكَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته حَيْثُ مَا تَوَجَّهت بِهِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيث صَحِيح وَفِي الْبَاب عَن أبي الدَّرْدَاء وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده بِلَفْظ " صلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بعير من الْمغنم " وَذكر مَالك فِي الْمُوَطَّأ أَنه بلغه أَن ابْن عمر كَانَ يسْتَتر براحلته فِي السّفر إِذا صلى وَوَصله ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يُصَلِّي إِلَى بعيره " وَفِي الْمُحكم الْبَعِير الْجمل الْبَاذِل وَقيل الْجذع وَقد يكون للْأُنْثَى حكى عَن بعض الْعَرَب شربت من لبن بَعِيري وصرعتني بعير لي وَالْجمع أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعران وبعران وَفِي الْمُخَصّص قَالَ الْفَارِسِي أباعر جمع أَبْعِرَة كأسقية وأساق وَفِي الْجَامِع الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس إِذا رَأَيْت جملا على الْبعد قلت هَذَا بعير فَإِذا استثبته قلت هَذَا جمل أَو نَاقَة قَالَ الْأَصْمَعِي إِذا وضعت النَّاقة وَلَدهَا سَاعَة تضعه سليل قبل أَن يعلم أذكر هُوَ أم أُنْثَى فَإِذا علم فَإِن كَانَ ذكرا فَهُوَ سقب وَأمه مسقب وَقد أذكرت فَهِيَ مُذَكّر وَإِن كَانَ أُنْثَى فَهِيَ حَائِل وَأمّهَا أم حَائِل فَإِذا مَشى فَهُوَ راشح وَالأُم مرشح فَإِذا ارْتَفع عَن الراشح فَهُوَ جادل فَإِذا جمل فِي سنامه شحما فَهُوَ مجذومكعر وَهُوَ فِي هَذَا كُله حوار فَإِذا اشْتَدَّ قيل ربع وَالْجمع أَربَاع وَربَاع وَالْأُنْثَى ربعَة فَلَا يزَال ربعا حَتَّى يَأْكُل الشّجر ويعين على نَفسه ثمَّ هُوَ فصيل وهبع وَالْأُنْثَى فصيلة وَالْجمع فصلان وفصلان لِأَنَّهُ فصل عَن أمه فَإِذا اسْتكْمل الْحول وَدخل فِي الثَّانِي فَهُوَ ابْن مَخَاض وَالْأُنْثَى بنت مَخَاض فَإِذا اسْتكْمل السّنة الثَّانِيَة وَدخل فِي الثَّالِثَة فَهُوَ ابْن لبون وَالْأُنْثَى بنت لبون فَإِذا اسْتكْمل الثَّالِثَة وَدخل فِي الرَّابِعَة فَهُوَ حِينَئِذٍ حق وَالْأُنْثَى حقة سمي بِهِ لِأَنَّهُ اسْتحق أَن يحمل عَلَيْهِ ويركب فَإِذا مَضَت الرَّابِعَة وَدخل فِي الْخَامِسَة فَهُوَ جذع وَالْأُنْثَى جَذَعَة فَإِذا مَضَت الْخَامِسَة وَدخل فِي السّنة السَّادِسَة وَألقى ثنيته فَهُوَ ثني وَالْأُنْثَى ثنية فَإِذا مَضَت السَّادِسَة وَدخل فِي السَّابِعَة فَهُوَ حِينَئِذٍ رباع وَالْأُنْثَى ربَاعِية فَإِذا مَضَت السَّابِعَة وَدخل فِي الثَّامِنَة وَألقى السن فَهُوَ سديس وَسدس لُغَتَانِ وَكَذَا يُقَال للْأُنْثَى فَإِذا مَضَت الثَّامِنَة وَدخل فِي التَّاسِعَة فطرنا بِهِ وطلع فَهُوَ حِينَئِذٍ فاطر وباذل وَكَذَلِكَ يُقَال للْأُنْثَى فَلَا يزَال باذلا حَتَّى تمْضِي التَّاسِعَة فَإِذا مَضَت وَدخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ حِينَئِذٍ مخلف ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم بعد الإخلاف وَلَكِن يُقَال لَهُ باذل عَام وباذل عَاميْنِ ومخلف عَام ومخلف عَاميْنِ إِلَى مَا زَاد على ذَلِك فَإِذا كبر فَهُوَ عود وَالْأُنْثَى عودة فَإِذا ارْتَفع عَن ذَلِك فَهُوَ قحر وَالْجمع أقحر وقحور قَوْله " يَفْعَله " أَي يُصَلِّي وَالْبَعِير فِي طرف قبلته (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة إِلَى الْحَيَوَان وَنقل ابْن التِّين عَن مَالك أَنه لَا يصلى إِلَى الْخَيل وَالْحمير لنجاسة أبوالها وَفِيه جَوَاز الصَّلَاة بِقرب الْبَعِير وَأَنه لَا بَأْس أَن يسْتَتر الْمُصَلِّي بالراحلة وَالْبَعِير فِي الصَّلَاة وَقد حكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم أَنهم لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن أنس أَنه صلى وَبَينه وَبَين الْقبْلَة بعير عَلَيْهِ محمله وروى أَيْضا الاستتار بالبعير عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَالْأسود بن يزِيد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالقَاسِم وَسَالم وَعَن الْحسن لَا بَأْس أَن يسْتَتر بالبعير وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي الاستذكار لَا أعلم فِيهِ أَي فِي الاستتار بالراحلة خلافًا وَقَالَ ابْن حزم من منع من الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَهُوَ مُبْطل
15 - (بابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَو نارٌ أَو شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَد فَأَرَادَ بهِ وَجْهَ الله تَعَالَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من صلى وَبَين يَدَيْهِ تنور أَو شَيْء إِلَى آخِره، يَعْنِي لَا يكره، فَإِن قلت: لَمْ يُوضح البُخَارِيّ ذَلِك بل أجمله وأبهمه يحْتَمل: لَا يكره، وَيحْتَمل: يكره، فَمن أَيْن تَرْجِيح احْتِمَال عدم الْكَرَاهَة؟ قلت: إِيرَاده بِالْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي الْبَاب يدل على احْتِمَال عدم الْكَرَاهَة، لِأَن النَّبِي لَا يُصَلِّي صَلَاة مَكْرُوهَة، وَلَكِن لَا يتم استدلاله بِهَذَا من وُجُوه:
الأول: مَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله: لَيْسَ مَا أرَاهُ اتعالى من النَّار حِين أطلعه عَلَيْهَا بِمَنْزِلَة نَار يتَوَجَّه الْمَرْء إِلَيْهَا وَهِي معبودة(4/183)
لقوم، وَلَا حكم مَا أرِي ليخبرهم كَحكم من وضع الشَّيْء بَين يَدَيْهِ أَو رَآهُ قَائِما مَوْضُوعا، فَجعله أَمَام مُصَلَّاهُ وقبلته. الْوَجْه الثَّانِي: مَا ذكره السفاقسي: لَيْسَ فِيهِ مَا بوب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يَفْعَله مُخْتَارًا، وَإِنَّمَا عرض ذَلِك لِمَعْنى أَرَادَهُ اتعالى، ورؤيته للنار رُؤْيَة عين كشف اعنها، فَأرَاهُ إِيَّاهَا، وَكَذَلِكَ الْجنَّة كَمَا كشف لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى. الْوَجْه الثَّالِث: مَا ذكره القَاضِي السرُوجِي فِي (شرح الْهِدَايَة) فَقَالَ: لَا دلَالَة فِي هَذَا الحَدِيث على عدم الْكَرَاهَة، لِأَنَّهُ، قَالَ: أُريت النَّار، وَلَا يلْزم أَن تكون أَمَامه مُتَوَجها إِلَيْهَا، بل يجوز أَن تكون عَن يَمِينه أَو عَن يسَاره أَو غير ذَلِك. الْوَجْه الرَّابِع: مَا ذكره هُوَ أَيْضا، فَقَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع لَهُ قبل شُرُوعه فِي الصَّلَاة. انْتهى. قلت: قد تصدى بَعضهم فِي نصْرَة البُخَارِيّ فَأجَاب عَن هذَيْن الْوَجْهَيْنِ بِجَوَاب تمجه الأسماع وتستمجه الطباع، وَهُوَ أَن البُخَارِيّ كوشف بِهَذَا الِاعْتِرَاض فَعجل بِالْجَوَابِ عَنهُ حَيْثُ صدر الْبَاب بالمعلق عَن أنس، فَفِيهِ: (عرضت عَليّ النَّار وَأَنا أُصَلِّي) . وَأما كَونه رَآهَا أَمَامه فسياق حَدِيث ابْن عَبَّاس يَقْتَضِيهِ، فَفِيهِ أَنهم قَالُوا لَهُ بعد أَن انْصَرف: (يَا رَسُول ارأيناك تناولت شَيْئا فِي مقامك ثمَّ رَأَيْنَاك تكعكعت) أَي: تَأَخَّرت إِلَى خلف، وَفِي جَوَابه أَن ذَلِك بِسَبَب كَونه أرى النَّار انْتهى.
فَانْظُر إِلَى هَذَا الْأَمر الْغَرِيب العجيب، شخص يكاشف اعْتِرَاض شخص يَأْتِي من بعده بِمدَّة مِقْدَار خَمْسمِائَة سنة أَو أَكثر بِقَلِيل، ويجيب عَنهُ بتصدير هَذَا الْبَاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث أنس مُعَلّقا، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا، وَمَعَ هَذَا لَا يتم الْجَواب بِمَا ذكره، وَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ للْبُخَارِيّ. بَيَان ذَلِك أَن قَوْله: (وَأَنا أُصَلِّي) ، فِي حَدِيث أنس، يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وَأَنا أُرِيد الصَّلَاة، وَلَا مَانع من هَذَا التَّقْدِير. وَأما تنَاوله الشَّيْء وتأخره إِلَى خلف فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس لَا يسْتَلْزم أَن يكون ذَلِك بِسَبَب رُؤْيَته النَّار أَمَامه، وَلَا يَسْتَحِيل أَن يكون ذَلِك بِسَبَب رُؤْيَته إِيَّاهَا عَن يَمِينه أَو عَن شِمَاله. وَقَوله وَفِي جَوَابه: إِن ذَلِك بِسَبَب كَونه أرِي النَّار، مُسلم إِن ذَلِك كَانَ بِسَبَب كَونه أرِي النَّار، وَلَكِن لَا نسلم أَنه كَانَ ذَلِك بِسَبَب كَون رُؤْيَته النَّار أَمَامه، وَلَئِن سلمنَا جَمِيع ذَلِك فَنَقُول: لنا جوابان آخرَانِ غير الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة:
أَحدهمَا: أَنه أريها فِي جَهَنَّم وَبَينه وَبَينهَا مَا لَا يُحْصى من بعد الْمسَافَة، فَعدم كَرَاهَة صلَاته لذَلِك. وَالْآخر: يجوز أَن يكون ذَلِك مِنْهُ رُؤْيَة علم ووحي باطلاعه وتعريفه فِي أمورها، تَفْصِيلًا مَا لم يعرفهُ قبل ذَلِك. وَجَوَاب آخر: ذكره ابْن التِّين، وَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ على التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ لم يفعل ذَلِك اخْتِيَارا، وَإِنَّمَا عرض عَلَيْهِ ذَلِك للمعنى الَّذِي أَرَادَهُ امن تنبيهه للعباد، وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن الِاخْتِيَار وَعَدَمه فِي ذَلِك سَوَاء مِنْهُ قلت: لَا نسلم التَّسْوِيَة، فَإِن الْكَرَاهَة تتأكد عِنْد الِاخْتِيَار، وَأما عِنْد عَدمه فَلَا كَرَاهَة لعدم الْعلَّة الْمُوجبَة للكراهة، وَهِي التَّشَبُّه بعبدة النَّار. وَقَالَ ابْن بطال: الصَّلَاة جَائِزَة إِلَى كل شَيْء إِذا لم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ وَقصد بهَا اتعالى، وَالسُّجُود لوجهه خَالِصا. وَلَا يضرّهُ اسْتِقْبَال شَيْء من المعبودات وَغَيرهَا، كَمَا لم يضر النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَآهُ فِي قبلته من النَّار.
قَوْله: (وقدامه تنور) جملَة إسمية وَقعت حَالا. فَقَوله: (تنور) مُبْتَدأ، و (قدامه) بِالنّصب على الظّرْف خَبره، و: التَّنور، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم النُّون الْمُشَدّدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حفيرة النَّار: قلت: التَّنور مَشْهُور، وَهُوَ تَارَة يحْفر فِي الأَرْض حفيرة، وَتارَة يتَّخذ من الطين ويدفن فِي الأَرْض وتوقد فِيهِ النَّار إِلَى أَن يحمى فيخبز فِيهِ، وَتارَة يطْبخ فِيهِ، فَقيل: هُوَ عَرَبِيّ، وَقيل: مُعرب توافقت عَلَيْهِ الْعَرَب والعجم. قَوْله: (أَو نَار) ، عطف على قَوْله: (تنور) . فَإِن قلت: هَذَا يُغني عَن ذكر التَّنور. قلت: هَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، وَفَائِدَته الاهتمام بِهِ لِأَن عَبدة النَّار من الْمَجُوس لَا يعْبدُونَ إلاَّ النَّار المكومة الظَّاهِرَة، وَرُبمَا لَا تظهر النَّار من التَّنور لعمقه أَو لقلَّة النَّار. قَوْله: (أَو شَيْء مِمَّا يعبد) عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير أَو: من صلى وقدامه شَيْء مِمَّا يعبد كالأوثان والأصنام والتماثيل والصور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يعبده أهل الضلال وَالْكفْر، وَهَذَا أَعم من النَّار والتنور. قَوْله: (فَأَرَادَ بِهِ وَجه ا) أَي: فَأَرَادَ الْمُصَلِّي الَّذِي قدامه شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء ذَات اتعالى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الصَّلَاة إِلَى شَيْء من الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرهَا لَا تكون مَكْرُوهَة إِذا قصد بِهِ وَجه اتعالى، وَلم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ. وَعند أَصْحَابنَا يكره ذَلِك مُطلقًا لما فِيهِ من نوع التَّشَبُّه بعبدة الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة ظَاهرا، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن ابْن سيربن أَنه كره الصَّلَاة إِلَى التَّنور، وَقَالَ: بَيت نَار.
وقالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبرنِي أَنَسٌ قَالَ قَالَ النَّبِي عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأنَا أصلِّي(4/184)
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث الْمُعَلق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، شَاهد النَّار وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَلَكِن فِيهِ مَا فِيهِ، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الَّذِي علقه مَوْصُولا فِي بَاب: وَقت الظّهْر عِنْد الزَّوَال، كَمَا ستقف عَلَيْهِ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى، وَأخرجه أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي عَن عبد اللَّه ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
134 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَم عنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى رسولُ الله ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أرَ مَنْظَراً كالْيَوْمِ قَطُّ أفْظَعَ. .
وَجه التطابق مَعَ مَا فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الَّذِي مضى فِي حَدِيث أنس. وَرِجَاله قد ذكرُوا غَيره مرّة.
وَمن لطائف إِسْنَاده: أَن فِيهِ: صِيغَة التحديث بِالْجمعِ فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْبَاقِي عنعنة، وَأَن: رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ أَن عبد اللَّه بن مسلمة سكن الْبَصْرَة. وَأَن هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مر فِي بَاب كفران العشير.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة الخسوف، وَفِي الْإِيمَان عَن عبد اللَّه بن مسلمة، وَفِي النِّكَاح عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي بَدْء الْخلق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق بن عِيسَى عَن مَالك بِهِ، وَعَن سُوَيْد بن سعيد عَن حَفْص بن ميسرَة عَن زيد بن أسلم بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (انخسفت الشَّمْس) أَي: انكسفت، روى جمَاعَة أَن الْكُسُوف يكون فِي الشَّمْس وَالْقَمَر، وروى جمَاعَة فيهمَا بِالْخَاءِ، وروى جمَاعَة فِي الشَّمْس بِالْكَاف، وَفِي الْقَمَر بِالْخَاءِ، وَالْكثير فِي اللُّغَة، وَهُوَ اخْتِيَار الْفراء أَن يكون الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر، يُقَال: كسفت الشَّمْس وكسفها اتعالى، وانكسفت. وَخسف الْقَمَر وخسفه اوانخسف، وَذكر ثَعْلَب فِي (الفصيح) أَن كسفت الشَّمْس وَخسف الْقَمَر أَجود الْكَلَام. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري خسف الْقَمَر وخسفت الشَّمْس إِذا ذهب ضوؤهما. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: خسف الْقَمَر وكسف وَاحِد: ذهب ضوؤه، وَقيل: الْكُسُوف أَن يكسف ببعضهما، والخسوف أَن يخسف بكلهما، قَالَ اتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} (الْقَصَص: 18) . وَقَالَ شمر: الْكُسُوف فِي الْوَجْه: الصُّفْرَة والتغير، وَقَالَ ابْن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الْكُسُوف تغير اللَّوْن، والخسوف انخسافهما، وَكَذَلِكَ تَقول فِي عين الْأَعْوَر إِذا انخسفت وَغَارَتْ فِي جفن الْعين وَذهب نورها وضياؤها. وَفِي (نَوَادِر اليزيدي) و (الغريبين) انكسفت الشَّمْس، وانكر ذَلِك الْفراء والجوهري. وَقَالَ الْقَزاز: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر تكسف كسوفاً فَهِيَ كاسفة، وكسفت فَهِيَ مكسوفة وَقوم يَقُولُونَ: انكسفت وَهُوَ غلط. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعَامَّة يَقُولُونَ: انكسفت وَفِي (الْمُحكم) : كسفها اوأكسفها، وَالْأولَى أَعلَى، وَالْقَمَر كَالشَّمْسِ. وَقَالَ اليزيدي: خسف الْقَمَر وَهُوَ يخسف خسوفاً فَهُوَ خسف وخسيف وخاسف، وانخسف انخسافاً قَالَ: وانخسف أَكثر فِي أَلْسِنَة النَّاس، وَفِي (شرح الفصيح) لأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْجَلِيل: كسفت الشَّمْس اسودت فِي رَأْي الْعين من ستر الْقَمَر إِيَّاهَا عَن الْأَبْصَار، وَبَعْضهمْ يَقُول: كسفت على مَا لم يسم فَاعله، وانكسفت. وَعَن أبي حَاتِم: إِذا ذهب ضوء بعض الشَّمْس بخفاء بعض جرمها فَذَلِك الْكُسُوف، وَزعم ابْن التِّين وَغَيره: أَن بعض اللغويين قَالَ: لَا يُقَال فِي الشَّمْس إلاَّ كسفت، وَفِي الْقَمَر إلاَّ خسف، وَذكر هَذَا عَن عُرْوَة بن الزبير أَيْضا، وَحكى عِيَاض عَن بعض أهل اللُّغَة عَكسه، وَهَذَا غير جيد، لقَوْله تَعَالَى: {وَخسف الْقَمَر} (الْقِيَامَة: 8) . وَعند ابْن طريف: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْوُجُوه كسوفاً، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: روى حَدِيث الْكُسُوف عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب وَسمرَة وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَعبد اللَّه ابْن عَمْرو والمغيرة وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو بكرَة وَأَبُو شُرَيْح الكعبي والنعمان بن بشير وَقبيصَة الْهِلَالِي، رَضِي اعنهم جَمِيعًا، بِالْكَاف. وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَأَسْمَاء وَعبد اللَّه بن عدي بن الْخِيَار، بِالْخَاءِ. وَرُوِيَ عَن جَابر وَابْن مَسْعُود (1) وَعَائِشَة رَضِي اعنهم باللفظين(4/185)
جَمِيعًا، كلهم حكوا عَن النَّبِي: (لَا ينكسفان) ، بِالْكَاف، فَسُمي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر كسوفاً.
قلت: أغفل حَدِيث ابْن مَسْعُود من عِنْد البُخَارِيّ: لَا ينكسفان. قَوْله: (فصلى رَسُول ا) أَي: صَلَاة الْكُسُوف. قَوْله: (أريت) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء، أَي: بصرت النَّار فِي الصَّلَاة. قَوْله: (كَالْيَوْمِ) ، الْكَاف للتشبيه بِمَعْنى: مثل، وَهُوَ صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَهُوَ مَوضِع النّظر مَنْصُوب بقوله: (لم أر) . قَوْله: (أفظع) ، بِالنّصب صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَفِيه حذف أَيْضا وَتَقْدِير الْكَلَام: فَلم أر منْظرًا أفظع مثل منظر الْيَوْم، وأفظع من الفظيع، وَهُوَ الشنيع الشَّديد، والمجاوز للمقدار، يُقَال: فظع الْأَمر بِالضَّمِّ، فظاعة فَهُوَ فظيع أَي: شَدِيد شنيع جَاوز الْمِقْدَار. وَكَذَلِكَ أفظع الْأَمر فَهُوَ مفظع، وأفظع الرجل، على مَا لم يسم فَاعله، أَي: نزل بِهِ أَمر عَظِيم. فَإِن قلت: أفظع أفعل، وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِمن، قلت: أفظع هُنَا بِمَعْنى فظيع، فَلَا يحْتَاج إِلَى: من، أَو يكون على بَابه، وَحذف مِنْهُ من، كَمَا فِي اأكبر، أَي: أكبر من كل شَيْء. قَوْله: (قطّ) هَهُنَا لاستغراق زمَان مضى فتختص بِالنَّفْيِ، واشتقاقه من: قططته أَي: قطعته، فَمَعْنَى: مَا فعلته قطّ، مَا فعلته فِيمَا انْقَطع من عمري، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء المضمومة فِي أفْصح اللُّغَات، وَقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وَقد تتبع قافه طاءه فِي الضَّم، وَقد تخفف طاؤه مَعَ ضمهَا أَو اسكانها، وبنيت لتضمنها معنى: مذ، وَإِلَى إِذْ الْمَعْنى: مذ أَن خلقت إِلَى الْآن. وَإِنَّمَا بنيت على الْحَرَكَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان، وعَلى الضمة تَشْبِيها بالغايات.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة الْكُسُوف. وَفِيه: أَن النَّار مخلوفة الْيَوْم وَكَذَا الْجنَّة، إِذْ لَا قَائِل بِالْفرقِ خلافًا لمن أنكر ذَلِك من الْمُعْتَزلَة. وَفِيه: من معجزات النَّبِي، رُؤْيَته النَّار رَأْي عين حَيْثُ كشف اتعالى عَنهُ الْحجب، فرآها مُعَاينَة كَمَا كشف اله عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَفِيه: على مَا بوب البُخَارِيّ عدم كَرَاهَة الصَّلَاة إِذا كَانَت بَين يَدي الْمُصَلِّي نَار وَلم يقْصد بِهِ إلاَّ وَجه اتعالى.
25 - (بابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَفِي بعض النّسخ: كَرَاهَة الصَّلَاة. الْكَرَاهَة والكراهية كِلَاهُمَا مصدران، تَقول: كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة وكراهية، فَهُوَ شَيْء: كريه ومكروه. وَبَين الْبَابَيْنِ تناسب من حَيْثُ الضِّدّ، والمقابر جمع مَقْبرَة، بِضَم الْبَاء، هُوَ المسموع، وَالْقِيَاس فتح الْبَاء. وَفِي (شرح الْهَادِي) : إِن مَا جَاءَ على: مفعلة بِالضَّمِّ يُرَاد بهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة لذَلِك ومتخذة لَهُ، فَإِذا قَالُوا: الْمقْبرَة بِالْفَتْح أَرَادوا مَكَان الْفِعْل، وَإِذا ضمُّوا أَرَادوا الْبقْعَة الَّتِي من شَأْنهَا أَن يقبر فِيهَا، وَكَذَلِكَ: الْمشْربَة والمشربة، والتأنيث فِي هَذِه الْأَسْمَاء لإِرَادَة الْبقْعَة، أَو للْمُبَالَغَة، ليدل على أَن لَهَا ثباتاً فِي أَنْفسهَا.
234 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابْن عُمَرَ عنِ النبيِّ قَالَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ ولاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً. (الحَدِيث 234 طرفه فِي: 7811) .
قيل: هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن لَا تَكُونُوا فِي بُيُوتكُمْ كالأموات فِي الْقُبُور حَيْثُ انْقَطَعت عَنْهُم الْأَعْمَال، وَارْتَفَعت عَنْهُم التكاليف، وَهُوَ غير متعرض لصَلَاة الْأَحْيَاء فِي ظواهر الْمَقَابِر، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تتخذوها قبوراً، وَلم يقل: مَقَابِر. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث يدل على النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْقَبْر لَا فِي الْمَقَابِر. وَقَالَ السفاقسي مَا ملخصه: إِن البُخَارِيّ تَأَول هَذَا الحَدِيث على منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، والهذا ترْجم بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر أَو جَوَازهَا لَا يفهم مِنْهُ، وَقَالَ بَعضهم فِي رد مَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: قد ورد بِلَفْظ: الْمَقَابِر، كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) . انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب، كَيفَ يُقَال: حَدِيث يرويهِ غَيره، بِأَنَّهُ مُطَابق لما ترْجم بِهِ؟ وَقَالَ بَعضهم أَيْضا، فِي رد مَا قَالَه السفاقسي: إِن أَرَادَ أَنه لَا يُؤْخَذ مِنْهُ بطرِيق الْمَنْطُوق فَسلم، وَإِن أَرَادَ نفي ذَلِك مُطلقًا فَلَا، فقد قدمنَا وَجه استنباطه. انْتهى. قلت: وَجه استنباطه أَنه قَالَ: استنبط من قَوْله فِي الحَدِيث: (وَلَا تتخذوها قبوراً) . أَن الْقُبُور لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، فَتكون الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي ذَلِك حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي اعنه، مَرْفُوعا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . انْتهى.(4/186)
قلت: دَعْوَاهُ بِأَن البُخَارِيّ استنبط كَذَا، وَأَنه أَشَارَ إِلَى حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أعجب وَأغْرب من الأول لِأَن معنى قَوْله، صلى اعليه وَآله وَسلم: (لَا تتخذوها قبوراً) ، لَا تتخذوها خَالِيَة من الصَّلَاة وتلاوة الْقُرْآن كالقبور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا وَلَا يقْرَأ الْقُرْآن، وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سابط عَن أَبِيه، يرفعهُ: (نوروا بُيُوتكُمْ بِذكر اتعالى وَأَكْثرُوا فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن، وَلَا تتخذوها قبوراً كَمَا اتخذها الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْبَيْت الَّذِي يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يَتَّسِع على أَهله وَيكثر خَيره واتحضره الْمَلَائِكَة، وتدحض عَنهُ الشَّيَاطِين، وَإِن الْبَيْت الَّذِي لَا يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يضيق على أَهله ويقل خَيره وتنفر مِنْهُ الْمَلَائِكَة وتحضر فِيهِ الشَّيَاطِين) . انْتهى. وَأَيْضًا، فَإِن معنى هَذَا على التَّشْبِيه البليغ، فحذفت مِنْهُ أَدَاة التَّشْبِيه لِأَن مَعْنَاهُ لَا تجعلوها مثل الْقُبُور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا، وَلَا دلَالَة لهَذَا أصلا على أَنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ بِنَوْع من أَنْوَاع الدلالات اللفظية.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: مُسَدّد بن مسرهد، وَيحيى الْقطَّان، وَعبيد اللَّه بن عمر الْعمريّ، وَنَافِع مولى ابْن عمر، وَعبد اللَّه بن عمر، وَالْكل ذكرُوا غَيره مرّة.
وَفِيه من لطائف الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَأخرجه: مُسلم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد فرقهما. وَابْن مَاجَه عَن زيد بن أخزم وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، قيل: أَي بعض صَلَاتكُمْ. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مفعول الْجعل، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَجعل الظُّلُمَات والنور} (الْأَنْعَام: 1) وَهُوَ إِذا كَانَ بِمَعْنى: التصيير، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} (الْأَنْعَام: 561) قلت: معنى قَوْله: (اجعلوا فِي بُيُوتكُمْ من صَلَاتكُمْ) : صلوا فِيهَا وَلَا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصَّلَاة، وَالْمرَاد صَلَاة النَّافِلَة، أَي: صلوا النَّوَافِل فِي بُيُوتكُمْ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قيل هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم. قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُور: بل هُوَ فِي النَّافِلَة لإخفائها، وَلِلْحَدِيثِ الآخر: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة) . قلت: فعلى التَّقْدِير الأول يكون: من، فِي قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، زَائِدَة، وَيكون التَّقْدِير: إجعلوا صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ، وَيكون المُرَاد مِنْهَا النَّوَافِل، وعَلى التَّقْدِير الثَّانِي تكون: من، للتَّبْعِيض مُطلقًا. وَيكون المُرَاد: من الصَّلَاة، مُطلق الصَّلَاة، وَيكون الْمَعْنى: اجعلوا بعض صَلَاتكُمْ وَهُوَ النَّفْل من الصَّلَاة الْمُطلقَة فِي بُيُوتكُمْ، وَالصَّلَاة الْمُطلقَة تَشْمَل النَّفْل وَالْفَرْض، على أَن الْأَصَح منع مَجِيء من، زَائِدَة فِي الْكَلَام الْمُثبت، وَلَا يجوز حمل الْكَلَام على الْفَرِيضَة لَا كلهَا وَلَا بَعْضهَا، لِأَن الْحَث على النَّفْل فِي الْبَيْت، وَذَلِكَ لكَونه أبعد من الرِّيَاء وأصون من المحبطات، وليتبرك بِهِ الْبَيْت وتنزل الرَّحْمَة فِيهِ وَالْمَلَائِكَة، وتنفر الشَّيَاطِين مِنْهُ على مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله: (وَلَا تتخذوها قبوراً) من التَّشْبِيه البليغ البديع بِحَذْف حرف التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة، وَهُوَ تَشْبِيه الْبَيْت الَّذِي لَا يصلى فِيهِ بالقبر الَّذِي لَا يتَمَكَّن الْمَيِّت من الْعِبَادَة فِيهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ أوطاتاً للنوم لَا تصلونَ فِيهَا، فَإِن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ: وَأما من أَوله على النَّهْي عَن دفن الْمَوْتَى فِي الْبيُوت فَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد دفن رَسُول الله فِي بَيته الَّذِي كَانَ يسكنهُ أَيَّام حَيَاته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ شَيْء فِيهِ نظر، وَدفن رَسُول الله فِيهِ لَعَلَّه من خَصَائِصه، سِيمَا وَقد رُوِيَ: (الْأَنْبِيَاء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر مَرْفُوعا: (مَا قبض نَبِي إلاَّ دفن حَيْثُ يقبض) . وَفِي إِسْنَاده: حُسَيْن بن عبد اللَّه الْهَاشِمِي، وَهُوَ ضَعِيف، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل) وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) من طَرِيق سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ: (عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي اتعالى عَنهُ أَنه: قيل لَهُ: وَأَيْنَ يدْفن رَسُول ا؟ قَالَ: فِي الْمَكَان الَّذِي قبض افيه روحه، فَإِنَّهُ لم يقبض روحه إلاَّ فِي مَكَان طيب) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح وَلكنه مَوْقُوف، وَحَدِيث ابْن مَاجَه أَكثر تَصْرِيحًا فِي الْمَقْصُود.
وَقَالَ بَعضهم: وَإِذا حمل دَفنه فِي بَيته على الِاخْتِصَاص لم يبعد نهي غَيره عَن ذَلِك، بل هُوَ مُتَّجه لِأَن اسْتِمْرَار الدّفن فِي الْبيُوت رُبمَا يصيرها مَقَابِر فَتَصِير الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة. وَلَفظ أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم أصرح من حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) ، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي النَّهْي عَن الدّفن فِي الْبيُوت مُطلقًا. قلت: لَا نسلم هَذَا الِاقْتِضَاء من ظَاهر اللَّفْظ، بل الْمَعْنى الَّذِي يدل عَلَيْهِ ظَاهر اللَّفْظ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ(4/187)
خَالِيَة عَن الصَّلَاة كالمقابر، فَإِنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا احتجت بِهِ طَائِفَة على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن الصَّلَاة لَا تجوز فِي الْمَقَابِر. قلت: الحَدِيث لَا يدل على هَذَا، بل تَرْجَمَة الْبَاب تساعده على ذَلِك، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ. وَقد وَردت أَحَادِيث عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة تدل على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، بل استدلت بهَا جمَاعَة على عدم الْجَوَاز كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى، وَهِي مَا رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي وَعبد اللَّه بن عَمْرو وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة وَأنس وَأبي أُمَامَة وَأبي ذَر، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حدّثنا ابْن أبي عمر أَبُو عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث، قَالَ: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِدا إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ، وَذكر من ذَكَرْنَاهُمْ إِلَى آخِره، وللعلماء قَولَانِ فِي معنى حَدِيث الْبَاب: أَحدهمَا: أَنه ورد فِي صَلَاة النَّافِلَة لِأَنَّهُ قد سنّ الصَّلَوَات فِي جمَاعَة كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الشَّرْع. وَالثَّانِي: أَنه ورد فِي صَلَاة الْفَرِيضَة ليقتدي بِهِ من لَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد، وَقد ذَكرْنَاهُ مفصلا عَن قريب، من صلى فِي بَيته جمَاعَة فقد أصَاب سنة الْجَمَاعَة وفضلها. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا صلى الرجل مَعَ الرجل فهما جمَاعَة، وَلَهُمَا التَّضْعِيف خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، وَرُوِيَ أَن إِسْحَاق وَأحمد وَعلي بن الْمدنِي اجْتَمعُوا فِي دَار أَحْمد فَسَمِعُوا النداء، فَقَالَ أحدهم أخرج بِنَا إِلَى الْمَسْجِد، فَقَالَ أَحْمد: خروجنا إِنَّمَا هُوَ للْجَمَاعَة وَنحن جمَاعَة، فأقاموا الصَّلَاة وصلوا فِي الْبَيْت: وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم كَانُوا لَا يتطوعون فِي الْمَسْجِد، مِنْهُم حُذَيْفَة والسائب بن يزِيد وَالربيع بن خثيم وسُويد بن غلفة، وَمن هَذَا أَخذ علماءونا أَن الْأَفْضَل فِي غير الْفَرَائِض الْمنزل، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ يرفعهُ: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبوراً) ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم عَن ولد ذِي الجناحين حَدثنِي عَليّ بن عمر عَن أَبِيه جَعْفَر الطيار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده يرفعهُ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا بُيُوتكُمْ قبوراً) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا أَبُو بكرَة قَالَ: حدّثنا أَبُو الْمطرف بن أبي الْوَزير قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن مُوسَى عَن سعيد بن إِسْحَاق عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الْمغرب فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فَلَمَّا فرغ رأى النَّاس يسبحون، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هَذِه الصَّلَاة فِي الْبيُوت) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن بَحر بن نصر بِإِسْنَادِهِ عَن عبد اللَّه بن سعد، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي عَن الصَّلَاة فِي بَيْتِي وَالصَّلَاة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: قد ترى مَا أقرب بَيْتِي من الْمَسْجِد، فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: بَاب الْقيام فِي شهر رَمَضَان هَل هُوَ فِي الْمنَازل أفضل أم مَعَ الإِمَام؟ ثمَّ روى حَدِيث أبي ذَر، رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: (صمت مَعَ النَّبِي)
الحَدِيث وَفِيه: (إِن الْقَوْم إِذا صلوا مَعَ الإِمَام حَتَّى ينْصَرف كتب لَهُم قيام تِلْكَ اللَّيْلَة) . ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الْقيام فِي شهر رَمَضَان مَعَ الإِمَام أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا ذكرنَا، وَأَرَادَ بهؤلاء: اللَّيْث بن سعد وَعبد اللَّه بن الْمُبَارك وَإِسْحَاق وَأحمد فَإِنَّهُم قَالُوا: الْقيام مَعَ الإِمَام فِي شهر رَمَضَان أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: الْقيام فِي الْمَسْجِد مَعَ الإِمَام أحب إِلَيّ وَأفضل من صَلَاة المرأ فِي بَيته. وَقَالَ بِهِ قوم من الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَأَصْحَاب الشَّافِعِي، فَمن أَصْحَاب أبي حنيفَة: عِيسَى بن أبان وبكار بن قُتَيْبَة وَأحمد بن أبي عمرَان. وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِسْمَاعِيل بن يحيى الْمُزنِيّ وَمُحَمّد بن عبد اللَّه بن الحكم. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ جَابر وَعلي وَعبد اللَّه يصلونها فِي جمَاعَة.
قلت: ويحكى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَطَاوُس، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) يسْتَحبّ أَن يجْتَمع النَّاس فِي شهر رَمَضَان بعد الْعشَاء فَيصَلي بهم إمَامهمْ خمس ترويحات، ثمَّ قَالَ: وَالسّنة فِيهَا الْجَمَاعَة على وَجه الْكِفَايَة، حَتَّى لَو امْتنع أهل مَسْجِد عَن إِقَامَتهَا كَانُوا مسيئين، وَلَو أَقَامَهَا الْبَعْض فالمتخلف عَن الْجَمَاعَة تَارِك للفضيلة، لِأَن أَفْرَاد الصَّحَابَة يرْوى عَنْهُم التَّخَلُّف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام، وَأَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَرَبِيعَة وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالْأسود وعلقمة، فَإِنَّهُم قَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام. وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من الْقيام مَعَ النَّاس أَو الِانْفِرَاد فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد فِي بَيته أفضل، وَقَالَ مَالك: وَكَانَ ربيعَة وَغير وَاحِد من عُلَمَائِنَا يَنْصَرِفُونَ(4/188)
وَلَا يقومُونَ مَعَ النَّاس. وَقَالَ مَالك: وَأَنا أفعل ذَلِك، وَمَا قَامَ رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ فِي بَيته. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وَإِبْرَاهِيم وَنَافِع أَنهم كَانُوا يَنْصَرِفُونَ وَلَا يقومُونَ مَعَ النَّاس. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَاخْتَارَ الشَّافِعِي أَن يُصَلِّي الرجل وَحده إِذا كَانَ قَارِئًا، ثمَّ احْتج الطَّحَاوِيّ بهؤلاء بِمَا رَوَاهُ زيد بن ثَابت عَن النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (خير صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة) ، ثمَّ روى عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا يُصَلِّي خلف الإِمَام فِي شهر رَمَضَان، وَرُوِيَ أَيْضا إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَذهب إِلَيْهِ الطَّحَاوِيّ أَيْضا حَتَّى قَالَ فِي آخر الْبَاب: وَذَلِكَ هُوَ الصَّوَاب.
35 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الخَسْفِ وَالعَذَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْأَمْكِنَة الَّتِي خسفت أَو نزل عَلَيْهَا الْعَذَاب، وَأبْهم حكمه حَيْثُ لم يبين: هَل هِيَ مَكْرُوهَة أَو غير جَائِزَة؟ وَلَكِن تَقْدِيره: يكره لدلَالَة أثر عَليّ، على ذَلِك، يُقَال: خسف الْمَكَان يخسف خسوفاً: ذهب فِي الأَرْض، وَخسف ابه الأَرْض خسفاً، أَي: غَابَ بِهِ فِيهَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} (الْقَصَص: 18) وَخسف هُوَ فِي الأَرْض، وَخسف بِهِ، وخسوف الْعين ذهابها فِي الرَّأْس، وخسوف الْقَمَر كسوفه. قَوْله: (وَالْعَذَاب) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص.
ويُذْكَرُ أنَّ عَلِيًّا رَضِي الله عَنهُ كَرِه الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بابِلَ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ يدل أَيْضا على أَن مُرَاده من عقد هَذَا الْبَاب هُوَ الْإِشَارَة إِلَى أَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْخَسْف مَكْرُوهَة وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، حدّثنا سُفْيَان حدّثنا عبد اللَّه بن شريك عَن عبد اللَّه بن أبي الْمحل العامري، قَالَ: (كُنَّا مَعَ عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، فمررنا على الْخَسْف الَّذِي بِبَابِل، فَلم يصلِّ حَتَّى أجَازه) أَي: تعداه، و: الْمحل، بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : من حَدِيث حجاج بن شَدَّاد عَن أبي صَالح الْغِفَارِيّ (عَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه مر بِبَابِل وَهُوَ يسير، فَجَاءَهُ الْمُؤَذّن يُؤذن بِصَلَاة الْعَصْر، فَلَمَّا بدر مِنْهَا أَمر الْمُؤَذّن، فَأَقَامَ، فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة قَالَ: إِن حَبِيبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، نهاني أَن أُصَلِّي فِي الْمقْبرَة، ونهاني أَن أُصَلِّي فِي أَرض بابل، فَإِنَّهَا ملعونة) .
قَالَ ابْن يُونُس أَبُو صَالح الْغِفَارِيّ: سعيد بن عبد الرَّحْمَن روى عَن عَليّ، وَمَا أَظُنهُ سمع مِنْهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِي سَنَده رجال لَا يعْرفُونَ. وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ حَدِيث واهٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : إِسْنَاده غير قوي. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي سَنَده مقالٌ وَلَا أعلم أحدا من الْعلمَاء حرم الصَّلَاة فِي أَرض بابل، وَقد عَارضه مَا هُوَ أصح مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا) وَيُشبه، إِن ثَبت الحَدِيث، أَن يكون نَهَاهُ أَن يتخذها وطناً ومقاماً، فَإِذا أَقَامَ بهَا كَانَت صلَاته بهَا، وَهَذَا من بَاب التَّعْلِيق فِي علم الْبَيَان قلت: أَرَادَ بهَا الْمُلَازمَة الشَّرْعِيَّة، لِأَن من لَازم إِقَامَة شخص بمَكَان أَن تكون صلَاته فِيهِ، فَيكون من بَاب إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم، وَإِنَّمَا قيدنَا الْمُلَازمَة بالشرعية لانْتِفَاء الْمُلَازمَة الْعَقْلِيَّة. وَقَالَ الْخطابِيّ أَيْضا: لَعَلَّ النَّهْي لعَلي خَاصَّة، أَلا ترى أَنه قَالَ: نهاني، وَلَعَلَّ ذَلِك إنذار مِنْهُ مَا لَقِي من المحنة بِالْكُوفَةِ، وَهِي من أَرض بابل. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: بابل بالعراق مَدِينَة السحر مَعْرُوفَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: بابل، اسْم مَوضِع بالعراق ينْسب إِلَيْهِ السحر وَالْخمر، وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا ينْصَرف لتأنيثه، وَذَلِكَ أَن اسْم كل شَيْء مؤنث إِذا كَانَ أَكثر من ثَلَاثَة أحرف فَإِنَّهُ لَا ينْصَرف فِي الْمعرفَة، وَقَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: بنى نمْرُود المجدل، أَي: الْقصر بهَا، وَطوله فِي السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع، وَهُوَ الْبُنيان الَّذِي ذكره اتعالى فِي كِتَابه الْعَزِيز، بقوله تَعَالَى: {فَأتى ابنيانهم من الْقَوَاعِد} (النَّحْل: 62) وَبَات النَّاس ولسانهم سرياني فَأَصْبحُوا وَقد تَفَرَّقت لغاتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا، كل يتبلبل بِلِسَانِهِ، فَسمى الْموضع بابلاً. وَقَالَ الْهَمدَانِي: وَرُبمَا سموا الْعرَاق بابلاً، قَالَ عمر بن أبي ربيعَة، وأتى الْبَصْرَة فضافه ابْن الْهلَال الْمَعْرُوف بصديق الْجِنّ:
(يَا أهل بابل مَا نفست عَلَيْكُم ... من عيشكم إلاَّ ثَلَاث خلال)
:
(مَاء الْفُرَات، وظل عَيْش بَادر ... وغنى مسمعتين لِابْنِ هِلَال)
وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره: بابل، اسْم قَرْيَة أَو مَوضِع من مَوَاضِع الأَرْض، وَقد اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِيهَا، فَقَالَ بَعضهم، وَهُوَ السّديّ: هِيَ بابل دنباوند، وَقَالَ بَعضهم: بل ذَلِك بالعراق، ورد ذَلِك فِي حَدِيث مَرْوِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا(4/189)
وَاعْلَم أَنه قد وَردت أَحَادِيث فِيهَا النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع، مِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله نهى أَن يصلى فِي سَبْعَة مَوَاطِن: فِي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطَّرِيق وَفِي الْحمام وَفِي معاطن الْإِبِل وَفَوق ظهر بَيت ا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يصلى فِيهَا ثَلَاثَة عشر موضعا، فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة وَزَاد: إِلَى الْمقْبرَة. وأمامك جِدَار مرحاض عَلَيْهِ نَجَاسَة والكنيسة والبيعة وَفِي قبلتك تماثيل وَفِي دَار الْعَذَاب. وَذكر غَيره، الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَإِلَى النَّائِم والمتحدث، وَالصَّلَاة فِي بطن الْوَادي وَالصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار، فَصَارَت الْجُمْلَة ثَمَانِيَة عشر موضعا.
فَنَقُول: أما المزبلة فَهِيَ الْمَكَان الَّذِي يلقى فِيهِ الزبل، وَهُوَ السرجين، وفيهَا لُغَتَانِ: فتح الْبَاء وَضمّهَا، أما الصَّلَاة فِيهَا فَإِن كَانَت بهَا نَجَاسَة فَتحرم الصَّلَاة فِيهَا من غير حَائِل، وَإِن فرش عَلَيْهَا شَيْء حَائِل بَينه وَبَينهَا انْتَفَى التَّحْرِيم وَبقيت الْكَرَاهَة. وَأما المجرزة: فَهِيَ: بِفَتْح الزَّاي: الْمَكَان الَّذِي ينْحَر فِيهِ الْإِبِل ويذبح فِيهِ الْبَقر وَالْغنم، وَهِي أَيْضا مَحل الدِّمَاء والأرواث، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي المزبلة. وَأما الْمقْبرَة: فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما قَارِعَة الطَّرِيق: فَلَمَّا فِيهَا من شغل الخاطر بمرور النَّاس ولغطهم. وَأما الْحمام: فَقَالَ أَحْمد: لَا تصح الصَّلَاة فِيهَا، وَمن صلى فِيهَا أعَاد أبدا، وَعند الْجُمْهُور يكره وَلَا يبطل، ثمَّ قيل: الْعلَّة الغسالات، وَقيل: لِأَنَّهَا مأوى الشَّيَاطِين، فعلى الأول إِذا صلى فِي مَكَان طَاهِر فِيهَا لَا يكره، وَيلْزم من الثَّانِي أَن تكره الصَّلَاة فِي غير الْحمام أَيْضا لعدم خلو الْأَمْكِنَة من الشَّيَاطِين. وَأما معاطن الْإِبِل: فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما الصَّلَاة فَوق ظهر بَيت ا: فَفِيهِ خلاف وتفصيل عرف ذَلِك من الْفُرُوع. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَلم يَصح فِيهِ حَدِيث. وَأما الصَّلَاة إِلَى جِدَار مر حاض: فَلَمَّا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عبد اللَّه بن عَمْرو، قَالَ: (لَا يصلى إِلَى الحش) ، وَعَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ: (لَا تصلي تجاه حش) . وَعَن إِبْرَاهِيم: (كَانُوا يكْرهُونَ ثَلَاثَة أَبْيَات الْقبْلَة وَذكر مِنْهَا الحش) . وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَقد نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا تكره الصَّلَاة إِذا صلى وَبَين يَدَيْهِ جيفة، وَحكى الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (شرح التَّنْبِيه) : أَنه يكره اسْتِقْبَال الْجِدَار النَّجس والمتنجس فِي الصَّلَاة، وَقَالَ ابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة: من تعمد الصَّلَاة إِلَى نَجَاسَة بطلت صلَاته إلاَّ أَن يكون بَعيدا جدا. وَأما الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة والبيعة: فكرهها الْحسن الْبَصْرِيّ، وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : إِن ابْن عَبَّاس كره الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة إِذا كَانَت فِيهَا تصاوير، وَلم ير الشّعبِيّ وَعَطَاء وَابْن أبي رَبَاح بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَة والبيعة بَأْسا وَكَذَلِكَ ابْن سِيرِين، وَصلى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْكَنِيسَة.
وَأما الصَّلَاة إِلَى قبْلَة فِيهَا تماثيل:، فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما الصَّلَاة فِي دَار الْعَذَاب: فَلَمَّا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقد ذكر عَن قريب. وَأما الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة: فَلَمَّا فِيهِ من اسْتِعْمَال حق الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فَيحرم وَتَصِح وَلَا ثَوَاب فِيهَا. وَأما الصَّلَاة إِلَى النَّائِم والمتحدث: فَلَمَّا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس النَّهْي فِي ذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَأما الصَّلَاة فِي بطن الْوَادي؛ فَهُوَ خوف السَّيْل السالب للخشوع، قَالَه الرَّافِعِيّ، وَإِن لم يتَوَقَّع ذَلِك. فَيجوز أَن يُقَال: لَا كَرَاهَة. وَأما الصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار: فَلقَوْله تَعَالَى: {لَا تقم فِيهِ أبدا} (التَّوْبَة: 801) وَقَالَ ابْن حزم: لَا تصح الصَّلَاة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع صَلَاة، وَقَالَ: لَا تجوز الصَّلَاة أَيْضا فِي مَسْجِد يستهزأ فِيهِ با أَو بِرَسُولِهِ، أَو بِشَيْء من الدّين، أَو فِي مَكَان يكفر فِيهِ بِشَيْء، فَإِن لم يُمكنهُ الزَّوَال وَلَا قدرَة صلى، وأجزأته صلَاته.
33449 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِي اعنهما أنَّ رسولَ قَالَ لاَ تَدْخلُوا عَلى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ فإِنْ لَمْ تكُونُوا باكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أصَابَهُمْ. (الحَدِيث 334 أَطْرَافه فِي: 0833، 1833، 9144، 0244، 2074) .
هَذَا الحَدِيث مُطَابق لأثر عَليّ من حَيْثُ عدم النُّزُول من النَّبِي لما مر بِالْحجرِ ديار ثَمُود فِي حَال توجهه إِلَى تَبُوك، وَمن عَليّ كَذَلِك حَيْثُ لم ينزل لما أَتَى خسف بابل، فأثر عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، مُطَابق للتَّرْجَمَة للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَكَذَلِك حَدِيث ابْن عمر مُطَابق للتَّرْجَمَة، لِأَن المطابق للمطابق للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء، وَعدم نزولهما فيهمَا مُسْتَلْزم لعدم الصَّلَاة فيهمَا، وَعدم الصَّلَاة لأجل الْكَرَاهَة وَالْبَاب مَعْقُود لبَيَان الْكَرَاهَة، فحصلت الْمُطَابقَة فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، ذكرُوا(4/190)
غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ الْمَشْهُور بِابْن أويس.
وَمن لطائف إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، والعنعنة فِي مَوضِع، وَأَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَأخرجه: البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكر، وَفِي التَّفْسِير عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن معن بن عِيسَى عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبين) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: يَعْنِي ديار هَؤُلَاءِ وهم أَصْحَاب الْحجر قوم ثَمُود وَهَؤُلَاء قوم صَالح، عَلَيْهِ السَّلَام، و: الْحجر، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الْجِيم: بلد بَين الشَّام والحجاز، وَعَن قَتَادَة فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ: الْحجر اسْم الْوَادي الَّذِي كَانُوا بِهِ. وَعَن الزُّهْرِيّ: هُوَ اسْم مدينتهم، وَكَانَ نهي النَّبِي إيَّاهُم بقوله: (لَا تدْخلُوا) حِين مروا مَعَ النَّبِي بِالْحجرِ فِي حَال توجههم إِلَى تَبُوك، وللبخاري فِي (أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء) عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم) . وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا قَالَ: (لَا تدْخلُوا) من جِهَة التشاؤم بِتِلْكَ الْبقْعَة الَّتِي نزل بهَا السخط، يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم} (إِبْرَاهِيم: 54) فِي مقَام التوبيخ على السّكُون فِيهَا، وَقد تشاءم بالبقعة الَّتِي نَام فِيهَا عَن الصَّلَاة، ورحل عَنْهَا ثمَّ صلى، فكراهية الصَّلَاة فِي مَوضِع الْخَسْف، أولى، ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك قَوْله. (إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) فأباح الدُّخُول فِيهِ على وَجه الْبكاء وَالِاعْتِبَار، وَهَذَا يدل على أَن من صلى هُنَاكَ لَا تفْسد صلَاته، مَوضِع بكاء وَاعْتِبَار.
وَزَعَمت الظَّاهِرِيَّة: أَن من صلى فِي بِلَاد ثَمُود وَهُوَ غير باك فَعَلَيهِ سُجُود السَّهْو إِن كَانَ سَاهِيا، وَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته. قلت: هَذَا خلف من القَوْل إِذْ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على فَسَاد صَلَاة من لم يبك، وَإِنَّمَا فِيهِ خوف نزُول الْعَذَاب بِهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الدَّاخِل فِي ديار الْقَوْم الَّذين أهلكوا بخسف وَعَذَاب، إِذا دَخلهَا فَلم يجلب عَلَيْهِ مَا يرى من آثَار مَا نزل بهم بكاء، وَلم يبْعَث عَلَيْهِ حزنا إِمَّا شَفَقَة عَلَيْهِم وَإِمَّا خوفًا من حُلُول مثلهَا بِهِ، فَهُوَ قاسي الْقلب قَلِيل الْخُشُوع غير مستشعر للخوف والوجل، فَلَا يَأْمَن إِذا كَانَ حَاله كَذَلِك أَن يُصِيبهُ مَا أَصَابَهُم، وَهُوَ معنى قَوْله: (لَا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم) . وَهُوَ بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْتِئْنَاف كَلَام.
وَقَالَ بَعضهم: وَالْمعْنَى فِيهِ: لِئَلَّا يصبيكم. قلت: الْجُمْلَة الاستئنافية لَا تكون تعليلاً. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيجوز الْجَزْم على أَن: لَا ناهية وَهُوَ أوجه. قلت: هَذَا مَبْنِيّ على صِحَة الرِّوَايَة بذلك. وَقَوله: وَهُوَ أوجه، غير موجه، لِأَنَّهُ لم يبين وَجهه، وَفِي لفظ البُخَارِيّ: (أَن يُصِيبكُم) ، بِفَتْح همزَة: أَن، وَفِيه إِضْمَار تَقْدِيره: حذر أَن يُصِيبكُم، أَو خشيَة أَن يُصِيبكُم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يُصِيب عَذَاب الظَّالِمين لغَيرهم، {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51 فاطر: 81، الزمر: 7، النَّجْم: 83) قلت: لَا نسلم الْإِصَابَة إِلَى غير الظَّالِم. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} (الْأَنْفَال: 52) وَأما الْآيَة الأولى فمحمولة على عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ لَا نسلم أَن الَّذِي يدْخل موضعهم وَلَا يتَضَرَّع لَيْسَ بظالم، لِأَن ترك التضرع فِيمَا يجب فِيهِ التضرع ظلم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على أَن ديار هَؤُلَاءِ لَا تسكن بعدهمْ وَلَا تتَّخذ وطناً لِأَن الْمُقِيم المستوطن لَا يُمكنهُ أَن يكون دهره باكياً أبدا، وَقد نهى أَن يدْخل دروهم إلاَّ بِهَذِهِ الصّفة. وَفِيه: الْمَنْع من الْمقَام بهَا والاستيطان. وَفِيه: الْإِسْرَاع عَن الْمُرُور بديار الْمُعَذَّبين، كَمَا فعل رَسُول الله فِي وَادي محسر، لِأَن أَصْحَاب الْفِيل هَلَكُوا هُنَاكَ. وَفِيه: أَمرهم بالبكاء لِأَنَّهُ ينشأ عَن التفكر فِي مثل ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: التفكر الَّذِي ينشأ عَنهُ الْبكاء فِي مثل ذَلِك الْمقَام يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: تفكر يتَعَلَّق با تَعَالَى إِذْ قضى على أُولَئِكَ بالْكفْر. الثَّانِي: يتَعَلَّق بأولئك الْقَوْم إِذا بارزوا رَبهم الْكفْر وَالْفساد. الثَّالِث: يتَعَلَّق بالمار عَلَيْهِم لِأَنَّهُ وفْق للْإيمَان وَتمكن من الِاسْتِدْرَاك والمسامحة فِي الزلل. وَفِيه: الدّلَالَة على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي مَوضِع الْخَسْف وَالْعَذَاب، وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ.
45 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي البِيعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْبيعَة، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: معبد النَّصَارَى، والكنيسة: معبد الْيَهُود، فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف عقد الْبَاب للصَّلَاة فِي الْبيعَة، وَالْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ الْكَنِيسَة؟ قلت: عقد الْبَاب هَكَذَا على قَول من لم يفرق بَينهمَا، فَإِن الْجَوْهَرِي قَالَ: الْكَنِيسَة والبيعة لِلنَّصَارَى، وَيُقَال: الْبيعَة صومعة الراهب، ذكره فِي (الْمُحكم) وَيُقَال: الْبيعَة والكنيسة لِلنَّصَارَى، والصلوات للْيَهُود، والصوامع للرهبان. وَقَالَ الدَّاودِيّ: البيع للْيَهُود، والصلوات للصابئين. وَقيل:(4/191)
كالمساجد للْمُسلمين. وَقَالَ عِيَاض: وَأنكر بعض أهل اللُّغَة هَذِه الْمقَالة، وَقَالَ الجواليقي: جعل بعض الْعلمَاء الْبيعَة والكنيسة فارسيتين معربتين. وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا الْبَاب لَيْسَ مُعَارضا لباب من صلى وقدامه نَار أَو تنور، وَذَلِكَ أَن الِاخْتِيَار أَن لَا يبتدىء بِالصَّلَاةِ إِلَى شَيْء من معبودات الْكفَّار، إلاَّ أَن يعرض لَهُ، كَمَا فِي حَدِيث صَلَاة الخسوف وَعرض النَّار عَلَيْهِ، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم. قلت: تَقْرِير معنى الْمُعَارضَة بَين الْبَابَيْنِ أَن فِي هَذَا الْبَاب كَرَاهَة الصَّلَاة أَو تَحْرِيمهَا، وَفِي ذَاك الْبَاب جَوَازهَا مَعَ عدم الْكَرَاهَة، وَتَقْرِير الْجَواب أَن مَا كَانَ فِي ذَاك الْبَاب بِغَيْر الِاخْتِيَار، وَمَا فِي هَذَا الْبَاب كَقَوْل عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ: إِنَّا لَا ندخل كنائسكم، يَعْنِي بِالِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْسَان دون ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى ذَلِك.
وَقَالَ عُمَرُ، رَضِي اعنه، إنَّا لاَ نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ منْ أجْلِ التَّمَائِيلِ الَّتِي فِيها الصُّوَرُ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عدم دُخُوله فِي كنائسهم لأجل الصُّور الَّتِي فِيهَا، وَلَوْلَا الصُّور وَمَا كَانَ يمْتَنع من الدُّخُول، وَعند الدُّخُول لَا تمنع الصَّلَاة، فحينئذٍ صَحَّ فعل الصَّلَاة فِي الْبيعَة من غير كَرَاهَة إِذا لم يكن فِيهَا تماثيل، وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن سهل بن سعد عَن حميد عَن بكر، قَالَ: (كتب إِلَى عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، من نَجْرَان أَنهم لم يَجدوا مَكَانا أنظف وَلَا أَجود من بيعَة فَكتب انضحوها بِمَاء وَسدر وصلوا فِيهَا) . وَأثر عمر وَصله عبد الرَّزَّاق من طَرِيق أسلم مولى عمر، قَالَ: (لما قدم عمر الشَّام صنع لَهُ رجل من النَّصَارَى طَعَاما، وَكَانَ من عظمائهم، وَقَالَ: أَنا أحب أَن تُجِيبنِي وتكرمني. فَقَالَ لَهُ عمر: إنَّا لَا ندخل كنائسكم من أجل الصُّور الَّتِي فِيهَا) . يَعْنِي التماثيل. قَوْله: (إِنَّا لَا ندخل كنائسكم) بكاف الْخطاب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (كنائسهم) ، بضمير الْجمع الْغَائِب. قَوْله: (الَّتِي فِيهَا الصُّور) ، جملَة إسمية، لِأَن الصُّور مُبْتَدأ مَرْفُوع، وَقَوله: (فِيهَا) خَبره، أَي: فِي الْكَنَائِس، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول وَقعت صفة للكنائس لَا للتماثيل لفساد الْمَعْنى، لِأَن التماثيل هِيَ الصُّور. ويروى الصُّور، بِالْجَرِّ، فعلى هَذَا يكون الْمَوْصُول مَعَ صلته صفة للتماثيل، وَتَكون الصُّور بِالْجَرِّ بَدَلا من: التماثيل، أَو عطف بَيَان. وَيجوز نصب الصُّور على الِاخْتِصَاص، وَوجه بَعضهم رفع الصُّور، بقوله: إِن التماثيل مصورة، وَهَذَا تَوْجِيه من لَا يعرف من الْعَرَبيَّة شَيْئا. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: والصور، بواو الْعَطف على التماثيل، وَالْمعْنَى: وَلأَجل الصُّورَة الَّتِي فِيهَا، والصور أَعم من التمثال.
وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البيعَةِ إِلاَّ بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَغَوِيّ فِي الجعديات، وَزَاد فِيهِ: (فَإِن كَانَ فِيهَا تماثيل خرج فصلى فِي الْمَطَر) ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد فِيهِ خصيف، وَفِيه كَلَام: عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَنه كره الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة إِذا كَانَ فِيهَا تصاوير وَمِمَّنْ لم ير بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنَائِس وَالْبيع بَأْسا: عَطاء وَالشعْبِيّ وَابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول مَالك، وروى عَنهُ أَنه كره الصَّلَاة فِي الْكَنَائِس لما يُصِيب أَهله فِيهَا من الْخَنَازِير وَالْخمر، إِلَّا أَن يضْطَر إِلَى ذَلِك من شدَّة طين أَو مطر.
43459 - ح دّثنا مُحَمدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدَةُ عنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسولِ اللَّهِ كَنيسَةً رَأَنْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ فَذَكرَتْ لَهُ مَا رَأتْ فِيهَا مِنَ الصُوَرِ فقالَ رَسولُ الله أُولَئِكَ قَوْمٌ إذَا ماتَ فِيهمُ العَبْدُ الصَّالِحُ أَو الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ. (انْظُر الحَدِيث 724 وطرفيه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بنوا على قَبره مَسْجِدا وصوروا فِيهِ تِلْكَ الصُّور) ، لِأَن الْبَاب فِي الصَّلَاة فِي الْبيعَة، وَقد مر أَنَّهَا تكره فِي الْبيعَة إِذا كَانَت فِيهَا صور، وَهَذَا الحَدِيث ذكره فِي بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ قبل هَذَا الْبَاب بِخَمْسَة أَبْوَاب، وَذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، كَمَا صرح بِهِ ابْن السكن فِي رِوَايَته، وَعَبدَة،(4/192)
بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ ابْن سُلَيْمَان، واسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَعَبدَة لقبه. قَوْله: (مَارِيَة) بالراء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف.
55 - (بَاب)
غير منون، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، وَلم يذكر لَهُ تَرْجَمَة، وَكَذَا رُوِيَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَله تعلق بِذَاكَ.
وَجه التَّعَلُّق أَن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على الزّجر عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، والتصوير مَذْكُور هُنَاكَ، وَهَهُنَا يُشِير إِلَى أَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد مَذْمُوم، سَوَاء كَانَ فعل ذَلِك بصور أم لَا.
96 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة أَن عَائِشَة وَعبد الله بن عَبَّاس قَالَا لما نزل برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طفق يطْرَح خميصة لَهُ على وَجهه فَإِذا اغتم بهَا كشفها عَن وَجهه فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِك لعنة الله على الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد يحذروا مَا صَنَعُوا) مطابقته لترجمة الْبَاب المترجم فِي قَوْله " اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد " لأَنهم إِذا اتَّخَذُوهَا مَسَاجِد يصلونَ فِيهَا ويسمون الْمَسَاجِد البيع وَالْكَنَائِس وَالْبَاب فِي الصَّلَاة فِي البيع (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة الأول أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع عبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب. الْخَامِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع آخر وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني وَفِيه رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وصحابية كِلَاهُمَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن يحيى بن بكير وَفِي الْمَغَازِي عَن سعد بن عفير كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَن عقيل وَفِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن بشر بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك عَن معمر وَيُونُس أربعتهم عَن الزُّهْرِيّ وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وحرملة بن يحيى كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَفَاة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ وَفِي الْوَفَاة أَيْضا عَن عبد الله بن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَمه يَعْقُوب (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " لما نزل " على صِيغَة الْمَعْلُوم فِي رِوَايَة أبي ذَر وفاعله مَحْذُوف أَي لما نزل الْمَوْت وَفِي رِوَايَة غَيره بِضَم النُّون وَكسر الزَّاي على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " طفق " جَوَاب لما وَهُوَ من أَفعَال المقاربة وَهِي ثَلَاثَة أَنْوَاع مِنْهَا مَا وضع للدلالة على الشُّرُوع فِي الْخَبَر وأفعاله أنشأ وطفق وَجعل وعلق وَأخذ وتعمل هَذِه الْأَفْعَال عمل كَانَ إِلَّا أَن خبرهن يجب كَونه جملَة حكى الْأَخْفَش طفق يطفق مثل ضرب يضْرب وطفق يطفق مثل علم يعلم وَلم يسْتَعْمل لَهُ اسْم فَاعل وَاسْتعْمل لَهُ مصدر حكى الْأَخْفَش طفوقا عَمَّن قَالَ طفق بِالْفَتْح وطفقا عَمَّن قَالَ طفق بِالْكَسْرِ وَمَعْنَاهُ هَهُنَا جعل وَقَوله يطْرَح جملَة خَبره وخميصة بِالنّصب مفعول يطْرَح وَهِي كسَاء لَهُ إِعْلَام أَو علمَان أسود مربع وَقد مر تَفْسِيرهَا مستقصى قَوْله " لَهُ " فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لخميصة قَوْله " على وَجهه " يتَعَلَّق بقوله " يطْرَح " قَوْله " فَإِذا اغتم " بالغين الْمُعْجَمَة أَي إِذا تسخن وَحمى قَوْله " بهَا " أَي بالخميصة قَوْله " فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِك " أَي فِي تِلْكَ الْحَال وَقَالَ بَعضهم وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْوَقْت الَّذِي ذكرت فِيهِ أم سَلمَة وَأم حَبِيبَة أَمر الْكَنِيسَة الَّتِي رأتاها بِأَرْض الْحَبَشَة (قلت) هَذَا بعيد جدا لَا يخفى على الفطن وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله وَهُوَ كَذَلِك مقول الرَّاوِي أَي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ حَال الطرح والكشف قَوْله " لعنة الله " اللَّعْنَة الطَّرْد والإبعاد عَن الرَّحْمَة قَوْله " اتَّخذُوا " جملَة استئنافية كَأَنَّهَا جَوَاب عَن سُؤال سَائل(4/193)
مَا سَبَب لعنهم فَأُجِيب بقوله اتَّخذُوا قَوْله " يحذر مَا صَنَعُوا " مقول الرَّاوِي لَا مقول الرَّسُول وَهِي أَيْضا جملَة مستأنفة وَإِنَّمَا كَانَ يُحَذرهُمْ من ذَلِك الصَّنِيع لِئَلَّا يفعل بقبره مثله وَلَعَلَّ الْحِكْمَة فِيهِ أَنه يصير بالتدريج شَبِيها بِعبَادة الْأَصْنَام
734 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ قَالَ قاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ اتَّخَذوا وقُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. وَرِجَاله مَشْهُورُونَ قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَفِي إِسْنَاده صِيغَة الْجمع بِالتَّحْدِيثِ، وَالْبَاقِي بالعنعنة، وَرُوَاته مدنيون، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سعيد بن هَارُون عَن ابْن وهب عَن مَالك وَيُونُس، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَفَاة عَن عَمْرو بن سَواد بن الْأسود عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ قَوْله: (قَاتل االيهود) ، أَي: قَتلهمْ ا، لِأَن فَاعل يَجِيء بِمَعْنى فعل أَيْضا، كَقَوْلِهِم: سَافر وسارع بِمَعْنى: سفر وسرع، وَيُقَال: مَعْنَاهُ لعنهم ا، وَيُقَال: عاداهم ا، وَيُقَال: الْقِتَال هَهُنَا عبارَة عَن الطَّرْد والإبعاد عَن الرَّحْمَة، فمؤداه ومؤدي اللَّعْنَة وَاحِد، وَإِنَّمَا خصص الْيَهُود هَهُنَا بِالذكر بِخِلَاف مَا تقدم لأَنهم أسسوا هَذَا الاتخاذ وابتدؤوا بِهِ، فهم أظلم، أَو لأَنهم أَشد غلوًّا فِيهِ. وَقد اسْتشْكل بَعضهم ذكر النَّصَارَى فِي الحَدِيث الأول لأَنهم لَيْسَ لَهُم نَبِي بَين عِيسَى وَبَين نَبينَا، غير عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَيْسَ لَهُ قبر لِأَنَّهُ فِي السَّمَاء. وَأجِيب: عَنهُ: بِأَنَّهُ كَانَ فيهم أَنْبيَاء أَيْضا لكِنهمْ غير مرسلين كالحواريين وَمَرْيَم فِي قَول. قلت: هَذَا الْجَواب فِيهِ نظر لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة عَن عِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ أَن الثَّلَاثَة الَّذين أَتَوا إِلَى أنطاكية الْمَذْكُورين فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} (يس: 41) كَانُوا رسلًا من اتعالى وهم: صَادِق وصدوق وشلوم، وَعَن قَتَادَة إِنَّهُم كَانُوا رسلًا من عِيسَى، فعلى هَذَا لم يَكُونُوا أَنْبيَاء فضلا عَن أَن يَكُونُوا رسلًا من اتعالى، وَأما مَرْيَم فَزعم ابْن حزم وَآخَرُونَ أَنَّهَا نبية، وَكَذَلِكَ سارة أم إِسْحَاق وَأم مُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعند الْجُمْهُور، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَغَيره من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة: أَن النُّبُوَّة مُخْتَصَّة بِالرِّجَالِ وَلَيْسَت فِي النِّسَاء نبية.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: منع الْبناء على الْقَبْر، لِأَن أَبَا دَاوُد أخرج هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْبناء على الْقَبْر، وَرُوِيَ أَيْضا عَن أَحْمد بن حَنْبَل: حدّثنا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا ابْن جريج أَخْبرنِي ابْن الزبير أَنه سمع جَابِرا يَقُول: (سَمِعت رَسُول ا، نهى أَن يقْعد على الْقَبْر وَأَن يُقَصَّص وَأَن يبْنى عَلَيْهِ) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَالتِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَته: (وَأَن يكْتب عَلَيْهَا) . وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَته: (وَأَن يُزَاد عَلَيْهِ) .
65 - (بابُ قوْلِ النَّبيِّ جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) ، وإيراد هَذَا الْبَاب عقيب الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة إِشَارَة إِلَى أَن الْكَرَاهَة فِيهَا لَيست للتَّحْرِيم، لِأَن عُمُوم قَوْله: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) ، يدل على جَوَاز الصَّلَاة على أَي جُزْء كَانَ من أَجزَاء الأَرْض. وَقَالَ ابْن بَطل: فَدخل فِي عُمُوم هَذَا: الْمَقَابِر والمرابض وَالْكَنَائِس وَغَيرهَا.
98 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن سِنَان قَالَ حَدثنَا هشيم قَالَ حَدثنَا سيار هُوَ أَبُو الحكم قَالَ حَدثنَا يزِيد الْفَقِير قَالَ حَدثنَا جَابر بن عبد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد من الْأَنْبِيَاء قبلي نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وَأَيّمَا رجل من أمتِي أَدْرَكته الصَّلَاة فَليصل وَأحلت لي الْغَنَائِم وَكَانَ النَّبِي(4/194)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبْعَث إِلَى قومه خَاصَّة وَبعثت إِلَى النَّاس كَافَّة وَأعْطيت الشَّفَاعَة) التَّرْجَمَة من نفس هَذَا الحَدِيث وَوَضعه على هَذَا الْوَجْه قد ذَكرْنَاهُ (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن سِنَان أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي هشيم بِضَم الْهَاء ابْن بشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة السّلمِيّ مَوْلَاهُ الوَاسِطِيّ مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ بِبَغْدَاد. الثَّالِث سيار على وزن فعل بِالتَّشْدِيدِ بن أبي سيار واسْمه وردان أَبُو الحكم الْعَنزي الوَاسِطِيّ مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الرَّابِع يزِيد بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف من الزِّيَادَة ابْن صُهَيْب الْفَقِير الْخَامِس جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) جَمِيع سَنَده بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع وَهُوَ من النَّوَادِر وَرُوَاته مَا بَين واسطي وكوفي وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره فِي أول كتاب التَّيَمُّم فَالْبُخَارِي أخرجه هُنَاكَ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَسَعِيد بن النَّضر وَفِي الْخمس أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَابْن أبي شيبَة وَالنَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة بِتَمَامِهِ وَفِي الصَّلَاة بِبَعْضِه عَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل خمستهم عَن هشيم عَن سيار وتكلمنا فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ مستقصى قَوْله " طهُورا " بِفَتْح الطَّاء قَوْله " كَافَّة " أَي جَمِيعًا وَهُوَ مِمَّا يلْزمه النصب على الْحَال واستهجن إضافتها نَحْو كافتهم
75 - (بابُ نَوْمِ المَرْأةِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نوم الْمَرْأَة فِي الْمَسْجِد، يَعْنِي: يجوز، وَكَذَا إِقَامَتهَا فِيهِ إِذا لم يكن لَهَا مسكن، كَمَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ، وَسَيَأْتِي حكم نوم الرجل أَيْضا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
99 - (حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة أَن وليدة كَانَت سَوْدَاء لحي من الْعَرَب فأعتقوها فَكَانَت مَعَهم قَالَت فَخرجت صبية لَهُم عَلَيْهَا وشاح أَحْمَر من سيور قَالَت فَوَضَعته أَو وَقع مِنْهَا فمرت بِهِ حدياه وَهُوَ ملقى فحسبته لَحْمًا فخطفته قَالَت فالتمسوه فَلم يجدوه قَالَت فاتهموني بِهِ قَالَت فطفقوا يفتشون حَتَّى فتشوا قبلهَا قَالَت وَالله إِنِّي لقائمة مَعَهم إِذْ مرت الحدياة فألقته قَالَت فَوَقع بَينهم قَالَت فَقلت هَذَا الَّذِي اتهمتموني بِهِ زعمتم وَأَنا مِنْهُ بريئة وَهُوَ ذَا هُوَ قَالَت فَجَاءَت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأسْلمت قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَكَانَ لَهَا خباء فِي الْمَسْجِد أَو حفش قَالَت فَكَانَت تَأتِينِي فَتحدث عِنْدِي قَالَت فَلَا تجْلِس عِنْدِي مَجْلِسا إِلَّا قَالَت
(وَيَوْم الوشاح من أَعَاجِيب رَبنَا ... أَلا إِنَّه من بَلْدَة الْكفْر أنجاني)
) قَالَت عَائِشَة فَقلت لَهَا مَا شَأْنك لَا تقعدين معي مقْعدا إِلَّا قلت هَذَا قَالَت فحدثتني بِهَذَا الحَدِيث) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَكَانَ لَهَا خبأ فِي الْمَسْجِد " لِأَنَّهَا لم تنصب خبأ فِيهِ إِلَّا للبيتوتة وَالنَّوْم فِيهَا (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول عبيد بن إِسْمَاعِيل بِالتَّصْغِيرِ وَفِي بعض الرِّوَايَة عبيد الله الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة الرَّابِع عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام الْخَامِس أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد تقدم فِي بَاب نقض الْمَرْأَة شعرهَا عِنْد غسل الْمَحِيض (ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه) قَوْله " إِن وليدة " أَي أمة والوليدة فِي الأَصْل الطفلة وَقد تطلق على الْأمة وَإِن كَانَت كَبِيرَة وَفِي الْمُخَصّص إِذا ولد الْمَوْلُود فَهُوَ وليد سَاعَة تلده أمه وَالْأُنْثَى وليدة وَفِي الْمُحكم الْجمع ولدان قَوْله " كَانَت سَوْدَاء " تَعْنِي(4/195)
كَانَت امْرَأَة كَبِيرَة سَوْدَاء وَلم يذكر أحد اسْمهَا وَلَا اسْم الْحَيّ الَّتِي كَانَت لَهُم وَلَا اسْم الصبية قَوْله " لحي من الْعَرَب " أَي لقبيلة مِنْهُم ومتعلق اللَّام مَحْذُوف تَقْدِيره كائنة لحي من الْعَرَب وَهِي فِي مَحل النصب على الوصفية قَوْله " فَخرجت صبية لَهُم " أَي لهَؤُلَاء الْحَيّ وروى ثَابت فِي الدَّلَائِل من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام فَزَاد فِيهِ " أَن الصبية كَانَت عروسا فَدخلت فِي مغتسلها فَوضعت الوشاح " وَهُوَ بِكَسْر الْوَاو وَبِضَمِّهَا وَيُقَال الإشاح أَيْضا بِكَسْر الْهمزَة على الْبَدَل من الْوَاو وَهُوَ خيطان من لُؤْلُؤ وجوهر منظومان يُخَالف بَينهمَا مَعْطُوف أَحدهمَا على الآخر وَالْجمع أوشحة ووشح ووشائح قَالَ كثير
(كَأَن قِنَا المران تَحت خدودها ... ظباء الفلا نيطت عَلَيْهَا الوشائح)
ذكره فِي الْمُحكم وَقَالَ فِي الْمُخَصّص عَن الْفَارِسِي الوشاح من وسط إِلَى أَسْفَل قَالَ وَلَا يكون الوشاح وشاحا حَتَّى يكون منظوما بلؤلؤ أَو ودع وَفِي الْجَامِع للقزاز الوشاح خرز تتوشح بِهِ الْمَرْأَة وَمِنْه قَول امريء الْقَيْس
(إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء تعرضت ... تعرض أثْنَاء الوشاح الْمفصل)
وَيُقَال أَيْضا الوشحن قَالَ الراجز
(أحب مِنْك مَوضِع الوشحن ... ومعقد الْإِزَار والقفن)
وَفِي الْمُنْتَهى أشاح وَهُوَ ينسج من أَدِيم عرضا وينظم عَلَيْهِ الْجَوَاهِر فَيكون نظمان أَحدهمَا مَعْطُوف على الآخر وَالْجمع وشح وَفِي الصِّحَاح الوشاح ينسج من أَدِيم عرضا ويرصع بالجواهر وتشده الْمَرْأَة بَين عاتقها وكشحها وَفِي المغيث الوشاح قلادة من سيور ذكره عِنْد ذكر هَذَا الحَدِيث وَذكر فِيهِ أَيْضا من سيور وَهُوَ جمع سير بِفَتْح السِّين وَهُوَ مَا يقدمن الْجلد (فَإِن قلت) قَوْله من سيور يدل على أَن الوشاح الْمَذْكُور كَانَ من جلد وَكَانَ عَلَيْهِ لُؤْلُؤ فَكيف حسبته الحدياة لَحْمًا حَتَّى خطفته (قلت) لما رَأَتْ بَيَاض اللُّؤْلُؤ على حمرَة الْجلد حسبته أَنه لحم سمين فخطفته قَوْله " أَو وَقع " شكّ من الرَّاوِي قَوْله " حدياة " بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعدهَا ألف وَفِي آخرهَا تَاء وَالْأَصْل أَن يُقَال حديأة بِهَمْزَة بمفتوحة بعد الْيَاء لِأَنَّهَا مصغر حدأة على وزن عنبة وَلَكِن أبدلت الْهمزَة بَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء وَجمع حدأة حدء مَقْصُور مَهْمُوز نَص عَلَيْهِ ثَعْلَب وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة جمعه حدان وَقَالَ ابْن سَيّده والحداء أَيْضا بِالْمدِّ وَالْكَسْر جمع الحدأة وَهُوَ نَادِر وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه فِيمَا حَكَاهُ ابْن عديس من الْعَرَب من يسميها أَيْضا الحدو بِكَسْر الْحَاء وَفتح الدَّال وَاو بعْدهَا سَاكِنة وَقَالَ ابْن مَنْصُور فِي التَّهْذِيب لَا بَأْس بقتل الحدو وَقَالَ ابْن عديس وَفِي الحدى مثل الْعُزَّى وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ لَهَا حدية يشددون الْيَاء وَلَا يهمزون وَالْجمع حداوى وَعَن أبي حَاتِم أَنه خطأهم فِي هَذَا وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي فِي مقصوره الحدا جمع حدأة وَرُبمَا فتحُوا الْحَاء فَقَالُوا حداة وحداة وَالْكَسْر أَجود وَفِي الموعب هِيَ طَائِر يَأْكُل الجرذان (قلت) هُوَ الطَّائِر الْمَعْرُوف الَّذِي هُوَ من الفواسق الْخمس الْمَأْذُون بقتلهن فِي الْحل وَالْحرم قَوْله " وَهُوَ ملقى " أَي الوشاح ملقى أَي مرمي وَالْجُمْلَة حَالية قَوْله " فخطفته " بِكَسْر الطَّاء وَقيل بِفَتْحِهَا قَوْله " فالتمسوه " أَي طلبوه وسألوا عَنهُ قَوْله " فطفقوا " أَي فَجعلُوا يفتشوني وَالْأَصْل أَن يُقَال يفتشونني ويروى يفتشون قَوْله " قبلهَا " بِضَم الْقَاف وَالْبَاء أَي فرجهَا (فَإِن قلت) كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال قبلي بياء الْمُتَكَلّم (قلت) إِن كَانَ هَذَا من كَلَام عَائِشَة فَهُوَ على الأَصْل وَإِن كَانَ من كَلَام الوليدة فَهُوَ من بَاب الِالْتِفَات أَو من بَاب التَّجْرِيد فَكَأَنَّهَا جردت من نَفسهَا شخصا وأخبرت عَنهُ وَالظَّاهِر أَنه من كَلَام الوليدة وَزَاد فِيهِ ثَابت فِي الدَّلَائِل قَالَت " فدعوت الله أَن يبرئني فَجَاءَت الحديأة وهم ينظرُونَ " قَوْله " لقائمة " اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد قَوْله " إِذْ مرت الحديأة " كلمة إِذْ على أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا أَن تكون اسْما للزمن الْمَاضِي وَالْغَالِب فِي اسْتِعْمَالهَا أَن تكون ظرفا وَإِذ هَهُنَا من هَذَا الْقَبِيل وَبَقِيَّة الْأَقْسَام تعرف فِي موضعهَا قَوْله " زعمتم " مَفْعُوله مَحْذُوف تَقْدِيره زعمتم أَنِّي أَخَذته قَوْله " وَأَنا مِنْهُ بريئة " جملَة حَالية وَالضَّمِير فِي مِنْهُ يرجع إِلَى الزَّعْم الَّذِي يدل عَلَيْهِ زعمتم وَيجوز أَن يرجع إِلَى الوشاح أَي من أَخذه قَوْله " وَهُوَ ذَا هُوَ " فِيهِ أوجه من الْإِعْرَاب الأول أَن يكون هُوَ مُبْتَدأ وَذَا خَبره وَهُوَ الثَّانِي خبر بعد خبر وَالثَّانِي أَن يكون هُوَ الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ وَالثَّالِث أَن يكون تَأْكِيدًا لذا وَالرَّابِع أَن يكون بَيَانا لَهُ وَالْخَامِس أَن يكون ذَا مُبْتَدأ ثَانِيًا وَخَبره هُوَ الثَّانِي وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ وَالسَّادِس أَن يكون هُوَ ضمير الشَّأْن(4/196)
وَيكون ذَا مَعَ هُوَ الثَّانِي جملَة أَو خبر الثَّانِي محذوفا وَالْجُمْلَة تَأْكِيد الْجُمْلَة وَالسَّابِع أَن يكون ذَا مَنْصُوبًا على الِاخْتِصَاص وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم " وَهَا هُوَ ذَا " وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة " وَهُوَ ذَا كَمَا ترَوْنَ " قَوْله " قَالَت " أَي عَائِشَة قَوْله " فَجَاءَت " أَي الْمَرْأَة قَوْله " خباء " بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد وَهِي خيمة تكون من وبر أَو صوف وَهِي على عمودين أَو ثَلَاثَة وَمَا فَوق ذَلِك وَفِي الْمُخَصّص الخباء يكون من وبر أَو صوف وَلَا يكون من شعر وَقد أخبيت وخبيت وتخبيت وَعَن ابْن السّكيت أخبيناه خباء نصبناه واستخبينا نصبناه ودخلنا فِيهِ وَعَن ابْن دُرَيْد الخباء مُشْتَقّ من خبأت خبيئا وَيُقَال تخبأت وَعَن الْفَارِسِي أصل هَذِه الْكَلِمَة التغطية وَقَالَ ابْن دُرَيْد الأخبية بيُوت الْأَعْرَاب وَإِذا ضخم الخباء فَهُوَ بَيت وَقَالَ الْكَلْبِيّ بيُوت الْعَرَب سِتَّة مظلة من شعر خباء من صوف بجاد من وبر خيمة من شجر أفنة من حجر قبَّة من أَدَم قَوْله " أَو حفش " بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وَفِي آخِره شين مُعْجمَة وَهُوَ بَيت صَغِير قَلِيل السّمك مَأْخُوذ من الإتحفاش وَهُوَ الانضمام وَذكر ابْن عديس فِي الْكتاب الباهر أَنه الصَّغِير من بيُوت الْأَعْرَاب وَقيل الحفش بِالْفَتْح وَالْكَسْر والإسكان وبفتح الْفَاء الْبَيْت الْقَرِيب السّمك من الأَرْض وَجمعه أحفاش وحفاش وَفِي الْمُخَصّص أَنه من الشّعْر لَا من الْآجر وَفِي الْمغرب للمطرزي استعيرت من حفش الْمَرْأَة وَهُوَ درجها وَقَالَ أَبُو عبيد هُوَ الْبَيْت الرَّدِيء وَقيل الخرب وَقَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ وعَاء المغازل (قلت) لكنه استعير للبيت الصَّغِير قَوْله " فَتحدث " بِلَفْظ الْمُضَارع أَصله تَتَحَدَّث من التحدث فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَعِنْدَ سِيبَوَيْهٍ الْمَحْذُوف هُوَ التَّاء الثَّانِيَة لِأَن الثّقل نَشأ مِنْهَا وَقيل هِيَ الأولى لِأَنَّهَا زَائِدَة قَوْله " وَيَوْم الوشاح " الخ من الْبَحْر الطَّوِيل وأجزاءه ثَمَانِيَة وَهِي فعولن مفاعيلن ثَمَان مَرَّات وَفِيه الْقَبْض فِي الْجُزْء الثَّانِي وَهُوَ حذف الْخَامِس السَّاكِن قَوْله " إِلَّا أَنه " بتَخْفِيف اللَّام للضَّرُورَة قَوْله " من تعاجيب رَبنَا " أَي من أَعَاجِيب رَبنَا جمع أعجوبة وَقَالَ ابْن سَيّده لَا وَاحِد للتعاجيب من لَفظه ويروى من أَعَاجِيب رَبنَا قَوْله " أَلا قلت هَذَا " أَي هَذَا الْبَيْت قَوْله " بِهَذَا الحَدِيث " أَي بِهَذِهِ الْقِصَّة (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) قَالَ ابْن بطال فِيهِ أَن من لم يكن لَهُ مسكن وَلَا مَكَان مبيت يُبَاح لَهُ الْمبيت فِي الْمَسْجِد سَوَاء كَانَ رجلا أَو امْرَأَة عِنْد حُصُول الْأَمْن من الْفِتْنَة وَفِيه اصطناع الْخَيْمَة وَشبههَا للمسكين رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَفِيه أَن السّنة الْخُرُوج من بَلْدَة جرت فِيهَا فتْنَة على الْإِنْسَان تشاؤما بهَا وَرُبمَا كَانَ الَّذِي جرى عَلَيْهِ من المحنة سَببا لخير إِرَادَة الله بهَا فِي غير تِلْكَ الْبَلدة كَمَا جرى لهَذِهِ السَّوْدَاء أخرجتها فتْنَة الوشاح إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام ورؤية النَّبِي سيد الْأَنَام قَالَ الله تَعَالَى {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} وَفِيه فضل الْهِجْرَة من دَار الْكفْر
85 - (بابُ نَوْمِ الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نوم الرِّجَال فِي الْمَسْجِد أَي: جَوَاز ذَلِك، فَإِن قلت: لِمَ مَا قَالَ نوم الرجل مثل مَا قَالَ فِي الْبَاب السَّابِق نوم الْمَرْأَة على الْإِفْرَاد؟ قلت: أما الْإِفْرَاد هُنَاكَ فلأجل أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ فِي قصَّة امْرَأَة وَاحِدَة، وَأما الْجمع هَهُنَا فَلِأَن الْأَثر الَّذِي ذكره فِي أول هَذَا الْبَاب فِي الْجَمَاعَة، على أَن فِي بعض النّسخ بَاب نوم الرجل. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
وَقَالَ أبُو قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَ النَّبيِّ فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ.
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من قصَّة العرنيين، وَقد تقدم حَدِيثهمْ فِي الطَّهَارَة، وَهَذَا اللَّفْظ أوردهُ مَوْصُولا فِي الْمُحَاربين من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وخفة اللَّام وبالباء الْمُوَحدَة: واسْمه عبد ابْن زيد: (والرهط) مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة. و: (عكل) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف وباللام: قَبيلَة من الْعَرَب. و: (الصّفة) بِضَم الصَّاد وَتَشْديد الْفَاء: مَوضِع مظلل من الْمَسْجِد يأوي إِلَيْهِ الْمَسَاكِين.
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بَكْر كانَ أصحَابُ الصُّفَّةِ الفُقَرَاءُ.(4/197)
هَذَا التَّعْلِيق أول حَدِيث طَوِيل يَأْتِي ذكره فِي بَاب السمر مَعَ الْأَهْل، والضيف، وأوله: حدّثنا أَبُو النُّعْمَان، قَالَ: حدّثنا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان، قَالَ: حدّثنا أبي، قَالَ: حدّثنا أَبُو عُثْمَان عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر: (أَن أَصْحَاب الصّفة كَانُوا نَاسا فُقَرَاء، وَأَن النَّبِي، قَالَ: من كَانَ عِنْده طَعَام اثْنَيْنِ فليذهب بثالث) . الحَدِيث، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ: ابْن أبي بكر الصّديق، و: الصّفة، كَانَت موضعا مظللاً فِي مَسْجِد النَّبِي، كَانَ الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرُونَ الَّذين لَيْسَ لَهُم منزل يسكنونها. وَقيل؛ سموا بأصحاب الصّفة لأَنهم كَانُوا يصفونَ على بَاب الْمَسْجِد، لأَنهم غرباء لَا مأوى لَهُم. قَوْله: (فُقَرَاء) ، ويروى (الْفُقَرَاء) ، بِالْألف وَاللَّام.
100 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن عبيد الله قَالَ حَدثنِي نَافِع قَالَ أَخْبرنِي عبد الله بن عمر أَنه كَانَ ينَام وَهُوَ شَاب أعزب لَا أهل لَهُ فِي مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم قد ذكرُوا غير مرّة وَأما الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم فِي بَاب كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر وَيحيى هُوَ الْقطَّان وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَرِجَاله مَا بَين مصري ومدني (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عبيد الله بن عمر وَترْجم البُخَارِيّ أَيْضا على هَذَا الحَدِيث فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بَاب فضل قيام اللَّيْل وَذكره مطولا وَفِيه " كنت غُلَاما شَابًّا وَكنت أَنَام فِي الْمَسْجِد على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأخرجه مُسلم وَابْن ماجة أَيْضا وَلَفظ مُسلم " كنت أَبيت فِي الْمَسْجِد وَلم يكن لي أهل " وَلَفظ ابْن ماجة " كُنَّا ننام فِي الْمَسْجِد على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ". (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " وَهُوَ شَاب " جملَة اسمية وَقعت حَالا وأعزب صفة للشاب وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عزب بِدُونِ الْألف وَقَالَ الْقَزاز فِي الْجَامِع العزب الَّذِي لَا امْرَأَة لَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة الَّتِي لَا زوج لَهَا كل وَاحِد مِنْهُمَا عزب وعزبة وَقد عزب الرجل يعزب عزوبة فَهُوَ عزب وَلَا يُقَال أعزب ورد أَبُو إِسْحَاق الزّجاج على ثَعْلَب فِي الفصيح فِي قَوْله وَامْرَأَة عزبة فَقَالَ هَذَا خطأ إِنَّمَا يُقَال رجل أعزب وَامْرَأَة عزب وَلَا يثنى وَلَا يجمع وَلَا يؤنث لِأَنَّهُ مصدر قَالَ الشَّاعِر
(يَا من يدل عزبا على عزب ... على فتاة مثل نبراس الذَّهَب)
النبراس بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة الْمِصْبَاح قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه فِي شَرحه الْعَامَّة تَقول عزبة وَهُوَ يجوز فِي المصادر إِذا غلبت على الصّفة حَتَّى جرت مجْرى الْأَسْمَاء وَلَيْسَ بالمختار وَفِي الْمُحكم رجل عزب ومعزابة لَا أهل لَهُ وَامْرَأَة عزبة وعزب وَالْجمع أعزاب وَجمع العازب عزاب والعزب اسْم للْجمع وَكَذَلِكَ العزيب اسْم للْجمع وَقَالَ صَاحب الْمُنْتَهى العزب بِالتَّحْرِيكِ نعت للذّكر وَالْأُنْثَى وَقَالَ الْكسَائي الْعزبَة الَّتِي لَا زوج لَهَا وَالْأول أشهر قَوْله " لَا أهل لَهُ " أَي لِابْنِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قيل العزب هُوَ الَّذِي لَا زوج لَهُ فَمَا فَائِدَة قَوْله " لَا أهل لَهُ " وَأجِيب بِأَنَّهُ للتَّأْكِيد أَو التَّعْمِيم لِأَن الْأَهْل أَعم من الزَّوْجَة قَوْله " فِي مَسْجِد " يتَعَلَّق بقوله " ينَام ". (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ جَوَاز النّوم فِي الْمَسْجِد لغير الْغَرِيب. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَمِمَّنْ رخص فِي النّوم فِيهِ ابْن عمر وَقَالَ " كُنَّا نبيت فِيهِ ونقيل على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَعَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء وَمُحَمّد بن سِيرِين مثله وَهُوَ وَاحِد قولي الشَّافِعِي وَاخْتلف عَن ابْن عَبَّاس فروى عَنهُ أَنه قَالَ " لَا تَتَّخِذُوا الْمَسْجِد مرفدا " وروى عَنهُ أَنه قَالَ " إِن كنت تنام فِيهِ لصَلَاة فَلَا بَأْس " وَقَالَ مَالك لَا أحب لمن لَهُ منزل أَن يبيت فِي الْمَسْجِد ويقيل فِيهِ وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ مَالك " وَقد كَانَ أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبيتُونَ فِي الْمَسْجِد " وَكره النّوم فِيهِ ابْن مَسْعُود وَطَاوُس وَمُجاهد وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَقد سُئِلَ سعيد بن الْمسيب وَسليمَان بن يسَار عَن النّوم فِيهِ فَقَالَا كَيفَ تسْأَلُون عَنْهَا وَقد كَانَ أهل الصّفة ينامون فِيهِ وهم قوم كَانَ مسكنهم الْمَسْجِد وَذكر الطَّبَرِيّ عَن الْحسن قَالَ رَأَيْت(4/198)
عُثْمَان بن عَفَّان نَائِما فِيهِ لَيْسَ حوله أحد وَهُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَقد نَام فِي الْمَسْجِد جمَاعَة من السّلف بِغَيْر مَحْذُور للِانْتِفَاع بِهِ فِيمَا يحل كَالْأَكْلِ وَالشرب وَالْجُلُوس وَشبه النّوم من الْأَعْمَال وَالله أعلم
101 - (حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أبي سهل بن حَازِم عَن سعد قَالَ جَاءَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيت فَاطِمَة فَلم يجد عليا فِي الْبَيْت فَقَالَ أَيْن ابْن عمك قَالَت كَانَ بيني وَبَينه شَيْء فغاضبني فَخرج فَلم يقل عِنْدِي فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لإِنْسَان انْظُر أَيْن هُوَ فجَاء فَقَالَ يَا رَسُول الله هُوَ فِي الْمَسْجِد رَاقِد فجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مُضْطَجع قد سقط رِدَاؤُهُ عَن شقَّه وأصابه تُرَاب فَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمسحه عَنهُ وَيَقُول قُم أَبَا تُرَاب قُم أَبَا تُرَاب) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول قُتَيْبَة بن سعيد وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة الْمدنِي لم يكن بِالْمَدِينَةِ أفقه مِنْهُ بعد مَالك مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث أَبوهُ أَبُو حَازِم واسْمه سَلمَة بِفَتْح اللَّام بن دِينَار الْأَعْرَج. الرَّابِع سُهَيْل بن سعد الصَّحَابِيّ وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَهُوَ إِسْنَاد رباعي وَرُوَاته مدنيون غير شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ بلخي (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة أَيْضا وَأخرجه فِي فضل عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا عَن القعْنبِي وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَيْن ابْن عمك " أَرَادَ بِهِ عَليّ بن أبي طَالب وَفِي الْحَقِيقَة ابْن عَم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا اخْتَار هَذِه الْعبارَة وَلم يقل أَيْن زَوجك أَو أَيْن عَليّ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهم أَنه جرى بَينهمَا شَيْء فَأَرَادَ استعطافها عَلَيْهِ بِذكرِهِ الْقَرَابَة النسبية الَّتِي بَينهمَا قَوْله " فغاضبني " من بَاب المفاعلة الْمَوْضُوع لمشاركة اثْنَيْنِ قَوْله " فَلم يقل " بِكَسْر الْقَاف من القيلولة والقيلولة نوم نصف النَّهَار ذكره ابْن درسْتوَيْه وَفِي الفصيح (قلت) من القائلة قيلولة وَزعم الزَّمَخْشَرِيّ أَن الْهَاء فِي القائلة تدل على السَّاعَة كَقَوْلِهِم الهاجرة وَفِي المصادر للفراء (قلت) وَأَنا أقيل قيلا وَمَقِيلا وقيلولة وقائلة وَفِي نَوَادِر اللحياني أَنا قَائِل وَالْجمع قَائِلُونَ وقيال وَفِي الْمُخَصّص قوم قيل وَفِي الصِّحَاح قيل بِالتَّخْفِيفِ مثل صَاحب وَصَحب قَوْله " وَهُوَ مُضْطَجع " جملَة اسمية وَقعت حَالا وَلَكِن فِي الْكَلَام مُقَدّر تَقْدِيره فجَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْمَسْجِد وَرَآهُ وَهُوَ مُضْطَجع وَكَذَلِكَ قَوْله " قد سقط رِدَاؤُهُ " جملَة حَالية قَوْله " عَن شقَّه " أَي عَن جَانِبه قَوْله " أَبَا تُرَاب " حذف مِنْهُ حرف النداء وَالتَّقْدِير يَا أَبَا تُرَاب (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام) الأول فِيهِ جَوَاز دُخُول الْوَالِد فِي بَيت وَلَده بِغَيْر إِذن زَوجهَا. الثَّانِي فِيهِ استعطاف الشَّخْص على غَيره بِذكر مَا بَينهمَا من الْقَرَابَة. الثَّالِث فِيهِ إِبَاحَة النّوم فِي الْمَسْجِد لغير الْفُقَرَاء ولغير الْغَرِيب وَكَذَا القيلولة فِي الْمَسْجِد فَإِن عليا لم يقل عِنْد فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ونام فِي الْمَسْجِد وَفِي كتاب الْمَسَاجِد لأبي نعيم من حَدِيث بشر بن جبلة عَن أبي الْحسن عَن عَمْرو بن دِينَار عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه يرفعهُ " لَا تمنعوا القائلة فِي الْمَسْجِد مُقيما وَلَا ضيفا ". الرَّابِع فِيهِ الممازحة للغاضب بالتكنية بِغَيْر كنية إِذا كَانَ ذَلِك لَا يغضبه بل يؤنسه. الْخَامِس فِيهِ مدارة الصهر وتسلية أمره فِي غيابه. السَّادِس فِيهِ جَوَاز التكنية بِغَيْر الْوَلَد فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كناه أَبَا تُرَاب وَفِي البُخَارِيّ فِي كتاب الاسْتِئْذَان مَا كَانَ لعَلي اسْم أحب إِلَيْهِ من أبي تُرَاب وَإنَّهُ كَانَ يفرح إِذا دعِي بهَا. السَّابِع فِيهِ الْفَضِيلَة الْعَظِيمَة لعَلي بن أبي طَالب كرم الله وَجهه
244201 - ح دّثنا يُوسُفُ بنُ عِيسَى قَالَ حدّثنا ابنُ فُضَيْلٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبي حازِمٍ عَنْ أبي(4/199)
هُرَيْرَةَ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أصْحَابِ الصفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ ومِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ.
يُوسُف بن عِيسَى هُوَ الْمروزِي سبق فِي بَاب من تَوَضَّأ من الْجَنَابَة، وَابْن فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ مُحَمَّد بن فُضَيْل بن غَزوَان أَبُو عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة، وَأَبوهُ فُضَيْل مر فِي بَاب التستر فِي الْغسْل، وَأَبُو حَازِم هُوَ سلمَان الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ أكبر من أبي حَازِم الَّذِي قبله فِي السن واللقاء، وَإِن كَانَا جَمِيعًا مدنيين تابعيين ثقتين، وَيحْتَاج الْوَاقِف هُنَا أَن يكون على التيقظ لِئَلَّا يَقع التلبيس لأجل التشابه. قَوْله: (لقد رَأَيْت سبعين من أَصْحَاب الصّفة) ، هَؤُلَاءِ الَّذين رَآهُمْ أَبُو هُرَيْرَة غير السّبْعين الَّذين بَعثهمْ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي غَزْوَة بِئْر مَعُونَة وَكَانُوا من أهل الصّفة أَيْضا، لكِنهمْ اسْتشْهدُوا قبل إِسْلَام أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (عَلَيْهِ رِدَاء) هُوَ: مَا يستر النّصْف الْأَعْلَى من الْبدن، والإزار مَا يكسو النّصْف الْأَسْفَل. قَوْله: (إِمَّا إِزَار) أَي: فَقَط، (وَإِمَّا كسَاء) ، على الْهَيْئَة المشروحة فِي الْمَتْن. قَوْله: (قد ربطوا) أَي: الأكسية، فَحذف الْمَفْعُول للْعلم بِهِ. قَوْله: (فَمِنْهَا) أَي: فَمن الأكسية بِاعْتِبَار أَن الكساء جنس. قَوْله: (فيجمعه بِيَدِهِ) ، أَي: الْوَاحِد مِنْهُم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ زِيَادَة وَهِي: إِن ذَلِك فِي حَال كَونهم فِي الصَّلَاة.
95 - (بابُ الصَّلاَةِ إذَا قَدِمَ منْ سَفَرٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة إِذا قدم الرجل من سفر، وغالب الْأَبْوَاب فِي هَذَا الْموضع فِيمَا يتَعَلَّق بالمساجد فَلَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة طلب وُجُوه المناسبات، فِيهَا.
وَقَالَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ كانَ النبيُّ إِذَا قَدِمَ منْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَصَلَّي فيهِ.
هَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ مُسْندًا فِي غَزْوَة تَبُوك، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل يرويهِ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد ابْن كَعْب بن مَالك: أَن عبد ابْن كَعْب بن مَالك، وَكَانَ قَائِد كَعْب من بنيه حِين عمي، قَالَ: سَمِعت كَعْب بن مَالك يحدثني تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك ... الحَدِيث بِطُولِهِ، يَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى، وَفِيه: (وَأصْبح رَسُول الله قادماً، وَكَانَ إِذا قدم من سفر بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جلس للنَّاس) الحَدِيث، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
[344301 ح دّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدّثنا مِسْعَرٌ قَالَ حدّثنا مُحَارِبُ بنُ دِثارٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أتَيْتُ النبيَّ وهْوَ فِي المَسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ أَراهُ قَالَ ضُحىً فَقَالَ صَلِّ ركْعَتَين وكانَ لِي علَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي. (الحَدِيث 344 أَطْرَافه فِي: 1081، 7902، 9032، 5832، 4932، 6042، 0742، 3062، 4062، 8172، 1682، 7692، 7803، 9803، 0903، 2504، 9705، 0805، 3425، 4425، 5425، 6425، 7425، 7635، 7836) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي بَيَان الصَّلَاة عِنْد الْقدوم من السّفر، ومشروعية هَذِه الصَّلَاة أَعم من أَن تكون بِفِعْلِهِ، وَأَن تكون بقوله: فَبين الأول: بِالْحَدِيثِ الْمُعَلق، وَالثَّانِي: بِحَدِيث جَابر هَذَا. وَقَالَ بَعضهم: ذكر حَدِيث جَابر بعد الْمُعَلق ليجمع بَين فعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأمره، فَلَا يظنّ أَن ذَلِك من خَصَائِصه. قلت: قَوْله: فَلَا يظنّ أَن ذَلِك من خَصَائِصه، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يشْعر أَن كل فعل يصدر مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يظنّ فِيهِ أَنه من خَصَائِصه، وَلَيْسَ كَذَلِك. فَإِن مَوَاضِع الْخُصُوص لَهَا قَرَائِن تدل على ذَلِك.
وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: مَا وَجه دلَالَته على التَّرْجَمَة؟ قلت: هَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من مطول ذكره فِي كتاب الْبيُوع وَغَيره، وَفِيه أَنه قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي، فِي غزَاة وَاشْترى مني جملا بأوقية، ثمَّ قدم رَسُول ا، قبلي وقدمت بِالْغَدَاةِ(4/200)
فَوَجَدته على بَاب الْمَسْجِد، قَالَ: الْآن قدمت؟ قلت: نعم، قَالَ: فَادْخُلْ فصل رَكْعَتَيْنِ. قلت: هَذَا فِي الْحَقِيقَة وَجه التَّرْجَمَة على مَا ذَكرْنَاهُ، وَلكنه اقْتصر على مُجَرّد النَّقْل وَلم يوفِ حق الْكَلَام. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَلَيْسَ فِيهِ مَا بوب عَلَيْهِ هَذَا لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: إِن جَابِرا لم يقدم من سفر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يشْعر بذلك. قلت: هَذَا الْكَلَام عَجِيب، وَكَيف هَذَا والْحَدِيث مُخْتَصر من مطول وَفِيه التَّصْرِيح بقدومه من السّفر؟ وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي مثل هَذَا على الإحالة على أصل الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: خَلاد على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، مر فِي بَاب من بدا بشقه الْأَيْمن فِي الْغسْل. الثَّانِي: مسعر، بِكَسْر الْمِيم، مر فِي بَاب الْوضُوء بِمد. الثَّالِث: محَارب، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبكسر الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن دثاء، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة وبالراء: السدُوسِي، قَاضِي الْكُوفَة. الرَّابِع: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: من أَفْرَاد البُخَارِيّ خَلاد بن يحيى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي سَبْعَة عشر موضعا: هُنَا عَن خَلاد بن يحيى، وَفِي الاستقراض كَذَلِك، وَفِي الْهِبَة عَن ثَابت بن مُحَمَّد، وَفِي الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الاستقراض عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي الْهِبَة عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي الشَّفَاعَة فِي وضع الْيَدَيْنِ، وَفِي الشُّرُوط فِي الْجِهَاد فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِي النِّكَاح فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِي النَّفَقَات والدعوات. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن جواس وَفِيه وَفِي الْبيُوع عَن عبيد ابْن معَاذ، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَمُحَمّد بن عبد ابْن يزِيد، وَفِي السّير عَن عَمْرو بن يزِيد.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) ، جملَة حَالية. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظن، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى محَارب. وَهَذَا كَلَام مدرج أَعنِي قَوْله: (قَالَ مسعر أرَاهُ قَالَ: ضحى) . قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي. قَوْله: (وَكَانَ لي عَلَيْهِ دين) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ. (وَكَانَ لَهُ) ، أَي: لجَابِر عَلَيْهِ أَي على النَّبِي، وَهَذَا الدّين كَانَ ثمن جمل جَابر، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ الْتِفَات، قلت: الِالْتِفَات لَا يَجِيء إلاَّ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ لَا مُطلقًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه الصَّلَاة مَقْصُودَة للقدوم من السّفر لَا أَنَّهَا تَحِيَّة الْمَسْجِد. وَفِيه: اسْتِحْبَاب قَضَاء الدّين زَائِدا وَهُوَ من بَاب الْمُرُوءَة وَسَيَجِيءُ فَوَائِد هَذَا الحَدِيث فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.
95 - (بابُ الصَّلاَةِ إذَا قَدِمَ منْ سَفَرٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة إِذا قدم الرجل من سفر، وغالب الْأَبْوَاب فِي هَذَا الْموضع فِيمَا يتَعَلَّق بالمساجد فَلَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة طلب وُجُوه المناسبات، فِيهَا.
وَقَالَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ كانَ النبيُّ إِذَا قَدِمَ منْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَصَلَّي فيهِ.
هَذَا التَّعْلِيق ذكره البُخَارِيّ مُسْندًا فِي غَزْوَة تَبُوك، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل يرويهِ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد ابْن كَعْب بن مَالك: أَن عبد ابْن كَعْب بن مَالك، وَكَانَ قَائِد كَعْب من بنيه حِين عمي، قَالَ: سَمِعت كَعْب بن مَالك يحدثني تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك ... الحَدِيث بِطُولِهِ، يَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى، وَفِيه: (وَأصْبح رَسُول الله قادماً، وَكَانَ إِذا قدم من سفر بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جلس للنَّاس) الحَدِيث، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
[344301 ح دّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدّثنا مِسْعَرٌ قَالَ حدّثنا مُحَارِبُ بنُ دِثارٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أتَيْتُ النبيَّ وهْوَ فِي المَسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ أَراهُ قَالَ ضُحىً فَقَالَ صَلِّ ركْعَتَين وكانَ لِي علَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي. (الحَدِيث 344 أَطْرَافه فِي: 1081، 7902، 9032، 5832، 4932، 6042، 0742، 3062، 4062، 8172، 1682، 7692، 7803، 9803، 0903، 2504، 9705، 0805، 3425، 4425، 5425، 6425، 7425، 7635، 7836) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة فِي بَيَان الصَّلَاة عِنْد الْقدوم من السّفر، ومشروعية هَذِه الصَّلَاة أَعم من أَن تكون بِفِعْلِهِ، وَأَن تكون بقوله: فَبين الأول: بِالْحَدِيثِ الْمُعَلق، وَالثَّانِي: بِحَدِيث جَابر هَذَا. وَقَالَ بَعضهم: ذكر حَدِيث جَابر بعد الْمُعَلق ليجمع بَين فعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأمره، فَلَا يظنّ أَن ذَلِك من خَصَائِصه. قلت: قَوْله: فَلَا يظنّ أَن ذَلِك من خَصَائِصه، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يشْعر أَن كل فعل يصدر مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يظنّ فِيهِ أَنه من خَصَائِصه، وَلَيْسَ كَذَلِك. فَإِن مَوَاضِع الْخُصُوص لَهَا قَرَائِن تدل على ذَلِك.
وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: مَا وَجه دلَالَته على التَّرْجَمَة؟ قلت: هَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من مطول ذكره فِي كتاب الْبيُوع وَغَيره، وَفِيه أَنه قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي، فِي غزَاة وَاشْترى مني جملا بأوقية، ثمَّ قدم رَسُول ا، قبلي وقدمت بِالْغَدَاةِ فَوَجَدته على بَاب الْمَسْجِد، قَالَ: الْآن قدمت؟ قلت: نعم، قَالَ: فَادْخُلْ فصل رَكْعَتَيْنِ. قلت: هَذَا فِي الْحَقِيقَة وَجه التَّرْجَمَة على مَا ذَكرْنَاهُ، وَلكنه اقْتصر على مُجَرّد النَّقْل وَلم يوفِ حق الْكَلَام. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَلَيْسَ فِيهِ مَا بوب عَلَيْهِ هَذَا لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: إِن جَابِرا لم يقدم من سفر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يشْعر بذلك. قلت: هَذَا الْكَلَام عَجِيب، وَكَيف هَذَا والْحَدِيث مُخْتَصر من مطول وَفِيه التَّصْرِيح بقدومه من السّفر؟ وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي مثل هَذَا على الإحالة على أصل الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: خَلاد على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، مر فِي بَاب من بدا بشقه الْأَيْمن فِي الْغسْل. الثَّانِي: مسعر، بِكَسْر الْمِيم، مر فِي بَاب الْوضُوء بِمد. الثَّالِث: محَارب، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبكسر الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن دثاء، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة وبالراء: السدُوسِي، قَاضِي الْكُوفَة. الرَّابِع: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: من أَفْرَاد البُخَارِيّ خَلاد بن يحيى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي سَبْعَة عشر موضعا: هُنَا عَن خَلاد بن يحيى، وَفِي الاستقراض كَذَلِك، وَفِي الْهِبَة عَن ثَابت بن مُحَمَّد، وَفِي الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الاستقراض عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي الْهِبَة عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي الشَّفَاعَة فِي وضع الْيَدَيْنِ، وَفِي الشُّرُوط فِي الْجِهَاد فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِي النِّكَاح فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِي النَّفَقَات والدعوات. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن جواس وَفِيه وَفِي الْبيُوع عَن عبيد ابْن معَاذ، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَمُحَمّد بن عبد ابْن يزِيد، وَفِي السّير عَن عَمْرو بن يزِيد.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) ، جملَة حَالية. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظن، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى محَارب. وَهَذَا كَلَام مدرج أَعنِي قَوْله: (قَالَ مسعر أرَاهُ قَالَ: ضحى) . قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي. قَوْله: (وَكَانَ لي عَلَيْهِ دين) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ. (وَكَانَ لَهُ) ، أَي: لجَابِر عَلَيْهِ أَي على النَّبِي، وَهَذَا الدّين كَانَ ثمن جمل جَابر، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ الْتِفَات، قلت: الِالْتِفَات لَا يَجِيء إلاَّ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ لَا مُطلقًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذِه الصَّلَاة مَقْصُودَة للقدوم من السّفر لَا أَنَّهَا تَحِيَّة الْمَسْجِد. وَفِيه: اسْتِحْبَاب قَضَاء الدّين زَائِدا وَهُوَ من بَاب الْمُرُوءَة وَسَيَجِيءُ فَوَائِد هَذَا الحَدِيث فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.
06 - (بَاب إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المسْجِدَ فَليرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَن يَجْلِسَ)
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: إِذا دخل ... الخ، والنسخ مُخْتَلفَة فِيهِ، فَفِي بَعْضهَا مثل مَا ذكرنَا، وَفِي بَعْضهَا: بَاب إِذا دخل الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا: إِذا دخل الْمَسْجِد فليركع قبل أَن يجلس، وَلما كَانَت كلمة: إِذا، هُنَا بِمَعْنى الشَّرْط دخل فِي جوابها: الْفَاء.
444401 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عامرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزَبَيْرِ عنْ عَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ عنْ أبي قَتَادَةَ السَّلمِيِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ قَالَ: إِذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنُ يَجْلِسَ. (الحَدِيث 444 طرفه فِي: 3611) .
التَّرْجَمَة وَمتْن الحَدِيث سَوَاء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد ابْن يُوسُف التنيسِي، من أَفْرَاد البُخَارِيّ. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: عَامر بن عبد ابْن الزبير بن الْعَوام الْقرشِي الْمدنِي أَبُو الْحَارِث، بِالْمُثَلثَةِ، كَانَ عَالما عابداً، مر فِي بَاب إِثْم من كذب. الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن سليم، بِضَم السِّين: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ الْمدنِي. الْخَامِس: أَبُو قَتَادَة، واسْمه: الْحَارِث، بِالْمُثَلثَةِ: ابْن ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة وبالياء(4/201)
الْمُشَدّدَة: السّلمِيّ، بِفَتْح السِّين وَاللَّام كليهمَا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (جَامع الْأُصُول) : وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث يكسرون اللَّام لِأَنَّهُ نِسْبَة إِلَى: سَلمَة، بِكَسْر اللَّام، فَارس رَسُول ا، رُوِيَ لَهُ مائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة عشر، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَخمسين.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْإِسْنَاد كُله مدنِي مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مكي بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى والقعنبي وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ، وَعَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن الْعَبَّاس بن عُثْمَان عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن مَالك، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ شيخ يُقَال لَهُ: سعيد بن عِيسَى عَن عبد ابْن إِدْرِيس عَن زَكَرِيَّا عَن عَامر عَن عبد ابْن الزبير عَن أبي قَتَادَة وَلم يُتَابع عَلَيْهِ، وَسَعِيد هَذَا ضَعِيف، وَلَيْسَ هُوَ من حَدِيث زَكَرِيَّا وَلَا من حَدِيث الشّعبِيّ، وَالْمَحْفُوظ قَول مَالك وَمن تَابعه. وَقَالَ سُهَيْل بن أبي صَالح:: عَن عَامر بن عبد ابْن الزبير عَن عَمْرو بن سليم عَن جَابر بن عبد ا، فَوَهم فِي ذكره جَابِرا. وَقَالَ الطوسي فِي (الْأَحْكَام) ، وَالتِّرْمِذِيّ فِي (الْجَامِع) : حَدِيث سُهَيْل غير مَحْفُوظ. وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدِيث سُهَيْل خطأ. وَقَالَ ابْن مَاجَه: رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن سعيد عَن عَامر عَن أبي قَتَادَة وَهُوَ وهم. وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن أبي قَتَادَة رَفعه بِزِيَادَة: (قبل أَن يجلس أَو يستخبر) . وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) زِيَادَة من طَرِيق حَسَنَة: (أعْطوا الْمَسَاجِد حَقّهَا. قيل: يَا رَسُول اوما حَقّهَا؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) . وَزَاد أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: (وَإِذا دخل بَيته فَلَا يجلس حَتَّى يرْكَع رَكْعَتَيْنِ، فَإِن اعز وَجل جَاعل لَهُ من ركعتيه فِي بَيته خيرا) . وَقَالَ إِسْنَاده مُنكر، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي: قَالَ البُخَارِيّ: هَذِه الزِّيَادَة لَا أصل لَهَا، وَأنكر ذَلِك ابْن الْقطَّان. وَزعم أَنه لَا يَصح نسبته إِلَيْهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فليركع) أَي: فَليصل، أطلق الْجُزْء وَأَرَادَ الْكل. فَإِن قلت: الشَّرْط سَبَب للجزاء، فَمَا السَّبَب هَهُنَا؟ أهوَ الرُّكُوع أَو الْأَمر بِالرُّكُوعِ؟ قلت: إِن أُرِيد بِالْأَمر تعلق الْأَمر فَهُوَ الْجَزَاء، وَإِلَّا فالجزاء هُوَ لَازم الْأَمر، وَهُوَ الرُّكُوع، وَالْمرَاد من الرَّكْعَتَيْنِ تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَلَا يتَأَدَّى هَذَا بِأَقَلّ من رَكْعَتَيْنِ لِأَن هَذَا الْعدَد لَا مَفْهُوم لأكثره بالِاتِّفَاقِ، وَاخْتلف فِي أَقَله، وَالصَّحِيح اعتبارهما.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: اتّفق أَئِمَّة الْفَتْوَى أَنه مَحْمُول على النّدب والإرشاد مَعَ استحبابهم الرُّكُوع لكل من دخل الْمَسْجِد لما رُوِيَ: أَن كبار أَصْحَاب رَسُول الله يدْخلُونَ الْمَسْجِد ثمَّ يخرجُون وَلَا يصلونَ، وَأوجب أهل الظَّاهِر فرضا على كل مُسلم دَاخل فِي وَقت تجوز فِيهِ الصَّلَاة الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: وَاجِب فِي كل وَقت، لِأَن فعل الْخَيْر لَا يمْنَع مِنْهُ إلاَّ بِدَلِيل معَارض لَهُ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: من دخل الْمَسْجِد فِي أَوْقَات النَّهْي فَلَيْسَ بداخل فِي أمره بِالرُّكُوعِ عِنْد دُخُوله الْمَسْجِد، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِي عدم الْوُجُوب بقوله للَّذي رَآهُ يتخطى: إجلس فقد آذيت، وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ. فَقَالَ السفاقسي: وفقهاء الْأَمْصَار حملُوا هَذَا على النّدب لقَوْله للَّذي سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة: (هَل على غَيرهَا؟ قَالَ: إلاَّ أَن تطوع) . وَلَو قُلْنَا بوجوبهما لحرم على الْمُحدث الْحَدث الْأَصْغَر دُخُول الْمَسْجِد حَتَّى يتَوَضَّأ، وَلَا قَائِل بِهِ، فَإِذا جَازَ دُخُول الْمَسْجِد على غير وضوء لزم مِنْهُ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ سجودها عِنْد دُخُوله، فَإِن قصد دُخُول الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ سنة بِإِجْمَاع، فَإِن دخل وَقت كَرَاهَة يكره لَهُ أَن يُصَلِّيهمَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الشَّافِعِي، ومذهبه الصَّحِيح أَن لَا كَرَاهَة. وَا أعلم. وَقَالَ عِيَاض: وَظَاهر مَذْهَب مَالك أَنَّهُمَا من النَّوَافِل. وَقيل: من السّنَن، فَإِن دخل مجتازاً فَهَل يُؤمر بهما؟ خفف فِي ذَلِك مَالك، وَعَن بعض أَصْحَاب مَالك: إِن من تكَرر دُخُوله الْمَسْجِد سقطتا عَنهُ، وَاسْتدلَّ بَعضهم بقوله: (قبل أَن يجلس) ، بأه إِذا خَالف وَجلسَ لَا يشرع لَهُ التَّدَارُك، ورد هَذَا بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي ذَر: (أَنه دخل الْمَسْجِد فَقَالَ لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أركعت رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، ثمَّ قَالَ: قُم فَارْكَعْهُمَا) . ترْجم عَلَيْهِ ابْن حبَان بَاب تَحِيَّة(4/202)
الْمَسْجِد لَا تفوت بِالْجُلُوسِ. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: يحْتَمل أَن يُقَال: وقتهما قبل الْجُلُوس وَقت فَضِيلَة وَبعده وَقت جَوَاز، أَو يُقَال: وقتهما قبله أَدَاء وَبعده قَضَاء، وَيحْتَمل أَن يحمل مشروعيتهما بعد الْجُلُوس على مَا إِذا لم يطلّ الْفَصْل.
16 - (بابُ الحَدَثِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحَدث الْحَاصِل فِي الْمَسْجِد، وَالْمرَاد مِنْهُ الْحَدث الناقض للْوُضُوء: كَالرِّيحِ وَنَحْوه، وَقد قيل: المُرَاد مِنْهُ فِي الْحَدث أَعم من ذَلِك، وَحكى بَعضهم هَذَا ثمَّ فسره بقوله: أَي مَا لم يحدث سوءا، ثمَّ قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم: (مَا لم يحدث فِيهِ، مَا لم يؤذ فِيهِ) ، على أَن الثَّانِيَة تَفْسِير للأولى. قلت: لَا نسلم أَن الثَّانِيَة تَفْسِير للأولى لعدم الْإِبْهَام. غَايَة مَا فِي الْبَاب ذكر فِيهِ شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: حدث الْوضُوء، وَالْآخر: حدث الْإِثْم، على أَن مَالِكًا وَغَيره قد فسروا الْحَدث بِنَقْض الْوضُوء، كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: قد ذكر ابْن حبيب عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه سمع عبد ابْن أبي أوفى يَقُول: هُوَ حدث الْإِثْم. قلت: لَا مُنَافَاة بَين التفسيرين لِكَوْنِهِمَا مصرحين فِي يرواية مُسلم، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ مقتصرة على تَفْسِير مَالك وَغَيره، وَلِهَذَا فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: (مَا لم يؤذ بِحَدَث فِيهِ) ، فَهَذِهِ تصرح أَن المُرَاد من الْأَذَى هُوَ الْحَدث الناقض للْوُضُوء وَعَن هَذَا قَالُوا: إِن رِوَايَة الْجُمْهُور: مَا لم يحدث، فِي الحَدِيث بِالتَّخْفِيفِ، من: الإحداث، لَا بِالتَّشْدِيدِ من: التحديث، كَمَا رَوَاهُ بَعضهم، وَلَيْسَت بصحيحة، وَلِهَذَا قَالَ السفاقسي: لم يذكر التَّشْدِيد أحد. [/ بلشر
544401 - حدّثنا عَبْدُ ابنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأَعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رسولَ الله قَالَ إِنَّ المَلاَئِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أحدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يحْدِثْ تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن المُرَاد من قَوْله: (مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صلى فِيهِ) هُوَ الْمَسْجِد، يدل على ذَلِك رِوَايَة البُخَارِيّ فِيمَا يتَعَلَّق بالمساجد على مَا يَأْتِي، وَهِي: (فَإِن أحدكُم إِذا تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء وأتى الْمَسْجِد لَا يُرِيد إلاَّ الصَّلَاة لم يخط خطْوَة إِلَّا رَفعه ابها دَرَجَة وَحط عَنهُ بهَا خَطِيئَة حَتَّى يدْخل الْمَسْجِد، فَإِذا دخل الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة مَا كَانَت تحبسه، وَتصلي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ، اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، اللَّهُمَّ ارحمه مَا لم يؤذ بِحَدَث فِيهِ) . وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَعلم أَن المُرَاد بقوله: (فِي مُصَلَّاهُ) هُوَ الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ فِي الْمَسْجِد، وَإِن كَانَ بِحَسب اللُّغَة يُطلق على الْمُصَلِّي الَّذِي فِي غير الْمَسْجِد.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة قذ ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة بعْدهَا النُّون: عبد ابْن ذكْوَان، والأعرج هُوَ: عبد ابْن هُرْمُز.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْمَلَائِكَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من هَذَا الْوَجْه، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي رَافع الصَّائِغ وَمُحَمّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة، وَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (إِن الْمَلَائِكَة تصلي) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني بِزِيَادَة: إِن، وَفِي رِوَايَة غَيره: الْمَلَائِكَة، بِدُونِ: أَن قَالَ بَعضهم: المُرَاد بِالْمَلَائِكَةِ أَو السيارة أَو أَعم من ذَلِك. قلت: الْمَلَائِكَة جمع محلى بِاللَّامِ فَيُفِيد الإستغراق. قَوْله: (فِي مُصَلَّاهُ) ، بِضَم الْمِيم: وَهُوَ اسْم الْمَكَان. قَوْله: (تَقول) بَيَان لقَوْله: (تصلي) وَتَفْسِير لَهُ. قَوْله: (اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) يَعْنِي: يَا ااغفر لَهُ وارحمه، وَالْفرق بَين الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة أَن الْمَغْفِرَة ستر الذُّنُوب، وَالرَّحْمَة إفَاضَة الْإِحْسَان إِلَيْهِ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ السفاقسي: الْحَدث فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة يحرم بِهِ الْمُحدث اسْتِغْفَار الْمَلَائِكَة، وَلما لم يكن للْحَدَث فِيهِ كَفَّارَة ترفع(4/203)
أَذَاهُ كَمَا يرفع الدّفن أَذَى النخامة فِيهِ عُوقِبَ بحرمان الاسْتِغْفَار من الْمَلَائِكَة لما آذاهم بِهِ من الرَّائِحَة الخبيثة. وَقَالَ ابْن بطال: من أَرَادَ أَن تحط عَنهُ ذنُوبه من غير تَعب فليغتنم مُلَازمَة مُصَلَّاهُ بعد الصَّلَاة ليستكثر من دُعَاء الْمَلَائِكَة واستغفارهم لَهُ، فَهُوَ مرجو إجَابَته لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} (الْأَنْبِيَاء: 82) . وَفِيه: بَيَان فَضِيلَة من انْتظر الصَّلَاة مُطلقًا سَوَاء ثَبت فِي مَجْلِسه ذَلِك من الْمَسْجِد أَو تحول إِلَى غَيره. وَفِيه: أَن الْحَدث فِي الْمَسْجِد يبطل ذَلِك، وَلَو اسْتمرّ جَالِسا. وَفِيه: أَن الْحَدث فِي الْمَسْجِد أَشد من النخامة. وَقَالَ الْمَازرِيّ: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى الرَّد على من منع الْمُحدث أَن يدْخل الْمَسْجِد أَو يجلس فِيهِ. قلت: قد اخْتلف السّلف فِي جُلُوس الْمُحدث فِي الْمَسْجِد، فَروِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه خرج من الْمَسْجِد فَبَال ثمَّ دخل، فَتحدث مَعَ أَصْحَابه وَلم يمس مَاء. وَعَن عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، مثله، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَابْن جُبَير، وَكره ابْن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَن يتَعَمَّد الْجُلُوس فِي الْمجْلس على غير وضوء.
26 - (بابُ بُنْيَانِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة بُنيان الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، والبنيان: الْبناء، يُقَال: بنى يَبْنِي بنياً وبنية وَبِنَاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْبُنيان الْحَائِط، يُقَال: بنى فلَان بَيْتا من الْبُنيان، وَبنى على أَهله بِنَاء أَي: زفها، والعامة تَقول: بنى بأَهْله وَهُوَ خطأ.
وَقَالَ أبُو سَعِيدٍ كانَ سَقْفُ المَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.
13
- 50 مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد رَوَاهُ مُسْندًا فِي بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام بِمن حضر: حدّثنا مُسلم، قَالَ: حدّثنا هِشَام عَن يحيى عَن أبي سَلمَة، قَالَ: (سَأَلت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ فَقَالَ: جَاءَت سَحَابَة فمطرت حَتَّى سَالَ السّقف وَكَانَ من جريد النّخل، فأقيمت الصَّلَاة فَرَأَيْت رَسُول الله يسْجد فِي المَاء والطين حَتَّى رَأَيْت أثر الطين فِي جَبهته) . قَوْله: (كَانَ سقف الْمَسْجِد) أَي: سقف مَسْجِد رَسُول ا، فالألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد. وَقَول الْكرْمَانِي: وَأما لجنس الْمَسَاجِد فبعيد. قَوْله: (من جريد النّخل) الجريد: هُوَ الَّذِي يجرد عَنهُ الخوص وَإِن لم يجرد يُسمى سَعَفًا.
وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِناءِ المَسْجِدِ وقالَ أكِنَّ النَّاسَ مِنَ المَطَرِ وَإِيَّاكَ أنْ تُحَمِّرَ أوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.
50
- مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا، وَالْمرَاد من الْمَسْجِد: مَسْجِد رَسُول ا، وَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب أَنه رُوِيَ من حَدِيث نَافِع أَن عبد اأخبره أَن الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله مُبينًا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، فَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَزَاد فِيهِ عمر وبناه على بُنْيَانه فِي عهد رَسُول الله بِاللَّبنِ والجريد، وَأعَاد عمده خشباً. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا. قَوْله: (بِاللَّبنِ) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيُقَال: اللبنة، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي الطوب النيء. قَوْله: (وعمده) ، بِضَم الْعين وَالْمِيم وبفتحهما، جمع الْكَثْرَة لعمود الْبَيْت، وَجمع الْقلَّة: أعمدة. قَوْله: (أكن) فِيهِ أوجه. الأول: أكن، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَفتح النُّون، على صُورَة الْأَمر من الإكنان، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَهِي الْأَظْهر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله قبله: (أَمر عمر) وَقَوله بعده: (وَإِيَّاك) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَولا أَمر بِالْبِنَاءِ وخاطب أحدا بذلك ثمَّ حذره من التحمير والتصفير بقوله: (وَإِيَّاك أَن تحمر أَو تصفر) ، والإكنان من أكننت الشَّيْء أَي: صنته وسترته. وَحكى أَبُو زيد وَالْكسَائِيّ: كننته، من الثلاثي بِمَعْنى: أكننته. وَقَالَ ثَعْلَب فِي (الفصيح) : أكننت الشَّيْء أَي: أخفيته، وكننته إِذا سترته بِشَيْء. وَيُقَال: أكننت الشَّيْء سترته وصنته من الشَّمْس، وأكننته فِي نَفسِي أسررته. وَفِي (كتاب فعل وَافْعل) لأبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: قَالَت تَمِيم: كننت الْجَارِيَة أكنها كُنَّا، بكسرا لكاف، وأكننت الْعلم والسر. وَقَالَت قيس: كننت الْعلم والسر بِغَيْر ألف، وأكننت الْجَارِيَة بِالْألف. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي، فِي (نوادره) : أكنننت السِّرّ، وكننت وَجْهي من الْحر، وكننت سَيفي، قَالَ: وَقد يكون هَذَا بِالْألف أَيْضا. الْوَجْه الثَّانِي: أكن النَّاس، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَتَشْديد النُّون المضمومة: بِلَفْظ الْمُتَكَلّم من الْفِعْل الْمُضَارع، وَقَالَ ابْن التِّين: هَكَذَا روينَاهُ، وَفِي هَذَا الْوَجْه الْتِفَات وَهُوَ أَن عمر أخبر عَن نَفسه ثمَّ الْتفت إِلَى الصَّانِع فَقَالَ: وَإِيَّاك، وَيجوز أَن يكون تجريداً، فَكَأَن عمر بعد أَن أخبر عَن نَفسه جرد عَنْهَا شخصا ثمَّ خاطبه بذلك. الْوَجْه(4/204)
الثَّالِث: قَالَ عِيَاض: كن النَّاس، بِحَذْف الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَتَشْديد النُّون: من كن يكن، وَهُوَ صِيغَة أَمر، وَأَصله أكن بِالْهَمْزَةِ حذفت تَخْفِيفًا على غير قِيَاس. الْوَجْه الرَّابِع: كن، بِضَم الْكَاف، من: كن فَهُوَ مَكْنُون، وَهَذَا لَهُ وَجه، وَلَكِن الرِّوَايَة لَا تساعده. قَوْله: (وَإِيَّاك) ، كلمة تحذير أَي: احذر من أَن تحمر. وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، ومفعول: تحمر، مَحْذُوف تَقْدِيره: إياك تحمير الْمَسْجِد أَو تصفيره، وَمرَاده الزخرفة. وَقد روى ابْن مَاجَه من طَرِيق عَمْرو بن مَيْمُون عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، مَرْفُوعا: (مَا سَاءَ عمل قوم قطّ إلاَّ زخرفوا مَسَاجِدهمْ) . قَوْله: (فتفتن النَّاس) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْفَاء: من فتن يفتن، من بَاب ضرب يضْرب، فتنا وفتوناً إِذا امتحنته، وَضَبطه ابْن التِّين بِضَم تَاء الْخطاب من أفتن، والأصمعي أنكر هَذَا، وَأَبُو عبيد أجَازه، وَقَالَ: فتن وافتن بِمَعْنى، وَهُوَ قَلِيل، والفتنة اسْم وَهُوَ فِي الأَصْل الامتحان والاختبار، ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والقتال والإحراق والإزالة وَالصرْف عَن الشَّيْء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويفتن من الْفِتْنَة، وَفِي بَعْضهَا من التفتين. قلت: إِذا كَانَ من التفتين يكون من بَاب التفعيل، وماضيه: فتن، بتَشْديد التَّاء، وعَلى ضبط ابْن التِّين يكون من بَاب الإفعال وَهُوَ الإفتان بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى كل حَال هُوَ بِفَتْح النُّون لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْمَنْصُوب بِكَلِمَة. أَن.
وَقَالَ أنَسٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَها إِلاَّ قَلِيلاً.
هَذَا التَّعْلِيق مَرْفُوع فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْعَبَّاس حدّثنا سعيد بن عَامر عَن أبي عَامر الخراز قَالَ: قَالَ أَبُو قلَابَة: انطلقنا مَعَ أنس نُرِيد الزاوية، نعني قصر أنس، فمررنا بِمَسْجِد فَحَضَرت صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ أنس: لَو صلينَا فِي هَذَا الْمَسْجِد، فَقَالَ بعض الْقَوْم: نأتي الْمَسْجِد الآخر، فَقَالَ أنس: إِن رَسُول الله قَالَ: (يَأْتِي على النَّاس زمَان يتباهون بالمساجد ثمَّ لَا يعمرونها إلاَّ قَلِيلا، أَو قَالَ: يعمرونها قَلِيلا) . وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي أَيْضا فِي (مُسْنده) ، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حدّثنا مُحَمَّد بن عبد االخزاعي حدّثنا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة وَقَتَادَة عَن أنس: (إِن النَّبِي قَالَ: لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يتباهي النَّاس فِي الْمَسَاجِد) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا، وروى أَبُو نعيم فِي (كتاب الْمَسَاجِد) من حَدِيث مُحَمَّد بن مُصعب القرقساني: عَن حَمَّاد (يتباهى النَّاس بِبِنَاء الْمَسَاجِد) ، وَمن حَدِيث عَليّ بن حَرْب: عَن سعيد بن عَامر عَن الخراز: (يتباهون بِكَثْرَة الْمَسَاجِد) . قَوْله: (يتباهون) ، بِفَتْح الْهَاء من المباهاة وَهِي الْمُفَاخَرَة، وَالْمعْنَى أَنهم يزخرفون الْمَسَاجِد ويزينونها ثمَّ يقعودن فِيهَا ويتمارون ويتباهون وَلَا يشتغلون بِالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالصَّلَاة. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بالمساجد، والسياق يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (إلاَّ قَلِيلا) ، بِالنّصب، وَيجوز الرّفْع من جِهَة النَّحْو، فَإِنَّهُ بدل من ضمير الْفَاعِل.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَوْصُولا عَن ابْن عَبَّاس هَكَذَا مَوْقُوفا، وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا، قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي فَزَارَة عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (مَا أمرت بتشييد الْمَسَاجِد) . قَالَ ابْن عَبَّاس: لتزخرفنها كَمَا زخرفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَأَبُو فَزَارَة اسْمه رَاشد ابْن كيسَان، وَإِنَّمَا اقْتصر البُخَارِيّ على الْمَوْقُوف مِنْهُ وَلم يذكر الْمَرْفُوع مِنْهُ للِاخْتِلَاف على يزِيد بن الْأَصَم فِي وَصله وإرساله، وَيزِيد هَذَا روى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. قَوْله: (لتزخرفنها) أَي: لتزخرفن الْمَسَاجِد، بِضَم الْفَاء وَنون التَّأْكِيد، والضيمر فِيهِ للمذكرين. وَأما اللَّام فِيهِ فقد ذكر الطَّيِّبِيّ فِيهِ وَجْهَيْن. الأول: أَن تكون مَكْسُورَة، وَهِي لَام التَّعْلِيل للنَّفْي قبله، وَالْمعْنَى: مَا أمرت بتشييد الْمَسَاجِد لأجل زخرفتها، والتشييد من شيد يشيد: رفع الْبناء والإحكام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} (النِّسَاء: 87) . الْوَجْه الثَّانِي: فتح اللَّام على أَنَّهَا جَوَاب الْقسم، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا هُوَ الْمُعْتَمد، وَالْأول لم تثبت بِهِ الرِّوَايَة أصلا. قلت: الَّذِي قَالَه الطَّيِّبِيّ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْكَلَام، وَلَا وَجه لمَنعه، وَدَعوى عدم ثُبُوت الرِّوَايَة يحْتَاج إِلَى برهَان. وَمعنى الزخرفة: التزيين، يُقَال: زخرف الرجل كَلَامه إِذا موهه وزينه بِالْبَاطِلِ، والزخرف: الذَّهَب، وَالْمعْنَى هَهُنَا: تمويه الْمَسَاجِد بِالذَّهَب وَنَحْوه كَمَا زخرفت الْيَهُود كنائسهم وَالنَّصَارَى بيعهم. قَالَ الْخطابِيّ: وَإِنَّمَا زخرفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى كنائسها وَبَيْعهَا حِين حرفت الْكتب وبدلتها فضيعوا الدّين وعرجوا على الزخاريف والتزيين. وَقَالَ محيي السّنة: إِنَّهُم زخرفوا الْمَسَاجِد عِنْد مَا بدلُوا(4/205)
دينهم وَأَنْتُم تصيرون إِلَى مثل حَالهم وسيصير أَمركُم إِلَى المراآة بالمساجد والمباهة بتزيينها، وَبِهَذَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا على أَن نقش الْمَسْجِد وتزيينه مَكْرُوه، وَقَول بعض صحابنا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ تَركه أولى وَلَا يجوز من مَال الْوَقْف، وَيغرم الَّذِي يُخرجهُ سَوَاء كَانَ نَاظرا أَو غَيره.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْكَرَاهَة إِذا كَانَ من مَاله دون مَال الْوَقْف؟ قلت: مَا اشْتِغَال الْمُصَلِّي بِهِ، وَإِمَّا إِخْرَاج المَال فِي غير وَجهه.
644 - ح دّثنا عَلَيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ قَالَ حدّثني أبي عنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ قَالَ حدّثنا نافِعٌ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ أخْبَرَهُ أنَّ المَسْجِدَ كانَ عَلى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ مبْنِيًّا باللَّبِنِ وَسَقْفُهُ الجَرِيدُ وَعَمَدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أبُو بَكْرٍ شَيْئاً وَزَادَ فِيهِ عُمَرُوَ بَناهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ والجَرِيدِ وَأَعادَ عُمُدَهُ خَشَباً ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيادَةً كَثِيرَةً وَبَنْىَ جِدَارَهُ بِالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ والقَصَةِ وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسقَّفَهُ بالسَّاجِ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد ابْن جَعْفَر بن نجيح أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ، أَصله مدنِي كَانَ بالعراق. الثَّالِث: أَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد ابْن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة الأقران وَهِي رِوَايَة صَالح عَن نَافِع لِأَنَّهُمَا من طبقَة وَاحِدَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ لِأَن صَالحا ونافعاً كِلَاهُمَا تابعيان. وَفِيه: زَاد الْأصيلِيّ لَفْظَة: ابْن سعد، بعد قَوْله: حدّثنا يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس وَمُجاهد بن مُوسَى وَهُوَ اتم، قَالَا: حدّثنا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (كَانَ على عهد رَسُول ا) أَي: فِي زَمَانه وأيامه. قَوْله: (بِاللَّبنِ) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَكَذَلِكَ معنى الجريد مر عَن قريب. و: (الْعمد) ، بِضَمَّتَيْنِ وفتحتين أَيْضا، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر رَضِي اتعالى عَنهُ) ، يَعْنِي: لم يُغير فِيهِ شَيْئا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان. قَوْله: (وَزَاد فِيهِ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ) ، يَعْنِي: فِي الطول وَالْعرض وَلم يُغير فِي بنائِهِ بل بناه على بينان النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (فِي عهد رَسُول ا) ، إِمَّا صفة للبنيان أَو حَال، وَإِنَّمَا غير عمده لِأَنَّهَا تلفت. قَالَ السُّهيْلي: نخرت عمده فِي خلَافَة عمر فجددها، وَهُوَ معنى قَوْله: (وَأعَاد عمده خشباً) . قَوْله: (ثمَّ غير عُثْمَان) ، يَعْنِي من جِهَة التوسيع وتغيير الْآلَات. قَوْله: (بحجارة منقوشة) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا (بِالْحِجَارَةِ المنقوشة) ، يَعْنِي: بدل اللَّبن. قَوْله: (والقصة) أَي: وبالقصة، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، وَهِي الجص بلغَة أهل الْحجاز. قلت: الجص: لُغَة فارسية معربة وَأَصلهَا: كج، وَفِيه لُغَتَانِ: فتح الْجِيم وَكسرهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل مصر جيراً، وَأهل الْبِلَاد الشامية يسمونه: كلساً. قَوْله: (وَجعل عمده) عطف على قَوْله: (وَبنى جِدَاره) . قَوْله: (وسقفه) بِلَفْظ الْمَاضِي من التسقيف من بَاب التفعيل عطفا على جعل، ويروى بِلَفْظ الِاسْم عطفا على عمده. قَوْله: (بالساج) ، بِالسِّين الْمُهْملَة وبالجيم: وَهُوَ ضرب من الْخشب مَعْرُوف يُؤْتى بِهِ من الْهِنْد وَله قيمَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ قَالَ ابْن بطال: مَا ذكره البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب يدل على أَن السّنة فِي بينيان الْمَسَاجِد الْقَصْد وَترك الغلو فِي تشييدها خشيَة الْفِتْنَة والمباهاة ببنيانها، وَكَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، مَعَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت فِي أَيَّامه وتمكنه(4/206)
من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات، إلاَّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.
قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم: وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه، وَقَول بعض أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
36 - (بابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تعاون النَّاس بَعضهم بَعْضًا فِي بِنَاء الْمَسْجِد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي ذَلِك أجرا، وَمن زَاد فِي عمله فِي ذَلِك زَاد فِي أجره، وَفِي بعض النّسخ: فِي بَاء الْمَسَاجِد، بِلَفْظ الْجمع.
وَقَوْلُ اللَّهِ {مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلَى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أولَئِكَ أنْ يَكونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التَّوْبَة: 71 81) .
13
- 50 كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: ( {مَا كَانَ للْمُشْرِكين إِن يعمروا مَسَاجِد ا} ) إِلَى قَوْله: {المهتدين} (التَّوْبَة: 71 81) وَلم يَقع فِي رِوَايَته لفظ: وَقَول اعز وَجل.
وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَنه لما أسر الْعَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يَوْم بدر، أقبل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فعيرونه بالْكفْر وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، فَقَالَ الْعَبَّاس: مَا لكم تذكرُونَ مساوينا دون محاسننا؟ فَقَالَ لَهُ لي ألكم محَاسِن؟ قَالَ؛ نعم إِنَّا لنعمر الْمَسْجِد الْحَرَام ونحجب الْكَعْبَة ونسقي الْحَاج ونفك العاني، فَأنْزل اتعالى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ بَعضهم فِي تَوْجِيه ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة هَهُنَا وَذكره هَذِه الْآيَة مصير مِنْهُ إِلَى تَرْجِيح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ من أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَذَلِكَ أَن قَوْله تَعَالَى: {مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة: 71 81) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَوَاضِع السُّجُود، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْأَمَاكِن المتخذة لإِقَامَة الصَّلَاة، وعَلى الثَّانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بعمارتها بنيانها، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْإِقَامَة فِيهَا لذكر اتعالى قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا يُنَاسب معنى هَذِه الْآيَة أصلا، وَإِنَّمَا يُنَاسب معنى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با وَالْيَوْم الآخر ... } (التَّوْبَة: 81) الْآيَة، على أَن أحدا من الْمُفَسّرين لم يذكر هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا هَذَا تصرف مِنْهُ بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآن فَلَا يجوز ذَلِك، وَيجب الْإِعْرَاض عَن هَذَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى هَذِه الْآيَة: مَا يَنْبَغِي للْمُشْرِكين با أَن يعمروا مَسَاجِد االتي بنيت على اسْمه وَحده لَا شريك لَهُ، وَمن قَرَأَ مَسْجِد اأراد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام، أشرف الْمَسَاجِد فِي الأَرْض الَّتِي بنى من أول يَوْم على عبَادَة اتعالى وَحده لَا شريك لَهُ، وأسسه خَلِيل الرَّحْمَن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا وهم شاهدون على أنفسهم بالْكفْر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أما الْقِرَاءَة بِالْجمعِ فَفِيهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام؟ وَإِنَّمَا قيل: مَسَاجِد الأنه قبْلَة الْمَسَاجِد كلهَا، وإمامها، فعامره كعامر جَمِيع الْمَسَاجِد، وَلِأَن كل بقْعَة مِنْهُ مَسْجِد.
وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بِهِ جنس الْمَسَاجِد، فَإِذا لم يصلحوا أَن يعمروا جِنْسهَا دخل تَحت ذَلِك أَن لَا يعمروا الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي هُوَ صدر الْجِنْس ومقدمته، وَهُوَ آكِد، لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْكِنَايَة، كَمَا لَو قلت: فلَان لَا يقْرَأ كتب ا، كنت أنفى لقِرَاءَة الْقُرْآن من تصريحك بذلك، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَة من جملَة التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب لَا يطابقها، وَلَو ذكر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با ... } (التَّوْبَة: 81) الْآيَة لَكَانَ أَجْدَر وَأقرب للمطابقة وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف، وَهُوَ أَن يُقَال: إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التعاون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد الْمُعْتَبر الَّذِي فِيهِ الْأجر إِنَّمَا كَانَ للْمُؤْمِنين، وَلم يكن ذَلِك للْكَافِرِينَ، وَإِن كَانُوا بنوا(4/207)
مَسَاجِد ليتعبدوا فِيهَا بعبدتهم الْبَاطِلَة، أَلا ترى أَن الْعَبَّاس رَضِي اتعالى عَنهُ، لما أسر يَوْم بدر وعير بِكُفْرِهِ وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، ادّعى أَنهم كَانُوا يعمرون الْمَسْجِد الْحَرَام، فَبين الْهم ذَلِك أَنه غير مَقْبُول مِنْهُم لكفرهم حَيْثُ أنزل على نبيه الْكَرِيم: {مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة: 71) كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ أنزل فِي حق الْمُسلمين الَّذين يتعاونون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد قَوْله: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با ... } (التَّوْبَة: 81) الْآيَة، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا الْعِمَارَة المعتد بهَا عمَارَة من آمن با، فَجعل عمَارَة غَيرهم كلا عمَارَة حَيْثُ ذكرهَا بِكَلِمَة الْحصْر، وروى عبد بن حميد فِي مُسْنده: حدّثنا يُونُس بن مُحَمَّد حدّثنا صَالح الْمزي عَن ثَابت الْبنانِيّ وَمَيْمُون بن سياه وجعفر بن زيد عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِن عمار الْمَسْجِد هم أهل ا) ، وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار أَيْضا، وَلَا شكّ أَن أهل اهم الْمُؤْمِنُونَ.
744701 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ مُخْتَارٍ قَالَ حدّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِيَ ابنُ عَبَّاس وَلاِبْنِهِ عَلِيّ إنْطَلِقَا إِلى أبي سَعِيدٍ فاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فاحْتَبَي ثُمَّ أنْشَأَ يُحَدِّثُنا حَتَّى أتَى ذِكْرُ بِنَاءِ المسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا نَحْملُ لَبنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتْينِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِي فَنَفَضَ الترَابَ عَنْهُ وقالَ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ. (الحَدِيث 744 طرفه فِي: 2182) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى ظَاهِرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن مُخْتَار أَبُو إِسْحَاق الدّباغ الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقد تقدم. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس بن عبد الْمطلب الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو الْحسن، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، كَانَ مولده لَيْلَة قتل عَليّ بن أبي طَالب فَسمى باسمه وكنى بكنيته، وَكَانَ غَايَة فِي الْعِبَادَة والزهد وَالْعلم وَالْعَمَل وَحسن الشكل والفقهه، وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم ألف رَكْعَة، هُوَ جد السفاح والمنصور الخليفتين، وَكَانَ يدعى: السَّجَّاد، لذَلِك. وَكَانَ لَهُ خَمْسمِائَة أصل زيتون يُصَلِّي كل يَوْم عِنْد أصل كل شَجَرَة رَكْعَتَيْنِ، مَاتَ بعد الْعشْرين وَمِائَة، إِمَّا سنة أَربع عشرَة أَو سبع عشرَة أَو عشر، عَن ثَمَان أَو تسع وَسبعين سنة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي اعنه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن إِسْنَاده كُله بَصرِي لِأَن ابْن عَبَّاس أَقَامَ أَمِيرا على الْبَصْرَة مُدَّة، وَعِكْرِمَة مَوْلَاهُ مَعَه.
ذكر تعدد مَوْضِعه: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (ولابنه) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فَإِذا هُوَ) ، كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، أَي: فَإِذا أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ فِي حَائِط، أَي: بُسْتَان. وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ لَا سقف لَهُ. قَوْله: (يصلحه) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر لقَوْله: هُوَ، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي بَاب الْجِهَاد: (فأتيناه وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِط لَهما يسقيانه) قيل: أَخُوهُ هَذَا لأمه، وَهُوَ قَتَادَة بن النُّعْمَان، ورد بِأَن هَذَا لَا يَصح، لِأَن عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس ولد فِي آخر خلَافَة عَليّ بن أبي طَالب، وَمَات قَتَادَة بن النُّعْمَان قبل ذَلِك فِي أَوَاخِر خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلَيْسَ لأبي سعيد أَخ شَقِيق وَلَا أَخ من أَبِيه وَلَا من أمه إلاَّ قَتَادَة، فَيحْتَمل أَن يكون الْمَذْكُور أَخَاهُ من الرضَاعَة، وَا تَعَالَى أعلم. قَوْله: (فاحتبى) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، يُقَال؛ احتبى الرجل إِذا جمع ظَهره وساقيه بعمامته، وَقد يحتبي بيدَيْهِ. قَوْله: (أنشأ) بِمَعْنى: طفق، وهما من أَفعَال المقاربة وضعا للدلالة على الشُّرُوع فِي الْخَبَر، ويعملان عمل: كَانَ إلاَّ أَن خبرهما يجب أَن يكون جملَة، ويشاركهما فِي هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ: جعل وعلق وَأخذ.
قَوْله: (يحدّثنا) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: أنشأ. قَوْله: (حَتَّى أَتَى) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (حَتَّى إِذا أَتَى) . قَوْله: (بِنَاء الْمَسْجِد) ، أَي: الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، فالألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد. قَوْله: (قَالَ) : أَي أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. قَوْله: (لبنة) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا النُّون: وَهِي الطوب النيء، وانتصابها على أَنَّهَا مفعول: نحمل، وانتصاب(4/208)
الثَّانِيَة بِأَنَّهُ تَأْكِيد لَهَا. قَوْله: (وعمار) أَي: يحمل عمار بن يَاسر لبنتين لبنتين. زَاد معمر فِي رِوَايَته: (لبنة عَنهُ ولبنة عَن رَسُول ا) . وَفِيه زِيَادَة أَيْضا لم يذكرهَا البُخَارِيّ، وَوَقعت عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق خَالِد الوَاسِطِيّ: عَن خَالِد الْحذاء، وَهِي: (فَقَالَ النَّبِي: يَا عمار أَلاَّ تحمل كَمَا يحمل أَصْحَابك؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيد من االأجر) .
قَوْله: (فَرَآهُ النَّبِي) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى عمار. قَوْله: (فنفض التُّرَاب عَنهُ) ، ويروى: (فينفض التُّرَاب عَنهُ) ، وَفِيه التَّعْبِير بِصِيغَة الْمُضَارع فِي مَوضِع الْمَاضِي لاستحضار ذَلِك فِي نفس السَّامع كَأَنَّهُ شَاهده، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَجعل ينفض التُّرَاب عَنهُ) . وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي بَاب الْجِهَاد: (عَن رَأسه) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (وَيْح عمار) ، كلمة: وَيْح، كلمة رَحْمَة كَمَا أَن كلمة: ويل، كلمة عَذَاب. تَقول: وَيْح لزيد وويل لَهُ، برفعهما على الِابْتِدَاء، وَلَك أَن تَقول: ويحاً لزيد وويلاً لَهُ، فتنصبهما بإضمار فعل، وَأَن تَقول: وَيحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بِالْإِضَافَة فتنصب أَيْضا بإضمار الْفِعْل، وَهَهُنَا بِنصب الْحَاء لَا غير. قَوْله: (الفئة) هِيَ الْجَمَاعَة: و: (الباغية) هم الَّذين خالفوا الإِمَام وَخَرجُوا عَن طَاعَته بِتَأْوِيل بَاطِل ظنا بمتبوع مُطَاع. قَوْله: (يَدعُوهُم) أَي: يَدْعُو عمار الفئة الباغية وهم الَّذين قَتَلُوهُ فِي وقْعَة صفّين، وأعيد الضَّمِير إِلَيْهِم، وهم غير مذكورين صَرِيحًا. قَوْله: (إِلَى الْجنَّة) أَي: إِلَى سَببهَا، وَهِي الطَّاعَة. كَمَا أَن سَبَب النَّار هُوَ الْمعْصِيَة. قَوْله: (ويدعونه إِلَى النَّار) ، أَي: يَدْعُو هَؤُلَاءِ الفئة الباغية عمارًا إِلَى النَّار. فَإِن قيل: كَانَ قتل عمار بصفين، وَكَانَ مَعَ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، وَكَانَ الَّذين قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَة، وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من الصَّحَابَة فَكيف يجوز أَن يَدعُوهُ إِلَى النَّار؟ فَأجَاب ابْن بطال عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا يَصح هَذَا فِي الْخَوَارِج الَّذين بعث إِلَيْهِم عَليّ عماراً يَدعُوهُم إِلَى الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ يَصح فِي أحد من الصَّحَابَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَأَوَّل عَلَيْهِم إلاَّ أفضل التَّأْوِيل. قلت: تبع ابْن بطال فِي ذَلِك الْمُهلب، وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة فِي هَذَا الْجَواب، وَلَكِن لَا يَصح هَذَا، لِأَن الْخَوَارِج إِنَّمَا خَرجُوا على عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، بعد قتل عمار بِلَا خلاف بَين أهل الْعلم بذلك، لِأَن ابْتِدَاء أَمرهم كَانَ عقيب التَّحْكِيم بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَلم يكن التَّحْكِيم إلاَّ بعد انْتِهَاء الْقِتَال بصفين، وَكَانَ قتل عمار قبل ذَلِك قطعا، وَأجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد بالذين يَدعُونَهُ إِلَى النَّار كفار قُرَيْش، وَهَذَا أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن وكريمة وَغَيرهمَا زِيَادَة توضيح بِأَن الضَّمِير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشَّام. وَقَالَ الْحميدِي: لَعَلَّ هَذِه الزِّيَادَة لم تقع للْبُخَارِيّ، أَو وَقعت فحذفها عمدا وَلم يذكرهَا فِي الْجمع. قَالَ: وَقد أخرجهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبرْقَانِي فِي هَذَا الحَدِيث، وَالْجَوَاب الصَّحِيح فِي هَذَا أَنهم كَانُوا مجتهدين ظانين أَنهم يَدعُونَهُ إِلَى الْجنَّة، وَإِن كَانَ فِي نفس الْأَمر خلاف ذَلِك، فَلَا لوم عَلَيْهِم فِي اتِّبَاع ظنونهم، فَإِن قلت: الْمُجْتَهد إِذا أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا أَخطَأ فَلهُ أجر، فَكيف الْأَمر هَهُنَا. قلت: الَّذِي قُلْنَا جَوَاب إقناعي فَلَا يَلِيق أَن يُذكر فِي حق الصَّحَابَة خلاف ذَلِك، لِأَن اتعالى أثنى عَلَيْهِم وَشهد لَهُم بِالْفَضْلِ، بقوله: {كُنْتُم خير أمة أُخرجت للنَّاس} (آل عمرَان: 011) ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هم أَصْحَاب مُحَمَّد.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْفَوَائِد فِيهِ: أَن التعاون فِي بُنيان الْمَسْجِد من أفضل الْأَعْمَال لِأَنَّهُ مِمَّا يجْرِي للْإنْسَان أجره بعد مَوته، وَمثل ذَلِك حفر الْآبَار وَكري الْأَنْهَار وتحبيس الْأَمْوَال التييعم الْعَامَّة نَفعهَا. وَفِيه: الْحَث على أَخذ الْعلم من كل أحد وَإِن كَانَ الْآخِذ أفضل من الْمَأْخُوذ مِنْهُ، أَلا ترى أَن ابْن عَبَّاس مَعَ سَعَة علمه أَمر ابْنه عليا بِالْأَخْذِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ؟ قيل: يحْتَمل أَن يكون إرْسَال ابْن عَبَّاس إِلَيْهِ لطلب علو الْإِسْنَاد، لِأَن أَبَا سعيد أقدم صُحْبَة وَأكْثر سَمَاعا من النَّبِي. قلت: مَعَ هَذَا لَا يُنَافِي ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: أَن الْعَالم لَهُ أَن يتهيأ للْحَدِيث وَيجْلس لَهُ جلْسَة. وَفِيه: ترك التحديث فِي حَالَة المهنة إعظاماً للْحَدِيث وتوقيراً لصحابه. وَهَكَذَا كَانَ السّلف. وَفِيه: أَن للْإنْسَان أَن يَأْخُذ من أَفعَال الْبر مَا يشق عَلَيْهِ إِن شَاءَ كَمَا أَخذ عمار لبنتين. وَفِيه: إكرام الْعَامِل فِي سَبِيل اوالإحسان إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل. وَفِيه: عَلامَة النُّبُوَّة لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يكون فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَفِيه: إصْلَاح الشَّخْص: بِمَا يتَعَلَّق بِأَمْر ديناه كإصلاح بستانه وَكَرمه بِنَفسِهِ وَكَانَ السّلف على ذَلِك لِأَن فِيهِ إِظْهَار التَّوَاضُع وَدفع الْكبر وهما من أفضل الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لعَلي وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أَن عليا لم يكن مصيباً فِي حروبه. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد فِي الْفِتْنَة أمأجور هُوَ أم مأزور؟ إلاَّ بِغَلَبَة الظَّن، وَلَو كَانَ مأّوراً لما استعاذ عمار من الْأجر.(4/209)
وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: رد للْحَدِيث الشَّائِع: (لَا تستعيذوا با من الْفِتَن فَإِن فِيهَا حِصَار المناقين) قلت: ويروى: (لَا تكْرهُوا الْفِتَن) ، وَلَكِن لم يَصح هَذَا، فَإِن عبد ابْن وهب قد سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ؛ إِنَّه بَاطِل.
46 - (بابُ الأَسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ والصُّنَّاعِ فِي أعْوَادِ المِنْبَرِ وَالمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاسْتِعَانَة (بالنجار) على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الَّذِي يعْمل صَنْعَة النجارة. قَوْله: (والصناع) أَي: والاستعانة بالصناع، بِضَم الصَّاد وَتَشْديد النُّون، جمع: صانع وَهُوَ من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ لف وَنشر، فَقَوله: (فِي أَعْوَاد الْمِنْبَر) يتَعَلَّق بالنجار، وَقَوله: (وَالْمَسْجِد) ، يتَعَلَّق بالصناع أَي: والاستعانة بالصناع فِي الْمَسْجِد، أَي فِي بِنَاء الْمَسْجِد. قلت: لَا يَصح ذَلِك من حَيْثُ الْمَعْنى لِأَن النجار دَاخل فِي الصناع، وَشرط اللف والنشر أَن يكون من مُتَعَدد. فَافْهَم.
844801 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلٍ قَالَ بَعَثَ رَسولُ اللَّهِ إِلَى امْرَأَةٍ أنْ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أعْوَاداً أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، واسْمه سَلمَة بن دِينَار، يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم وَهُوَ الثَّالِث: الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ، وَقد مر فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر والسطوح، وَكَذَلِكَ حَدِيثه بأتم مِنْهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن عبد ا. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (إِلَى امْرَأَة) : هِيَ أنصارية، وَقد بَينا الِاخْتِلَاف فِي اسْمهَا. فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر وَكَذَلِكَ فِي اسْم غلامها. قَوْله: (أَن مري) أَن: هَذِه مفسرة بِمَنْزِلَة: أَي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن أصنع الْفلك} (الْمُؤْمِنُونَ: 72) وَيحْتَمل أَن تكون مَصْدَرِيَّة بِأَن يقدر قبلهَا حرف الْجَرّ، وَعَن الْكُوفِيّين إِنْكَار بِأَن، التفسيرية الْبَتَّةَ، ويروى: (مري) بِدُونِ: أَن ومري: أَمر من أَمر يَأْمر، وَالْيَاء عَلامَة الْخطاب للمؤنث. قَوْله: (يعْمل) ، مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (أعواداً) أَي: منبراً مركبا مِنْهَا. قَوْله: (أَجْلِس) ، بِالرَّفْع أَي: أَنا أَجْلِس عَلَيْهَا.
وَهَهُنَا مَسْأَلَة أصولية وَهِي أَن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء أَمر بذلك الشَّيْء أم لَا؟ وَهل الْغُلَام مَأْمُور من قبل رَسُول الله أم لَا؟ وَفِيه الْخلاف، وَالأَصَح عَدمه. وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْبيُوع بِهَذَا الْإِسْنَاد بِتَمَامِهِ، وَهَهُنَا اخْتَصَرَهُ.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز الِاسْتِعَانَة بِأَهْل الصَّنْعَة فِيمَا يَشْمَل الْمُسلمين نَفعه. وَفِيه: التَّقَرُّب إِلَى أهل الْفضل بِعَمَل الْخَيْر.
944901 - ح دّثنا خَلاَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ عنْ أبِيهِ عنْ جابرٍ أنَّ امْرَأَةً قالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ أَلاَّ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ فإِنَّ لي غُلاَماً نَجَّاراً قَالَ إِنْ شِئْتِ فَعَمِلَتِ المِنْبَرَ. (الحَدِيث 944 أَطْرَافه فِي: 819، 5902، 4853، 5853) .
قَالَ الْكرْمَانِي: الحَدِيث لَا يدل على الشق الآخر من التَّرْجَمَة، وَهُوَ؛ ذكر الصناع وَالْمَسْجِد. ثمَّ قَالَ: قلت: إِمَّا أَنه اكْتفى بالنجار والمنبر لِأَن الْبَاقِي يعلم مِنْهُ، وَإِمَّا أَنه أَرَادَ أَن يلْحق إِلَيْهِ مَا يتَعَلَّق بذلك، وَلم يتَّفق لَهُ وَلم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ مَا يدل عَلَيْهِ. قلت: الْجَواب الأول أوجه من الثَّانِي.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: خَلاد، بتفح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: وَهُوَ ابْن يحيى، سبق فِي بَاب الصَّلَاة إِذا قدم من سَفَره. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره نون: الحبشي الْمَكِّيّ الْقرشِي المَخْزُومِي، وَعبد الْوَاحِد هَذَا يروي عَن أَبِيه أَيمن هَذَا، وَأَبوهُ هُوَ الثَّالِث، وَهُوَ يروي عَن جَابر بن عبد ارضي اتعالى عَنْهُمَا وَهُوَ الرَّابِع.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه أخرجه(4/210)
البُخَارِيّ فِي الْبيُوع أَيْضا عَن خَلاد بن يحيى أَيْضا، وَأخرجه فِي عَلامَة النُّبُوَّة عَن أبي نعيم.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَن امْرَأَة) ، هِيَ الَّتِي ذكرت فِي حَدِيث سهل بن سعد الْمَذْكُور آنِفا. قَوْله: (أَلاَ؟) هِيَ مُخَفّفَة مركبة من همزَة الِاسْتِفْهَام و: لَا، النافية، وَلَيْسَت حرف التَّنْبِيه وَلَا حرف التحضيض. قَوْله: (فَإِن لي غُلَاما نجاراً) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِن لي غُلَام نجار) . قَوْله: (إِن شِئْت) ، جَزَاؤُهُ مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن شِئْت عملت، ويروى: (إِن شِئْت فعلت) ، بِلَا حذف. قَوْله: (فَعمِلت) ، أَي: الْمَرْأَة عملت الْمِنْبَر، وَهَذَا إِسْنَاد مجازي، لِأَن الْعَامِل هُوَ الْغُلَام وَهِي الآمرة، وَهُوَ من قبيل قَوْلهم: كسا الْخَلِيفَة الْكَعْبَة. قيل: هَذَا الحَدِيث لَا يدل على الِاسْتِعَانَة، لِأَن هَذِه الْمَرْأَة قَالَت ذَلِك من تِلْقَاء نَفسهَا، أُجِيب: بِأَنَّهَا استعانة بالغلام فِي نجارة الْمِنْبَر.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: قبُول الْبَذْل إِذا كَانَ بِغَيْر سُؤال، واستنجاز الْوَعْد مِمَّن تعلم مِنْهُ الْإِجَابَة، والتقرب إِلَى أهل الْفضل بِعَمَل الْخَيْر. وَقَالَ ابْن بطال. فَإِن قلت: الحديثان متخالفان، فَفِي حَدِيث سهل: أَن النَّبِي سَأَلَ الْمَرْأَة أَن تَأمر عَبدهَا بِعَمَل الْمِنْبَر، وَفِي حَدِيث جَابر: أَن الْمَرْأَة سَأَلت النَّبِي ذَلِك. قلت: يحْتَمل أَن تكون الْمَرْأَة بدأت بِالْمَسْأَلَة، فَلَمَّا أَبْطَأَ الْغُلَام بِعَمَلِهِ استنجزها إِتْمَامه، إِذْ علم طيب نفس الْمَرْأَة بِمَا بذلته من صَنْعَة غلامها، وَيُمكن أَن يكون إرْسَاله إِلَى الْمَرْأَة ليعرفها صَنْعَة مَا يصنع الْغُلَام من الأعواد.
56 - (بابُ مَنْ بَنَى مَسْجِداً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من بنى مَسْجِدا.
110 - (حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان حَدثنِي ابْن وهب أَخْبرنِي عَمْرو أَن بكيرا حَدثهُ أَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة حَدثهُ أَنه سمع عبيد الله الْخَولَانِيّ أَنه سمع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَقُول عِنْد قَول النَّاس فِيهِ حِين بنى مَسْجِد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّكُم أَكثرْتُم وَإِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من بنى مَسْجِدا قَالَ بكير حسبت أَنه قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الْبَاب فِي بَيَان فضل من بنى الْمَسْجِد (ذكر رِجَاله) وهم سَبْعَة. الأول يحيى بن سُلَيْمَان الْجعْفِيّ مر فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. الثَّانِي عبد الله بن وهب وَقد مر أَيْضا غير مرّة. الثَّالِث عَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن الْحَارِث الملقب بدرة الغواص مر فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع بكير مصغر مخفف ابْن عبد الله الْأَشَج الْمدنِي خرج قَدِيما إِلَى مصر فَنزل بهَا. الْخَامِس عَاصِم بن عمر بِضَم الْعين الأوسي الْأنْصَارِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين وَمِائَة. السَّادِس عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن الْأسود الْخَولَانِيّ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون ربيب مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. السَّابِع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد وهم بكير وَعَاصِم وَعبد الله وَفِيه ثَلَاثَة من أول الْإِسْنَاد مصريون وَثَلَاثَة من آخِره مدنيون وَفِي وَسطه مدنِي سكن مصر وَهُوَ بكير (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَأحمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب إِلَى آخِره وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ وَعبد الْملك بن الصَّباح وَفِيه وَفِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن الضَّحَّاك بن مخلد ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن بنْدَار عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان إِلَى آخِره وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَأخرجه ابْن ماجة عَن بنْدَار عَن أبي بكر(4/211)
الْحَنَفِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَفِي الْبَاب عَن أبي بكر وَعمر وَعلي وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأم حَبِيبَة وَأبي ذَر وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وواثلة بن الْأَسْقَع وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (قلت) حَدِيث أبي بكر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْأَوْسَط من رِوَايَة وهب بن حَفْص عَن حبيب بن نوح عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن مرّة الطّيب عَن أبي بكر الصّديق فَذكره ووهب بن حَفْص ضَعِيف وَفِي علل أبي حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ هُوَ مُنكر عَن أبي بكر الصّديق " من بنى مَسْجِدا لله وَلَو مثل مفحص قطاة ". وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه ابْن حبَان " من بني لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ". وَحَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عِنْد ابْن ماجة من حَدِيث عُرْوَة عَن عَليّ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى مَسْجِدا لله بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو عِنْد أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده نَحوه وَزَاد " أوسع مِنْهُ " وروى أَحْمد أَيْضا نَحوه. وَحَدِيث أنس عِنْد التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا نوح بن قيس عَن عبد الرَّحْمَن مولى قيس عَن زِيَاد النميري عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم وَلَفظه " من بني مَسْجِدا لله فِي الدُّنْيَا يُرِيد بِهِ وَجه الله قَالُوا إِذا نكثر يَا رَسُول الله قَالَ الله أَكثر " وَفِي لفظ " كل بِنَاء وبال على صَاحبه يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا مَسْجِدا فَإِن لَهُ بِهِ قصرا فِي الْجنَّة من لُؤْلُؤ ". وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أبي مُسلم الْكَجِّي مثله وَزَاد " وَلَو كمفحص قطاة ". وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد مُسَدّد فِي مُسْنده الْكَبِير عَن أبي دَاوُد عَن كثير بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة قلت يَا رَسُول الله وَهَذِه الْمَسَاجِد الَّتِي فِي طَرِيق مَكَّة قَالَ وَتلك ". وَحَدِيث أم حَبِيبَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط. وَحَدِيث أبي ذَر عِنْد الْبَزَّار. وَحَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة عِنْد النَّسَائِيّ. وَحَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير " من بني مَسْجِدا يصلى فِيهِ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أفضل مِنْهُ ". وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَعند الْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان " من بني بَيْتا يعبد الله فِيهِ حَلَالا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من الدّرّ والياقوت " وَحَدِيث جَابر عِنْد ابْن خُزَيْمَة " من حفر مَاء لم يشرب مِنْهُ كبد حَيّ من جن وَلَا إنس وَلَا طَائِر إِلَّا آجره الله يَوْم الْقِيَامَة وَمن بنى مَسْجِدا كمفحص قطاة أَو أَصْغَر بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " (قلت) وَفِي الْبَاب عَن أبي قرصافة ونبيط بن شريط وَعمر بن مَالك وَأَسْمَاء بنت يزِيد ومعاذ وَأبي أُمَامَة وَعبد الله بن أبي أوفى وَأبي مُوسَى وَعبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَحَدِيث أبي قرصافة واسْمه جندرة بن خيشنة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " ابْنُوا الْمَسَاجِد وأخرجوا القمامة مِنْهَا فَمن بنى " فَذكره وَزَاد " قَالَ رجل يَا رَسُول الله وَهَذِه الْمَسَاجِد الَّتِي تبنى فِي الطَّرِيق قَالَ نعم وَإِخْرَاج القمامة مِنْهَا مُهُور حور الْعين " وَفِي إِسْنَاده جَهَالَة. وَحَدِيث نبيط عِنْده أَيْضا فِي الصَّغِير. وَحَدِيث عمر بن مَالك عِنْد أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَلَفظه " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ". وَحَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد عِنْد الطَّبَرَانِيّ نَحوه وَرَوَاهُ أَبُو نعيم وَلَفظه " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أوسع مِنْهُ " وَحَدِيث معَاذ عِنْد أبي الْفرج فِي كتاب الْعِلَل " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَمن علق فِيهِ قِنْدِيلًا صلى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يطفى ذَلِك الْقنْدِيل وَمن بسط فِيهِ حَصِيرا صلى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يتقطع ذَلِك الْحَصِير وَمن أخرجه مِنْهُ قذاة كَانَ لَهُ كفلان من الْأجر " وَفِيه كَلَام كثير. وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد أبي نعيم " لَا يَبْنِي أحد مَسْجِدا لله إِلَّا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أوسع مِنْهُ ". وَحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه الْحَافِظ عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي فِي جُزْء جمعه. وَحَدِيث أبي مُوسَى كَذَلِك. وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من رِوَايَة الحكم بن ظهير وَهُوَ مَتْرُوك عَن ابْن أبي ليلى عَن نَافِع عَن ابْن عمر فَذكره وَزَاد فِيهِ الطَّبَرَانِيّ " وَلَو كمفحص قطاة " فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ صحابيا (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " يَقُول " جملَة وَقعت حَالا عَن عُثْمَان قَوْله " عِنْد قَول النَّاس فِيهِ " أَي فِي عُثْمَان وَذَلِكَ أَن بَعضهم أنكر عَلَيْهِ عِنْد تَغْيِيره بِنَاء الْمَسْجِد وَجعله بِالْحِجَارَةِ المنقوشة والقصة وَوَقع بَيَان ذَلِك عِنْد مُسلم حَيْثُ أخرجه(4/212)
من طَرِيق مَحْمُود بن لبيد الْأنْصَارِيّ وَهُوَ من صغَار الصَّحَابَة قَالَ " لما أَرَادَ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِنَاء الْمَسْجِد كره النَّاس ذَلِك وأحبوا أَن يَدعُوهُ على هَيئته " أَي فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " حِين بنى " أَي حِين أَرَادَ عُثْمَان أَن يَبْنِي وَلم يبن عُثْمَان إنْشَاء وَإِنَّمَا وَسعه وشيده وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب بُنيان الْمَسْجِد وَقَالَ بَعضهم فَيُؤْخَذ مِنْهُ إِطْلَاق الْبناء فِي حق من جدد كَمَا يُطلق فِي حق من أنشأ أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هَهُنَا بعض الْمَسْجِد من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض (قلت) ذكر هَذَا الْقَائِل شَيْئَيْنِ الأول مُسْتَغْنى عَنهُ فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره وَالثَّانِي لَا يَصح لِأَنَّهُ ذكر فِي بَاب بُنيان الْمَسْجِد حَدِيث عبد الله بن عمر وَفِيه " ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة وَبنى جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده من حِجَارَة منقوشة وسقفه بالساج " انْتهى فَهَذَا يدل على أَنه غير الْكل وَزَاد فِيهِ يَعْنِي فِي الطول وَالْعرض وَكَانَ الْمَسْجِد مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه بِالْجَرِيدِ وعمده خشب النّخل وبناه عُثْمَان بِالْحِجَارَةِ وَجعل عمده بِالْحِجَارَةِ وسقفه بالساج فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا بعض الْمَسْجِد فَهَذَا كَلَام من لم يتَأَمَّل ويتصرف من غير وَجه قَوْله " مَسْجِد الرَّسُول " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي " مَسْجِد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " إِنَّكُم أَكثرْتُم " مقولة لقَوْله يَقُول ومفعوله مَحْذُوف للْعلم بِهِ وَالتَّقْدِير أَنكُمْ أَكثرْتُم الْكَلَام فِي الْإِنْكَار على فعلى قَوْله " من بنى مَسْجِدا " التَّنْوِين فِيهِ للشيوع فَيتَنَاوَل من بنى مَسْجِدا كَبِيرا أَو صَغِيرا يدل عَلَيْهِ حَدِيث أنس الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ على مَا ذَكرْنَاهُ وروى ابْن أبي شيبَة حَدِيث الْبَاب عَن عُثْمَان من وَجه آخر وَزَاد فِيهِ " وَلَو كمفحص قطاة " وَفِي حَدِيث جَابر " كمفحص قطاة أَو أَصْغَر " وللعلماء فِي تَوْجِيه هَذَا قَولَانِ فَقَالَ أَكْثَرهم هَذَا مَحْمُول على الْمُبَالغَة لِأَن الْمَكَان الَّذِي تفحص القطاة عَنهُ لتَضَع فِيهِ بيضها وترقد عَلَيْهِ لَا يَكْفِي مِقْدَار للصَّلَاة فِيهِ وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث جَابر الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ على ظَاهره فَالْمَعْنى على هَذَا أَن يزِيد فِي مَسْجِد قدرا يحْتَاج إِلَيْهِ تكون تِلْكَ الزِّيَادَة على هَذَا الْقدر أَو يشْتَرك جمَاعَة فِي بِنَاء مَسْجِد فَتَقَع حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم ذَلِك الْقدر قيل هَذَا كُله بِنَاء على أَن المُرَاد من الْمَسْجِد مَا يتَبَادَر إِلَيْهِ الذِّهْن وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي يتَّخذ للصَّلَاة فِيهِ فَإِن كَانَ المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَوضِع السُّجُود وَهُوَ مَا يسع الْجِهَة فَلَا يحْتَاج إِلَى شَيْء مِمَّا ذكر (قلت) قَوْله " من بنى " يَقْتَضِي وجود بِنَاء على الْحَقِيقَة فَيحمل على الْمَسْجِد الْمَعْهُود بَين النَّاس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث أم حَبِيبَة " من بني لله بَيْتا " وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَحَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا " من بنى لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله " وكل ذَلِك يدل على أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُوَ الْمَكَان الْمُتَّخذ لَا مَوضِع السُّجُود فَقَط وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْفرْقَة الأولى وَلَكِن لَا يمْنَع إِرَادَة مَوضِع السُّجُود مجَازًا فَيدْخل فِيهِ الْمَوَاضِع المحوطة إِلَى جِهَة الْقبْلَة وفيهَا هَيْئَة الْمِحْرَاب فِي طرقات الْمُسَافِرين وَالْحَال أَنَّهَا لَيست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف وَرُبمَا يَجْعَل مِنْهَا مَوضِع فِي غَايَة الصغر يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي قرصافة الَّذِي ذَكرْنَاهُ قَوْله " قَالَ بكير حسبت أَنه " أَي أَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة وَهُوَ شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث قَالَ فِي رِوَايَته " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله " وَهَذِه الْجُمْلَة مدرجة مُعْتَرضَة وَقعت فِي الْبَين وَلم يجْزم بهَا بكير فَلذَلِك ذكرهَا بالحسبان وَلَيْسَت هَذِه الْجُمْلَة فِي رِوَايَة جَمِيع من روى هَذَا الحَدِيث فَإِن لَفظهمْ فِيهِ " من بني لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة " فَكَأَن بكير أنسى لَفْظَة الله فَذكرهَا بِالْمَعْنَى فَإِن معنى قَوْله " لله " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِخْلَاص ثمَّ إِن لَفْظَة يَبْتَغِي بِهِ على تَقْدِير ثُبُوتهَا فِي كَلَام الرَّسُول تكون حَالا من فَاعل بنى وَالْمرَاد بِوَجْه الله ذَات الله وابتغاء وَجه الله فِي الْعَمَل هُوَ الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن تكون نِيَّته فِي ذَلِك طلب مرضاة الله تَعَالَى من دون رِيَاء وَسُمْعَة حَتَّى قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ من كتب اسْمه على الْمَسْجِد الَّذِي يبنيه كَانَ بَعيدا من الْإِخْلَاص (فَإِن قلت) فعلى هَذَا لَا يحصل الْوَعْد الْمَخْصُوص لمن يبنيه بِالْأُجْرَةِ لعدم الْإِخْلَاص (قلت) الظَّاهِر هَذَا وَلكنه يُؤجر فِي الْجُمْلَة يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا " أَن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة الْجنَّة صانعه الْمُحْتَسب فِي صَنعته والرامي بِهِ والممد بِهِ " فَقَوله " الْمُحْتَسب فِي صَنعته " هُوَ من يقْصد بذلك إِعَانَة الْمُجَاهِد وَهُوَ أَعم من أَن يكون مُتَطَوعا بذلك أَو بِأُجْرَة لَكِن الْإِخْلَاص لَا يكون إِلَّا من المتطوع (فَإِن قلت) قَوْله " من بنى " حَقِيقَته أَن يُبَاشر الْبناء بِنَفسِهِ ليحصل لَهُ الْوَعْد الْمَخْصُوص فَلَا يدْخل فِيهِ الْأَمر بذلك (قلت) يتَنَاوَل الْأَمر أَيْضا بنيته " والأعمال بِالنِّيَّاتِ " (فَإِن قلت) يلْزم من ذَلِك الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَهُوَ(4/213)
مُمْتَنع (قلت) لَا امْتنَاع فِيهِ عِنْد الشَّافِعِي وَأما عِنْد غَيره فبعموم الْمجَاز وَهُوَ أَن يحمل الْكَلَام على معنى مجازي يتَنَاوَل الْحَقِيقَة وَهَذَا يُسمى عُمُوم الْمجَاز وَلَا نزاع فِي جَوَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي معنى مجازي يكون الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ من أَفْرَاده كاستعمال الدَّابَّة عرفا فِيمَا يدب على الأَرْض وَمِثَال ذَلِك فِيمَن أوصى لأبناء زيد مثلا وَله أَبنَاء وَأَبْنَاء أَبنَاء يسْتَحق الْجَمِيع عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد عملا بِعُمُوم الْمجَاز حَيْثُ يُطلق الْأَبْنَاء على الْفَرِيقَيْنِ قَوْله " بنى الله لَهُ " إِسْنَاد الْبناء إِلَى الله مجَازًا اتِّفَاقًا قطعا (فَإِن قلت) إِظْهَار الْفَاعِل فِيهِ لماذا (قلت) لِأَن فِي تكْرَار اسْمه تَعْظِيمًا وتلذذا للذاكر قَالَ الشَّاعِر
(أعد ذكر نعْمَان لنا أَن ذكره ... هُوَ الْمسك مَا كررته يتضوع)
وَقَالَ بَعضهم لِئَلَّا تتنافر الضمائر أَو يتَوَهَّم عوده على باني الْمَسْجِد (قلت) كلا الْوَجْهَيْنِ غير صَحِيح أما الأول فَلِأَن التنافر إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت الضمائر كَثِيرَة وَأما الثَّانِي فَمَمْنُوع قطعا للقرينة الحالية والمقالية قَوْله " مثله " مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي بِنَاء مثله والمثل فِي اللُّغَة الشّبَه يُقَال هَذَا الشَّيْء مثل هَذَا أَي شبهه قَالَ الْجَوْهَرِي مثل كلمة تَسْوِيَة يُقَال هَذَا مثله وَمثله كَمَا تَقول شبهه وَشبهه وَعند أهل الْمَعْقُول الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ هُوَ الِاتِّحَاد فِي النَّوْع كاتحاد زيد وَعَمْرو فِي الإنسانية وَإِذا كَانَ فِي الْجِنْس يُسمى مجانسة كاتحاد الْإِنْسَان مَعَ الْفرس فِي الحيوانية وَقد اخْتلفُوا فِي المُرَاد بالمثلية هَهُنَا فَقَالَ قوم مِنْهُم ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي مثله فِي الْمِقْدَار والمساحة (قلت) يرد هَذَا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو " بَيْتا أوسع مِنْهُ " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أَسمَاء وَأبي أُمَامَة على مَا ذَكرنَاهَا وَقَالَ قوم مثله فِي الْجَوْدَة والحصانة وَطول الْبَقَاء (قلت) هَذَا لَيْسَ بِشَيْء على مَا لَا يخفى مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث وَاثِلَة عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة أفضل مِنْهُ " وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم هَذِه المثلية لَيست على ظَاهرهَا وَإِنَّمَا يعْنى أَنه يَبْنِي لَهُ بثوابه بَيْتا أشرف وَأعظم وَأَرْفَع وَقَالَ النَّوَوِيّ يحْتَمل قَوْله " مثله " أَمريْن أَحدهمَا أَن يكون مَعْنَاهُ بنى الله لَهُ مثله فِي مُسَمّى الْبَيْت وَأما صفته فِي السعَة وَغَيرهَا فمعلوم فَضلهَا فَإِنَّهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ أَن فَضله على بيُوت الْجنَّة كفضل الْمَسْجِد على بيُوت الدُّنْيَا (قلت) الْوَجْه الثَّانِي لَا يَخْلُو عَن بعد وَقَالَ بعض شرَّاح التِّرْمِذِيّ وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَن يُنَبه بقوله " مثله " على الحض على الْمُبَالغَة فِي إِرَادَة الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي كَونه ينفع الْمُصَلِّين ويكنهم عَن الْحر وَالْبرد وَيكون فِي مَكَان يحْتَاج إِلَيْهِ وَيكثر الِانْتِفَاع بِهِ ليقابل الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا انتفاعه هُوَ بِمَا يبْنى لَهُ فِي الْجنَّة. وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم وَهَذَا الْبَيْت وَالله أعلم مثل بَيت خَدِيجَة الَّذِي بشرت بِهِ بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب يُرِيد من قصب الزمرد والياقوت (قلت) قد ذكرنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة من (1) عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من در (2) وَيَاقُوت " (فَإِن قلت) قَالَ الله تَعَالَى {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} فَمَا معنى التَّقْيِيد بِمثلِهِ (قلت) أجابوا عَن هَذَا بأجوبة. الأول مَا قَالَه بَعضهم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه قبل نزُول هَذِه الْآيَة (قلت) هَذَا بعيد وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بالتاريخ. الثَّانِي أَن المثلية إِنَّمَا هِيَ بِحَسب الكمية وَالزِّيَادَة بِحَسب الْكَيْفِيَّة (قلت) المثلية بِحَسب الكمية تسمى مُسَاوَاة كاتحاد مِقْدَار مَعَ آخر فِي الْقدر وَفِي الْكَيْفِيَّة تسمى مشابهة. الثَّالِث أَن التَّقْيِيد بِهِ لَا يَنْفِي الزِّيَادَة واستبعده بَعضهم وَلَيْسَ بِبَعِيد. الرَّابِع أَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان الْمُمَاثلَة فِي أَن أَجزَاء هَذِه الْحَسَنَة من جنس الْعَمَل لَا من غَيره وَعِنْدِي جَوَاب فتح لي بِهِ من الْأَنْوَار الالهية وَهُوَ أَن المجازاة بِالْمثلِ عدل مِنْهُ وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِحَسب الْكَيْفِيَّة والكمية فضل مِنْهُ قَوْله " فِي الْجنَّة " قَالَ بَعضهم هُوَ مُتَعَلق ببنى أَو هُوَ حَال من قَوْله مثله (قلت) لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَقع صفة لمثله وَالتَّقْدِير بنى الله لَهُ مثله كَائِنا فِي الْجنَّة وَكَيف يكون حَالا من مثله وَشرط الْحَال أَن يكون من معرفَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه وَلَفظ مثل لَا يتعرف وَإِن أضيف
66 - (بابٌ يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الشَّخْص يَأْخُذ بنصول السِّهَام إِذا مر فِي مَسْجِد من الْمَسَاجِد، وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِئَلَّا يَقع لفظ: بَاب ضائعاً، وَأَيْضًا فِيهِ بَيَان أَن الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: يَأْخُذ، يرجع إِلَى هَذَا الْمُقدر، لِئَلَّا يكون إضماراً قبل الذّكر، وليلتئم التَّرْكِيب، وَلم: أر أحدا من الشُّرَّاح يذكر شَيْئا فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع، مَعَ أَن فيهم من يَدعِي دعاوي عريضة فِي هَذَا الْبَاب(4/214)
وَلَيْسَ لَهُ حَظّ من هَذِه الدقائق. والنصول: جمع نصل. قَالَ الْجَوْهَرِي: النصل نصل السهْم وَالسيف وَالرمْح، وَالْجمع نصول ونصال. والنبل، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره لَام: السِّهَام الْعَرَبيَّة، وَهِي مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَجَوَاب: إِذا، هُوَ قَوْله: يَأْخُذ مقدما.
154111 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ قلْتُ لِعَمْرٍ وأسَمِعْتَ جابرَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهامٌ فَقَالَ لهُ رَسولُ اللَّهِ أمْسِكْ بنصَالِها. (الحَدِيث 154 طرفاه فِي: 3707، 4707) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ، أَمر بإمساك النصال عِنْد الْمُرُور فِي الْمَسْجِد.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذمر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: السُّؤَال عَن السماع بطرِيق الِاسْتِفْهَام، وَلم يذكر لَهُ جَوَاب، قَالَ ابْن بطال. فَإِن قيل: حَدِيث جَابر لَا يظْهر فِيهِ الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ لم ينْقل أَن عمرا قَالَ لَهُ: نعم. قُلْنَا: قد ذكر البُخَارِيّ فِي غير كتاب الصَّلَاة أَنه قَالَ: نعم، فَبَان بقوله: نعم، إِسْنَاد الحَدِيث. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذِه مَسْأَلَة اخْتلف فِيهَا المحدثون، فَمنهمْ من شَرط النُّطْق إِذا قَالَ لَهُ التلميذ: أخْبرك فلَان بِكَذَا وَكَذَا، وَمِنْهُم من لم يتشرط، وَذكر البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر عَن عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان، فَقَالَ: نعم. انْتهى. قلت: الْمَذْهَب الرَّاجِح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْمُحَقِّقين مِنْهُم البُخَارِيّ أَن قَول الشَّيْخ: نعم، لَا يشْتَرط، بل يَكْتَفِي بسكوت الشَّيْخ إِذا كَانَ متيقظاً، فعلى هَذَا فالإسناد فِي حَدِيث جَابر ظَاهر، وَمَعَ ذَلِك فقد جَاءَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ أَنه قَالَ لَهُ: نعم، فَانْقَطع النزاع. وَقَالَ بَعضهم: حُكيَ عَن رِوَايَة الْأصيلِيّ أَنه ذكره فِي حَدِيثه، فَقَالَ: نعم، وَلم أره فِيهَا، قلت: عدم رُؤْيَته لَا يسْتَلْزم عدم الرِّوَايَة عَنهُ. فَإِن لم يره هُوَ فقد حكى من هُوَ أكبر مِنْهُ أَنه رُوِيَ عَنهُ لفظ. نعم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد ا. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عبد ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب عَن هِشَام بن عمار سبعتهم، عَنهُ بِهِ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو عَن جَابر، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن يحيى بن يحيى وَأبي الرّبيع عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن لَيْث بن سعد عَن أبي الزبير عَن جَابر: (أَن النَّبِي أَمر رجلا كَانَ يتَصَدَّق بِالنَّبلِ فِي الْمَسْجِد أَن لَا يمر بهَا إلاَّ وَهُوَ آخذ بنصولها) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي الْبِلَاد عَن مُحَمَّد بن عبد ا، قَالَ: (كُنَّا عِنْد أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَقلب رجل نبْلًا فَقَالَ أَبُو سعيد: أما كَانَ هَذَا يعلم أَن رَسُول الله نهى عَن تقليب السِّلَاح وسله) يَعْنِي فِي الْمَسْجِد.
وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث زيد بن جُبَير، وَهُوَ ضَعِيف، عَن دَاوُد بن الْحصين عَن نَافِع عَن ابْن عمر يرفعهُ: (خِصَال لَا تنبغي فِي الْمَسْجِد: لَا يتَّخذ طَرِيقا، وَلَا يشهر فِيهِ سلَاح، وَلَا ينبض فِيهِ بقوس، وَلَا ينثر فِيهِ نبل، وَلَا يمر فِيهِ بِلَحْم نيء، وَلَا يضْرب فِيهِ حد، وَلَا يقْتَصّ فِيهِ من أحد، وَلَا يتَّخذ سوقاً) . وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث الْحَارِث بن نَبهَان، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، عَن عتبَة بن يقظان، وَهُوَ غير ثِقَة، عَن أبي سعيد، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال وَالْعين، عَن مَكْحُول عَن وَاثِلَة، وَأنكر سَمَاعه عَنهُ ابْن مسْهر وَالْحَاكِم. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْأَوْسَط) سمع مِنْهُ أَن النَّبِي قَالَ: (جَنبُوا مَسَاجِدنَا صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وشراءكم وَبَيْعكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ وَرفع أَصْوَاتكُم وَإِقَامَة حُدُودكُمْ وسل سُيُوفكُمْ، وَاتَّخذُوا على أَبْوَابهَا الْمَطَاهِر وَجَمِّرُوهَا فِي الْجمع) . وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (نزهوا الْمَسَاجِد وَلَا تتخذوها طرقاً، وَلَا تمر فِيهِ حَائِض، وَلَا يقْعد فِيهِ جنب إلاَّ عابري سَبِيل، وَلَا ينثر فِيهِ نبل، وَلَا يسل فِيهِ سيف، وَلَا يضْرب بِهِ حد، وَلَا ينشد فِيهِ شعر. فَإِن أنْشد قيل: فض افاك) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَأْكِيد حُرْمَة الْمُسلمين، لِأَن الْمَسَاجِد مورودة بالخلق لَا سِيمَا فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَهَذَا التَّأْكِيد من النَّبِي لِأَنَّهُ خشِي أَن يُؤْذى بهَا أحد. وَفِيه: كريم خلقه ورأفته بِالْمُؤْمِنِينَ. وَفِيه: التَّعْظِيم لقَلِيل الدَّم وَكَثِيره. وَفِيه: أَن الْمَسْجِد يجوز فِيهِ إِدْخَال السِّلَاح.
76 -(4/215)
(بابُ المرُورِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب بَيَان جَوَاز الْمُرُور بِالنَّبلِ فِي الْمَسْجِد إِذا أمسك نصاله. وَفِي هَذِه التَّرْجَمَة نوع قُصُور على مَا لَا يخفى.
254211 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدّثنا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ عنِ النبيِّ قَالَ مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ منْ مَسَاجِدِنا أوْ أسْواقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِها لاَ يَعْقِرْ بَكَفِّهِ مُسْلِماً. (الحَدِيث 254 طرفه فِي: 5707) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من مر) ، فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بِلَفْظ الْمُرُور، وَجعله شرطا، ورتب عَلَيْهِ الْجَزَاء، وَهُوَ قَوْله: (فليأخذ) ، فَدلَّ هَذَا على جَوَاز الْمُرُور فِي الْمَسْجِد بنبل يَأْخُذ نصاله، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن سُؤال الْكرْمَانِي، حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ بِهَذَا الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: بَاب الْمُرُور فِي الْمَسْجِد، وَتَخْصِيص الحَدِيث السَّابِق يَعْنِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور بِالْبَابِ السَّابِق وَهُوَ قَوْله: بَاب يَأْخُذ بنصول النبل إِذا مر فِي الْمَسْجِد، أَن كلاًّ من الْحَدِيثين يدل على كل من الترجمتين؟ وَتَقْرِير الْجَواب: هُوَ أَنه نظر إِلَى لفظ الرَّسُول حَيْثُ لم يكن فِي الأول لفظ الْمُرُور، فِي لفظ الرَّسُول، وَفِي الثَّانِي ذكره مَقْصُودا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، وَقد مر فِي بَاب كتاب الْوَحْي. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان. الثَّالِث: أَبُو بردة، بِضَم، الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء، واسْمه: بريد، مصغر برد ضد الْحر: ابْن عبد ا. الرَّابِع: أَبُو بردة الثَّانِي، واسْمه: عَامر، وَهُوَ جد أبي بردة الأول. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه: عبد ابْن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده وَهُوَ أَبُو بردة الأول يروي عَن أبي بردة الثَّانِي، وَهُوَ جده، كَأَنَّهُ قَالَ: سَمِعت جدي يروي عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه الصَّحَابِيّ، وَهُوَ رِوَايَة أبي بردة. الثَّانِي: عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي كريب وَأبي عَامر عبد ابْن أبي براد الْأَشْعَرِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أبي كريب فِي الْجِهَاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي أُسَامَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (من مر) ، كلمة: من، مَوْصُولَة تَضَمَّنت معنى الشَّرْط فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَخَبره هُوَ. قَوْله: (فليأخذ) . قَوْله: (أَو أسواقنا) كلمة؛ أَو، للتنويع من الشَّارِع وَلَيْسَت للشَّكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (بنبل) ، الْبَاء، فِيهِ للمصاحبة مَعْنَاهُ: من مر مصاحباً للنبل، وَلَيْسَت: الْبَاء، فِيهِ مثل: الْبَاء فِي قَوْلك: بزيد، فَإِنَّهَا للإلصاق. قَوْله: (على نصالها) ضمنت كلمة الْأَخْذ هُنَا معنى الاستعلاء للْمُبَالَغَة فعديت بعلى، وإلاَّ فَالْوَجْه أَن يعدى الْأَخْذ: بِالْبَاء. قَوْله: (لَا يعقر) أَي: لَا يجرح، وَهُوَ مَرْفُوع، وَيجوز الْجَزْم نظرا إِلَى أَنه جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (بكفه) : الْبَاء، فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: (فليأخذ) لَا بقوله: (لَا يعقر) فَإِن الْعقر بالكف لَا يتَصَوَّر، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فليأخذ على نصالها بكفه لَا يعقر مُسلما) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد مِنْهُ كف النَّفس أَي: لَا يعقر بكفه نَفسه عَن الْأَخْذ أَي: لَا يجرح بِسَبَب تَركه أَخذ النصال مُسلما. قلت: لَا يبعد هَذَا الِاحْتِمَال، وَلَكِن الأول رَاجِح وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي أُسَامَة: (فليمسك على نصالها بكفه أَن يُصِيب أحدا من الْمُسلمين) . وَله من طَرِيق ثَابت عَن أبي بردة: (فليأخذ بنصالها) ثمَّ ليَأْخُذ بنصالها، ثمَّ ليَأْخُذ بنصالها) . [/
بشر
86 - (بابُ الشِّعْرِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّعْر فِي الْمَسْجِد، وَفِي بعض النّسخ بَاب إنشاد الشّعْر فِي الْمَسْجِد.(4/216)
354311 - ح دّثنا أبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بنُ نافِعٍ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوفٍ أنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بنَ ثابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أنْشُدُكَ اللَّهَ هلْ سَمِعْتَ النبيَّ يَقُولُ يَا حَسَّانُ أجِبْ عنْ رَسولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ. (الحَدِيث 354 طرفاه فِي: 2123، 2516) .
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة هَهُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَرِيحًا أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد، والترجمة هُوَ الشّعْر فِي الْمَسْجِد، وَلَكِن البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب بَدْء الْخلق وَفِيه التَّصْرِيح أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ: حدّثنا عَليّ بن عبد احدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، قَالَ: (مر عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، فِي الْمَسْجِد وَحسان ينشد، فلحظ إِلَيْهِ. قَالَ: كنت أنْشد فِيهِ وَفِيه من هُوَ خير مِنْك، ثمَّ الْتفت إِلَى أبي هُرَيْرَة فَقَالَ: أنْشدك با أسمعته، يَقُول: أجب عني، اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس؟ قَالَ: نعم) . وهما حَدِيث وَاحِد، وَيُقَال: إِن الشّعْر الْمُشْتَمل على الْحق مَقْبُول بِدَلِيل دُعَاء النَّبِي، لحسان على شعره، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يمْنَع فِي الْمَسْجِد كَسَائِر الْكَلَام المقبول، وَمُرَاد البُخَارِيّ من وضع هَذِه التَّرْجَمَة هُوَ الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز الشّعْر المقبول فِي الْمَسْجِد، والْحَدِيث يدل على هَذَا بِهَذَا الْوَجْه، فَيَقَع التطابق بَين الحَدِيث والترجمة لَا محَالة.
فَإِن قلت: لم يَصح سَماع أبي سَلمَة وَلَا سَماع سعيد من عمر، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ لما أنكرهُ عمر على حسان. قلت: الْأَمر كَذَلِك، لَكِن يحمل ذَلِك على أَن سعيداً سمع ذَلِك من أبي هُرَيْرَة بعد، أَو سمع ذَلِك من حسان، أَو وَقع لحسان استشهاد أبي هُرَيْرَة مرّة أُخْرَى، فَحَضَرَ ذَلِك سعيد، وَيُؤَيّد هَذَا سِيَاق حَدِيث الْبَاب، فَإِن فِيهِ: إِن أَبَا سَلمَة سمع حسانا يستشهد أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبُو سَلمَة لم يدْرك زمن مُرُور عمر أَيْضا فَإِنَّهُ أَصْغَر من سعيد، فَدلَّ على تعدد الاستشهاد. غَايَة مَا فِي الْبَاب هُنَا أَن يكون سعيد أرسل قصَّة الْمُرُور ثمَّ سمع بعد ذَلِك استشهاد حسان لأبي هُرَيْرَة وَهُوَ مَرْفُوع مَوْصُول بِلَا تردد.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَاسم أبي حَمْزَة: دِينَار الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، وَهَؤُلَاء تقدمُوا فِي بَاب كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: حسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن الْحَرَام، ضد الْحَلَال، الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، شَاعِر رَسُول ا، من فحول شعراء الْإِسْلَام والجاهلية، وعاش كل وَاحِد مِنْهُم مائَة وَعشْرين سنة وَقَالَ أَبُو نعيم: لَا يعرف فِي الْعَرَب أَرْبَعَة تَنَاسَلُوا من صلب وَاحِد واتفقت مدد أعمارهم هَذَا الْقدر غَيرهم، وعاش حسان فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سنة وَفِي الْإِسْلَام كَذَلِك، مَاتَ سنة خمسين بِالْمَدِينَةِ. فَإِن قلت: هُوَ منصرف أَو غير منصرف قلت: إِن كَانَ مشتقاً من: الْحسن، فَهُوَ منصرف، وَإِن كَانَ من: الْحس، فَغير منصرف. فَافْهَم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، وَقد تكَرر ذكره.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث يعد من مُسْند حسان أَو من مُسْند أبي هُرَيْرَة؟ قلت: لم يذكر أَبُو مَسْعُود والْحميدِي وَغَيرهمَا أَن لحسان بن ثَابت رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا ذكرُوا لَهُ حَدِيثا مُسْندًا، وَإِنَّمَا أوردوا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَخَالف خلف فَذكره فِي مُسْند حسان، وَأَنه روى عَن النَّبِي، هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة أَن البُخَارِيّ أخرجه فِي الصَّلَاة عَن أبي الْيَمَان، وَذكر ابْن عَسَاكِر لحسان حديثين مسندين: أَحدهمَا هَذَا، وَذكر أَنه فِي (سنَن أبي دَاوُد) من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثه استشهاد حسان بِهِ، وَأَنه فِي النَّسَائِيّ مرّة بالاستشهاد، وَمرَّة من حَدِيث سعيد عَن عمر بِعَدَمِهِ، ثمَّ أوردهُ فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ، من طَرِيق أبي سَلمَة عَنهُ. وَفِي كتاب (من عَاشَ مائَة وَعشْرين) لِابْنِ مَنْدَه: من حَدِيث عبيد ابْن عبد اعن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: مر عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، بِحسان ... . الحَدِيث، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَسَعِيد لم يَصح سَمَاعه من عمر، وَإِن كَانَ سمع ذَلِك من حسان فمتصل.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه(4/217)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي الْأَدَب أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه أبي بكر، وَفِيه أَيْضا عَن أبي الْيَمَان، كَمَا أخرجه هَهُنَا. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى وَعمر بن مُحَمَّد النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن عبد ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن رَافع وَعبد بن حميد، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي خلف، وَأحمد بن عَبدة، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور فرقهما، كِلَاهُمَا عَن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه أَيْضا عَن خَمْسَة أنفس، وَأخرجه أَيْضا فِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن عبد ابْن بزيغ عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت عَن الْبَراء بن عَازِب عَن حسان بن ثَابت قَالَ: قَالَ لي رَسُول ا: (أهجهم أَو: هاجهم) ، يَعْنِي الْمُشْركين، (وجبرائيل مَعَك) ، رَوَاهُ سُفْيَان بن حبيب عَن شُعْبَة فَجعله من مُسْند الْبَراء رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (يستشهد أَبَا هُرَيْرَة) أَي: يطْلب مِنْهُ الشَّهَادَة. ومحلها النصب على الْحَال من حسان، فَإِن قيل: لَا بُد فِي الشَّهَادَة من نِصَاب فَكيف ثَبت غَرَض حسان بِشَهَادَة أبي هُرَيْرَة فَقَط؟ أُجِيب: بِأَن هَذِه رِوَايَة حكم شَرْعِي، ويكتفى فِيهَا عدل وَاحِد. وَأطلق الشَّهَادَة على سَبِيل التَّجَوُّز لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إِخْبَار، فَيَكْفِي فِيهِ عدل وَاحِد، كَمَا بَين ذَلِك فِي مَوْضِعه. قَوْله: (أنْشدك ا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الشين: مَعْنَاهُ سَأَلتك با. قَالَ الْجَوْهَرِي: نشدت فلَانا أنْشدهُ نشداً إِذا قلت لَهُ: نشدتك ا، أَي: سَأَلتك با، كَأَنَّك ذكرته، إِيَّاه، فنشد أَي تذكر. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: نشدتك اوأنشدك اوبا، وناشدتك اأي: سَأَلتك وَأَقْسَمت عَلَيْك، ونشدته نشدة ونشداناً ومناشدة، وتعديته إِلَى مفعولين إِمَّا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة دَعَوْت، حَيْثُ قَالُوا: نشدتك اوبا، كَمَا قَالُوا: دَعَوْت زيدا وبزيد، أَو لأَنهم ضمنوه معنى ذكرت. وَأما: أنشدتك با فخطأ.
قَوْله: (أجب عَن رَسُول ا) وَفِي رِوَايَة سعيد: (أجب عني) ، وَمعنى الأول: أجب الْكفَّار عَن جِهَة رَسُول ا، وَلَفظ: جِهَة، مُقَدّر، وَيجوز أَن يضمن: أجب معنى: إدفع، وَالْمعْنَى: إدفع عَن رَسُول ا. وَيحْتَمل أَن يكون الأَصْل رِوَايَة سعيد، وَهِي: أجب عني، ثمَّ نقل حسان ذَلِك بِالْمَعْنَى. وَزَاد فِيهِ لَفْظَة؛ رَسُول ا، تَعْظِيمًا لَهُ، وَيحْتَمل أَن تكون تِلْكَ لَفْظَة رَسُول ا، بِعَيْنِه لأجل المهابة وتقوية لداعي الْمَأْمُور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذا عزمت فتوكل على ا} (آل عمرَان: 951) وكما يَقُول الْخَلِيفَة: أَمِير الْمُؤمنِينَ يرسم لَك، لِأَن فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وتقوية للْمَأْمُور ومهابة بِخِلَاف، قَوْله؛ أَنا أرسم. وَالْمرَاد بالإجابة: الرَّد على الْكفَّار الَّذين هجوا رَسُول ا.
قَوْله: (اللَّهُمَّ أيده) هَذَا دُعَاء من رَسُول ا، لحسان، دَعَا لَهُ بالتأييد، وَهُوَ الْقُوَّة على الْكفَّار. قَوْله: (بِروح الْقُدس) : الْبَاء: فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: أيده، وَالْمرَاد: بِروح الْقُدس، هُنَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث الْبَراء بِلَفْظ: وَجِبْرِيل مَعَك. والقدس، بِضَم الْقَاف وَالدَّال بِمَعْنى: الطُّهْر، وَسمي جِبْرِيل بذلك لِأَنَّهُ خلق من الطُّهْر. وَقَالَ كَعْب: الْقُدس الرب، عز وَجل، وَمعنى: روح الْقُدس روح ا، وَإِنَّمَا سمي بِالروحِ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْبَيَانِ عَن اتعالى فتحيي بِهِ الْأَرْوَاح. وَقيل: معنى الْقُدس الْبركَة، وَمن أَسمَاء اتعالى: القدوس، أَي: الطَّاهِر المنزه عَن الْعُيُوب والنقائص، وَمِنْه الأَرْض المقدسة، وَبَيت الْمُقَدّس، لِأَنَّهُ الْموضع الَّذِي يتقدس فِيهِ، أَي: يتَطَهَّر فِيهِ من الذُّنُوب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: فِيهِ الدّلَالَة على أَن الشّعْر الْحق لَا يحرم فِي الْمَسْجِد، وَالَّذِي يحرم فِيهِ مَا فِيهِ الخناء والزور وَالْكَلَام السَّاقِط، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححاً من حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ رَسُول الله ينصب لحسان منبراً فِي الْمَسْجِد فَيقوم عَلَيْهِ ويهجو الْكفَّار) . فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن عبد ابْن سعيد حدّثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (نهى رَسُول الله عَن تناشد الْأَشْعَار فِي الْمَسَاجِد) ، وَحسنه الحافظان: الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث صَدَقَة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن عبد االشعبي عَن زفر بن وثيمة عَن حَكِيم بن حزَام مَرْفُوعا: (نهى النَّبِي أَن يستقاد فِي الْمَسْجِد، وَأَن تنشد فِيهِ الْأَشْعَار، وَأَن تُقَام فِيهِ الْحُدُود) . وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) من حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر: عَن أسيد بن عبد الرَّحْمَن: (أَن شَاعِرًا جَاءَ(4/218)
النَّبِي وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، قَالَ: أنْشدك يَا رَسُول ا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: بلَى، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: فَاخْرُج من الْمَسْجِد، فَخرج فأنشده فَأعْطَاهُ رَسُول الله ثوبا) . وَقَالَ: هَذَا بدل مَا مدحت بِهِ رَبك. قلت: أما حَدِيث عَمْرو: فَمنهمْ من يَقُول: إِنَّه صحيفَة، حَتَّى قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح هَذَا، لَكِن يَقُول: من يصحح نسخته يصحح حَدِيثه. وَأما حَدِيث حَكِيم بن حزَام فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الأشبيلي: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لم يبين أَبُو مُحَمَّد من أمره شَيْئا، وعلته الْجَهْل بِحَال زفر، فَلَا يعرف. قلت: أما زفر فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، بل حَاله مَعْرُوفَة. قَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: سَأَلت يحيى عَنهُ، فَقَالَ: ثِقَة، وَذكره ابْن حبَان فِي (كتاب الثِّقَات) ، وَصحح لَهُ الْحَاكِم حَدِيثا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة. وَأما حَدِيث أسيد فَفِي سَنَده ابْن أبي يحيى شيخ الشَّافِعِي. وَفِيه كَلَام شَدِيد، وَقد جمع ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) بَين الشّعْر الْجَائِز إنشاده فِي الْمَسْجِد وَبَين الْمَمْنُوع من إنشاده فِيهِ. وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي (كتاب الْمَسَاجِد) : نهى عَن تناشد أشعار الْجَاهِلِيَّة والمبطلين فِيهِ، فَأَما أشعار الْإِسْلَام والمحقين فواسع غير مَحْظُور.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي جَوَاز إنشاد الشّعْر مُطلقًا، فَقَالَ الشّعبِيّ وعامر بن سعد البَجلِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: لَا بَأْس بإنشاد الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء، وَلَا نكب عرض أحد من الْمُسلمين، وَلَا فحش. وَقَالَ مَسْرُوق بن الأجدع وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد اولحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب: تكره رِوَايَة الشّعْر وإنشاده، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمر بن الْخطاب عَن رَسُول الله قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَالْبَزَّار والطَّحَاوِي، وروى مُسلم عَن سعد بن أبي وَقاص عَن النَّبِي قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلىء شعرًا) . وَأخرجه ابْن ماجة أَيْضا، وَأخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي نَحْو رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَته عَن سعد، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن عَوْف بن مَالك عَن النَّبِي، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي، وَأجَاب الْأَولونَ عَن هَذَا وَقَالُوا: إِنَّمَا هَذِه الْأَحَادِيث وَردت على خَاص من الشّعْر، وَهُوَ أَن يكون فِيهِ فحش وخناء، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ: المُرَاد بِهِ الشّعْر الَّذِي هجي بِهِ النَّبِي، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الَّذِي فِيهِ عِنْدِي غير ذَلِك، لِأَن مَا هجي بِهِ رَسُول الله لَو كَانَ شطر بَيت لَكَانَ كفرا، وَلَكِن وَجهه عِنْدِي أَن يمتلىء قلبه حَتَّى يغلب عَلَيْهِ فيشغله عَن الْقُرْآن وَالذكر. قيل: فِيمَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة نظر، لِأَن الَّذين هجوا النَّبِي كَانُوا كفَّارًا، وهم فِي حَال هجوهم موصوفون بالْكفْر من غير هجو، غَايَة مَا فِي الْبَاب: قدلازاد كفرهم وطغيانهم بهجوهم، وَالَّذِي قَالَه الشّعبِيّ أوجه. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ قوم: لَو كَانَ إريد بذلك مَا هجي بِهِ رَسُول الله من الشّعْر لم يكن لذكر الامتلاء معنى، لِأَن قَلِيل ذَلِك وَكَثِيره كفر، وَلَكِن ذكر الامتلاء لَيْسَ فِيمَا دونه. قَالُوا: فَهُوَ عندنَا على الشّعْر الَّذِي يمْلَأ الْجوف فَلَا يكون فِيهِ قُرْآن وَلَا تَسْبِيح وَلَا غَيره، فأ مَا من كَانَ فِي جَوْفه الْقُرْآن وَالشعر مَعَ ذَلِك، فَلَيْسَ مِمَّن امْتَلَأَ جَوْفه شعرًا، فو خَارج من قَول رَسُول ا: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: كَانَ حسان ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد فِي أول الْإِسْلَام، وَكَذَا لعب الْحَبَش فِيهِ، وَكَانَ الْمُشْركُونَ إِذْ ذَاك يدخلونه، فَلَمَّا كمل الْإِسْلَام زَالَ ذَلِك كُله. قلت: أَشَارَ بذلك إِلَى النّسخ، وَلم يُوَافقهُ أحد على ذَلِك. قَوْله: (قَيْحا) نصب على التَّمْيِيز، وَهُوَ: الصّديق الَّذِي يسيل من الدمل وَالْجرْح، قَوْله: (يرِيه) من الوري، وَهُوَ الدَّاء يُقَال: ورى يوري فَهُوَ موري إِذا أصَاب جَوْفه الدَّاء وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وروى الْقَيْح جَوْفه يرِيه ورياً: أكله، وَقَالَ قوم: مَعْنَاهُ حَتَّى يُصِيب ريته. قلت: فِيهِ نظر.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: جَوَاز الاستنصار من الْكفَّار. قَالَ الْعلمَاء: يَنْبَغِي أَن لَا يبْدَأ الْمُشْركُونَ بالسب والهجاء مَخَافَة من سبهم الْإِسْلَام وَأَهله، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون افيسبوا اعدواً} (الْأَنْعَام: 801) ولتنزيه أَلْسِنَة الْمُسلمين عَن الْفُحْش، إلاَّ أَن تَدْعُو إِلَى ذَلِك ضَرُورَة كابتدائهم بِهِ، فَكيف إِذا هم أَو نَحوه كَمَا فعله.
الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الدُّعَاء لمن قَالَ شعرًا، مثل قصَّة حسان.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على فَضِيلَة حسان رَضِي اتعالى عَنهُ.
96 -(4/219)
(بابُ أصْحَابِ الحِرَابِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول أَصْحَاب الحراب فِي الْمَسْجِد، وَالْمرَاد من أَصْحَاب الحراب هُنَا هم الَّذين يتشاققون بِالسِّلَاحِ كالحراب وَنَحْوهَا للاشتداد وَالْقُوَّة على الْحَرْب مَعَ أَعدَاء الدّين، وَقَالَ الْمُهلب: الْمَسْجِد مَوْضُوع لأمر جمَاعَة الْمُسلمين، وكل مَا كَانَ من الْأَعْمَال الَّتِي تجمع مَنْفَعَة الدّين وَأَهله واللعب بالحراب من تدريب الْجَوَارِح على مَعَاني الحروب فَهُوَ جَائِز فِي الْمَسْجِد وَغَيره، و: الحراب، بِكَسْر الْحَاء: جمع حَرْبَة، كالقصاع: جمع قَصْعَة. والحراب، أَيْضا مصدر من: حَارب يحارب محاربة وحراباً، وَالْمرَاد هُنَا الأول.
454411 - ح دّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزَّبِيْرِ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ لَقَدْ رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ يَوْماً عَلَى بابِ حُجْرَتِي والحَبَشةُ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ ورسولُ اللَّهِ يَسْتُرُني بِرِدَائِهِ أنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ. زَاد إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والحبشة يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " والحبشة يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ " (ذكر رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الْمدنِي. الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي مر فِي كتاب الْعلم وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ. السَّابِع عبد الله بن وهب. الثَّامِن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. التَّاسِع عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن عبد الْعَزِيز من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم صَالح وَابْن شهَاب وَعُرْوَة وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي ومصري وأيلي وَفِيه أَن قَوْله زَاد ابْن الْمُنْذر يحْتَمل التَّعْلِيق قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) هُوَ تَعْلِيق بِلَا احْتِمَال وَقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُثْمَان بن عمر عَن يُونُس وَالَّذِي زَاده هُوَ لفظ " بِحِرَابِهِمْ " (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش وَأخرجه مُسلم فِي الْعِيدَيْنِ أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " لقد رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي وَالله لقد أَبْصرت فهم معنى الْقسم من اللَّام وَلَفْظَة قد اللَّتَان تدلان على التَّأْكِيد وَرَأَيْت بِمَعْنى أَبْصرت فَلذَلِك اقْتصر على مفعول وَاحِد قَوْله " يَوْمًا " نصب على الظّرْف قَوْله " والحبشة يَلْعَبُونَ " جملَة حَالية والحبشة والحبش جنس من السودَان مَشْهُور قَوْله " وَرَسُول الله يسترني " جملَة حَالية أَيْضا وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ بعد نزُول الْحجاب قَوْله " أنظر " أَيْضا جملَة حَالية قَوْله " إِلَى لعبهم " بِفَتْح اللَّام وَكسر الْعين وبكسر اللَّام وَسُكُون الْعين قَوْله " زَاد " فعل مَاض وفاعله ابْن الْمُنْذر وَهُوَ فَاعل قَالَ أَيْضا ومفعوله الَّذِي زيد هُوَ قَوْله " بِحِرَابِهِمْ " كَمَا ذكرنَا (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام) فِيهِ جَوَاز اللّعب بالحراب فِي الْمَسْجِد على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب وَحكى ابْن التِّين عَن أبي الْحسن اللَّخْمِيّ أَن اللّعب بالحراب فِي الْمَسْجِد مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ وَالسّنة أما الْقُرْآن فَقَوله تَعَالَى {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع} وَأما السّنة فِي حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع الَّذِي أخرجه ابْن ماجة " جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ " ورد بِأَن الحَدِيث ضَعِيف وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الْآيَة تَصْرِيح بِمَا ادَّعَاهُ وَلَا عرف التَّارِيخ حَتَّى يثبت النّسخ. وَفِيه جَوَاز النّظر إِلَى اللّعب الْمُبَاح وَقَالَ الْكرْمَانِي وَقد يُمكن أَن يكون ترك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَائِشَة لتنظر إِلَى لعبهم لتضبط السّنة فِي ذَلِك(4/220)
وتنقل تِلْكَ الحركات المحكمة إِلَى بعض من يَأْتِي من أَبنَاء الْمُسلمين وتعرفهم بذلك وَفِيه من حسن خلقه الْكَرِيم وَجَمِيل معاشرته لأَهله. وَفِيه جَوَاز نظر النِّسَاء إِلَى الرِّجَال وَوُجُوب استتارهن عَنْهُم. وَفِيه فضل عَائِشَة وَعظم محلهَا عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر البيع وَالشِّرَاء يَعْنِي فِي الْإِخْبَار عَن وقوعهما على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد لَا عَن وقوعهما على الْمِنْبَر وَفِي بعض النّسخ على الْمِنْبَر وَالْمَسْجِد قيل على هَذِه النُّسْخَة يكون التَّقْدِير وعَلى الْمَسْجِد وَلَا تدخل عَلَيْهِ كلمة الاستعلاء وَالْأَصْل أَن يُقَال وَفِي الْمَسْجِد أُجِيب بِأَن هَذَا عكس مَا عمل فِي قَوْله تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} وَالْأَصْل أَن يُقَال على جُذُوع النّخل وَلَكِن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض وَقَالَ الْكرْمَانِي يجوز أَن يكون من بَاب
(علفتها تبتا وَمَاء بَارِدًا ... )
(قلت) تَقْدِيره وسقيتها مَاء بَارِدًا لِأَنَّهُ لَا يعلف بِالْمَاءِ
654511 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ عنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ قالَتْ أتَتْها بَرِيرَةُ تَسْأَلُها فَهِيَ كِتَابَتِها فقالَتْ إنْ شِئْتِ أعْطَيْتُ أهْلَكِ وَيَكُونُ الوَلاَءُ لِي وَقَالَ أهْلُها إِنْ شِئْتِ أعْطَيْتِها مَا بَقِيَ. وَقَالَ سُفْيانُ مَرَّةً إنْ شِئْتِ أعْتَقْتِها وَيكُونُ الوَلاءُ لَنا فَلَمَّا جاءَ رسولُ اللَّهِ ذكَّرَتْهُ ذَلِكَ فَقَالَ النبيُّ ابْتاعِيها فَأعْتِقيها فَإِنَّ الوَلاَءَ لِمَنْ أعْتَقَ ثمَّ قامَ رسولُ اللَّهِ عَلَى المِنْبَرِ. وَقَالَ سُفْيانُ مرَّةً فَصَعِدَ رسولُ اللَّهِ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ مَا بالُ أقْوَامٍ يشْترِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِن اشْتَرَطَ مائَةَ مَرَّةٍ قَالَ عَلِيٌّ قَالَ يَحْيَى وَعَبْدُ الوَهابِ عنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَةَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ عَوْنَ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ عَمرَةَ قالتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي اعنها وَرَوَاهُ مالِكٌ عَنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَة أَن بَرِيرَة وَلَمْ يَذْكُرْ صَعِدَ المِنْبَرَ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة تعلم من قَوْله: (مَا بَال أَقوام يشترطون) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ ذكره هُنَا عقيب قَضِيَّة مُشْتَمِلَة على بيع وَشِرَاء وَعتق وَوَلَاء، فَإِنَّهُ لما قَالَ: (ابتاعيها فأعتقيها فَإِن الْوَلَاء لمن أعتق) ، قبل صُعُوده على الْمِنْبَر، دلّ على حكم هَذِه الْأَشْيَاء، ثمَّ لما قَالَ على الْمِنْبَر: (مَا بَال أَقوام) الخ، أَشَارَ بِهِ إِلَى الْقَضِيَّة الَّتِي وَقعت، فَكَانَت إِشَارَته إِلَيْهَا كوقوعها على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه، لَا مَا ذكره أَكثر الشُّرَّاح مِمَّا تنفر عَنهُ الطباع وتمج عَنهُ الأسماع، وَسَيعْلَمُ ذَلِك من يقف عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد االمديني. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة المدنية، وَقد تكَرر ذكرهم. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وعَلى رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، لِأَن فِي رِوَايَته: حدّثنا سُفْيَان حدّثنا يحيى. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومكي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع عديدة: فِي الزَّكَاة فِي بَاب الصَّدَقَة على موَالِي أَزوَاج النَّبِي. وَفِي الْعتْق وَالْمكَاتب وَالْهِبَة والبيوع والفرائض وَالطَّلَاق والشروط والأطعمة وَكَفَّارَة الْأَيْمَان، وَأخرجه فِي الطَّلَاق من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِي الْفَرَائِض من حَدِيث ابْن عمر، وَأخرج مُسلم طرفا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَفِي بَاب إِذا اشْترط فِي البيع شُرُوطًا من حَدِيث هَاشم عَن أَبِيه عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا مطولا ومختصراً. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن القعْنبِي وقتيبة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْوَصَايَا عَن قُتَيْبَة بِهِ.(4/221)
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَفِيه: وَفِي الْعتْق عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عمْرَة عَن عَائِشَة فِي الْفَرَائِض عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان ومُوسَى بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن علية، ثَلَاثَتهمْ عَن جَعْفَر بن عون بِهِ، وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن أبي الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَفِي الْعتْق وَفِي الشُّرُوط عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي الشُّرُوط أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بِبَعْضِه. وَأخرجه ابْن ماجة أَيْضا فِي الْعتْق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد، قَالَا: حدّثنا وَكِيع عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة زوج النَّبِي أَن بَرِيرَة أتتها وَهِي مُكَاتبَة قد كاتبها أَهلهَا على تسع أَوَاقٍ، فَقَالَت لَهَا: إِن شَاءَ أهلك عددت لَهُم عدَّة وَاحِدَة وَكَانَ الْوَلَاء لي. قَالَ: فَأَتَت أَهلهَا فَذكرت ذَلِك لَهُم فَأَبَوا إلاَّ أَن يشْتَرط الْوَلَاء لَهُم، فَذكرت عَائِشَة ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: إفعلي. قَالَ: فَقَامَ النَّبِي فَخَطب النَّاس فَحَمدَ اوأثنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: (مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب ا، كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب افهو بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط، كتاب اأحق، وَشرط اأوثق، وَالْوَلَاء لمن أعتق) .
ذكر اعراب وَمَعْنَاهُ قَوْله: (قَالَ: اتتها بَرِيرَة) ، فَاعل: قَالَت، يحْتَمل أَن يكون: عمْرَة، وَيحْتَمل أَن يكون: عَائِشَة، فَإِذا كَانَت: عَائِشَة، فَفِيهِ الْتِفَات من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، وبريرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى وَفتح الثَّانِيَة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة، وَزعم الْقُرْطُبِيّ أَن وَزنهَا. فعيلة، من الْبر، وَيحْتَمل أَن تكون بِمَعْنى مفعولة أَي: مبرورة، كأكيلة السَّبع أَي مأكولته وَيحْتَمل أَن تكون بِمَعْنى: فاعلة، كرحيمة بِمَعْنى: راحمة، وَهِي بنت صَفْوَان، كَانَت لقوم من الْأَنْصَار، أَو مولاة لأبي أَحْمد ابْن جحش، وَقيل: مولاة لبَعض بني هِلَال، وَكَانَت قبطية.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَرِيرَة مولاة لعَائِشَة كَانَت لعتبة بن أبي لَهب، قلت: ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي الصحابيات، وَقَالَ: يُقَال: إِن عبد الْملك بن مَرْوَان سمع مِنْهَا، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : من حَدِيث عبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ: (كنت أجالس بَرِيرَة بِالْمَدِينَةِ فَكَانَت تَقول لي: يَا عبد الْملك إِنِّي أرى فِيك خِصَالًا وَإنَّك لخليق أَن تلِي هَذَا الْأَمر، فَإِن وليته فاحذر الدُّنْيَا، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِن الرجل ليدفع عَن بَاب الْجنَّة بعد أَن ينظر إِلَيْهَا بملىء محجمة من دم يريقه من مُسلم بِغَيْر حق) . انْتهى.
وَعبد الْملك اخْتلف فِي مولده، فَقَالَ حنيفَة بن خياط: سنة ثَلَاث، وَقَالَ أَبُو حسان الزيَادي: سنة خمس، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد سنة خمس، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد. سنة سِتّ وَعشْرين، وولاه مُعَاوِيَة ديوَان الْخراج وعمره سِتَّة عشر سنة، فعلى هَذَا تكون بَرِيرَة مَوْجُودَة بعد سنة أَرْبَعِينَ. وَقد اخْتلف فِي اسْم زوج بَرِيرَة فَفِي (الصَّحِيح) : مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء، مُثَلّثَة، وَعَن الصريفيني عَن العسكري: معتب، بِعَين مُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَعند أبي، مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ اسْمه: مقسم، وَا تَعَالَى أعلم.
قَوْله: (تسألها فِي كتَابَتهَا) ، جملَة حَالية وَقعت حَالا عَن بَرِيرَة، وَالْأَصْل فِي السُّؤَال أَن يعدى: بعن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} (الْأَنْفَال: 1) وَلَكِن لما كَانَ سؤالها بِمَعْنى الاستعطاء، بِمَعْنى: تستعطيها فِي أَمر كتَابَتهَا، عدي بِكَلِمَة الظّرْف، وَيجوز أَن يكون معنى: تسْأَل، تستعين بالتضمين، على أَن فِي رِوَايَة جَاءَت هَكَذَا، وَالْكِتَابَة فِي اللُّغَة مصدر: كتب من الْكتب، وَهُوَ الْجمع، وَمِنْه كتبت الْقرْبَة إِذا خرزتها، وَسمي هَذَا العقد؛ كِتَابَة ومكاتبة، لِأَن فِيهِ ضم حريَّة الْيَد إِلَى حريَّة الرَّقَبَة، أَو لِأَن فِيهِ جمعا بَين نجمين فَصَاعِدا، أَو لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا يكْتب الْوَثِيقَة، وَفِي الشَّرْع: تَحْرِير الْمَمْلُوك يدا فِي الْحَال، ورقبة فِي الْمَآل، لِأَن الْمكَاتب لَا يتحرر رَقَبَة إلاَّ إِذا أدّى المَال، وَهُوَ بدل الْكِتَابَة، وَأما فِي الْحَال فَهُوَ حر من جِهَة الْيَد فَقَط حَتَّى يكون أَحَق بِكَسْبِهِ، وَيجب على الْمولى الضَّمَان بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَو على مَاله، وَلِهَذَا قيل: الْمكَاتب طَار عَن ذل الْعُبُودِيَّة وَلم ينزل فِي ساحة الْحُرِّيَّة، فَصَارَ كالنعامة أَن استطير تباعر، وان استحمل تطاير. قَوْله: (فَقَالَت: إِن شِئْت) أَي: قَالَت عَائِشَة مُخَاطبَة لبريرة: إِن شِئْت، وَهُوَ بِكَسْر التَّاء. قَوْله: (أَعْطَيْت) ، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم. قَوْله: (أهلك) المُرَاد بِهِ: مواليها، وَهُوَ مَنْصُوب على أَنه مفعول أول لأعطيت، ومفعوله الثَّانِي مَحْذُوف وَهُوَ: ثمنك، لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ. قَوْله: (وَيكون الْوَلَاء لي) بِفَتْح الْوَاو، وَهُوَ فِي عرف الْفُقَهَاء عبارَة عَن تناصر يُوجب الْإِرْث، وَالْعقد وَالْوَلَاء فِي اللُّغَة. النُّصْرَة والمحبة، إلاَّ أَن اخْتصَّ فِي الشَّرْع: بولاء الْعتْق، والموالاة واشتقاقه من الْوَلِيّ وَهُوَ: الْقرب، وَحُصُول الثَّانِي بعد الأول من غير فصل. قَوْله: (وَقَالَ أَهلهَا) أَي: أهل بَرِيرَة. قَوْله: (إِن شِئْت(4/222)
اعطيتها) مقول القَوْل، التَّاء: فِي شِئْت وَأعْطيت، مَكْسُورَة لِأَنَّهَا خطاب لعَائِشَة. قَوْله: (مَا بَقِي) أَي: الَّذِي بَقِي من مَال الْكِتَابَة فِي ذمَّة بَرِيرَة، وَمحل هَذِه الْجُمْلَة النصب لِأَنَّهَا وَقعت مَفْعُولا ثَانِيًا لقَوْله؛ أعطيتهَا، ومفعوله الأول الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: أعطيتهَا. قَوْله: (وَقَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة أحد الروَاة الْمَذْكُورين فِي الحَدِيث، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن سُفْيَان حدث بِهِ. على وَجْهَيْن: فَمرَّة قَالَ: إِن شِئْت أعطيتهَا مَا بَقِي، وَمرَّة قَالَ: إِن شِئْت أعتقتها، وَيكون الْوَلَاء لنا، يَعْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ، و: التَّاء، فِي أعتقتها مَكْسُورَة لِأَنَّهَا خطاب لعَائِشَة. وَقَوله: (قَالَ سُفْيَان) دَاخل فِي الْمَوْصُول غير مُعَلّق. فَافْهَم فَإِن قلت: كم كَانَ مَال الْكِتَابَة على بَرِيرَة؟ قلت: ذكر ف بَاب الْكِتَابَة من حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة: (عَن عَائِشَة قَالَت: إِن بَرِيرَة دخلت عَلَيْهَا تستعينها فِي كتَابَتهَا وَعَلَيْهَا خمس أَوَاقٍ نجمت عَلَيْهَا فِي خمس سِنِين) الحَدِيث فَإِن قلت: ذكر فِي بَاب سُؤال النَّاس: (كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ فِي كل عَام أُوقِيَّة فأعينيني، فَقَالَ: خذيها فأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق) ، فَبين الرِّوَايَتَيْنِ تعَارض. قلت: هَذَا الحَدِيث أصح لاتصاله ولانقطاع ذَاك، وَلِأَن رَاوِي هَذَا عَن أمه وَهُوَ أعرف بِحَدِيث أمه وخالته، وَقيل: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْخَمْسَة الأواق الَّتِي قد اسْتحقَّت عَلَيْهَا بالنجوم من جملَة التِّسْعَة، أَو أَنَّهَا أَعْطَتْ نجوماً وَفضل عَلَيْهَا خَمْسَة، قلت: هَذَا يردهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الشُّرُوط: فِي البيع، وَلم تكن قَضَت من كتَابَتهَا شَيْئا. والأواق جمع: أُوقِيَّة، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء، وَالْجمع يشدد ويخفف مثل: أثفية وأثافي وأثافٍ، وَرُبمَا يَجِيء فِي الحَدِيث: وقية، وَلَيْسَت بِالْعَالِيَةِ وهمزتها زَائِدَة، وَكَانَت الْأُوقِيَّة قَدِيما عبارَة عَن أَرْبَعِينَ درهما، ثمَّ أَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف اصْطِلَاح الْبِلَاد. قَوْله: (ذكرته) ، قَالَ الْكرْمَانِي: ذكرته، بِلَفْظ التَّكَلُّم، والمتكلم بِهِ عَائِشَة، والراوي نقل لَفظهَا بِعَيْنِه، وبالغيبة: كَأَن عَائِشَة جردت من نَفسهَا شخصا فحكت عَنْهَا، فَالْأول: حِكَايَة الرَّاوِي عَن لفظ عَائِشَة، وَالثَّانِي: حِكَايَة عَائِشَة عَن نَفسهَا. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: (ذكرته ذَلِك) ، كَذَا وَقع هُنَا بتَشْديد الْكَاف، فَقيل: الصَّوَاب مَا وَقع فِي رِوَايَة مَالك وَغَيره بِلَفْظ: ذكرت، لِأَن التَّذْكِير يَسْتَعْدِي سبق علم بذلك، وَلَا يتَّجه تخطئة هَذِه الرِّوَايَة لاحْتِمَال السَّبق على وَجه الْإِجْمَال قلت: لم يبين أحد مِنْهُمَا رَاوِي التَّشْدِيد وَلَا رَاوِي التَّخْفِيف، وَاللَّفْظ يحْتَمل أَرْبَعَة أوجه. الأول: ذكرته، بِالتَّشْدِيدِ وبالضمير الْمَنْصُوب. وَالثَّانِي: ذكرت، بِالتَّشْدِيدِ بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب. وَالثَّالِث: ذكرت، على صِيغَة الْمَاضِي للمؤنثة الْوَاحِدَة بِالتَّخْفِيفِ بِدُونِ الضَّمِير. وَالرَّابِع: ذكرته بِالتَّخْفِيفِ، وَالضَّمِير لِأَن ذكر بِالتَّخْفِيفِ يعدى يُقَال: ذكرت الشَّيْء بعد النسْيَان، وذكرته بلساني وبقلبي وتذكرته وأذكرته غَيْرِي وذكرته، بِمَعْنى. قَوْله: (فَقَالَ ابتاعيها) أَي: قَالَ النَّبِي لعَائِشَة: اشتريها، أَي: بَرِيرَة. قَوْله: (وَقَالَ سُفْيَان مرّة فَصَعدَ رَسُول ا) أَرَادَ أَنه رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: مرّة قَالَ: ثمَّ قَامَ رَسُول الله على الْمِنْبَر، وَمرَّة قَالَ: فَصَعدَ رَسُول الله على الْمِنْبَر، وَذكر فِي بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ النِّسَاء، قَالَ لي النَّبِي: (اشْترِي واعتقي فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، ثمَّ قَامَ من الْعشي فَأثْنى على ابما هُوَ أَهله) الحَدِيث.
قَوْله: (مَا بَال أَقوام؟) أَي: مَا حَالهم؟ وَفِي بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ النِّسَاء: (مَا بَال أنَاس يشترطون شُرُوطًا ... ؟) الحَدِيث. قَوْله: (لَيست فِي كتاب اتعالى) ، أَي: الشُّرُوط، ويروى: لَيْسَ، بالتذكير، وَوَجهه إِمَّا بِاعْتِبَار جنس الشَّرْط، أَو بِاعْتِبَار الْمَذْكُور. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاط. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَالْمرَاد: من كتاب ا، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يحْتَمل أَن يُرِيد بِكِتَاب ا، حكم ا، وَيُرَاد بذلك نفي كَونهَا فِي كتاب ابواسطة أَو بِغَيْر وَاسِطَة، فَإِن الشَّرِيعَة كلهَا فِي كتاب ا، أما بِغَيْر وَاسِطَة كمالنصوصات فِي الْقُرْآن من الْأَحْكَام، وَأما بِوَاسِطَة قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) {وَأَطيعُوا اوأطيعوا الرَّسُول} (الْمَائِدَة: 29، والنور: 452، والتغابن: 21) قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ المُرَاد أَن مَا لم ينص عَلَيْهِ فِي كتاب افهو بَاطِل، فَإِن لفظ: (الْوَلَاء لمن أعتق) ، من قَوْله، لَكِن الْأَمر بِطَاعَتِهِ فِي كتاب ا، فَجَاز إِضَافَة ذَلِك إِلَى الْكتاب انْتهى. وَيجوز أَن يكون المُرَاد بِكِتَاب ا: حكم اسواء ذكر فِي الْقُرْآن إو السّنة، وَقيل: المُرَاد من الْكتاب: الْمَكْتُوب، يَعْنِي الْمَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهُ) أَي: ذَلِك الشَّرْط، أَي: لَا يسْتَحقّهُ. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من شَرط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الم يجز لَهُ) .
قَوْله: (وَإِن اشْترط مائَة مرّة) ، ذكر الْمِائَة للْمُبَالَغَة فِي الْكَثْرَة، لَا أَن هَذَا الْعدَد بِعَيْنِه هُوَ المُرَاد. وَقَالَ بَعضهم؛ لفظ مائَة للْمُبَالَغَة، فَلَا مَفْهُوم لَهُ، قلت: لم يدر هَذَا الْقَائِل أَن مَفْهُوم اللَّفْظ فِي اللُّغَة هُوَ مَعْنَاهُ، فعلى قَوْله يكون هَذَا اللَّفْظ مهملاً وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِن كَانَ قَالَ ذَلِك على رَأْي الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ فرقوا بَين(4/223)
مَفْهُوم اللَّفْظ ومنطوقه، فَهَذَا الْموضع لَيْسَ مَحَله، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ النِّسَاء: (وَإِن اشْترط مائَة شَرط، وَشرط اأحق وأوثق) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه أَيْضا. قَوْله: (وَرَوَاهُ مَالك) ، مُعَلّق وَصله فِي بَاب الْمكَاتب: عَن عبد ابْن يُوسُف عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْفَرَائِض عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، كَمَا ذكره مُرْسلا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك. وَلَفظه: (واشرطي لَهُم الْوَلَاء) ، بِغَيْر: تَاء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: مَعْنَاهُ أظهري، لِأَن الإشراط: الْإِظْهَار. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهِي رِوَايَة تفرد الشَّافِعِي عَن مَالك بهَا. قَوْله: (قَالَ عَليّ) يَعْنِي ابْن عبد االمديني الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب. قَوْله: (قَالَ يحيى) هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان و: (عبد الْوَهَّاب) ، هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، يُرِيد بذلك أَن الحَدِيث من طَرِيق هذَيْن الرجلَيْن مُرْسل، يُوضحهُ قَول الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِيمَا عندنَا من حَدِيث يحيى بن سعيد وَعبد الْوَهَّاب عَن يحيى ذَلِك الْمِنْبَر وصعوده، وحديثهما مُرْسل. حدّثنا أَبُو الْقَاسِم حدّثنا بنْدَار حدّثنا يحيى بن سعيد، قَالَ: وأنبأنا الْقَاسِم أَنبأَنَا بنْدَار حدّثنا عبد الْوَهَّاب، قَالَ: قَالَ: سمعنَا يحيى يَقُول: أَخْبَرتنِي عمْرَة بِهِ. قَوْله: (عَن عمْرَة نَحوه) يَعْنِي: نَحْو رِوَايَة مَالك. قَوْله: (وَقَالَ جَعْفَر بن عون) الخ، أَفَادَ بِهِ تَصْرِيح يحيى بِسَمَاعِهِ لَهُ عَن عمْرَة، وَكَذَا سَماع عمْرَة عَن عَائِشَة، وخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان ومُوسَى بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عون عَن يحيى بن سعيد، فَذكره فأمن بذلك مَا فِيهِ من الْإِرْسَال الْمَذْكُور، وَأعلم أَن التَّعْلِيق عَن مَالك مُتَأَخّر فِي رِوَايَة كَرِيمَة عَن طَرِيق جَعْفَر بن عون.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْكِتَابَة، فَإِذا كَاتب رجل عَبده أَو أمته على مَال شَرط عَلَيْهِ وَقبل العَبْد ذَلِك صَار مكَاتبا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) وَدلَالَة هَذَا على مَشْرُوعِيَّة العقد لَا تخفى على الْعَارِف بِلِسَان الْعَرَب، سَوَاء كَانَ الْأَمر للْوُجُوب أَو لغيره، وَهَذَا لَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب بِإِجْمَاع بَين الْفُقَهَاء سوء مَا ذهب إِلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَمن تبعه، وَرُوِيَ نَحوه عَن عَمْرو بن دِينَار وَعَطَاء وَأحمد فِي رِوَايَة، وروى صَاحب (التَّقْرِيب) عَن الشَّافِعِي نَحوه، فَإِن قلت: ظَاهر الْأَمر للْوُجُوب كَمَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ قلت: هَذَا فِي الْأَمر الْمُطلق الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، وَهنا مُقَيّد بقوله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) فَيكون أَمر ندب، وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَنه أَمر إِبَاحَة، وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَن فِي الْحمل على الْإِبَاحَة إِلْغَاء الشَّرْط إِذْ هُوَ مُبَاح بِدُونِهِ بالِاتِّفَاقِ، وَكَلَام امنزه عَن ذَلِك، وَالْمرَاد بِالْخَيرِ الْمَذْكُور أَن لَا يضر الْمُسلمين بعدالعتق، فَإِن كَانَ يضرهم فَالْأَفْضَل أَن لَا يكاتبه، وَإِن كَانَ يَصح. وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَطَاء: الْخَيْر الْكسْب خَاصَّة، وَرُوِيَ عَن الثَّوْريّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الْأَمَانَة وَالدّين خَاصَّة. وَقيل؛ هُوَ الْوَفَاء وَالْأَمَانَة وَالصَّلَاح، وَإِذا فقد الْأَمَانَة وَالْكَسْب وَالصَّلَاح لَا يكره عندنَا، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان من الشَّافِعِيَّة؛ يكره وَلَا يعْتق الْمكَاتب إِلَّا بأَدَاء الْكل عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء، لما روى أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته دِرْهَم) وروى الشَّافِعِي فِي (مُسْنده) أخبرنَا ابْن أبي عُيَيْنَة عَن ابْن نجيح عَن مُجَاهِد أَن زيد ابْن ثَابت قَالَ فِي الْمكَاتب: (هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم) ، وَاخْتَارَهُ لمذهبه، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَفِيه اخْتِلَاف الصَّحَابَة. فمذهب ابْن عَبَّاس أَنه يعْتق كَمَا أَخذ الصَّحِيفَة من مَوْلَاهُ يَعْنِي؛ يعْتق بِنَفس العقد وَهُوَ غَرِيم الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة، وَمذهب ابْن مَسْعُود أَنه يعْتق إِذا أدّى قيمَة نَفسه، وَمذهب زيد مَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ مؤيد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: جَوَاز تَزْوِيج الْأمة الْمُزَوجَة، لِأَن بَرِيرَة كَانَت مُزَوّجَة وَقد ذكرنَا اسْمه وَالِاخْتِلَاف فِيهِ فَإِن قلت: كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا. قلت: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رَأَيْته عبدا) يَعْنِي: زوج بَرِيرَة، (كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة يبكي عَلَيْهَا ودموعه تسيل على لحيته، فَقَالَ النَّبِي لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: أَلا تعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن بغض بَرِيرَة مغيثاً؟ فَقَالَ النَّبِي: لَو راجعتيه قَالَت: يَا رَسُول اتأمرني؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنا أشفع. قَالَت: فَلَا حَاجَة لي فِيهِ) . فَإِن قلت: ذكر فِي الْفَرَائِض، قَالَ الحكم: كَانَ زَوجهَا حرا قلت: قَالَ: وَقَول الحكم مُرْسل، وَذكر فِي بَاب مِيرَاث السائبة، قَالَ الْأسود: وَكَانَ زَوجهَا حرا. قَالَ: وَقَول الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس أصح. وَفِي مُسلم أَيْضا قَالَ عبد الرَّحْمَن. وَكَانَ زَوجهَا عبدا.
الثَّالِث: فِي ثُبُوت الْوَلَاء للْمُعْتق عَن نفس، فَهَذَا لَا خلاف فِيهِ للْحَدِيث الْمَذْكُور،(4/224)
وَاخْتلفُوا فِيمَن أعتق على أَن لَا وَلَاء لَهُ وَهُوَ الْمُسَمّى بالسائبة، فمذهب الْجُمْهُور أَن الشَّرْط بَاطِل وَالْوَلَاء لمن اعْتِقْ، وَمذهب أَحْمد أَنه لم يكن لَهُ الْوَلَاء عَلَيْهِ، فَلَو أَخذ من مِيرَاثه شَيْئا رده فِي مثله. وَقَالَ مَالك وَمَكْحُول وَأَبُو الْعَالِيَة وَالزهْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي اعنه: يَجْعَل، وَلَاؤُه لجَمِيع الْمُؤمنِينَ، كَذَا فعله بعض الصَّحَابَة.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تنجم الْكِتَابَة، لقولها: (كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ، فِي كل عَام أُوقِيَّة) . وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للكتابة الْحَالة فيتكلم عَلَيْهِ. قلت: يجوز عِنْد أَصْحَابنَا أَن يشْتَرط المَال حَالا ومنجماً لظَاهِر قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم} (النُّور: 33) من غير شَرط التنجم والتأجيل، فَلَا يُزَاد على النَّص بِالرَّأْيِ، وَبِه قَالَ مَالك. وَفِي (الْجَوَاهِر) : قَالَ أَبُو بكر: ظَاهر قَول مَالك: إِن التنجيم والتأجيل شَرط فِيهِ، ثمَّ قَالَ: وعلماؤنا النظار يَقُولُونَ: إِن الْكتاب الحالية جَائِزَة ويسمونها قطاعة، وَهُوَ الْقيَاس. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز حَالا. وَلَا بُد من نجمين، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي ظَاهر رِوَايَته.
الْخَامِس: اشْتِرَاط الْوَلَاء للْبَائِع هَل يفْسد العقد؟ فِيهِ خلاف، فظاهرا لحَدِيث أَنه لَا يُفْسِدهُ لما قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: (واشترطي لَهُم الْوَلَاء) . وَلَا يَأْذَن النَّبِي، فِي عقد بَاطِل. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِذا قُلْنَا إِن صَحِيح فَهَل يَصح الشَّرْط؟ فِيهِ اخْتِلَاف فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالْقَوْل بِبُطْلَانِهِ مُوَافق لألفاظ الحَدِيث. فَإِن قلت: كَيفَ يَأْذَن النَّبِي فِي البيع على شَرط فَاسد؟ وَكَيف يَأْذَن فِي البيع حَتَّى يَقع على هَذَا الشَّرْط وَيقدم البَائِع عَلَيْهِ ثمَّ يبطل اشْتِرَاطه؟ قلت: أُجِيب: عَنهُ، بأجوبة: الأول: مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: وَهُوَ أَنه لم يُوجد اشْتِرَاط الْوَلَاء فِي حَدِيث عَائِشَة إلاَّ من رِوَايَة مَالك عَن هِشَام، فَأَما من سواهُ وَهُوَ: اللَّيْث بن سعد وَعَمْرو بن الْحَارِث فَإِنَّهُمَا رويا عَن هِشَام عَن السُّؤَال لولاء بَرِيرَة ءنما كَانَ من عَائِشَة لأَهْلهَا بأَدَاء مكاتبتها إِلَيْهِم، فَقَالَ: (لَا يمنعك ذَلِك عَنْهَا: ابتاعي وأعتقي وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن اعْتِقْ) . وَهَذَا خلاف مَا رَوَاهُ مَالك عَن هِشَام: (خذيها واشرطي، فَإنَّا الْوَلَاء لمن أعتق) ، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى: أشرطي: أظهري، لِأَن الإشراط فِي كَلَام الْعَرَب الْإِظْهَار، وَمِنْه قَول أَوْس بن حجر.
(فأشرط فِيهَا نَفسه وَهُوَ معصم)
أَي: أظهر نَفسه، أَي: أظهري الْوَلَاء الَّذِي يُوجب اعتقاك إِنَّه لمن يكون الْعتاق مِنْهُ دون من سواهُ. الثَّانِي: أَن معنى: (واشترطي لَهُم) أَي: عَلَيْهِم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) قيل: فِيهِ نظر، لِأَن سِيَاق الحَدِيث وَكَثِيرًا من أَلْفَاظه يَنْفِيه، ورد بِأَن الْقَرِينَة الحالية تدل على هَذَا مَعَ أَن مَجِيء: اللَّام، بِمَعْنى: على، كثير فِي الْقُرْآن والْحَدِيث والأشعار، على مَا لَا يخفى. الثَّالِث: أَنه على الْوَعيد الَّذِي ظَاهره الْأَمر وباطنه النَّهْي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: 04) وَقَوله: {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم} (الْإِسْرَاء: 46) أَلاَ ترى أَنه صعد الْمِنْبَر وخطب وَقَالَ: مَا بَال رجال ... إِلَى آخِره.
الرَّابِع: أَنه قد كَانَ أخْبرهُم بِأَن الْوَلَاء لمن. اعْتِقْ، ثمَّ أقدموا على اشْتِرَاط مَا يُخَالف هَذَا الحكم الَّذِي علموه، فَور دهذا اللَّفْظ على سَبِيل الزّجر والتوبيخ والنكير لمخالفتهم الحكم الشَّرْعِيّ. الْخَامِس: أَن إبِْطَال هَذَا الشَّرْط عُقُوبَة ونكال لمعاندتهم فِي الْأَمر الشَّرْعِيّ، فَصَارَ هَذَا من بَاب الْعقُوبَة بِالْمَالِ كحرمان الْقَاتِل من الْمِيرَاث، وَكَانَ بَين لَهُم حكم الْوَلَاء، وَأَن هَذَا الشَّرْط لَا يحل، فَلَمَّا أحوا وعاندوا أبطل شرطهم. السَّادِس: أَن هَذَا خَاص بِهَذِهِ الْقَضِيَّة عَام فِي سَائِر الصُّور، وَيكون سَبَب التَّخْصِيص بِإِبْطَال هَذَا الشَّرْط الْمُبَالغَة فِي زجرهم عَن هَذَا الِاشْتِرَاط الْمُخَالف للشَّرْع، كَمَا أَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة كَانَ خَاصّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَة، مُبَالغَة فِي إِزَالَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ من منع الْعمرَة فِي أشهر الْحَج. وَقَالَ القَاضِي: الْمُشكل فِي هَذَا الحَدِيث مَا وَقع من طَرِيق هِشَام هُنَا، وَهُوَ قَوْله: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء) ، كَيفَ أمرهَا رَسُول ا، بِهَذَا وَفِيه عقد بيع على شَرط لَا يجوز، وتغرير بالبائعين إِذا شَرط لَهُم مَا لَا يَصح؟ وَلما صَعب الِانْفِصَال عَن هَذَا على بعض النَّاس أنكر هَذَا الحَدِيث أصلا، فحكي ذَلِك عَن يحيى بن أكتم وَقد وَقع فِي كثير من الرِّوَايَات سُقُوط هَذِه اللَّفْظَة، وَهَذَا الَّذِي شجع يحيى على إنكارها.
السَّادِس من الْأَحْكَام: مَا قَالَه الْخطابِيّ: إِن فِيهِ دَلِيلا على جَوَاز بيع الْمكَاتب، رَضِي بِهِ أَو لم يرض، عجز عَن أَدَاء نجومه أَو لم: يعجز، أدّى بعض النُّجُوم أم لَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: اخْتلفُوا فِي بيع الْمكَاتب عل ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَنْع، وَالْجَوَاز، وَالْفرق بَين أَن يَشْتَرِي لِلْعِتْقِ فَيجوز أَو للاستخدام فَلَا. أما من أجَاز بَيْعه فاستدل بِهَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ ثَبت أَن بَرِيرَة كَانَت مُكَاتبَة، وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة: لَا يجوز بَيْعه، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة(4/225)
وَأَصْحَابه أَنه لَا يجوز بيع الْمكَاتب مَا دَامَ مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع مكَاتبه بِحَال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق يَقُول: يجوز بَيْعه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام.
السَّابِع: مَا قَالَه الْخطابِيّ: فِيهِ جَوَاز بيع الرَّقَبَة بِشَرْط الْعتْق، لِأَن الْقَوْم قد تنازعوا الْوَلَاء وَلَا يكون الْوَلَاء إلاَّ بعد الْعتْق، فَدلَّ أَن الْعتْق كَانَ مَشْرُوطًا فِي البيع. قلت: إِذا اشْترط البَائِع على الْمُبْتَاع إِيقَاع معنى من مَعَاني الْبر فَإِن اشْترط عَلَيْهِ من ذَلِك مَا يتعجل كَالْعِتْقِ الْمُعَجل فَذَلِك جَائِز عِنْد الشَّافِعِي، وَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة. فَإِن امْتنع البَائِع من إِنْفَاذ الْعتْق؟ فَقَالَ أَشهب: يجْبر على الْعتْق. وَقَالَ ابْن كنَانَة: لَو رَضِي البَائِع بذلك لم يكن لَهُ ذَلِك وَيعتق عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن كَانَ اشْتَرَاهُ على إِيجَاب الْعتْق فَهُوَ حر، وَإِن كَانَ اشْتَرَاهُ من غير إِيجَاب عتق لم يجْبر على عتق، والإيجاب أَن يَقُول: إِن اشْتَرَيْته مِنْك فَهُوَ حر، وَإِن لم يقل ذَلِك، وَإِنَّمَا اشْترط أَن يسْتَأْنف عتقه بعد كَمَال ملكه فَلَيْسَ بِإِيجَاب. وَقَالَ الشَّافِعِي: البيع فَاسد ويمضي الْعتْق اتبَاعا للسّنة، وَرُوِيَ عَنهُ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وروى الْمُزنِيّ عَنهُ: لَا يجوز تصرف المُشْتَرِي بِحَال فِي البيع الْفَاسِد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَاسْتحْسن أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن أَن ينجز لَهُ الْعتْق وَيجْعَل عَلَيْهِ الثّمن، وَإِن مَاتَ قبل أَن يعتقهُ كَانَت عَلَيْهِ الْقيمَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: الْعتْق جَائِز وَعَلِيهِ الْقيمَة، وَالْحجّة لأبي حنيفَة فِي هَذَا الْبَاب وَأَمْثَاله حَدِيث عبد ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي: أَنه نهى عَن بيع وَسلف وَعَن شرطين فِي بيعَة، وَعنهُ أَيْضا: لَا يحل سلف وَلَا بيع وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، أخرجه الْأَرْبَعَة والطَّحَاوِي بأسانيد صِحَاح، وفسروا قَوْله: وَعَن شرطين فِي بيع، بِأَن البيع فِي نَفسه شَرط، فَإِذا شَرط فِيهِ شَرط آخر فقد صَار شرطين. وَقَول الْخطابِيّ: فَدلَّ أَن الْعتْق كَانَ مَشْرُوطًا فِي البيع لَا دَلِيل لَهُ فِيهِ ظَاهرا، وَالْحكم بِهِ عى جَوَاز البيع بِالشّرطِ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الحَدِيث الصَّحِيح.
الثَّامِن: مَا قَالَه الْخطابِيّ فِيهِ أَيْضا: إِنَّه لَيْسَ كل شَرط يشْتَرط فِي بيع كَانَ قادحاً فِي أَصله ومفسداً لَهُ، وَإِن معنى مَا ورد من النَّهْي عَن بيع وَشرط منصرف إِلَى بعض الْبيُوع وَإِلَى نوع من الشُّرُوط، وَقَالَ عِيَاض: الشُّرُوط الْمُقَارنَة للْبيع ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون من مُقْتَضى العقد: كالتسليم وَجَوَاز التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع، وَهَذَا لَا خلاف فِي جَوَاز اشْتِرَاطه لِأَنَّهُ يقْضِي بِهِ وَإِن لم يشْتَرط. وَالثَّانِي: أَن لَا يكون من مُقْتَضَاهُ، وَلكنهَا من مصْلحَته: كالتحميل وَالرَّهْن وَاشْتِرَاط الْخِيَار، فَهَذَا أَيْضا يجوز اشْتِرَاطه لِأَنَّهُ من مصْلحَته فَأشبه مَا كَانَ من مُقْتَضَاهُ. وَالثَّالِث: أَن يكون خَارِجا عَن ذَلِك مِمَّا لَا يجوز اشْتِرَاطه فِي الْعُقُود، بل يمْنَع من مُقْتَضى العقد أَو يُوقع فِيهِ غرراً أَو غير ذَلِك من الْوُجُوه الممنوعة، فَهَذَا مَوضِع اضْطِرَاب الْعلمَاء. وَا تَعَالَى أعلم.
قلت: عِنْد أَصْحَابنَا البيع بِالشّرطِ على ثَلَاثَة أوجه. الأول: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا جائزان، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: أَن كل شَرط يَقْتَضِيهِ العقد ويلائمه فَلَا يُفْسِدهُ بِأَن يَشْتَرِي أمة بِشَرْط أَن تخدمه أَو يَغْشَاهُ، أَو دَابَّة بِشَرْط أَن يركبهَا وَنَحْو ذَلِك. النَّوْع الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن يلائمه بِأَن يشْتَرط أَن يرهنه بِالثّمن رهنا، وَسَماهُ أَن يُعْطِيهِ كَفِيلا وَسَماهُ وَالْكَفِيل حَاضر فَقبله، وَكَذَلِكَ الْحِوَالَة، جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. النَّوْع الثَّالِث: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ: كالخيار وَالْأَجَل، أَو لم يرد الشَّرْع بِهِ وَلكنه مُتَعَارَف متعامل بَين النَّاس بِأَن اشْترى نعلا على أَن يحذوه البَائِع، أَو قلنسوة بِشَرْط أَن يبطنه. جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. الْوَجْه الثَّانِي: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا فاسدان، وَهُوَ كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَفِيه مَنْفَعَة لأَحَدهمَا أَو للمعقود عَلَيْهِ. بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع، أَو عبدا على أَن لَا يَبِيعهُ، وَكَذَا على أَن لَا يعتقهُ خلافًا للشَّافِعِيّ فِيهِ، فَإِن أعْتقهُ ضمن الثّمن اسْتِحْسَانًا عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا قِيمَته. الْوَجْه الثَّالِث: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة بل فِيهِ مضرَّة بِأَن بَاعَ ثوبا أَو دَابَّة بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ، أَو طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل وَلَا يَبِيع، جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة لأحد، بِأَن بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ جَازَ البيع وَبَطل الشَّرْط. الثَّالِث: كل شَرط يُوجب مَنْفَعَة لغير الْمُتَعَاقدين وَالْمَبِيع نَحْو: البيع بِشَرْط أَن يقْرض أَجْنَبِيّا لَا يفْسد البيع.
التَّاسِع: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا وَلَاء لمن أسلم على يَدَيْهِ، وَلَا لمن حَالف إنْسَانا على المناصرة، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فِيهِ حصر الْوَلَاء للْمُعْتق فيقضتي ذَلِك أَن لَا وَلَاء بِالْحلف والموالاة وبإسلام الرجل على يَد الرجل(4/226)
وَلَا بإلتقاطه للقيط، وكل هَذِه الصُّور فِيهَا خلاف بَين الْفُقَهَاء، وَمذهب الشَّافِعِي: لَا وَلَاء فِي شَيْء مِنْهَا للْحَدِيث. قلت: الْوَلَاء عِنْد أَصْحَابنَا نَوْعَانِ: أَحدهمَا: وَلَاء الْعتَاقَة، وَالْآخر: وَلَاء الْمُوَالَاة، وَقد كَانَت الْعَرَب تتناصر بأَشْيَاء: بِالْقَرَابَةِ والصداقة والمؤاخاة وَالْحلف والعصبة، وَوَلَاء الْعتَاقَة وَوَلَاء الْمُوَالَاة، وَقرر رَسُول الله تناصرهم بِالْوَلَاءِ بنوعين وهما: الْعتَاقَة وَوَلَاء الْمُوَالَاة، وَقَالَ: (إِن مولى الْقَوْم مِنْهُم وحليفهم مِنْهُم) . رَوَاهُ أَرْبَعَة من الصَّحَابَة، فَأَحْمَد فِي (مُسْنده) : من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عبيد بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (مولى الْقَوْم مِنْهُم، وَابْن أختهم مِنْهُم، وحليفهم مِنْهُم) . وَالْبَزَّار فِي (سنَنه) : من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، قَالَ: (حَلِيف الْقَوْم مِنْهُم وَابْن أختهم مِنْهُم) . والدارمي فِي (مُسْنده) : من حَدِيث عَمْرو بن عون أَن رَسُول ا، قَالَ: (ابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم وحليف الْقَوْم مِنْهُم) . وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) : من حَدِيث عتبَة بن غَزوَان عَن النَّبِي نَحوه، وَالْمرَاد بالحليف مولى الْمُوَالَاة لأَنهم كَانُوا يؤكدون الْمُوَالَاة بِالْحلف.
الْعَاشِر: أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام عِنْد وُقُوع بِدعَة أَن يخْطب النَّاس وَيبين لَهُم حكم ذَلِك وينكر عَلَيْهَا.
الْحَادِي عشر: فِيهِ أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام أَن يحسن الْعشْرَة مَعَ رَعيته، أَلاَ ترى أَنه، لما خطب لم يواجه صَاحب الشَّرْط بِعَيْنِه، لِأَن الْمَقْصُود يحصل لَهُ وَلغيره بِدُونِ فضيحة وشناعة عَلَيْهِ.
الثَّانِي عشر: فِيهِ الْمُبَالغَة فِي إِزَالَة الْمُنكر والتغليظ فِي تقبيحه.
الثَّالِث عشر: فِي جَوَاز كِتَابَة الْأمة دون زَوجهَا.
الرَّابِع عشر: فِيهِ أَن زوج الْأمة لَيْسَ لَهُ منعهَا من السَّعْي فِي كتَابَتهَا، وَقَالَ أَبُو عمر: لَو اسْتدلَّ مستدل من هَذَا الْمَعْنى بِأَن الزَّوْجَة لَيْسَ عَلَيْهَا خدمَة زَوجهَا كَانَ حسنا.
الْخَامِس عشر: فِيهِ دَلِيل على أَن العَبْد زوج الْأمة لَهُ منعهَا من الْكِتَابَة الَّتِي تؤول إِلَى عتقهَا وفراقها لَهُ، كَمَا أَن لسَيِّد الْأمة عتق أمته تَحت العَبْد، وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى إبِْطَال نِكَاحه، وَكَذَلِكَ لَهُ أَن يَبِيعهَا من زَوجهَا الْحر وَإِن كَانَ فِي ذَلِك بطلَان عقده.
السَّادِس عشر: فِيهِ دَلِيل على أَن بيع الْأمة ذَات الزَّوْج لَيْسَ بِطَلَاق لَهَا، لِأَن الْعلمَاء قد اجْتَمعُوا وَلم يخْتَلف فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث أَيْضا أَن بَرِيرَة كَانَت حِين اشترتها عَائِشَة ذَات الزَّوْج، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي زَوجهَا: هَل كَانَ حرا أَو عبدا؟ وَقد اجْتمع عُلَمَاء الْمُسلمين على أَن الْأمة إِذا أعتقت وَزوجهَا عبد أَنَّهَا تخير، وَاخْتلفُوا إِذا كَانَ زَوجهَا حرا هَل تخير أم لَا؟ .
السَّابِع عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز أَخذ السَّيِّد نُجُوم الْمكَاتب من مَسْأَلَة النَّاس، لترك النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، زجرها عَن مَسْأَلَة عَائِشَة إِذا كَانَت تستعينها فِي أَدَاء نجمها، وَهَذَا يرد قَول من كره كِتَابَة الْمكَاتب الَّذِي يسْأَل النَّاس، وَقَالَ: يطعمني أوساخ النَّاس.
الثَّامِن عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز نِكَاح العَبْد الْحرَّة لِأَنَّهَا إِذا خيرت فاختارته بقيت مَعَه وَهِي حرَّة وَهُوَ عبد.
التَّاسِع عشر: قَالُوا: فِيهِ مَا يدل على ثُبُوت الْوَلَاء فِي سَائِر وُجُوه الْعتْق: كالكتابة وَالتَّعْلِيق بالصيغة وَغير ذَلِك.
الْعشْرُونَ: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر العَبْد وَالْأمة، لِأَن بَرِيرَة أخْبرت أَنَّهَا مُكَاتبَة، فأجابتها عَائِشَة بِمَا أجابت.
17 - (بابُ التقاضِي والمُلاَزَمَة فيِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا الْبَاب فِي بَيَان حكم التقاضي، أَي فِي مُطَالبَة الْغَرِيم بِقَضَاء الدّين. قَوْله: (والملازمة) أَي: وَحكم مُلَازمَة الْغَرِيم فِي طلب الدّين. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) يتَعَلَّق بالتقاضي وبالملازمة أَيْضا بالتقدير، لِأَنَّهُ مَعْطُوف عَلَيْهِ.
754611 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدّثنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً كانَ لهُ عليهِ فِي المَسْجِدِ فَارْتَفَعتَ أصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسولُ اللَّهِ وهوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسولَ اللَّهِ قَالَ ضَعْ مِن دَيْنِكَ هَذَا وأوْمَأَ إِليْهِ أَي الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ قالَ قُمْ فَاقْضِهِ. (الحَدِيث 754 أَطْرَافه فِي: 174، 8142، 4242، 6072، 0172) .
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي التقاضي ظَاهر، وَأما فِي الْمُلَازمَة فبوجهين. أَحدهمَا: أَن كَعْبًا لما طلب ابْن أبي حَدْرَد بِدِينِهِ فِي(4/227)
مَسْجِد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَازمه إِلَى أَن خرج النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَفصل بَينهمَا. وَالْآخر: أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي عدَّة مَوَاضِع كَمَا سنذكرها، فَذكر فِي بَاب الصُّلْح وَفِي بَاب الْمُلَازمَة عَن عبد ابْن كَعْب عَن أَبِيه أَنه كَانَ لَهُ على عبد ابْن أبي حَدْرَد مَال فَلَزِمَهُ ... الحَدِيث، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِلَفْظ الْمُلَازمَة هُنَا، إِلَى الحَدِيث الْمَذْكُور، على أَن مَا ذكره فِي عدَّة مَوَاضِع كلهَا حَدِيث وَاحِد، وَله عَادَة فِي بعض الْمَوَاضِع يذكر التراجم بِهَذِهِ الطَّرِيقَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد ابْن مُحَمَّد بن عبد ابْن جَعْفَر بن الْيَمَان، أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، مَاتَ يَوْم الْخَمِيس لست ليالٍ بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عُثْمَان بن عمر، بِضَم الْعين: ابْن فَارس الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبد ابْن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمدنِي. السَّادِس: أَبُو كَعْب ابْن مَالك الْأنْصَارِيّ الشَّاعِر، أحد الثَّلَاثَة الَّذين تَابَ اعليهم وَأنزل افيهم: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} (التَّوْبَة: 811) رُوِيَ لَهُ ثَمَانُون حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا أَرْبَعَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة خمسين، وَكَانَ ابْنه عبد اقائده حِين عمي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصُّلْح وَفِي الْأَشْخَاص عَن عبد ابْن مُحَمَّد وَأخرجه أَيْضا فِي الْمُلَازمَة وَفِي الصُّلْح أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب بن وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عُثْمَان بن عمر بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي دَاوُد سُلَيْمَان بن سيف عَن عُثْمَان بن عمر بِهِ، وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن كَعْب بن مَالك مُرْسلا. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (إِنَّه تقاضي) أَي: أَن كَعْبًا تقاضي أَي: طَالب ابْن أبي حَدْرَد بِالدّينِ، و: تقاضى، على وزن: تفَاعل، وأصل هَذَا الْبَاب لمشاركة أَمريْن فَصَاعِدا نَحوه: تشاركاً، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعول وَاحِد وَهُوَ الابْن. قلت: إِذا كَانَ تفَاعل من فَاعل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول وَاحِد: كضارب، لم يتعدَّ وَإِن كَانَ من الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعولين: كجاذبته الثَّوْب، يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: دينا، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: بدين قلت: إِنَّمَا وَجه بِهَذَا لأَنا قُلْنَا: إِن تفَاعل إِذا كَانَ من الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعولين لَا يتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مفعول وَاحِد. قَوْله: (ابْن أبي حَدْرَد) ، اسْم ابْن أبي حَدْرَد: هُوَ عبد ابْن أبي سَلامَة: كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي أحد رواياته على مَا ذكرنَا، وَهُوَ صَحَابِيّ على الْأَصَح، شهد الْحُدَيْبِيَة وَمَا بعْدهَا، مَاتَ سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد ابْن سَلامَة بن عُمَيْر هُوَ ابْن عبد ابْن أبي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ، أَمر على غير سَرِيَّة. وَقَالَ فِي بَاب الكنى: أَبُو حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ سَلامَة بن عُمَيْر، روى عَنهُ ابْنه عبد اومحمد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا، وحروف حَدْرَد كلهَا مُهْملَة، والحاء مَفْتُوحَة وَكَذَا الرَّاء وَالدَّال سَاكِنة. قَالَ الْجَوْهَرِي ثمَّ الصَّنْعَانِيّ: حَدْرَد اسْم رجل لم يَأْتِ من الْأَسْمَاء على فعلع بتكرير الْعين غَيره. قَوْله: (كَانَ لَهُ عَلَيْهِ) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (دينا) . قَوْله: (فِي مَسْجِد) يتَعَلَّق بقوله: (تقاضى) . قَوْله: (أصواتهما) ، من قبيل قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) وَيجوز اعْتِبَار الْجمع فِي: صوتيهما بِاعْتِبَار أَنْوَاع الصَّوْت. قَوْله: (وَهُوَ فِي بَيته) جملَة اسمية فِي مَحل النصب على الْحَال من رَسُول ا. قَوْله: (فَخرج إِلَيْهِمَا) وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (فَمر بهما النَّبِي) . فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ لِأَن الْخُرُوج غير الْمُرُور؟ قلت: وفْق قوم بَينهمَا بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مر بهما أَولا ثمَّ إِن كَعْبًا لما أشخص خَصمه للمحاكمة فتخاصما وَارْتَفَعت أصواتهما فسمعهما النَّبِي وَهُوَ فِي بَيته فَخرج إِلَيْهِمَا. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ بعد، لِأَن فِي الطَّرِيقَيْنِ أَنه أَشَارَ إِلَى كَعْب بالوضيعة، وَأمر غَرِيمه بِالْقضَاءِ، فَلَو كَانَ أمره بذلك تقدم لما احْتج إِلَى إِعَادَته. قلت: الَّذِي استبعد فقد أبعد، لِأَن إعدته بذلك قد تكون للتَّأْكِيد، لِأَن الوضيعة أَمر مَنْدُوب والتأكيد بهَا مَطْلُوب، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَالْأولَى فِيمَا يظْهر لي أَن يحمل الْمُرُور على أَمر معنوي لَا حسي. قلت: إِن أَرَادَ بِالْأَمر الْمَعْنَوِيّ الْخُرُوج فَفِيهِ إِخْرَاج اللَّفْظ عَن مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ بِلَا ضَرُورَة، وَالْأولَى(4/228)
أَن يكون اللَّفْظ على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَيكون الْمَعْنى أَنه: لما سمع صوتهما خرج من الْبَيْت لأجلهما وَمر بهما. وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا فِي حَدِيث وَاحِد رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: من حَدِيث زَمعَة بن صَالح عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه: (أَن النَّبِي مر بِهِ وَهُوَ ملازم رجل فِي أوقيتين، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: هَكَذَا يضع الشّطْر، وَقَالَ الرجل: نعم يَا رَسُول ا، فَقَالَ: أدِّ إِلَيْهِ مَا بَقِي من حَقه) .
قَوْله: (سجف حجرته) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتحهَا بعْدهَا جِيم سَاكِنة، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ السّتْر، وَقيل: هُوَ الستران المقرونان بَينهمَا فُرْجَة، وكل بَاب ستر بسترين مقرونين فَكل شقّ مِنْهُ سجف، وَالْجمع أسجاف وسجوف، وَرُبمَا قَالُوا: السجاف والسجف والسجيف إرخاء السجف. زَاد فِي (الْمُخَصّص) و (الْجَامِع) : وَبَيت مسجف. وَفِي (الصِّحَاح) : أسجف السّتْر أَي أَرْسلتهُ. وَقَالَ عِيَاض وَغَيره: لَا يُسمى سجفاً إلاَّ أَن يكون مشقوق الْوسط كالمصراعين. قلت: الَّذِي قَالَه ابْن سَيّده يردهُ. قَوْله؛ (لبيْك) ، تَثْنِيَة. للبَّا، وَهُوَ الْإِقَامَة وَهُوَ مفعول مُطلق يجب حذف عَامله، وَهُوَ من بَاب الثنائي الَّذِي للتَّأْكِيد والتكرار وَمَعْنَاهُ: لباً بعد لبٍ أَي: أَنا مُقيم على طَاعَتك. قَوْله: (ضع) ، على وزن: فع، أَمر من: وضع يضع. قَوْله: (أَي الشّطْر) تَفْسِير لقَوْله: هَذَا، أَي: ضع عَنهُ الشّطْر أَي: النّصْف. وَجَاء لفظ: النّصْف، مُصَرحًا فِي رِوَايَة الْأَعْرَج على مَا يَجِيء إِن شَاءَ اتعالى، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ تَفْسِير للمنصوب، وَهُوَ قَوْله: هَذَا، لِأَنَّهُ مَنْصُوب بقوله: ضع. قَوْله: (لقد فعلت) مُبَالغَة فِي امْتِثَال الْأَمر لِأَنَّهُ أكد فعلت: بِاللَّامِ، وَكلمَة؛ قد، وَفِيه معنى الْقسم أَيْضا. قَوْله: (قُم) ، خطاب لِابْنِ أبي حَدْرَد. قَوْله: (فاقضه) أَمر على جِهَة الْوُجُوب، لِأَن رب الدّين لما أطَاع بِوَضْع مَا أَمر بِهِ تعين على الْمديَان أَن يقوم بِمَا بَقِي عَلَيْهِ لِئَلَّا يجْتَمع على رب الدّين وضيعة ومطل.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: إِشَارَة إِلَى أَنه لَا يجْتَمع الوضيعة والمطل، لِأَن صَاحب الدّين يتَضَرَّر كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: الْمُخَاصمَة فِي الْمَسْجِد فِي الْحُقُوق، والمطالبة بالديون، قَالَه ابْن بطال. وَفِيه: دَلِيل على إِبَاحَة رفع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد مَا لم يتفاحش لعدم الْإِنْكَار مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد أفرد لَهُ البُخَارِيّ بَابا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ اتعالى فَإِن قلت: قد ورد فِي حَدِيث وَاثِلَة من عِنْد ابْن مَاجَه يرفعهُ: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَحَدِيث مَكْحُول من عِنْد أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ عَن معَاذ مثله، وَحَدِيث جُبَير بن مطعم، وَلَفظه: (وَلَا ترفع فِيهِ الْأَصْوَات) ، وَكَذَا حَدِيث ابْن عمر من عِنْد أبي أَحْمد. قلت: أُجِيب: بِأَن هَذِه الْأَحَادِيث ضَعِيفَة، فَبَقيَ الْأَمر على الْإِبَاحَة من غير معَارض، وَلَكِن هَذَا الْجَواب لَا يُعجبنِي لِأَن الْأَحَادِيث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إِذا اخْتلفت طرقها ومخارجها، وَالْأولَى أَن يُقَال: أَحَادِيث الْمَنْع مَحْمُولَة على مَا إِذا كَانَ الصَّوْت متفاحشاً، وَحَدِيث الْإِبَاحَة مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ غير متفاحش. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يقْضِي الرجل فِي الْمَسْجِد دينا، وَأما التِّجَارَة وَالصرْف فَلَا أحبه. وَفِيه: جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْإِشَارَة لقَوْله: هَكَذَا، أَي: الشّطْر، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْكَلَام إِذا فهمت لدلالتها عَلَيْهِ، فَيصح على هَذَا يَمِين الْأَخْرَس وشهادته ولعانه وعقوده إِذا فهم عَنهُ ذَلِك. وَفِيه: إِشَارَة الْحَاكِم إِلَى الصُّلْح على جِهَة الْإِرْشَاد، وَهَهُنَا وَقع الصُّلْح على الْإِقْرَار الْمُتَّفق عَلَيْهِ، لِأَن نزاعهما لم يكن فِي الدّين وَإِنَّمَا كَانَ فِي التقاضي. وَأما الصُّلْح على الْإِنْكَار فَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة وَمَالك، وَهُوَ قَول الْحسن. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ بَاطِل، وَبِه قَالَ ابْن أبي ليلى. وَفِيه: الْمُلَازمَة للاقتضاء. وَفِيه: الشَّفَاعَة إِلَى صَاحب الْحق والإصلاح بَين الْخُصُوم وَحسن التَّوَسُّط بَينهم. وَفِيه: قبُول الشَّفَاعَة فِي غير مَعْصِيّة. وَفِيه: إرْسَال الستور عِنْد الْحُجْرَة.
27 - (بابُ كَنْسِ المَسْجِدِ والْتِقَاطِ الخِرَقِ والقَذَى وَالعِيدَانِ مِنْهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل كنس الْمَسْجِد، وَهُوَ إِزَالَة الكناسة مِنْهُ، والالتقاط هُوَ أَن تعثر على شَيْء من غير قصد وَطلب، و: الْخرق، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء جمع: خرقَة، و: القذى، بِفَتْح الْقَاف والذال الْمُعْجَمَة جمع: قذاة، وَجمع الْجمع: أقذية. قَالَ الْجَوْهَرِي: القذى فِي الْعين وَالشرَاب: مَا يسْقط فِيهِ، قلت: المُرَاد مِنْهُ هَهُنَا كسر الأخشاب والقش وَنَحْو ذَلِك، و: العيدان، جمع: عود، وَهُوَ الْخشب. قَوْله: (مِنْهُ) لَيْسَ فِي أَكثر النّسخ، وَلَكِن بِقدر فِيهِ، وَهُوَ يتَعَلَّق بالالتقاط.(4/229)
854 - ح دّثنا سُلَيْمَانْ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أبي رَافِعٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رَجُلاً أسْوَدَ أَو امْرَأَةً سَوْدَاءَ كانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ فَسَأَلَ النبيُّ عنهُ فَقالُوا ماتَ قالَ أفَلاَ كُنْتُم آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلونِي عَلَى قَبْرِهِ أوْ قَالَ عَلَى قَبْرِها فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْها. (الحَدِيث 854 طرفاه فِي: 064. 7331) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يقم الْمَسْجِد) أَي: يكنسه، فَإِن قلت: الْتِقَاط الْخرق إِلَى آخِره من جملَة التَّرْجَمَة، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك، قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ البُخَارِيّ حمله بِالْقِيَاسِ على الكنس، وَالْجَامِع بَينهمَا: التَّنْظِيف. وَقيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بذلك كُله إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه صَرِيحًا: (وَكَانَت تلْتَقط الْخرق والعيدان من الْمَسْجِد) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة، وَفِي حَدِيث بُرَيْدَة عَن أَبِيه: (كَانَت مولعة بلقط القذى من الْمَسْجِد) .
ذكر رِجَاله. وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب الواشحي، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى: واشح، بطن من الأزد، الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، وَقد ذكر غير مرّة. الثَّالِث: ثَابت الْبنانِيّ. الرَّابِع: أَبُو رَافع: نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الصَّائِغ التَّابِعِيّ الْكَبِير، وَلَقَد وهم من قَالَ: إِنَّه أَبُو رَافع الصَّحَابِيّ، وَقَالَ: وَهُوَ من رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. فَإِن ثَابتا الْبنانِيّ لم يدْرك أَبَا رَافع الصَّحَابِيّ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن وَاقد، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَأبي كَامِل الجحدري. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب ومسدد، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (أَو امْرَأَة سَوْدَاء) ، الشَّك فِيهِ إِمَّا من ثَابت أَو من أبي رَافع، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه من ثَابت لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة هَكَذَا، وَأخرج البُخَارِيّ أَيْضا عَن حَمَّاد بِهَذَا الْإِسْنَاد. قَالَ: وَلَا آراه، إلاَّ امْرَأَة. وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: (امْرَأَة سَوْدَاء) ، من غير شكّ فِيهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: من حَدِيث ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه: أَن اسْم الْمَرْأَة أم محجن.
وَفَائِدَة أُخْرَى فِيهِ أَن الَّذِي أجَاب النَّبِي عَن سُؤَاله عَنْهَا أَبُو بكر الصّديق. قَوْله: (كَانَ يقم) ، من: قُم، الشَّيْء يقم قماً، من بَاب: نصر ينصر نصرا، وَمَعْنَاهُ: كنسه، وَالْقُمَامَة، بِضَم الْقَاف: الكناسة. قَالَه ابْن سَيّده: وَقَالَ اللحياني: قمامة الْبَيْت مَا كنس مِنْهُ فألقي بعضه على بعض، وَهِي لُغَة حجازية، والمقمة، بِكَسْر الْمِيم: المكنسة. وَفِي (الصِّحَاح) وَالْجمع: القمام. قَوْله: (سُئِلَ عَنهُ) ، أَي عَن حَاله، ومفعول: سَأَلَ، مَحْذُوف أَي: سَأَلَ النَّاس عَنهُ. قَوْله: (أَفلا كُنْتُم؟) لَا بُد من مُقَدّر بعد الْهمزَة، وَالتَّقْدِير: أدفنتم؟ فَلَا كُنْتُم آذنتموني: بِالْمدِّ، أَي: أعلمتنموني بِمَوْتِهِ حَتَّى أُصَلِّي عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن صلَاته رَحْمَة وَنور فِي قُبُورهم، على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (إِن امْرَأَة أَو شَابًّا) الحَدِيث، وَزَاد فِي آخِره: (إِن هَذِه الْقُبُور مَمْلُوءَة ظلمَة على أَهلهَا، وَإِن اتعالى ينورها لَهُم بصلاتي عَلَيْهِم) . قيل: إِن البُخَارِيّ لم يخرج هَذِه الزِّيَادَة لِأَنَّهَا مدرجة فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَهِي من مَرَاسِيل ثَابت، بَين ذَلِك غير وَاحِد من أَصْحَاب حَمَّاد بن زيد. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ، الَّذِي يغلب على الْقلب أَن هَذِه الزِّيَادَة فِي غير رِوَايَة أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة، فإمَّا أَن يكون عَن ثَابت عَن النَّبِي مُرْسلا، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد بن عَبدة وَمن تَابعه، أَو عَن ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي كَمَا رَوَاهُ غير حَمَّاد بن زيد عَن ثَابت عَن أبي رَافع، فَلم يذكرهَا. وروى ابْن حبَان من حَدِيث خَارِجَة بن زيد بن ثَابت عَن عَمه يزِيد بن ثَابت، قَالَ: (خرجنَا مَعَ النَّبِي، فَلَمَّا ورد البقيع إِذْ مر بِقَبْر جَدِيد، فَسَأَلَ عَنهُ، فَقيل: فُلَانَة. فعرفها، وَقَالَ: أَلا آذنتموني بهَا؟ قَالُوا: كنت قَائِلا صَائِما فكرهنا أَن نؤذيك. قَالَ: فَلَا تَفعلُوا لأعرفن، مَا مَاتَ فِيكُم ميت مَا كنت بَين أظهر كم إلاَّ آذنتموني بِهِ، صَلَاتي عَلَيْهِ رَحْمَة لَهُ، ثمَّ أَتَى الْقَبْر فصففنا خَلفه فَكبر عَلَيْهِ أَرْبعا) . انْتهى. كَذَا ذكره فِي صَحِيحه، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَهُوَ يحْتَاج إِلَى تَأمل وَنظر، وَذَلِكَ أَن يزِيد قتل بِالْيَمَامَةِ سنة ثِنْتَيْ عشرَة، وخارجة توفّي سنة مائَة أَو أقل من ذَلِك، وسنه سَبْعُونَ سنة، فَلَا يتَّجه سَمَاعه مِنْهُ بِحَال.(4/230)
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: فضل تنظيف الْمَسْجِد، وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: الحض على كنس الْمَسَاجِد وتنظيفها لِأَنَّهُ إِنَّمَا رخصه بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بعد دَفنه من أجل ذَلِك، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كنس الْمَسْجِد. وَفِيه: خدمَة الصَّالِحين وَالسُّؤَال عَن الْخَادِم وَالصديق إِذا غَابَ وافتقاده. وَفِيه: الْمُكَافَأَة بِالدُّعَاءِ والترحم على من وقف نَفسه على نفع الْمُسلمين ومصالحهم. وَفِيه: الرَّغْبَة فِي شُهُود جنائز الصَّالِحين. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر، وَهِي مَسْأَلَة خلافية جوزها طَائِفَة، مِنْهُم: عَليّ وَأَبُو مُوسَى وَابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَمنعه: النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري. وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَاللَّيْث وَمَالك، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا يجوز إِذا لم يصل الْوَلِيّ والوالي، ثمَّ اخْتلف من قَالَ بِالْجَوَازِ إِلَى كم يجوز؟ فَقيل: إِلَى شهر، وَقيل: مَا لم يبل جسده، وَقيل: أبدا، وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي الْجَنَائِز، إِن شَاءَ اتعالى. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْإِعْلَام بِالْمَوْتِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: أَن على الرَّاوِي التَّنْبِيه على شكه فِيمَا رَوَاهُ مشكوكاً.
37 - (بابُ تحْرِيمِ تِجَارَةِ الخَمْرِ فِي المسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر، وَلَا بُد فِيهِ من تَقْدِير مُضَاف، لِأَن المُرَاد بَيَان ذَلِك، وَتبين أَحْكَامه وَلَيْسَ المُرَاد بِأَن تَحْرِيمهَا مُخْتَصّ بِالْمَسْجِدِ لِأَنَّهَا حرَام، سَوَاء كَانَت فِي الْمَسْجِد أَو فِي غَيره، وَقَوله: فِي الْمَسْجِد، يتَعَلَّق بِالتَّحْرِيمِ لَا بِالتِّجَارَة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَخذ من كَلَام ابْن بطال: وغرض البُخَارِيّ هُنَا فِي هَذَا الْبَاب، وَا أعلم، أَن الْمَسْجِد لما كَانَ للصَّلَاة وَلذكر اتعالى منزهاً من الْفَوَاحِش، وَالْخمر والربا من أكبر الْفَوَاحِش يمْنَع من ذَلِك، فَلَمَّا ذكر الشَّارِع تَحْرِيمهَا فِي الْمَسْجِد، ذكر أَنه لَا بَأْس بِذكر الْمُحرمَات والأقذار فِي الْمَسْجِد على وَجه النَّهْي عَنْهَا، وَالْمَنْع مِنْهَا. انْتهى. وَأخذ بَعضهم من كَلَامه: فَقَالَ: بَاب تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد، أَي: جَوَاز ذكر ذَلِك. قلت: كل هَذَا خَارج عَن المهيع أَو تَصَرُّفَات بِغَيْر تَأمل، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي بَيَان جَوَاز ذكر ذَلِك فِي الْمَسْجِد، إِذْ هُوَ مُبين من الْخَارِج، وَلَيْسَ غَرَض البُخَارِيّ ذَلِك، وَإِنَّمَا غَرَضه بَيَان أَن تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر وَقع فِي الْمَسْجِد، لِأَن ظَاهر حَدِيث الْبَاب مُصَرح بذلك، لِأَن عَائِشَة. قَالَت: لما نزلت الْآيَات من سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا خرج النَّبِي إِلَى الْمَسْجِد إِلَى آخِره، فَهَذَا ظَاهره أَن تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر بعد نزُول آيَات الرِّبَا. فَإِن قلت: كَانَ تَحْرِيم الْخمر قبل نزُول آيَات الرِّبَا بِمدَّة طَوِيلَة، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَلَمَّا حرمت الْخمر حرمت التِّجَارَة فِيهَا أَيْضا قطعا، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر تَحْرِيم تجارتها هَهُنَا. قلت: يحْتَمل كَون تَحْرِيم التِّجَارَة فِيهَا قد تَأَخَّرت عَن وَقت تَحْرِيم عينهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ذكره هُنَا تَأْكِيدًا ومبالغة فِي إِشَاعَة ذَلِك، أَو يكون قد حضر الْمجْلس من لم يبلغهُ تَحْرِيم التِّجَارَة فِيهَا قبل ذَلِك، فَأَعَادَ ذكر ذَلِك للإعلام لَهُم، وَكَانَ ذَلِك وَرَسُول الله فِي الْمَسْجِد، وَهَذَا أَيْضا هُوَ موقع التَّرْجَمَة، وَلَيْسَ ذَلِك مثل مَا قَالَ بَعضهم: وموقع التَّرْجَمَة أَن الْمَسْجِد منزه عَن الْفَوَاحِش قولا وفعلاً، لَكِن يجوز ذكرهَا فِيهِ للتحذير مِنْهَا. انْتهى. قلت: إِذا كَانَ ذكر الْفَوَاحِش جَائِزا فِي الْمَسْجِد لأجل التحذير، فَمَا وَجه تَخْصِيص ذكر فَاحِشَة تَحْرِيم الْخمر فِي الْمَسْجِد؟ وَجَوَاب هَذَا يلْزم هَذَا الْقَائِل، فعلى مَا ذكرنَا لَا يرد سُؤال فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب.
954811 - ح دّثنا عَبْدَانُ عَنْ أبي حَمْزَة عنِ الأَعْمَشِ عنْ مسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتِ الآياتُ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ النبيُّ إلَى المَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الخَمْرِ. (الحَدِيث 954 أَطْرَافه فِي: 4802، 6222، 0454، 1454، 2454، 3454) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا الْآن.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ: هُوَ عبد ابْن عُثْمَان الْمروزِي، وعبدان، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: لقب لَهُ قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَأَصله من الْبَصْرَة. الثَّانِي: أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، مر فِي بَاب نفض الْيَدَيْنِ فِي الْغسْل. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش.(4/231)
الرَّابِع: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وكنيته أَبُو الضُّحَى الْكُوفِي. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْكُوفِي. السَّادِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض وهم: الْأَعْمَش وَمُسلم ومسروق.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد، وَفِيه أَيْضا عَن عمر بن حَفْص، وَفِي الْبيُوع وَالتَّفْسِير أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن عُثْمَان عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد بِهِ، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة الضَّرِير بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (لما نزلت الْآيَات) هِيَ من قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} (الْبَقَرَة: 572) إِلَى قَوْله: {لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ} (الْبَقَرَة: 972) وروى ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (آكل الرِّبَا يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة مَجْنُونا يخنق) . قَالَ: وَرُوِيَ عَن عَوْف بن مَالك وَسَعِيد بن جُبَير وَالسُّديّ وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان نَحْو ذَلِك، وروى ابْن جريرج فال: حَدثنِي الْمثنى حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حدّثنا ربيعَة بن كُلْثُوم حدّثنا أبي عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (يُقَال يَوْم الْقِيَامَة لآكل الرِّبَا: خُذ سِلَاحك للحرب، وَقَرَأَ: {لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي بتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} (الْبَقَرَة: 572) قَالَ: وَذَلِكَ حِين يقوم من قَبره) . قَوْله: (من سُورَة الْبَقَرَة) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (لما نزلت الْآيَات من آخر سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا، قَرَأَهَا رَسُول الله على النَّاس ثمَّ حرم التِّجَارَة فِي الْخمر) . وَقَالَ ابْن كثير فِي تَفْسِيره: قَالَ بعض من تكلم على هَذَا الحَدِيث من الْأَئِمَّة: لما حرم الرِّبَا ووسائله حرم الْخمر، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ من تِجَارَة وَنَحْو ذَلِك. قلت: ظَاهر هَذَا يدل على أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ مَعَ تَحْرِيم الرِّبَا، وَلَكِن قَالُوا: إِن تَحْرِيم الْخمر قبل تَحْرِيم الرِّبَا بِمدَّة طَوِيلَة، كَمَا ذكرنَا عَن قريب. والربا: مَقْصُور، من: رَبًّا يَرْبُو إِذا زَاد فَيكْتب بِالْألف، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كتبه بِالْيَاءِ بِسَبَب الكسرة فِي أَوله، وَقد كتب فِي الْمُصحف: بِالْوَاو. قَالَ الْفراء: إِنَّمَا كتبوه بِالْوَاو لِأَن أهل الْحجاز تعلمُوا الْخط من أهل الْحيرَة ولغتهم الربو، فعلموهم صُورَة الْخط على لغتهم، قَالَ: وَيجوز كتبه بِالْألف وبالواو وبالياء. قَوْله: (تِجَارَة الْخمر) أَي: بيعهَا وشراءها.
47 - (بابُ الخَدَمِ لِلْمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الخدم، بِفَتْح الْخَاء وَالدَّال: جمع خَادِم، هَكَذَا بِكَلِمَة: فِي فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: الخدم لِلْمَسْجِدِ، بِاللَّامِ: وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يكون هَذَا الْبَاب عقيب بَاب: كنس الْمَسْجِد، على مَا لَا يخفى.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} تَعْنِي {مُحَرَّراً} لِلْمَسْجِدِ يخْدُمُها.
13
- 50 أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن تَعْظِيم الْمَسْجِد بِالْخدمَةِ كَانَ مَشْرُوعا أَيْضا فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة، أَلاَ ترى أَن اتعالى حكى عَن حنة أم مَرْيَم أَنَّهَا لما حبلت نذرت تَعَالَى أَن يكون مَا فِي بَطنهَا محرراً، يَعْنِي عتيقاً يخْدم الْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَلَا يكون لأحد عَلَيْهِ سَبِيل، وَلَوْلَا أَن خدمَة الْمَسَاجِد مِمَّا يتَقرَّب بِهِ إِلَى اتعالى لما نذرت بِهِ، وَهَذَا أَيْضا مَوضِع التَّرْجَمَة. وَأما التَّعْلِيق الْمَذْكُور فَإِن الضَّحَّاك ذكره عَن ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِيره. قَوْله: (تَعْنِي) بِلَفْظ الْمُؤَنَّث الْغَائِب، لِأَنَّهُ يرجع إِلَى حنة أم مَرْيَم، و: حنة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (يخدمها) ، ويروى: (ويخدمه) ، أَي: يخْدم الْمَسْجِد، وعَلى الأول: يخْدم الْمَسَاجِد أَو الأَرْض المقدسة، وَنَحْو ذَلِك.
064911 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ وَاقِدٍ قَالَ حدّثنا حَمَّادٌ عنْ ثابِتٍ عنْ أبي رَافِعٍ عنْ أبي هُرَيْرَة(4/232)
َ أنَّ امْرَأَةً أوْ رَجُلاً كانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ ولاَ أَرَاهُ إِلاَّ امْرَأَةً فَذَكَرَ حَدِيثَ النبيِّ أنَّهُ صلَّى عَلَى قَبْرِهِ. (انْظُر الحَدِيث 854 وطرفه) .
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهر، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر مُسْتَوفى عَن قريب، وَأحمد بن وَاقد بِالْقَافِ هُوَ أَحْمد بن عبد الْملك بن وَاقد الْحَرَّانِي أَبُو يحيى، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِبَغْدَاد، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وثابت الْبنانِيّ وَأَبُو رَافع نفيع، وَقد مر ذكرهم. قَوْله: (وَلَا أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: لَا أَظُنهُ، وَهَذَا من كَلَام أبي رَافع، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام أبي هُرَيْرَة، رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (فَذكر) أَي: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ، ذكر حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الَّذِي تقدم فِي الْبَاب السَّابِق.
57 - (بابُ الأَسِيرِ أَو الغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة ربط الْأَسير أَو الْغَرِيم فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ القَاضِي شُرَيْح يَأْمر بربط الْغَرِيم فِي سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد. قَوْله: (الْأَسير) ، فعيل بِمَعْنى مفعول، قَالَ الْجَوْهَرِي: أسره أَي: شده بالإسار، وَهُوَ الْقد، وَمِنْه سمي الْأَسير. وَكَانُوا يشدونه بالقد فَسُمي كل أخيذ أَسِيرًا، وَإِن لم يشد بِهِ، والغريم هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الدّين، وَقد يكون الْغَرِيم لَهُ الدّين، وَالْمرَاد هُنَا الأول. قَوْله: (يرْبط) ، جملَة وَقعت حَالا من كل وَاحِد من: الْأَسير والغريم، بِتَقْدِير جملَة أُخْرَى نَحْوهَا للمطعوف عَلَيْهِ، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين بِكَلِمَة: أَو الَّتِي للتنويع، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن وَغَيره: والغريم، بواو الْعَطف.
164121 - ح دّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ شُعْبَةَ عنْ محَمَّدٍ بنِ زِيادٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ قَالَ إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ أوْ كَلِمَةً نحْوَها لِيقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنهُ فَأَرَدْتُ إِنْ أرْبِطَهُ إِلَى سارِية مِنْ سَوَارِي المسْجدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدي قَالَ رَوْحٌ فرَدَّهُ خاسِئاً. (الحَدِيث 164 أَطْرَافه فِي: 0121، 4823، 3243، 8084) .
11
- 50 وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْأَسير) ، ظَاهر، وَأما فِي قَوْله: (والغريم) فبالقياس عَلَيْهِ، لِأَن الْغَرِيم مثل الْأَسير فِي يَد صَاحب الدّين.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، تقدم فِي كتاب الْعلم. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وخفة الْبَاء الْمُوَحدَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْمَشْهُور بغندر. الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الْخَامِس: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، تقدم ذكره فِي بَاب غسل الأعقاب. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة إِسْحَاق عَن شيخين. وَفِيه: القَوْل بَينه وَبَينهمَا. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أَيْضا، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن مُحَمَّد بن بشار أَيْضا، وَفِي صفة إِبْلِيس عَن مَحْمُود وَمُحَمّد فرقهما، كِلَاهُمَا عَن شَبابَة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن غنْدر عَن بنْدَار.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (إِن عفريتا) قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَزنه: فعليت وَفِي (الْمُحكم) : رجل عفر وعفرية وعفاريت وعفريت، بيّن العفارة: خَبِيث مُنكر. وَقَالَ الزّجاج: العفريت النَّافِذ فِي الْأَمر المبالغ فِيهِ، من: خبث ودهاء، وَقد تعفرت. وَفِي (الْجَامِع) : والشيطان عفريت وعفرية وهم العفاريت والعفارية، وَفِي الْقُرْآن: {قَالَ عفريت من الْجِنّ} (النَّمْل: 93) وَقَرَأَ بعض الْقِرَاءَة: قَالَ عفرية من الْجِنّ، قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا سكنت الْبَاء صيرت الْهَاء تَاء، وَإِذا حركتها فالتاء هَاء فِي الْوَقْف. قَوْله: (من الْجِنّ) ، قَالَ ابْن(4/233)
سَيّده: الْجِنّ نوع من الْعَالم، وَالْجمع: جنان، وهم: الْجنَّة، والجني مَنْسُوب إِلَى الْجِنّ، وَالْجنَّة طائف من الْجِنّ، والمجنة الْجِنّ، وَأَرْض مجنة: كَثِيرَة الْجِنّ، والجان: أَبُو الْجِنّ، والجان: الْجِنّ، وَهُوَ اسْم جمع.
وَاعْلَم أَن الْمَوْجُود الْمُمكن الَّذِي لَيْسَ بمتحيز وَلَا صفة للمتحيز هم الْأَرْوَاح، وَهِي: إِمَّا سفلية وَإِمَّا علوِيَّة. فالسفلية: إِمَّا خيرة وهم: صالحو الْجِنّ، أَو شريرة وهم مَرَدَة الشَّيَاطِين. والعلوية: إِمَّا مُتَعَلقَة بالأجسام: وَهِي الْأَرْوَاح الفلكية، أَو غير مُتَعَلقَة بالأجسام: وَهِي الْأَرْوَاح المقدسة. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْجِنّ خلاف الْإِنْس، يُقَال: جنه اللَّيْل وأجنه وجن عَلَيْهِ وغطاه فِي معنى وَاحِد: إِذا ستره، وكل شَيْء استتر فقد جن عَنْك، وَبِه سميت الْجِنّ، وَقَالَ ابْن عقيل: إِنَّمَا سمي الْجِنّ جناً لاستجنانهم واستتارهم عَن الْعُيُون، وَمِنْه سمي الْجَنِين جَنِينا.
قَوْله: (تفلت) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد اللَّام: أَي تعرض لي فلتة أَي بَغْتَة. وَفِي (الْمُحكم) : أفلت الشَّيْء إِذا أَخذه بَغْتَة فِي سرعَة، و: كَانَ ذَلِك فلتة أَي: فَجْأَة، وَالْجمع: فلتات، لَا يُجَاوز بهَا جمع السلامية، والفلتة الْأَمر يَقع من غير إحكام. وَفِي (الْمُنْتَهى) : تفلت علينا وإلينا. وَفِي (الصِّحَاح) : أفلت الشَّيْء يفلت وانفلت بِمَعْنى، وأفلته غَيره. قَوْله: (البارحة) ، هِيَ أقرب لَيْلَة مَضَت. وَفِي (الْمُنْتَهى) : كل زائل بارح، وَمِنْه سميت البارحة أدنى لَيْلَة زَالَت عَنْك، تَقول: لَقيته البارحة، والبارحة الأولى، ومنذ ثَلَاث لَيَال. وَفِي (الْمُحكم) : البارحة هِيَ اللَّيْلَة الخالية وَلَا تحقر، وَقَالَ قَاسم فِي (كتاب الدَّلَائِل) : يُقَال: بارحة الأولى يُضَاف الِاسْم إِلَى الصّفة، كَمَا يُقَال: مَسْجِد الْجَامِع، وَمِنْه الحَدِيث: (كَانَت لي شَاة فَعدا عَلَيْهَا الذِّئْب بارحة الأولى) . وانتصابها على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (أَو كلمة نَحْوهَا) أَي: أَو قَالَ كلمة، نَحْو: تفلت عَليّ البارحة، مثل قَوْله فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: (عرض لي فَشد عَليّ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (عرض لي فِي صُورَة هر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (جَاءَ بشهاب من نَار ليجعله فِي وَجْهي) . قَوْله: (إِلَى سَارِيَة) وَهِي الأسطوانة. قَوْله: (حَتَّى تصبحوا) ، أَي: حَتَّى تدْخلُوا فِي الصَّباح، وَهِي تَامَّة لَا تحْتَاج إِلَى خبر. قَوْله: (كلكُمْ) ، بِالرَّفْع تَأْكِيد للضمير الْمَرْفُوع. قَوْله: (رب اغْفِر لي وهب لي) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي بَقِيَّة الرِّوَايَات هُنَا: (رب هَب لي) ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّه ذكره على قصد الاقتباس من الْقُرْآن، لَا على قصد أَنه قُرْآن. انْتهى. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم، كَمَا فِي رِوَايَة أبي ذَر: والأخوة بَين سُلَيْمَان وَبَين سيدنَا مُحَمَّد بِحَسب أصُول الدّين أَو بِحَسب الْمُمَاثلَة فِي الدّين. قَوْله: (قَالَ روح فَرده خاسئاً) أَي: قَالَ روح بن عبَادَة الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، فَرده النَّبِي، أَي: العفريت، حَال كَونه خاسئاً أَي: مطروداً. وَفِي (الْمُحكم) : الخاسىء من الْكلاب والخنازير وَالشَّيَاطِين: الْبعيد الَّذِي لَا يتْرك أَن يدنو من النَّاس، وخسأ الْكَلْب يخسأ خسأً وخسوءاً فخسأ وانخسأ، وَيُقَال: اخْسَأْ إِلَيْك واخسأ عني. وَفِي (الصِّحَاح) : خسأت الْكَلْب طردته، وخسأ الْكَلْب نَفسه، يتعدي وَلَا يتَعَدَّى، وَيكون الخاسىء بِمَعْنى: الصاغر الذَّلِيل، ثمَّ إِن قَوْله هَذَا بِحَسب الظَّاهِر يدل على أَن هَذِه الزِّيَادَة فِي رِوَايَة روح دون رَفِيقه مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَلَكِن البُخَارِيّ روى فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَحده، فَزَاد فِي آخِره أَيْضا: (فرددته خاسئاً) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَرده اخاسئاً) ، فعل هَذَا دلّ على أَن قَوْله: قَالَ روح، دَاخل تَحت الْإِسْنَاد، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: هَذَا تَعْلِيق للْبُخَارِيّ مِنْهُ، أَو هُوَ دَاخل تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْفَوَائِد الأولى: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن رُؤْيَة الْجِنّ الْبشر غير مستحيلة، وَالْجِنّ أجسام لَطِيفَة والجسم، وَإِن لطف فدركه غير مُمْتَنع أصلا، وَأما قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) فَإِن ذَلِك حكم الْأَعَمّ الْأَغْلَب من أَحْوَال بني آدم، امتحنهم ابذلك وابتلاهم ليفزعوا إِلَيْهِ ويستعيذوا بِهِ من شرهم، وَيطْلبُونَ الْأمان من غائلتهم، وَلَا يُنكر أَن يكون حكم الْخَاص والنادر من المصطفين من عباده بِخِلَاف ذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّأْوِيل، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَنْفِي رؤيتنا إيَّاهُم مُطلقًا، إِذْ الْمُسْتَفَاد مِنْهَا أَن رُؤْيَته إيانا مُقَيّدَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَلَا نراهم فِي زمَان رُؤْيَتهمْ لنا قطّ، وَيجوز رؤيتنا لَهُم فِي غير ذَلِك الْوَقْت.
الثَّانِيَة: فِيهِ دَلِيل على أَن الْجِنّ لَيْسُوا باقين على عنصرهم الناري، وَلِأَنَّهُ، قَالَ: (إِن عَدو اإبليس جَاءَ بشهاب من نَار ليجعله فِي وَجْهي) . وَقَالَ: (رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي عفريتاً من الْجِنّ يطلبني بشعلة من نَار كلما الْتفت إِلَيْهِ رَأَيْته) . وَلَو كَانُوا باقين على عنصرهم الناري، وَأَنَّهُمْ نَار محرقة، لما احتاجوا إِلَى أَن يَأْتِي الشَّيْطَان أَو العفريت مِنْهُم بشعلة من نَار، ولكانت يَد الشَّيْطَان أَو العفريت أَو شَيْء من أَعْضَائِهِ إِذا مس ابْن آدم أحرقه، كَمَا تحرق الْآدَمِيّ النارُ الْحَقِيقِيَّة بِمُجَرَّد اللَّمْس، فَدلَّ على أَن تِلْكَ النارية انغمرت فِي سَائِر العناصر(4/234)
حَتَّى صَار إِلَى الْبرد وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله: (حَتَّى وجدت برد لِسَانه على يَدي) ، وَفِي رِوَايَة: (برد لعابه) .
الثَّالِثَة: فِيهِ دَلِيل على أَن أَصْحَاب سُلَيْمَان كَانُوا يرَوْنَ الْجِنّ، وَهُوَ من دَلَائِل نبوته، وَلَوْلَا مشاهدتهم إيَّاهُم لم تكن تقوم الْحجَّة لَهُ لمكانته عَلَيْهِم.
الرَّابِعَة: قَالَ ابْن بطال: رُؤْيَته للعفريت هُوَ مِمَّا خص بِهِ، كَمَا خص بِرُؤْيَة الْمَلَائِكَة. وَقد أخبر أَن جِبْرِيل لَهُ سِتّمائَة جنَاح، وَرَأى النَّبِي الشَّيْطَان فِي هَذِه اللَّيْلَة، وأقدره اعليه لتجسمه، لِأَن الْأَجْسَام مُمكن الْقُدْرَة عَلَيْهَا، وَلكنه ألْقى فِي روعه مَا وهب سُلَيْمَان فَلم ينفذ مَا قوي عَلَيْهِ من حَبسه، رَغْبَة عَمَّا أَرَادَ سُلَيْمَان الِانْفِرَاد بِهِ، وحرصاً على إِجَابَة اتعالى دَعوته. وَأما غير النَّبِي من النَّاس فَلَا يُمكن مِنْهُ وَلَا يرى أحد الشَّيْطَان على صورته غَيره لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم} (الْأَعْرَاف: 72) الْآيَة، لكنه يرَاهُ سَائِر النَّاس إِذا تشكل فِي غير شكله، كَمَا تشكل الَّذِي طعنه الْأنْصَارِيّ حِين وجده فِي بَيته على صُورَة حَيَّة، فَقتله فَمَاتَ الرجل بِهِ، فَبين النَّبِي ذَلِك بقوله: (إِن بِالْمَدِينَةِ جناً قد أَسْلمُوا، فَإِذا رَأَيْتُمْ من هَذِه الْهَوَام شَيْئا فاذنوه ثَلَاثًا، فَإِن بدا لكم فَاقْتُلُوهُ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
ثمَّ اعْلَم أَن الْجِنّ يتصورون فِي صور شَتَّى، ويتشكلون فِي صور الْإِنْسَان والبهائم والحيات والعقارب وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَفِي صُورَة الطُّيُور. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَلَا قدرَة للشَّيْطَان على تَغْيِير خلقتهمْ والانتقال فِي الصُّور، إِنَّمَا يجوز أَن يعلمهُمْ اكلمات وَضَربا من ضروب الْأَفْعَال إِذا فعله وَتكلم بِهِ نَقله امن صُورَة إِلَى صُورَة أُخْرَى، وَأما أَن يتَصَوَّر بِنَفسِهِ فَذَلِك محَال، لِأَن انتقالها من صُورَة إِلَى صُورَة إِنَّمَا يكون بِنَقْض البنية وتفريق الْأَجْزَاء، وَإِذا انتقضت بطلت الْحَيَاة، وَالْقَوْل فِي تشكل الْمَلَائِكَة كَذَلِك.
الْخَامِسَة: فِيهِ دَلِيل على إِبَاحَة ربط الْأَسير فِي الْمَسْجِد، وعل هَذَا بوب البُخَارِيّ الْبَاب، وَمن هَذَا قَالَ الْمُهلب: إِن فِي الحَدِيث جَوَاز ربط من خشِي هروبه بِحَق عَلَيْهِ أَو دين، والتوثق مِنْهُ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره. فَإِن قلت: قَوْله: (وَأَرَدْت أَن أربطه) ، مَا وَجهه وَهُوَ فِي الصَّلَاة؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون ربطه بعد تَمام الصَّلَاة، أَو يربطه بِوَجْه كَانَ شغلاً يَسِيرا فَلَا تفْسد بِهِ الصَّلَاة.
67 - (بابُ الإِغْتِسَالِ إِذَا أسْلَمَ وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيْضاً فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اغتسال الْكَافِر إِذا أسلم، وَبَيَان ربط الْأَسير فِي الْمَسْجِد، وَهَذِه التَّرْجَمَة وَقعت هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة قَوْله: (وربط الْأَسير أَيْضا فِي الْمَسْجِد) ، وَوَقع عِنْد الْبَعْض لفظ: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة وَالصَّوَاب هُنَا النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا ذكر الْبَاب مُفردا بِلَا تَرْجَمَة لِأَن حَدِيث هَذَا الْبَاب من جنس حَدِيث الْبَاب الَّذِي قبله، وَلَكِن لما كَانَت بَينهمَا مُغَايرَة مَا فصل بَينهمَا بِلَفْظ: بَاب، مُفردا، وَأما قَول ابْن الْمُنِير: وَذكر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْأَسير أَو الْغَرِيم يرْبط فِي الْمَسْجِد أوقع وأنص على الْمَقْصُود، لِأَن ثُمَامَة كَانَ أَسِيرًا فَربط فِي الْمَسْجِد، وَلكنه لم يذكرهُ هُنَاكَ، لِأَنَّهُ، لم يربطه. وَلم يَأْمر بربطه، فَقَوْل صادر من غير تَأمل، لِأَن ابْن إِسْحَاق صرح فِي مغازيه أَن النَّبِي، وَهُوَ الَّذِي أَمرهم بربطه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ حَدِيث ثُمَامَة من جنس حَدِيث العفريت، وَلَكِن لما كَانَ بَينهمَا مُغَايرَة مَا، وَهُوَ أَن النَّبِي، هم بربط العفريت بِنَفسِهِ، وَلكنه لم يربطه لمَانع ذَكرْنَاهُ، وَهَهُنَا ربطه غَيره، فَلذَلِك فصل البُخَارِيّ بَينهمَا بِلَفْظ: بَاب، مُفردا، وَهُوَ أصوب من النسختين المذكورتين، لِأَن فِي نُسْخَة الْجُمْهُور ذكر الِاغْتِسَال إِذا أسلم، وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب ذكر لذَلِك وَلَا إِشَارَة إِلَيْهِ، وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ ربط الْأَسير غير مَذْكُور، وَحَدِيث الْبَاب يُصَرح بذلك، وَأبْعد من الْكل النُّسْخَة الَّتِي ذكرهَا ابْن الْمُنِير وَهِي: بَاب ذكر الشِّرَاء وَالْبيع، وَفِيه أَبُو هُرَيْرَة: (بعث رَسُول الله خيلاً) الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَجه مُطَابقَة حَدِيث ثُمَامَة للْبيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد أَن الَّذِي تخيل الْمَنْع مُطلقًا، إِنَّمَا أَخذه من ظَاهر أَن هَذِه الْمَسَاجِد إِنَّمَا بنيت للصَّلَاة وَلذكر ا، فَبين البُخَارِيّ تَخْصِيص هَذَا الْعُمُوم بِإِجَازَة فعل غير الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ ربط ثُمَامَة، لِأَنَّهُ مَقْصُود صَحِيح، فَالْبيع كَذَلِك، انْتهى، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التَّكَلُّف والتعسف. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) ، بعد أَن نقل هَذَا الْكَلَام مُنْكرا عَلَيْهِ ومستبعداً وُقُوعه مِنْهُ:
وَذَاكَ لعمري قَول من لم يمارس كتاب الصَّحِيح الْمُنْتَقى فِي الْمدَارِس(4/235)
وَلم ير مَا قد قَالَه فِي الْوُفُود من سِيَاق حَدِيث وَاضح متجانس
وَكَانَ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي تبع ابْن الْمُنِير فِي ذَلِك، وَأنكر عَلَيْهِ تِلْمِيذه صَاحب (التَّوْضِيح) وَهُوَ مَحل الْإِنْكَار، لِأَن التَّرْجَمَة الَّتِي ذكرهَا لَيْسَ فِي شَيْء من نسخ البُخَارِيّ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأمُرُ الغَرِيمَ أنْ يُحْبَسَ إِلَى سارِيَةِ المَسْجِدِ.
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَقد وَصله معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين قَالَ: (كَانَ شُرَيْح إِذا قضى على رجل بِحَق أَمر بحبسه فِي الْمَسْجِد إِلَى أَن يقوم بِمَا عَلَيْهِ، فَإِن أعْطى الْحق وإلاَّ أَمر بِهِ فِي السجْن) ، وَشُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ، كَانَ من أَوْلَاد الْفرس الَّذين كَانُوا بِالْيمن، وَكَانَ فِي زمن النَّبِي وَلم يلقه، قضى بِالْكُوفَةِ من قبل عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَمن بعده سِتِّينَ سنة، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَقَالَ ابْن مَالك فِي إِعْرَاب هَذَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون الأَصْل بالغريم، وَأَن يحبس بدل اشْتِمَال، ثمَّ حذفت الْبَاء كَمَا فِي قَوْله:
أَمرتك الْخَيْر
وَالثَّانِي: أَن يُرِيد، كَأَن يَأْمُرهُ أَن ينحبس فَجعل المطاوع مَوضِع المطاوع لاستلزامه إِيَّاه. انْتهى. قلت: هَذَا تكلّف، وَحذف الْبَاء فِي الشّعْر للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، وَهَذَا التَّرْكِيب ظَاهر فَلَا يحْتَاج إِلَى مثل هَذَا الْإِعْرَاب، وَلَا شكّ أَن الْمَأْمُور، هُوَ الْغَرِيم، أَمر بِأَن يحبس نَفسه فِي الْمَسْجِد فَإِن قضى مَا عَلَيْهِ ذهب فِي حَاله وإلاَّ أَمر بِهِ فِي السجْن، وَأَن يحبس أَصله بِأَن يحبس وَيحبس، على صِيغَة الْمَجْهُول، يَعْنِي: أمره أَن يحبس نَفسه فِي الْمَسْجِد أَولا. وَعند المطل يحبس فِي السجْن.
264221 - ح دّثنا عبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبي سَعِيدٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ النبيُّ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بنُ أُثالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النبيُّ فقالُ: أطْلِقُوا ثمَامَةَ فانْطَلَقَ إِلَي نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ فاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ فَقَالَ أشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللَّهِ. (الحَدِيث 264 أَطْرَافه فِي: 964، 2242، 3242، 2734) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، كَمَا فِي الْأَثر الْمَذْكُور.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد ابْن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَالْكل تقدمُوا. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي موضِعين بِصِيغَة الْجمع وَفِي مَوضِع بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْخَاص عَن قُتَيْبَة، وَعنهُ أَيْضا فِي الصَّلَاة. وَأخرجه أَيْضا افي الصَّلَاة والأشخاص والمغازي عَن عبد ابْن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن قتية. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد، وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد وقتيبة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة بِبَعْضِه، وببعضه فِي الصَّلَاة.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (خيلاً) الْخَيل الفرسان، قَالَه الْجَوْهَرِي وَالْخَيْل أَيْضا: الْخُيُول. وَقَالَ بَعضهم أَي: رجَالًا على خيل. قلت: هَذَا تفيسر من عِنْده وَهُوَ غير صَحِيح، بل المُرَاد هَهُنَا من الْخَيل هم الفرسان. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {واجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} (الْإِسْرَاء: 46) أَي: بفرسانك ورجالتك، والخيالة: أَصْحَاب الْخُيُول. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق؛ السّريَّة الَّتِي أخذت ثُمَامَة كَانَ أميرها مُحَمَّد بن مسلمة، أرْسلهُ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا إِلَى القرطاء من بني أبي بكر بن كلاب بِنَاحِيَة ضَرْبَة بالبكرات لعشر لَيَال خلون من الْمحرم سنة سِتّ، وَعند ابْن سعد: على رَأس تِسْعَة وَخمسين شهرا من الْهِجْرَة، وَكَانَت غيبته بهَا تسع عشرَة لَيْلَة وَقدم لليلة بقيت من الْمحرم. قَوْله: القرطاء، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء والطاء الْمُهْملَة: وهم نفر من بني أبي بكر(4/236)
بن كلاب، وَكَانُوا ينزلون البكرات بِنَاحِيَة ضرية، وَبَين ضرية وَالْمَدينَة سبع لَيَال، وضرية، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهِي أَرض كَثِيرَة العشب، وإليها ينْسب الْحمى، وضربة: فِي الأَصْل بنت ربيعَة بن نذار بن مد بن عدنان، وَسمي الْموضع الْمَذْكُور باسمها، و: البكرات، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة فِي الأَصْل: جمع بكرَة، وَهِي مَاء بِنَاحِيَة ضرية. قَوْله: (قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الْجِهَة، ونجد، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم: وَهُوَ فِي جَزِيرَة الْعَرَب. قَالَ الْمَدَائِنِي: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن. أما تهَامَة فَهِيَ النَّاحِيَة الجنوبية من الْحجاز، وَأما نجد فَهِيَ النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَأما الْحجاز فَهُوَ جبل سد من الْيمن حَتَّى يتَّصل بِالشَّام وَفِيه الْمَدِينَة وعمان، وَأما الْعرُوض فَهِيَ الْيَمَامَة إِلَى الْبَحْرين. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى أَن يشارف أَرض الْبَصْرَة فَهُوَ نجد، وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف، نجد، وَمَا كَانَ وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَينهمَا. قَوْله: (ثُمَامَة) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَبعد الْألف مِيم أُخْرَى مَفْتُوحَة، وأثال، بِضَم الْهمزَة وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَبعد الْألف لَام.
قَوْله: (فَانْطَلق إِلَى نجل) أَي: فأطلقوه فَانْطَلق إِلَى نجل، ونجل: بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم وَفِي آخِره لَام؛ وَهُوَ المَاء النابع من الأَرْض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: استنجل الْموضع أَي كثر بِهِ النجل، وَهُوَ المَاء يظْهر من الأَرْض، وَهَكَذَا وَقع فِي النُّسْخَة المقروءة على أبي الْوَقْت، وَكَذَا زعم ابْن دُرَيْد، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات: إِلَى، نخل، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (أَن ثُمَامَة أسر وَكَانَ النَّبِي يَغْدُو إِلَيْهِ فَيَقُول: مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟ فَيَقُول: إِن تقتل تقتل ذَا دم، وَإِن تمنَّ تمنَّ على شَاكر، وَإِن ترد المَال نعطك مِنْهُ مَا شِئْت، وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي يحبونَ الْفِدَاء وَيَقُولُونَ: مَا نصْنَع بقتل هَذَا؟ فَمر عَلَيْهِ النَّبِي يَوْمًا فَأسلم فَحله وَبعث بِهِ إِلَى حَائِط أبي طَلْحَة، فَأمره أَن يغْتَسل فاغتسل وَصلى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: لقد حسن إِسْلَام أخيكم) . وَبِهَذَا اللَّفْظ أخرجه أَيْضا ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا بِهَذِهِ الطَّرِيق وَفِيه (فَأمره النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (أَن ثُمَامَة ذهب إِلَى المصانع فَغسل ثِيَابه واغتسل) ، وَفِي (تَارِيخ البرقي) : فَأمره أَن يقوم بَين أبي بكر وَعمر فيعلمانه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْفَوَائِد. الأولى: جَوَاز دُخُول الْكَافِر الْمَسْجِد. قَالَ ابْن التِّين: وَعَن مُجَاهِد وَابْن محيريز جَوَاز دُخُول أهل الْكتاب فِيهِ، وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَقَتَادَة وَمَالك والمزني: لَا يجوز. وَقَالَ أَبُو حنيفَة؛ يجوز للكتابي دون غَيره، وَاحْتج بِمَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد جيد: عَن جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (لَا يدْخل مَسْجِدنَا هَذَا بعد عامنا هَذَا مُشْرك إِلاَّ أهل الْعَهْد وخدمهم) وَاحْتج مَالك بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام} (التَّوْبَة: 82) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بيُوت أذن اأن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه} (النُّور: 63) وَدخُول الْكفَّار فِيهَا مُنَاقض لرفعها، وَبِقَوْلِهِ: (إِن هَذِه الْمَسَاجِد لَا يصلح فِيهَا شَيْء من الْبَوْل والقذر) . وَالْكَافِر لَا يَخْلُو عَن ذَلِك، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب) وَالْكَافِر جنب. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه: يجوز بِإِذن الْمُسلم، سَوَاء كَانَ الْكَافِر كتابياً أَو غَيره، وَاسْتثنى الشَّافِعِي من ذَلِك مَسْجِد مَكَّة وَحرمه، وحجته حَدِيث ثُمَامَة، وَبِأَن ذَات الْمُشرك لَيست بنجسة.
الثَّانِيَة: فِيهِ أسر الْكَافِر وَجَوَاز إِطْلَاقه، وَللْإِمَام فِي حق الْأَسير الْعَاقِل الْقَتْل أَو الاسترقاق أَو الْإِطْلَاق منَّاً عَلَيْهِ، أَو الْفِدَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَنه أطلق ثُمَامَة لما علم أَنه آمن بِقَلْبِه وسيظهره بِكَلِمَة الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم يسلم تَحت الْأسر لعزة نَفسه، وَكَأن رَسُول الله أحس بذلك مِنْهُ، فَقَالَ: أَطْلقُوهُ، فَلَمَّا أطلق أسلم قلت: يرد هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه: (فَمر يَوْمًا فَأسلم فَحله) . فَهَذَا يُصَرح بِأَن إِسْلَامه كَانَ قبل إِطْلَاقه، فيعذر الْكرْمَانِي فِي هَذَا. لِأَنَّهُ قَالَ بِالِاحْتِمَالِ وَلم يقف على حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَكيف غفل عَن ذَلِك مَعَ كَثْرَة اطِّلَاعه فِي الحَدِيث؟
الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز ربط الْأَسير فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُمكن أَن يُقَال: ربطه بِالْمَسْجِدِ لينْظر حسن صَلَاة الْمُسلمين واجتماعهم عَلَيْهَا فيأنس لذَلِك. قلت: يُوضح هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ: أَن وَفد ثَقِيف لما قدمُوا أنزلهم النَّبِي الْمَسْجِد ليَكُون أرق لقُلُوبِهِمْ.(4/237)
وَقَالَ جُبَير بن مطعم، فِيمَا ذكره أَحْمد، رَحمَه ا: دخلت الْمَسْجِد وَالنَّبِيّ يُصَلِّي الْمغرب، فَقَرَأَ بِالطورِ، فَكَأَنَّمَا صدع قلبِي حِين سَمِعت الْقُرْآن، وَقيل؛ يُمكن أَن يكون ربطه بالسمجد لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم مَوضِع يرْبط فِيهِ إلاَّ الْمَسْجِد.
الرَّابِعَة: فِيهِ اغتسال الْكَافِر إِذا أسلم وَذهب الشَّافِعِي إِلَى وُجُوبه على الْكَافِر إِذا أسلم إِن كَانَت عَلَيْهِ جَنَابَة فِي الشّرك، سَوَاء اغْتسل مِنْهَا فِي الشّرك أَو لَا، وَقَالَ بعض أَصْحَابه: إِن كَانَ اغْتسل مِنْهَا أَجزَأَهُ. وإلاَّ وَجب، وَقَالَ بعض أَصْحَابه وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لَا غسل عَلَيْهِ وَيسْقط حكم الْجَنَابَة بِالْإِسْلَامِ، كَمَا تسْقط الذُّنُوب. وضعفوا هَذَا بِالْوضُوءِ، وَأَنه يلْزم بِالْإِجْمَاع. هَذَا إِذا كَانَ أجنب فِي الْكفْر، أما إِذا لم يجنب أصلا، ثمَّ أسلم، فالغسل مُسْتَحبّ. وَكَذَا قَالَه مَالك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن غسل الْكَافِر كَانَ مَشْرُوعا عِنْدهم مَعْرُوفا، وَهَذَا ظَاهر الْبطلَان. وَقَالَ أَيْضا: وَالْمَشْهُور من قَول مَالك أَنه إِنَّمَا يغْتَسل لكَونه جنبا. قَالَ: وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: إِنَّه يغْتَسل للنظافة، واستحبه ابْن الْقَاسِم، ولمالك قَول: إِنَّه لَا يعرف الْغسْل، رَوَاهُ عَنهُ ابْن وهب وَابْن أبي أويس.
وَقَالَ ابْن بطال: أوجب الإِمَام أَحْمد الْغسْل عَليّ من أسلم. وَقَالَ الشَّافِعِي: أحب أَن يغْتَسل فَإِن لم يكن جنبا أَجزَأَهُ أَن يتَوَضَّأ. وَقَالَ مَالك: إِذا أسلم النَّصْرَانِي فَعَلَيهِ الْغسْل، لأَنهم لَا يتطهرون. فَقيل: مَعْنَاهُ لَا يتطهرون من النَّجَاسَة فِي أبدانهم، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَيْهِم التطهر من الْجَنَابَة، وَإِن نووها لعدم الشَّرْع، وَقَالَ: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي، أمره بالاغتسال، وَلذَلِك قَالَ مَالك: لم يبلغنَا أَنه، أَمر أحدا أسلم بِالْغسْلِ. قلت: قد مر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْبَزَّار، وَفِيه: فَأمره أَن يغْتَسل. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) للحام: من حَدِيث عبد ابْن مُحَمَّد بن عقيل: عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: لما أسلمت أَمرنِي النَّبِي بالاغتسال. وَفِي (الْحِلْية) : لأبي نعيم عَن وَاثِلَة، قَالَ: (لما أسلمت قَالَ لي النَّبِي: غتسل بِمَاء وَسدر، واحلق عَنْك شعر الْكفْر) . وَفِي كتاب الْقُرْطُبِيّ: روى عبد الرَّحِيم بن عبيد ابْن عمر عَن أَبِيه عَن نَافِع، عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل) . وروى مُسلم ابْن سَالم عَن أبي الْمُغيرَة عَن الْبَراء بن عَازِب. (أَن النَّبِي أَمر رجلا أسلم أَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر) .
الْخَامِسَة: أَخذ ابْن الْمُنْذر من هَذَا الحَدِيث جَوَاز دُخُول الْجنب الْمُسلم الْمَسْجِد، وَأَنه أولى من الْمُشرك لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجس، بِخِلَاف الْمُشرك. [/ِاآ
77 - (بابُ الخَيْمَةِ فِي المَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْخَيْمَة فِي الْمَسْجِد لأجل (المرضى) وَهُوَ: جمع مَرِيض. قَوْله: (وَغَيرهم) أَي: وَغير المرضى.
364321 - ح دّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدّثنا هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ أصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ فِي الأَكْحَلِ فَضَرَبَ النبيُّ خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وفِي المَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلاَّ الدَّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ فقالُوا يَا أهْلَ الخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْدُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيها. (الحَدِيث 364 أَطْرَافه فِي: 3182، 1093، 7114، 2214) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر أَبُو السكن الطَّائِي الْكُوفِي. الثَّانِي: عبد ابْن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَقد تقدم. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن زَكَرِيَّا من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَيجوز فِيهِ الْمَدّ وَالْقصر. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ مقطعاً فِي الصَّلَاة، وَفِي الْمَغَازِي، وَفِي الْهِجْرَة عَن زَكَرِيَّا بن يحيى وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد ابْن نمير بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عبيد ابْن سعيد.(4/238)
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (سعد) هُوَ سعد بن معَاذ أَبُو عَمْرو سيد الْأَوْس، بَدْرِي كَبِير. قَالَ أَبُو نعيم: مَاتَ فِي شَوَّال سنة خمس، وَكَذَا قَالَ ابْن إِسْحَاق، وَنزل فِي جنَازَته سَبْعُونَ ألف ملك مَا وطئوا الأَرْض قبل، واهتز لَهُ عرش الرَّحْمَن، وَفِي رِوَايَة: الْعَرْش فَإِن قلت: مَا وَجه اهتزاز الْعَرْش لَهُ؟ قلت: أُجِيب بأجوبه. الأول: أَنه اهتز استبشاراً بقدوم روحه. الثَّانِي: أَن المُرَاد اهتزاز حَملَة الْعَرْش، وَمن عِنْده من الْمَلَائِكَة. الثَّالِث: أَن المُرَاد بالعرش الَّذِي وضع عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي عِنْد البُخَارِيّ أَن رجلا قَالَ لجَابِر بن عبد ا: إِن الْبَراء بن عَازِب يَقُول: اهتز السرير، فَقَالَ: إِنَّه كَانَ بَين هذَيْن الْحَيَّيْنِ ضغائن. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره: يَعْنِي بالحيين: الْأَوْس والخزرج. وَكَانَ سعد من الْأَوْس، والبراء من الْخَزْرَج، وكل مِنْهُم لَا يقر بِفضل صَاحبه عَلَيْهِ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن سَعْدا والبراء كل مِنْهُمَا أوسي، وَإِنَّمَا أشكل عَلَيْهِم فِيمَا أرى أَنه رأى فِي نسب الْبَراء بن عَازِب بن الْحَارِث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حَارِثَة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، وَسعد بن معَاذ بن النُّعْمَان بن امريء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث الأوسي، فَظن أَن الْخَزْرَج الأول هُوَ أَبُو الخزرجيين، فَفرق بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ الْخَزْرَج أَبُو الحارثيين الْمَذْكُورين فِي نسبهما، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس بن حَارِثَة، كَذَا ذكر نسبهما بن سعد وَابْن إِسْحَاق وَخَلِيفَة فِي الآخرين.
قَوْله: (يَوْم الخَنْدَق) ، وَيُسمى: الْأَحْزَاب، ذكرهَا ابْن سعد فِي ذِي الْقعدَة، ومُوسَى بن عقبَة: فِي شَوَّال سنة أَربع. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: فِي شَوَّال سنة خمس، وَزعم أَبُو عمر وَغَيره: أَن سَعْدا مَاتَ بعد الخَنْدَق بِشَهْر، وَبعد قُرَيْظَة بِليَال. قَوْله: (فِي الأكحل) على وزن: الأفعل، عرق فِي الْيَد، وَيُقَال لَهُ: النِّسَاء فِي الْفَخْذ، وَفِي الظّهْر الْأَبْهَر. قَالَه فِي (الْمُخَصّص) و (الْمُجْمل) وقِي: الأكحل هُوَ عرق الْحَيَاة، ويدعى: نهر الْبدن، وَفِي كل عُضْو مِنْهُ شُعْبَة لَهَا اسْم على حِدة، فَذا قطع فِي الْيَد لم يرق الدَّم. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ عرق فِي الْيَد يفصد، وَلَا يُقَال عرق الأكحل. قَوْله: (فَضرب النَّبِي خيمة) ، ضرب يسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة، وأصل التَّرْكِيب يدل على الْإِيقَاع، وَالْبَاقِي يسْتَعْمل وَيحمل عَلَيْهِ، وَهَهُنَا الْمَعْنى: نصب خيمة وأقامها على أوتاد مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، والخيمة؛ بَيت تبنيه الْعَرَب من عيدَان الشّجر، وَالْجمع: خيمات وخيم، مثل: بدرة وَبدر، والخيم: مثل الْخَيْمَة، وَالْجمع: خيام مثل؛ فرخ وفراخ، وَعند أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: ضرب لَهُ النَّبِي خباء فِي الْمَسْجِد، والخباء وَاحِد الأخبية من وبر أَو صوف، وَلَا يكون من شعر، وَهُوَ على عمودين أَو ثَلَاثَة وَمَا فَوق ذَلِك، فَهُوَ بَيت.
قَوْله: (فَلم يرعهم) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: من الروع، وَهُوَ الْفَزع. يُقَال: رعت فلَانا وروعته فارتاع، أَي: أفزعته، فَفَزعَ. وَقَالَ الْخطابِيّ: الروع إعظامك الشَّيْء وإكباره فترتاع. قَالَ: وَقد يكون من خوف، وَفِي (الْمُحكم) : الروع، والرواع واليروع: الْفَزع، راعني الْأَمر روعا ورووعاً، عَن ابْن الْأَعرَابِي، كَذَلِك حَكَاهُ بِغَيْر همز، وَإِن شِئْت همزَة، وارتاع مِنْهُ وَله وروعته فتروع، وَرجل روع ورائع متروع كِلَاهُمَا على النّسَب، وَالْمعْنَى هَهُنَا؛ فَلم يرعهم أَي: لم يفزعهم إِلَّا الدَّم، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالْمعْنَى أَنهم بَينا هم فِي حَال طمأنينة وَسُكُون حَتَّى أفزعهم رُؤْيَة الدَّم فارتاعوا لَهُ. قَوْله: (وَفِي الْمَسْجِد خيمة من بني غفار) جملَة مُعْتَرضَة بَين الْفِعْل، أَعنِي: لم يرعهم، وَالْفَاعِل أَعنِي: إِلَّا الدَّم. و: بني غفار بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وَفِي آخِره رَاء، وَبَنُو غفار: من كنَانَة رَهْط أبي ذَر الْغِفَارِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَهَذِه الْخَيْمَة كَانَت لرقية الْأَنْصَارِيَّة. وَقيل: الأسْلَمِيَّة، وَكَانَت تداوي الْجَرْحى وَتحْتَسب بخدمتها من كَانَت بِهِ ضَيْعَة من الْمُسلمين. قَوْله: (من قبلكُمْ) بِكَسْر الْقَاف، أَي: من جهتكم قَوْله: (يغذو) ، بالغين والذال المعجمتين أَي: يسيل، وَهُوَ فعل مضارع من غذا الْعرق نَفسه يغذو غدواً وغذواناً، إِذا سَالَ، وكل مَا سَالَ فقد غذا، والغذوان المسرع. وَقَوله: (جرحه) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: يغذو. وَقَوله: (دَمًا) ، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (مِنْهَا) أَي: من الْجراحَة، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (فَمَاتَ فِيهَا) ، أَي: فِي الْخَيْمَة أَو فِي الْجراحَة الَّتِي الْجرْح بمعناها، وَكَانَت جراحته فِي الأكحل، رَمَاه رجل من قُرَيْش يُقَال لَهُ: حبَان بن العرفة، وَهُوَ حبَان ابْن أبي قبيس من بني مغيص بن عَامر بن لؤَي، والعرفة هِيَ أم عبد منَاف، وَاسْمهَا: قربَة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عَمْرو بن هصيص، سميت العرفة لطيب رِيحهَا، فِيمَا ذكره الْكَلْبِيّ. وَقَالَ أَبُو عبيد بن سَلام: العرفة هِيَ أم حبَان، وتكنى: أم فَاطِمَة، قَالَ السُّهيْلي: وَهِي جدة خَدِيجَة أم أمهَا هَالة.
ذكر مَا يستنبط من الْأَحْكَام الأول: اسْتدلَّ بِهِ مَالك وَأحمد على أَن النَّجَاسَات لَيست إِزَالَتهَا بِفَرْض، وَلَو كَانَت(4/239)
فرضا لما أجَاز النَّبِي للجريح أَن يسكن فِي الْمَسْجِد، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. قلت: لقَائِل أَن يَقُول: إِن سُكْنى سعد فِي الْمَسْجِد إِنَّمَا كَانَ بعد مَا اندمل جرحه، وَالْجرْح، إِذا اندمل زَالَ مَا يخْشَى من نَجَاسَته. الثَّانِي: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: جَوَاز سُكْنى الْمَسْجِد للْعُذْر، وَالْبَاب مترجم بِهِ. الثَّالِث: فِيهِ أَن السُّلْطَان أَو الْعَالم إِذا شقّ عَلَيْهِ النهوض إِلَى عِيَادَة مَرِيض يزوره مِمَّن يهمه أمره ينْقل الْمَرِيض إِلَى مَوضِع يخف عَلَيْهِ فِيهِ زيارته، وَيقرب مِنْهُ، وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِد أُخْرَى يَأْتِي عِنْد ذكر البُخَارِيّ تَمَامه إِن شَاءَ اتعالى.
87 - (بابُ إدْخال البَعِيرِ فِي المَسجِدِ لِلْعِلَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد لِلْعِلَّةِ أَي: للْحَاجة، وَهِي أَعم من أَن تكون للضعف أَو غَيره، وَقيل: المُرَاد بِالْعِلَّةِ الضعْف، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن هَذَا ظَاهر فِي حَدِيث أم سَلمَة دون حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَأجِيب: بِأَن أَبَا دَاوُد رُوِيَ عَنهُ أَن النَّبِي قدم مَكَّة وَهُوَ يشتكي، فَطَافَ على رَاحِلَته، وَمَعَ هَذَا كُله تَقْيِيد الْعلَّة بالضعف، لَا وَجه لَهُ لأَنا قُلْنَا: إِنَّهَا أَعم، فتتناول الضعْف وَإِن يكون طَوَافه على بعيره ليراه النَّاس، كَمَا جَاءَ عَن جَابر: أَنه إِنَّمَا طَاف على بعيره ليراه النَّاس وليسألوه، فَإِن النَّاس غشوه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس طَافَ النبيُّ عَلَى بَعِيرٍ.
13
- 50 مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد لِلْعِلَّةِ لِأَنَّهُ لما قدم مَكَّة كَانَ يشتكي على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، فَذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَذكره مُسْندًا فِي بَاب: من أَشَارَ إِلَى الرُّكْن فِي كتاب الْحَج.
124 - (حَدثنِي عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة قَالَت شَكَوْت إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنِّي أشتكي قَالَ طوفي من وَرَاء النَّاس وَأَنت راكبة فطفت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي إِلَى جنب الْبَيْت يقْرَأ بِالطورِ وَكتاب مسطور) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " طوفي من وَرَاء النَّاس وَأَنت راكبة " وَفِيه جَوَاز إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد لعِلَّة الضعْف (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي الإِمَام مَالك. الثَّالِث مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن نَوْفَل بِفَتْح النُّون وَالْفَاء يعرف بيتيم عُرْوَة بن الزبير تقدم ذكره فِي بَاب الْجنب يتَوَضَّأ ثمَّ ينَام. الرَّابِع عُرْوَة بن الزبير. الْخَامِس زَيْنَب بنت أبي سَلمَة وَهِي بنت أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَيْنَب. السَّادِس أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل وَفِيه رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما مُحَمَّد وَعُرْوَة وَرِوَايَة عُرْوَة عَن صحابية وَهِي زَيْنَب لِأَنَّهَا سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد البُخَارِيّ وَفِيه رِوَايَة صحابية عَن صحابية وهما زَيْنَب وَأم سَلمَة وَفِيه أَن رُوَاة إِسْنَاده مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة وَفِي التَّفْسِير عَن عبد الله بن يُوسُف وَأخرجه فِي الْحَج عَن إِسْمَاعِيل والقعنبي وَفِيه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَرْب وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن عبيد الله بن سعيد وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْحَج عَن اسحق بن مَنْصُور وَأحمد بن سِنَان وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُعلى بن مَنْصُور عَن مَالك بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَنِّي أشتكي " فِي مَحل النصب فَإِنَّهُ مفعول شَكَوْت يُقَال اشتكي عضوا من أَعْضَائِهِ إِذا توجع مِنْهُ(4/240)
وشكوت فلَانا إِذا أخْبرت عَنهُ بِسوء فعله بك قَوْله " فطفت " أَي راكبة على الْبَعِير حَتَّى يدل الحَدِيث على التَّرْجَمَة قَوْله " إِلَى جنب الْبَيْت " أَي الْكَعْبَة لِأَن الْبَيْت علم للكعبة شرفها الله وعظمها وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) الصَّلَاة إِلَى الْبَيْت فَمَا فَائِدَة ذكر الْجنب (قلت) مَعْنَاهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي مِنْهَا إِلَى الْجنب يَعْنِي قَرِيبا من الْبَيْت لَا بَعيدا مِنْهُ انْتهى وَقَالَ أَبُو عَمْرو صلَاته إِلَى جنب الْبَيْت من أجل أَن الْمقَام كَانَ حِينَئِذٍ مُلْصقًا بِالْبَيْتِ قبل أَن يَنْقُلهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من ذَلِك الْمَكَان إِلَى صحن الْمَسْجِد انْتهى. وَالْوَجْه فِي ذَلِك أَن الْبَيْت كُله قبْلَة فَحَيْثُ صلى الْمُصَلِّي مِنْهُ إِذا جعله أَمَامه كَانَ مستحسنا جَائِزا قَوْله " يقْرَأ بِالطورِ " أَي بِسُورَة الطّور ولعلها لم تذكر وَاو الْقسم لِأَن لفظ الطّور كَأَنَّهُ صَار علما للسورة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَالَ ابْن بطال فِيهِ جَوَاز دُخُول الدَّوَابّ الَّتِي يُؤْكَل لَحمهَا وَلَا ينجس بولها الْمَسْجِد إِذا احْتِيجَ إِلَى ذَلِك وَأما دُخُول سَائِر الدَّوَابّ فَلَا يجوز وَهُوَ قَول مَالك وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث دلَالَة على عدم الْجَوَاز مَعَ الْحَاجة بل ذَلِك دائر مَعَ التلويث وَعَدَمه فَحَيْثُ يخْشَى التلويث يمْتَنع الدُّخُول وَفِيه نظر لِأَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " طوفي وَأَنت راكبة " لَا يدل على أَن الْجَوَاز وَعَدَمه دائران مَعَ التلويث بل ظَاهره يدل على الْجَوَاز مُطلقًا عِنْد الضَّرُورَة وَقيل أَن نَاقَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت مدربة معلمة فَيُؤمن مِنْهَا مَا يحذر من التلويث وَهِي سائرة (قلت) سلمنَا هَذَا فِي نَاقَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَكِن مَا يُقَال فِي النَّاقة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا أم سَلمَة وَهِي طَائِفَة وَلَئِن قيل أَنَّهَا كَانَت نَاقَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قيل لَهُ يحْتَاج إِلَى بَيَان ذَلِك بِالدَّلِيلِ. وَمن فَوَائده أَن النِّسَاء يَنْبَغِي لَهُنَّ أَن يطفن من وَرَاء الرِّجَال لِأَن بِالطّوافِ شبها بِالصَّلَاةِ وَمن سنة النِّسَاء فِيهَا أَن يكن خلف الرِّجَال فَكَذَلِك فِي الطّواف. وَمِنْهَا أَن رَاكب الدَّابَّة يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَجَنَّب ممر النَّاس مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يخالط الرجالة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ جَوَاز الطّواف رَاكِبًا للمعذور وَلَا كَرَاهَة فِيهِ فَإِن كَانَ غير مَعْذُور يعْتَبر عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " وَلنَا إِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا} وَهُوَ مُطلق والْحَدِيث للتشبيه فَلَا عُمُوم لَهُ وبقولنا قَالَ ابْن الْمُنْذر وَجَمَاعَة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْجُمْهُور على كَرَاهَة ذَلِك قُلْنَا نَحن أَيْضا نقُول بِالْكَرَاهَةِ حَتَّى أَنه يُعِيدهُ مَا دَامَ بِمَكَّة وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الْحَج إِن شَاءَ الله تَعَالَى
97 - (بابٌ)
إِن لم يقدر شَيْء قبل لفظ: بَاب، أَو بعده لَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب. ثمَّ إِن البُخَارِيّ جرت لَهُ عَادَة أَنه إِذا ذكر لفظ بَاب مُجَردا عَن التَّرْجَمَة يدل ذَلِك على أَن الحَدِيث الَّذِي يذكر بعده يكون لَهُ مُنَاسبَة بِأَحَادِيث الْبَاب الَّذِي قبله، وَهَهُنَا لَا مُنَاسبَة بَينهمَا أصلا بِحَسب الظَّاهِر على مَا لَا يخفى، لَكِن تكلّف فِي ذَلِك فَقيل: تعلقه بِأَبْوَاب الْمَسَاجِد من جِهَة أَن الرجلَيْن تأخراً مَعَ النَّبِي فِي الْمَسْجِد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الْمظْلمَة لانتظار صَلَاة الْعشَاء مَعَه، وَقَالَ بَعضهم: فعلى هَذَا كَانَ يَلِيق أَن يترجم لَهُ: فضل الْمَشْي إِلَى الْمَسْجِد فِي اللَّيْلَة الْمظْلمَة.
قلت: كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ غير موجه، لِأَن حَدِيث الْبَاب لَا يدل عَلَيْهِ أصلا، لِأَن حَدِيث الْبَاب فِي الرجلَيْن اللَّذين خرجا من عِنْد النَّبِي فِي لَيْلَة مظْلمَة حَتَّى أَتَيَا أهلهما، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي بَاب أَحْكَام الْمَسَاجِد وَا تَعَالَى أعلم، لِأَن الرجلَيْن كَانَا مَعَ النَّبِي فِي الْمَسْجِد وَهُوَ مَوضِع جُلُوسه مَعَ أَصْحَابه. وأكرمهما اتعالى بِالنورِ فِي الدُّنْيَا ببركته وَفضل مَسْجده وملازمته، قَالَ: وَذَلِكَ آيَة للنَّبِي، وكرامة لَهُ قلت: هَذَا أَيْضا فِيهِ بعد وَالْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال: إنَّهُمَا لما كَانَ فِي الْمَسْجِد مَعَ النَّبِي، وهما ينتظران صَلَاة الْعشَاء مَعَه أكرما بِهَذِهِ الْكَرَامَة، وللمسجد فِي حُصُول هَذِه الْكَرَامَة دخل، فَنَاسَبَ ذكر حَدِيث الْبَاب هَهُنَا بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّة.
124 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى قَالَ حَدثنَا معَاذ بن هِشَام قَالَ حَدثنِي أبي قَتَادَة قَالَ حَدثنَا أنس أَن رجلَيْنِ من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرجا من عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(4/241)
فِي لَيْلَة مظْلمَة ومعهما مئل المصباحين يضيئان بَين أَيْدِيهِمَا فَلَمَّا افْتَرقَا صَار مَعَ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَاحِد حَتَّى أَتَى أَهله) وَجه الْمُنَاسبَة والمطابقة قد ذَكرْنَاهُ الْآن (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُحَمَّد بن الْمثنى بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّثْنِيَة مر فِي بَاب حلاوة الْإِيمَان. الثَّانِي معَاذ بِضَم الْمِيم مر فِي بَاب من خص بِالْعلمِ قوما. الثَّالِث أَبوهُ هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي الْبَصْرِيّ. الرَّابِع قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي الْأَعْمَى الْبَصْرِيّ. الْخَامِس أنس بن مَالك (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبالإفراد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن رِجَاله كلهم بصريون وَفِيه أَن الرَّاوِي عَن الصَّحَابِيّ كَانَ مَعَه غَيره فَلذَلِك أخبر بِصِيغَة الْجمع. (ذكر تعدد مَوْضِعه) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة متْنا وإسنادا وَفِي منقبة أسيد بن حضير وَعباد بن بشر فِي مَنَاقِب الْأنْصَارِيّ وَقَالَ فِيهِ وَقَالَ معمر عَن ثَابت عَن أنس أَن أسيد بن حضير ورجلا من الْأَنْصَار وَقَالَ حَمَّاد حَدثنَا ثَابت عَن أنس كَانَ أسيد وَعباد بن بشر عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن رجلَيْنِ " هما عباد بن بشر وَأسيد بن حضير وَقَالَ السفاقسي الرّجلَانِ عباد بن بشر وعويم بن الساعدة وَأسيد بن حضير وَعباد بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَأسيد بِضَم الْهمزَة مصغر أَسد وحضير بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء وعويم بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو مصغر عوم قَوْله " مظْلمَة " بِكَسْر اللَّام يُقَال أظلم اللَّيْل وَقَالَ الْفراء ظلم اللَّيْل بِالْكَسْرِ وأظلم بِمَعْنى قَوْله " ومعهما " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله " يضيئان " من أَضَاء تَقول ضاءت النَّار وأضاءت مثله وأضاءته النَّار يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَضَاء إِمَّا مُتَعَدٍّ بِمَعْنى نور وَإِمَّا غير مُتَعَدٍّ بِمَعْنى لمع وأظلم يحْتَمل أَن يكون غير مُتَعَدٍّ وَهُوَ الظَّاهِر وَأَن يكون مُتَعَدِّيا. قَوْله " بَين أَيْدِيهِمَا " أَي قدامهما وَهُوَ مفعول فِيهِ إِن كَانَ فعل الإضاءة لَازِما ومفعول بِهِ إِن كَانَ مُتَعَدِّيا قَوْله " مِنْهُمَا " أَي من الرجلَيْن قَوْله " وَاحِد " أَي من المصباحين وارتفاعه على أَنه فَاعل صَار (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) أَن فِيهِ دلَالَة ظَاهِرَة لكرامة الْأَوْلِيَاء وَلَا شكّ فِيهِ. وَفِيه رد على من يُنكر ذَلِك وَقد وَقع مثل هَذَا قَدِيما وحديثا. أما قَدِيما فَمن ذَلِك مَا ذكره ابْن عَسَاكِر وَغَيره " عَن قَتَادَة بن النُّعْمَان أَنه خرج من عِنْد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِيَدِهِ عرجون فأضاء العرجون " وَفِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَيْمُون بن زيد بن أبي عبس حَدثنِي أبي " أَن أَبَا عبس كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَوَات ثمَّ يرجع إِلَى بني حَارِثَة فَخرج فِي لَيْلَة مظْلمَة مطيرة فنورت لَهُ عَصَاهُ حَتَّى دخل دَار بني حَارِثَة " وَمن حَدِيث كثير بن زيد عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه قَالَ " كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنفرنا فِي لَيْلَة مظْلمَة فَأَضَاءَتْ أصابعي حَتَّى جمعُوا عَلَيْهَا ظهْرهمْ وَمَا هلك مِنْهُم وَإِن أصابعي لتنير " وَفِي لفظ " نفرت دوابنا وَنحن فِي مشقة " الحَدِيث. وَأما حَدِيثا فَمن ذَلِك مَا ثَبت بالتواتر عَن جمَاعَة من طلبة الْعلم الثِّقَات أَنهم كَانُوا مَعَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة حسان الدّين الرهاوي مُصَنف الْبَحْر وَغَيره فِي وَلِيمَة بِمَدِينَة عينتاب وَكَانَت فِي لَيْلَة مظْلمَة شَاتِيَة فَلَمَّا تفَرقُوا أَرَادَ جمَاعَة أَن ينوروا على الشَّيْخ إِلَى بَاب دَاره لشدَّة الظلمَة فَمَا رَضِي بذلك فَرَجَعُوا وَتَبعهُ جمَاعَة من بعد فَقَالُوا وهم يحلفُونَ أَنهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس أَحدهمَا عَن يَمِين الشَّيْخ وَالْآخر عَن يسَاره فَلم يَزَالَا مَعَه إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب دَاره فَلَمَّا فتح الْبَاب وَدخل الشَّيْخ ارْتَفع النوران وَلَقَد أخبروا عَنهُ بكرامات أُخْرَى غير ذَلِك وَهُوَ أحد مشايخي الَّذين أخذت عَنْهُم الْعلم وانتفعت بهم
08 - (بابُ الخَوْخَةِ وَالمَمَرِّ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَمر الخوخة الكائنة فِي الْمَسْجِد وَأمر الْمَمَر فِيهِ، وَهُوَ بِفَتْح الميمين وَتَشْديد الرَّاء: مَوضِع الْمُرُور،(4/242)
وَالظَّاهِر أَن مُرَاد البُخَارِيّ من وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز اتِّخَاذ الخوخة والممر فِي الْمَسْجِد، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على ذَلِك.
664 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدّثنا فُلَيْحٌ قَالَ حدّثنا أبُو النَّضْرِ عنْ عُبَيْدِ بنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عَنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النبيُّ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنْيا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إنْ يَكُنِ اللَّهُ خيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنيْا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فكانَ رَسولُ اللَّهِ هُوَ العَبْدَ وكانَ أبُو بَكْرٍ أعْلَمَنَا قَالَ يَا أبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ ومالِهِ أبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بابُ أبي بَكْرٍ. (الحَدِيث 664 طرفاه فِي: 4563، 4093) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الخوخة هِيَ الْبَاب الصَّغِير، وَقد تكون بمصراع وَاحِد وبمصراعين، وَأَصلهَا فتح فِي الْحَائِط، قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ كوَّة فِي الْجِدَار تُؤدِّي الضَّوْء. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة شَيْئَانِ: أَحدهمَا الخوخة، وَالْآخر الْمَمَر، فمطابقته للخوخة ظَاهِرَة، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمَمَر قلت: الْمَمَر من لَوَازِم الخوخة، فَذكرهَا يُغني عَن ذكره.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك، ولقبه: فليح، فغلب على اسْمه واشتهر بِهِ. الثَّالِث: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُعْجَمَة: واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة. الرَّابِع: عبيد، بِضَم الْعين، مصغر العَبْد ضد الْحر: ابْن حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون أَيْضا: أَبُو عبد االمدني. الْخَامِس: بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن سعيد، بِفَتْح السِّين. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه: سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن عبيد بن حنين. وَفِيه: عَن بسر بن سعيد، هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَسقط فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن أبي زيد ذكر بسر بن سعيد فَصَارَ: عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقع فِي بعض النّسخ: أَبُو النَّضر عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد، وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن بسر بن سعيد عَن أبي سعيد، وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن عبيد وَعَن بسر عَن أبي سعيد بِالْجمعِ بَينهمَا: بواو، الْعَطف. وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن عبيد عَن بسر عَن أبي سعيد بِدُونِ: الْوَاو، بَينهمَا قلت: قَالَ ابْن السكن: عَن الْفربرِي، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان. عَن فليح عَن أبي النَّضر عَن عبيد عَن بسر عَن أبي سعيد، وَهُوَ خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ: عَن عبيد بن حنين وَعَن بسر بن سعيد يَعْنِي: بواو، الْعَطف.
وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن سعيد بن مَنْصُور عَن فليح عَن أبي النَّضر عَن عبيد وَبسر بن سعيد جَمِيعًا عَن أبي سعيد، وَرَوَاهُ عَن فليح كَرِوَايَة سعيد بن يُونُس بن مُحَمَّد عَن ابْن أبي شيبَة، وَرِوَايَة أبي زيد الْمروزِي فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) : حدّثنا مُحَمَّد بن سِنَان حدّثنا فليح حدّثنا أَبُو النَّضر عَن عبيد عَن ابْن سعيد، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي فضل أبي بكر عَن عبيد ابْن مُحَمَّد عَن ابْن عَامر حدّثنا فليح حدّثنا سَالم عَن بسر عَن سعيد عَن أبي سعيد، وَفِي هِجْرَة النَّبِي؛ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد احدثني مَالك عَن أبي النَّضر عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد، بِلَفْظ: (أَن يؤتيه امن زهرَة الدُّنْيَا مَا شَاءَ) ، وَفِيه: (فَبكى أَبُو بكر وَقَالَ: فَدَيْنَاك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا) . وَكَذَا رَوَاهُ مَالك: عَن عبد ابْن مسلمة وَابْن وهب ومعن ومطرف وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَمُحَمّد بن الْحسن وَعبد الْعَزِيز بن يحيى. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم أره فِي (الْمُوَطَّأ) إلاَّ فِي (كتاب الْجَامِع) للقعنبي وَلم يذكر فِي (الْمُوَطَّأ) غَيره وَمن تَابعه، فَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي غير (الْمُوَطَّأ) وَا تَعَالَى أعلم.
قلت: وَكَانَ هَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا أَتَى من فليح لِأَن الحَدِيث حَدِيثه وَعَلِيهِ يَدُور، وَهُوَ عِنْد بَعضهم: هُوَ ليّن الرِّوَايَة، وَحَاصِل الرِّوَايَة أَن فليحاً كَانَ يروي تَارَة(4/243)
عَن عبيد وَعَن بسر كليهمَا، وَتارَة يقْتَصر على أَحدهمَا. وَأَخْطَأ من مُحَمَّد بن سِنَان حَيْثُ حذف الْوَاو العاطفة. فَافْهَم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل أبي بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، عَن عبد ابْن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (عِنْده) أَي، عِنْد اوهو: الْآخِرَة. قَوْله: (مَا يبكي هَذَا الشَّيْخ) من الإبكاء، وَكلمَة: مَا، استفهامية. قَوْله: (إِن يكن اخير) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِن يكن عبد خير) ، فإعراب الأولى: هُوَ: أَن: إِن، بِالْكَسْرِ شَرط، ويكن، فعل الشَّرْط وَهُوَ مجزوم، وَلكنه لما اتَّصل بِلَفْظ: ا، كسر لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ. قَالَ الْكرْمَانِي: الْجَزَاء مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ السِّيَاق. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا، بل الْجَزَاء قَوْله: (فَاخْتَارَ مَا عِنْد ا) ، قَوْله: (خير) على صِيغَة الْمَعْلُوم من: التَّخْيِير، وعبداً، مَفْعُوله و: الضَّمِير فِي: فَاخْتَارَ، يرجع إِلَى: العَبْد، و: مَا عِنْد ا، فِي مَحل النصب مَفْعُوله. وإعراب الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هُوَ أَن: إِن أَيْضا كلمة شَرط، و: يكن، مجزوم بِهِ. وَقَوله: عبد، مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: مقدما، وَقَوله: خير، على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لعبد، وَالْجَزَاء هُوَ قَوْله: (فَاخْتَارَ) . وَقَالَ السفاقسي: وَيصِح أَن تكون الْهمزَة، يَعْنِي همزَة: أَن، مَفْتُوحَة بِأَن يكون مَنْصُوبًا: بِأَن، فَيكون الْمَعْنى مَا يبكيه لأجل أَن يكون اخير عبدا. وَقَالَ بَعضهم: وَجوز ابْن التِّين فتحهَا، يَعْنِي: فتح: أَن، على أَنَّهَا تعليلية، وَفِي نظر. قلت: فِي نظره نظر، لِأَن التَّعْلِيل هُنَا لأجل فِرَاقه لَا على كَونه خيّر عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده. قَوْله: (هُوَ العَبْد) ، أَي: الْمُخَير: قَوْله: (وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا) حَيْثُ فهم أَنه رَسُول ا، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: عبدا، على سَبِيل الْإِبْهَام ليظْهر فهم أهل الْمعرفَة ونباهة أَصْحَاب الحذق، وَكَانَ ذَلِك فِي مرض مَوته كَمَا يَجِيء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس بعده، إِن شَاءَ اتعالى. وَلما كَانَ أَبُو بكر أعلم الصَّحَابَة، إِذْ لم يُنكر أحد مِنْهُم مِمَّن حضر حِين قَالَ أَبُو سعيد: وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، اختصه الشَّارِع بالخصوصية الْعُظْمَى. وَقَالَ: (إِن أمنَّ النَّاس عليَّ) إِلَى آخِره فَظهر أَن للصديق من الْفَضَائِل والحقوق مَا لَا يُشَارِكهُ فِي ذَلِك مَخْلُوق. قَالَ الْعلمَاء: فِي ممعنى هَذَا الْكَلَام، مِنْهُم الْخطابِيّ: أَي أَكْثَرهم جوداً وسماحة لنا بِنَفسِهِ وَمَاله، وَلَيْسَ هُوَ من الْمَنّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَاد بالصنيعة، لِأَنَّهُ مُبْطل للثَّواب، لِأَن الْمِنَّة وَلِرَسُولِهِ فِي قبُول ذَلِك. قَالَ الْخطابِيّ: والمن فِي كَلَام الْعَرَب الْإِحْسَان إِلَى من يُكَافِئهُ. قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ} (ص: 93) وَقَالَ: {وَلَا تمنن} (المدثر: 6) أَي: لَا تعط لتأْخذ من الْمُكَافَأَة أَكثر مَا أَعْطَيْت. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وزن: أَمن، أفعل، من: الْمِنَّة، أَي الإمتنان أَي: أَكثر منَّة. وَمَعْنَاهُ: أَن أَبَا بكر لَهُ من الْحُقُوق مَا لَو كَانَ لغيره لَا متن بهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَادر بالتصديق وَنَفَقَة الْأَمْوَال، وبالملازمة والمصاحبة إِلَى غير ذَلِك بانشراح صدر ورسوخ علم بِأَن اورسوله لَهما الْمِنَّة فِي ذَلِك وَالْفضل، لَكِن رَسُول ا، بجميل أخلاقه وكريم أعراقه اعْترف بذل عملا بشكر الْمُنعم، لَيْسَ كَمَا قَالَ الْأَنْصَار. وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (مَا لأحد عندنَا يَد إلاَّ كافأنا مَا خلا أَبَا بكر فَإِن لَهُ عندنَا يدا يُكَافِئهُ ابها يَوْم الْقِيَامَة) . قَوْله: (وَلَو كنت متخذاً خَلِيلًا) ، الاتخاذ: افتعال من الْأَخْذ، وَاتخذ يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وَيَتَعَدَّى إِلَى مفعولين أَحدهمَا بِحرف الْجَرّ، فَيكون بِمَعْنى: اخْتَار وَاصْطفى، وَهنا سكت عَن أحد مفعوليه وَهُوَ الَّذِي دخل عَلَيْهِ حرف الْجَرّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَو كنت متخذاً من النَّاس خَلِيلًا لاتخذت مِنْهُم أَبَا بكر. والخليل: المخال، وَهُوَ الَّذِي يخالك أَي: يوافقك فِي خلالك، أَو يسايرك فِي طريقتك، من الْخلّ وَهُوَ الطَّرِيق فِي الرمل، أَو يسد خللك كَمَا تسد خلله، أَو يداخلك خلال منازلك. وَقيل: صل الْخلَّة الِانْقِطَاع، فخليل االمنقطع إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن فورك: الْخلَّة صفاء الْمَوَدَّة بتخلل الْأَسْرَار. وَقيل: الْخَلِيل من لَا يَتَّسِع قلبه لغير خَلِيله. وَقَالَ عِيَاض: أصل الْخلَّة الافتقار والانقطاع، فخليل اأي: الْمُنْقَطع إِلَيْهِ لقصره حَاجته عَلَيْهِ. وَقيل: الْخلَّة الِاخْتِصَاص بِأَصْل الإصطفاء، وَسمي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَلِيل الأنه وَإِلَى فِيهِ وعادى فِيهِ. وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ تخَلّل بخلال حَسَنَة وأخلاق كَرِيمَة، وخلة اتعالى لَهُ نَصره وَجعله ءماماً لمن بعده. وَزعم السفاقسي أَنه كَانَ اتخذ خَلِيلًا من الْمَلَائِكَة. وَلِهَذَا قَالَ: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا من أمتِي) . انْتهى يردة قَوْله: (وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي) ، ومعنىء الحَدِيث: أَن أَبَا بكر متأهل لِأَن يَتَّخِذهُ خَلِيلًا لَوْلَا الْمَانِع الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه امْتَلَأَ قلبه بِمَا تخلله من معرفَة اتعالى ومحبته ومراقبته حَتَّى كَأَنَّهَا مزجت(4/244)
أَجزَاء قلبه بذلك فَلم يَتَّسِع قلبه لخليل آخر، فعلى هَذَا لَا يكون الْخَلِيل، إلاَّ وَاحِدًا، وَمن لم ينْتَه إِلَى ذَلِك مِمَّن تعلق الْقلب بِهِ فَهُوَ حبيب، وَلذَلِك أثبت لأبي بكر وَعَائِشَة أَنَّهُمَا أحب النَّاس إِلَيْهِ، وَنفى عَنْهُمَا الْخلَّة الَّتِي هِيَ فَوق الْمحبَّة، وَقد اخْتلف أَرْبَاب الْقُلُوب فِي ذَلِك، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْخلَّة أَعلَى تمسكاً بِهَذَا الحَدِيث، وَذهب ابْن فورك: إِلَى أَن الْمحبَّة أَعلَى لِأَنَّهَا صفة نَبينَا مُحَمَّد، وَهُوَ أفضل من الْخَلِيل. وَقيل: هما سَوَاء فَلَا يكون الْخَلِيل إلاَّ حبيباً، وَلَا الحبيب إلاَّ خَلِيلًا، وَزعم الْفراء أَن مَعْنَاهُ. فَلَو كنت أخص أحدا بِشَيْء من الْعلم دون النَّاس لخصصت بِهِ أَبَا بكر، لِأَن الْخَلِيل من تفرد بخلة من الْفضل لَا يُشَارِكهُ لَهُ فِيهَا أحد، وَقيل: معنى الحَدِيث: لَو كنت مُنْقَطِعًا إِلَى غير الانقطعت إِلَى أبي بكر، لَكِن هَذَا مُمْتَنع لِامْتِنَاع ذَلِك. فَإِن قلت: قَالَ بعض الصَّحَابَة: سَمِعت خليلي. قلت: لَا بَأْس فِي الِانْقِطَاع إِلَى النَّبِي، لِأَن الِانْقِطَاع إِلَيْهِ انْقِطَاع إِلَى اتعالى، وَفِي حكم ذَلِك.
قَوْله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام) كَذَا هُوَ بِالْألف فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأَصْلِيّ: (وَلَكِن خوة الْإِسْلَام) بِحَذْف الْألف. قَالَ الْكرْمَانِي: وتوجيهه أَن يُقَال: نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى نون: لَكِن، وحذفت الْهمزَة، فَعرض بعد ذَلِك استثقال ضمة من كسرة وضمة فسكن النُّون تَخْفِيفًا، فَصَارَ: وَلَكِن خوة، وَسُكُون النُّون بعد هَذَا الْعَمَل غير سكونه الْأصيلِيّ، ثمَّ نقل عَن ابْن مَالك أَن فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: سُكُون النُّون، وَثُبُوت الْهمزَة بعْدهَا مَضْمُومَة، وَضم النُّون وَحذف الْهمزَة، وسكونه وَحذف الْهمزَة. فَالْأول أصل، وَالثَّانِي فرع، وَالثَّالِث فرع فرع. انْتهى. قلت: كل هَذَا تكلّف خَارج عَن الْقَاعِدَة، وَلَكِن الْوَجْه أَن يُقَال: إِن: لَكِن، على حَالهَا سَاكِنة النُّون، وحذفت الْهمزَة من أخوة، اعتباطاً، وَلِهَذَا قَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ بِغَيْر همزَة، وَلَا أصل لهَذَا، وَكَأن الْهمزَة سَقَطت هُنَا، وَهِي ثَابِتَة فِي بَاقِي الْمَوَاضِع: ثمَّ إِن قَوْله: إخْوَة الْإِسْلَام، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل، وَنَحْو ذَلِك، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي بعده وَقع هَكَذَا. قَوْله: (ومودته) أَي: مَوَدَّة الْإِسْلَام، وَالْفرق بَين الْخلَّة والمودة بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق مَعَ أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ أَنه أثبت الْمَوَدَّة لِأَنَّهَا بِحَسب الْإِسْلَام وَالدّين، وَنفى الْخلَّة للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد هُوَ قَوْله فِي الحَدِيث الَّذِي بعده. وَلَكِن خلة الْإِسْلَام، بدل لفظ الْمَوَدَّة. وَقد قيل: إِن الْخلَّة أخص وَأَعْلَى مرتبَة من الْمَوَدَّة فنفى الْخَاص وَأثبت الْعَام. فَإِن قيل: المُرَاد من السِّيَاق أَفضَلِيَّة أبي بكر، وكل الصَّحَابَة داخلون تَحت أخوة الْإِسْلَام، فَمن أَيْن لزم أفضليته؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا تعلم مِمَّا قبله وَمِمَّا بعده. قَوْله: (لَا يبْقين) ، بالنُّون الْمُشَدّدَة: للتوكيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِلَفْظ مَجْهُول، ويروى بِلَفْظ: الْمَعْرُوف أَيْضا. قلت: فِي صِيغَة الْمَجْهُول يكون لفظ: بَاب، مَرْفُوعا على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالتَّقْدِير: لَا يبْقى أحد فِي الْمَسْجِد بَابا إلاَّ بَاب أبي بكر، وَفِي صِيغَة الْمَعْلُوم يكون: بَاب، مَرْفُوعا على أَنه فَاعل، وَلَا يُقَال: كَيفَ نهى الْبَاب عَن الْبَقَاء وَهُوَ غير مُكَلّف، لأَنا نقُول: إِنَّه كِنَايَة لِأَن عدم الْبَقَاء لَازم للنَّهْي عَن الْإِبْقَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يبقيه أحد حَتَّى لَا يبْقى؟ وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: لَا أرينك هَهُنَا أَي لَا تقعد عِنْدِي حَتَّى لَا أَرَاك؟ قَوْله: (إِلاَّ سُدَّ) الاستنثاء مفرغ تَقْدِيره: لَا يبْقين بَاب بِوَجْه من الْوُجُوه إِلاَّ بِوَجْه السد إِلاَّ بَاب أبي بكر، أَو يكون التَّقْدِير إِلاَّ بَابا سد، حَتَّى لَا يُقَال: الْفِعْل وَقع مُسْتَثْنى ومستثنى مِنْهُ. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْفَوَائِد الأولى: مَا قَالَه الْخطابِيّ: وَهُوَ أَن أمره بسد الْأَبْوَاب غير الْبَاب الشَّارِع إِلَى الْمَسْجِد إِلاَّ بَاب أبي بكر، يدل على اخْتِصَاص شَدِيد لأبي بكر، وإكرام لَهُ، لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يفترقان. الثَّانِيَة: فِيهِ دلَالَة على أَنه قد أفرده فِي ذَلِك بِأَمْر لَا يُشَارك فِيهِ، فَأولى مَا يصرف إِلَيْهِ التَّأْوِيل فِيهِ أَمر الْخلَافَة، وَقد أَكثر الدّلَالَة عَلَيْهَا بأَمْره إِيَّاه بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاة الَّتِي بنى لَهَا الْمَسْجِد، قَالَ الْخطابِيّ: وَلَا أعلم أَن إِثْبَات الْقيَاس أقوى من إِجْمَاع الصَّحَابَة على اسْتِخْلَاف أبي بكر، مستدلين فِي ذَلِك باستخلافه إِيَّاه فِي أعظم أُمُور الدّين، وَهُوَ الصَّلَاة، فقاسوا عَلَيْهَا سَائِر الْأُمُور، وَلِأَنَّهُ كَانَ يخرج من بَاب بَيته وَهُوَ فِي الْمَسْجِد للصَّلَاة، فَلَمَّا غلق الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب أبي بكر دلّ على أَنه يخرج مِنْهُ للصَّلَاة، فَكَأَنَّهُ أَمر بذلك على أَن من بعده يفعل ذَلِك هَكَذَا، فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (سدوا الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب عَليّ) قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ غَرِيب، وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث: إلاَّ بَاب أبي بكر أصح. وَقَالَ الْحَاكِم: تفرد بِهِ مِسْكين بن بكير الْحَرَّانِي عَن شُعْبَة، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: وَهُوَ وهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَتَابعه(4/245)
إِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار. الثَّالِثَة: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: التَّعْرِيض بِالْعلمِ للنَّاس، وَإِن قل فهماؤهم خشيَة أَن يدْخل عَلَيْهِم مساءة أَو خزي. الرَّابِعَة: فِيهِ أَنه لَا يسْتَحق أَخذ الْعلم حَقِيقَة إلاَّ من فهم، والحافظ لَا يبلغ دَرَجَة الْفَهم، وَإِنَّمَا يُقَال لِلْحَافِظِ: عَالم بِالنَّصِّ لَا بِالْمَعْنَى. الْخَامِسَة: فِيهِ دَلِيل على أَن أَبَا بكر أعلم الصَّحَابَة. السَّادِسَة: فِيهِ الحض على اخْتِيَار مَا عِنْد اوالزهد فِي الدُّنْيَا والإعلام بِمن اخْتَار ذَلِك من الصَّالِحين. السَّابِعَة: فِيهِ أَن على السُّلْطَان شكر من أحسن صحبته ومعونته بِنَفسِهِ وَمَاله، واختصاصه بالفضيلة الَّتِي لم يُشَارك فِيهَا. الثَّامِنَة: فِيهِ ائتلاف النُّفُوس بقوله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل) . التَّاسِعَة: فِيهِ أَن الْمَسَاجِد تصان عَن تطرق النَّاس إِلَيْهَا من خوخات وَنَحْوهَا إلاَّ من أَبْوَابهَا إلاَّ من حَاجَة مهمة. الْعَاشِرَة: فِيهِ أَن الْخَلِيل فَوق الصّديق وَالْأَخ.
126 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ قَالَ حَدثنَا وهب بن جرير قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ سَمِعت يعلى بن حَكِيم عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ عاصبا رَأسه بِخرقَة فَقعدَ على الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِنَّه لَيْسَ من النَّاس أحد أَمن عَليّ فِي نَفسه وَمَاله من أبي بكر بن أبي قُحَافَة وَلَو كنت متخذا من النَّاس خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن خلة الْإِسْلَام أفضل سدوا عني كل خوخة فِي هَذَا الْمَسْجِد غير خوخة أبي بكر) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالفاء المسندي. الثَّانِي وهب بن جرير بِفَتْح الْجِيم. الثَّالِث أَبوهُ جرير بن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي الْعَتكِي. الرَّابِع يعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن حَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة الثَّقَفِيّ الْمَكِّيّ سكن الْبَصْرَة وَمَات بِالشَّام. الْخَامِس عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه السماع وَالْقَوْل وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. والْحَدِيث يَأْتِي فِي الْفَرَائِض بِزِيَادَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن وهب. (بَيَان مَعْنَاهُ) قَوْله " عاصبا رَأسه " انتصاب عاصبا على أَنه حَال وَرَأسه مَنْصُوب بِهِ ويروى " عاصب رَأسه " بِالْإِضَافَة وَقَالَ ابْن التِّين الْمَعْرُوف عصب رَأسه تعصيبا (قلت) ذكر صَاحب دستور اللُّغَة عصب بِالتَّخْفِيفِ أَيْضا فَقَالَ عصب شدّ ذكره فِي بَاب فعل يفعل بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل قَوْله " فَحَمدَ الله " أَي على وجود الْكَمَال وَأثْنى أَي على عدم النُّقْصَان قَوْله " ابْن أبي قُحَافَة " بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد الْألف فَاء واسْمه عُثْمَان بن عَامر التَّيْمِيّ أسلم يَوْم الْفَتْح وعاش إِلَى خلَافَة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَاتَ وَله سبع وَتسْعُونَ سنة وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من فِي نَسْله ثَلَاثَة بطُون صحابيون إِلَّا هُوَ قَوْله " أَنه " أَي أَن الشَّأْن لَيْسَ من النَّاس أحدا من عَليّ فِي نَفسه وَمَاله من أبي بكر بن أبي قُحَافَة وَفِي حَدِيث أبي سعيد السَّابِق " أَن أَمن النَّاس عَليّ فِي صحبته وَمَاله أَبُو بكر " وَالْفرق بَين العبارتين أَن الأولى أبلغ لِأَن الثَّانِيَة يحْتَمل أَن يكون لَهُ من يُسَاوِيه فِي الْمِنَّة إِذْ الْمَنْفِيّ هُوَ الْأَفْضَلِيَّة لَا الْمُسَاوَاة قَوْله " وَلَكِن خلة الْإِسْلَام " بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَقَالَ ابْن بطال وَقع فِي الحَدِيث " وَلَكِن خوة الْإِسْلَام " وَلَا أعرف مَعْنَاهُ قَالَ وَقد وجدت الحَدِيث بعده " خلة " بدل خوة وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صرف الْكَلَام على مَا تقدمه من ذكر الخلالة فَأتى بِلَفْظ مُشْتَقّ مِنْهَا وَلم أجد خوة بِمَعْنى خلة فِي كَلَام الْعَرَب. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث جَوَاز الْخطْبَة قَاعِدا قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) هَذِه الْخطْبَة لم تكن وَاجِبَة وَبَاب التَّطَوُّع وَاسع قَوْله " سدوا " بِضَم السِّين وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ قَوْله " غير خوخة أبي بكر " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " إِلَّا خوخة أبي بكر "
18 -(4/246)
(بابُ الأَبْوابِ والغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ والمَسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للكعبة ولغيرها من الْمَسَاجِد لأجل صونها عَمَّا لَا يصلح فِيهَا، وَلأَجل حفظ مَا فِيهَا من الْأَيْدِي العادية، وَلِهَذَا قَالَ ابْن بطال: اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للمساجد وَاجِب، وَعلل الْوُجُوب بِمَا ذكرنَا. قَوْله: (والغلق) بتحريك اللَّام، وَهُوَ المغلاق وَهُوَ مَا يغلق بِهِ الْبَاب.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ حدّثنا سُفْيَانُ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ لِي ابنُ أبي مُلَيْكَةَ يَا عَبْدَ المَلِكِ لَوْ رَأيْتَ مَسَاجِدَ ابنِ عبَّاسٍ وَأبْوَابَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْأَبْوَاب. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد ا) ، المُرَاد بِهِ البُخَارِيّ نَفسه، وَعبد ابْن مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ المسندي، مضى ذكره فِي الْبَاب السَّابِق، وسُفْيَان: هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن جريج هُوَ عبد ابْن جريج، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، وَاسم أبي مليكَة: زُهَيْر بن عبد ابْن جدعَان التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي. قَوْله: (لَو رَأَيْت) ، جَزَاؤُهُ مَحْذُوف، أَي: رَأَيْتهَا كَذَا وَكَذَا، وَيحْتَمل أَن تكون: لَو، للتمنى فَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَزَاء، وَهَذَا الْكَلَام يدل على أَن هَذِه الْمَسَاجِد كَانَت لَهَا أَبْوَاب، وأغلاق بِأَحْسَن مَا يكون، وَلَكِن كَانَت فِي الْوَقْت الَّذِي قَالَ ابْن أبي مليكَة لِابْنِ جريج: خربَتْ واندرست.
127 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان وقتيبة قَالَا حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم مَكَّة فَدَعَا عُثْمَان بن طَلْحَة فَفتح الْبَاب فَدخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبلال وَأُسَامَة بن زيد وَعُثْمَان بن طَلْحَة ثمَّ أغلق الْبَاب فَلبث فِيهِ سَاعَة ثمَّ خَرجُوا قَالَ ابْن عمر فبدرت فَسَأَلت بِلَالًا فَقَالَ صلى فِيهِ فَقلت فِي أَي قَالَ بَين الأسطوانتين قَالَ ابْن عمر فَذهب عَليّ أَن أسأله كم صلى) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَفتح الْبَاب " وَفِي قَوْله " ثمَّ أغلق ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول أَبُو النُّعْمَان بِضَم الْمِيم مُحَمَّد بن الْمفضل السدُوسِي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي قُتَيْبَة بن سعيد وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث حَمَّاد بن زيد وَقد تقدم غير مرّة. الرَّابِع أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الْخَامِس نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه روى البُخَارِيّ عَن شيخين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان وَفِي الْجِهَاد عَن يحيى بن بكير وَعَن مُسَدّد عَن يحيى وَعَن أبي نعيم وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن أبي الرّبيع وقتيبة أبي كَامِل ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بِهِ وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن حميد بن مسْعدَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " عُثْمَان بن طَلْحَة " هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى الْعَبدَرِي الحَجبي(4/247)
قتل أَبوهُ وَعَمه يَوْم أحد كَافِرين فِي جمَاعَة من بني عَمهمَا وَهَاجَر هَذَا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو وَدفع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَإِلَى ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان مِفْتَاح الْكَعْبَة وَقَالَ الْكرْمَانِي أسلم يَوْم هدنة الْحُدَيْبِيَة وَجَاء يَوْم الْفَتْح بمفتاح الْكَعْبَة وَفتحهَا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خذوها " يَعْنِي الْمِفْتَاح " يَا آل أبي طَلْحَة خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم " ثمَّ نزل الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ تحول إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين قَوْله " وبلال " عطف على قَول النَّبِي أَي وَدخل بِلَال أَيْضا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدخل أَيْضا أُسَامَة بن زيد وَعُثْمَان بن أبي طَلْحَة وإدخاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مَعَه لمعان تخص كل وَاحِد مِنْهُم فَأَما دُخُول بِلَال فلكونه مؤذنه وخادم أَمر صلَاته وَأما أُسَامَة فَلِأَنَّهُ كَانَ يتَوَلَّى خدمَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأما عُثْمَان فلئلا يتَوَهَّم النَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَزله وَلِأَنَّهُ كَانَ يقوم بِفَتْح الْبَاب وإغلاقه قَوْله " فبدرت " أَي أسرعت قَوْله " فَسَأَلت بِلَالًا " أَي عَن صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَعْبَة قَوْله " فَقلت فِي أَي " أَي فِي أَي نواحيه ويروى فِي أَي نواحيه بِوُجُود الْمُضَاف إِلَيْهِ قَوْله " بَين الاسطوانتين " هِيَ تَثْنِيَة الاسطوانة بِضَم الْهمزَة وَزنهَا أفعوالة وَقيل فعلوانة وَقيل افعلانة قَوْله " فَذهب عَليّ " أَي فَاتَ مني سُؤال الكمية قَوْله " أَن أسأله " بِفَتْح أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل ذهب (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مَا قَالَه الْخطابِيّ وَابْن بطال أَن إغلاق بَاب الْكَعْبَة كَانَ لِئَلَّا يكثر النَّاس عَلَيْهِ فيصلوا بِصَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيكون ذَلِك عِنْدهم من الْمَنَاسِك كَمَا فعل فِي صَلَاة اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن تكْتب عَلَيْهِم وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِئَلَّا يزدحموا عَلَيْهِ لتوفر دواعيهم على مُرَاعَاة أَفعاله ليأخذوها عَنهُ وَقيل ليَكُون ذَلِك أسكن لِقَلْبِهِ وَأجْمع لخشوعه. وَمِنْهَا مَا قَالَ ابْن بطال اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للمساجد وَاجِب وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا أَن الْمُسْتَحبّ لمن يدْخل الْكَعْبَة أَن يُصَلِّي بَين الاسطوانتين كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَيَجِيءُ فِي كتاب الْحَج عَن ابْن عمر أَنه سَأَلَ بِلَالًا هَل صلى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ نعم بَين العمودين اليمانيين وَفِي لفظ " جعل العمودين عَن يسَاره وعمودا عَن يَمِينه وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه وَكَانَ الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة ثمَّ صلى " وَفِي لفظ " فَمَكثَ فِي الْبَيْت نَهَارا طَويلا ثمَّ خرج فابتدر النَّاس من الدُّخُول فسبقتهم فَوجدت بِلَالًا قَائِما وَرَاء الْبَيْت فَقلت لَهُ أَيْن صلى فَقَالَ بَين ذَيْنك العمودين المقدمين قَالَ ونسيت أَن أسأله كم صلى وَعند الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ مرّة مرّة حَمْرَاء " وروى أَحْمد من حَدِيث عُثْمَان بن أبي طَلْحَة بِسَنَد صَالح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت فصلى رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين " وَفِي فَوَائِد سمويه بن عبد الرَّحْمَن بن الوضاح قَالَ " قلت لشيبة زَعَمُوا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْكَعْبَة فَلم يصل فِيهَا قَالَ كذبُوا وَأبي لقد صلى رَكْعَتَيْنِ بَين العمودين ثمَّ ألصق بهما بَطْنه وظهره " -
28 - (بابُ دُخولِ المُشْرِكِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الْمُشرك الْمَسْجِد، وَفِيه خلاف، فعندنا يجوز مُطلقًا، وَعند الْمَالِكِيَّة والمزني الْمَنْع مُطلقًا، وَعند الشَّافِعِيَّة التَّفْصِيل بَين الْمَسْجِد الْحَرَام وَغَيره، وَلنَا حَدِيث الْبَاب.
38 -(4/248)
(بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد، وَلَكِن هَذَا أَعم من أَن يكون مَمْنُوعًا، أَو غير مَمْنُوع، فَذكره الْحَدِيثين فِيهِ إِشَارَة إِلَى بَيَان تَفْصِيل فِيهِ مَعَ الْخلاف، فَالْحَدِيث الأول يدل على الْمَنْع، والْحَدِيث الثَّانِي يدل على عَدمه، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِيمَا تقدم، وَهُوَ بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد.
074921 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثنا الجُعَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حدّثني يَزِيدُ بنُ خُصَيْفَةَ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كنْتُ قائِماً فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجلٌ فَنَظَرْتُ فإِذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ اذْهبْ فَأتِني بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِما قَالَ مَن أنْتُما أوْ مِنْ أيْنَ أنْتُما قَالَا منْ أهْلِ الطَّائِفِ قَالَ لَوْ كُنْتُما مِنْ أهْلِ البَلَدِ لأوْجَعْتُكُما تَرْفَعَانِ أصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رسولِ اللَّهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أحد احتماليها، وَهُوَ: الْمَنْع.
ذكر رِجَاله. وهم خَمْسَة. الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يحيى الْقطَّان، كَذَلِك. الثَّالِث: الجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَيُقَال لَهُ: جعيد، أَيْضا بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَيُقَال لَهُ: الْجَعْد، بِدُونِ التصغير، وَهُوَ اسْمه الْأَصْلِيّ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: الْجَعْد بن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس، وَهُوَ ثِقَة روى لَهُ مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا عَن السَّائِب. الرَّابِع: يزِيد، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الزَّاي: أَبُو خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: ابْن أخي السَّائِب الْمَذْكُور فِيهِ، وخصيفة جده، وَأَبوهُ عبد ابْن خصيفَة، وَقد نسب إِلَى جده. الْخَامِس: السَّائِب، بِالسِّين الْمُهْملَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أُخْت النمر الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَقد تقدم فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وروى ثمَّة الجعيد عَن السَّائِب بِدُونِ وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة، يزِيد، وروى حَاتِم بن إِسْمَاعِيل هَذَا الحَدِيث عَن الجعيد عَن السَّائِب بِلَا وَاسِطَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَصَحَّ سَماع الْجَعْد عَن الساب كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، فَلَا يكون هَذَا الِاخْتِلَاف قادحاً، وروى عبد الرَّزَّاق هَذَا من طَرِيق أُخْرَى عَن نَافِع قَالَ: (كَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، يَقُول: لَا تكثروا للغط. فَقَالَ: إِن مَسْجِدنَا هَذَا لَا يرفع فِيهِ الصَّوْت) . الحَدِيث، وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاع لِأَن نَافِعًا لم يدْرك هَذَا الزَّمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومدني وبصري. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله كَمَا ذكرنَا.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (كنت قَائِما) ، وَقع فِي الْأُصُول بِالْقَافِ، ويروى: (نَائِما) ، بالنُّون وَيُؤَيّد هَذِه الرِّوَايَة مَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى حدّثنا مُحَمَّد بن عباد حدّثنا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن الجعيد عَن السَّائِب، قَالَ: (كنت مُضْطَجعا فحصبني إِنْسَان) . قَوْله: (فحصبني) ، من: حصبت الرجل أحصبه، بِالْكَسْرِ: رميته بالحصباء. قَوْله: (إِذا هُوَ عمر بن الْخطاب) كلمة؛ إِذا، للمفاجأة وَهُوَ: مُبْتَدأ وَعمر: خَبره، ويروى: فَإِذا عمر بن الْخطاب، فعلى هَذَا: عمر، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره؛ فَإِذا عمر حَاضر، أَو: وَاقِف. قَوْله: (فَقَالَ: اذْهَبْ) ، أَي: فَقَالَ عمر للسائب: إذهب. قَوْله: (فَاتَنِي بِهَذَيْنِ) ، يَعْنِي: بِهَذَيْنِ الشخصين وَكَانَا ثقفيين، كَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق. قَوْله: (لأوجعتكما) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لأوجعتكما جلدا) . قَوْله: (ترفعان) ، خطاب لهذين الْإِثْنَيْنِ، وَهِي جملَة استئنافية، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، كَأَنَّهُمَا قَالَا: لم توجعن؟ قَالَ: لأنكما ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِد رَسُول ا. فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع فِي أصواتكما، مَعَ أَن الْمَوْجُود صوتان لَهما؟ قلت: الْمُضَاف الْمثنى معنى، إِذا كَانَ جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ، الْأَفْصَح أَن يذكر بِالْجمعِ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) وَيجوز إِفْرَاده نَحْو: أكلت رَأس شَاتين، والتثنية مَعَ أصالتها قَليلَة الِاسْتِعْمَال، وَإِن لم يكن جزءه فالأكثر(4/249)
مَجِيئه بِلَفْظ التَّثْنِيَة، نَحْو: سلَّ الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن اللّبْس جَازَ جلّ الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي قَوْله: (يعذبان فِي قبورهما) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (برفعكما أصواتكما) ، أَي: بِسَبَب رفعكما أصواتكما.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ. مَا قَالَه ابْن بطال: قَالَ بَعضهم: أما إِنْكَار عمر فلأنهما رفعا أصواتهما فِيمَا لَا يحتاجان إِلَيْهِ من اللَّغط الَّذِي لَا يجوز فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا سَأَلَهُمَا من أَيْن أَنْتُمَا ليعلم أَنَّهُمَا إِن كَانَا من أهل الْبَلَد وعلما أَن رفع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد باللغط فِيهِ غير جَائِز زجرهما وأدبهما، فَلَمَّا أخبراه أَنَّهُمَا من غير الْبَلَد عُذْرهمَا بِالْجَهْلِ. وَفِيه: مَا يدل على جَوَاز قبُول اعتذار أهل الْجَهْل بالحلم إِذا كَانَ فِي شَيْء يخفى مثله. وَفِيه: جَوَاز تَأْدِيب الإِمَام من يرفع صَوته فِي الْمَسْجِد باللغط وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الحَدِيث لَهُ حكم الرّفْع لِأَن عمر لَا يتوعد الرجلَيْن الْمَذْكُورين بِالْجلدِ إلاَّ على مُخَالفَة أَمر توفيقي. قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك بِاجْتِهَادِهِ ورأيه.
174 - ح دّثنا أحَمدُ قَالَ حدّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ بنُ يَزِيدَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدّثني عَبْدُ اللَّهِ بنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ كَعْبَ بنَ مَالِكٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً لَهُ عليهِ فِي عَهْدِ رسولِ اللَّهِ فِي المَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُما حَتَّى سَمِعَهَا رَسولُ اللَّهِ وَهْوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِما رسولُ اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ ونادَى يَا كَعْبُ بنَ مالِكٍ قَالَ لَبيْكَ يَا رسولَ اللَّهِ فأشَارَ بِيَدِهِ أنْ ضَعِ الشَّطْرَ منْ دَيْنِكَ قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ رسولُ اللَّهِ قُمْ فاقْضِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الِاحْتِمَال الثَّانِي، وَهُوَ: عدم الْمَنْع.
ذكر رِجَاله. وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد، قَالَ الغساني: قَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة فِي موضِعين: حدّثنا أَحْمد قَالَ: حدّثنا ابْن وهب، فَقَالَ ابْن السكن: هُوَ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ. قلت: وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْفربرِي: حدّثنا أَحْمد بن صَالح. وَقَالَ الْحَاكِم فِي (الْمدْخل) : إِنَّه هُوَ، وَقيل: إِنَّه أَحْمد بن عِيسَى التسترِي، وَلَا يَخْلُو أَن يكون وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي: كل مَا قَالَه البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) : أَحْمد عَن ابْن وهب، هُوَ: أَحْمد ابْن صَالح الْمصْرِيّ. الثَّانِي: عبد ابْن وهب الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبد ابْن كَعْب بن مَالك. السَّادِس: أَبوهُ كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمدنِي الشَّاعِر.
وَهَذَا الحَدِيث مَعَ تَحْقِيق مَعْنَاهُ وفوائده قد مضى فِي بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد قبل مِقْدَار عشرَة أَبْوَاب.
قَوْله: (حَتَّى سَمعهَا) ، أَي: حَتَّى سمع النَّبِي، أصواتهما: وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَتَّى سمعهما. وَا تَعَالَى أعلم.
48 - (بابُ الحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحلق وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد، يَعْنِي: يجوز ذَلِك خُصُوصا إِذا كَانَ لعلم أَو ذكر أَو قِرَاءَة قُرْآن. قَوْله: (الْحلق) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح اللَّام، كَذَا قَالَه الْخطابِيّ فِي (إصْلَاح الْغَلَط) . وَقَالَ ابْن التِّين: الْحلق، بِفَتْح الْحَاء وَاللَّام: جمع حَلقَة، مثل تَمْرَة وتمر. وَفِي (الْمُحكم) : الْحلقَة كل شَيْء اسْتَدَارَ كحلقة الْحَدِيد وَالْفِضَّة وَالذَّهَب، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي النَّاس، وَالْجمع: حلاق، على الْغَالِب، و: حلق على النَّادِر: هضبة وهضب، وَالْحلق: عِنْد سِيبَوَيْهٍ اسْم للْجمع وَلَيْسَ بِجمع لِأَن فعلة لَيست مِمَّا يكسر على فعل، وَنَظِير هَذَا مَا حَكَاهُ من قَوْلهم؛ فلكة وفلك، وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ فِي: الْحلقَة، فتح اللَّام، وَأنْكرهُ ابْن السّكيت يكسر على فعل، وَنَظِير هَذَا مَا حَكَاهُ من قَوْلهم: فلكة وفلك، وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ فِي: الْحلقَة، فتح اللَّام، وأنكرها ابْن السّكيت وَغَيره. وَقَالَ اللحياني: حَلقَة الْبَاب وحلقته بِإِسْكَان اللَّام وَفتحهَا، وَقَالَ كرَاع: حَلقَة الْقَوْم وحلقتهم، وَحكى الْأمَوِي: حَلقَة الْقَوْم وحلاق، وَحكى أَبُو يُونُس عَن أبي عمر بن الْعَلَاء: حَلقَة فِي الْوَاحِد بِالتَّحْرِيكِ وَالْجمع: حلقات وَفِي (الموعب) : الْحلق مُؤَنّثَة فِي الْقيَاس إِلاَّ أَنِّي رايته فِي رجزدكين مذكراً، وَبَلغنِي أَن بَعضهم يَقُول: الْحلقَة، بِالتَّحْرِيكِ وَهِي لُغَة قَليلَة، فجَاء التَّذْكِير(4/250)
على هَذَا، وَحكى مكي عَن الْخَلِيل: بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ الفرزدق:
(يَا أَيهَا الْجَالِس فِي وسط الْحلقَة ... أَفِي زنا جلدت أم فِي سَرقَة)
وَفِي (الْمُجَرّد) لكراع: حَلقَة الْقَوْم، وحلقة، وحلقة وَالْجمع: حلق وَحلق وحلاق.
274131 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عنْ نافِعٍ عنِ ابِنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ قَالَ مَثْنَى مَثْنَى فإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صلَّى وَاحِدَةً فأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى وإنَّهُ كانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وتْراً فإِنَّ النَّبيَّ أمَرَ بِهِ. (الحَدِيث 274 أَطْرَافه فِي: 374، 099، 399، 599، 7311) .
11
- مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن كَون النَّبِي على الْمِنْبَر يدل على كَون جمَاعَة جالسين فِي الْمَسْجِد، وَمِنْهُم الرجل الَّذِي سَأَلَهُ عَن صَلَاة اللَّيْل، وَهَذَا لم يعرف اسْمه. وَقَالَ ابْن بطال: شبه البُخَارِيّ فِي الحَدِيث جُلُوس الرِّجَال فِي الْمَسْجِد حول النَّبِي وَهُوَ يخْطب: بِالْحلقِ، وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد للْعلم. انْتهى قلت: فعلى هَذَا طابق الحَدِيث جزئي التَّرْجَمَة كليهمَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل، على صِيغَة الْمَفْعُول، مر فِي بَاب قَول النَّبِي: (رب مبلغ أوعى) . الثَّالِث: عبيد ابْن عمر الْعمريّ، مر فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد ابْن عمر رَضِي اعنهم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى عَن أبي النُّعْمَان، وَأخرجه أَيْضا عَن عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد ابْن دِينَار عَن ابْن عمر. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (مَعَاني الْآثَار) من اثْنَي عشر طَرِيقا.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (وَهُوَ على الْمِنْبَر) جملَة حَالية. قَوْله: (مَا ترى؟) يحْتَمل أَن يكون من الرَّأْي، أَي: مَا رَأْيك؟ وَأَن يكون من الرُّؤْيَة الَّتِي هِيَ الْعلم، وَالْمرَاد لَازِمَة أَي: مَا حكمت؟ إِذْ الْعَالم يحكم بِعِلْمِهِ شرعا. قَوْله: (مثنى مثنى) مقول القَوْل، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة جملَة لِأَن مقول القَوْل يكون جملَة، فالمبتدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ، وَهُوَ غير منصرف لِأَن فِيهِ الْعدْل الْحَقِيقِيّ وَالصّفة. قَوْله: (فأوترت) على صِيغَة الْمَاضِي، أَي: أوترت تِلْكَ الْوَاحِد، لَهُ، أَي: للْمُصَلِّي. قَوْله: (مَا صلى) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول أوترت، وَالْفَاعِل فِيهِ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْوَاحِدَة. قَوْله: (وَأَنه) ، جملَة استئنافية، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى ابْن عمر، وَالْقَائِل هُوَ نَافِع. قَوْله: (بِاللَّيْلِ) ، وَقعت فِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي. فَقَط. قَوْله: (أَمر بِهِ) ، أَي: بالوتر، أَو بالجعل الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (اجعلوا) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الْحلق فِي الْمَسْجِد للْعلم وَالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَنَحْو ذَلِك فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: (دخل رَسُول الله الْمَسْجِد وهم حلق، فقافل: مَالِي أَرَاكُم عزين؟) فَهَذَا يُعَارض ذَلِك قلت: تحلقهم هَذَا كَانَ لغير فَائِدَة وَلَا مَنْفَعَة، بِخِلَاف تحلقهم فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ كَانَ لسَمَاع الْعلم والتعلم، فَلَا مُعَارضَة. وَفِيه: أَن الْخَطِيب إِذا سُئِلَ عَن أَمر الدّين لَهُ أَن يُجَاوب من سَأَلَهُ، وَلَا يضر ذَلِك خطبَته. وَفِيه: أَن صَلَاة اللَّيْل رَكْعَتَانِ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النَّوَافِل، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: السّنة أَن تكون مثنى مثنى لَيْلًا وَنَهَارًا. قَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل الْأَرْبَع لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ، وبالنهار أَربع. وَاحْتج أَبُو حنيفَة فِي صَلَاة اللَّيْل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عَائِشَة (أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول ا، فِي جَوف اللَّيْل، فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة. ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَفِي آخِره: (حَتَّى قبض على ذَلِك) ، وَاحْتج فِي صَلَاة النَّهَار بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة (أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة: كم كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الضُّحَى؟(4/251)
قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده، وَفِيه: (لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام) . فَإِن قلت: روى الْأَرْبَعَة عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، قلت: لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ سكت عَنهُ، إلاَّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد ابْن عمر عَن النَّبِي وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ، وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) إِسْنَاد جيد إلاَّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار، مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وَطَاوُس. والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وروى الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبعا. وبالليل رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: فمحال أَن يروي ابْن عمر عَن رَسُول الله شَيْئا ثمَّ يُخَالف ذَلِك، فَعلم بذلك أَنه كَانَ مَا رُوِيَ عَنهُ عَن رَسُول الله ضَعِيفا، أَو كَانَ مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. فَإِن قلت: روى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ اصفهان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول ا: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) عَنهُ قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ؟ قلت: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أصح مِنْهُمَا وَأقوى وَأثبت، وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم نقُول: مَعْنَاهُ شفعاً لَا وترا، بسبيل إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم على اللَّازِم مجَازًا جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ.
وَفِيه إِن قَوْله: (فَإِذا خشِي أحدكُم الصُّبْح صلى وَاحِدَة) ، احْتج بِهِ من يَقُول: إِن الْوتر رَكْعَة وادة، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن مجلز، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يحدث عَن النَّبِي قَالَ: (الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل) ، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَدَاوُد، وهم جعلُوا هَذَا الحَدِيث أصلا فِي الإيتار بِرَكْعَة، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: وَلَا بُد أَن يكون قبلهَا شفع ليسلم بَينهُنَّ فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَعنهُ: لَا بَأْس أَن يُوتر الْمُسَافِر بِوَاحِدَة، وَكَذَا فعله سَحْنُون فِي مَرضه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الرَّكْعَة الْوَاحِدَة لم تشرع إلاَّ فِي الْوتر، وَفعله أَبُو بكر وَعمر، وَرُوِيَ عَن عُثْمَان وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة وَأبي مُوسَى وَابْن الزبير وَعَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهُم.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد، فِي رِوَايَة الْحسن بن حَيّ وَابْن الْمُبَارك: الْوتر ثَلَاث رَكْعَات لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ كَصَلَاة الْمغرب، وَقَالَ أَبُو عمر: يرْوى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي ابْن أبي طَالب وَعبد ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَأنس بن مَالك وَأبي أُمَامَة وَحُذَيْفَة وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَأَجَابُوا عَمَّا احتجت بِهِ أهل الْمقَالة الأولى من الحَدِيث الْمَذْكُور وَنَحْوه فِي هَذَا الْبَاب بِأَن قَوْله: (الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل) ، يحْتَمل مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يكون رَكْعَة مَعَ شفع تقدمها، وَذَلِكَ كُله وتر، فَتكون تِلْكَ الرَّكْعَة توتر الشفع الْمُتَقَدّم لَهَا، وَقد بَين ذَلِك آخر حَدِيث الْبَاب الَّذِي احْتج بِهِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَوْله: (فأوترت لَهُ مَا صلى) ، وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب: (فأوتر بِوَاحِدَة توتر لَك مَا قد صليت) ، وَآخر حَدِيثهمْ حجَّة عَلَيْهِم، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) : عَن عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، أَن رَسُول ا: (كَانَ يُوتر بِثَلَاث) ، الحَدِيث، وروى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول ا، يُوتر بِثَلَاث لَا يعْقد إلاَّ فِي آخِره) ، وروى النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن زُرَارَة عَن سعيد بن هِشَام عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول ا، لَا يسلم فِي رَكْعَتي الْوتر) . وَقَالَ الْحَاكِم: لَا يسلم فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الْوتر، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وروى الإِمَام مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، كَانَ يُوتر بِثَلَاث) الحَدِيث، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه أَنه رقد عِنْد رَسُول الله فَذكر الحَدِيث.
وَفِيه؛ ثمَّ أوتر بِثَلَاث، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة يحيى بن الجزار عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي من اللَّيْل ثَمَان رَكْعَات ويوتر بِثَلَاث) ، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أبي بن كَعْب: (أَن رَسُول الله كَانَ يُوتر بِثَلَاث رَكْعَات) ، وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ، قَالَ: سَأَلت عبد ابْن عَبَّاس وَعبد ابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم، عَن صَلَاة رَسُول الله فَقَالَا: ثَلَاث عشرَة، مِنْهَا: ثَمَان بِاللَّيْلِ ويوتر بِثَلَاث وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْفجْر، وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عبد ابْن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (وتر اللَّيْل ثَلَاث كوتر النَّهَار: صَلَاة الْمغرب) . وروى(4/252)
مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي من حَدِيث أنس بن مَالك: (أَن النَّبِي كَانَ يُوتر بِثَلَاث) وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه: (أَن رَسُول الله كَانَ يُوتر بِثَلَاث) ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: حدّثنا حَفْص عَن عَمْرو عَن الْحسن، قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْوتر ثَلَاث لَا يسلم إِلَّا فِي آخِرهنَّ. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، قَالَ: (لَا توتروا بِثَلَاث وأوتروا بِخمْس أَو بِسبع، وَلَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب) . قلت: رُوِيَ هَذَا مَوْقُوفا على أبي هُرَيْرَة، كَمَا رُوِيَ مَرْفُوعا، وَمَعَ هَذَا هُوَ معَارض بِحَدِيث عَليّ وَعَائِشَة وَمن ذكرنَا مَعَهُمَا من الصَّحَابَة، وَأَيْضًا إِن قَوْله: (لَا توتروا بِثَلَاث) ، يحْتَمل كَرَاهَة الْوتر من غير تطوع قبله من الشفع، وَيكون الْمَعْنى: لَا توتروا بِثَلَاث رَكْعَات وَحدهَا من غير أَن يتقدمها شَيْء من التَّطَوُّع الفع، بل أوتروا هَذِه الثَّلَاث مَعَ شفع قبلهَا لتَكون خمْسا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (واوتروا بِخمْس) أَو: أوتروا هَذِه الثَّلَاث مَعَ شفعين قبلهَا لتَكون سبعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (أَو بِسبع) أَي: أوتروا بِسبع رَكْعَات: أَربع تطوع وَثَلَاث وتر، وَلَا تفردوا هَذِه الثَّلَاث كَصَلَاة الْمغرب لَيْسَ قبلهَا شَيْء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (وَلَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب) وَمَعْنَاهُ: لَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب فِي كَونهَا مُنْفَرِدَة عَن تطوع قبلهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: لَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب فِي كَونهَا ثَلَاث رَكْعَات. وَالنَّهْي لَيْسَ بوارد على تَشْبِيه الذَّات بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَارِد على تَشْبِيه الصّفة بِالصّفةِ، وَمَعَ هَذَا فِيمَا ذكره نفي أَن تكون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة وترا، لِأَنَّهُ أَمر بالإيتار بِخمْس أَو بِسبع لَيْسَ إلاَّ. فَافْهَم. فَإِن قلت: قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي: لم نجد عَن النَّبِي خَبرا ثَابتا مُفَسرًا أَنه أوتر بِثَلَاث لم يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، كَمَا وجدنَا فِي الْخمس والبسع وَالتسع، غير أَنا وجدنَا عَنهُ أَخْبَارًا أَنه أوتر بِثَلَاث لَا ذكر للتسليم فِيهَا؟ قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ من (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث عَائِشَة: أَنه إِن يُوتر بِثَلَاث لَا يقْعد إلاَّ فِي آخِرهنَّ، وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، وَقد قيل: لَعَلَّ مُحَمَّد بن نصر لَا يرى هَذَا ثَابتا. قلت: هَذَا تعصب لَا يجدي وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته ثَابتا أَن لَا يكون ثَابتا عِنْد غَيره.
وَفِيه: إِن قَوْله: اجعلوا آخر صَلَاتكُمْ ... إِلَى آخِره، دَلِيل على أَن ذَلِك يَقْتَضِي الْوُجُوب لظَاهِر الْأَمر بِهِ، وَلكنه مُسْتَحبّ فِي حق من لَا يغلبه النّوم، فَإِن كَانَ يغلبه وَلَا يَثِق بالانتباه أوتر قبله.
474331 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَة(4/253)
َ أنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بنِ أبي طالِبٍ أخْبَرَهُ عنْ أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ قَالَ بَيْنَمَا رسولُ اللَّهِ فِي المَسْجِدِ فَأَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَر فَأَقْبَلَ اثْنانِ إِلَى رَسولِ اللَّهِ وذَهَبَ وَاحِدٌ فَأَمَّا أَحَدُهُما فَرَأَى فُرْجَةً فَجَلَسَ وَأَما الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الآخَرُ فأدْبَرَ ذَاهِباً فَلَمَّا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ قَالَ أَلاَ أُخْبرُكمْ عنِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أحَدُهُمْ فأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَا فاستَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ. (انْظُر الحَدِيث 66) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة خُصُوصا فِي قَوْله: (فَرَأى فُرْجَة فِي الْحلقَة) ، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: من قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس. وَمن رأى فُرْجَة فِي الْحلقَة فَجَلَسَ فِيهَا، غير أَن شيخ البُخَارِيّ هُنَاكَ: إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَهَهُنَا: عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك. وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة. قَوْله: (أَبَا مرّة) بِضَم الْمِيم، و: (عقيل) ، بِفَتْح الْعين، و: (وَاقد) بِالْقَافِ. قَوْله: (فأوي إِلَى ا) ، بِالْقصرِ، وَقَوله: (فآواه ا) ، بِالْمدِّ.
58 - (بابُ الاسْتِلْقَاءِ فِي المَسْجِدِ وَمَدِّ الرِّجْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الاستلقاء فِي الْمَسْجِد، والاستلقاء مصدر: اسْتلْقى، وثلاثيه من: لَقِي يلقى، فَنقل إِلَى بَاب: الاستفعال، فَقيل: اسْتلْقى على قَفاهُ. ذكره الْجَوْهَرِي فِي بَاب اللِّقَاء، وَذكر فِيهِ: واستلقى على قَفاهُ، ومصدره إِذن يكون: الاستلقاء. وَذكره ابْن الْأَثِير فِي بَاب: سلنق يسلنق ومستلق: بالنُّون فِي الأول، وَالتَّاء فِي الثَّانِي، وَالصَّحِيح مَا ذكره الْجَوْهَرِي.
574431 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسْلَمَة عنْ مالِكٍ عَن ابنِ شِهَابٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أنَّهُ رَأى رسولَ اللَّهِ مُسْتَلْقياً فِي المَسْجِدِ وَاضِعَاً إحْدَى رجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. (الحَدِيث 574 طرفاه فِي: 9695، 7826) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد ابْن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك. الْخَامِس: عَمه عبد ابْن زيد بن عَاصِم الْمَازِني، تقدم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الرُّؤْيَة. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ فِي اللبَاس عَن أَحْمد بن يُونُس عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَفِي الاسْتِئْذَان عَن عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد ابْن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة، وَكِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي والنفيلي، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ.
ذكر إعرابه وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ. قَوْله: (رأى) بِمَعْنى: أبْصر، فَلذَلِك اكْتفى بمفعول وَاحِد. قَوْله: (مُسْتَلْقِيا) حَال، وَكَذَلِكَ: (وَاضِعا) ، كِلَاهُمَا من رَسُول الله وهما حالان مترادفتان، وَيجوز أَن يكون: وَاضِعا، حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: مُسْتَلْقِيا، فعلى هَذَا يكون الحالان متداخلتين.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: بَيَان جَوَاز هَذَا الْفِعْل، وَالنَّهْي الْوَارِد عَن ذَلِك مَنْسُوخ بِهَذَا الحَدِيث. قلت: النَّهْي هُوَ مَا روى جَابر بن عبد ا: (أَن رَسُول ا، نهى أَن يضع الرجل إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَهُوَ مستلق) . وَأجَاب: الْخطابِيّ عَن النَّهْي بِجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن عِلّة النَّهْي عَنهُ أَن تبدو عَورَة الْفَاعِل لذَلِك، فَإِن الْإِزَار رُبمَا ضَاقَ، فَإِذا شال لابسه إِحْدَى رجلَيْهِ فَوق الْأُخْرَى بقيت هُنَاكَ فُرْجَة تظهر مِنْهَا عَوْرَته. وَمِمَّنْ جزم(4/254)
بِأَنَّهُ مَنْسُوخ ابْن بطال. وَقَالَ بَعضهم: محمل النَّهْي حَيْثُ يخْشَى أَن تبدو عَورَة الْفَاعِل أولى من ادِّعَاء النّسخ، لِأَنَّهُ لَا يثبت بِالِاحْتِمَالِ. قلت: الْقَائِل بالنسخ مَا ادّعى أَن النّسخ بِالِاحْتِمَالِ، وَإِنَّمَا جزم بِهِ، فَكيف يدعى الْأَوْلَوِيَّة بِالِاحْتِمَالِ؟ وَيُقَوِّي دَعْوَى النّسخ مَا رُوِيَ عَن عمر وَعُثْمَان أَنَّهُمَا كَانَا يفْعَلَانِ ذَلِك، على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ اتعالى، وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون الشَّارِع فعل ذَلِك لضَرُورَة، أَو كَانَ ذَلِك بِغَيْر محْضر جمَاعَة، فجلوس رَسُول الله فِي الْجَامِع كَانَ على خلاف ذَلِك من التربع والاحتباء، وجلسات الْوَقار والتواضع. وَفِيه: جَوَاز الاتكاء فِي الْمَسْجِد والاضطجاع، وأنواع الاسْتِرَاحَة غير الانبطاح، وَهُوَ الْوُقُوع على الْوَجْه، فَإِن النَّبِي قد نهى عَنهُ، وَقَالَ: إِنَّهَا ضجعة يبغضها اتعالى.
وعنِ ابنِ شهِابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ كانَ عُمَرُ وَعُثْمانُ يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ.
قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون هَذَا تَعْلِيقا، وَأَن يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق، أَي: عَن مَالك عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعَن ابْن شهَاب ... إِلَى آخِره، سَاقه البُخَارِيّ بالسند الأول، وَقد صرح بِهِ أَبُو دَاوُد، وَزَاد أَبُو مَسْعُود فِيمَا حَكَاهُ الْحميدِي فِي جمعه، فَقَالَ: إِن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَقد أخرج البرقاني هَذَا الْفَصْل من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ مُتَّصِلا بِالْحَدِيثِ الأول، وَلم يذكر سعيد بن الْمسيب، وَسَعِيد لم يَصح سَمَاعه عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، وَأدْركَ ثَمَان وَلم يحفظ لَهُ عَنهُ رِوَايَة عَن رَسُول ا. وَقَالَ بَعضهم: وَعَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب. مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَقد صرح بذلك أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته عَن القعْنبِي، وَهُوَ كَذَلِك فِي (الْمُوَطَّأ) ، وغفل عَن ذَلِك من زعم أَنه مُعَلّق.
قلت: يُرِيد بِهِ الْكرْمَانِي، والكرماني مَا جزم بِأَنَّهُ مُعَلّق، بل قَالَ: يحْتَمل، وَهُوَ صَحِيح بِحَسب الظَّاهِر وتصريح أبي دَاوُد بذلك فِي كِتَابه لَا يدل على أَن هَذَا دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور هَهُنَا قطعا، وَرِوَايَة أبي دَاوُد هَكَذَا: حدّثنا القعْنبِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان كَانَا يفْعَلَانِ ذَلِك، أَي: الْمَذْكُور من الاستلقاء والوضع. قلت: اخْتلف جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب مُحَمَّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ إِلَى أَنه يكره وضع إِحْدَى الرجلَيْن على الْأُخْرَى، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَكَعب بن عجْرَة، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا بَأْس بذلك، وهم: الْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبُو مجلز وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة، ويروى ذَلِك عَن أُسَامَة بن زيد وَعبد ابْن عمر وَأَبِيهِ عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان وَعبد ابْن مَسْعُود وَأنس بن مَالك. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا وَكِيع عَن عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب: أَن عمر وَعُثْمَان كَانَا يفعلانه، حدّثنا يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن يحيى بن عبد ابْن مَالك عَن أَبِيه قَالَ: (دخل على عمر وَرَأى مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) ، حدّثنا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن سُفْيَان بن الْحسن عَن الزُّهْرِيّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز عَن عبد ابْن عبد ابْن الْحَارِث (أَنه رأى ابْن عمر يضطجع فَيَضَع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) ، حدّثنا وَكِيع عَن أُسَامَة عَن نَافِع قَالَ: (كَانَ ابْن عمر يستلقي على قَفاهُ وَيَضَع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى، لَا يرى بذلك بَأْسا، ويفعله بذلك وَهُوَ جَالس لَا يرى بذلك بَأْسا) ، حدّثنا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن جَابر بن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن عَمه، قَالَ: (رَأَيْت ابْن مَسْعُود رَضِي اتعالى عَنهُ، مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ فَوق الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُول: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين} (يُونُس: 58) حدّثنا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عمرَان، يَعْنِي: ابْن مُسلم، قَالَ: (رَأَيْت أنسا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) .
68 - (بابُ المَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطرِيقِ منْ غَرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد يكون فِي طَرِيق النَّاس، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ ضَرَر، لَهُم، وَلما كَانَ بِنَاء الْمَسْجِد على أَنْوَاع: نوع مِنْهُ يجوز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ أَن يبنيه فِي ملكه، وَنَوع مِنْهُ لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ أَن يبنيه فِي غير ملكه. وَنَوع يجوز ذَلِك بِشَرْط أَن لَا يضر بِأحد، وَذَلِكَ فِي الْمُبَاحَات. وَقد شَذَّ بَعضهم مِنْهُم: ربيعَة، فِي منع ذَلِك. أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الرَّد على هَؤُلَاءِ، وَاحْتج على ذَلِك بِقصَّة أبي بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، وَعلم بذلك النَّبِي فَلم يُنكر عَلَيْهِ(4/255)
فأقره على ذَلِك. فَإِن قلت: رُوِيَ منع ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم. قلت: ذكره عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد ضَعِيف، وَالصَّحِيح مَا نقل عَن أبي بكر الصّديق رَضِي اتعالى عَنهُ.
وبهِ قَالَ الحَسَنُ وأيُّوبُ ومالِكٌ.
أَي: بِجَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد فِي الطَّرِيق بِحَيْثُ لَا يحصل ضَرَر للنَّاس، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَمَالك بن أنس. فَإِن قلت: الْجُمْهُور على جَوَاز ذَلِك، فَمَا الْفَائِدَة فِي تَصْرِيح هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بِأَسْمَائِهِمْ وتخصيصهم بِهِ؟ قلت: لما ورد عَنْهُم هَذَا الحكم صَرِيحًا، صرح بذكرهم.
135 - (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت لم أَعقل أَبَوي إِلَّا وهما يدينان الدّين وَلم يمر علينا يَوْم إِلَّا يأتينا فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طرفِي النَّهَار بكرَة وَعَشِيَّة ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن فيقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم يعْجبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بكر رجلا بكاء لَا يملك عَيْنَيْهِ إِذا قَرَأَ الْقُرْآن فأفزغ ذَلِك أَشْرَاف قُرَيْش من الْمُشْركين) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. الثَّانِي اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث عقيل بِضَم الْعين بن خَالِد الْأَيْلِي. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد بِالْفَاءِ وَفِي بعض النّسخ أَخْبرنِي فَوجه الْفَاء أَن تكون للْعَطْف على مُقَدّر كَأَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَة بِكَذَا وَكَذَا فَأَخْبرنِي عقيب تِلْكَ الإخبارات بِهَذَا وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وَفِيه أَن نصف الروَاة مصريون وهم الثَّلَاثَة الأول وَالْبَاقِي مدنيون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا وَفِي الْهِجْرَة وَالْإِجَارَة وَفِي الْكفَالَة وَفِي الْأَدَب مُخْتَصرا وَمُطَولًا عَن يحيى بن بكير وسَاق بعضه فِي غَزْوَة الرجيع من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لم أَعقل " أَي لم أعرف قَوْله " أَبَوي " وأرادت عَائِشَة أَبَا بكر وَأمّهَا أم رُومَان وَهَذِه التَّثْنِيَة من بَاب التغليب وَفِي بعض النّسخ أبواي بِالْألف وَذَلِكَ على لُغَة بني الْحَارِث بن كَعْب جعلُوا الِاسْم الْمثنى نَحْو الْأَسْمَاء الَّتِي آخرهَا ألف كعصى فَلم يقلبوها يَاء فِي الْجَرّ وَالنّصب قَوْله " يدينان الدّين " أَي يتدينان بدين الْإِسْلَام وانتصاب الدّين بِنَزْع الْخَافِض يُقَال دَان بِكَذَا ديانَة وَتَدين بِهِ تدينا وَيحْتَمل أَن يكون مَفْعُولا بِهِ ويدين بِمَعْنى يُطِيع وَلكنه فِيهِ تجوز من حَيْثُ جعل الدّين كالشخص المطاع قَوْله " بكرَة وَعَشِيَّة " منصوبتان على الظَّرْفِيَّة وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الْهِجْرَة مطولا بِهَذَا الْإِسْنَاد بعد قَوْله عَشِيَّة وَقبل قَوْله ثمَّ بدا لأبي بكر قصَّة طَوِيلَة فِي خُرُوج أبي بكر عَن مَكَّة ورجوعه فِي جوَار ابْن الدغنة واشتراطه عَلَيْهِ أَن لَا يستعلن بِعِبَادَتِهِ فَعِنْدَ فرَاغ الْقِصَّة قَالَ ثمَّ بدا لأبي بكر أَي ظهر لَهُ من بدا الْأَمر بدوا مثل قعد قعُودا أَي ظهر قَالَ الْجَوْهَرِي بدا لَهُ فِي هَذَا الْأَمر أَي نَشأ لَهُ فِيهِ رَأْي قَوْله " بِفنَاء دَاره " بِكَسْر الْفَاء ممدودا وَهُوَ مَا امْتَدَّ من جوانبها قَوْله " بكاء " على وزن فعال مُبَالغَة باك قَوْله " لَا يملك عَيْنَيْهِ " أَي لَا يُطيق إمساكهما ومنعهما من الْبكاء وَفِي بعض النّسخ " لَا يملك عينه " وَهُوَ وَإِن كَانَ مُفردا لكنه جنس يُطلق على الْوَاحِد والاثنين قَوْله " إِذا قَرَأَ " إِذا ظرفية وَالْعَامِل فِيهِ لَا يملك أَو شَرْطِيَّة وَالْجَزَاء مُقَدّر يدل عَلَيْهِ لَا يملك قَوْله " فأفزع " من الإفزاع وَهُوَ الإخافة قَوْله " ذَلِك " أَي الْوُقُوف وَكَانَ خوفهم من ميل الْأَبْنَاء وَالنِّسَاء إِلَى دين الْإِسْلَام (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) جَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد فِي الطَّرِيق إِذا لم يكن ضَرَر للعامة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَبَيَان فضل أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِمَّا لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد لِأَنَّهُ قصد تَبْلِيغ كتاب الله وإظهاره مَعَ الْخَوْف على نَفسه وَلم يبلغ شخص آخر هَذِه الْمنزلَة(4/256)
بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه فَضَائِل أُخْرَى لأبي بكر وَهِي قدم إِسْلَامه وَإِسْلَام أَبَوَيْهِ وَتردد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ طرفِي النَّهَار وَكَثْرَة بكائه ورقة قلبه
78 - (بابُ الصلاَةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق، ويروى فِي مَسَاجِد السُّوق، بِلَفْظ الْجمع، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَفظ الْإِفْرَاد رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالمساجد مَوَاضِع إِيقَاع الصَّلَاة لَا الْأَبْنِيَة الْمَوْضُوعَة للصَّلَاة من الْمَسَاجِد، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْأَسْوَاق. وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ أَن الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، فخشي البُخَارِيّ أَن يُوهم من رأى ذَلِك الحَدِيث أَنه لَا تجوز الصَّلَاة فِي الْأَسْوَاق اسْتِدْلَالا بِهِ، فجَاء بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة، إِذْ فِيهِ إجَازَة الصَّلَاة فِي السُّوق وَإِذا جَازَت الصَّلَاة فِي السُّوق فُرَادَى فَكَانَ أولى أَن يتَّخذ فِيهِ مَسْجِد للْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: موقع التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الحَدِيث الْوَارِد فِي الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، وَأَن الْمَسَاجِد خير الْبِقَاع، كَمَا أخرجه الْبَزَّار وَغَيره لَا يَصح إِسْنَاده، وَلَو صَحَّ لم يمْنَع وضع الْمَسْجِد فِي السُّوق لِأَن بقْعَة الْمَسْجِد حِينَئِذٍ تكون بقْعَة خير.
قلت: كل مِنْهُم قد تكلّف، أما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ ارْتكب الْمجَاز من غير ضَرُورَة، وَأما ابْن بطال فَإِنَّهُ من أَيْن تحقق خشيَة البُخَارِيّ مِمَّا ذكره حَتَّى وضع هَذَا الْبَاب؟ وَأما الْقَائِل الثَّالِث فَإِنَّهُ أبعد جدا، لِأَنَّهُ من أَيْن علم أَن البُخَارِيّ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذكره؟ وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن البُخَارِيّ لما أَرَادَ أَن يُورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى أَن صَلَاة الْمُصَلِّي لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون فِي الْمَسْجِد الَّذِي بني لَهَا، أَو فِي بَيته الَّذِي هُوَ منزله، أَو السُّوق، وضع بَابا فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِي السُّوق، وَإِنَّمَا خص هَذَا بِالذكر من بَين الثَّلَاثَة لِأَنَّهُ لما كَانَ مَوضِع اللَّغط واشتغال النَّاس بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْإِيمَان الْكَثِيرَة فِيهِ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِل، وَرُبمَا كَانَ يتَوَهَّم عدم جَوَاز الصَّلَاة فِيهِ من هَذِه الْجِهَات خصّه بِالذكر.
وصَلَّى ابنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ البَابُ.
لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة مَا يُطَابق هَذَا الْأَثر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّ غَرَض البُخَارِيّ مِنْهُ الرَّد على الْحَنَفِيَّة حَيْثُ قَالُوا بامتناع اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الدَّار المحجوبة عَن النَّاس، وَنَقله بَعضهم فِي شَرحه معجباً بِهِ، قلت: جازف الْكرْمَانِي فِي هَذَا لِأَن الْحَنَفِيَّة لم يَقُولُوا هَكَذَا، بل الْمَذْهَب فِيهِ أَن من اتخذ مَسْجِدا فِي دَاره وأفرز طَرِيقه يجوز ذَلِك، وَيصير مَسْجِدا، فَإِذا أغلق بَابه وَصلى فِيهِ يجوز مَعَ الْكَرَاهَة، وَكَذَا الحكم فِي سَائِر الْمَسَاجِد.
وَابْن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره نون: هُوَ عبد ابْن عون، وَقد تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي: رب مبلغ ... . وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا فِي نُسْخَة سَمَاعنَا، يَعْنِي أَنه ابْن عون، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: ابْن عمر، قلت: قَالُوا إِنَّه تَصْحِيف، وَالصَّحِيح إِنَّه ابْن عون، وَكَذَا وَقع فِي الْأُصُول.
774 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمشِ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَة عنِ النبيِّ قَالَ: صَلاَةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْساً وعِشْرِينَ دَرَجَةً فإِنَّ أحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فأحْسَنَ وَأتى المسْجِدَ لاَ يُريدُ إلاَّ الصَّلاَةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أوَ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ وإذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كانَ فِي صَلاَةٍ مَا كانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصلَّى يَعْني عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُوءْذِ يُحْدِثْ فِيهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَصلَاته فِي سوقه) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.(4/257)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب فضل الْجَمَاعَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي كريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكرمعناه) قَوْله: (صَلَاة الْجَمِيع) أَي: صَلَاة الْجَمَاعَة، والجميع فِي اللُّغَة ضد المتفرق والجيش أَيْضا والحي الْمُجْتَمع، ويؤكد بِهِ، يُقَال: جاؤوا جَمِيعًا، أَي: كلهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: صَلَاة الْجَمِيع، أَي: صَلَاة فِي الْجَمِيع، يَعْنِي صَلَاة الْجَمَاعَة، قلت: هَذَا تصرف غير مرضِي. قَوْله: (على صلَاته فِي بَيته) أَي: على صَلَاة الْمُنْفَرد، وَقَوله: (فِي بَيته) قرينَة على هَذَا إِذْ الْغَالِب أَن الرجل يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا. قَوْله: (خمْسا) نصب على أَنه مفعول لقَوْله: تزيد، نَحْو قَوْلك: زِدْت عَلَيْهِ عشرَة وَنَحْوهَا. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) ، بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الكشميني: (بِأَن أحدكُم) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، ووجهها أَن تكون الْبَاء للمصاحبة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تزيد على صلَاته بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة مَعَ فَضَائِل أخر، وَهُوَ رفع الدَّرَجَات وَصَلَاة الْمَلَائِكَة وَنَحْوهَا، وَيجوز أَن تكون للسَّبَبِيَّة. قَوْله: (فَأحْسن) كَذَا هُوَ بِدُونِ مَفْعُوله، وَالتَّقْدِير فَأحْسن الْوضُوء، وَالْإِحْسَان فِي الْوضُوء إسباغه برعاية السّنَن والآداب. قَوْله: (لَا يُرِيد إلاَّ الصَّلَاة) ، جملَة حَالية، والمضارع الْمَنْفِيّ إِذا وَقع حَالا يجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه. قَوْله: (خطْوَة) قَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الْخَاء، وَهِي الْمرة الْوَاحِدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة بِضَم الْخَاء، وَهِي وَاحِدَة الخطى، وَهِي مَا بَين الْقَدَمَيْنِ، وَالَّتِي بِالْفَتْح مصدر. قَوْله: (أَو حط) ، ويروي: (وَحط) بِالْوَاو، وَهَذَا أشمل. قَوْله: (مَا كَانَ يحْبسهُ) ، أَي: مَا كَانَ الْمَسْجِد يحْبسهُ، وَكلمَة: مَا، للمدة أَي: مُدَّة دوَام حبس الْمَسْجِد إِيَّاه. قَوْله: (وَتصلي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ) ، أَي تَدْعُو لَهُ بقَوْلهمْ: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، اللَّهُمَّ ارحمه. وَقَوله: (اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) ، تَقْدِيره: وَتَدْعُو الْمَلَائِكَة قائلين: اللَّهُمَّ، إِذْ لَا يَصح الْمَعْنى إلاَّ بِهِ. وَقيل: إِنَّه بَيَان للصَّلَاة، كَذَا هُوَ بِدُونِ مَفْعُوله، وَالتَّقْدِير: فَأحْسن الْوضُوء. قَوْله: (مَا لم يؤذ) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالذال الْمُعْجَمَة: من الْإِيذَاء، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْمُصَلِّي، ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم يؤذ الْمَلَائِكَة، وايذاؤه إيَّاهُم بِالْحَدَثِ فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ معنى قَوْله: يحدث، بِضَم الْيَاء من الإحداث بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ مجزوم وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين على أَنه بدل من: يؤذ، وَيجوز رَفعه على طَرِيق الِاسْتِئْنَاف. وَفِي رِوَايَة الشكميني: (مَا لم يؤذ بِحَدَث فِيهِ) ، بِلَفْظ الْجَار وَالْمَجْرُور مُتَعَلقا: بيؤذ قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: (مَا لم يحدث) ، بطرح لفظ يؤذ، أَي: مَا لم ينْقض الْوضُوء، وَالَّذِي ينْقض الْوضُوء الْحَدث. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون أَعم من ذَلِك قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَلَفظه: (مَا لم يؤذ فِيهِ أَو يحدث فِيهِ) . والأعمية الَّتِي قَالَهَا هَذَا الْقَائِل لَا تمشي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ على مَا يخفى، وتمشي فِي رِوَايَة أبي دَاوُد لِأَنَّهُ عطف: أَو يحدث، على قَوْله: (لم يؤذ فِيهِ) ، وَالْمعْنَى: مَا لم يؤذ فِي مَجْلِسه الَّذِي صلى فِيهِ أحدا بقوله أَو فعله، أَو: يحدث، بِالْجَزْمِ من الإحداث بِمَعْنى الْحَدث لَا من التحديث، فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع تَأمل.
ذكر تعدد الرِّوَايَات فِي قَوْله: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تزيد على صلَاته فِي بَيته خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) . وَعند أبي ماجة: (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) ، وَفِي لفظ: (فضل الصَّلَاة على صَلَاة أحدكُم وَحده خمْسا وَعشْرين جُزْءا) . وَعند السراج: (تعدل خَمْسَة وَعشْرين صَلَاة من صَلَاة الْفَذ) ، وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ خمْسا وَعشْرين) ، وَفِي لفظ: (سَبْعَة وَعشْرين جُزْءا) ، وَفِي لفظ: خير من صَلَاة الْفَذ) ، وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة) ، وَفِي لفظ: (صَلَاة مَعَ الإِمَام أفضل من خمس وَعشْرين يُصليهَا وَحده) . وَفِي كتاب ابْن حزم: صَلَاة الْجَمَاعَة تزيد على صَلَاة الْمُنْفَرد سبعا وَعشْرين دَرَجَة، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الْفَذ، وَعند ابْن حبَان: (فَإِن صلاهَا بِأَرْض فَيْء فَأَتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها تكْتب صلَاته بِخَمْسِينَ دَرَجَة) ، وَعند أبي دَاوُد: (بلغت خمسين صَلَاة) . وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث: صَلَاة الرجل فِي الفلاة، تضَاعف على صلَاته فِي الْجَمَاعَة، موعند البُخَارِيّ، من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تفضل على صَلَاة الرجل وَحده بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَذَا رَوَاهُ نَافِع، وَعَامة من روى عَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ،(4/258)
وَعند ابْن حبَان من حَدِيث أبي بن كَعْب: (أَرْبَعَة وَعشْرين أَو خَمْسَة وَعشْرين دَرَجَة، وَصَلَاة الرجل أذكى من صلَاته وَحده، وَصلَاته مَعَ الرجلَيْن أذكى من صلَاته مَعَ الرجل، وَصلَاته مَعَ الثَّلَاثَة أذكى من صلَاته مَعَ الرجلَيْن، وَمَا أَكثر فَهُوَ أحب إِلَى اعز وَجل) ، وَعند أبي نعيم: عَن الْعمريّ عَن نَافِع بِلَفْظ: (سَبْعَة أَو خَمْسَة وَعشْرين) ، وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي اتعالى عَنهُ: (صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الرجل وَحده خَمْسَة وَعشْرين ضعفا، كلهَا مثل صلَاته) ، وَفِي (مُسْند ابْن أبي شيبَة) : (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) .
وَعند السراج: (بِخمْس وَعشْرين صَلَاة) ، وَفِي لفظ: (تزيد خمْسا وَعشْرين) ، وَفِي (تَارِيخ البُخَارِيّ) : من حَدِيث الإفْرِيقِي عَن قباث بن أَشْيَم: (صَلَاة رجلَيْنِ، يؤم أَحدهمَا صَاحبه، أذكى عِنْد امن أَرْبَعَة تترى، وَصَلَاة أَرْبَعَة يؤمهم أحدهم أذكى عِنْد امن صَلَاة ثَمَانِيَة تترى، وَصَلَاة ثَمَانِيَة يؤمهم أحدهم أذكى عِنْد امن صَلَاة مائَة تترى) ، وَعند السراج، من حَدِيث أنس مَوْقُوفا بِسَنَد صَحِيح: (تفضل صَلَاة الْجَمِيع على صَلَاة الرجل وَحده بضعاً وَعشْرين صَلَاة) . وَعند الْكَجِّي، من حَدِيث أبان مَرْفُوعا: (تفضل صَلَاة الْجَمِيع على صَلَاة الرجل وَحده بِأَرْبَع وَعشْرين صَلَاة) ، وَعند السراج بِسَنَد صَحِيح، وَعَن عَائِشَة: (تفضل على صلَاته وَحده خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ، وَكَذَا رَوَاهُ معَاذ عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَعند ابْن أبي شيبَة: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: (فضل صَلَاة الْجَمَاعَة على صَلَاة الْوَاحِد خمس وَعِشْرُونَ دَرَجَة قَالَ، فَإِن كَانُوا أَكثر فعلى عدد من فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ رجل: وَإِن كَانُوا عشرَة آلَاف؟ قَالَ: نعم) . وَعند ابْن زنجوية، من حَدِيث ابْن الْخطاب الدِّمَشْقِي: عَن زُرَيْق بن عبد االأنصاري: (صَلَاة الرجل فِي بَيته، وَصلَاته فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بِخمْس وَعشْرين صَلَاة، وَصلَاته فِي الْمَسْجِد الَّذِي يجمع فِيهِ بِخَمْسِمِائَة صَلَاة) . وَفِي فَضَائِل الْقُدس لأبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ، من حَدِيث أبي الْخطاب: (وَصَلَاة فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بست وَعشْرين، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة، وَصَلَاة فِي مَسْجِدي بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة) . وَمن حَدِيث عمار بن الْحسن: حدّثنا إِبْرَاهِيم بن هدبة عَن أنس مَرْفُوعا مثله: وَصلَاته على السَّاحِل بألفي ألف صَلَاة، وَصلَاته بسواك بِأَرْبَع مائَة ألف صَلَاة.
ذكر وَجه هَذِه الرِّوَايَات اخْتلفُوا فِي وَجه الْجمع بَين سبع وَعشْرين دَرَجَة وَبَين خمس وَعشْرين. فَقيل: السَّبع مُتَأَخِّرَة عَن الْخمس فَكَأَن اأخبره بِخمْس ثمَّ زَاده، ورد هَذَا بتعذر التَّارِيخ، ورد هَذَا الرَّد بِأَن الْفَضَائِل لَا تنسخ، فَتعين أَنه مُتَأَخّر. وَقيل: إِن صَلَاة الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد أفضل من صَلَاة الْفَذ فِي الْمَسْجِد بِسبع وَعشْرين دَرَجَة، ورد هَذَا بقوله: (وَصَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تضعف على صلَاته فِي بَيته وَفِي سوقه بِخمْس وَعشْرين ضعفا) . وَقيل: إِن الصَّلَاة الَّتِي لم تكن فِيهَا فَضِيلَة الخطى إِلَى الصَّلَاة، وَلَا فَضِيلَة انتظارها تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِسبع. وَقيل: إِن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْمُصَلِّين وَالصَّلَاة، فَمن أكملها وحافظ عَلَيْهَا فَوق من أخل بِشَيْء من ذَلِك، وَقيل: إِن الزِّيَادَة لصلاتي الْعشَاء وَالصُّبْح لِاجْتِمَاع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فيهمَا، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (تفضل صَلَاة أحدكُم وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا، وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . فَذكر اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة بواو فاصلة، واستأنف الْكَلَام وقطعه من الْجُمْلَة الْمُتَقَدّمَة، وَقيل: لَا مُنَافَاة بَين الحدثين لِأَن ذكر الْقَلِيل لَا يُنَافِي الْكثير، وَمَفْهُوم الْعدَد بَاطِل عِنْد جمَاعَة من الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا قَالَ: دَرَجَة، وَلم يقل: جُزْءا وَلَا نَصِيبا وَلَا حَافِظًا وَلَا شَيْئا من أَمْثَال ذَلِك، لِأَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَاب من جِهَة الْعُلُوّ والارتفاع، وَأَن تِلْكَ فَوق هَذِه بِكَذَا وَكَذَا دَرَجَة، لِأَن الدَّرَجَات إِلَى جِهَة فَوق قلت: قد جَاءَ فِيهِ لفظ: الْجُزْء والضعف، وَقد تقدما عَن قريب، فَكَأَنَّهُ لم يطلع عَلَيْهِمَا. وَقيل: إِن الدرجَة أَصْغَر من الْجُزْء، فَكَأَن الْخَمْسَة وَالْعِشْرين إِذا جزئت دَرَجَات كَانَت سبعا وَعشْرين دَرَجَة قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: سبعا وَعشْرين دَرَجَة وخمساً وَعشْرين دَرَجَة فَاخْتلف الْقدر مَعَ اتِّحَاد لفظ الدرجَة. وَقد قيل: يحْتَمل أَن تكون الدرجَة فِي الْآخِرَة والجزء فِي الدُّنْيَا فَإِن قلت: قد علم وَجه الْجمع بَين هذَيْن العددين، وَلَكِن مَا الْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص عَلَيْهِمَا؟ قلت: نقل الطَّيِّبِيّ عَن التوربشتي: وَأما وَجه قصر أَبْوَاب الْفَضِيلَة على خمس وَعشْرين تَارَة، وعَلى سبع وَعشْرين أُخْرَى فَإِن الْمرجع فِي حَقِيقَة ذَلِك إِلَى عُلُوم النُّبُوَّة الَّتِي قصرت عقل الألباء عَن إِدْرَاك جملها وتفاصيلها، وَلَعَلَّ الْفَائِدَة فِيمَا كشف بِهِ حَضْرَة النُّبُوَّة وَهِي اجْتِمَاع الْمُسلمين مصطفين كَصُفُوف الْمَلَائِكَة والاقتداء بِالْإِمَامِ وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وَغَيرهَا انْتهى قلت: هَذَا لَا يشفي الغليل وَلَا يجدي العليل، وَالَّذِي ظهر لي فِي هَذَا(4/259)
الْمقَام من الْأَنْوَار الإلهية والأسرار الربانية والعنايات المحمدية أَن كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ، وَأَنه لَو صلى فِي بَيته كَانَ يحصل لَهُ ثَوَاب عشر صلوَات، وَكَذَا لَو صلىَّ فِي سوقه كَانَ لكل صَلَاة عشر، ثمَّ أَنه إِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُضَاعف لَهُ مثله فَيصير ثَوَاب عشْرين صَلَاة، أَو زِيَادَة الْخمس فَلِأَنَّهُ أدّى فرضا من الْفُرُوض الْخَمْسَة، فأنعم اعليه ثَوَاب خمس صلوَات أُخْرَى نَظِير عدد الْفُرُوض الْخَمْسَة زِيَادَة عشْرين إنعاماً وفضلاً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَتَصِير الْجُمْلَة خَمْسَة وَعشْرين. وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: إِن مَرَاتِب الْأَعْدَاد آحَاد وعشرات ومآت وألوف، والمآت من الأوساط، وَخير الْأُمُور أوسطها، والخمسة وَالْعشْرُونَ ربع الْمِائَة، وللربع حكم الْكل. وَأما زِيَادَة السَّبع، فَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لمناسبة أعداد رَكْعَات الْيَوْم وَاللَّيْلَة إِذْ الْفَرَائِض سَبْعَة عشر والرواتب الْمُؤَكّدَة عشرَة. انْتهى. قلت: الرَّوَاتِب الْمَذْكُورَة اثْنَي عشر، لحَدِيث المثابرة فَتَصِير: تِسْعَة وَعشْرين، فَلَا يُطَابق الْوَاقِع، فَنَقُول: يُمكن أَن يُقَال: إِن أَيَّام الْعُمر سَبْعَة، فَإِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُزَاد لَهُ على الْعشْرين ثَوَاب سبع صلوَات، كل صَلَاة من صلوَات كل يَوْم وَلَيْلَة من الْأَيَّام السَّبْعَة. وَأما الْوتر فَلَعَلَّهُ شرع بعد ذَلِك، ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا: هَل هَذَا الْفضل لأجل الْجَمَاعَة فَقَط حَيْثُ كَانَت؟ أَو أَن ذَلِك إِنَّمَا يكون ذَلِك فِي الْجَمَاعَة الَّتِي تكون فِي الْمَسْجِد لما يلْزم ذَلِك من أَفعَال تخْتَص بالمساجد؟ قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَالظَّاهِر الأول، لِأَن الْجَمَاعَة هُوَ الْوَصْف الَّذِي علق عَلَيْهِ الحكم. وَا أعلم. ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن الصَّلَاة فِيهِ للمنفرد دَرَجَة من خمس وَعشْرين دَرَجَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لم يقل يُسَاوِي صلَاته مُنْفَردا خمْسا وَعشْرين حَتَّى يكون لَهُ دَرَجَة مِنْهَا، بل قَالَ: تزيد، فَلَيْسَ للمنفرد من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين شَيْء قلت: قَالَ ذَلِك بِالنّظرِ فِي الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب، فَلَو كَانَ وقف على الرِّوَايَات الَّتِي ذَكرنَاهَا لما قَالَ ذَلِك كَذَلِك. وَفِيه: الدّلَالَة على فَضِيلَة الْجَمَاعَة. وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت والأسواق. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة على أَن صَلَاة الْجَمَاعَة لَا يفضل بَعْضهَا على بعض بِكَثْرَة الْجَمَاعَة، ورد هَذَا بِمَا ذكرنَا عَن ابْن حبَان، وَمَا كثر فَهُوَ أحب إِلَى اتعالى، وَإِلَى مطلوبية الْكَثْرَة ذهب الشَّافِعِي وَابْن حبيب الْمَالِكِي.
88 - (بَاب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي المَسْجِدِ وغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع، سَوَاء كَانَ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره، وَالْمَوْجُود فِي غَالب النّسخ فِي هَذَا الْبَاب حديثان: أَحدهمَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَالْآخر: حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَفِي بعض النّسخ حَدِيث آخر عَن ابْن عمر، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، وجد ذَلِك بِخَط البرزالي وَلم يَسْتَخْرِجهُ الحافظان الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم، وَلَا ذكره ابْن بطال أَيْضا، وَإِنَّمَا حكى أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي (كتاب الْأَطْرَاف) أَنه رَآهُ فِي كتاب أبي رُمَيْح عَن الْفربرِي وَحَمَّاد بن شَاكر عَن البُخَارِيّ، وَهُوَ هَذَا.
874731 - ح دّثنا حامِدُ بنُ عُمَرَ عنْ بَشْرٍ قَالَ حدّثنا عاصِمٌ قَالَ حدّثنا واقِدٌ عَنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ أوِ ابنِ عَمْروٍ قَالَ شَبَّكَ النبيُّ أصَابِعَهُ. وَقَالَ عاصِمُ بنُ عَلِيٍ حدّثنا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ هَذَا الحدِيثَ منْ أبي فَلَمْ أحْفَظْهُ فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أبي وَهُوَ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ ااِ قَالَ رسولُ اللَّهِ يَا عَبْدَ ابنَ عَمْروٍ كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيت فِي حُثَالَةٍ مِنَ الناسِ بِهَذَا وَلَفْظُهُ فِي جَمْعِ الحُمَيْدِيّ فِي مْسْنَدِ ابنِ عُمَرَ شَبَّك النَّبِي أصَابِعَهُ وَقَالَ كَيْفَ أنْتَ يَا عَبْدَ ااِ إذَا بَقِيْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وأمانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَاروا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ قَالَ فَكَيْفَ أفْعَلُ يَا رَسولَ ااِ قَالَ تأخذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنكِرُ وتُقْبِلُ على خاصِتَّكَ وتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ. (انظرالحديث 974) .(4/260)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أحد جزئيها، وَاكْتفى البُخَارِيّ بدلالته على بعض التَّرْجَمَة حَيْثُ دلّ أبي هُرَيْرَة على تَمامهَا.
ذكر رِجَاله فِيهِ تِسْعَة أنفس: الأول: حَامِد بن عمر البكراوي من ذُرِّيَّة أبي بكر الثَّقَفِيّ نزيل نيسابور، وقاضي كرمان، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا، مَاتَ بنيسابور أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْمفضل الرقاشِي الْحجَّة، كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيُصلي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد ابْن عمر بن الْخطاب الْعمريّ الْمدنِي، وَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره. الرَّابِع: أَخُو عَاصِم، وَهُوَ: وَاقد، بِالْقَافِ: ابْن مُحَمَّد بن زيد الْمَذْكُور، ثقه أَبُو زرْعَة وَغَيره. الْخَامِس: أَبوهُ مُحَمَّد بن عبد ا، وَثَّقَهُ غير وَاحِد. السَّادِس: عبد ابْن عمر بن الْخطاب. السَّابِع: عبد ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ. الثَّامِن: أَبُو عبد اوهو البُخَارِيّ نَفسه. التَّاسِع: عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ شيخ البُخَارِيّ والدارمي، وَفِي (تَهْذِيب التَّهْذِيب) : كَانَ من ثِقَات الشُّيُوخ وأعيانهم. وَقَالَ ابْن معِين: ضَعِيف، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بِشَيْء، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بِثِقَة، وَفِي رِوَايَة: كَذَّاب، مَاتَ فِي نصف رَجَب سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل وَالسَّمَاع. وَفِيه: الشَّك بَين عبد ابْن عمر بن الْخطاب وَبَين عبد ابْن عمر بن الْعَاصِ، وَالظَّاهِر أَن الشَّك من وَاقد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (قَالَ عَاصِم بن عَليّ) تَعْلِيق من البُخَارِيّ وَوَصله إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) لَهُ، قَالَ: حدّثنا عَاصِم بن عَليّ حدّثنا عَاصِم بن مُحَمَّد عَن وَاقد سَمِعت أبي يَقُول: قَالَ عبد ا، قَالَ: رَسُول ا، فَذكره. قَوْله: (فِي حثالة) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ ابْن سَيّده: هُوَ مَا يخرج من الطَّعَام من زوان وَنَحْوه مِمَّا لَا خير فِيهِ. وَقَالَ اللحياني: هُوَ أجل من التُّرَاب والدقاق قَلِيلا، وَخَصه بِالْحِنْطَةِ، والحثالة والحثل: الرَّدِيء من كل شَيْء، وَقيل: هُوَ القشارة من التَّمْر وَالشعِير وَمَا أشبههما، وحثالة القرط نقايته. قَوْله: (مرجت عهودهم) ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) : مرجت عهودهم: إِذا لم تثبت، وَأمر حجوها: إِذا لم يوفوا بهَا وخلطوها، ومرجت أمانتهم فَسدتْ، ومرج الدّين اخْتَلَط واضطرب. وَفِي (الْمُحكم) : مرج الْأَمر مرجاً فَهُوَ مارج ومريج: الْتبس وَاخْتَلَطَ، ومرج أمره يمرجه: ضيَّعه، وَرجل ممارج يمرج أُمُوره وَلَا يحكمها ومرج الْعَهْد وَالدّين وَالْأَمَانَة: فسد، وأمرج عَهده: لم يَفِ بِهِ، قَوْله: (وَشَبك بَين أَصَابِعه) ، أَي: شَبكَ النَّبِي بَين أَصَابِعه ليمثل لَهُم اختلاطهم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ: جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع سَوَاء فِي الْمَسْجِد أَو غَيره لإِطْلَاق الحَدِيث، وَلَكِن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَفِي الصَّلَاة، وَكره إِبْرَاهِيم ذَلِك فِي الصَّلَاة، وَهُوَ قَول مَالك، وَرخّص فِي ذَلِك ابْن عمر وَابْنه سَالم، فَكَانَ يشبكان بَين أصابعهما فِي الصَّلَاة، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يشبك بَين أَصَابِعه فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ مَالك: إِنَّهُم لينكرون تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَمَا بِهِ بَأْس.
وَإِنَّمَا يكره فِي الصَّلَاة، وقدروه النَّهْي عَن ذَلِك فِي أَحَادِيث. مِنْهَا: مَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، فَقَالَ: حدّثنا أَبُو عرُوبَة حدّثنا مُحَمَّد بن سَعْدَان حَدثنَا سُلَيْمَان ابْن عبد اعن عبيد ابْن عمر عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن الحكم عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن كَعْب بن عجْرَة: (أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: يَا كَعْب، إِذا تَوَضَّأت فأحسنت الْوضُوء، ثمَّ خرجت إِلَى الْمَسْجِد فَلَا تشبك بَين أصابعك فَإنَّك فِي صَلَاة) . وَمِنْهَا: مَا أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فِي بَيته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يرجع فَلَا يفعل هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه) ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن موهب عَن عَمه عَن مولى لأبي سعيد، وَهُوَ مَعَ رَسُول ا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد فَرَأى رجلا جَالِسا وسط النَّاس وَقد شَبكَ بَين أَصَابِعه يحدث نَفسه، فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله فَلم يفْطن لَهُ، فَالْتَفت إِلَى أبي سعيد فَقَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان) . فَإِن قلت: هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لأحاديث الْبَاب قلت: غير مقاومة لَهَا فِي الصِّحَّة، وَلَا مُسَاوِيَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه مُعَارضَة بِمَا رُوِيَ من النَّهْي عَن(4/261)
التشبيك فِي الْمَسْجِد، وَقد وَردت فِيهِ مَرَاسِيل، ومسند من طرق غير ثَابِتَة قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بالمسند حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث كَعْب هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان قلت: فِي اسناده اخْتِلَاف، فضعفه بَعضهم بِسَبَبِهِ، وَقيل: لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لِأَن النَّهْي إِنَّمَا ورد عَن فعل ذَلِك فِي الصَّلَاة أَو فِي الْمُضِيّ إِلَى الصَّلَاة وَفعله لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الْمُضِيّ إِلَيْهَا مُعَارضَة إِذا، وَبَقِي كل حَدِيث على حياله فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِي الْبَاب وَقع تشبيكه وَهُوَ فِي الصَّلَاة قلت: إِنَّمَا بعد انْقِضَاء الصَّلَاة فِي ظَنّه فَهُوَ فِي حكم المنصرف عَن الصَّلَاة، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن ذَلِك مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد ضعيفه، لِأَن فِيهَا ضَعِيفا ومجهولاً، وَقد رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة، وَلَفظه: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان، وَإِن أحدكُم لَا يزَال فِي صَلَاة مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج مِنْهُ) وَقَالَ ابْن الْمُنِير: التَّحْقِيق أَنه لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث تعَارض، إِذا الْمنْهِي عَنهُ فعله على وَجه الْعَبَث وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُود التَّمْثِيل وتصوير الْمَعْنى فِي اللَّفْظ فَإِن قلت: مَا حكمه النَّهْي عَن التشبيك؟ قلت: أُجِيب بأجوبة. الأول: لكَونه من الشَّيْطَان، كَمَا مر الْآن. الثَّانِي: لِأَنَّهُ يجلب النّوم، وَهُوَ من مظان الْحَدث. الثَّالِث: أَن صُورَة التشبيك تشبه صُورَة الِاخْتِلَاف، كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي حَدِيث ابْن عمر، فكره ذَلِك لمن هُوَ فِي حكم الصَّلَاة حَتَّى لَا يَقع فِي الْمنْهِي عَنهُ. قَوْله: للمصلين: (وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبهم) ، وَا تَعَالَى أعلم.
284 - ح دّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدّثنا ابنُ شمَيْلٍ أخبرنَا ابنُ عَوْنٍ عنِ ابنِ سِيرِينَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قلَ صَلَّى بِنَا رسولُ اللَّهِ إحْدَى صَلاَتِي العَشِيَّ قالَ سِيرِينَ قَد سَمَّاهَا أبُو هُرَيْرةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنا قالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتْينِ ثُمَّ سَلَّمَ فقامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فَي المَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْها كأنَّهُ غَضْبَانُ ووضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى وشَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ ووضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كفَّهِ اليُسْرَى وَخَرَجَتِ السَّرَعانُ مِنْ أبْوَابِ المَسْجِدِ فقالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ وفِي(4/262)
القَوْمِ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ فَهَابَاهُ أنْ يُكَلِّمَاهُ وفِي القَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ قَالَ يَا رسولَ اللَّهِ أنَسيتَ أمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قالَ لَمْ أنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فقالَ أكَما يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ فقالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سلَّمَ ثُم كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سْجُودِهِ أوْ أطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وكبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أوْ أَطْولَ ثُمَّ رَفَعَ رأْسَهُ وكَبَّرَ فَرُبَّما سألُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أنَّ عِمْرانَ بنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ. (الحَدِيث 284 أَطْرَافه فِي: 417، 517، 7221، 8221، 9221، 1506، 0527) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يدل على تَمامهَا، لِأَن التشبيك إِذا جَازَ فِي الْمَسْجِد فَفِي غَيره أولى بِالْجَوَازِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام، تقدم فِي بَاب فضل من علم. الثَّانِي: النَّضر بن شُمَيْل، بِضَم الْمُعْجَمَة، تقدم فِي بَاب العنزة. الثَّالِث: عبد ابْن عون، تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين، تكَرر ذكره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن إِسْحَاق بن مَنْصُور هُوَ المجزوم بِهِ عِنْد أبي نعيم. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد ابْن مسلمة عَن مَالك وَعَن حَفْص بن عَمْرو عَن آدم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن حجاج بن الشَّاعِر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عَليّ ابْن نصر بن عَليّ، وَعَن مُحَمَّد بن عبيد وَعَن معَاذ عَن أَبِيه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن يزِيد ابْن زُرَيْع، وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي أُسَامَة. وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَلَاثَة عشر طَرِيقا.
ذكر مَعْنَاهُ) . قَوْله: (إِحْدَى صَلَاتي الْعشي) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (الْعشَاء) ، بِالْمدِّ، وَالظَّاهِر أَنه وهم لِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: (صلى بِنَا النَّبِي الظّهْر أَو الْعَصْر) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (صلى بِنَا النَّبِي الْعَصْر فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ) ، وَفِي أُخْرَى لَهُ. (صلى رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الظّهْر ثمَّ سلم) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي العشى الظّهْر أَو الْعَصْر) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي العشى الظّهْر أَو الْعَصْر، وأكبر ظَنِّي أَنه ذكر صَلَاة الظّهْر) . قَوْله: (وأكبر ظَنِّي أَنه ذكر صَلَاة الظّهْر) هُوَ قَول ابْن سِيرِين أَي: أكبر ظَنِّي أَن أَبَا هُرَيْرَة ذكر صَلَاة الظّهْر، وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب، وَأطلق على الظّهْر وَالْعصر صَلَاتي العشى، لِأَن العشى يُطلق على مَا بعد الزَّوَال إِلَى الْمغرب فَإِن قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: الْعشي والعشية من صَلَاة الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة؟ قلت: الَّذِي ذكره هُوَ أصل الْوَضع، وَفِي الإستعمال يُطلق على مَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْعشي، بِفَتْح الْعين وَكسر الشين وَتَشْديد الْيَاء: مَا بَين زَوَال الشَّمْس وغروبها.
قَوْله: (معروضة) أَي: مَوْضُوعَة بِالْعرضِ أَو مطروحة فِي نَاحيَة الْمَسْجِد. قَوْله: (وضع يَده الْيُمْنَى) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَضع حَال التشبيك وَأَن يكون بعد زَوَاله، وَعند الْكشميهني: (وضع خَدّه الْأَيْمن) بدل: يَده الْيُمْنَى) . قَوْله: (السرعان) قَالَ الْجَوْهَرِي: سرعَان النَّاس، بِالتَّحْرِيكِ: أوائلهم، وَيُقَال: أخفاؤهم والمستعجلون مِنْهُم، وَيلْزم الْإِعْرَاب نونه فِي كل وَجه، وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي قَالَه الْجُمْهُور من أهل الحَدِيث واللغة، وَكَذَا ضَبطه المتقنون. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: السرعان، بِفَتْح السِّين وَالرَّاء: أَوَائِل النَّاس الَّذين يتسارعون إِلَى الشَّيْء ويقبلون عَلَيْهِ بِسُرْعَة، وَيجوز تسكين الرَّاء قلت: وَكَذَا نقل القَاضِي عَن بَعضهم، قَالَ: وَضَبطه الْأصيلِيّ فِي البُخَارِيّ، بِضَم السِّين وَإِسْكَان الرَّاء، وَوَجهه أَنه جمع سريع كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان، وَمن قَالَ: سرعَان، بِكَسْر السِّين فَهُوَ خطأ. وَقيل: يُقَال أَيْضا: سرعَان بِكَسْر السِّين وَالرَّاء وَهُوَ جمع: سريع، كرعيل ورعلان. وَأما أَقْوَالهم: سرعَان مَا فعلت، فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات: الضَّم وَالْكَسْر وَالْفَتْح مَعَ إسكان الرَّاء وَالنُّون مَفْتُوحَة أبدا. قَوْله:، " قصرت الصَّلَاة " بِضَم الْقَاف وَكسر الصَّاد ويروى بِفَتْح الْقَاف وَضم الصَّاد قَوْله " فهاباه " أَي هاب أَبُو بكر وَعمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(4/263)
ويروى: (فَهَابَا) ، بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب، وَهُوَ من الهيبة، وَهُوَ: الْخَوْف والاجلال، وَقد هابه يهابه، وَالْأَمر مِنْهُ: هَب، بِفَتْح الْهَاء. قَوْله: (أَن يُكَلِّمَاهُ) كلمة أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: من التكليم. قَوْله: (وَفِي الْقَوْم رجل) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (ذُو الْيَدَيْنِ) فِيهِ رِوَايَات: فَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (فَقَامَ رجل طَوِيل الْيَدَيْنِ كَانَ رَسُول الله سَمَّاهُ ذَا الْيَدَيْنِ) . وَفِي رِوَايَة: (فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة: (فَقَامَ رجل من بني سليم) ، وَفِي رِوَايَة: (رجل يُقَال لَهُ الْخِرْبَاق بن عَمْرو، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طول) . وَفِي رِوَايَة: (وَكَانَ رجلا بسيط الْيَدَيْنِ) ، وَقع ذَلِك فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول الله صلى بهم الظّهْر ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ سلم وَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ الْخِرْبَاق: يَا رَسُول اإنك صليت ثَلَاثًا؟ فجَاء فصلى رَكْعَة ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ للسَّهْو ثمَّ سلم) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) .
وخرباق، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة: ابْن عبد عَمْرو السّلمِيّ، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) : ذُو الْيَدَيْنِ، وَيُقَال لَهُ: ذُو الشمالين أَيْضا: ابْن عبد عَمْرو بن فضلَة الْخُزَاعِيّ. وَقَالَ أَبُو عبد االعدني فِي (مُسْنده) : قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ: ذُو الْيَدَيْنِ أحد أجدادنا، وَهُوَ ذُو الشمالين بن عَمْرو بن ثَوْر بن ملكان بن أفْضى بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا ابْن فُضَيْل عَن حُصَيْن عَن عِكْرِمَة قَالَ: (صلى النَّبِي بِالنَّاسِ ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ انْصَرف، فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم: حدث فِي الصَّلَاة شَيْء؟ وَمَا ذَلِك؟ قَالُوا: لم نصل إلاَّ ثَلَاث رَكْعَات. فَقَالَ: أكذاك يَا ذَا الْيَدَيْنِ؟ وَكَانَ يُسمى ذَا الشمالين، فَقَالَ: نعم. فصلى رَكْعَة وَسجد سَجْدَتَيْنِ) وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (معرفَة الصَّحَابَة) : ذُو الْيَدَيْنِ اسْمه الْخِرْبَاق من بني سليم، كَانَ نزل بِذِي خشب من نَاحيَة الْمَدِينَة، وَلَيْسَ هُوَ ذَا الشمالين خزاعي حَلِيف لبني زهرَة، قتل يَوْم بدر، وَأَن قصَّة ذِي الشمالين كَانَت قبل بدر، ثمَّ أحكمت الْأُمُور بعد ذَلِك.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (شرح مُسلم) : وَأما حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فقد ذكر مُسلم فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن اسْمه الْخِرْبَاق، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طول. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: بسيط الْيَدَيْنِ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: رجل من بني سليم وَوَقع للعذري: سلم وَهُوَ خطأ، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر مُفَسرًا، فَقَالَ فِيهِ: ذُو الْيَدَيْنِ أَخُو بني سليم، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: ذُو الشمالين رجل من بني زهرَة، وبسبب هَذِه الْكَلِمَة ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود، قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق، وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره، وَلقَوْله: صلى بِنَا رَسُول ا، وَذكر الحَدِيث، وَإِسْلَام أبي هُرَيْرَة بِخَير بعد يَوْم بدر بِسنتَيْنِ، فَهُوَ غير ذِي الشمالين المستشهد ببدر، وَقد عدوا قَول الزُّهْرِيّ فِيهِ هَذَا من وهمه، وَقد عدهما بَعضهم حديثين فِي نازلتين وَهُوَ الصَّحِيح لاخْتِلَاف صفتهما، لِأَن فِي حَدِيث الْخِرْبَاق ذَا الشمالين أَنه: سلم من ثَلَاث، وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: من اثْنَتَيْنِ، وَفِي حَدِيث الْخِرْبَاق: إِنَّهَا الْعَصْر، وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: الظّهْر لغير شكّ عِنْد نعضهم، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك كُله. اناتهى. وَقَالَ أَبُو عمر: ذُو الْيَدَيْنِ غير ذِي الشمالين الْمَقْتُول ببدر بِدَلِيل مَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَنه ذُو الشمالين، فَلم يُتَابع عَلَيْهِ.
قلت: الْجَواب على ذَلِك كُله مَعَ تَحْرِير الْكَلَام فِي هَذَا الْموضع أَنه: وَقع فِي كتاب النَّسَائِيّ: ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، كِلَاهُمَا لقب على الْخِرْبَاق كَمَا ذكرنَا حَيْثُ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن رَافع حدّثنا عبد الرَّزَّاق حدّثنا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (صلى النَّبِي الظّهْر أَو الْعَصْر فَسلم من رَكْعَتَيْنِ فَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ وَذُو الشمالين ابْن عَمْرو: أنقضت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ النَّبِي: مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدق يَا رَسُول ا، فَأَتمَّ لَهُم الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نقصتا) ، وَهَذَا سَنَد صَحِيح مُتَّصِل صرح فِيهِ بِأَن ذَا الشمالين هُوَ ذُو الْيَدَيْنِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: أَن هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي حَدثنِي أَبُو ضَمرَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (نسي رَسُول الله فَسلم فِي سَجْدَتَيْنِ، فَقَالَ ذُو الشمالين: اقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول ا؟ قَالَ رَسُول ا: أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم، فَقَامَ رَسُول الله فَأَتمَّ الصَّلَاة) ، وَهَذَا أَيْضا سَنَد صَحِيح صَرِيح فِيهِ أَيْضا أَن: ذَا الشمالين، وَهُوَ: ذُو الْيَدَيْنِ. وَقد تَابع الزُّهْرِيّ على ذَلِك(4/264)
عمرَان بن أبي أنس، قَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا عِيسَى بن حَمَّاد أخبرنَا اللَّيْث عَن زيد بن أبي حبيب عَن عمرَان بن أبي أنس عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن رَسُول ا، صلى يَوْمًا فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف، فأدركه ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول اانقصت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ: لم تنقص الصَّلَاة وَلم أنس قَالَ: بلَى، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ قَالَ رَسُول ا، أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم فصلى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ) : وَهَذَا يضاً سَنَد صَحِيح على شَرط مُسلم. وَأخرج نَحوه الطَّحَاوِيّ: عَن ربيع الْمُؤَذّن عَن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب إِلَى آخِره نَحوه، فَثَبت أَن الزُّهْرِيّ لم ينْفَرد بذلك، وَأَن الْمُخَاطب للنَّبِي ذُو الشمالين، وَأَن من قَالَ ذَلِك لم يهم، وَلَا يلْزم من عدم تَخْرِيج ذَلِك فِي الصَّحِيح عدم صِحَّته، فَثَبت أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، وَهَذَا أولى من جعله رجلَيْنِ لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي هَذَا الْموضع فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ حَدِيثا وَاسْتدلَّ بِهِ على بَقَاء ذِي الْيَدَيْنِ بعد النَّبِي، فَقَالَ: الَّذِي قتل ببدر هُوَ ذُو الشمالين بن عبد عَمْرو بن فضلَة، حَلِيف بني زهرَة من خُزَاعَة: وَأما ذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي أخبر النَّبِي، بسهوه فَإِنَّهُ بَقِي بعد النَّبِي. كَذَا ذكره شَيخنَا أَبُو عبد االحافظ، ثمَّ خرج عَنهُ بِسَنَدِهِ إِلَى معدي بن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدثنِي شُعَيْب بن مطير عَن أَبِيه ومطير حَاضر فَصدقهُ، قَالَ شُعَيْب: يَا أبتاه أَخْبَرتنِي أَن ذَا الْيَدَيْنِ لقيك بِذِي خشب فأخبرك أَن رَسُول ا: الحَدِيث؛ ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ بعض الروَاة: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ ذُو الشمالين: يَا رَسُول اأقصرت الصَّلَاة؟ وَكَانَ شَيخنَا أَبُو عبد ايقول: كل من قَالَ ذَلِك فقد أَخطَأ، فَإِن ذَا الشمالين تقدم مَوته وَلم يعقب وَلَيْسَ لَهُ راو قلت: سَنَده ضَعِيف لِأَن فِيهِ معدي بن سُلَيْمَان، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يحدث عَن ابْن عجلَان مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي المقلوبات عَن الثِّقَات، والملزوقات عَن الْأَثْبَات لَا يجوز الإحتجاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَفِي سَنَده أَيْضا شهيب لم يعرف حَاله وَولده مطير، قَالَ فِيهِ ابْن الْجَارُود: روى عَنهُ ابْنه شُعَيْب لم يكْتب حَدِيثه، وَفِي (الضُّعَفَاء) للذهبي: لم يَصح حَدِيثه، وَفِي (الكاشف) : مطير بن سليم عَن ذِي الزَّوَائِد وَعنهُ أَبنَاء شُعَيْب وسليم لم يَصح حَدِيثه.
ولضعف هَذَا السَّنَد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْمعرفَة) : ذُو الْيَدَيْنِ بَقِي بعد النَّبِي فِيمَا يُقَال، وَلَقَد أنصف وَأحسن فِي هَذِه الْعبارَة، ثمَّ إِن قَول شَيْخه أبي عبد ا: كل من قَالَ ذَلِك فقد أَخطَأ، غير صَحِيح، روى مَالك فِي (موطئِهِ) عَن ابْن شهَاب عَن ابْن أبي بكر بن سُلَيْمَان عَن أبي خثيمَةَ: (بَلغنِي أَن رَسُول الله ركعه رَكْعَتَيْنِ فِي إِحْدَى صَلَاتي النَّهَار، الظّهْر أَو الْعَصْر، فَسلم من اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الشمالين، رجل من بني زهرَة بن كلاب: أقصرت الصَّلَاة؟)
الحَدِيث، وَفِي آخِره: مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب، وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن مثل ذَلِك، فقد صرح فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنه ذُو الشمالين وَأَنه من بني زهرَة فَإِن قلت: هُوَ مُرْسل. قلت: ذكر أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : أَنه مُتَّصِل من وُجُوه صِحَاح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا ذكرنَا مِمَّا رَوَاهُ النَّسَائِيّ آنِفا، ثمَّ قَول الْحَاكِم عَن ذِي الشمالين: لم يعقب يفهم من ظَاهِرَة أَن ذَا الْيَدَيْنِ أعقب، وَلَا أصل لذَلِك فِيمَا قد علمناه، وَا تَعَالَى أعلم. فَإِن قلت: إِن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين إِذا كَانَا لقباً على شخص وَاحِد على مَا زعمتم فَحِينَئِذٍ يدل على أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يحضر تِلْكَ الصَّلَاة، وَذَلِكَ لِأَن ذَا الْيَدَيْنِ الَّذِي هُوَ ذُو الشمالين قتل ببدر، وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم عَام خَيْبَر وَهُوَ مُتَأَخّر بِزَمَان كثير، وَمَعَ هَذَا فَأَبُو هُرَيْرَة يَقُول: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي الْعشي، إِمَّا الظّهْر أَو الْعَصْر)
الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا رَسُول ا)
أخرجه مُسلم وَغَيره. وَفِي رِوَايَة: (صلى بِنَا رَسُول ا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ)
الحَدِيث قلت: أجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن معناد: صلى بِالْمُسْلِمين، وَهَذَا جَائِز فِي اللُّغَة، كَمَا رُوِيَ عَن النزل بن سُبْرَة قَالَ: (قَالَ لنا رَسُول ا: أَنا وَإِيَّاكُم كُنَّا ندعى بني عبد منَاف)
الحَدِيث والنزال لم ير رَسُول ا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك: قَالَ لقومنا، وَرُوِيَ عَن طَاوُوس، قَالَ: (قدم علينا معَاذ ابْن جبل فَلم يَأْخُذ من الخضراوات شَيْئا، وَإِنَّمَا أَرَادَ: قدم بلدنا، لِأَن معَاذًا قدم الْيمن فِي عهد رَسُول ا، قبل أَن يُولد طَاوس) ، وَمثله مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب: الْبَيَان أَن النَّهْي مَخْصُوص بِبَعْض الْأَمْكِنَة عَن مُجَاهِد، قَالَ: جَاءَنَا أَبُو ذَر، رَضِي اتعالى عَنهُ؟ إِلَى آخِره. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُجَاهِد لَا يثبت لَهُ سَماع من أبي ذَر. وَقَوله: (جَاءَنَا) ، أَي: بلدنا. فأفهم.
قَوْله: (لم أنس وَلم تقصر) ، أَي: الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كل ذَلِك لم يكن) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (كل ذَلِك لم أفعل) ، قَالَ(4/265)
النَّوَوِيّ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لم يكن الْمَجْمُوع، وَلَا يَنْفِي وجود أَحدهمَا. وَالثَّانِي: هُوَ الصَّوَاب، مَعْنَاهُ: لم يكن لَا ذَلِك وَلَا ذَا فِي ظَنِّي، بل ظَنِّي أَنِّي أكملت الصَّلَاة أَرْبعا. وَيدل على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل، وَأَنه لَا يجوز غَيره، أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَن النَّبِي قَالَ: (لم نقصر وَلم أنس يرجع إِلَى السَّلَام أَي: لم أنس فِيهِ إِنَّمَا سلمت قصدا، وَلم أنس فِي نفس السَّلَام، وَإِنَّمَا سَهَوْت عَن الْعدَد. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا فَاسد، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يكون جَوَابا عَمَّا سُئِلَ عَنهُ. وَيُقَال: بَين النسْيَان والسهو فرق، فَقيل: كَانَ يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفي عَن نَفسه النسْيَان، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل. قَالَه القَاضِي. وَقَالَ الْقشيرِي: هَذَا افرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يلوح من اللَّفْظ على أَن النسْيَان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق باصلاة، والسهو عدم الذّكر لأمر يتَعَلَّق بهَا، وَيكون النسْيَان الْإِعْرَاض عَن تفقد أمورها حَتَّى يحصل عدم الذّكر، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النَّبِي النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع، بقوله: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) . وَقَالَ القَاضِي: إِنَّمَا أنكر نسيت المضافة إِلَى نَفسه، وَهُوَ قد نهى عَن هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا، وَلكنه نسي) . وَقد قَالَ أَيْضا: لَا أنسى، وَقد شكّ بعض الروَاة فِي رِوَايَته، فَقَالَ: أنسى أَو أنسّى، وَأَن: أَو للشَّكّ أَو للتقسيم، وَأَن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِل بذلك أنكرهُ. وَقَالَ: (كل ذَلِك لم يكن) وَفِي الْأُخْرَى: (لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فَبين، وَكَذَلِكَ: لم أنس، حَقِيقَة من قبل نَفسِي وَلَكِن اتعالى أنساني، وَيُمكن أَن يُجَاب عَمَّا قَالَه القَاضِي: أَن النَّهْي فِي الحَدِيث عَن إِضَافَة نسيت إِلَى الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَنَّهُ يقبح لِلْمُؤمنِ أَن يضيف إِلَى نَفسه نِسْيَان كَلَام اتعالى، وَلَا يلْزم من هَذَا النَّهْي الْخَاص النَّهْي عَن إِضَافَته إِلَى كل شَيْء. فَافْهَم. وَذكر بَعضهم أَن الْعِصْمَة ثَابِتَة فِي الْإِخْبَار عَن اتعالى، وَأما إخْبَاره عَن الْأُمُور الوجودية فَيجوز فِيهَا النسْيَان قلت: تَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام أَن قَوْله: لم ينس وَلم تقصر الصَّلَاة، مثل قَوْله: كل ذَلِك لم يكن، وَالْمعْنَى: كل من الْقصر وَالنِّسْيَان لم يكن، فَيكون فِي معنى: لَا شَيْء مِنْهُمَا بكائن، على شُمُول النَّفْي وعمومه لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن السُّؤَال عَن أحد الْأَمريْنِ: بِأم، وَيكون لطلب التَّعْيِين بعد ثُبُوت أَحدهمَا عِنْد الْمُتَكَلّم، لَا على التَّعْيِين، غير أَنه إِنَّمَا يكون بِالتَّعْيِينِ أَو بنفيهما جَمِيعًا تخطئه للمستفهم لَا بِنَفْي الْجمع بَينهمَا، حَتَّى يكون نفي الْعُمُوم لِأَنَّهُ عَارِف بِأَن الْكَائِن أَحدهمَا.
وَالثَّانِي: لما قَالَ: كل ذَلِك لم يكن، قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: قد كَانَ بعض ذَلِك. وَمَعْلُوم أَن الثُّبُوت للْبَعْض إِنَّمَا يُنَافِي النَّفْي عَن كل فَرد لَا النَّفْي عَن الْمَجْمُوع. وَقَوله: قد كَانَ بعض ذَلِك، مُوجبَة جزئية ونقيضها السالبة الْكُلية، وَلَوْلَا أَن ذَا الْيَدَيْنِ فهم السَّلب الْكُلِّي لما ذكر فِي مُقَابلَته الْإِيجَاب الجزئي، وَهَهُنَا قَاعِدَة أُخْرَى وَهِي: أَن لَفْظَة: كل إِذا وَقعت فِي حيّز النفيي كَانَ النَّفْي مُوجبهَا خَاصَّة، وَأفَاد بمفهومه ثُبُوت الْفِعْل لبَعض الْأَفْرَاد، كَقَوْلِك: مَا جَاءَ كل الْقَوْم وَلم آخذ كل الدَّرَاهِم. وَقَوله.
(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ)
وَإِن وَقع النَّفْي فِي حيزها اقْتضى السَّلب عَن كل فَرد. كَقَوْلِه: (كل ذَلِك لم يكن) .
قَوْله: (أكما يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟) أَي: الْأَمر كَمَا يَقُول. قَوْله: (فَقَالُوا: نعم) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (فَقَالَ النَّاس: نعم) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فأمأوا) أَي: نعم، وَفِي أَكثر الْأَحَادِيث قَالُوا: نعم، وَيُمكن أَن يجمع بَينهمَا بِأَن بعض أَوْمَأ، وَبَعْضهمْ يكلم. وَسَنذكر وَجه هَذَا عَن قريب. قَوْله: (فَرُبمَا سَأَلُوهُ) فَرُبمَا سَأَلُوا ابْن سِيرِين: هَل فِي الحَدِيث: ثمَّ سلم، يَعْنِي: سَأَلُوا ابْن سِيرِين أَن رَسُول الله بعد هَذَا السُّجُود سلم مرّة أُخْرَى، أَو اكْتفى بِالسَّلَامِ الأول؟ وَكلمَة: رب، أَصْلهَا للتقليل، وَكثر اسْتِعْمَالهَا فِي التكثير، وتلحقها كلمة: مَا، فَتدخل على الْجمل. قَوْله: (فَيَقُول: نبئت) ، بِضَم النُّون: أَي أخْبرت أَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: ثمَّ سلم، وَهَذَا يدل على أَنه لم يسمع من عمرَان، وَقد بَين أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته عَن ابْن سِيرِين الْوَاسِطَة بَينه وَبَين عمرَان، فَقَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس حدّثنا مُحَمَّد بن عبد ابْن الْمثنى قَالَ حَدثنِي أَشْعَث عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن خَالِد عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول ا، صلى بهم وسها، فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ ثمَّ تشهد ثمَّ سلم) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ والترمزي وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن خَالِد الْحذاء، قَالَ: سَمِعت أَبَا قلَابَة يحدث عَن عَمه أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول الله صلى بهم الظّهْر ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ سلم وَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ الْخِرْبَاق: يَا رَسُول اإنك صليت ثَلَاثًا قَالَ: فجَاء فصلى رَكْعَة ثمَّ سلم ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ للسَّهْو ثمَّ سلم) . وَأَبُو قلَابَة اسْمه: عبد ابْن زيد الحرمي، وَعَمه أَبُو الْمُهلب اسْمه: عَمْرو بن مُعَاوِيَة، قَالَه النَّسَائِيّ. وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة، وَقيل: مُعَاوِيَة بن عَمْرو، وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن(4/266)
عَمْرو، وَقيل: النَّضر بن عَمْرو، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو سَجْدَتَانِ.
الثَّانِي: فِيهِ حجَّة لِأَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّة أَن سَجْدَتي السَّهْو بعد السَّلَام، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي أَنَّهَا قبل السَّلَام.
الثَّالِث: أَن الَّذِي عَلَيْهِ السَّهْو إِذا ذهب من مقَامه ثمَّ عَاد وَقضى مَا عَلَيْهِ هَل يَصح؟ فَظَاهر الحَدِيث يدل على أَنه يَصح، لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن: (فجَاء فصلى رَكْعَة) ، وَفِي رِوَايَة غَيره من الْجَمَاعَة: (فَتقدم وَصلى) ، وَهُوَ رِوَايَة اليخاري هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة: (فَرجع رَسُول الله إِلَى مقَامه) ، وَلَكِن اخْتلف الْفُقَهَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِيهَا وَجْهَان: أصَحهمَا: أَنه يَصح لِأَنَّهُ ثَبت فِي صَحِيح مُسلم: (أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، مَشى إِلَى الْجذع وَخرج السرعان) . وَفِي رِوَايَة: (دخل منزله) . وَفِي رِوَايَة: (دخل الْحُجْرَة ثمَّ خرج وَرجع النَّاس وَبنى على صلَاته) . وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم: أَن الصَّلَاة تبطل، بذلك قَالَ النَّوَوِيّ، وَهَذَا مُشكل، وَتَأْويل الحَدِيث صَعب على من أبطلها، وَنقل عَن مَالك أَنه مَا لم ينْتَقض وضوؤه يجوز لَهُ ذَلِك وَإِن طَال الزَّمَان، وَكَذَا رُوِيَ عَن ربيعَة، مستدلين بِحَدِيث عمرَان. وَمذهب أبي حنيفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: إِذا سلم سَاهِيا على الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ فِي مَكَانَهُ لم يصرف وَجهه عَن الْقبْلَة وَلم يتَكَلَّم عَاد إِلَى الْقَضَاء لما عَلَيْهِ، وَلَو اقْتدى بِهِ رجل يَصح اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، أما إِذا صرف وَجهه عَن الْقبْلَة فَإِن كَانَ فِي الْمَسْجِد وَلم يتَكَلَّم فَكَذَلِك، لِأَن الْمَسْجِد كُله فِي حكم مَكَان وَاحِد، لِأَنَّهُ مَكَان الصَّلَاة، وَإِن كَانَ خرج فِي الْمَسْجِد ثمَّ تذكر لَا يعود، وتفسد صلَاته. وَأما إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء فَإِن تذكر قبل أَن يُجَاوز الصُّفُوف من خَلفه أَو من قبل الْيَمين أَو الْيَسَار عَاد إِلَى قَضَاء مَا عَلَيْهِ، وإلاَّ فَلَا، وَإِن مَشى أَمَامه لم يذكرهُ فِي الْكتاب.
وَقيل: إِن مَشى قدر الصُّفُوف الَّتِي خَلفه تفْسد وإلاَّ فَلَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف اعْتِبَارا لأحد الْجَانِبَيْنِ. وَقيل: إِذا جَاوز مَوضِع سُجُوده لَا يعود، وَهُوَ الْأَصَح، وَهَذَا إِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ ستْرَة، فَإِن كَانَ يعود مَا لم يجاوزها، لِأَن دَاخل الستْرَة فِي حكم الْمَسْجِد. وَا اعْلَم.
وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث: إِنَّه مَنْسُوخ، وَذَلِكَ أَن عمر بن الْخطاب عمل بعد رَسُول الله بِخِلَاف مَا كَانَ عمله يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، وَالْحَال أَنه كَانَ فِيمَن حضر يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، فلولا ثَبت عِنْده انتساخ ذَلِك لما عمل بِخِلَاف مَا عمل بِهِ النَّبِي، وَأَيْضًا فَإِن عمر فعل ذَلِك بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد، فَصَارَ ذَلِك مِنْهُم إِجْمَاعًا. وروى الطَّحَاوِيّ ذَلِك عَن ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حدّثنا أَبُو عَاصِم عَن عُثْمَان بن الْأسود. قَالَ: (سَمِعت عَطاء يَقُول: صلى عمر بن الْخطاب بِأَصْحَابِهِ فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي جهزت عيرًا من الْعرَاق بأحمالها وأقتابها حَتَّى وَردت الْمَدِينَة، قَالَ: فصلى بهم أَربع رَكْعَات) .
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ قوم على أَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة من الْمَأْمُومين لإمامهم إِذا كَانَ على وَجه إصْلَاح الصَّلَاة لَا يقطع الصَّلَاة، وَأَن الْكَلَام من الإِمَام والمأمومين فِيهَا على السَّهْو لَا يقطع الصَّلَاة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى الْكَلَام وَالسَّلَام سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم أَن مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام فِيمَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول ربيعَة وَابْن الْقَاسِم، إلاَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل ذكره الْأَثْرَم عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته لإصلاحها لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك فَسدتْ عَلَيْهِ، وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ أَن مذْهبه فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلاَّ الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم تبطل صلَاته. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة، وَأَنه فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة، لَا يُبْطِلهَا. قَالَ النَّوَوِيّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَعبد ابْن الزبير وأخيه عُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَجَمِيع الْمُحدثين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري، وَفِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ: تبطل صلَاته بالْكلَام نَاسِيا أَو جَاهِلا، انْتهى. وَأجْمع الْمُسلمُونَ طرّاً أَن الْكَلَام عَامِدًا فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعلم أَنه فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد الصَّلَاة، إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض الْمَشْهُور عَن مَالك وَأَصْحَابه الْأَخْذ بِحَدِيث(4/267)
ذِي الْيَدَيْنِ، وروى عَنهُ ترك الْأَخْذ بِهِ، وَأَنه كَانَ يسْتَحبّ أَن يُعِيد وَلَا يَبْنِي. قَالَ: وَإِنَّمَا تكلم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَصْحَابه لأَنهم ظنُّوا أَن الصَّلَاة قصرت وَلَا يجوز ذَلِك لِأَحَدِنَا الْيَوْم. وَقَالَ الْحَارِث بن مِسْكين: أَصْحَاب مَالك كلهم قَالُوا: كَانَ هَذَا أول الْإِسْلَام، وَأما الْآن فَمن تكلم فِيهَا أَعَادَهَا.
الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَن من قَالَ نَاسِيا: لم أفعل كَذَا، وَكَانَ قد فعله، أَنه غير كَاذِب.
السَّادِس: فِيهِ جَوَاز التلقيب الَّذِي سَبيله التَّعْرِيف دون التهجين.
السَّابِع: فِيهِ الْإِجْزَاء بسجدتين عَن السهوات لِأَنَّهُ سَهَا عَن الرَّكْعَتَيْنِ وَتكلم نَاسِيا وَاقْتصر على السَّجْدَتَيْنِ.
الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد، على مَا ترْجم عَلَيْهِ الْبَاب.
الأسئلة والأجوبة الأول: كَيفَ تكلم ذُو الْيَدَيْنِ وَالْقَوْم وهم فِي الصَّلَاة بعد؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا على الْيَقِين من الْبَقَاء فِي الصَّلَاة، لأَنهم كَانُوا مجوزين نسخ الصَّلَاة من أَربع إِلَى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن هَذَا كَانَ خطابا للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وجواباً، وَذَلِكَ لَا يبطل عندنَا غَيرنَا، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح: (إِن الْجَمَاعَة أَو مأوا) ، أَي: أشاروا نعم، فعلى هَذِه الرِّوَايَة لم يتكلموا.
الثَّانِي: قيل: فِيهِ إِشْكَال على مَذْهَب الشَّافِعِي، لِأَن عِنْدهم أَنه لَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي قدر صلَاته إِلَى قَول غَيره إِمَامًا أَو مَأْمُوما، وَلَا يعْمل إلاَّ على يَقِين نَفسه؟ وَأجَاب: النَّوَوِيّ عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ، سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ، لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَوْلهم، وَلَو جَازَ ترك يَقِين نَفسه وَالرُّجُوع إِلَى قَول غَيره لرجع ذُو الْيَدَيْنِ حِين قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لم تقصر وَلم أنس) قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مخلص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من الرُّجُوع، سَوَاء كَانَ رُجُوعه للتذكرة أَو لغيره، وَعدم رُجُوع ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ لأجل كَلَام الرَّسُول لَا لأجل يَقِين نَفسه. وَقَالَ ابْن الْقصار: اخْتلف الروَاة فِي هَذَا عَن مَالك، فَمرَّة قَالَ: يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ قَالَ: يَبْنِي على غَالب ظَنّه. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: يعْمل على يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، كَقَوْل الشَّافِعِي.
الثَّالِث: قد رُوِيَ فِي بعض رِوَايَات مُسلم فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: (بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صَلَاة الظّهْر)
الحَدِيث، وَهَذَا صَرِيح أَنه حضر تِلْكَ الصَّلَاة؟ وَالْجَوَاب: عَنهُ قد ذَكرْنَاهُ عَن الطَّحَاوِيّ عَن قريب، وَقيل: يحْتَمل أَن بعض الروَاة فهم من قَول أبي هُرَيْرَة فِي إِحْدَى رواياته: (صلى بِنَا) ، أَنه كَانَ حَاضرا، فَروِيَ الحَدِيث بِالْمَعْنَى على زَعمه، وَقَالَ: بَينا أَنا أُصَلِّي.
الرَّابِع: فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَنه دخل منزله، وَلَا يجوز لأحد الْيَوْم أَن ينْصَرف عَن الْقبْلَة، وَيَمْشي وَقد بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من الصَّلَاة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ فعل ذَلِك وَهُوَ لَا يرى أَنه فِي الصَّلَاة فَإِن قيل: فَيلْزم على هَذَا لَو أكل أَو شرب أَو بَاعَ أَو اشْترى وَهُوَ لَا يرى فِي الصَّلَاة أَنه لَا يُخرجهُ ذَلِك مِنْهَا؟ قلت: هَذَا كُله مَنْسُوخ فَلَا يعْمل بِهِ الْيَوْم، وَا أعلم.
98 - (بابُ المَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ المَدِينَةِ وَالمَوِاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيها النبيُّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمَسَاجِد فِي الطّرق الَّتِي بَين الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَمَكَّة المشرفة، وَفِي أَكثر النّسخ على طرق الْمَدِينَة، والمواضع الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي.
384041 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ قَالَ حدّثنا فضيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدّثنا مُوسَى ابنُ عُقْبَةَ قالَ رَأيْتُ سالِمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيها وَيُحَدِّثُ أنَّ أباهُ كانَ يُصَلِّي فِيها وأنَّهُ رَأى النبيُّ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ حدّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ وَسألْتُ سالما فَلا أعْلَمْهُ إلاَّ وَافَقَ نافِعاً فِي الأَمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلَّا أنَّهُما اخْتَلَفا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الروْحاءَ. (الحَدِيث 384 أَطْرَافه فِي: 5351، 6332، 5437) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم، على وزن اسْم الْمَفْعُول،(4/268)
الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: النميري بِضَم النُّون. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب إسباغ الْوضُوء. الرَّابِع: سَالم ابْن عبد ابْن عمر بن الْخطاب، تقدم فِي بَاب الْحيَاء من الْإِيمَان. الْخَامِس: نَافِع، مولى ابْن عمر، وَقد تكَرر ذكره. السَّادِس: عبد ابْن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الرِّوَايَة بِصِيغَة الْمَاضِي للتكلم. وَفِيه: صِيغَة التحديث بِلَفْظ الْمُضَارع الْمُفْرد وبلفظ الْمَاضِي الْمُفْرد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَوْله: (يتحَرَّى) أَي: يقْصد ويختار ويجتهد. قَوْله: (أَن أَبَاهُ) أَي: عبد ابْن عمر بن الْخطاب. قَوْله: (وَأَنه) أَي: وَأَن أَبَاهُ رأى النَّبِي، وَهَذَا مُرْسل من سَالم إِذا مَا اتَّصل سَنَده. قَوْله: (وحَدثني نَافِع) الْقَائِل ذَلِك هُوَ مُوسَى بن عقبَة، وَهُوَ عطف على: رَأَيْت، أَي: قَالَ مُوسَى: وحَدثني. و: سَأَلت، أَيْضا عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (بشرف الروحاء) ، وَهُوَ مَوضِع ارْتَفع من مَكَان الروحاء، وَهِي بحاء مُهْملَة ممدودة. قَالَ أَبُو عبيد االبكري: هِيَ قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا. وَقَالَ كثير عزة: سميت الروحاء لِكَثْرَة أرواحها وبالروحاء بِنَاء يَزْعمُونَ أَنه قبر مُضر بن نزار. وَقَالَ أَبُو عبيد: وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: روحاني، على غير قِيَاس. وَقد قيل: روحاوي، على الْقيَاس. وَفِي (كتاب الْجبَال) للزمخشري: بَين الْمَدِينَة والروحاء أَرْبَعَة برد إلاَّ ثَلَاثَة أَمْيَال. وَفِي (صَحِيح مُسلم) فِي بَاب الْأَذَان: (سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا) . وَفِي كتاب ابْن أبي شيبَة: على ثَلَاثِينَ ميلًا. وَقَالَ ابْن قرقول: وَهِي من عمل الْفَرْع على نَحْو من أَرْبَعِينَ ميلًا من الْمَدِينَة. وَقَالَ أَبُو عبيد: روى نَافِع عَن مَوْلَاهُ أَن بِهَذَا الْموضع الْمَسْجِد الصَّغِير دون الْموضع الَّذِي بالشرف، قَالَ: وروى أَصْحَاب الزُّهْرِيّ عَنهُ عَن حَنْظَلَة بن عَليّ عَن أبي هُرَيْرَة: (سَمِعت رَسُول الله يَقُول: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ليلهن ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، بفج روحاء حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَو بثنيتها) وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مثله، وروى غير وَاحِد أَن رَسُول الله قَالَ، وَقد وصل الْمَسْجِد الَّذِي بِبَطن الروحاء عِنْد عرق الظبية: هَذَا وَاد من أَوديَة الْجنَّة، وَصلى فِي هَذَا الْوَادي قبلي سَبْعُونَ نَبيا، عَلَيْهِم السَّلَام، وَقد مر بِهِ مُوسَى بن عمرَان حَاجا ومعتمراً فِي سبعين ألفا من بني إِسْرَائِيل.
فَإِن قلت: قد جَاءَ عَن عمر بن الْخطاب خلاف فعل ابْنه، روى الْمَعْرُور بن سُوَيْد: كَانَ عمر فِي سفر فصلى الْغَدَاة، ثمَّ أَتَى على مَكَان فَجعل النَّاس يأتونه، وَيَقُولُونَ: صلى فِيهِ النَّبِي، فَقَالَ عمر: إِنَّمَا هلك أهل الْكتاب أَنهم اتبعُوا آثَار أَنْبِيَائهمْ واتخذوها كنائس وبيعاً، فَمن عرضت لَهُ الصَّلَاة فَليصل وإلاَّ فليمض قلت: إِن عمر إِنَّمَا خشِي أَن يلْتَزم النَّاس الصَّلَاة فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع حَتَّى يشكل على من يَأْتِي بعدهمْ فَيرى ذَلِك وَاجِبا، وَعبد ابْن عمر كَانَ مَأْمُونا من ذَلِك، وَكَانَ يتبرك بِتِلْكَ الْأَمَاكِن، وتشدده فِي الإتباع مَشْهُور، وَغَيره لَيْسَ فِي هَذَا الْمقَام.
484 - ح دّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدّثنا أنَسُ بنُ عِياضٍ قَالَ حدّثنا مْوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ اللَّهِ كانَ يَنْزِلُ بِذِي الحُلَيْفَةِ حِينَ يَعْتَمِرُ وفِي حَجَّتِهِ حِينَ حَجَّ تَحْتَ سَمُرَةٍ فِي مَوْضِعِ المَسْجَدِ الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ وكانَ إذَا رَجَعَ مِن غَزْوٍ كانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أوْ فِي حَجٍ أوْ عُمْرَةٍ هَبَطَ مِنْ بَطْنِ وادٍ فإِذَا ظْهَرَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ أنَاخَ بالبَطْحَاءِ الَّتِي عَلَى شفِيرِ الوَادِي الشَّرقِيَّةِ فَعِرَّسَ ثَمَّ حَتَّى يُصْبِحَ لَيْسَ عِنْدَ المَسْجِدِ الَّذِي بِحِجَارَةٍ وَلاَ عَلَى الأكِمَةِ الَّتِي عَلَيْها المَسْجِدُ كانَ ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَهُ فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ كانَ رسولُ اللَّهِ ثَمَّ يُصَلِّي فَدَحا السيَّلُ فيهِ بِالبَطْحاءِ حَتَّى دَفَنَ ذَلِكَ المَكانَ الذِي كانَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلَّي فِيهِ.
584 - وأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنِ عُمَرَ حدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى حَيْثُ المَسْجِدُ الصَّغِيرُ الذِي دُونَ المَسْجِدِ الذِي بِشَرَفِ الرَّوْحاءِ وقَدْ كانَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْلَمُ المَكانَ الذِي كانَ صَلى فِيهِ(4/269)
النبيُّ يَقولُ ثَمَّ عنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي المَسْجِدِ تُصَلِّي وَذَلِكَ المَسْجِدُ عَلَى حافَةِ الطَّرِيق اليُمْنَى وأنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مَكَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَسْجِدِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
684 - وأنَّ عُمَرَ كانَ يُصَلِّي إلَى العِرْقِ عِنْدَ مُنْصَرَفِ الرَّوْحاءِ وذَلِكَ العِرْقُ انْتِهاءُ طَرَفِهِ عَلَى حافَةِ الطَّرِيقِ دُونَ المَسْجِدِ الذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ المُنْصَرَفِ وَأنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مَكَّةَ وَقَدْ أبْتَنِي ثَمَّ مَسْجِدٌ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ ااِ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ كانَ يَتْرُكهُ عنْ يَسَارِهِ وورَاءَهُ ويُصَلِّي أمامَهُ إلَى العِرْقِ نَفْسِهِ وكانَ عَبْدُ ااِ يَرُوحُ مِن الرَّوْحاءِ فَلاَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ المَكانَ فَيُصَلِّي فِيهِ الظُهْرَ وإذَا أقْبَلَ منْ مَكَّةَ فإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصبْحِ بِسَاعَةٍ أوْ منْ آخِرِ السَّحَر عَرَّسَ حَتى يُصَلِّي بهَا الصُّبْحَ.
784 - وَأنَّ عَبْدُ ااِ حَدَّثَهُ أَن النبيَّ كانَ يَنْزلُ تَحْتَ سَرْحَةٍ ضَخْمَةٍ دُونَ الرُّوَيْثَةِ عَنْ الطَّرِيقِ ووِجاهُ الطَّريق فِي مكانٍ بَطْحٍ سَهْلٍ حَتَّى يُفْضِيَ منْ أكَمَةٍ دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بميلَيْنِ وَقَدِ انْكَسَرَ أعْلاَها فانْثَنَى فِي جَوْفِها وَهِي قائِمَةٌ عَلَى ساقٍ وفِي ساقِهَا كُثُبٌ كَثِيرَةٍ.
884 - وأنَّ عَبْدُ ااِ بنُ عُمَرَ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى فِي طَرَفِ تَلْعةٍ مِنْ وَرَاءِ العَرْجِ وَأنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ عنْدَ ذلِكَ المَسْجِدِ قَبْرَان أوْ ثَلاَثَةٌ عَلَى القُبُورِ رَضْمٌ مِن حِجَارَةٍ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ سَلْمَاتِ الطَّريقِ بَيْنَ أُولئكَ فيُصلَّي السَّلِمَاتِ كانَ عَبْدُ ااِ يَرُوحُ مِنَ العَرْجِ بعْدَ أنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ بالهَاجِرَةِ الظهْرَ فِي ذَلِكَ المَسْجِدِ.
984 - وأنَّ عَبْدُ ااِ بنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أنَّ رَسولَ ااِ نَزَلَ عِنْدَ سَرْحاتٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى، ذَلِكَ المَسيلُ لاَصِقٌ بِكُرَاعِ هَرْشى بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّرِيقِ قريبٌ مِنْ غَلْوَةٍ وكانَ عَبْدُ ااِ يُصَّلِّي إِلَى سَرْحَةٍ هِى أقْرَبُ السَّرَحاتِ إلَى الطَّرِيقِ وَهْي أطْوَلُهُنَّ.
094 - وأنَّ عَبْدَ ااِ بنِ عُمَر حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ كانَ يَنْزِلُ فِي المَسْيلِ الَّذِي أدْنَى فِي الظَّهْرَانِ قَبْلَ المَدِينَةِ حِينَ يَهْبِطُ مِنَ الصَّفْرَوَاتِ يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ المَسِيلِ عنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وأنْتَ ذَاهِبٌ إلَى مَكَّة لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رسولِ اللَّهِ وبَيْنَ الطَّرِيقِ إلاَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ.
ب 05 0 194 وأنَّ عَبْدَ ااِ بنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ كانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَى يُصْبِحَ يُصَلَّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ ومُصَلَّى رسولِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلى أكَمَةٍ غَلِيظَةٍ لَيْسَ فِي المَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ وَلَكِنْ أسْفَلَ منْ ذَلِكَ علَى أكَمَةٍ غَلِيظَةٍ.
ب 05 0 ب 05 0 294 وأنَّ عَبْدَ ااِ حَدَّثَهُ أَن النبيَّ اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَي الجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُم وَبَيْنَ الجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الكَعْبَةِ فَجَعَلَ المَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ يَسَارَ المَسْجِدِ بِطَرَفِ الأَكِمَةِ وَمُصَلَّى النبيِّ أسْفَلَ مِنْهُ عَلَى السَّوْدَاءِ تَدَعُ مِنَ الأكِمَةِ عَشْرَةَ أذْرُعٍ أوْ نَحْوَها ثُمَّ تُصَلِّي مُسْتَقْبَلَ الفُرْضَتَيْنِ مِنَ الجَبَلِ الذِي بَيْنَكَ وبَيْنَ الكَعْبَةِ.(4/270)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الْفَصْلَيْنِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة الْحزَامِي نِسْبَة إِلَى أجداده، ببيانه إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد ابْن الْمُغيرَة بن عبد ابْن خَالِد بن حزَام بن خويلد بن أَسد بن عبد الصَّمد ابْن قصي الْمَدِينِيّ، توفّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أنس بن عِيَاض الْمدنِي، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة، تقدم فِي هَذَا الْبَاب. الرَّابِع: نَافِع، وَقد تقدم. الْخَامِس: عبد ابْن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف اسناده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوَاضِع وَاحِد. وَفِيه: وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْمَاضِي الْمُفْرد. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَهُوَ: الْمِيقَات الْمَشْهُور لأهل الْمَدِينَة، وَهُوَ من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال. وَمن مَكَّة على مِائَتي ميل غير ميلين. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي (مَنَاسِكه) بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ميل أَو ميلان، والميل ثلث فَرسَخ وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وَمِنْهَا إِلَى مَكَّة عشر مراحل، وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ أبعد الْمَوَاقِيت من مَكَّة تَعْظِيمًا لإحرام النَّبِي،. قَوْله: (حِين يعْتَمر وَفِي حجَّته حِين حج) إِنَّمَا قَالَ فِي الْعمرَة بِلَفْظ الْمُضَارع، وَفِي الْحَج بِلَفْظ الْمَاضِي لِأَنَّهُ،، لم يحجّ إلاّ مرّة وتكررت مِنْهُ الْعمرَة؛ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْفِعْل الْمُضَارع قد يُفِيد الِاسْتِمْرَار. قلت: الْمَاضِي أقوى فِي إِفَادَة الِاسْتِمْرَار من الْمُضَارع، لِأَن الْمَاضِي قد مضى وَاسْتقر بِخِلَاف الْمُضَارع. قَوْله: (تَحت سَمُرَة) ، بِضَم الْمِيم: وَهُوَ شجر الطلح، وَهُوَ الْعَظِيم من الْأَشْجَار الَّتِي لَهَا شوك وَهِي فِي ألسن النَّاس تعرف بِأم غيلَان. قَوْله: (وَكَانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيق) ، أَي: طَرِيق ذِي الحليفة. قَوْله: (وَكَانَ) ، جملَة حَالية، ويروى: كَانَ، بِدُونِ: الْوَاو، وَهِي صفة للغزو، ويروى: من غَزْوَة، بالتأنيث. فَإِن قلت: على هَذَا مَا وَجه التَّذْكِير فِي: كَانَ؟ قلت: بِاعْتِبَار السّفر، وَيجوز أَن يرجع الضَّمِير فِيهِ إِلَى رَسُول الله وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لمَ مَا أخر لفظ: كَانَ، فِي تِلْكَ الطَّرِيق عَن الْحَج وَالْعمْرَة. قلت: لِأَنَّهُمَا لم يَكُونَا إِلَّا من تِلْكَ.
قَوْله: (بالبطحاء) . قَالَ فِي (الْمُحكم) : بطحاء الْوَادي: تُرَاب لين مِمَّا جرته السُّيُول، وَالْجمع: بطحاوات وبطاح، فَإِن اتَّسع وَعرض فَهُوَ الأبطح، وَالْجمع: الأباطح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الأبطح لَا ينْبت شَيْئا إِنَّمَا هُوَ بطن السَّيْل. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الأبطح والبطحاء: الرمل المنبسط على وَجه الأَرْض. وَفِي (الواعي) : الْبَطْحَاء: حَصى وَرمل ينْقل من مسيل المَاء، وَقَالَ نضر بن شُمَيْل: بطحاء الْوَادي وأبطحه: حصاؤه اللين، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَهِي حِجَارَة وَرمل وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْبَطْحَاء كل أَرض منحدرة. وَفِي (الْكِفَايَة) الأبطح والبطحاء منعطف الْوَادي. وَفِي (الْمُنْتَهى) الأبطح: مسيل وَاسع فِيهَا دقاق الْحَصَى، وَالْجمع: الأباطح. وَكَذَا الْبَطْحَاء. وَفِي (الصِّحَاح) : البطاح على غير قِيَاس، والبطيحة مثل الأبطح. قَوْله: (شَفير الْوَادي) بِفَتْح الشين الْحَرْف أَي: الطّرف. وَقَالَ ابْن سَيّده: شَفير الْوَادي وشفره ناحيته من أَعْلَاهُ. قَوْله: (الشرقية) ، صفة الْبَطْحَاء.
قَوْله: (فعرس) ، بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: عرس المسافرون تعريساً: إِذا نزلُوا نزلة فِي وَجه السحر وأناخوا إبلهم فروحوها سَاعَة حَتَّى ترجع إِلَيْهَا أَنْفسهَا، وَعَن أبي زيد: عرس الْقَوْم تعريساً فِي الْمنزل: حَيْثُ نزلُوا بِأَيّ حِين كَانَ من ليل ونهار. وَفِي (الْمُحكم) : المعرس الَّذِي يسير نَهَاره ويعرس أَي ينزل أول اللَّيْل. وَفِي (الصِّحَاح) : أعرسوا، لُغَة فِيهِ قَليلَة، والموضع: معرس ومعرس، وَفِي (الغريبين) التَّعْرِيس: نومَة الْمُسَافِر بعد إدلاج اللَّيْل، وَفِي (المغيث) : عرس أَي: نزل للنوم والاستراحة، والتعريس النُّزُول لغير إِقَامَة. قَوْله: (ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، أَي: هُنَاكَ. قَوْله: (حَتَّى يصبح) ، بِضَم الْيَاء: أَي يدْخل فِي الصَّباح وَهِي تَامَّة لَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر. قَوْله: (الأكمة) بِفَتْح الْهمزَة وَالْكَاف، قَالَ ابْن سَيّده: هِيَ التل من القف من حِجَارَة وَاحِدَة. وَقيل: هُوَ دون الْجبَال. وَقيل: هُوَ الْموضع الَّذِي قد اشْتَدَّ ارتفاعه مِمَّا حوله، وَهُوَ غليظ لَا يبلغ أَن يكون حجرا، وَالْجمع: أكم وأكم وأكمام وإكمام وأءكم كأفلس، الْأَخِيرَة عَن ابْن جني. وَفِي (الواعي) لأبي مُحَمَّد: الأكام، دون الضراب. وَفِي (الصَّحِيح) : وَالْجمع أكمات، وَجمع الأكم: آكام، مثل: عنق وأعناق. قَوْله: (خليج) . بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام. قَالَ فِي (الْمُنْتَهى) : هُوَ شرم من الْبَحْر اختلج مِنْهُ، والخليج: النَّهر الْعَظِيم، وَالْجمع: خلجان، وَرُبمَا قيل للنهر الصَّغِير يختلج من النَّهر الْكَبِير: خليج. وَفِي (الْمُحكم) : الخليج مَا انْقَطع من مُعظم المَاء لِأَنَّهُ يختلج مِنْهُ. وَقد اختلج، وَقيل: الخليج شُعْبَة تتشعب من الْوَادي تغير بعض مَائه إِلَى مَكَان آخر، وَالْجمع خلج وخلجان، وَفِي كتاب ابْن التِّين: الخليج وَاد عميق ينشق من آخر أعظم مِنْهُ، وَفِي (كتاب الْأَمَاكِن) للزمخشري: نحيل خليج أحد جبال مَكَّة، شرفها ا.
قَوْله: (يصلى عبد ا) ، أَي: عبد(4/271)
ابْن عمر. قَوْله: (كتب) بِضَم الْكَاف وَضم الثَّاء الْمُثَلَّثَة: جمع كثيب، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ رمل اجْتمع، وكل مَا اجْتمع من شَيْء وانهار فقد انكثب فِيهِ، وَمِنْه اشتق: الْكَثِيب من الرمل، فِي معنى مكثوب لِأَنَّهُ انصب فِي مَكَان وَاجْتمعَ فِيهِ وَالْجمع: كُثْبَان، وَهِي تلال من رمل. وَفِي (الْمُحكم) : الْكَثِيب من الرمل الْقطعَة تبقى محدودبة. وَقيل: هُوَ مَا اجْتمع واحدودب، وَالْجمع: أكثبة وكثب. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: إِنَّمَا سمي كثيباً لِأَن ترابه دقاق كَأَنَّهُ مكثوب أَي منثور بعضه على بعض لرخاوته. قَوْله: (كَانَ رَسُول ا) ، هَذَا مُرْسل من نَافِع. قَوْله: (ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء وَقد تَكَرَّرت هَذِه اللَّفْظَة. قَوْله: (فدحا) ، الْفَاء للْعَطْف: ودحا، من الدحو، وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَهُوَ: الْبسط، يُقَال: دحا يدحو ويدحي دحواً، قَالَه ابْن سَيّده. وَفِي (الغريبين) : كل شَيْء بسطته ووسعته فقد دحوته وَفِي الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَدخل، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاللَّام ويروى: قد جَاءَ، بِكَلِمَة: قد، للتحقيق، وبكلمة: جَاءَ من الْمَجِيء.
قَوْله: (وَأَن عبد ابْن عمر حَدثهُ) ، أَي: بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فِيهِ. قَوْله: (حَيْثُ الْمَسْجِد الصَّغِير) بِالْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وبالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى: (جنب) ، بِالْجِيم وَالنُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْمَسْجِد، مَرْفُوع على الرِّوَايَة الأولى لِأَن حَيْثُ، لَا تُضَاف إِلَّا إِلَى الْجُمْلَة على الْأَصَح. فتقديره: حَيْثُ هُوَ الْمَسْجِد، وَنَحْوه، وعَلى الرِّوَايَة الثَّانِيَة: مجرور. قَوْله: (بشرف الروحاء) هِيَ: قَرْيَة جَامِعَة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة وَهِي آخر السبالة للمتوجه إِلَى مَكَّة، وَالْمَسْجِد الْأَوْسَط فِي الْوَادي الْمَعْرُوف الْآن بوادي بني سَالم. قَوْله: (وَقد كَانَ عبد ايعلم) ، بِضَم الْيَاء من أعلم من الْعَلامَة وَفِي بعض النّسخ، يعلم، بِفَتْح الْيَاء من الْعلم. قَوْله: (على حافة الطَّرِيق) بتَخْفِيف: الْفَاء أَي على جَانب الطَّرِيق وحافتا الْوَادي: جانباه. قَوْله: (إِلَى الْعرق) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالقاف، أَي: عرق الظيبة. قَالَ الْكرْمَانِي: جبل صَغِير، وَيُقَال أَيْضا للْأَرْض الْملح الَّتِي لَا تنْبت، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة هُوَ وَاد مَعْرُوف وَقَالَ ابْن فَارس تنْبت الطرفاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَحمَه ا: تنْبت الشَّجَرَة. وَقَالَ الْخَلِيل: الْعرق: الْجَبَل الدَّقِيق من الرمل المستطيل مَعَ الأَرْض قَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع. وَفِي (التَّهْذِيب) لأبي مَنْصُور: الْعرق هُوَ الْجَبَل الصَّغِير.
قَوْله: (عِنْد منصرف الروحاء) ، بِفَتْح الرَّاء فِي: منصرف، أَي: عِنْد آخرهَا. قَوْله: (وَقد ابتني) ، بِضَم التَّاء المنثناة من فَوق على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي. قَوْله: (وورائه) بِالْجَرِّ عطف على: يسَاره، وَبِالنَّصبِ بِتَقْدِير: فِي، ظرفا. قَوْله: (وأمامة) أَي: قُدَّام الْمَسْجِد. قَوْله: (من آخر السحر) ، وَهُوَ عبارَة عَمَّا بَين الصُّبْح: الْكَاذِب والصادق، وَالْفرق بَين العبارتين أَعنِي قَوْله: (آخر السحر) ، هُوَ أَنه أَرَادَ بآخر السحر، أقل من سَاعَة. أَو أَرَادَ الْإِبْهَام ليتناول قدر السَّاعَة، وَأَقل وَأكْثر مِنْهُ.
قَوْله: (سرحة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، وَأَرَادَ بهَا: الشَّجَرَة الضخمة أَي: الْعَظِيمَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) إِن أَبَا زيد قَالَ: السَّرْح من العضاه، واحدته سرحة، والسرح طوال فِي السَّمَاء، وَقد تكون السرحة دوحة محلا لَا وَاسِعَة يحل تحتهَا النَّاس فِي الصَّيف ويبنون تحتهَا الْبيُوت، وَقد تكون مِنْهُ العشة القليلة الْفُرُوع وَالْوَرق، وللسرح عِنَب يُسمى: آآء، واحدته: آءة، يَأْكُلهُ النَّاس أَبيض، ويربون مِنْهُ الرب، وورقته صَغِيرَة عريضة تَأْكُله الْمَاشِيَة لَو تقدر عَلَيْهِ، وَلَكِن لَا تقدر لطوله وَلَا صمغ لَهُ وَلَا مَنْفَعَة فِيهِ أَكثر مِمَّا أَخْبَرتك، إلاَّ أَن ظله صَالح فَمن أجل ذَلِك قَالَ الشَّاعِر، عَنْهَا بِامْرَأَة:
فيا سرحة الركْبَان ظلك بَارِد وماؤك عذب لَا يحل لشارب وَلَيْسَ للسرح شوك. وَقَالَ أَبُو عمر: والسرح يشبه الزَّيْتُون، وروى الْفراء عَن أبي الْهَيْثَم: أَن كل شَجَرَة لَا شوك فِيهَا فَهِيَ سرحة، يُقَال: ذهب إِلَى السَّرْح، وَهُوَ أسهل من كل شَيْء، وَأَخْبرنِي أَعْرَابِي قَالَ فِي السرحة غبرة، وَهِي دون الأثل فِي الطول، وورقها صغَار. وَهِي بسيطة الأفنان قَالَ: وَهِي مائلة النبتية أبدا وميلها من بَين جَمِيع الْأَشْجَار فِي شقّ الْيَمين، وَلم أبل على هَذَا الْأَعرَابِي كذبا، وَزعم بعض الروَاة: أَن السَّرْح من نَبَات القف. وَقَالَ غَيره: من نَبَات السهل، وَهُوَ قَول الْأَصْمَعِي. وَفِي (الْمُنْتَهى) : السَّرْح شجر عِظَام طوال. وَفِي (الْجَامِع) كل شَجَرَة طَالَتْ فَهِيَ سرحة. وَفِي (الْمطَالع) : قيل: هِيَ الدفلى، وَقَالَ أَبُو عَليّ: هُوَ نبت. وَقيل: لَهَا هدب وَلَيْسَ لَهَا ورق، وَهُوَ يشبه الصُّوف.
قَوْله: (دون الرُّوَيْثَة) أَي: تحتهَا قريب مِنْهَا: والرويثة بِضَم الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، على لفظ التصغير، قَالَ الْبكْرِيّ: وَهِي قَرْيَة جَامِعَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة سَبْعَة عشر فرسخاً، وَمن الرُّوَيْثَة إِلَى السقيا عشر فراسخ، وَعقبَة العرج على أحد عشر ميلًا من الرُّوَيْثَة، بَينهَا وَبَين العرج ثَلَاثَة أَمْيَال، وَهِي غير الرُّوَيْثَة مَاء لبني عجل بَين طَرِيق الْكُوفَة وَالْبَصْرَة، وَذكره ياقوت قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ الرقشة،(4/272)
بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْقَاف وإعجام الشين. قلت: لم يذكر الْبكْرِيّ إِلَّا الرقاش، وَقَالَ: هُوَ بلد. قَوْله: (ووجاه) ، بِضَم الْوَاو وَكسرهَا الْمُقَابل، وَهُوَ عطف على (الْيَمين) ، وَيجوز بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (بطح) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الطَّاء وسكونها: أَي وَاسع. قَوْله: (حَتَّى يُفْضِي) بِالْفَاءِ من الْإِفْضَاء بِمَعْنى الْخُرُوج يُقَال: أفضيت إِذا خرجت إِلَى الفضاء أَو بِمَعْنى الدّفع كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفإذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} . أَو بِمَعْنى الْوُصُول. قلت: الضَّمِير فِي: يُفْضِي، يرجع إِلَى مَاذَا؟ قلت يرجع إِلَى الرَّسُول،، وَيجوز أَن يرجع إِلَى الْمَكَان. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض النّسخ بِلَفْظ الْخطاب. قَوْله: (دوين) ، مصغر الدون، وَهُوَ نقيض: الفوق، وَيُقَال: هُوَ دون ذَاك. أَي: قريب مِنْهُ. والبريد هُوَ الْمُرَتّب وَاحِد بعد وَاحِد، وَالْمرَاد بِهِ مَوضِع الْبَرِيد، وَالْمعْنَى: بَينه وَبَين الْمَكَان الَّذِي ينزل فِيهِ الْبَرِيد بالرويثة ميلان، وَيُقَال: المُرَاد بالبريد سكَّة الطَّرِيق. قَوْله: (فانثنى) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة على صِيغَة الْمَعْلُوم من الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ: انعطف. قَوْله: (وَهِي قَائِمَة على سَاق) أَي: كالبنيان لَيست متسعة من أَسْفَل وضيقة من فَوق.
قَوْله: (فِي طرف تلعة) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون اللَّام وَفتح الْعين الْمُهْملَة: وَهِي أَرض مُرْتَفعَة عريضة يتَرَدَّد فِيهَا السَّيْل، والتعلة: مجْرى المَاء من أَعلَى الْوَادي، والتلعة مَا انهبط من الأَرْض. وَقيل: التلعة مثل الرحبة، وَالْجمع فِي كل ذَلِك: تلع وتلاع، وَعَن صَاحب (الْعين) : التلعة: أَرض مُرْتَفعَة غَلِيظَة، وَرُبمَا كَانَت على غلظها عريضة. وَفِي (الْجَامِع) : التلعة من الْوَادي مَا اتَّسع من فوهته. وَقيل: هِيَ مسيل من الأَرْض المرتفعة إِلَى بطن الْوَادي، فَإِن صغر عَن ذَلِك فَهِيَ: شُعْبَة، فَإِذا عظم فَكَانَ نصف الْوَادي فَهِيَ: الميثاء وَعَن الرماني: الأَصْل فِي التلعة الِارْتفَاع. قَوْله: (العرج) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء ثمَّ جِيم: قَرْيَة جَامِعَة على طَرِيق مَكَّة من الْمَدِينَة بَينهَا وَبَين الرُّوَيْثَة أَرْبَعَة عشر ميلًا. قَالَ الْبكْرِيّ: قَالَ السكونِي: الْمَسْجِد النَّبَوِيّ على خَمْسَة أَمْيَال متن العرج وَأَنت ذَاهِب إِلَى هضبة عِنْدهَا قبران أَو ثَلَاثَة عَلَيْهَا رضم حِجَارَة. قَالَ كثير: إِنَّمَا سمي العرج لتعريجه، وَبَين العرج إِلَى السقيا سَبْعَة عشر ميلًا. وَقَالَ ياقوت: العرج قَرْيَة جَامِعَة من نواحي الطَّائِف، وَالْعَرج: عقبَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة على جادة الطَّرِيق، تذكر مَعَ السقيا، وسوق العرج: بلد بَين المحالب والمهجم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: العرج وَاد بِالطَّائِف، وَالْعَرج أَيْضا: منزل بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة، وَجَاء فِيهِ فتح الرَّاء أَيْضا.
قَوْله: (إِلَى هضبة) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي الْجَبَل المنبسط على وَجه الأَرْض. وَقَالَ أَبُو زيد: الهضبة من الْجبَال مَا طَال واتسع وَانْفَرَدَ، وَهِي الهضبات والهضاب، وَعَن سِيبَوَيْهٍ: وَقد قَالُوا: هضبة وهضب. وَقَالَ صَاحب (الْعين) الهضبة كل جبل خلق من صَخْرَة وَاحِدَة، وكل صَخْرَة ضخمة صلبة راسية تسمى هضبة. وَفِي (الْجَامِع) : هِيَ الْقطعَة المرتفعة من أَعلَى الْجَبَل. وَفِي (الْمُجْمل) : هِيَ أكمة ملساء قَليلَة النَّبَات. وَفِي (الْمطَالع) : هِيَ فَوق الْكَثِيب فِي الِارْتفَاع وَدون الْجَبَل. قَوْله: (رضم حِجَارَة) ، الرضم هِيَ الْحِجَارَة الْبيض، والرضمة: الصَّخْرَة الْعَظِيمَة مثل الْجَزُور وَلَيْسَت بثابتة، وَالْجمع: رضم ورضام، ورضم الْحِجَارَة جعل بَعْضهَا على بعض، وكل بِنَاء بني بصخر رضيم، ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْجَامِع) : ومرضوم، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: رضم من حِجَارَة بتحريك الضَّاد. قَوْله: (عِنْد سلمات الطَّرِيق) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللَّام فِي رِوَايَة أبي ذرة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ، بِفَتْح اللَّام. قيل: هِيَ بِالْكَسْرِ: الصخرات، وبالفتح: الشجرات. وَقَالَ أَبُو زِيَاد. من الْعضَاة السّلم، وَهُوَ سليب العيدان طولا يشبه القضبان لَيْسَ لَهُ خشب وَإِن عظم، وَله شوك دقاق طوال حَار، إِذا أصَاب رجل الْإِنْسَان وكل شَيْء من السلمة مر يدبغ بِهِ، قَالَه أَبُو حنيفَة. وَقَالَ غَيره من الروَاة: السلمة أطيب الغضاه ريحًا، وبرمتها أطيب الْبرم ريحًا، وَهِي صفراء تُؤْكَل، وَقيل: لَيْسَ شَجَرَة أردى من سَلمَة، وَلم يُوجد فِي ذرى سَلمَة صرد قطّ، وَيجمع على: أسلام، وَأَرْض مسلوم: إِذا كَانَت كَثِيرَة السّلم. وَفِي (الْجَامِع) : يجمع أَيْضا على: سلامى. قَوْله: (بَين أُولَئِكَ السلمات) ، وَفِي بعض النّسخ من أُولَئِكَ السلمات، وَهِي فِي النُّسْخَة الأولى ظَاهر التَّعَلُّق بِمَا قبله، وَفِي الثَّانِيَة بِمَا بعده. قَوْله: (بالهاجرة) وَهِي: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر.
قَوْله: (فِي مسيل) ، بِفَتْح الْمِيم: وَهُوَ الْمَكَان المنحدر. قَوْله: (دون هرشى) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة مَقْصُور، على وزن: فعلى. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جبل من بِلَاد تهَامَة، وَهُوَ على ملتقى طَرِيق الشَّام وَالْمَدينَة فِي أَرض مستوية هضبة ململمة لَا تنْبت شَيْئا، وَهِي قَرْيَة بَين الْمَدِينَة وَالشَّام قريبَة من الْجحْفَة. يرى مِنْهَا الْبَحْر وَيقرب مِنْهَا طفيل، بِفَتْح الطَّاء وَكسر الْفَاء وَهُوَ جبل أسود، على الطَّرِيق من(4/273)
ثنية هرشى ثَلَاث أَوديَة غزال وَذُو ذوران وكلية، وَكلهَا لخزاعة، وبأعلى كُلية ثَلَاثَة أجبل صغَار يُقَال لَهَا: سنابك، وغدير خم وَاد يصب فِي الْبَحْر، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: هرشى ثنية قَرْيَة من الْجحْفَة وَفِي (أَسمَاء الْجبَال) للزمخشري: هرشى هضبة دون الْمَدِينَة. وَقَالَ الشريف: على هرشى نقب فِي حرَّة بَين الأخيمصمي وَبَين السقيا على طَرِيق الْمَدِينَة، ويليه جبال يُقَال لَهَا: طوال هرشى. وَفِي (المغيث) للمديني: قيل سميت هرشى لمهارشة كَانَت بَينهم، والتهريش الْإِفْسَاد بَين النَّاس. قَوْله: (من غلوة) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: الغلوة الْغَايَة مِقْدَار رمية. وَفِي (المغيث) لَا تكون الغلوة إِلَّا مَعَ تصعيد السهْم. وَقَالَ ابْن سَيّده: غلا بِالسَّهْمِ غلواً وغلواً وغالا بِهِ غلاءً وَرفع بِهِ يَده يُرِيد أقْصَى الْغَايَة، وَهُوَ من التجاوز. وَرجل غلاء: بعيد الغلو بِالسَّهْمِ، وغلا السهْم نَفسه: ارْتَفع فِي ذَهَابه، وَجَاوَزَ المدى، وَكَذَلِكَ الْحجر، وكل مرماة: غلوة. وَالْجمع غلواة وَغَلَاء، وَقد تسْتَعْمل الغلوة فِي سباق الْخَيل. قَالَت الْفُقَهَاء: الغلوة أَرْبَعمِائَة ذِرَاع.
قَوْله: (مر الظهْرَان) زعم الْبكْرِيّ أَنه بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه، مُضَاف إِلَى: الظهْرَان، بِظَاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة: بَين مر وَالْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا. قلت: هُوَ الْوَادي الَّذِي تسميه الْعَامَّة بطن مر، وبسكون الرَّاء بعْدهَا وَاو، وَقَالَ كثير عزة سميت مرا لمرارة مَائِهَا. وَقَالَ أَبُو غَسَّان: سميت بذلك لِأَن فِي بطن الْوَادي بِئْرا ونخلة كبابة بعرق من الأَرْض أَبيض هجامر، إلاَّ أَن الْمِيم مَوْصُولَة بالراء، وببطن مر تخزعت خُزَاعَة من أخواتها فَبَقيت بِمَكَّة شرفها اتعالى، وسارت أخواتها إِلَى الشَّام أَيَّام سيل العرم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مر الظهْرَان بتهامة قريب من عَرَفَة. وَعَن صَاحب (الْعين) : الظهْرَان من قَوْلك: مر ظهْرهمْ، وَقَالَ الْفراء: لم أسمع إِلَّا بتثنيته لم يجمع وَلم يوحد. قَوْله: (قبل الْمَدِينَة) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مقابلها وجهتها. قَوْله: (من الصفراوات) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء جمع صفراء، وَهِي الأودية أَو الْجبَال بعد مر الظهْرَان.
قَوْله: (تنزل) بِلَفْظ الْخطاب ليُوَافق أَنْت. قَوْله: (بِذِي طوى) ، بِضَم الطَّاء فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بِذِي الطوى، بِزِيَادَة الْألف وَاللَّام. وَقَيده الْأصيلِيّ بِالْكَسْرِ، وَحكى عِيَاض وَغَيره الْفَتْح أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ذُو طوى، بِالْفَتْح على الْأَفْصَح، وَيجوز ضمهَا وَكسرهَا، وبفتح الْوَاو المخففة. وَفِيه لُغَتَانِ: الصّرْف وَعَدَمه، عِنْد بَاب مَكَّة بأسفلها. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ذُو طوى، بِالضَّمِّ مَوضِع بِمَكَّة وَأما طوى، فَهُوَ اسْم مَوضِع بِالشَّام تكسر طاؤه وتضم. قَوْله: (وَلَكِن أَسْفَل) بِالرَّفْع، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَبِالنَّصبِ أَي: فِي أَسْفَل.
قَوْله: (فرضتي الْجَبَل) ، وَيُقَال أَيْضا لمدخل النَّهر وفرضة الْبِئْر ثلمته الَّتِي تسقى مِنْهَا وَفِي (الْمُحكم) فرضة النَّهر مشرب المَاء مِنْهُ وَالْجمع: فرض وفراض. قَوْله: (نَحْو الْكَعْبَة) ، أَي: ناحيتها، وَهُوَ مُتَعَلق بالطويل أَو ظرف للجبل أَو بدل من الفرضة. قَوْله: (فَجعل) الظَّاهِر أَنه من كَلَام نَافِع، وفاعله: عبد ا، ويسار مفعول ثَان. قَوْله: (بِطرف الأكمة) صفة لِلْمَسْجِدِ الثَّانِي.
ذكر بَاقِي المتعلقات وَالْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: فِي ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، وَفِي الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي. وَأخرج أَبُو دَاوُد فِي (كتاب الْمَرَاسِيل) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: عَم بكير بن عبد االأشج قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَة مَسَاجِد مَعَ مَسْجِد النَّبِي يسمع أَهله تأذين بِلَال، رَضِي اتعالى عَنهُ، فيصلون فِي مَسَاجِدهمْ أقربها مَسْجِد بني عَمْرو بن مبذول، وَمَسْجِد بني سَاعِدَة، وَمَسْجِد بني عبيد، وَمَسْجِد بني سَلمَة، وَمَسْجِد بني رَايِح بن عبد الْأَشْهَل، وَمَسْجِد بني زُرَيْق، وَمَسْجِد غفار، وَمَسْجِد أسلم، وَمَسْجِد جُهَيْنَة، وَشك فِي التَّاسِع. وَفِي كتاب (أَخْبَار الْمَدِينَة) لأبي زيد عَمْرو بن شبة النميري النَّحْوِيّ الأخباري، بِسَنَد لَهُ فِي ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي بِالْمَدِينَةِ: عَن رَافع بن خديج: صلى النَّبِي، فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأحد فِي شعب الجرار على يَمِينك اللازق بِالْجَبَلِ: وَعَن أسيد بن أبي أسيد عَن أشياخه أَن النَّبِي،، دَعَا على الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ مَسْجِد الْفَتْح. وَصلى فِي الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي بِأَصْل الْجَبَل حِين تصعد الْجَبَل: وَعَن عمَارَة ابْن أبي الْيُسْر: صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْأَسْفَل. وَعَن جَابر: دَعَا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فِي الْمَسْجِد الْمُرْتَفع وَرفع يَدَيْهِ مدا، وَعَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني خدارة، وَعَن عَمْرو بن قَتَادَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى لَهُم فِي مَسْجِد فِي بني أُميَّة من الْأَنْصَار، وَكَانَ فِي مَوضِع الخربتين اللَّتَيْنِ عِنْد مَال نهيك. وَعَن الْأَعْرَج أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى على ذُبَاب وَهُوَ: جبل بِالْمَدِينَةِ، بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وبالبائين الموحدتين،(4/274)
وَفِي لفظٍ كَانَ ضرب قُبَّته يَوْم الخَنْدَق عَلَيْهِ، وَعَن جَابر بن أُسَامَة قَالَ: خطّ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَسْجِد جُهَيْنَة لَيْلًا، وَفِي لفظٍ (وَصلى فِيهِ) ، وَعَن سعد بن إِسْحَاق: (إِن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني سَاعِدَة الْخَارِج من بيُوت الْمَدِينَة، وَفِي مَسْجِد بني بياضة وَفِي مَسْجِد بني الحبلى وَمَسْجِد بني عصية) . وَعَن الْعَبَّاس بن سهل أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني سَاعِدَة، وَعَن يحيى بن سعد: (كَانَ النَّبِي يخْتَلف إِلَى مَسْجِد أبي فَيصَلي فِيهِ غير مرّة أَو مرَّتَيْنِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَن يمِيل النَّاس إِلَيْهِ لأكثرت الصَّلَاة فِيهِ) . وَعَن يحيى بن النضرة: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد أبي بن كَعْب فِي بني جديلة وَمَسْجِد بني عمر بن مبذول وَمَسْجِد بني دِينَار وَمَسْجِد النَّابِغَة وَمَسْجِد ابْن عدي، وَجلسَ فِي كَهْف سلع: وَعَن هِشَام بن عُرْوَة: (أَن النَّبِي، صلى فِي مَسْجِد بلحارث بن الْخَزْرَج وَمَسْجِد السخ وَمَسْجِد بني خطمة وَمَسْجِد الفضيح وَفِي صَدَقَة الزبير وَفِي بني محمم وَفِي بَيت صرمة فِي بني عدي) .
وَعَن الْحَارِث بن سعيد: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني حَارِثَة وَبني ظفر وَبني عبد الْأَشْهَل) . وَعَن اسماعيل بن حَبِيبَة (إِن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد واقم) . وَعَن ابْن عمر: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد بني مُعَاوِيَة) . وَعَن كَعْب بن عجْرَة: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد عَاتِكَة فِي بني سَالم) . وَعَن جَابر: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد الخربة، وَمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ وَمَسْجِد بني حزَام الَّذِي بالقاع) . وَعَن مُحَمَّد بن عتبَة بن أبي مَالك: (أَن النَّبِي، صلى فِي صدقته) . وَعَن يحيى بن إِبْرَاهِيم: (أَن النَّبِي، فِي مَسْجِد رَايِح) . وَعَن زيد بن سعد: (أَن النَّبِي صلى فِي حَائِط أبي الْهَيْثَم) . وَعَن جَابر: (أَن النَّبِي صلى الظّهْر يَوْم أحد على عينين) . وَعَن عَليّ بن رَافع: (أَن النَّبِي، صلى فِي بَيت امْرَأَة من الْخضر، فَأدْخل ذَلِك فِي الْبَيْت فِي مَسْجِد بني قُرَيْظَة) . وَعَن سَلمَة الخطمي: (أَن النَّبِي، صلى فِي بَيت المقعدة عِنْد مَسْجِد وَائِل فِي مَسْجِد العجوزة) . وَعَن أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي، عرض الْمُسلمين بالسقيا الَّتِي بِالْحرَّةِ مُتَوَجها إِلَى بدر وَصلى بهَا) .
وَعَن الْمطلب: (أَن النَّبِي صلى فِي بني سَاعِدَة، وَصلى فِي الْمَسْجِد الَّذِي عِنْد السخين وَبَات فِيهِ وَهُوَ الَّذِي عِنْد (البَائِع)) . وَعَن هِشَام: (أَن النَّبِي صلى فِي مَسْجِد الشَّجَرَة بالمعرس) . وَعَن أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي، صلى فِي مَسْجِد الشَّجَرَة) . وَعَن ربيعَة بن عُثْمَان: (أَن النَّبِي صلى فِي بَيت إِلَى جنب مَسْجِد بني خدرة) . قَالَ أَبُو غَسَّان: قَالَ لي غير وَاحِد من أهل الْعلم: إِن كل مَسْجِد من مَسَاجِد الْمَدِينَة ونواحيها مَبْنِيّ بِالْحِجَارَةِ المنقوشة الْمُطَابقَة فقد صلى فِيهِ النَّبِي، وَذكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز حِين بنى مَسْجِد النَّبِي سَأَلَ، وَالنَّاس يَوْمئِذٍ متوافرون، عَن الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي فِي دَار الشفا عَن يَمِين من دخل الدَّار، وَصلى فِي دَار بسرة بنت صَفْوَان، وَفِي دَار عَمْرو بن أُميَّة الضمرى. قلت: قد اندرس أَكثر هَذِه الْمَسَاجِد وَبَقِي من الْمَشْهُور الْآن مَسْجِد قبا، وَمَسْجِد بني قُرَيْظَة، ومشربة أم إِبْرَاهِيم وَهِي شمَالي مَسْجِد قُرَيْظَة، وَمَسْجِد بني ظفر، شَرْقي البقيع وَيعرف: بِمَسْجِد البغلة، وَمَسْجِد بني مُعَاوِيَة وَيعرف بِمَسْجِد الْإِجَابَة، وَمَسْجِد الْفَتْح قريب من جبل سلع، وَمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ فِي بني سَلمَة.
الْوَجْه الثَّانِي فِي بَيَان وَجه تتبع عبد ابْن عمر الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا رَسُول ا، وَهُوَ أَنه يسْتَحبّ التتبع لآثار النَّبِي والتبرك بهَا، وَلم يزل النَّاس يتبركون بمواضع الصَّالِحين. وَقد روى شُعْبَة عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد، قَالَ: كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي اعنه، فِي سفر فصلى الْغَدَاة ثمَّ أَتَى على مَكَان فَجعل النَّاس يأتونه وَيَقُولُونَ: صلى فِيهِ النَّبِي. فَقَالَ عمر: إِنَّمَا هلك أهل الْكتاب، إِنَّهُم كَانُوا اتبعُوا آثَار أَنْبِيَائهمْ فاتخذوا كنائس وبيعاً، فَمن عرضت لَهُ الصَّلَاة فَليصل، وَإِلَّا فليمض. قَالُوا: أما مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه ذكر ذَلِك فَلِأَنَّهُ خشِي أَن يلْتَزم النَّاس الصَّلَاة فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع، فيشكل ذَلِك على من يَأْتِي بعدهمْ، وَيرى ذَلِك وَاجِبا. وَكَذَا يَنْبَغِي للْعَالم إِذا رأى النَّاس يلبتزمون النَّوَافِل التزاماً شَدِيدا أَن يترخص فِيهَا فِي بعض المرات وَيَتْرُكهَا ليعلم بِفِعْلِهِ، ذَلِك أَنَّهَا غير وَاجِبَة، كَمَا فعل ابْن عَبَّاس فِي ترك الْأُضْحِية.
الْوَجْه الثَّالِث: فِيمَا نقل عَن الْفُقَهَاء فِي ذَلِك، روى أَشهب عَن مَالك أَنه سُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا الشَّارِع؟ فَقَالَ: مَا يُعجبنِي(4/275)
ذَلِك إِلَّا فِي مَسْجِد قبا لِأَنَّهُ،، كَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وماشياً وَلم يفعل ذَلِك فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَة. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: إِن الْمَسَاجِد الَّتِي ثَبت أَن رَسُول الله صلى فِيهَا لَو انذر أحد الصَّلَاة فِي شَيْء مِنْهَا تعين كَمَا تعين الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة.
أبْوَابُ سُترَةِ المُصَلِّي 09
(بابٌ سُتْرَةُ الإِمامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَون ستْرَة الإِمَام الَّذِي يُصَلِّي وَلَيْسَ بَين يَدَيْهِ جِدَار وَنَحْوه ستْرَة لمن كَانَ يُصَلِّي خَلفه من الْمُصَلِّين. والسترة، بِضَم السِّين: مَا يستر بِهِ، وَالْمرَاد هَهُنَا عكازة أَو عَصا أَو عنزة، وَنَحْو ذَلِك. وَفِي بعض النّسخ قبل قَوْله بَاب ستْرَة الإِمَام، أيواب ستْرَة الْمُصَلِّي. أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام ستْرَة الْمُصَلِّي.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْأَبْوَاب والأبواب الَّتِي قبلهَا من حَيْثُ أَن الْأَبْوَاب السَّابِقَة فِي أَحْكَام الْمَسَاجِد بوجوهها، وَهَذِه الْأَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمُصَلِّين فِي غَيرهَا. وَهِي خَمْسَة أَبْوَاب متناسقة.
142 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ أَقبلت رَاكِبًا على حمَار أتان وَأَنا يَوْمئِذٍ قد ناهزت الِاحْتِلَام وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بمنى إِلَى غير جِدَار فمررت بَين يَدي بعض الصَّفّ فَنزلت وَأرْسلت الأتان ترتع وَدخلت فِي الصَّفّ فَلم يُنكر ذَلِك عَليّ أحد) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تستنبط من قَوْله إِلَى غير جِدَار لِأَن هَذَا اللَّفْظ مشْعر بِأَن ثمَّة ستْرَة لِأَن لفظ غير يَقع دَائِما صفة وَتَقْدِيره إِلَى شَيْء غير جِدَار وَهُوَ أَعم من أَن يكون عَصا أَو عنزة أَو نَحْو ذَلِك وَقَالَ بَعضهم فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث نظر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى إِلَى ستْرَة وَقد بوب عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ بَاب من صلى إِلَى غير ستْرَة (قلت) دَلِيله لَا يساعد نظره لِأَنَّهُ لم يقف على دقة الْكَلَام وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا لم يقف على هَذِه النُّكْتَة وَالْبُخَارِيّ دقق نظره فأورد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ على أَن ذَلِك مَعْلُوم من حَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد قد تقدم فِي كتاب الْعلم فِي بَاب مَتى يَصح سَماع الصَّغِير غير أَن هُنَاكَ شَيْخه إِسْمَاعِيل عَن مَالك وَهَهُنَا عبد الله بن يُوسُف عَنهُ وَهُنَاكَ حَدثنِي مَالك وَهَهُنَا أخبرنَا مَالك وَهُنَاكَ فَلم يُنكر ذَلِك على صِيغَة الْمَجْهُول مَعَ طي ذكر الْفَاعِل وَهَهُنَا على صِيغَة الْمَعْلُوم وَالْفَاعِل هُوَ قَوْله أحد وَقد ذكرنَا مبَاحث هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ مستوفاة
143 - (حَدثنَا إِسْحَاق قَالَ حَدثنَا عبد الله بن نمير قَالَ حَدثنَا عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا خرج يَوْم الْعِيد أَمر بالحربة فتوضع بَين يَدَيْهِ فَيصَلي إِلَيْهَا وَالنَّاس وَرَاءه وَكَانَ يفعل فِي السّفر فَمن ثمَّ اتخذها الْأُمَرَاء) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة (فَإِن قلت) كَيفَ الظُّهُور والترجمة فِي أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك (قلت) يدل على ذَلِك من وُجُوه ثَلَاثَة. الأول أَنه لم ينْقل وجود ستْرَة لأحد من الْمَأْمُومين وَلَو كَانَ ذَلِك لنقل لتوفر الدَّوَاعِي على نقل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَدلَّ ذَلِك على أَن سترته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت ستْرَة لمن خَلفه. الثَّانِي أَن قَوْله " فَيصَلي إِلَيْهَا وَالنَّاس وَرَاءه " يدل على دُخُول النَّاس فِي الستْرَة لأَنهم تابعون للْإِمَام فِي جَمِيع مَا يَفْعَله. الثَّالِث أَن قَوْله وَرَاءه يدل على أَنهم كَانُوا وَرَاء الستْرَة أَيْضا إِذْ لَو كَانَت لَهُم ستْرَة لم يَكُونُوا وَرَاءه بل كَانُوا وَرَاءَهَا وَقد نقل القَاضِي عِيَاض الِاتِّفَاق على أَن الْمَأْمُومين يصلونَ إِلَى ستْرَة يَعْنِي بِهِ ستْرَة الإِمَام وَقَالَ وَلَكِن اخْتلفُوا هَل سترتهم ستْرَة الإِمَام أَو سترتهم الإِمَام نَفسه وَقَالَ بَعضهم فِيهِ نظر لما رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ الصَّحَابِيّ أَنه صلى بِأَصْحَابِهِ فِي سفر وَبَين يَدَيْهِ ستْرَة فمرت حمير بَين يَدي أَصْحَابه فَأَعَادَ بهم الصَّلَاة وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لَهُم " إِنَّهَا(4/276)
لم تقطع صَلَاتي وَلَكِن قطعت صَلَاتكُمْ " (قلت) لَا يرد هَذَا على مَا نَقله عِيَاض من الِاتِّفَاق لاحْتِمَال أَنه لم يقف على قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَذَا روى عَن ابْن عمر أخرجه عبد الرَّزَّاق مَوْقُوفا عَلَيْهِ على أَن الرِّوَايَة عَن الحكم مُخْتَلفَة وَمَعَ هَذَا لَا يُقَاوم مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَيظْهر أثر هَذَا الْخلاف الَّذِي نَقله عِيَاض فِيمَا لَو مر بَين يَدي الإِمَام أحد فعلى قَول من يَقُول أَن الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه تضر صلَاته وصلاتهم وعَلى قَول من يَقُول أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة من خَلفه تضر صلَاته وَلَا تضر صلَاتهم (قلت) ستْرَة الإِمَام ستْرَة مُطلقًا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فَإِذا وجدت ستْرَة لَا تضر صَلَاة الإِمَام وَلَا صَلَاة الْمَأْمُوم. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول اسحق قَالَ أَبُو عَليّ الجياني لم أجد اسحق هَذَا مَنْسُوبا من الروَاة وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض النّسخ اسحق بن مَنْصُور (قلت) كَذَا جزم بِهِ أَبُو نعيم وَخلف. الثَّانِي عبد الله بن نمير بِضَم النُّون وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب أَبُو عُثْمَان الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي توفّي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين كوفيين ومدنيين وَفِيه أَن شَيْخه الرَّاوِي عَن ابْن نمير غير مَنْسُوب (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال عَن عبد الله بن نمير. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَمر بالحربة " أَي خادمه بِأخذ الحربة وللبخاري فِي الْعِيدَيْنِ من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن نَافِع " كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمصلى والعنزة تحمل وتنصب بَين يَدَيْهِ فَيصَلي إِلَيْهَا " وَزَاد ابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة والإسماعيلي " وَذَلِكَ أَن الْمصلى كَانَ فضاء لَيْسَ فِيهِ شَيْء يستره " قَوْله " وَالنَّاس " بِالرَّفْع عطف على فَاعل يُصَلِّي ووراءه مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة قَوْله " ذَلِك " أَي الْأَمر بالحربة والوضع بَين يَدَيْهِ وَالصَّلَاة إِلَيْهَا لم يكن مُخْتَصًّا بِيَوْم الْعِيد قَوْله " فَمن ثمَّ " بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي فَمن أجل ذَلِك اتخذ الحربة الْأُمَرَاء وَهُوَ الرمْح العريض النصل يخرج بهَا بَين أَيْديهم فِي الْعِيد وَنَحْوه وَهَذِه الْجُمْلَة أَعنِي قَوْله فَمن ثمَّ اتخذها الْأُمَرَاء من كَلَام نَافِع كَمَا أخرجه ابْن مَاجَه بِدُونِ هَذِه الْجُمْلَة فَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الصَّباح أخبرنَا عبد الله بن رَجَاء الْمَكِّيّ عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج لَهُ حَرْبَة فِي السّفر فينصبها فَيصَلي إِلَيْهَا " (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ الِاحْتِيَاط وَأخذ آلَة دفع الْأَعْدَاء سِيمَا فِي السّفر. وَفِيه جَوَاز الِاسْتِخْدَام وَأمر الْخَادِم. وَفِيه أَنه ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه وَادّعى بَعضهم فِيهِ الْإِجْمَاع نَقله ابْن بطال قَالَ الستْرَة عِنْد الْعلمَاء سنة مَنْدُوب إِلَيْهَا وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ ستْرَة الْمَأْمُوم ستْرَة إِمَامه فَلَا يضر الْمُرُور بَين يَدَيْهِ لِأَن الْمَأْمُوم تعلّقت صلَاته بِصَلَاة إِمَامه قَالَ وَلَا خلاف أَنه الستْرَة مَشْرُوعَة إِذا كَانَ فِي مَوضِع لَا يَأْمَن الْمُرُور بَين يَدَيْهِ وَفِي الْأَمْن قَولَانِ عِنْد مَالك وَعند الشَّافِعِي مَشْرُوعَة مُطلقًا لعُمُوم الْأَحَادِيث وَلِأَنَّهَا تصون الْبَصَر قَالَ فَإِن كَانَ فِي الفضاء فَهَل يُصَلِّي إِلَى غير ستْرَة أجَازه ابْن الْقَاسِم لحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور وَقَالَ الْمطرف وَابْن الْمَاجشون لَا بُد من ستْرَة وَذكر عَن عُرْوَة وَعَطَاء وَسَالم وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالْحسن أَنهم كَانُوا يصلونَ فِي الفضاء إِلَى غير ستْرَة (قلت) قَالَ مُحَمَّد يسْتَحبّ لمن يُصَلِّي فِي الصَّحرَاء أَن يكون بَين يَدَيْهِ شَيْء مثل عَصا وَنَحْوهَا فَإِن لم يجد يسْتَتر بشجرة وَنَحْوهَا (فَإِن قلت) الحربة الْمَذْكُورَة هَل لَهَا حد فِي الطول وَمَا الْمُعْتَبر فِي طول الستْرَة (قلت) قَالَ أَصْحَابنَا مقدارها ذِرَاع فَصَاعِدا وَأخذُوا ذَلِك بِحَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا جعلت بَين يَديك مثل مؤخرة الرحل فَلَا يَضرك من يمر بَين يَديك " رَوَاهُ مُسلم وَذكر شيخ الْإِسْلَام فِي مبسوطه من حَدِيث أبي جُحَيْفَة الْآتِي ذكره أَن مِقْدَار العنزة طول ذِرَاع فِي غلظ أصْبع وَيُؤَيّد هَذَا قَول ابْن مَسْعُود يجزىء من الستْرَة السهْم وَفِي الذَّخِيرَة طول السهْم ذِرَاع وَعرضه قدر أصْبع وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَت الستْرَة أقل من ذِرَاع وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام لَو وضع قناة أَو جعبة بَين يَدَيْهِ وارتفع قدر ذِرَاع كَانَت ستْرَة بِلَا خلاف وَإِن كَانَت دونه فَفِيهِ خلاف وَفِي(4/277)
غَرِيب الرِّوَايَة النَّهر الْكَبِير لَيْسَ بسترة كالطريق وَكَذَا الْحَوْض الْكَبِير وَقَالَت الْمَالِكِيَّة تجوز القلنسوة الْعَالِيَة والوسادة بِخِلَاف السَّوْط وَجوز فِي الْعُتْبِيَّة الستْرَة بِالْحَيَوَانِ الطَّاهِر بِخِلَاف الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وَجوز بِظهْر الرجل وَمنع بِوَجْهِهِ وَتردد فِي جنبه وَمنع بِالْمَرْأَةِ وَاخْتلفُوا فِي الْمَحَارِم وَلَا يسْتَتر بنائم وَلَا مَجْنُون ومأبون فِي دبره وَلَا كَافِر انْتهى. -
594441 - ح دّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ عَوْنِ بنِ أبي جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبي أنَّ النبيَّ صَلى بِهِمْ بالبَطْحَاءِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنْزَةٌ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ تمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ المَرْأةُ وَالحِمَارُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن حجاج. الثَّالِث: عون بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو حنيفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء، مر فِي كتاب الْعلم واسْمه: وهب بن عبد االسوائي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْمُضَارع الْمُفْرد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن آدم. وَأخرجه مطولا ومختصراً فِي بَاب اسْتِعْمَال وضوء النَّاس، وَفِي ستر الْعَوْرَة، وَفِي الآذان، وَفِي صفة النَّبِي فِي موضِعين، وَفِي اللبَاس فِي موضِعين، وَأخرجه أَيْضا بعد بَابَيْنِ فِي بَاب الصَّلَاة إِلَى العنزة، وَفِي بَاب الستْرَة بِمَكَّة وَغَيرهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة. وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد والترمزي وَابْن ماجة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْأَحْمَر.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: قَوْله: (بالبطحاء) أَي: بطحاء مَكَّة، وَيُقَال لَهَا: الأبطح أَيْضا. قَوْله: (وَبَين يَدَيْهِ عنزة) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (الظّهْر) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: صلى. قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) نصب إِمَّا على أَنه حَال، وَإِمَّا على أَنه بدل من الظّهْر، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: (وَالْعصر رَكْعَتَيْنِ) . قَوْله: (تمر بَين الْمَرْأَة وَالْحمار) ، جملَة وَقعت حَالا، وَالْجُمْلَة الفعلية إِذا وَقعت حَالا وَكَانَ فعلهَا مضارعاً يجوز فِيهَا الْوَاو وَتركهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جعل الستْرَة بَين يَدَيْهِ إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء. وَفِيه: أَن مُرُور الْمَرْأَة وَالْحمار لَا يقطع الصَّلَاة، وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء، وَرُوِيَ عَن أنس وَمَكْحُول وَأبي الْأَحْوَص وَالْحسن وَعِكْرِمَة: يقطع الصَّلَاة الْكَلْب وَالْحمار وَالْمَرْأَة. وَعَن ابْن عَبَّاس: يقطع الصَّلَاة الْكَلْب الْأسود وَالْمَرْأَة الْحَائِض. وَعَن عِكْرِمَة يقطع الصَّلَاة الْكَلْب وَالْحمار وَالْخِنْزِير وَالْمَرْأَة واليهودي وَالنَّصْرَانِيّ والمجوسي. وَعَن عَطاء: لَا يقطع الصَّلَاة إِلَّا الْكَلْب الْأسود وَالْمَرْأَة الْحَائِض. وَعَن أَحْمد، فِي الْمَشْهُور عَنهُ: يقطع الصَّلَاة مُرُور الْكَلْب الْأسود البهيم. وَفِي رِوَايَة: يقطعهَا أَيْضا الْحمار وَالْمَرْأَة وَالْكَلب البهيم الَّذِي لَا يخالط لَونه لون آخر. وَفِي (جَامع شمس الْأَئِمَّة) : تفْسد الصَّلَاة بمرور الْمَرْأَة بَين يَدَيْهِ. وَفِي (الْكَافِي) : عِنْد أهل الْعرَاق تفْسد بمرور الْكَلْب وَالْمَرْأَة وَالْحمار وَالْخِنْزِير. والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة على من يَقُول بِقطع الصَّلَاة بمرور الْمَرْأَة وَالْحمار، وَالْحجّة على من يرى بِقطع الصَّلَاة بالأشياء الْمَذْكُورَة من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وادرؤا مَا اسْتَطَعْتُم فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان) . وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر وَأبي أُمَامَة وَأنس وَجَابِر، فَحَدِيث ابْن عمر عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَحَدِيث أبي أُمَامَة وَأنس أَيْضا عِنْده، وَحَدِيث جَابر عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . قلت: أما حَدِيث الْخُدْرِيّ فَفِيهِ مقَال، وَأما حَدِيث ابْن عمر وَأبي أَمَانَة وَأنس، فَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَصح مِنْهَا شَيْء. وَأما حَدِيث جَابر فَفِيهِ عِيسَى بن مَيْمُون، قَالَ ابْن حبَان: لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ، ومستند الْمَذْكُورين مَا رَوَاهُ مُسلم: عَن عبد اابن الصَّامِت عَن أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (تقطع صَلَاة الرجل إِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ كأخرة الرحل الْمَرْأَة وَالْحمار وَالْكَلب الْأسود. قلت مَا بَال الْأسود من الْأَحْمَر؟ قَالَ: يَا أَبَا أخي، سَأَلت رَسُول الله كَمَا سأاتني فَقَالَ: الْكَلْب الْأسود شَيْطَان) . وَحجَّة الْعَامَّة مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي وَأَنا مُعْتَرضَة بَين يَدَيْهِ كاعتراض الْجِنَازَة) . وَقد رُوِيَ هَذَا بِوُجُود مُخْتَلفَة، مِنْهَا مَا فِيهِ: وَأَنا حزاءه، وَأَنا حَائِض. وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن اعْتِرَاض(4/278)
الْمَرْأَة خُصُوصا الْحَائِض بَين الْمُصَلِّي وَبَين الْقبْلَة لَا يقطع الصَّلَاة، فالمارة بطرِيق الأولى. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) بَاب من قَالَ الْحمار لَا يقطع الصَّلَاة. وَبَوَّبَ أَيْضا بَاب من قَالَ الْكَلْب لَا يقطع الصَّلَاة، ثمَّ روى عَن الْفضل بن عَبَّاس قَالَ: (أَتَانَا رَسُول الله وَنحن فِي بادية وَمَعَهُ عَبَّاس، فصلى فِي صحراء لَيْسَ بَين يَدَيْهِ ستْرَة وحمارة، لنا وكلبة تعبثان بَين يَدَيْهِ، فَمَا بالى ذَلِك) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَتَأَول الْجُمْهُور الْقطع الْمَذْكُور فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة على قطع الْخُشُوع، جمعا بَين الْأَحَادِيث. فَإِن قلت: قلت: هَذَا جيد فِيمَا إِذا كَانَت الْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي هَذَا الْبَاب مستوية الْأَقْدَام، وَأما إِذا قُلْنَا: أَحَادِيث الْجُمْهُور أقوى وَأَصَح من أَحَادِيث من خالفهم فالأخذ بالأقوى أولى وَأقوى: فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْقصار: من قَالَ: إِن الْحمار يقطع الصَّلَاة؟ قَالَ: إِن مُرُور حمَار عبد اكان خلف الإِمَام بَين يَدي بعض الصَّفّ، وَالْإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. قلت: رد هَذَا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّار أَن الْمُرُور كَانَ بَين يَدَيْهِ: فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث سعيد بن غَزوَان عَن أَبِيه أَنه نزل بتبوك وَهُوَ حَاج، فَإِذا بِرَجُل مقْعد فَسَأَلَهُ عَن أمره فَقَالَ: سأحدثك بِحَدِيث فَلَا تحدث بِهِ مَا سَمِعت، إِنِّي حَيّ: أَن رَسُول الله نزل بتبوك إِلَى نَخْلَة فَقَالَ: هَذِه قبلتنا، ثمَّ صلى إِلَيْهَا. فَأَقْبَلت وَأَنا غُلَام أسعى حَتَّى مَرَرْت بَينه وَبَينهَا فَقَالَ: قطع صَلَاتنَا قطع اأثره، فَمَا قُمْت عَلَيْهَا إِلَى يومي هَذَا. قلت: قَوْله: عَلَيْهَا، أَي: على رجْلي وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لوُجُود الْقَرِينَة. قلت: أَبُو دَاوُد سكت عَنهُ. وَقَالَ غير حَدِيث واهٍ، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَهُوَ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، لِأَن ذَلِك كَانَ بتبوك وَحَدِيثه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع بعْدهَا. وَا أعلم. وَفِيه: جَوَاز قصر الصَّلَاة الرّبَاعِيّة، بل هُوَ أفضل من الْإِتْمَام، وَهل هُوَ رخصَة أَو عَزِيمَة؟ فِيهِ خلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.
19 - (بابُ قَدْرِ كِمْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَيْنَ المُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قدركم ذِرَاع يَنْبَغِي أَن يكون بَين الْمُصَلِّي والسترة؟ وَقد علم أَن لَفْظَة: كم، سَوَاء كَانَت إستفهامية أَو خبرية لَهَا صدر الْكَلَام، وَإِنَّمَا قدم لفظ: قدر، عَلَيْهَا لِأَن الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ فِي حكم كلمة وَاحِدَة. ومميز: كم، مَحْذُوف، لِأَن الْفِعْل لَا يَقع مُمَيّزا، وَالتَّقْدِير: كم زراع وَنَحْوه، كَمَا ذكرنَا: (وَالْمُصَلي) ، بِكَسْر اللَّام: اسْم فَاعل. قيل: يحْتَمل أَن يكون بِفَتْح اللَّام، أَي: الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ. قلت: هَذَا احْتِمَال أَخذه قائلة من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: الحَدِيث دلّ على الْقدر الَّذِي بَين الْمُصَلِّي بِفَتْح اللَّام والسترة، والترجمة بِكَسْر اللَّام؟ قلت: مَعْنَاهُمَا متلازمان. انْتهى. قلت: لَا يلْزم من تلازمهما عقلا اعْتِبَار الْمِقْدَار، لِأَن اعْتِبَار الْمِقْدَار بَين الْمُصَلِّي وَبَين الستْرَة لَا بَينهَا وَبَين الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ.
145 - (حَدثنَا عَمْرو بن زُرَارَة قَالَ أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه عَن سهل قَالَ كَانَ بَين مصلى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين الْجِدَار ممر الشَّاة) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول عَمْرو بِالْوَاو بن زُرَارَة بِضَم الزَّاي ثمَّ بالراء قبل الْألف وَبعدهَا هَاء أَبُو مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ الثَّانِي عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم الثَّالِث أَبوهُ حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي اسْمه سَلمَة بن دِينَار وَقد تقدم فِي بَاب غسل الْمَرْأَة أَبَاهَا الرَّابِع سهل بن سعد السَّاعِدِيّ وَقد تقدم فِيهِ أَيْضا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل وَفِيه عَن أَبِيه وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد والإسماعيلي أَخْبرنِي أبي وَفِيه سهل غير مَنْسُوب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن سهل بن سعد. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي والقعنبي (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " بَين مصلى " بِفَتْح اللَّام وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ وَالْمرَاد بِهِ مقَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد قَالَ حَدثنَا القعْنبِي والنفيلي قَالَ حَدثنَا عبد الْعَزِيز هُوَ ابْن أبي حَازِم قَالَ أَخْبرنِي أبي عَن سهل قَالَ " كَانَ بَين مقَام النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين الْقبْلَة ممر العنز " وَقَالَ الْكرْمَانِي المُرَاد بالمصلى مَوضِع الْقدَم (قلت) يتَنَاوَل ذَلِك مَوضِع الْقدَم وَمَوْضِع السُّجُود أَيْضا قَوْله " ممر الشَّاة " وَهُوَ مَوضِع مرورها وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر كَانَ وَالِاسْم قدر الْمسَافَة أَو الْمَمَر والسياق يدل عَلَيْهِ كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي ثمَّ قَالَ وَفِي بَعْضهَا بِالرَّفْع (قلت) وَجه الرّفْع أَن تكون كَانَ تَامَّة وَيكون ممر الشَّاة(4/279)
اسْمهَا وَلَا يحْتَاج إِلَى خبر أَو تكون نَاقِصَة وَالْخَبَر هُوَ الظّرْف وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " ممر العنز " كَمَا ذَكرْنَاهُ والعنز هُوَ الماعز (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ إِن بعض الْمَشَايِخ حمل حَدِيث ممر الشَّاة على مَا إِذا كَانَ قَائِما وَحَدِيث بِلَال رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما صلى فِي الْكَعْبَة جعل بَينه وَبَين الْقبْلَة قَرِيبا من ثَلَاث أَذْرع على مَا إِذا ركع أَو سجد قَالَ وَلم يحد مَالك فِي هَذَا حدا إِلَّا أَن ذَلِك بِقدر مَا يرْكَع فِيهِ وَيسْجد ويتمكن من دفع من يمر بَين يَدَيْهِ وَقَيده بعض النَّاس بشبر وَآخَرُونَ بِثَلَاثَة أَذْرع وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَهُوَ قَول عَطاء وَآخَرُونَ بِسِتَّة أَذْرع وَذكر السفاقسي قَالَ أَبُو اسحق رَأَيْت عبد الله بن مُغفل يُصَلِّي بَينه وَبَين الْقبْلَة سِتَّة أَذْرع وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح نَحوه وَقد استقصينا الْكَلَام فِي الْبَاب السَّابِق
146 - (حَدثنَا الْمَكِّيّ قَالَ حَدثنَا يزِيد بن أبي عبيد عَن سَلمَة قَالَ كَانَ جِدَار الْمَسْجِد عِنْد الْمِنْبَر مَا كَادَت الشَّاة تجوزها) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يقوم بِجنب الْمِنْبَر لِأَنَّهُ لم يكن لمَسْجِد محراب فَتكون مَسَافَة مَا بَينه وَبَين الْجِدَار نَظِير مَا بَين الْمِنْبَر والجدار فَكَأَنَّهُ قَالَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون بَين الْمُصَلِّي وسترته قدر مَا كَانَ بَين منبره والجدار القبلي وَقيل غير ذَلِك تَرَكْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا طائل تَحْتَهُ. (ذكر رِجَاله) وهم ثَلَاثَة قد سبقوا بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي بَاب اسْم من كذب على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَلَمَة بِفَتْح اللَّام هُوَ ابْن الْأَكْوَع الصَّحَابِيّ وَهَذَا من ثلاثيات البُخَارِيّ رَضِي الله عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحدي بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن اسْم شيخ البُخَارِيّ على صُورَة النِّسْبَة إِلَى مَكَّة والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا وَهُوَ مَوْقُوف على سَلمَة وَلَكِن فِي الأَصْل مَرْفُوع يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي عَاصِم عَن يزِيد بن أبي عبيد بِلَفْظ " كَانَ الْمِنْبَر على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ بَينه وَبَين حَائِط الْقبْلَة إِلَّا قدر مَا يمر العنز ". (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " الْمَسْجِد " أَي مَسْجِد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " عِنْد الْمِنْبَر " من تَتِمَّة اسْم كَانَ أَي الْجِدَار الَّذِي كَانَ عِنْد مِنْبَر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخبر كَانَ الْجُمْلَة أَعنِي قَوْله مَا كَادَت الشَّاة " تجوزها " وَيجوز أَن يكون الْخَبَر هُوَ قَوْله " عِنْد الْمِنْبَر " وَقَوله " مَا كَادَت الشَّاة " استئنافا تَقْدِيره إِذا كَانَ الْجِدَار عِنْد الْمِنْبَر فَمَا مِقْدَار الْمسَافَة بَينهمَا فَأجَاب مَا كَادَت الشَّاة تجوزها أَي مِقْدَار مَا كَادَت الشَّاة تجوز الْمسَافَة وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن سوق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ ثمَّ اعْلَم أَن كَاد من أَفعَال المقاربة وَخَبره يكون فعلا مضارعا بِغَيْر أَن كَمَا فِي هَذِه الرِّوَايَة ويروى أَن تجوزها (فَإِن قلت) مَا وَجه دُخُول أَن (قلت) قد تدخل أَن على خبر كَاد كَمَا تحذف من خبر عَسى إِذْ هما أَخَوان يتعارضان (فَإِن قلت) إِذا دخل حرف النَّفْي على كَاد يكون النَّفْي كَمَا فِي سَائِر الْأَفْعَال فَمَا حكمه هَهُنَا (قلت) الْقَوَاعِد النحوية تَقْتَضِي النَّفْي والموافق هَهُنَا الْإِثْبَات للْحَدِيث الأول وَهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله يدلان على أَن الْقرب من الستْرَة مَطْلُوب وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك لَيْسَ من الصَّوَاب أَن يُصَلِّي وَبَينه وَبَين الستْرَة صفان وروى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه تبَاعد عَن سترته وَأَن شخصا قَالَ لَهُ أَيهَا الْمُصَلِّي أَلا تَدْنُو من سترتك فَمشى الإِمَام إِلَيْهَا وَهُوَ يَقُول {وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} -
29 - (بابُ الصَلاَةِ إلَى الحَرْبَةِ)
أَي: بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة إِلَى جِهَة الحربة المركوزة بَينه وَبَين الْقبْلَة، وَقد بَينا أَن الحربة وَهِي: دون الرمْح العريض النصل، وَقَالَ أهل السّير، كَانَت للنَّبِي حَرْبَة دون الرمْح يُقَال لَهَا العنزة، فَكَأَنَّهَا بالغلبة صَارَت علما لَهَا.
147 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن عبيد الله أَخْبرنِي نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يركز لَهُ الحربة فَيصَلي إِلَيْهَا)(4/280)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة سَاق هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب السَّابِق وَذكره هَهُنَا مُخْتَصرا. وَيحيى هُوَ الْقطَّان وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب قَوْله " يركز " من الركز بالزاي فِي آخِره وَهُوَ الغرز فِي الأَرْض -
39 - (بابُ الصَّلاَةِ إِلَى العَنَزَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة إِلَى جِهَة العنزة المركوزة بَينه وَبَين الْقبْلَة، وَقد مر تَفْسِير العنزة.
994841 - حدّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدّثنا عَوْنُ بنُ أبي جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ خرَجَ عَلَيْنَا رسولُ ااِ بالهَاجِرَةِ فأُتَيَ بِوضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ والعَصْرَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنْزَةٌ وَالمَرْأةُ والحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِها. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد تقدم حَدِيث أبي جُحَيْفَة وهب بن عبد االسوائي فِي الْبَاب الَّذِي بَينه وَبَين هَذَا بَابَانِ، وَهُنَاكَ رَوَاهُ: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة.
قَوْله: (بالهاجرة) وَهِي: اشتداد الْحر عِنْد الظهيرة. قَوْله: (فَأتي) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِوضُوء) بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (وَبَين يَدَيْهِ عنزة) ، جملَة حَالية، قيل: فِيهِ تكْرَار، لِأَن العنزة هِيَ الحربة، ورد بِأَن الحربة غير العنزة لِأَن الحربة هِيَ الرمْح العريض النصل، ذكرنَا عَن قريب، والعنزة مثل نصف الرمْح. قَوْله: (يَمرونَ) كَانَ الْقيَاس فِي ذَلِك أَن يُقَال: يمران، بِلَفْظ التَّثْنِيَة، لِأَن الْمَذْكُور تَثْنِيَة، وَهِي: الْمَرْأَة، وَالْحمار، ووجهوا هَذَا بِوُجُوه، فَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَرَادَ الْجِنْس، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة: (النَّاس وَالدَّوَاب يَمرونَ) . قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ الْجِنْس يُرَاد جنس الْمَرْأَة وجنس الْحمار فَيكون تَثْنِيَة، فَلَا يُطَابق الْكَلَام. فَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَالظَّاهِر أَن الَّذِي وَقع هُنَا من تصرف الروَاة، وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن فِيهِ نسبتهم إِلَى ذكر مَا يُخَالف الْقَوَاعِد. وَقَالَ ابْن مَالك: أَرَادوا الْمَرْأَة وَالْحمار وراكبه فَحذف الرَّاكِب لدلَالَة الْحمار عَلَيْهِ، ثمَّ غلب عَلَيْهِ تذكير الرَّاكِب الْمَفْهُوم على تَأْنِيث الْمَرْأَة، وَذُو الْعقل على الْحمار، فَقَالَ: يَمرونَ. قلت: هَذَا فِيهِ تعسف وَبعد، وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ إِطْلَاق اسْم الْجمع على التَّثْنِيَة، وَهَذَا أوجه من غَيره لِأَن مثل هَذَا وَقع فِي الْكَلَام الفصيح. قَوْله: (من وَرَائِهَا) . أَي: من وَرَاء العنزة.
005 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ حامم بنِ بَزيعٍ قَالَ حدّثنا شَاذَانُ عنْ شُعْبَةَ عنْ عطاءِ بنِ أَبي مَيُمُونَةَ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِي إذَا خَرَجَ لحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنا وغلاَمٌ ومَعَنَا عُكَّازَةٌ أوْ عَصاً أوْ عَنْزَةٌ وَمَعَنَا إدَاوَةٌ فإِذَا فَرَغٍ منْ حاجَتِهِ نَاو لْنَاهُ الإِدَاوَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة على مَا وجد فِي أَكثر النّسخ: (وعنزة) بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالنُّون وَالزَّاي، وَفِي بعض النّسخ: أَو غَيره، بالغين الْمُعْجَمَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف أَي: أَو غير كل وَاحِد من الْعَصَا والعكازة. فَإِن صَحَّ هَذَا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: الضَّمِير فِي: غَيره، يرجع إِلَى مَاذَا؟ وَالْمَذْكُور شَيْئَانِ، وهما العكازة والعصا؟ . قلت: تَقْدِيره: أَو غير كل وَاحِد مِنْهُمَا، قَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه تَصْحِيف. قلت: كَيفَ يكون تصحيفاً وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي؟ فَكَأَن هَذَا الْقَائِل ارْتكب هَذَا لِئَلَّا يُقَال: إِن هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْوضُوء فِي بَاب حمل العنزة مَعَ المَاء فِي الِاسْتِنْجَاء، وَلَكِن هُنَاكَ أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار بن جَعْفَر عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن بزيع، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبكسر الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة: أَبُو سعيد، مَاتَ وبغداد فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وشاذان، بالشين الْمُعْجَمَة: تقدم فِي بَاب حمل العنزة فِي الاستتجاء. قَوْله: (تَبعته أَنا) ، وَإِنَّمَا أَتَى بضمير الْفَصْل ليَصِح الْعَطف، وَهَذَا على مَذْهَب الْبَصرِيين. والإداوة، بِكَسْر الْهمزَة.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ الاستنهجاء بِالْمَاءِ. هَذَا لَيْسَ بِصَرِيح، فَإِن قَوْله: (فَإِذا فرغ من حَاجته) يَشْمَل الاستجناء بِالْحجرِ(4/281)
وَنَحْوه، وَتَكون مناولة المَاء لأجل الْوضُوء. قَالَ. وَفِيه: خدمَة السُّلْطَان والعالم. قلت: حصره للإثنين لَا وَجه لَهُ، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: فِيهِ خدمَة الْكَبِير.
49 - (بابُ السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب الستْرَة لدرء الْمَار، سَوَاء كَانَ بِمَكَّة أَو غير مَكَّة، وَإِنَّمَا قيد بِمَكَّة دفعا لتوهم من توهم أَن الستْرَة قبْلَة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون لمَكَّة قبْلَة إلاَّ الْكَعْبَة فَلَا يحْتَاج فِيهَا إِلَى ستْرَة، وكل من يُصَلِّي فِي مَكَان وَاسع فالمستحب لَهُ أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة بِمَكَّة كَانَ أَو غَيرهَا، إلاَّ أَن يُصَلِّي بِمَسْجِد مَكَّة بِقرب الْكَعْبَة حَيْثُ لَا يُمكن لأحد الْمُرُور بَينه وَبَينهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى ستْرَة إِذْ قبْلَة مَكَّة ستْرَة لَهُ، فَإِن صلى فِي مُؤخر الْمَسْجِد بِحَيْثُ يُمكن الْمُرُور بَين يَدَيْهِ. أَو فِي سَائِر بقاع مَكَّة إِلَى غير جِدَار أَو شَجَرَة أَو مَا أشبههما، فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل أَمَامه مَا يستر من الْمُرُور بَين يَدَيْهِ، كَمَا فعل الشَّارِع حِين صلى بالبطحاء إِلَى عنزة والبطحاء خَارج مَكَّة.
59 - (بابُ الصَّلاَةِ إلىَ الاسطُوَانَةِ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي اسْتِحْبَاب الصَّلَاة إِلَى جِهَة الإسطوانة إِذا كَانَ فِي مَوضِع فِيهِ أسطوانة، والأسطوانة، بِضَم الْهمزَة مَعْرُوفَة، وَالنُّون أَصْلِيَّة وَزنهَا: أفعوالة، مثل: أقحوانة، لِأَنَّهُ يُقَال: أساطين مسطنة. وَقَالَ الْأَخْفَش: وَزنهَا: فعلوانة، وَهَذَا يدل على زِيَادَة الْوَاو وَالْألف وَالنُّون، وَقَالَ قوم: وَزنهَا أففعلانة، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما جمع على أساطين، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام: أفاعين، وَقَالَ بَعضهم: الْغَالِب أَن الأسطوانة تكون من بِنَاء بِخِلَاف العمود فَإِنَّهُ من حجر وَاحِد. قلت: قيد الْغَالِب لَا طائل تَحْتَهُ، وَلَا نسلم أَن العمود يكون من حجر وَاحِد لِأَنَّهُ رُبمَا يكون أَكثر من وَاحِد، وَيكون من خشب أَيْضا.
وَقَالَ عَمرُ: المُصَلُّونَ أحَقُّ بِالسَّوَارِى من المتَحَدِّثِينَ إلَيْها
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر ظَاهِرَة، لِأَن السَّوَارِي هِيَ الأساطين، واسواري جمع سَارِيَة؛. قَالَ ابْن الْأَثِير: السارية الأسطوانة، وَذكر الْجَوْهَرِي فِي بَاب سرا، ثمَّ ذكر الْمَادَّة الواوية والمادة اليائية، وَالظَّاهِر أَن السارية من ذَوَات الْيَاء، وَهَذَا الَّذِي علقه البُخَارِيّ وَصله أَبُو بكر بن أبي شيبَة من طَرِيق هَمدَان يُرِيد عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَي رَسُوله إِلَى أهل الْيمن عَن عمر بِهِ، وهمدان بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْمِيم وبالدال الْمُهْملَة. قَوْله: (المصلون أَحَق) ، وَجه الأحقية أَن الْمُصَلِّين والمتحدثين مشتركان فِي الْحَاجة إِلَى السارية: المتحدثون إِلَى الإستناد، والمصلون لجعلها ستْرَة، لَكِن الْمُصَلِّين فِي عبَادَة فَكَانُوا أَحَق. قَوْله: (من المتحدثين) أَي: الْمُتَكَلِّمين.
وَرَأى عُمَرُ رَجُلاً يُصَلِّي بَيْنَ أسْطُوَانَتَيْن فأدْنَاهُ إلَى سَارِيَةٍ فَقَالَ صلِّ إلَيْها.(4/282)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأدناه إِلَى سَارِيَة) ، وَابْن عمر هُوَ عبد ا، وَلذَا وَقع بِإِثْبَات ابْن فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وَغَيرهمَا، وَعند الْبَعْض، رأى عمر، بِحَذْف: ابْن قَالَ بَعضهم: هُوَ أشبه بِالصَّوَابِ، فقد رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من طَرِيق مُعَاوِيَة ابْن قُرَّة بن إِيَاس الْمُزنِيّ عَن أَبِيه، وَله صُحْبَة قَالَ: (رَآنِي عمر وَأَنا اصلي. فَذكر مثله سَوَاء، وَلَكِن زَاد: فَأخذ بقفاي) . انْتهى. قلت: رِوَايَة الْأَكْثَرين أشبه بِالصَّوَابِ مَعَ احْتِمَال أَن يكون قضيتان: إِحْدَاهمَا مَعَ عمر، وَالْأُخْرَى مَعَ ابْنه، وَلَا مَانع لذَلِك. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَقد عرف بذلك الْمِيم الْمَذْكُور فِي التَّعَلُّق. قلت: هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا تحقق اتِّحَاد الْقَضِيَّة. قَوْله: (فأدناه) أَي: قربَة، من: الإدناء، وَهُوَ التَّقْرِيب. وَادّعى ابْن التِّين أَن عمر إِنَّمَا كره لانْقِطَاع الصُّفُوف. وَقيل: أرادبذلك أَن تكون صلَاته إِلَى ستْرَة.
205 - حدّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدّثنا يَز (يدُ بنُ أبي عُبَيْدٍ قَالَ كنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ ابنِ الأَكْوَع فَيُصَلِّي عِنْدَ الأُسْطِوَانَةِ الَّتِي عنْدَ المُصْحَفِ فَقِلْتُ يَا أبَا مُسْلِمٍ أرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عنْدَ هَذِهِ الاسْطُوانَلاِ قَالَ فإِنِّي رأيْتُ النبيَّ يَتَحَرَّى الصلاَةَ عِنْدَها.
13
- 50 مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَيصَلي عِنْد الأسطوانة) ، وَقَوله: (يتحَرَّى الصَّلَاة عِنْدهَا) .
ذكر رِجَاله وهم ثَلَاثَة: الأول: مكي بن إِبْرَاهِيم. الثَّانِي: يزِيد بن أبي عُبَيْدَة، مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع. الثَّالِث: سَلمَة بن الْأَكْوَع.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَنه من ثلاثيات البُخَارِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مُوسَى عَن مكي بِهِ، وَعَن اسحاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن يَعْقُوب بن حميد.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (الَّتِي عِنْد الْمُصحف) ، هَذَا يدل على أَنه كَانَ فِي مَسْجِد رَسُول الله مَوضِع خَاص للمصحف الَّذِي كَانَ ثمَّة من عهد عُثْمَان، وَوَقع عِنْد مُسلم بِلَفْظ: يُصَلِّي وَرَاء الصندوق) ، وَكَأَنَّهُ كَانَ للمصحف صندوق يوضع فِيهِ والأسطوانة الْمَذْكُورَة فِيهِ مَعْرُوفَة بأسطوانة الْمُهَاجِرين. قَوْله: (يابا مُسلم) أَصله: يَا أَبَا مُسلم، حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَهُوَ كنيته سَلمَة بن الْأَكْوَع. قَوْله: (أَرَاك) أَي: أبصرك. قَوْله: (تتحرى) ، أَي تجتهد وتختار، وَقَالَ ابْن بطال: لما كَانَ رَسُول الله يسْتَتر بالعنزة فِي الصَّحرَاء كَانَت الإسطوانة أولى بذلك، لِأَنَّهَا أَشد ستْرَة مِنْهَا. قَوْله: (يتحَرَّى الصَّلَاة عِنْدهَا) ، أَي: عِنْد الأسطوانة أُمَامَة وَلَا نَكُون إِلَى جنبه لِئَلَّا يَتَخَلَّل الصُّفُوف شَيْء وَلَا يكون لَهُ ستْرَة.
305251 - ح دّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بنِ عامرٍ بن أنَسٍ قَالَ لقَدْ رَأيْتُ كِبَارَ أصْحَابِ النبيِّ يَبْتَدِرُونَ السَّوَاري عِنْدَ المَغْرِبِ. وَزَادَ شُعْبَةُ عنْ عَمْروٍ عنْ أنسٍ حَتَّى يَخْرُجَ النبيُّ. (الحَدِيث 305 طرفه فِي: 516) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: قبيصَة بن عقبَة الْكُوفِي. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: عَمْرو، بِالْوَاو: وَابْن عَامر الْكُوفِي الْأنْصَارِيّ، وَلَيْسَ هُوَ: عَمْرو بن عَامر الْبَصْرِيّ، فَإِنَّهُ سلمى، وَلَا وَالِد أَسد فَإِنَّهُ بجلي. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون مَا خلا أنس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن قبيصَة وَعَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي عَامر عَن سُفْيَان عَنهُ، وَفِي نُسْخَة: عَن شُعْبَة، بدل: سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (لقد أدْركْت) ، هَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (لقد رَأَيْت) . قَوْله: (كبار أَصْحَاب مُحَمَّد) ، الْكِبَار: جمع كَبِير، وَالْأَصْحَاب: جمع صَاحب. قَوْله: (يبتدرون السَّوَارِي) ، يتسارعون إِلَيْهَا. قَوْله: (عِنْد الْمغرب) أَي: عِنْد آذان الْمغرب، وَصرح بذلك الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن مهْدي عَن سُفْيَان، وَلمُسلم من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس(4/283)
نَحوه. قَوْله: (وَزَاد شُعْبَة عَن عَمْرو) إِلَى آخِره تَعْلِيق، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الآذان من طَرِيق غنْدر عَن عَمْرو بن عَامر الْأنْصَارِيّ، وَزَاد فِيهِ أَيْضا. (يصلونَ الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب) . قَوْله: (حَتَّى يخرج النَّبِي) ويروى: (حِين يخرج) وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي حكم الصَّلَاة قبل الْمغرب بعد الْغُرُوب فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.
69 - (بابُ الصَّلاَةِ بَيْنَ السَّوَارِي فَي غَيْرِ جَمَاعَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة بَين السَّوَارِي أَي: الأساطين والأعمدة فِي غير جمَاعَة، يَعْنِي إِذا كَانَ مُنْفَردا لَا بَأْس فِي الصَّلَاة بَين الساريتين، إِذا لم يكن فِي جمَاعَة، وَقيد بِغَيْر جمَاعَة لِأَن لَك يقطع الصُّفُوف، وتسوية الصُّفُوف فِي الْجَمَاعَة مَطْلُوبَة.
505451 - حدّثنا عَبْدُ ااِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ ااِ بنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ ااِ دَخَلَ الكَعْبَةَ وأُسامَةُ بنُ زَيْدٍ وبِلاَلٌ وعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فأغْلَقَها علَيْهِ ومَكَثَ فِيهَا فَسألْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النبيُّ قَالَ جَعَلَ عَمُوداً عنْ يَسَارِهِ وَعَمُوداً عنْ يَمِينِهِ وثَلاثَةَ أعْمِدَةٍ ورَاءَهُ وكانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلى سِتَّةِ أعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى. وَقَالَ لنَا إسْماعِيلُ حدّثني مَالك وَقَالَ عَمُودَيْنِ عنْ يَمِينِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجعل عموداً) إِلَى آخِره. وَرِجَاله قد تكرروا. قَوْله: (وَأُسَامَة) بِالنّصب عطفا على: رَسُول ا، وَيجوز رَفعه عطفا على فَاعل دخل. قَوْله: (الحَجبي) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ بِالْجِيم وبالباء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة. قَوْله: (فأغلقها) ، أَي: أغلق عُثْمَان، الْكَعْبَة أَي: فَإِن قلت: فِي رِوَايَة مَالك إِشْكَال لِأَنَّهُ عموداً عَن يسَاره وعموداً عَن يَمِينه، وَهَذَانِ إثنان، ثمَّ قَالَ: وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه، فَتكون الْجُمْلَة خَمْسَة، ثمَّ قَالَ: وَكَانَ الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة. قلت: أجَاب الْكرْمَانِي عَنهُ بِأَن لفظ العمود جنس يحْتَمل الْوَاحِد الإثنتين فَهُوَ مُجمل بَينه مَالك فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَنهُ، وَهِي قَوْله: وَقَالَ لنا إِسْمَاعِيل: حَدثنِي مَالك؟ فَقَالَ: عمودين عَن يَمِينه، فَحِينَئِذٍ تكون الأعمدة سِتَّة. وَقَالَ خلف: لم أَجِدهُ من حَدِيث إِسْمَاعِيل. وَقد اخْتلف عَن مَالك فِي لَفظه فَرَوَاهُ مُسلم: (عمودين عَن يسَاره وعموداً عَن يَمِينه) ، عكس رِوَايَة(4/284)
إِسْمَاعِيل، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ (عموداً عَن يَمِينه وعموداً عَن يسَاره) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح، وَفِي رِوَايَة: (جعل عموداً عَن يَمِينه وعمودين عَن يسَاره) ، عكس مَا سبق. وَقد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَاف على مَالك فِيهِ، فَوَافَقَ الْجُمْهُور عبد ابْن يُوسُف فِي قَوْله: (عموداً عَن يَمِينه) ؛ وَوَافَقَ إِسْمَاعِيل فِي قَوْله: (عمودين عَن يَمِينه) ؛ ابْن الْقَاسِم والقعنبي وَأَبُو مُصعب وَمُحَمّد بن الْحسن وَأَبُو حذافة، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِي وَابْن مهْدي فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُم، وَأجَاب قوم عَنهُ بِاحْتِمَال تعدد الْوَاقِعَة، وروى عُثْمَان بن عمر عَن مَالك: (جعل عمودين عَن يَمِينه وعمودين عَن يسَاره) ، فعلى هَذَا تكون الأعمدة سَبْعَة، ويردها قَوْله: (وَكَأن الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة) ، بعد قَوْله: (وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه) وَعَن هَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يُتَابع عُثْمَان بن عمر على ذَلِك، وَأجَاب الْكرْمَانِي بجوابين آخَرين: الأول: هُوَ أَن الأعمدة الثَّلَاثَة الْمُقدمَة مَا كَانَت على سمت وَاحِد، بل عمودان مسامتان وَالثَّالِث على غير سمتها؛ وَلَفظ المقدمين فِي الحَدِيث السَّابِق يشْعر بِهِ، فتعرض للعمودين المسامتين وَسكت عَن ثَالِثهَا. وَالثَّانِي: أَن تكون الثَّلَاثَة على سمت وَاحِد، وَقَامَ رَسُول الله عِنْد الوسطاني.
قَوْله: (وَقَالَ لنا إِسْمَاعِيل) وَهُوَ أبي أويس بن أُخْت مَالك بن أنس، وَهَذَا مَوْصُول بِوَاسِطَة قَوْله لنا، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي: وَقَالَ إِسْمَاعِيل، بِدُونِ لفظ: قَالَ لنا، أحط دَرَجَة من: حدّثنا. قَوْله: (حَدثنِي مَالك) ، يَعْنِي: بِهَذَا الحَدِيث.
79 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، فَإِذا لم يقدر شَيْئا لَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب يكون بِالْعقدِ والتركيب، كَذَا وَقع لفظ: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَيْسَ لفظ بَاب فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وعَلى قَول الْأَكْثَرين: هُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَإِنَّمَا فَصله لِأَن فِيهِ زِيَادَة، وَهِي مِقْدَار مَا كَانَ بَينه وَبَين الْجِدَار من الْمسَافَة.
605551 - ح دّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ ااِ كانَ إذَا دَخَلَ الكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخلُ وجَعَلَ البَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ الذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيباً منْ ثَلاَثَةِ أذْرُعٍ صَلَّى يَتَوَخَّى المَكَانَ الَّذِي أخْبرهُ بِلالٌ أنَّ النبيَّ صَلَّى فيهِ قَالَ وَلَيْسَ علَى أحَدِنا بَأْسٌ أنْ صلى فِي أيِّ نَوَاحِي البَيْتِ شاءَ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الإستلزام، وَهُوَ أَن الْموضع الْمَذْكُور من كَونه مُقَابلا للباب قَرِيبا من الْجِدَار يسْتَلْزم كَون صلَاته بَين الساريتين.
ذكر رِجَاله ومهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: اسْمه أنس بن عِيَاض، مر فِي بَاب التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش الْمَدِينِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد ابْن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر بِمَعْنَاهُ) : قَوْله: (قبل وَجهه) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: أَي مُقَابل وَجهه، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: (قبل وَجهه) الَّذِي بعده. قَوْله: (قَرِيبا) كَذَا وَقع بِالنّصب، ويروى بِالرَّفْع وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُ اسْم: يكون، وَوجه النصب أَن يكون اسْمه محذوفاً وَالتَّقْدِير: يكون الْقدر أَو الْمَكَان قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع، وَلَفظه: (بِثَلَاثَة) بالتأنيث فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر من: ثَلَاث أَذْرع، بِلَا تَاء. فَإِن قلت: الذِّرَاع مُذَكّر فَمَا وَجهه ترك التَّأْنِيث. قلت: أجَاب بَعضهم أَن الذِّرَاع يذكر وَيُؤَنث، وَلَيْسَ كَذَلِك على الْإِطْلَاق بل الذِّرَاع الَّذِي يذرع بِهِ يذكر، وذراع الْيَد يذكر وَيُؤَنث، وَهَهُنَا شبه بِذِرَاع الْيَد. قَوْله: (صلى) ، جملَة استئنافية. قَوْله: (يتوخى) أَي: يتحَرَّى، يُقَال: توخيت مرضاتك. أَي: تحريت(4/285)
وقصدت. قَوْله: (قَالَ) أَي: ابْن عمر. قَوْله: (إِن صلى) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَصلى بِلَفْظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة الكشمهني: (أَن يُصَلِّي) بِفَتْح الْهمزَة وَلَفظ الْمُضَارع، وَالتَّقْدِير: وَلَا بَأْس بِأَن يُصَلِّي، وَحذف حرف سَائِغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة فِي نفس الْبَيْت. وَفِيه: الدنو من الستْرَة. وَقد أَمر الشَّارِع بالدنو مِنْهَا لِئَلَّا يَتَخَلَّل الشَّيْطَان ذَلِك. وَفِيه: الستْرَة بَين الْمُصَلِّي والقبلة ثَلَاثَة أَذْرع، وَادّعى ابْن بطال أَن الَّذِي واظب عَلَيْهِ الشَّارِع فِي مُقَدّر ذَلِك ممر الشَّاة، كَمَا جَاءَ فِي الْآثَار. وَفِيه: أَنه لَا يشْتَرط فِي صِحَة الصَّلَاة فِي الْبَيْت مُوَافقَة الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ النَّبِي، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عمر، وَلَكِن الْمُوَافقَة أولى وَإِن كَانَ يحصل الْغَرَض بِغَيْرِهِ، وَقد ذكرنَا أَن الحَدِيث لَا يدل صَرِيحًا على الصَّلَاة بَين الساريتين، وَإِنَّمَا دلَالَته على ذَلِك بطرِيق الاستلزام، وَقد بَيناهُ. وَقد اخْتلف السّلف فِي الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فكرهه أنس بن مَالك لوُرُود النَّهْي بذلك، رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: لَا تصفوا بَين الأساطين واتموا الصُّفُوف) . وَأَجَازَهُ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وسُويد بن غَفلَة يؤمُّونَ قَومهمْ بَين الأساطين، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَقَالَ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) لَا بَأْس باصلاة بَينهمَا لضيق الْمَسْجِد. وَقَالَ ابْن حبيب: لَيْسَ النَّهْي عَن تقطيع الصُّفُوف إِذْ ضَاقَ الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ إِذا كَانَ الْمَسْجِد وَاسِعًا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَسبب الْكَرَاهَة بَين الأساطين أَنه رُوِيَ أَنه مصلى الْجِنّ الْمُؤمنِينَ.
89 - (بابُ الصَّلاَةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ والبَعَيرِ والشَّجَرِ والرَّحْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة بالتوجه إِلَى الرَّاحِلَة إِلَى آخِره، وَالرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن النّظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، و: الْهَاء، فِيهِ للْمُبَالَغَة كَمَا يُقَال: رجل داهية وراوية. وَقيل: إِنَّمَا سميت: رَاحِلَة، لِأَنَّهَا ترحل. قَالَ اتعالى. {فِي عيشة راضية} (الحاقة: 12، وَالْقَارِعَة: 7) أَي: مرضية، وَالْبَعِير من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان من النَّاس. وَيُقَال للجمل: بعير وللناقة: بعير، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: بعير وشعير بِكَسْر الْبَاء والشين، وَالْفَتْح هُوَ الفصيح، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: بعير إِذا أجذع، وَالْجمع: أَبْعِرَة فِي أدنى الْعدَد، وأباعر فِي الْكثير، وأباعير وبعران، وَهَذِه عَن الْفراء. وَمعنى: بأجذع، إِذا دخل فِي السّنة الْخَامِسَة. فَإِن قلت: إِذا أطلق الْبَعِير على النَّاقة، وَالرَّاحِلَة هِيَ: النَّاقة، فَمَا فَائِدَة ذكر الْبَعِير؟ قلت: ذهب بَعضهم إِلَى أَن الرَّاحِلَة لَا تقع إلاَّ على الْأُنْثَى، وَلأَجل ذَلِك أردفه بالبعير، فَإِنَّهُ يَقع عَلَيْهِمَا. قَوْله: (وَالشَّجر) هُوَ الْمَعْرُوف، وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي اعنه، قَالَ: (لقد رَأَيْتنَا يَوْم بدر وَمَا فِينَا إِنْسَان إلاَّ نَائِم إلاَّ رَسُول ا،، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَة يَدْعُو حَتَّى أصبح) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد حسن. قَوْله: (والرحل) بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ للبعير أَصْغَر من القتب، وَهُوَ الَّذِي يركب عَلَيْهِ. وَهُوَ: الكور بِضَم الْكَاف. فَإِن قلت: حَدِيث الْبَاب لَا يدل إلاَّ على الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَالشَّجر؟ قلت: كَأَنَّهُ وضع التَّرْجَمَة على أَنه يَأْتِي لكل جُزْء مِنْهَا بِحَدِيث، فَلم يجد على شَرطه إلاَّ حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ يدل على الصَّلَاة إِلَى الرَّاحِلَة والرحل، وَاكْتفى بِهِ عَن بَقِيَّة ذَلِك بِالْقِيَاسِ على الرَّاحِلَة، وَقد روى غَيره: فِي الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَالشَّجر، أما الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة ووهب بن بَقِيَّة وَعبد ابْن سعيد، قَالَ عُثْمَان: أخبرنَا أَبُو خَالِد، قَالَ: أخبرنَا عبيد اعن نَافِع عَن ابْن عمر: (أَن النَّبِي كَانَ يُصَلِّي إِلَى بعيره) . وَأما الصَّلَاة إِلَى الشّجر فقد ذَكرْنَاهُ الْآن عَن النَّسَائِيّ.
705651 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالَ حدّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ ااِ عَنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ أنَّهُ كانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إلَيْها قُلْتُ أفَرَأيْتَ إِذا هَبَّتِ الرِّكابُ قَالَ كَانَ يَأْخُذُ هذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَيّ آخِرَتِهِ أَو قَالَ مُؤَخِّرِهِ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي ااُ عَنهُ يَفْعَلُهُ. (انْظُر الحَدِيث 034) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي. قَوْله: (يعرض رَاحِلَته فَيصَلي إِلَيْهَا) . وَفِي قَوْله: (كَانَ يَأْخُذ الرحل) : إِلَى آخِره. وَأما ذكر الْبَعِير(4/286)
وَالشَّجر فِي التَّرْجَمَة فقد ذكرنَا وَجهه آنِفا.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة تكَرر ذكرهم. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَلَفظه: (آخِرَة الرحل) ، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث أبي ذَر، وَأبي هُرَيْرَة وَأخرج النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: (سُئِلَ رَسُول فِي غَزْوَة تَبُوك عَن ستْرَة الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ: مثل مؤخرة الرحل.
ذكر مَعْنَاهُ) : قَوْله: (يعرض) ، بتَشْديد الرَّاء من التَّعْرِيض أَي: يَجْعَلهَا عرضا. قَوْله: (أَفَرَأَيْت؟) الْفَاء عاطفة على مُقَدّر بعد الْهمزَة أَي: أَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْحَالة، فَرَأَيْت فِي هَذِه الْحَالة الْأُخْرَى، وَالْمعْنَى: أَخْبرنِي عَن هَذِه وَفِي بعض النّسخ: (أَرَأَيْت) بِدُونِ: الْفَاء. فَإِن قلت: من السَّائِل هُنَا وَمن المسؤول عَنهُ؟ قلت: الَّذِي يدل عَلَيْهِ الظَّاهِر أَنه كَلَام نَافِع، وَهُوَ السَّائِل. والمسؤول عَنهُ هُوَ ابْن عمر، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد: عَن عبيد ابْن عمر أَنه كَلَام عبيد ا، والمسؤول نَافِع، فعلى هَذَا يكون هُوَ مُرْسلا، لِأَن فَاعل: يَأْخُذ، هُوَ النَّبِي وَلم يُدْرِكهُ نَافِع. قَوْله: (إِذا هبت الركاب) ، هبت بِمَعْنى: هَاجَتْ وتحركت، يُقَال: هَب الْفَحْل إِذا هاج، وهب العير فِي السّير إِذا نشط. وَقَالَ ابْن بطال: هبت أَي زَالَت عَن موضعهَا وتحركت. يُقَال: هَب النَّائِم من نَومه إِذا قَامَ، وَقَيده الْأصيلِيّ بِضَم الْهَاء، وَالْفَتْح أصوب، والركاب، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْكَاف: الْإِبِل الَّتِي يسَار عَلَيْهَا وَالْوَاحد الرَّاحِلَة، وَلَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَالْجمع الركب مثل الْكتب. قَوْله: (فيعدله) ، من التَّعْدِيل وَهُوَ تَقْوِيم الشَّيْء. يُقَال: عدلته فاعتدل أَي: قومته فاستقام، وَالْمعْنَى يقيمه تِلْقَاء وَجهه، لِأَن الْإِبِل إِذا هَاجَتْ شوشت على الْمُصَلِّي لعدم استقرارها، فَحِينَئِذٍ كَانَ النَّبِي،، يعدل عَنْهَا إِلَى الراحل فَيَجْعَلهُ ستْرَة. وَقد ضبط بَعضهم: فيعدله، بِفَتْح أَوله وَسُكُون الْعين وَكسر الدَّال، ثمَّ فسره بقوله: أَي يقيمه تِلْقَاء وَجهه، وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ من بَاب: فعل، بِالتَّشْدِيدِ، لكنه يَأْتِي بِمَعْنى: فعل بِالتَّخْفِيفِ، كَمَا يُقَال: زلتحه وزيلته، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى: فرقته. قَوْله: (إِلَى آخرته) ، بِفَتْح الْهمزَة وَالْخَاء وَالرَّاء بِلَا مد أَي: فصلى إِلَى آخِرَة الرحل، وَيجوز الْمَدّ فِي الْهمزَة، وَلَكِن بِكَسْر الْخَاء، وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يسْتَند إِلَيْهَا الرَّاكِب. قَوْله: (أَو قَالَ مؤخرته) ، فِي ضَبطه وُجُوه: الأول: بِضَم الْمِيم وَكسر الْخَاء وهمزة سَاكِنة، قَالَه النَّوَوِيّ. وَالثَّانِي: بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الْخَاء الْمُشَدّدَة. وَالثَّالِث: إسكان الْهمزَة وَتَخْفِيف الْهَاء، وَقَالَ أَبُو عبيد: يجوز كسر الْخَاء وَفتحهَا، وَأنكر ابْن قُتَيْبَة الْفَتْح، وَقَالَ ابْن مكي: لَا يُقَال مقدم ومؤخر بِالْكَسْرِ إلاَّ فِي العير خَاصَّة، وَأما فِي غَيرهَا فَلَا يُقَال: إِلَّا بِالْفَتْح فَقَط، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مؤخرة الرحل لُغَة قَليلَة فِي أَخَّرته، وَقَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْخَاء وَفتحهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مؤخرة الرحل الْعود الَّذِي يكون فِي آخر الرحل بِضَم الْمِيم وَكسر الْخَاء. وَالرَّابِع روى بَعضهم بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْخَاء. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله) ، مقول: نَافِع، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: يَفْعَله، يرجع إِلَى كل وَاحِد من التَّعْرِيض وَالتَّعْدِيل اللَّذين يدل عَلَيْهِمَا، قَوْله: يعرض، وَقَوله: فيعدله، من قبيل قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل أقرب للتقوى، فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز الستْرَة بِمَا يثبت من الْحَيَوَان. قَالَ ابْن بطال: وَكَذَلِكَ تجوز الصَّلَاة إِلَى كل شَيْء طَاهِر. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز التستر بِالْحَيَوَانِ، وَلَا يُعَارضهُ النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل لِأَن المعاطن مَوَاضِع إِقَامَتهَا عِنْد المَاء، وَكَرَاهَة الصَّلَاة حِينَئِذٍ عِنْدهَا إِمَّا لشدَّة نتنها، وَإِمَّا لأَنهم كَانُوا يتخلون بهَا مستترين بهَا. وَقيل: عِلّة النَّهْي فِي ذَلِك كَون الْإِبِل خلقت من الشَّيَاطِين، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل.
99 - (بابُ الصَّلاَةِ إِلَى السَّرِيرِ)
أَي: بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة إِلَى السرير، وَمرَاده: على السرير، لِأَن لفظ الحَدِيث: (فيتوسط السرير فَيصَلي) ، فَهَذَا يدل على أَنه يُصَلِّي على السرير، على أَن فِي بعض النّسخ: بَاب الصَّلَاة على السرير، نبه عَلَيْهِ الْكرْمَانِي، وَقَالَ: حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض. فَإِن قلت: قَوْله: (فيتوسط السرير) ، يَشْمَل مَا إِذا كَانَ فَوْقه أَو أَسْفَل مِنْهُ. قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَن معنى قَوْله: (فيتوسط السرير) يَجْعَل نَفسه فِي وسط السرير. فَإِن قلت: ذكر البُخَارِيّ فِي الإستئذان حَدِيث الْأَعْمَش عَن مُسلم عَن مَسْرُوق عَن(4/287)
عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا: (كَانَ يُصَلِّي والسرير بَينه وَبَين الْقبْلَة) . فَهَذَا يبين أَن المُرَاد من حَدِيث الْبَاب أَسْفَل السرير. قلت: لَا نسلم ذَلِك لاخْتِلَاف العبارتين مَعَ احْتِمَال كَونهمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِذا علمت هَذَا علمت أَن قَول الْإِسْمَاعِيلِيّ: بِأَنَّهُ دَال على الصَّلَاة على السرير لَا إِلَى السرير، غير وَارِد، يظْهر ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ.
001 - (بابٌ يِرُدُّ المُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يرد الْمُصَلِّي من مر بَين يَدَيْهِ، وسنبين هَل الرَّد إِذا مر بَين يَدَيْهِ فِي مَوضِع سُجُوده؟ أَو يردهُ مُطلقًا؟ أَو لَهُ حد مَعْلُوم؟ وَأَن الرَّد وَاجِب أم سنة أم مُسْتَحبّ؟ وَأَنه مُقَيّد بمَكَان مَخْصُوص أَو فِي جَمِيع الْأَمْكِنَة؟ على مَا نذكرهُ مفصلا إِن شَاءَ اتعالى.
ورَدَّ ابنُ عُمَرَ المَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ إنْ أبَى إلاَّ أنْ تُقَاتِلَهُ قَقَاتِلْهُ(4/288)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول فِي وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة وَهِي ظَاهِرَة لِأَن ابْن عمر رد الْمَار من بَين يَدَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاة.
الثَّانِي فِي معنى التَّرْكِيب: فَقَوله: ورد ابْن عمر، أَي: رد عبد ابْن عمر بن الْخطاب المارَّ بَين يَدَيْهِ حَال كَونه فِي التَّشَهُّد، وَكَانَ هَذَا الْمَار هُوَ: عَمْرو بن دِينَار، نبه عَلَيْهِ عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة فِي مصنفيهما. قَوْله: (فِي الْكَعْبَة) أَي، ورد أَيْضا فِي الْكَعْبَة. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عطف على مُقَدّر، أَي: رد الْمَار بَين يَدَيْهِ عِنْد كَونه فِي الصَّلَاة وَفِي غير الْكَعْبَة وَفِي الْكَعْبَة أَيْضا، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ كَون الرَّد فِي حَالَة وَاحِدَة جمعا بَين كَونه فِي التَّشَهُّد وَفِي الْكَعْبَة، فَلَا حَاجَة إِلَى مقد. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي فِي كِتَابه (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : كَذَا وَقع، وَفِي الْكَعْبَة. وَقَالَ ابْن قرقول: ورد ابْن عمر فِي التَّشَهُّد وَفِي الْكَعْبَة. وَقَالَ الْقَابِسِيّ: وَفِي الرَّكْعَة، بَدَلا من: الْكَعْبَة، أشبه. وَكَذَا وَقع فِي بعض الْأُصُول: الرَّكْعَة. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالظَّاهِر أَنه: وَفِي الْكَعْبَة، وَهُوَ الصَّوَاب كَمَا فِي كتاب الصَّلَاة لأبي نعيم: حدّثنا عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن صَالح بن كيسَان، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يُصَلِّي فِي الْكَعْبَة فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ يبادره. قَالَ بردة: حدّثنا مطر بن خَليفَة حدّثنا عَمْرو بن دِينَار قَالَ: مَرَرْت بِابْن عمر بعده مَا جلس فِي آخر صلَاته حَتَّى أنظر مَا يصنع، فارتفع من مَكَانَهُ، فَدفع فِي صَدْرِي. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: أخبرنَا ابْن فُضَيْل عَن مطر عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: مَرَرْت بَين يَدي ابْن عمر وَهُوَ فِي الصَّلَاة فارتفع من قعوده ثمَّ دفع فِي صَدْرِي، وَفِي كتاب (الصَّلَاة) لأبي نعيم: فانتهزني بتسبيحة، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة الْجُمْهُور متجهة، وَتَخْصِيص الْكَعْبَة بِالذكر لِئَلَّا يتخيل أَنه يغْتَفر فِيهَا الْمُرُور لكَونهَا مَحل الْمُزَاحمَة. قلت: الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر ان ابْن عمر فِي الرَّد فِي غير الْكَعْبَة، وَفِي الْكَعْبَة أَيْضا فَلَا يُقَال: فِيهِ التَّخْصِيص، وَالتَّعْلِيل فِيهِ بِكَوْن مَحل الْمُزَاحمَة غير موجه لِأَن فِي غير الْكَعْبَة أَيْضا تُوجد الْمُزَاحمَة، سِيمَا فِي أَيَّام الْجمع فِي الْجَوَامِع وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَقَالَ) أَي: ابْن عمر: (إِن أَبى) أَي: الْمَار، أَي: امْتنع بِكُل وَجه إلاَّ بِأَن يُقَاتل الْمُصَلِّي الْمَار قَاتله. قَوْله: (إِلَّا أَن يقاتله) وَقَوله: قَاتله، على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون لفظ: قَاتله، بِصِيغَة الْفِعْل الْمَاضِي، وَهَذَا عِنْد كَون لفظ (إِلَّا أَن يقاتله) بِصِيغَة الْفِعْل الْمُضَارع الْمَعْلُوم، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الْمَار الَّذِي هُوَ فَاعل لَفْظَة: أبي، والمنصوب يرجع إِلَى الْمُصَلِّي، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: قَاتله، يرجع إِلَى الْمُصَلِّي والمنصوب يرجع إِلَى: الْمَار، وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون لَفْظَة (إلاَّ أَن تُقَاتِلهُ) بِصِيغَة الْمُخَاطب: أَي إلاَّ أَن تقَاتل الْمَار (فقاتله) بِكَسْر التَّاء وَسُكُون اللَّام على صِيغَة الْأَمر للحاضر، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَالْأول رِوَايَة الْأَكْثَرين. فَإِن قلت: لَفْظَة: قَاتله، فِي الْوَجْه الثَّانِي جملَة أمرية، وَالْجُمْلَة الأمرية إِذا وَقعت جَزَاء للشرطية فَلَا بُد فِيهَا من الْفَاء. قلت: تَقْدِير الْكَلَام: فَأَنت قَاتله، قَالَ الْكرْمَانِي: وَيجوز حذف الْفَاء مِنْهَا نَحْو:
من يفعل الْحَسَنَات ايشكرها
قلت: حذف الْفَاء مِنْهَا لضَرُورَة الْوَزْن فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ، ويروى: فقاتله بِالْفَاءِ على الأَصْل.
النَّوْع الثَّالِث فِي أَن الْمَرْوِيّ عَن ابْن عمر هَهُنَا على سَبِيل التَّعْلِيق بِثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: رده الْمَار فِي التَّشَهُّد، وَقد وَصله أَبُو نعيم وَابْن أبي شيبَة كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. الثَّانِي: رده فِي الْكَعْبَة، وَقد وَصله أَبُو نعيم أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي حَدِيث يزِيد الْفَقِير: صليت إِلَى جنب ابْن عمر بِمَكَّة فَلم أر رجلا أكره أَن يمر بَين يَدَيْهِ مِنْهُ. الثَّالِث: أمره بالمقاتلة عِنْد عدم امْتنَاع الْمَار من الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي، وَقد وَصله عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه عَن ابْن عمر قَالَ: لَا تدع أحدا يمر بَين يَديك وَأَنت تصلي، فَإِن أبي إلاَّ أَن تُقَاتِلهُ فقاتله. وَهَذَا مُوَافق لرِوَايَة الْكشميهني.
905 - حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدّثنا يُونُسُ عنْ حُمَيْدِ بنِ هِلالٍ عنْ أبي صالِحٍ أنَّ أبَا سعِيدٍ قَالَ قَالَ النبيُّ (ح) وحدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قَالَ حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ المُغِيرَةِ قَالَ حدّثنا حُمَيْدُ بنُ هِلاَلٍ الْعَدَوى قَالَ حدّثنا أبُو صالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ رَأيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فِي يَوْم جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فأرَادَ شَابٌّ من بَني أبي مُعَيْطٍ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَ أبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغَاً إِلاَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعادَ لِيَجْتَازَ فَدَفَعَهُ أبُو سَعِيدٍ أشَدَّ مِنَ الأُولَى فَنَالَ مِنْ أبي سَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ(4/289)
فَشَكَا إليْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أبي سَعِيدٍ ودَخَلَ أبُو سًعيدٍ خَلْفَهُ عَلى مَرْوانَ فَقَالَ مَا لَكَ وَلاِبْنِ أخِيكَ يَا أبَا سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْت النبيَّ يَقُولُ إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فأرَادَ أحدٌ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فإِنمَا هُوَ شَيْطَانٌ. (الحَدِيث 905 طرفَة فِي: 4723) .
11
- 50 مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: واسْمه عبد ابْن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج المقعد الْبَصْرِيّ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَقد تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي: اللَّهُمَّ علمه الْكتاب. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد، تقدم أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب. الثَّالِث: يُونُس بن عبيد، بِالتَّصْغِيرِ: ابْن دِينَار أَبُو عبد االبصري، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الرَّابِع: حميد، بِضَم الْحَاء: تَصْغِير الْحَمد بن هِلَال، بِكَسْر الْهَاء وَتَخْفِيف اللَّام: الْعَدوي، بِفَتْح الْعين وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ: التَّابِعِيّ الْجَلِيل. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان السمان، وَقد تكَرر، ذكره. السَّادِس: آدم بن أبي إِيَاس. السَّابِع سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ. الثَّامِن: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك.
وَذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع من الْمَاضِي فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل والرؤية. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون إلاَّ أَبَا صَالح فَإِنَّهُ مدنِي، وآدَم فَإِنَّهُ عسقلاني. وَفِيه: أَن آدم من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ لم يخرج لِسُلَيْمَان بن الْمُغيرَة شَيْئا مَوْصُولا إلاَّ هَذَا الحَدِيث، ذكره أَبُو مَسْعُود وَغَيره. وَفِيه: التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر الحَدِيث، وعلامته حرف: الْحَاء، المفردة. وَفِيه: فِي الْإِسْنَاد الأول: حميد عَن أبي صَالح أَن أَبَا سعيد، وَفِي الثَّانِي: قَالَ أَبُو صَالح: رَأَيْت أَبَا سعيد. وَالثَّانِي أقوى. وَفِيه: أَن فِي الثَّانِي ذكر قصَّة لَيست فِي الأول، وَقد سَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب بَدْء الْخلق بِالْإِسْنَادِ الَّذِي سَاقه هُنَاكَ من رِوَايَة يُونُس بِعَيْنِه، وَهَهُنَا من لفظ سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة لَا من لفظ يُونُس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي معمر فِي صفة إِبْلِيس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن شَيبَان بن فروخ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُوسَى ابْن اسماعيل.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (فَأَرَادَ شَاب من بني أبي معيط) وَوَقع فِي (كتاب الصَّلَاة) لأبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن، قَالَ: حدّثنا عبد ابْن عَامر عَن زيد بن أسلم، قَالَ: (بَيْنَمَا أَبُو سعيد قَائِم يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَأقبل الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط، فَأَرَادَ أَن يمر بَين يَدَيْهِ فَرده، فَأبى إلاَّ أَن يمر فَدفعهُ ولكمه) . فَهَذَا يدل على أَن هَذَا الشَّاب هُوَ الْوَلِيد بن عقبَة، وَفِي (المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: حدّثنا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: (كَانَ أَبُو سعيد قَائِما يُصَلِّي فجَاء عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام يمر بَين يَدَيْهِ فَمَنعه، فَأبى إلاَّ أَن يَجِيء فَدفعهُ أَبُو سعيد فطرحه. فَقيل لَهُ: تصنع هَذَا بِعَبْد الرَّحْمَن؟ فَقَالَ: وَا لَو أَبى إِلَّا أَن آخذ بِشعرِهِ لأخذت) . وروى عبد الرَّزَّاق حَدِيث الْبَاب عَن دَاوُد بن قيس عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه فَقَالَ فِيهِ: إِذْ جَاءَ شَاب، وَلم يسمعهُ. وَعَن معمر عَن زيد بن أسلم فَقَالَ فِيهِ: فَذهب ذُو قرَابَة لمروان. وَمن طَرِيق أبي الْعَالِيَة عَن أبي سعيد فَقَالَ فِيهِ: فَمر رجل بَين يَدَيْهِ من بني مَرْوَان، وَالنَّسَائِيّ من وَجه آخر فَمر ابْن لمروان، وَسَماهُ عبد الرَّزَّاق من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى دَاوُد بن مَرْوَان، وَلَفظه: أَرَادَ دَاوُد بن مَرْوَان أَن يمر بَين يَدي أبي سعيد، ومروان يَوْمئِذٍ أَمِير بِالْمَدِينَةِ، فَذكر الحَدِيث وَبِه جزم ابْن الْجَوْزِيّ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت الِاخْتِلَاف فِي تَسْمِيَة الْمُبْهم الَّذِي فِي الصَّحِيح، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال بِتَعَدُّد الْوَاقِعَة لأبي سعيد مَعَ غير وَاحِد، لِأَن فِي تعْيين وَاحِد من هَؤُلَاءِ مَعَ كَون اتِّحَاد الْوَاقِعَة نظرا، لَا يخفى.
قَوْله: (من بني أبي معيط) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره طاء مُهْملَة. وَأَبُو معيط فِي قُرَيْش واسْمه: أبان بن أبي عَمْرو زكوان بن أُميَّة الْأَكْبَر هُوَ وَالِد عقبَة بن أبي معيط الَّذِي قَتله رَسُول الله صبرا. ومعيط تَصْغِير: أمعط، وَهُوَ الَّذِي لَا شعرعليه، والأمعط والأمرط سَوَاء. قَوْله: (أَن يجتاز) ، بِالْجِيم من الْجَوَاز. قَوْله: (فَلم يجد مساغاً) ، بِفَتْح الْمِيم وبالغين الْمُعْجَمَة أَي: طَرِيقا يُمكنهُ الْمُرُور مِنْهَا. يُقَال: سَاغَ الشَّرَاب فِي الْحلق إِذا نزل من غير الضَّرَر، وساغ الشَّيْء طَابَ. قَوْله: (من الأولى) أَي: من الْمرة(4/290)
الأولى أَو الدفعة الأولى. قَوْله: (فنال من أبي سعيد) بالنُّون أَي: أصَاب من عرضة بالشتم، وَهُوَ من النّيل، وَهُوَ الْإِصَابَة. قَوْله: (ثمَّ دخل على مَرْوَان) ، وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم، بِفَتْح الْكَاف: ر الْأمَوِي أَبُو عبد الْملك، يُقَال: إِنَّه رأى النَّبِي، قَالَه الْوَاقِدِيّ وَلم يحفظ عَنهُ شَيْئا، توفّي النَّبِي، وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، مَاتَ بِدِمَشْق لثلاث خلون من رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَقد تقدم ذكره فِي بَاب البزاق والمخاط. قَوْله: (فَقَالَ: مَالك؟) أَي فَقَالَ مَرْوَان، فكلمة: مَا مُبْتَدأ و: لَك خَبره. (و: لِابْنِ أَخِيك) عطف عَلَيْهِ بِإِعَادَة الْخَافِض، وَأطلق الْأُخوة بِاعْتِبَار أَن الْمُؤمنِينَ أخوة، وَفِيه تأييد لقَوْل من قَالَ إِن الْمَار بَين يَدي أبي سعيد الَّذِي دَفعه غير الْوَلِيد، لِأَن أَبَاهُ عقبَة قتل كَافِرًا. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: ولأخيك، بِحَذْف الأبن. قلت: نظرا إِلَى أَنه كَانَ شَابًّا أَصْغَر مِنْهُ.
قَوْله: (فليدفعه) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فليدفع فِي نَحره) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَي بِالْإِشَارَةِ، ولطيف الْمَنْع. قَوْله: (فليقاتله) ، بِكَسْر اللَّام الجازمة وبسكونها. قَوْله: (فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان) ، هَذَا من بَاب التَّشْبِيه حذف مِنْهُ أَدَاة التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة أَي: إِنَّمَا هُوَ كشيطان، أَو يُرَاد بِهِ شَيْطَان الْإِنْس، وَإِطْلَاق الشَّيْطَان على المارد من الْإِنْس سَائِغ شَائِع، وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} (الْأَنْعَام: 211) وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن الشَّيْطَان يحملهُ على ذَلِك ويحركه إِلَيْهِ، وَقد يكون أَرَادَ بالشيطان الْمَار بَين يَدَيْهِ نَفسه، وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان هُوَ المارد الْخَبيث من الْجِنّ وَالْإِنْس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: الْحَامِل لَهُ على ذَلِك الشَّيْطَان، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث ابْن عمر عِنْد مُسلم: (لَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ فَإِن أَبى فليقاتله فَإِن مَعَه القرين) . وَعند أبن مَاجَه: (قَالَ: القرين) ، وَقَالَ المنكدري: فَإِنَّهُ مَعَه الْعُزَّى وَقيل: مَعْنَاهُ: إِنَّمَا هُوَ فعل الشَّيْطَان لشغل قلب الْمُصَلِّي، كَمَا يخْطر الشَّيْطَان بَين الْمَرْء وَنَفسه.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ اتِّخَاذ الستْرَة للْمُصَلِّي، وَزعم ابْن الْعَرَبِيّ أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي وجوب وضع الستْرَة بَين يَدي الْمُصَلِّي على ثَلَاثَة أَقْوَال. الأول: أَنه وَاجِب، فَإِن لم يجد وضع خطا، وَبِه قَالَ أَحْمد، كَأَنَّهُ اعْتمد حَدِيث ابْن عمر الَّذِي صَححهُ الْحَاكِم: (لَا تصلي إلاَّ إِلَى ستْرَة وَلَا تدع أحدا يمر بَين يَديك) . وَعَن أبي نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) : حدّثنا سُلَيْمَان، أَظُنهُ عَن حميد بن هِلَال، قَالَ عمر ابْن الْخطاب: لَو يعلم الْمُصَلِّي مَا ينقص من صلَاته مَا صلى إِلَّا إِلَى شَيْء يستره من النَّاس، وَعند ابْن أبي شيبَة، عَن ابْن مَسْعُود: (إِنَّه ليقطع نصف صَلَاة الْمَرْء الْمُرُور بَين يَدَيْهِ) . الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَحبَّة، ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. الثَّالِث: جَوَاز تَركهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن مَالك. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الأَصْل فِي الستْرَة أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يستحبون إِذا صلوا فِي الفضاء أَن يكون بَين أَيْديهم مَا يسترهم. وَقَالَ عَطاء، لَا بَأْس بترك الستْرَة، وَصلى الْقَاسِم وَسَالم فِي الصَّحرَاء إِلَى غير ستْرَة، ذكر ذَلِك كُله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي هَذَا على عشرَة أَنْوَاع: الأول: أَن الستْرَة وَاجِبَة أَو لَا؟ وَقد مر الْآن. الثَّانِي: مِقْدَار مَوضِع يكره الْمُرُور فِيهِ، فَقيل: مَوضِع سُجُوده، وَهُوَ اخْتِيَار شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَشَيخ الْإِسْلَام قاضيخان، وَقيل: مِقْدَار صفّين أَو ثَلَاثَة، وَقيل: بِثَلَاثَة أَذْرع، وَقيل: بِخَمْسَة أَذْرع. وَقيل: بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعا، وَقدر الشَّافِعِي وَأحمد بِثَلَاثَة أَذْرع، وَلم يحد مَالك فِي ذَلِك حدا إلاّ أَن ذَلِك بِقدر مَا يرْكَع فِيهِ وَيسْجد ويتمكن من دفع من مر بَين يَدَيْهِ. وَالثَّالِث: أَنه يسْتَحبّ لمن صلى فِي الصَّحرَاء أَن يتَّخذ أَمَامه ستْرَة، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله قَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فليجعل تِلْقَاء وَجهه شَيْئا، فَإِن لم يجد فلينصب عَصا، فَإِن لم يكن لَهُ عَصا، فليخط خطا وَلَا يضرّهُ مَا مر أَمَامه) . وخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَذكر عبد الْحق أَن ابْن الْمَدِينِيّ وَأحمد بن حَنْبَل صَحَّحَاهُ، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف وَإِن كَانَ قد أَخذ بِهِ أَحْمد. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: لم نجد شَيْئا نَشد بِهِ هَذَا الحَدِيث. وَكَانَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول: عنْدكُمْ شَيْء تشدون بِهِ، وَأَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى ضعفه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ ضعف وأضطراب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا بَأْس بِهِ فِي مثل هَذَا الجكم.
الرَّابِع: مِقْدَار الستْرَة، قد ورد: قدر ذِرَاع، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِيمَا مضى عَن قريب. وَالْخَامِس: يَنْبَغِي أَن يكون فِي غلظ الإصبع لِأَن مَا دونه لَا يَبْدُو للنَّاظِر من بعيد. وَالسَّادِس: يقرب من الستْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. وَالسَّابِع: أَن يَجْعَل الستْرَة على حَاجِبه الْأَيْمن، أَو على الْأَيْسَر، وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْمِقْدَاد بن الْأسود، قَالَ: (مَا رَأَيْت سَوَّلَ الله يُصَلِّي إِلَى عود وَلَا عَمُود وَلَا شَجَرَة إلاَّ جعله على حَاجِبه الْأَيْمن أَو الْأَيْسَر، وَلَا يصمد لَهُ صمداً) ، يَعْنِي لم يَقْصِدهُ قصدا بالمواجهة،(4/291)
والصمد هُوَ الْقَصْد فِي اللُّغَة. وَالثَّامِن: أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة للْقَوْم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. وَالتَّاسِع: ذكر أَصْحَابنَا أَن الْمُعْتَمد الغرز دون الْإِلْقَاء، والخط، لِأَن الْمَقْصُود هُوَ الدرء فَلَا يحصل بالإلقاء وَلَا بالخط، وَفِي (مَبْسُوط) شيخ الْإِسْلَام: إِنَّمَا يغرز إِذا كَانَت الأَرْض رخوة، فَإِذا كَانَت صلبة لَا يُمكنهُ فَيَضَع وضعا. لِأَن الْوَضع قد وري كَمَا رُوِيَ الغرز، لَكِن يضع طولا لَا عرضا. وروى أَبُو عصمَة عَن مُحَمَّد: إِذا لم يجد ستْرَة؟ قَالَ: لَا يخط بَين يَدَيْهِ، فَإِن الْخط وَتَركه سَوَاء، لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو للنَّاظِر من بعيد. وَقَالَ الشَّافِعِي بالعراق: إِن لم يجد مَا يخط خطا طولا، وَبِه أَخذ بعض الْمُتَأَخِّرين. وَفِي (الْمُحِيط) : الْخط لَيْسَ بِشَيْء. وَفِي (الذَّخِيرَة) للقرافي: الْخط بَاطِل، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَجوزهُ أَشهب فِي (الْعُتْبِيَّة) وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ بالعراق، ثمَّ قَالَ بِمصْر: لَا يخط، والمانعون أجابوا عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أَنه ضَعِيف. وَقَالَ عبد الْحق: ضعفه جمَاعَة ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لم يَصح فِي الْخط شَيْء وَلَا يجوز القَوْل بِهِ. والعاشر: أَن الستْرَة إِذا كَانَت مَغْصُوبَة فَهِيَ مُعْتَبرَة عندنَا وَعَن أَحْمد تبطل صلَاته، وَمثله الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْمَغْصُوب عِنْده.
الثَّانِي من الْأَحْكَام أَن الدرء، وَهُوَ: دفع الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي هَل هُوَ وَاجِب أَو ندب؟ فَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الْأَمر، أَعنِي قَوْله: (فليدفعه) ، أَمر ندب متأكد وَلَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء أوجبه. قلت: قَالَ أهل الظَّاهِر بِوُجُوبِهِ لظَاهِر الْأَمر، فَكَأَن النَّوَوِيّ مَا أطلع على هَذَا، أَو اعْتد بخلافهم. وَقَالَ ابْن بطال: اتَّفقُوا على دفع الْمَار إِذا صلى إِلَى ستْرَة، فَأَما إِذا صلى إِلَى غير الستْرَة فَلَيْسَ لَهُ، لِأَن التَّصَرُّف وَالْمَشْي مُبَاح لغيره فِي ذَلِك الْموضع الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ، فَلم يسْتَحق أَن يمنعهُ إلاَّ مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَهِي الستْرَة الَّتِي وَردت السّنة بمنعها.
الثَّالِث: إِنَّه يجوز لَهُ الْمَشْي إِلَيْهِ من مَوْضِعه ليَرُدهُ، وَإِنَّمَا يدافعه وَيَردهُ من مَوْضِعه، لِأَن مفْسدَة الْمَشْي أعظم من مروره بَين يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا أُبِيح لَهُ قدر مَا يَنَالهُ من موقفه، وَإِنَّمَا يردهُ إِذا كَانَ بَعيدا مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْبِيح، وَلَا يجمع بَينهمَا. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لَا يَنْتَهِي دفع الْمَار إِلَى منع مُحَقّق، بل يومىء وَيُشِير بِرِفْق فِي صَدره من يمر بِهِ، وَفِي الْكَافِي للروياني يَدْفَعهُ ويصر على ذَلِك، وَإِن أدّى إِلَى قَتله. وَقيل: يَدْفَعهُ دفعا شَدِيدا أَشد من الدرء، وَلَا يَنْتَهِي إِلَى مَا يفْسد صلَاته، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد مَالك وَأحمد. وَقَالَ أَشهب فِي (الْمَجْمُوعَة) إِن قرب مِنْهُ درأه وَلَا ينازعه، فَإِن مَشى لَهُ ونازعه لم تبطل صلَاته، وَإِن تجاوزه لَا يردهُ لِأَنَّهُ مُرُور ثَان، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْقَاسِم من أَصْحَاب مَالك، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود وَسَالم: يردهُ من حَيْثُ جَاءَ، وَإِذا مر بَين يَدَيْهِ مَا لَا تُؤثر فِيهِ إِلَّا الْإِشَارَة كالهرة. قَالَت الْمَالِكِيَّة: دَفعه بِرجلِهِ أَو ألصقه إِلَى السّتْر.
الرَّابِع: هَل يقاتله؟ فِيهِ: فَإِن أَبى فليقاتله. قَالَ عِيَاض: أَجمعُوا على أَنه لَا تلْزمهُ مقاتلته بِالسِّلَاحِ، وَلَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه فَإِن دَفعه بِمَا يجوز فَهَلَك من ذَلِك فَلَا قَود عَلَيْهِ بِاتِّفَاق الْعلمَاء، وَهل تجب دِيَته أم تكون هدرا؟ فِيهِ مذهبان للْعُلَمَاء، وهما قَولَانِ فِي مَذْهَب مَالك. قَالَ ابْن شعْبَان: عَلَيْهِ الدِّيَة فِي مَاله كَامِلَة، وَقيل: هِيَ على عَاقِلَته، وَقيل: هدر، ذكره ابْن التِّين. وَاخْتلفُوا فِي معنى: فليقاتله، وَالْجُمْهُور على أَن مَعْنَاهُ: الدّفع بالقهر لَا جَوَاز الْقَتْل، وَالْمَقْصُود: الْمُبَالغَة فِي كَرَاهَة الْمُرُور. وَأطلق جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة أَن لَهُ أَن يقاتله حَقِيقَة، ورد ابْن الغربي ذَلِك، وَقَالَ: المُرَاد بالمقاتلة المدافعة. وَقَالَ بَعضهم: معنى فليقاتله، فليلعنه. قَالَ اتعالى. {قتل الخراصون} (الذاريات: 01) أَي: لعنُوا وَأنْكرهُ بَعضهم وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يدْفع فِي نَحره أول مرّة، ويقاتله فِي الثَّانِيَة، وَهِي المدافعة. وَقيل: يؤاخذه على ذَلِك بعد إتْمَام الصَّلَاة ويؤنبه. وَقيل: يَدْفَعهُ دفعا أَشد من الرَّد مُنْكرا عَلَيْهِ. وَفِي (التَّمْهِيد) : الْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة جَائِز، نَحْو قتل البرغوث، وحك الْجَسَد، وَقتل الْعَقْرَب بِمَا خف من الضَّرْب مَا لم تكن الْمُتَابَعَة والطول، وَالْمَشْي إِلَى الْفرج إِذا كَانَ ذَلِك قَرِيبا، ودرء الْمُصَلِّي وَهَذَا كُله مَا لم يكثر، فَإِن كثر فسد.
الْخَامِس: فِيهِ أَن الْمَار كالشيطان، فِي أَنه يشغل قلبه عَن مُنَاجَاة ربه.
السَّادِس: فِيهِ أَنه يجوز أَن يُقَال للرجل إِذا فتن فِي الدّين: إِنَّه شَيْطَان.
السَّابِع: فِيهِ أَن الحكم للمعاني لَا للأسماء، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يصير الْمَار شَيْطَانا بمروره بَين يَدَيْهِ.
الثَّامِن: فِيهِ أَن دفع الأسوأ إِنَّمَا بالأسهل فالأسهل.
التَّاسِع: فِيهِ أَن فِي المنازعات لَا بُد من الرّفْع إِلَى الْحَاكِم وَلَا ينْتَقم الْخصم بِنَفسِهِ.
الْعَاشِر: فِيهِ أَن رِوَايَة الْعدْل مَقْبُولَة وَإِن كَانَ الرَّاوِي لَهُ مُنْتَفعا بِهِ.
101 - (بابُ إثْمِ المَارِ بَيْنَ يَدَيِ المصَلِّي)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي، وأصل الْمَار: مارر، فاسكنت الرَّاء اللأولى وادغمت الثَّانِيَة، والإدغام فِي مثله وَاجِب.(4/292)
015951 - حدّثنا عَبْدُ ااِ بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنا مالِكٌ عنْ أبي النَّضُرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ ااِ عنْ بُسْرِ بنِ سعِيد أنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أرْسَلَهُ إلَى أبي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ ماذَا سَمِعَ مِن رَسُولِ ااِ فِي الْمَارِ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي فَقَالَ أبُو جُهَيْمٍ قَالَ رسُولُ ااِ لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلّي ماذَا لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أبُو النَّضْرِ لاَ أدْرِي أقَال أرْبَعِينَ يَوْماً أوْ شَهْراً أوْ سَنَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة قد ذكرُوا. وَأَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم ابْن أبي أُميَّة، و: بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: الْحَضْرَمِيّ الْمدنِي الزَّاهِد، مَاتَ سنة مائَة، وَلم يخلف كفناً. وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ، وَأَبُو جهيم، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء: واسْمه عبد ابْن جهيم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: تَابِعِيّ وصحابيان. وَفِيه: أَبُو جهيم، بِالتَّصْغِيرِ مر فِي بَاب التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رَاوِي حَدِيث الْمُرُور هُوَ غير رَاوِي حَدِيث التَّيَمُّم، وَقَالَ الكلاباذي: أَبُو جهيم، وَيُقَال: أَبُو جهم بن الْحَارِث، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَالتَّيَمُّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَبُو جهيم رَاوِي حَدِيث الْمُرُور وَحَدِيث التَّيَمُّم غير أبي الجهم مكبر الْمَذْكُور فِي حَدِيث الخميصة والأنبجانية، لِأَن اسْمه: عبد ا، وَهُوَ أَنْصَارِي، وَاسم ذَلِك عَامر، وَهُوَ عدوي وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو الْجُهَيْم، يُقَال: أَبُو الجهم بن الْحَارِث بن الصمَّة، كَانَ أَبوهُ من كبار الصَّحَابَة، ثمَّ قَالَ: أَبُو جهيم عبد ابْن جهيم جعله، وَابْن الصمَّة وَاحِدًا أَبُو نعيم وَابْن مندة، وَكَذَا قَالَه مُسلم فِي بعض كتبه، وجعلهما ابْن عبد الْبر اثْنَيْنِ وَهُوَ أشبه، لَكِن متن الحَدِيث وَاحِد.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه بَقِيَّة السِّتَّة، قَالَ ابْن ماجة: حدّثنا هِشَام بن عمار حدّثنا ابْن عُيَيْنَة عَن أبي النَّضر عَن بسر، قَالَ: (أرسلوني إِلَى زيد بن خَالِد أسأله عَن الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي فَأَخْبرنِي عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: لِأَن يقوم أَرْبَعِينَ خير لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ. قَالَ سُفْيَان. وَلَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ سنة أَو شهرا أَو صباحاً أَو سَاعَة) . وَفِي (مُسْند الْبَزَّار) : أخبرنَا أَحْمد بن عَبدة حدّثنا سُفْيَان بِهِ، وَفِيه: (أَرْسلنِي أَبُو جهيم إِلَى زيد بن خَالِد. فَقَالَ: لِأَن يقوم أَرْبَعِينَ خَرِيفًا خير لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ) . وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة مقلوباً، وَالْقَوْل عندنَا قَول مَالك، وَمن تَابعه، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي حَدِيث الْبَزَّار خطىء فِيهِ ابْن عُيَيْنَة وَلَيْسَ خَطؤُهُ بمتعين لاحْتِمَال أَن يكون أَبُو جهيم بعث بسراً إِلَى زيد، وَزيد بَعثه إِلَى أبي جهيم يستثبت كل وَاحِد مَا عِنْد الآخر، فَأخْبر كل مِنْهُمَا بمحفوظه فَشك أَحدهمَا وَجزم الآخر. وَاجْتمعَ ذَلِك كُله عِنْد أبي النَّضر. قلت: قَول مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِيهِ أَن الْمُرْسل هُوَ زيد، وَأَن الْمُرْسل إِلَيْهِ هُوَ أَبُو جهيم، وَتَابعه سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي النَّضر عِنْد مُسلم وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا، وَخَالَفَهُمَا ابْن عُيَيْنَة عَن أبي النَّضر فَقَالَ: عَن بسر بن سعيد، قَالَ: (أَرْسلنِي أَبُو جهيم إِلَى زيد بن خَالِد أسأله) فَذكر هَذَا الحَدِيث: قلت: هَذَا عكس متن (الصَّحِيحَيْنِ) لِأَن المسؤول فيهمَا هُوَ أَبُو جهيم، وَهُوَ الرَّاوِي عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعند الْبَزَّار المسؤول زيد بن خَالِد.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (مَاذَا عَلَيْهِ) ، أَي: من الْإِثْم والخطيئة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم) ، وَلَيْسَت هَذِه الزِّيَادَة فِي شَيْء من الرِّوَايَات غَيره، وَكَذَا فِي (الْمُوَطَّأ) لَيست هَذِه الزِّيَادَة، وَكَذَا فِي سَائِر المسندات. وَفِي المستخرجات، غير أَنه وَقع فِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : مَاذَا عَلَيْهِ، يَعْنِي من الْإِثْم، وعيب على الْمُحب الطَّبَرِيّ حَيْثُ عزا هَذِه الزِّيَادَة فِي الْأَحْكَام للْبُخَارِيّ. قَوْله: (بَين يَدي الْمُصَلِّي) أَي: أَمَامه بِالْقربِ مِنْهُ، وَعبر باليدين لكَون أَكثر الشّغل يَقع بهما. قَوْله: (أَن يقف أَرْبَعِينَ) ، وَقد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (أَرْبَعِينَ سنة أَو شهرا أَو صباحاً أَو سَاعَة) . وَفِي رِوَايَة الْبَزَّار: (أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: لَو يعلم أحدكُم مَا لَهُ فِي أَن يمر بَين يَدي أَخِيه مُعْتَرضًا فِي الصَّلَاة كَانَ لِأَن يُقيم مائَة عَام خيرا لَهُ من الخطوة الَّتِي خطأ) . وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: عَن عبد ابْن عَمْرو مَرْفُوعا: (إِن(4/293)
الَّذِي يمر بَين يَدي الْمُصَلِّي عمدا يتَمَنَّى يَوْم الْقِيَامَة أَنه شَجَرَة يابسة) . وَفِي المُصَنّف عَن عبد الحميد، عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: (لَو يعلم الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي مَا عَلَيْهِ لأحب أَن ينكسر فَخذه وَلَا يمر بَين يَدَيْهِ) . وَقَالَ ابْن مَسْعُود: (الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي أنقص من الْمَمَر عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذا مر أحد بَين يَدَيْهِ الْتَزمهُ حَتَّى يردهُ) . وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ عمر، رَضِي اعنه: (لَكَانَ يقوم حولا خير لَهُ من مروره) . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: (لَكَانَ أَن يخسف بِهِ خيرا لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ) . قَوْله: (قَالَ أَبُو النَّضر) قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا من كَلَام مَالك فَهُوَ مُسْند، وَإِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ. قلت: هُوَ كَلَام مَالك وَلَيْسَ هُوَ من تَعْلِيق البُخَارِيّ لِأَنَّهُ ثَابت فِي (الْمُوَطَّأ) من جَمِيع الطّرق، وَكَذَا ثَبت فِي رِوَايَة الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (أقَال؟) الْهمزَة فِيهِ للإستفهام، وفاعله: بسرا أَو رَسُول الله كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: الظَّاهِر أَنه بسر بن أُميَّة.
ذكر إعرابه) قَوْله: (مَاذَا عَلَيْهِ؟) كلمة مَا: اسْتِفْهَام وَمحله الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَكلمَة: ذَا، إِشَارَة خَبره، وَالْأولَى أَن تكون: ذَا مَوْصُولَة بِدَلِيل افتقاره إِلَى شَيْء بعده لِأَن تَقْدِيره: مَاذَا عَلَيْهِ من الْإِثْم، ثمَّ إِن: مَاذَا عَلَيْهِ، فِي مَحل النصب على أَنه سد مسد المفعولين لقَوْله: (لَو يعلم) ، وَقد علق عمله بالإستفهام. قَوْله: (لَكَانَ) جَوَاب: لَو، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: لَو يعلم الْمَار مَا الَّذِي عَلَيْهِ من الْإِثْم من مروره بَين يَدي الْمُصَلِّي لَكَانَ وُقُوفه أَرْبَعِينَ خيرا لَهُ من أَن يمر؟ أَي: من مروره بَين يَدَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: جَوَاب: لَو، لَيْسَ هُوَ الْمَذْكُور، إِذْ التَّقْدِير: لَو يعلم مَاذَا عَلَيْهِ لوقف أَرْبَعِينَ، لَو وقف أَرْبَعِينَ لَكَانَ خيرا لَهُ. قلت: لَا ضَرُورَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير وَهُوَ تصرف فِيهِ تعسف، وَحقّ التَّرْكِيب مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (خيرا) فِيهِ رِوَايَتَانِ: النصب وَالرَّفْع. أما النصب فَظَاهر لِأَنَّهُ خبر: لَكَانَ، وَاسم، كَانَ، هُوَ قَوْله: أَن يقف، لأَنا قُلْنَا: إِن كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَن التَّقْدِير: لَكَانَ وُقُوفه أَرْبَعِينَ خيرا لَهُ. وَأما وَجه الرّفْع، فقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اسْم: وَلم يذكر خبر مَا هُوَ، وَخبر هُوَ قَوْله: أَن يقف، وَالتَّقْدِير: لَو يعلم الْمَار مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ خير وُقُوفه أَرْبَعِينَ، وتعسف بَعضهم فَقَالَ: يحْتَمل أَن يُقَال: اسْمهَا ضمير الشَّأْن وَالْجُمْلَة خَبَرهَا.
قَوْله: (أقَال: أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَو شهرا أَو سنة؟) لِأَنَّهُ ذكر الْعدَد أَعنِي أَرْبَعِينَ، وَلَا بُد من مُمَيّز، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن هَذِه الْأَشْيَاء، وَقد أبهم ذَلِك هَهُنَا. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِيهِ؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: وَأبْهم الْأَمر ليدل على الفخامة، وَأَنه مِمَّا لَا يقدر قدره وَلَا يدْخل تَحت الْعبارَة. انْتهى. قلت: الْإِبْهَام هَهُنَا من الرَّاوِي، وَفِي نفس الْأَمر الْعدَد معِين، ألاَ ترى كَيفَ تعين فِيمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة (لَكَانَ أَن يقف مائَة عَام؟) الحَدِيث؟ كَمَا ذكرنَا، وَكَذَا عين فِي مُسْند الْبَزَّار من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة: (لَكَانَ أَن يقف أَرْبَعِينَ خَرِيفًا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل للتخصيص بالأربعين حِكْمَة مَعْلُومَة؟ قلت: أسرار أَمْثَالهَا لَا يعلمهَا إلاَّ الشَّارِع، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لِأَن الْغَالِب فِي أطوار الْإِنْسَان أَن كَمَال كل طور بِأَرْبَعِينَ، كاطوار النُّطْفَة، فَإِن كل طور مِنْهَا بِأَرْبَعِينَ، وَكَمَال عدل الْإِنْسَان فِي أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ الْأَرْبَعَة أصل جَمِيع الْأَعْدَاد، لِأَن أجزاءه وَهِي عشرَة، وَمن العشرات المآت، وَمِنْهَا الألوف، فَلَمَّا أُرِيد التكثير ضوعف كل إِلَى عشرَة أَمْثَاله. انْتهى. قلت: غفل الْكرْمَانِي عَن رِوَايَة الْمِائَة حَيْثُ قصر فِي بَيَان الْحِكْمَة على الْأَرْبَعين، وَقَالَ بَعضهم، فِي التنكيت على الْكرْمَانِي: بِأَن هَذِه الرِّوَايَة تشعر بِأَن إِطْلَاق الْأَرْبَعين للْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيم الْأَمر لَا لخُصُوص عدد معِين. قلت: لَا يُنَافِي رِوَايَة الْمِائَة عَن بَيَان وَجه الْحِكْمَة فِي الْأَرْبَعين، بل يَنْبَغِي أَن يطْلب وَجه الْحِكْمَة فِي كل مِنْهُمَا، لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: لِمَ أطلق الْأَرْبَعين للْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيم الْأَمر. ولِمَ لَمْ يذكر الْخمسين أَو سِتِّينَ أَو نَحْو ذَلِك؟ وَالْجَوَاب الْوَاضِح الشافي فِي ذَلِك أَن تعْيين الْأَرْبَعين للْوَجْه الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي، وَأما وَجه ذكر الطَّحَاوِيّ أَنه قيد بِالْمِائَةِ بعد التَّقْيِيد بالأربعين للزِّيَادَة فِي تَعْظِيم الْأَمر على الْمَار، لِأَن الْمقَام مقَام زجر وتخويف وَتَشْديد. فَإِن قلت: من أَيْن علم أَن التَّقْيِيد بِالْمِائَةِ بعد التَّقْيِيد بالأربعين؟ قلت: وقوعهما مَعًا مستعبد، لِأَن الْمِائَة أَكثر من الْأَرْبَعين، وَكَذَا وُقُوع الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة لعدم الْفَائِدَة، وَكَلَام الشَّارِع كُله حِكْمَة وَفَائِدَة، والمناسبة أَيْضا تَقْتَضِي تَأْخِير الْمِائَة عَن الْأَرْبَعين. فَإِن قلت: قد علم فِيمَا مضى وَجه الْحِكْمَة فِي الْأَرْبَعين، فَمَا وَجه الْحِكْمَة فِي تعْيين الْمِائَة؟ قلت: الْمِائَة وسط بِالنِّسْبَةِ إِلَى العشرات والألوف، وَخير الْأُمُور أوسطها، وَهَذَا مِمَّا تفردت بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام) فِيهِ: أَن الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي مَذْمُوم، وفاعله مرتكب الْإِثْم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم الْمُرُور، فَإِن فِي الحَدِيث النَّهْي الأكيد والوعيد الشَّديد، فَيدل على ذَلِك. قلت: فعلى مَا ذكره يَنْبَغِي أَن(4/294)
الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي من الْكَبَائِر، ويعد من ذَلِك، وَاخْتلف فِي تَحْدِيد ذَلِك، فَقيل: إِذا مر بَينه وَبَين مِقْدَار سُجُوده وَقيل: بَينه وَبَين السَّاتِر ثَلَاث أَذْرع. وَقيل: بَينهمَا قدر رمية بِحجر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَفِيه: قَالَ ابْن بطال: يفهم من قَوْله: (لَو يعلم) أَن الْإِثْم يختصر بِمن يعلم بالمنهي وارتكبه. قَالَ بَعضهم: فِيهِ: بعد قلت: لَيْسَ فِيهِ بعد لِأَن: لَو، للشّرط فَلَا يَتَرَتَّب الحكم الْمَذْكُور إلاَّ عِنْد وجوده. وَفِيه: عُمُوم النَّهْي لكل مصلَ وَتَخْصِيص بَعضهم بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرد لَا دَلِيل عَلَيْهِ. وَفِيه: طلب الْعلم والإرسال لأَجله. وَفِيه: جَوَاز الإستنابة. وَفِيه: أَخذ الْعلمَاء بَعضهم من بعض. وَفِيه: الإقتصار على النُّزُول مَعَ الْقُدْرَة على الْعُلُوّ لإرسال زيد بن خَالِد بسر بن سعيد إِلَى جهيم، وَلَو طلب الْعُلُوّ لسعى هُوَ بِنَفسِهِ إِلَى أبي جهيم. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد.
201 - (بابُ اسْتِقْبالِ الرَّجُلِ وَهُوَ يُصَلِّي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَالْحَال أَنه يُصَلِّي يَعْنِي: هَل يكره أم لَا؟ وَالرجل الأول مُضَاف إِلَيْهِ للاستقبال وَالرجل الثَّانِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بَاب اسْتِقْبَال الرجل صَاحبه أَو غَيره، وَفِي بَعْضهَا اسْتِقْبَال الرجل وَهُوَ يُصَلِّي، وَفِي بَعْضهَا لفظ: الرجل مُكَرر، وَلَفظ: هُوَ، يحْتَمل عوده إِلَى الرجل الثَّانِي، فَيكون الرّجلَانِ متواجهين، وَإِلَى الأول فَلَا يلْزم التواجه.
وكَرِهَ عُثْمَانُ أنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلّى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعُثْمَان هُوَ ابْن عَفَّان أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة الرَّاشِدين. قَوْله: (يسْتَقْبل) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، و: (الرجل) مَرْفُوع لنيابته عَن الْفَاعِل، وَيجوز فتح الْيَاء على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَلَا مَانع من ذَلِك، والكرماني اقْتصر على الْوَجْه الأول. قَوْله: (وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة إسمية وَقعت حَالا عَن: الرجل، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر هَذَا الْأَثر عَن عُثْمَان إِلَى الْآن، وَإِنَّمَا رَأَيْته فِي (مُصَنف) عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَغَيرهمَا: من طَرِيق هِلَال بن يسَاف عَن عمر أَنه زجر عَن ذَلِك، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن عُثْمَان مَا يدل على عدم كَرَاهَة ذَلِك، فَلْيتَأَمَّل، لاحْتِمَال أَن يكون فِيمَا وَقع فِي الأَصْل تَصْحِيف عَن عمر إِلَى عُثْمَان. قلت: لَا يلْزم من عدم رُؤْيَة هَذَا الْأَثر من عُثْمَان أَن لَا يكون مَنْقُولًا عَنهُ، فَلَيْسَ بسديد زعم التَّصْحِيف بِالِاحْتِمَالِ الناشيء عَن غير دَلِيل. فَإِن قلت: رِوَايَة عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة عَن عُثْمَان بِخِلَاف مَا ذكره البُخَارِيّ عَنهُ دَلِيل الِاحْتِمَال. قلت: لَا نسلم ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون الْمَنْقُول عَنهُ آخرا بِخِلَاف مَا نقل عَنهُ أَولا لقِيَام الدَّلِيل عِنْده بذلك.
وَإنّمَا هذَا إِذا اشْتَغَلَ بهِ فأمَّا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ مَا بالبَيْتُ إنَّ الرَّجُلَ لَا يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ.
قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ يُشِير بِهِ إِلَى أَن مذْهبه هَهُنَا بالتفصيل، وَهُوَ أَن اسْتِقْبَال الرجل الرجل فِي الصَّلَاة إِنَّمَا يكره إِذا اشْتغل الْمُسْتَقْبل الْمُصَلِّي، لِأَن عِلّة الْكَرَاهَة فِي كف الْمُصَلِّي عَن الْخُشُوع وَحُضُور الْقلب، وَأما إِذا لم يشْغلهُ فَلَا بَأْس بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ النجاري الفرضي، كَاتب رَسُول ا: مَا باليت، أَي: بالاستقبال الْمَذْكُور. يُقَال: لَا أباليه أَي: لَا أكترث لَهُ. قَوْله: (إِن الرجل) بِكَسْر: إِن لِأَنَّهُ اسْتِئْنَاف ذكر لتعليل عدم المبالاة. وروى أَبُو نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) : حدّثنا مسعر، قَالَ: أَرَانِي أول من سَمعه من الْقَاسِم قَالَ: ضرب عمر رجلَيْنِ: أَحدهمَا مُسْتَقْبل وَالْآخر يُصَلِّي. وحدّثنا سُفْيَان حدّثنا رجل عَن سعيد بن جُبَير أَنه: كره أَن يُصَلِّي وَبَين يَدَيْهِ مخنث مُحدث، وحدّثنا سُفْيَان عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن ابْن جُبَير. قَالَ: إِذا كَانُوا يذكرُونَ اتعالى فَلَا بَأْس، وَقَالَ ابْن بطال: أجَاز الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ الصَّلَاة خلف المتحدثين، وَكَرِهَهُ ابْن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن عمر لَا يسْتَقْبل من يتَكَلَّم إلاَّ بعد الْجُمُعَة. وَعَن مَالك: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي إِلَى ظهر الرجل، وَأما إِلَى جنبه فَلَا، وروى عَنهُ التَّخْفِيف فِي ذَلِك. وَقَالَ: لَا تصلوا إِلَى المتحلقين، لِأَن بَعضهم يستقبله. قَالَ: وَأَرْجُو أَن يكون وَاسِعًا، وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الرجل يستر إِلَى الرجل إِذا صلى. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة يستره إِذا كَانَ جَالِسا. وَعَن الْحسن: يستره وَلم يشْتَرط الْجُلُوس وَلَا تَوْلِيَة الظّهْر، وَأكْثر الْعلمَاء على كَرَاهَة(4/295)
استقباله بِوَجْهِهِ. وَقَالَ نَافِع: كَانَ ابْن عمر إِذا لم يجد سَبِيلا إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد قَالَ لي: ظهرك، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ ابْن سِيرِين: لَا يكون الرجل ستْرَة للْمُصَلِّي.
115061 - ح دّثنا إسْمَاعيلُ بنُ خَلِيلٍ قَالَ حدّثنا عَليُّ بنُ مُسْهِرٍ عنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ يَعْنِي ابْنَ صُبَيْحٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَها مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ فَقالُوا يَقْطَعُها الْكَلْبُ والحِمَارُ والمَرْأةُ قالَتْ لَقدْ جَعَلْتُمُونا كِلاَباً لَقَدْ رَأيْتُ النبيَّ يُصَلِّي وإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنُ القِبْلَةِ وَأَنا مضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ فَتَكُونُ لِيَ الحَاجَةُ فأكْرَهُ أنْ أسْتَقْبِلَهُ فأنْسَلُّ انْسِلاَلاً. .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة على وُجُوه: الأول: مَا قَالَه الْكرْمَانِي: حكم الرِّجَال وَالنِّسَاء وَاحِد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إلاَّ مَا خصّه الدَّلِيل. قلت: بَيَان ذَلِك أَن عَائِشَة كَانَت مُضْطَجِعَة على السرير، وَكَانَت بَين يَدي النَّبِي وَبَين الْقبْلَة، فَيكون اسْتِقْبَال الرجل الْمَرْأَة فِي الصَّلَاة وَلم تكن تشغل النَّبِي، فَدلَّ على عدم الْكَرَاهَة. وَلَا يُقَال: التَّرْجَمَة اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَفِيمَا ذكر اسْتِقْبَال الرجل الْمَرْأَة، لأَنا نقُول: حكم الرِّجَال وَالنِّسَاء وَاحِد إِلَى آخر مَا ذكرنَا، وَقد ذكرنَا أَن التَّرْجَمَة رويت على ثَلَاثَة أوجه، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْوَجْه الْوَاحِد، وَهُوَ: بَاب اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَهُوَ يُصَلِّي. وَأما فِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين فالتطابق ظَاهر فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّكَلُّف. الْوَجْه الثَّانِي: ذكره ابْن الْمُنِير فَقَالَ: لِأَنَّهُ يدل على الْمَقْصُود بطرِيق الأولى، وَإِن لم يكن تَصْرِيح بِأَنَّهَا كَانَت مُسْتَقْبلَة، فلعلها كَانَت منحرفة أَو مستدبرة. الْوَجْه الثَّالِث: ذكره ابْن رشد فَقَالَ: قصد البُخَارِيّ: أَن شغل الْمُصَلِّي بِالْمَرْأَةِ إِذا كَانَت فِي قبلته، على أَي حَالَة كَانَت، أَشد من شغله بِالرجلِ، وَمَعَ ذَلِك فَلم يضر صلَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ غير مشتغل بهَا، فَكَذَلِك لَا تضر صَلَاة من لم يشْتَغل بهَا، وَبِالرجلِ من بَاب أولى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد االخراز الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض، وَكَذَلِكَ عَليّ بن مسْهر، وَالْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان الْكُوفِي، وَمُسلم: هُوَ البطين ظَاهرا، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: الظَّاهِر أَنه مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى، ومسروق بن الأجدع.
وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي بَاب الصَّلَاة إِلَى السرير، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من أوجه أخر. قَوْله: (كلابا) أَي: كالكلاب فِي حكم قطع الصَّلَاة. قَوْله: (رَأَيْت) أَي: أَبْصرت. قَوْله: (وَإِنِّي لبينه) أَي: لبين النَّبِي،، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَكَذَلِكَ: وَأَنا مُضْطَجِعَة. قَوْله: (وأكره) كَذَا هُوَ بِالْوَاو فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الكشمهيني: (فأكره) بِالْفَاءِ. قَوْله: (فأنسل) أَي فَأخْرج بالخفية.
وَعنِ الأعْمَش عنْ إبْراهِيمَ عَن الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ.
أَي وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ عَن عَائِشَة، ى ضي اتعالى عَنْهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا يحْتَمل التَّعْلِيق وَكَونه من كَلَام ابْن مسْهر أَيْضا. قلت: خرجه بعد الْبَابَيْنِ فِي بَاب من قَالَ لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وَالْحَاصِل أَن هَذَا مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الَّذِي قبله، وَنبهَ بِهِ على أَن عَليّ بن مسْهر قد روى هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش باسنادين إِلَى عَائِشَة. أَحدهمَا: عَن مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، بِالْمَعْنَى. وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله. (نَحوه) وَهُوَ بِالنّصب. فَإِن قلت: كَيفَ يَقُول: نَحوه، وَلَفظ النَّحْو يَقْتَضِي الْمُمَاثلَة بَينهمَا من كل الْوُجُوه وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك؟ قلت: لَا نسلم أَنه كَذَلِك، بل يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي أصل الْمَعْنى الْمَقْصُود فَقَط.
301 - (بابُ الصَّلاَةِ خَلْفَ النَّائِمِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة خلف النَّائِم، يَعْنِي: يجوز وَلَا يكره على مَا سنبينه إِن شَاءَ اتعالى.
215162 - ح دّثنا مُسدَّدٌ قَالَ حَدَّثنا يحيى قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قَالَ حدّثني أبي عنْ عائِشة(4/296)
َ قالتْ كانَ النبيُّ يُصَلِّي وَأَنا رَاقِدَهُ مُعْتَرِضَةٌ عَلى فِرَاشِهِ فإِذَا أرَادَ أنْ يُوتِرَ أيْقَظَنِي فأوْتَرْتُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: كَيفَ الظُّهُور والترجمة خلف النَّائِم والْحَدِيث خلف النائمة. قلت: قد ذكرنَا أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء وَاحِد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إلاَّ مَا خصّه الدَّلِيل، أَو أَنه إِذا جَازَ خلف النائمة فخلف النَّائِم بِالطَّرِيقِ الأولى، أَو أَرَادَ بالنائم الشَّخْص النَّائِم ذكرا كَانَ أَو انثى.
ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا: وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام بن عُرْوَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد ابْن سعيد الْقطَّان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (كَانَ النَّبِي، يُصَلِّي) مثل هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد التّكْرَار. قَوْله: (وَأَنا رَاقِدَة) جملَة حَالية. قَوْله: (مُعْتَرضَة) ، صفة بعد صفة. قَوْله: (أَن يُوتر) أَي: إِذا راد أَن يُصَلِّي الْوتر. قَوْله: (أيقظني) ، من الإيقاظ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام قَالَ ابْن بطال: الصَّلَاة خلف النَّائِم جَائِزَة، إِلَّا أَن طَائِفَة كرهتها خوف مَا يحدث من النَّائِم فيشتغل الْمُصَلِّي بِهِ أَو يضحكه فتفسد صلَاته. وَقَالَ مَالك: لَا يصلى إِلَى نَائِم إلاَّ أَن يكون دونه ستْرَة، وَهُوَ قَول طَاوس. وَقَالَ مُجَاهِد: أَن أُصَلِّي وَرَاء قَاعد أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي وَرَاء نَائِم. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي،، قَالَ: (لَا تصلوا خلف النَّائِم وَلَا المتحدث) . وَأخرجه ابْن ماجة أَيْضا، وروى الْبَزَّار عَنهُ أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (نهيت أَن أُصَلِّي إِلَى النَّائِم والمتحدث) . وروى ابْن عدي عَن ابْن عمر نَحوه، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه.
قلت: قَالَ أَبُو دَاوُد: طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس كلهَا واهية وَقَالَ الْخطابِيّ. هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث ابْن عَبَّاس لَا يَصح عَن النَّبِي،، لضعف سَنَده. قلت: وَفِي (مُسْند) أبي دَاوُد رجل مَجْهُول، وَفِيه عبد ابْن يَعْقُوب لم يسم من حَدثهُ. قلت: وَفِي مُسْند ابْن مَاجَه أَبُو الْمِقْدَام هِشَام بن زِيَاد الْبَصْرِيّ لَا يحْتَج بحَديثه، وَحَدِيث ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة واهيان أَيْضا، وروى الْبَزَّار أَيْضا من حَدِيث أَحْمد بن يحيى الْكُوفِي حدّثنا إِسْمَاعِيل بن صبيح حدّثنا إِسْرَائِيل عَن عبد الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيّ عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله رأى رجلا يُصَلِّي إِلَى رجل فَأمره أَن يُعِيد الصَّلَاة، قَالَ: يَا رَسُول اإني صليت وَأَنت تنظر إِلَيّ) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يحفظ إلاَّ بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَكَأن هَذَا الْمُصَلِّي كَانَ مُسْتَقْبل الرجل وَلم يَتَنَحَّ عَن حياله. وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي شيبَة حدّثنا إِسْمَاعِيل بن علية عَن لَيْث عَن مُجَاهِد يرفعهُ قَالَ: (لَا يأتم بنائم وَلَا مُحدث) . وَقَالَ وَكِيع: حدّثنا سُفْيَان عَم عبد الْكَرِيم أبي أُميَّة عَن مُجَاهِد: (أَن النَّبِي نهى أَن يُصَلِّي خلف النوام والمتحدثين) ، وَعبد الْكَرِيم مَتْرُوك الحَدِيث.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب إيقاظ النَّائِم للطاعة. وَفِيه: أَن الْوتر يكون بعد النّوم.
401 - (بابُ التَّطَوُّعِ خَلْفَ المَرْأةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة التَّطَوُّع خلف الْمَرْأَة يَعْنِي يجوز.
315261 - ح دّثنا عَبْدُ ااِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أَبي النَضَرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدَ ااِ عنْ سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عنْ عائِشَةَ زَوْج النبِيِّ أنَّهَا قالَتْ كُنْتُ أَنَام بَيْنَ يَدَيْ رسولِ ااِ وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ فإذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ فإِذَا قامَ بَسَطْتُهُما قالتْ وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيها مَصابِيحُ.
هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد مر فِي بَاب الصَّلَاة على الْفراش، غير أَن هُنَاكَ أخرجه عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَهَهُنَا عَن عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَأَبُو النَّضر سَالم مولى عمر بِدُونِ الْوَاو، وَأَبُو سَلمَة عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد تكلمنا هُنَاكَ فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ مُسْتَوفى مستقصىً، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ دلَالَته على التَّطَوُّع إِذْ الصَّلَاة أَعم مِنْهُ؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ: قد علم من عَادَته أَن الْفَرَائِض كَانَ يُصليهَا فِي الْمَسْجِد وبالجماعة. وَقَالَ أَيْضا: لفظ الحَدِيث يَقْتَضِي(4/297)
أَن يكون ظهر الْمَرْأَة إِلَى الْمُصَلِّي فَمَا وَجه دلَالَة الحَدِيث عَلَيْهِ؟ ثمَّ أجَاب بقوله لَا نسلم ذَلِك الِاقْتِضَاء، وَلَئِن سلمنَا فَالسنة للنائم التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة، وَالْغَالِب من حَال عَائِشَة أَنَّهَا لَا تتركها.
501 - (بابُ منْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء وَمَعْنَاهُ من فعل غير الْمُصَلِّي.
415 - ح دّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدّثنا الأَعْمَشُ قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَد عنْ عائِشَةَ قَالَ الأَعْمَشُ وحدّثني مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ ذُكِرَ عِنْدَها مَا يَقُطَعُ الصَّلاَةَ الكَلْبُ والحِمَارُ وَالمَرْأةُ فقالَتْ شَبَهْتُمُونا بالحُمُرِ والكِلابِ وااِ لَقَدْ رَأيْتُ النبيَّ يُصَلِّي وإنّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ مُضْطَجِعَةٌ فَتَبُدُو لِي الحَاجَةُ فأكْرَهُ أنْ أجْلِسَ فأُوذِيَ النبيَّ فَأنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على أَن الصَّلَاة لَا يقطعهَا شَيْء، بَيَان ذَلِك أَن عَائِشَة أنْكرت على من ذكر عِنْدهَا أَن الصَّلَاة يقطعهَا الْكَلْب وَالْحمار وَالْمَرْأَة بِكَوْنِهَا كَانَت على السرير بَين النَّبِي وَبَين الْقبْلَة وَهِي مُضْطَجِعَة، وَلم يَجْعَل النَّبِي ذَلِك قطعا لصلاته، فَهَذِهِ الْحَالة أقوى من الْمُرُور، فَإِذا لم تقطع فِي هَذِه فَفِي الْمُرُور بِالطَّرِيقِ الأولى، ثمَّ الْمُرُور عَام من أَي حَيَوَان كَانَ، لِأَن الشَّارِع جعل كل مَا بَين يَدي الْمُصَلِّي شَيْطَانا، وَذَلِكَ فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رَسُول الله قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدعن أحدا يمر بَين يَدَيْهِ، وليدرأه مَا اسْتَطَاعَ فَإِن أبي فليقاتله فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان) . وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل بني آدم وَغَيرهم، وَلم يَجْعَل نفس الْمُرُور قَاطعا، وَإِنَّمَا ذمّ الْمَار حَيْثُ جعله شَيْطَانا من بَاب التَّشْبِيه.
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة قد ذكرُوا كلهم، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَالْأسود هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ، وَمُسلم هُوَ أَبُو الضُّحَى، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: إسنادان: أَحدهمَا: عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَالْآخر: عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله، وَقَالَ الْاعمش: حَدثنِي مُسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا إِمَّا تَعْلِيق وَإِمَّا دَاخل تَحت الْإِسْنَاد الأول، وَهَذَا تَحْويل سَوَاء كَانَ بِكَلِمَة (ح) كَمَا فِي بعض النّسخ، أَو لم يكن. وَقَالَ بَعضهم: قَالَ الْأَعْمَش، وَهُوَ مقول حَفْص بن غياث وَلَيْسَ بتعليق. قلت: أَرَادَ بِهِ الرَّد على الْكرْمَانِي وَلَيْسَ لَهُ وَجه، لِأَنَّهُ ذكر التَّعْلِيق بِالنّظرِ إِلَى ظَاهر الصُّورَة، وَذكر أَيْضا أَنه دَاخل تَحت الْإِسْنَاد الأول. وَهَذَا الحَدِيث قد تكَرر ذكره مطولا ومختصراً بِوُجُوه شَتَّى وطرق مُخْتَلفَة، ذكر فِي بَاب الصَّلَاة على الْفراش، وَفِي بَاب الصَّلَاة على السرير، وَفِي بَاب اسْتِقْبَال الرجل الرجل فِي الصَّلَاة، وَفِي بَاب الصَّلَاة خلف النَّائِم، وَفِي بَاب التَّطَوُّع خلف الْمَرْأَة، وَفِي هَذَا الْبَاب فِي موضِعين.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله: (ذكر عِنْدهَا) أَي: إِنَّه ذكر عِنْد عَائِشَة. قَوْله: (مَا يقطع) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة، وَيجوز فِيهِ وَجْهَان: الأول: أَن تكون مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: الْكَلْب، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول مَا لم يسم فَاعله، وَهُوَ قَوْله: ذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول. الْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون: مَا، مفعول مَا لم يسم فَاعله، وَيكون قَوْله: الْكَلْب، بَدَلا مِنْهُ. قَوْله: (وَأَنا على السرير بَينه وَبَين الْقبْلَة مُضْطَجِعَة) ، ثَلَاثَة أَخْبَار مترادفة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ أَيْضا: أَو خبران وَحَال، أَو: حالان وَخبر، وَفِي بَعْضهَا مُضْطَجِعَة بِالنّصب، فالأولان خبران، أَو أَحدهمَا حَال وَالْآخر خبر. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن قَوْله: وَأَنا على السرير، جملَة اسمية وَقعت حَالا من عَائِشَة، وَكَذَا: بَينه وَبَين الْقبْلَة، حَال. وَقَوله: مُضْطَجِعَة، بِالرَّفْع خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَأَنا مُضْطَجِعَة. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ تكون هَذِه الْجُمْلَة أَيْضا حَالا، وَيجوز أَن يكون: مُضْطَجِعَة، بِالرَّفْع خَبرا لقَوْله: وَأَنا أَي: وَالْحَال أَنا مُضْطَجِعَة(4/298)
على السرير، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير مُبْتَدأ. وَأما وَجه النصب فِي: مُضْطَجِعَة، فعلى أَنه حَال من: عَائِشَة، أَيْضا، ثمَّ يجوز أَن يكون هَذَانِ الحالان مترادفين، وَيجوز أَن يَكُونَا متداخلين. قَوْله: (شبهتمونا بالحمر وَالْكلاب) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (لقد جعلتمونا كلاباً) ، وَهِي فِي اسْتِقْبَال الرجل وَهُوَ يُصَلِّي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (قَالَت: عدلتمونا بالكلاب والحمر) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: (لقد شبهتمونا بالحمير وَالْكلاب) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (لقد عدلتمونا بالكلاب وَالْحمير) . وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من سبع طرق صِحَاح، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور: (قَالَت عَائِشَة: ياأهل الْعرَاق قد عدلتمونا) . الحَدِيث، وَقد أخرج أهل الْعرَاق حَدِيثا عَن أبي ذَر أخرجه مُسلم، وَقَالَ: حدّثنا ابْن أبي شيبَة، قَالَ: حدّثنا إِسْمَاعِيل بن علية وحَدثني زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حدّثنا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن يُونُس عَن حميد بن عبد ابْن الصَّامِت عَن أبي ذَر، قَالَ رَسُول ا: (إِذا قَامَ أحدكُم يُصَلِّي فَإِنَّهُ يستره إِذا كَانَ بَين يَدَيْهِ مثل آخِرَة الرحل، فَإِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ مثل آخِرَة الرحل فَإِنَّهُ يقطع صلَاته الْحمار وَالْمَرْأَة وَالْكَلب الْأسود. قلت: يَا أَبَا ذَر: مَا بَال الْكَلْب الْأسود من الْكَلْب الْأَحْمَر وَمن الْكَلْب الْأَصْفَر؟ قَالَ: يَا ابْن أخي، سَأَلت رَسُول الله كَمَا سَأَلتنِي، فَقَالَ: الْكَلْب الْأسود شَيْطَان) .
وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا مطولا ومختصراً، وَقيد الْكَلْب فِي رِوَايَته بالأسود، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، قَالَ: (يقطع الصَّلَاة الْكَلْب الْأسود وَالْمَرْأَة الْحَائِض) . وَقيد الْمَرْأَة فِي رِوَايَته بالحائض. قَوْله: (فتبدو لي الْحَاجة) أَي: تظهر، وَفِي (مُسْند) السراج: (فَيكون لي حَاجَة) . قَوْله: (فأكره أَن أَجْلِس) أَي: مُسْتَقْبل رَسُول ا، وَذكر فِي بَاب الصَّلَاة على السرير: (فأكره أَن أسنحه) . وَفِي بَاب اسْتِقْبَال الرجل: (فأكره أَن أستقبله) ، وَالْمَقْصُود من ذَلِك كُله وَاحِد، لَكِن باخْتلَاف المقامات اخْتلف الْعبارَات. قَوْله: (فأوذي) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع وفاعله الضَّمِير فِيهِ: (وَالنَّبِيّ) بِالنّصب مَفْعُوله، وَفِي النَّسَائِيّ: من طَرِيق شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن الْأسود عَن عَائِشَة فِي هَذَا الحَدِيث: (فأكره أَن أقوم فَأمر بَين يَدَيْهِ) . قَوْله: (فأنسل) بِالرَّفْع عطفا على قَوْله: (فأكره) ، وَلَيْسَ بِالنّصب عطفا على: (فأوذي) . وَمعنى: (فأنسل) : أَي: أمضي بتأن وتدريج. وَقد ذكرنَا مرّة وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (فأنسل انسلالاً) . وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّحَاوِيّ: دلّ حَدِيث عَائِشَة على أَن مُرُور بني آدم بَين يَدي الْمُصَلِّي لَا يقطع الصَّلَاة، وَكَذَلِكَ دلّ حَدِيث أم سَلمَة ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، فَأخْرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث أم سَلمَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة، قَالَت: (كَانَ يفرش لي حِيَال مصلى رَسُول ا، كَانَ يُصَلِّي وَأَنا حياله) . وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) نَحوه، غير أَن فِي لَفظه: (حِيَال مَسْجِد رَسُول ا) ، أَي: تِلْقَاء وَجهه. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا حَدِيث مَيْمُونَة: عَن عبد الله بن شَدَّاد، قَالَ: حَدَّثتنِي خَالَتِي مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، قَالَت: (كَانَ فِرَاشِي حِيَال مصلى رَسُول ا، فَرُبمَا وَقع ثَوْبه عَليّ وَهُوَ يُصَلِّي) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد، وَلَفظه: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي وَأَنا حذاءه، وَأَنا حَائِض، وَرُبمَا أصابني ثَوْبه إِذا سجد وَكَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة) . قَوْله: (مصلى رَسُول ا) ، بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فِي بَيته، وَهُوَ مَسْجده الَّذِي عينه للصَّلَاة فِيهِ، و: الْخمْرَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: حَصِير صَغِير يعْمل من سعف النّخل وينسج بالسيور والخيوط، وَهِي على قدرهَا مَا يوضع عَلَيْهَا الْوَجْه وَالْأنف، فَإِذا كَبرت عَن ذَلِك تسمى حَصِيرا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فقد تَوَاتَرَتْ هَذِه الْآثَار عَن رَسُول الله بِمَا يدل على أَن بني آدم لَا يقطعون الصَّلَاة، وَقد جعل مل مَا بَين يَدي الْمُصَلِّي فِي حَدِيث ابْن عمر وَأبي سعيد شَيْطَانا، وَأخْبر أَبُو ذَر: أَن الْكَلْب الْأسود إِنَّمَا يقطع الصَّلَاة لِأَنَّهُ شَيْطَان، فَكَانَت الْعلَّة الَّتِي جعلت لقطع الصَّلَاة قد جعلت فِي بني آدم أَيْضا، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنهم لَا يقطعون الصَّلَاة، فَدلَّ على أَن كل مار بَين يَدي الْمُصَلِّي، مِمَّا سوى بني آدم، كَذَلِك أَيْضا لَا يقطع الصَّلَاة، وَالدَّلِيل على صِحَة مَا ذكرنَا أَن ابْن عمر، مَعَ رِوَايَته مَا ذكرنَا عَنهُ من قَوْله، قد وري عَنهُ من بعده مَا حدّثنا يُونُس، قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم، قَالَ: قيل لِابْنِ عمر: إِن عبد ابْن عَيَّاش بن ربيعَة، يَقُول: يقطع الصَّلَاة الْكَلْب وَالْحمار، فَقَالَ ابْن عمر: لَا يقطع صَلَاة الْمُسلم شَيْء وَقد دلّ هَذَا على ثُبُوت نسخ مَا كَانَ سَمعه من رَسُول الله حَتَّى صَار مَا قَالَ بِهِ من ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم، وَتعقب على كَلَام الطَّحَاوِيّ بِأَن النّسخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا إِذا علم التَّارِيخ وَتعذر الْجمع والتاريخ هُنَا لم يتَحَقَّق وَالْجمع لم يتَعَذَّر (قلت) لَا نسلم -(4/299)
ذَلِك، لِأَن مثل ابْن عمر، بَعْدَمَا روى أَن الْمُرُور يقطع، قَالَ: لَا يقطع صَلَاة الْمُسلم شَيْء، فَلَو لم يثبت عِنْده نسخ ذَلِك لم يقل بِمَا قَالَ من عدم الْقطع، وَمن الدَّلِيل على ذَلِك أَن ابْن عَبَّاس، الَّذِي هُوَ أحد رُوَاة الْقطع، وري أَنه حمله على الْكَرَاهَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روى سماك عَن عِكْرِمَة، قيل لِابْنِ عَبَّاس: أتقطع الصَّلَاة الْمَرْأَة وَالْكَلب وَالْحمار؟ فَقَالَ: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} (فاطر: 01) فَمَا يقطع هَذَا، وَلَكِن يكره. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد روى عَن نفر من أَصْحَاب رَسُول ا: أَن مُرُور بني آدم وَغَيرهم بَين يَدي الْمُصَلِّي لَا يقطع الصَّلَاة، ثمَّ أخرج عَن سعيد بن الْمسيب بِإِسْنَاد صَحِيح أَن عليا وَعُثْمَان، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، قَالَا: (لَا يقطع صَلَاة الْمُسلم شَيْء وادرؤا مَا اسْتَطَعْتُم) . وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن ابْن الْمسيب عَن عَليّ وَعُثْمَان، قَالَا: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء فادرؤوهم عَنْكُم مَا اسْتَطَعْتُم) . وَأخرج الطَّحَاوِيّ: عَن كَعْب بن عبد اعن حُذَيْفَة بن الْيَمَان يَقُول: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء) . وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي اعنه، مَرْفُوعا: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء إلاَّ الْحَدث) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقَائِلُونَ بِقطع بمرورهم، من أَيْن قَالُوا بِهِ؟ قلت: إِمَّا باجتهادهم، وَلَفظ: شبهتمونا، يدل عَلَيْهِ، إِذْ نسبت التَّشْبِيه إِلَيْهِم، وَإِمَّا بِمَا ثَبت عِنْدهم من قَول النَّبِي.
قلت: هَذَا السُّؤَال سُؤال من لم يقف على الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْقطع، وَأحد شقي الْجَواب غير موجه لِأَنَّهُ لَا مجَال للإجتهاد عِنْد وجوب النُّصُوص. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن الرَّسُول بِهِ فلِمَ لَا يحكم بِالْقطعِ؟ قلت: إِمَّا لِأَنَّهَا رجحت خَبَرهَا على خبرهم من جِهَة أَنَّهَا صَاحِبَة الْوَاقِعَة، وَمن جِهَة أُخْرَى، أَو لِأَنَّهَا أولت الْقطع بِقطع الْخُشُوع ومواطأة الْقلب اللِّسَان فِي التِّلَاوَة، لَا قطع أصل الصَّلَاة، أَو جعلت حَدِيثهَا وَحَدِيث ابْن عَبَّاس مُرُور الْحمار الأتان ناسخين لَهُ، وَكَذَا حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ حَيْثُ قَالَ: (فليدفعه وفليقاتله) ، من غير حكم بِانْقِطَاع الصَّلَاة بذلك. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يعكس بِأَن يَجْعَل الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة مَنْسُوخَة؟ قلت: للإحتراز عَن كَثْرَة النّسخ، إِذْ نسخ حَدِيث وَاحِد أَهْون من نسخ ثَلَاثَة، أَو لِأَنَّهَا كَانَت عارفة بالتاريخ وَتَأَخر عَنهُ.
515461 - ح دّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَعْقُوبُ بنُ بْرَاهِيمَ قَالَ حدّثني ابنُ أخِي ابنِ شِهَابٍ أنَّهُ سأَلَ عَمَّهُ عَن الصَّلاَةِ يَقْطَعُهَا شِيءٌ فقالَ لاَ يَقْطَعُهَا شَيءٌ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ زَوْجَ النبيّ قالَتْ لَقَدْ كانَ رسولُ الله يَقُومُ فَيُصلِّي منَ اللَّيْلِ وَإِنِّي لِمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ القِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أهْلِهِ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة صَرِيحَة من قَول الزُّهْرِيّ.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن أبراهيم الْحَنْظَلِي الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، هَذِه رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره وَقع إِسْحَاق غير مَنْسُوب، وَزعم أَبُو نعيم أَنه: إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج، وَجزم ابْن السكن بِأَنَّهُ: ابْن رَاهْوَيْةِ، وَقَالَ: كل مَا فِي البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهْوَيْةِ. وَقَالَ الكلاباذي: إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم. وَإِسْحَاق بن مَنْصُور وَكِلَاهُمَا يرويان عَن يَعْقُوب. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَقد مر. الثَّالِث: ابْن أخي ابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن عبد ابْن مُسلم، تقدم فِي بَاب إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة. الرَّابِع: عَمه، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السُّؤَال وَالْقَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا إِسْحَاق فَإِنَّهُ مروزي.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (لَا يقطعهَا) ، أَي: لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وَهَذَا عَام مَخْصُوص بالأمور الثَّلَاثَة الَّتِي وَقع النزاع فِيهَا، لِأَن القواطع فِي الصَّلَاة كَثِيرَة مثل القَوْل الْكثير وَغَيرهمَا، وَمَا من عَام إلاَّ وَقد خص إلاَّ: {وَا بِكُل شَيْء عليم} (الْبَقَرَة: 132، 282 النِّسَاء: 671 الْمَائِدَة: 79 الْأَنْفَال: 57 التَّوْبَة: 511 النُّور: 53، 46 العنكبوت: 26 الحجرات: 61 المجادلة: 07 التغابن: 11) وَنَحْوه. قَوْله: (أَخْبرنِي) ، من تَتِمَّة مقول ابْن شهَاب. قَوْله: (وَإِنِّي لمعترضة) ، جملَة اسمية مُؤَكدَة: بِأَن، وللام فِي مَوضِع النصب على الْحَال.(4/300)
قَوْله: (على فرَاش أَهله) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على فرَاش) ، وعَلى الرِّوَايَتَيْنِ هُوَ مُتَعَلق: بِقوم، مَعَ أَن الرِّوَايَة الأولى يحْتَمل تعلقهَا بِلَفْظ: يُصَلِّي، أَيْضا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ بِهِ استدلت عَائِشَة وَالْعُلَمَاء بعْدهَا على أَن الْمَرْأَة لَا تقطع صَلَاة الرجل. وَفِيه: جَوَاز صَلَاة الرجل إِلَيْهَا، وَكَرَاهَة الْبَعْض لغير النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ولخوف الْفِتْنَة بهَا وبذكرها وإشتغال الْقلب بهَا بِالنّظرِ إِلَيْهَا، وَالنَّبِيّ،، منزه عَن ذَلِك كُله، مَعَ أَنه كَانَ فِي اللَّيْل والبيوت يَوْمئِذٍ لَيست فِيهَا مصابيح. وَفِيه: إستحباب صَلَاة اللَّيْل. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة على الْفراش.
601 - (بابٌ منْ حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً على عُنقِهِ فِي الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من حمل جَارِيَة صَغِيرَة على عُنُقه، يَعْنِي: لَا تفْسد صلَاته. وَقَالَ ابْن بطال: أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا ليدل أَن حمل الْمُصَلِّي الْجَارِيَة على الْعُنُق لَا يضر صلَاته، لِأَن حملهَا أَشد من مرورها بَين يَدَيْهِ، فَلَمَّا لم يضر حملهَا كَذَلِك لَا يضر مرورها. قلت: فَلذَلِك ترْجم هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة، وَبَينه وَبَين الْأَبْوَاب الَّتِي قبله مُنَاسبَة من هَذَا الْوَجْه.
615 - ح دّثنا عَبْدُ ااِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عامِرِ بنِ عَبْد ااِ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عَمْرو بنِ سُلَيْمٍ الزُّرقِيِّ عنْ أبي قَتَادَةَ الأَنْصَاريِّ أنَّ رسولَ ااِ كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حامِلٌ أُمامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتَ رسولِ ااِ ولأَبي العَاصِ بنِ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ شمْسٍ فإِذَا سَجَدَ وَضَعَها وَإذَا قَامَ حَمَلَها. (الحَدِيث 615 طرفَة فِي: 6995) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: أَيْن الظُّهُور وَقد خصص الْحمل بِكَوْنِهِ على الْعُنُق، وَلَفظ الحَدِيث أَعم من ذَلِك؟ قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى الحَدِيث لَهُ طرق أُخْرَى مِنْهَا لمُسلم من طَرِيق بكير بن الْأَشَج عَن عَمْرو بن سليم، وَصرح فِيهِ: (على عُنُقه) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد لَهُ: (فَيصَلي رَسُول الله وَهِي على عَاتِقه) ، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من طَرِيق ابْن جريج: (على رقبته) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد ابْن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: عَامر بن عبد ابْن الزبير بن الْعَوام. الرَّابِع: عَمْرو بن سليم، بِضَم السِّين: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء، وَهُوَ فِي الْأَنْصَار نِسْبَة إِلَى زُرَيْق بن عَامر بن زُرَيْق بن عبد حَارِثَة بن مَالك بن عصب بن جشم بن الْخَزْرَج. الْخَامِس: أَبُو قَتَادَة الْأنْصَارِيّ واسْمه الْحَارِث بن ربعي السّلمِيّ، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ وَابْن إِسْحَاق: اسْمه النُّعْمَان. قَالَ الْهَيْثَم بن عدي: إِن عليا صلى عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: عَن مَالك سَمِعت أَبَا قَتَادَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد من طَرِيق ابْن جريج: عَن عَامر عَن عَمْرو بن سليم أَنه سمع أَبَا قَتَادَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي وَيحيى بن يحيى وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث بِهِ، وَعَن ابتن أبي عَمْرو وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَهَارُون بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن يحيى بن خلف عَن عبد الْأَعْلَى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن صَدَقَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن حَرْب.
رلا
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله: (وَهُوَ حَامِل أُمَامَة) ، جملَة إسمية فِي مَحل النصب على الْحَال، وَلَفظ: حَامِل، بِالتَّنْوِينِ، وأمامة،(4/301)
بِالنّصب، وَهُوَ الْمَشْهُور يرْوى بِالْإِضَافَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن ابالغ أمره} (الطَّلَاق: 3) بالوحهين فِي الْقِرَاءَة وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: قَالَ النُّحَاة: فَإِن إسم الْفَاعِل للماضي وَجَبت الْإِضَافَة، فَمَا وَجه عمله؟ قلت: إِذا أُرِيد بِهِ حِكَايَة الْحَال الْمَاضِيَة جَازَ إعماله كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ} (الْكَهْف: 81) و: أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة وَتَخْفِيف الميمين: بنت زَيْنَب، رَضِي اتعالى عَنْهَا، كَانَت زَيْنَب أكبر بَنَات رَسُول ا، وَكَانَت فَاطِمَة أصغرهن وأحبهن إِلَى رَسُول ا، وَكَانَ أَوْلَاد رَسُول الله كلهَا من خَدِيجَة سوى إِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ من مَارِيَة الْقبْطِيَّة، تزَوجهَا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبل الْبعْثَة. قَالَ الزُّهْرِيّ: وَكَانَ عمر يَوْمئِذٍ إِحْدَى وَعشْرين سنة، وَقيل: خمْسا وَعشْرين سنة زمَان بنيت الْكَعْبَة، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَزَاد: وَلها من الْعُمر خمس وَأَرْبَعُونَ سنة. وَقيل: كَانَ عمره،، ثَلَاثِينَ سنة وعمرها أَرْبَعِينَ سنة، فَولدت لَهُ: الْقَاسِم وَبِه كَانَ يكنى والطاهر وَزَيْنَب ورقية وَأم كُلْثُوم وَفَاطِمَة، وَتزَوج بِزَيْنَب: أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع فَولدت مِنْهُ عليا وأمامة هَذِه الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث، تزَوجهَا عَليّ بن أبي طَالب بعد موت فَاطِمَة، فَولدت مِنْهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَت وَفَاة زَيْنَب فِي ثمانٍ. قَالَه الْوَاقِدِيّ. وَقَالَ قَتَادَة: فِي أول سنة ثَمَان.
قَوْله: (وَلأبي الْعَاصِ) بن الرّبيع بن عبد شمس، وَفِي أَحَادِيث (الْمُوَطَّأ) للدارقطني: قَالَ ابْن نَافِع وَعبد ابْن يُوسُف والقعنبي فِي رِوَايَة إِسْحَاق عَنهُ، وَابْن وهب وَابْن بكير وَابْن الْقَاسِم وَأَيوب بن صَالح عَن مَالك: وَلأبي الْعَاصِ بن ربيعَة عبد شمس. وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: وَلأبي الْعَاصِ بن الرّبيع، مثل قَول معن، وَأبي مُصعب. وَفِي (التَّمْهِيد) رَوَاهُ يحيى: وَلأبي الْعَاصِ بن ربيعَة، بهاء التَّأْنِيث، وَتَابعه الشَّافِعِي ومطرف وَابْن نَافِع، وَالصَّوَاب: ابْن الرّبيع، وَكَذَا أصلحه ابْن وضاح فِي رِوَايَة يحيى. قَالَ عِيَاض: وَقَالَ الْأصيلِيّ: هُوَ ابْن ربيع ابْن ربيعَة، فنسبه مَالك إِلَى جده قَالَ عِيَاض: وَهَذَا غير مَعْرُوف، وَنسبه عِنْد أهل الْأَخْبَار باتفاقهم أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع بن عبد الْعُزَّى بن عبد شمس بن عبد منَاف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: البُخَارِيّ نسبه مُخَالفا للْقَوْم من جِهَتَيْنِ، قَالَ: ربيعَة، بِحرف التَّأْنِيث، وَعِنْدهم: الرّبيع، بِدُونِهِ. وَقَالَ: ربيعَة بن عبد شمس، وهم قَالُوا: ربيع بن عبد الْعُزَّى بن عبد شمس. قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على كَلَام الْقَوْم لما قَالَ: نِسْبَة البُخَارِيّ مُخَالفا للْقَوْم من جِهَتَيْنِ، على أَن الَّذِي عندنَا فِي نسختنا: الرّبيع عبد شمس، بِالنِّسْبَةِ إِلَى جده، وَاخْتلف فِي اسْم أبي الْعَاصِ، قيل: يَاسر، وَقيل: لَقِيط، وَقيل: مهشم، وَقَالَ الزبير: عَن مُحَمَّد بن الضَّحَّاك عَن أَبِيه اسْمه الْقَاسِم، وَهُوَ أَكثر فِي اسْمه. وَقَالَ أَبُو عمر: وَالْأَكْثَر لَقِيط، وَيعرف بجر الْبَطْحَاء، وَرَبِيعَة عَمه، وَأم أبي الْعَاصِ: هدلة، وَقيل: هِنْد بنت خويلد أُخْت خَدِيجَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، لأَبِيهَا وَأمّهَا، وَأَبُو الْعَاصِ أسلم قبل الْفَتْح وَهَاجَر ورد عَلَيْهِ السَّلَام، عَلَيْهِ إبنته زَيْنَب وَمَاتَتْ مَعَه. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ من رجال مَكَّة المعدومين مَالا وَأَمَانَة وتجارةً، وَكَانَت خَدِيجَة هِيَ الَّتِي سَأَلت رَسُول الله أَن يُزَوجهُ بابنتها زَيْنَب، وَكَانَ لَا يُخَالِفهَا، وَكَانَ ذَلِك قبل الْوَحْي، وَالْإِسْلَام فرق بَينهمَا. وَقَالَ ابْن كثير: إِنَّمَا حرم االمسلمات على الْمُشْركين عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ فِي غَزْوَة بدر مَعَ الْمُشْركين، وَوَقع فِي الْأسر. وَقَالَ ابْن هِشَام: كَانَ أسره خرَاش بن الصمَّة، أحد بني حرَام، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق، عَن عَائِشَة: لما بعث أهل مَكَّة فِي فدَاء أسرتهم بعثت زَيْنَب بنت رَسُول الله فِي فدَاء أبي الْعَاصِ بِمَال، وَبعثت فِيهِ بقلادة لَهَا، وَكَانَت خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، أدخلتها بهَا على أبي الْعَاصِ حِين بنى عَلَيْهَا. قَالَت: فَلَمَّا رَآهَا رَسُول الله رق لَهَا رقة شَدِيدَة، وَقَالَ: إِن رَأَيْتُمْ أَن تطلقوا لَهَا أَسِيرهَا وتردوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فافعلوا. قَالُوا: نعم يَا رَسُول ا، فأطلقوه وردوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَقد كَانَ رَسُول الله قد أَخذ عَلَيْهِ أَن يخلي سَبِيل زَيْنَب، يَعْنِي أَن تهَاجر إِلَى الْمَدِينَة فوفى أَبُو الْعَاصِ بذلك وَلَحِقت بأبيها، وَأقَام أَبُو الْعَاصِ بِمَكَّة على كفره، واستمرت زَيْنَب عِنْد أَبِيهَا بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ آخر الْأَمر أسلم وَخرج حَتَّى قدم على رَسُول الله وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: رد عَلَيْهِ رَسُول الله ابْنَته زَيْنَب على النِّكَاح الأول لم يحدث شَيْئا، وَسَنذكر حَقِيقَة هَذَا الْكَلَام فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى. فَإِن قيل: مَا اللَّام فِي: لأبي الْعَاصِ؟ أُجِيب بِأَن الْإِضَافَة فِي بنت بِمَعْنى: اللَّام، وَالتَّقْدِير فِي بنت لِزَيْنَب، فأظهر هُنَا مَا هُوَ مُقَدّر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ.
قَوْله: (فَإِذا سجد وَضعهَا) ، وَفِي مُسلم من طَرِيق عُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن عجلَان وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق الزبيدِيّ، وَأحمد من طَرِيق ابْن جريج، وَابْن حبَان من طَرِيق أبي العميس، كلهم عَن عَامر بن عبد اشيخ مَالك فَقَالُوا: (إِذا ركع وَضعهَا) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، من طَرِيق المَقْبُري عَن عَمْرو(4/302)
بن سليم: (حَتَّى إِذا أَرَادَ أَن يرْكَع أَخذهَا فوضعها ثمَّ ركع وَسجد، حَتَّى إِذا فرغ من سُجُوده فَقَامَ أَخذهَا فَردهَا فِي مَكَانهَا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: تكلم النَّاس فِي حكم هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا يدل لمَذْهَب الشَّافِعِي وَمن وَافقه أَنه يجوز حمل الصَّبِي والصبية وَغَيرهمَا من الْحَيَوَان فِي صَلَاة النَّفْل، وَيجوز للْإِمَام وَالْمُنْفَرد وَالْمَأْمُوم قلت: أما مَذْهَب أبي حنيفَة فِي هَذَا مَا ذكر صَاحب (الْبَدَائِع) وَفِي بَيَان الْعَمَل الْكثير الَّذِي يفْسد الصَّلَاة والقليل الَّذِي لَا يُفْسِدهَا: فالكثير مَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى اسْتِعْمَال الْيَدَيْنِ، والقليل مَا لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى ذَلِك، وَذكر لَهما صوراً حَتَّى قَالَ: إِذا أَخذ قوساً وَرمى فَسدتْ صلَاته، وَكَذَا لَو حملت امْرَأَة صبيها فأرضعته، لوُجُود الْعَمَل الْكثير الَّذِي يفْسد الصَّلَاة، وَأما حمل الصَّبِي بِدُونِ الْإِرْضَاع فَلَا يُوجب الْفساد، ثمَّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الصَّنِيع لم يكره مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجا إِلَى ذَلِك لعدم من يحفظها، أَو لبَيَان الشَّرْع بِالْفِعْلِ، وَهَذَا غير مُوجب فَسَاد الصَّلَاة. وَمثل هَذَا أَيْضا فِي زَمَاننَا لَا يكره لوَاحِد منَّا لَو فعل ذَلِك عِنْد الْحَاجة، أما بِدُونِ الْحَاجة فمكروه. انْتهى. وَذكر أَشهب عَن مَالك أَن ذَلِك كَانَ من رَسُول الله فِي صَلَاة النَّافِلَة، وَأَن مثل هَذَا الْفِعْل غير جَائِز فِي الْفَرِيضَة. وَقَالَ أَبُو عمر: حَسبك بتفسير مَالك، وَمن الدَّلِيل على صِحَة مَا قَالَه فِي ذَلِك أَنِّي لَا أعلم خلافًا أَن مثل هَذَا الْعَمَل فِي الصَّلَاة مَكْرُوه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا التَّأْوِيل فَاسد، لِأَن قَوْله: (يؤم النَّاس) صَرِيح أَو كَالصَّرِيحِ فِي أَنه كَانَ فِي الْفَرِيضَة، قلت: هُوَ مَا رَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِسَنَدِهِ إِلَى أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ، قَالَ: (رَأَيْت النَّبِي يؤم النَّاس وأمامة بنت أبي الْعَاصِ، وَهِي بنت زَيْنَب ابْنة رَسُول الله على عَاتِقه) . وَلِأَن الْغَالِب فِي إِمَامَة رَسُول الله كَانَت فِي الْفَرَائِض دون النَّوَافِل وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي قَتَادَة صَاحب رَسُول ا، قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن نَنْتَظِر رَسُول ا، للصَّلَاة فِي الظّهْر أَو الْعَصْر وَقد دَعَا بِلَال للصَّلَاة، إِذْ خرج إِلَيْنَا وأمامة بنت أبي الْعَاصِ، بنت ابْنَته، على عُنُقه، فَقَامَ رَسُول ا، فِي مُصَلَّاهُ وقمنا خَلفه) الحَدِيث.
وَفِي كتاب (النّسَب) للزبير بن بكار: عَن عَمْرو بن سليم أَن ذَلِك كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَادّعى بعض الْمَالِكِيَّة أَنه مَنْسُوخ. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هُوَ مَرْوِيّ عَن مَالك أَيْضا. وَقَالَ أَبُو عمر: وَلَعَلَّ هَذَا نسخ بِتَحْرِيم الْعَمَل والاشتغال بِالصَّلَاةِ وَقد رد هَذَا بِأَن قَوْله: (إِن فِي الصَّلَاة لشغلاً) ، كَانَ قبل بدر عِنْد قدوم عبد ابْن مَسْعُود من الْحَبَشَة، وَأَن قدوم زَيْنَب وبنتها إِلَى الْمَدِينَة كَانَ ذَلِك، وَلَو لم يكن الْأَمر كَذَلِك لَكَانَ فِيهِ إِثْبَات النّسخ بِمُجَرَّد الِاجْتِهَاد، وروى أَشهب وَابْن نَافِع عَن مَالك: أَن هَذَا كَانَ للضَّرُورَة، وَادّعى بعض الْمَالِكِيَّة أَنه خَاص بِالنَّبِيِّ، ذكره القَاضِي عِيَاض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وكل هَذِه الدَّعَاوَى بَاطِلَة ومردودة، فَإِنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهَا، بل الحَدِيث صَحِيح صَرِيح فِي جَوَاز ذَلِك، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالف قَوَاعِد الشَّرْع، لِأَن الْآدَمِيّ طَاهِر وَمَا فِي جَوْفه من النَّجَاسَة مَعْفُو عَنهُ لكَونه فِي معدنه، وَثيَاب الْأَطْفَال وأجسادهم على الطَّهَارَة، وَدَلَائِل الشَّرْع متظاهرة على أَن هَذِه الْأَفْعَال فِي الصَّلَاة لَا تبطلها إِذا قلت أَو تَفَرَّقت، وَفعل النَّبِي، هَذَا بَيَانا للْجُوَاز وتنبيهاً عَلَيْهِ.
قلت: وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن فَاعِلا لَو فعل مثل ذَلِك لم أر عَلَيْهِ إِعَادَة من أجل هَذَا الحَدِيث، وَإِن كنت لَا أحب لأحد فعله، وَقد كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يُجِيز هَذَا. قَالَ الْأَثْرَم: سُئِلَ أَحْمد: يَأْخُذ الرجل وَلَده وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: نعم. وَاحْتج بِحَدِيث أبي قَتَادَة. قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون هَذَا الصَّنِيع من رَسُول الله لَا عَن قصد وتعمد لَهُ فِي الصَّلَاة. وَلَعَلَّ الصبية لطول مَا ألفته واعتادته من ملابسته فِي غير الصَّلَاة كَانَت تتَعَلَّق بِهِ حَتَّى تلابسه وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلَا يَدْفَعهَا عَن نَفسه وَلَا يبعدها، فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد وَهِي على عَاتِقه، وَضعهَا بِأَن يحطهَا أَو يرسلها إِلَى الأَرْض حَتَّى يفرغ من سُجُوده، فَإِذا أَرَادَ الْقيام. وَقد عَادَتْ الصبية إِلَى مثل الْحَالة الأولى، لم يدافعها وَلم يمْنَعهَا، حَتَّى إِذا قَامَ بقيت مَحْمُولَة مَعَه. هَذَا عِنْدِي وَجه الحَدِيث. وَلَا يكَاد يتَوَهَّم عَلَيْهِ أَنه كَانَ يتَعَمَّد لحملها ووضعها وإمساكها فِي الصَّلَاة تَارَة بعد أُخْرَى، لِأَن الْعَمَل فِي ذَلِك قد يكثر فيتكرر، وَالْمُصَلي يشْتَغل بذلك عَن صلَاته، وَإِذا كَانَ علم الخميصة يشْغلهُ عَن صلَاته حَتَّى يسْتَبْدل بهَا الأنبجانية، فَكيف لَا يشْتَغل عَنْهَا بِمَا هَذَا صفته من الْأُمُور؟ وَفِي ذَلِك بَيَان مَا تأولناه. وَقَالَ النَّوَوِيّ، بعد أَن نقل ملخص كَلَام الْخطابِيّ: هَذَا الَّذِي ذكره بَاطِل وَدَعوى مُجَرّدَة، وَمِمَّا يرد عَلَيْهِ قَوْله فِي (صَحِيح مُسلم) : (فَإِذا قَامَ حملهَا) .(4/303)
وَقَوله: (فَإِذا رفع من السُّجُود أَعَادَهَا. وَقَوله فِي غير رِوَايَة مُسلم: (خرج علينا حَامِلا أُمَامَة فصلى) . وَذكر الحَدِيث، وَأما قَضِيَّة الخميصة فَلِأَنَّهَا تشغل الْقلب بِلَا فَائِدَة، وَحمل أُمَامَة لَا نسلم أَنه يشغل الْقلب، وَإِن أشغله فيترتب عَلَيْهِ فَوَائِد وَبَيَان قَوَاعِد مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَغَيره، فَاحْتمل ذَلِك الشّغل بِهَذِهِ الْفَوَائِد بِخِلَاف الخميصة، فَالصَّوَاب الَّذِي لَا معدل عَنهُ أَن الحَدِيث كَانَ لبَيَان الْجَوَاز والتنبيه على هَذِه الْفَوَائِد فَهُوَ جَائِز لنا، وَشرع مُسْتَمر للْمُسلمين إِلَى يَوْم الدّين. قلت: وَجه آخر لرد كَلَام الْخطابِيّ، قَوْله: (فَقَامَ فَأَخذهَا فَردهَا فِي مَكَانهَا) ، وَهَذَا صَرِيح فِي أَن فعل الْحمل والوضع كَانَ مِنْهُ لَا من أُمَامَة، وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك: لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَو تَركهَا لبكت وشغلت سره فِي صلَاته أَكثر من شغله بحملها، وَفرق بعض أَصْحَابه بَين الْفَرِيضَة والنافلة. وَقَالَ الْبَاجِيّ: إِن وجد من يَكْفِيهِ أمرهَا جَازَ فِي النَّافِلَة دون الْفَرِيضَة، وَإِن لم يجد جَازَ فيهمَا وَحمل أَكثر أهل الْعلم هَذَا الحَدِيث على أَنه عمل غير متوال لوُجُود الطُّمَأْنِينَة فِي أَرْكَان صلَاته. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيّ: كَانَ السِّرّ فِي حمل أُمَامَة فِي الصَّلَاة دفعا لما كَانَت الْعَرَب تألفه من كَرَاهَة الْبَنَات وحملهن، وَخَالفهُم فِي ذَلِك حَتَّى فِي الصَّلَاة للْمُبَالَغَة فِي ردعهم، وَالْبَيَان بِالْفِعْلِ قد يكون أقوى من القَوْل.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز إِدْخَال الصغار فِي الْمَسَاجِد. وَمِنْهَا: جَوَاز صِحَة صَلَاة من حمل آدَمِيًّا، وَكَذَا من حمل حَيَوَانا طَاهِرا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ تواضع النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وشفقته على الصغار وإكرامه لَهُم ولوالديهم.
701 - (بابٌ إذَا صَلَّى إلَى فِرَاشٍ فِيهِ حائِضٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ إِذا صلى، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره صحت صلَاته أَو مَعْنَاهُ: بَاب هَذِه الْمَسْأَلَة، وَهِي مَا يَقُوله الْفُقَهَاء إِذا صلى إِلَى فرَاش فِيهِ حَائِض كَيفَ يكون حكمه يكره أم لَا؟ وَحَدِيث الْبَاب على عدم الْكَرَاهَة.
715661 - ح دّثنا عَمْرُو بنُ زَرَارَةَ قَالَ أخبرنَا هُشَيْمٌ عنِ الشِّيْبَانِيّ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شَدَّادِ بنِ الهَادِ قَالَ أخْبَرَتْني خالَتِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحَارِثِ قالَتْ كانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النبيِّ فَرُبَّمَا وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلى فِرَاشِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة عِنْد التَّأَمُّل، وَلَكِن اعْترض فِيهِ بِوَجْهَيْنِ: الأول: كَيفَ دلّ على التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ كَون الْمُصَلِّي منتهياً إِلَى الْفراش، لِأَنَّهُ قَالَ: إِذا صلى إِلَى فرَاش. وَكلمَة: إِلَى لانْتِهَاء الْغَايَة؟ وَالثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يدل على اعْتِرَاض الْمَرْأَة بَين الْمُصَلِّي وقبلته، فَهَذَا يدل على جَوَاز الْقعُود، لَا على جَوَاز الْمُرُور. وَأجِيب: عَن الأول: بِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن يكون الِانْتِهَاء من جِهَة الْقبْلَة، وكما أَنَّهَا منتهية إِلَى جنب رَسُول الله فَرَسُول الله يَنْتَهِي إِلَيْهَا وَإِلَى فراشها. وَعَن الثَّانِي: بِأَن تَرْجَمَة الْبَاب لَيست معقودة للاعتراض، فَإِن الْمُتَعَلّق بالإعتراض قد تقدم، وَالَّذِي قَصده البُخَارِيّ: بَيَان صِحَة الصَّلَاة وَلَو كَانَت الْحَائِض بِجنب الْمُصَلِّي وَلَو أصابتها ثِيَابه، لَا كَون الْحَائِض بَين الْمُصَلِّي وَبَين الْقبْلَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة الأول: عَمْرو، بِالْوَاو: وَابْن زُرَارَة، بِضَم الزَّاي ثمَّ بالراء المكررة، وَقد تقدم فِي بَاب قدركم يَنْبَغِي أَن يكون بَين الْمُصَلِّي والسترة؟ الثَّانِي: هشيم، مُصَغرًا: ابْن بشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: الوَاسِطِيّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: الشَّيْبَانِيّ أَبُو إِسْحَاق سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز الْكُوفِي. الرَّابِع: عبد ابْن شَدَّاد، بتَشْديد الدَّال: ابْن الْهَاد، واسْمه: أُسَامَة الْكُوفِي. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين واسطي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد ذكرنَا هَذَا، وَمعنى الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَحْكَام فِي بَاب إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي امْرَأَته فِي السُّجُود، فَإِنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن خَالِد عَن الشَّيْبَانِيّ.(4/304)
815761 - ح دّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنِ زِيَادٍ قَالَ حدّثنا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ شَدَّادٍ قالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ كانَ النبيُّ يُصَلِّي وَأنا إلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ فإِذَا سَجَدَ أصابَنِي ثَوْبُهُ وَأَنا حائِضٌ وَزَادَ مُسَدَّدٌ عنْ خالِدٍ قَالَ حدّثنا سُلَيْمَانُ الشيْبَانِيُّ وأنَا حائِضٌ. .
هَذَا طَرِيق آخر بِلَفْظ آخر عَن أبي النُّعْمَان، بِضَم النُّون: مُحَمَّد بن الفضيل، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض فِي أَوَائِل كتاب الْحيض، وَلَفظ الحَدِيث هُنَاكَ، قَالَت يَعْنِي مَيْمُونَة: (كَانَ رَسُول الله إِذا أَرَادَ أَن يُبَاشر امْرَأَة من نِسَائِهِ أمرهَا فاتزرت وَهِي حَائِض) . قَوْله: (ثَوْبه) ويروى: (أصابتني ثِيَابه) . قَوْله: (وَأَنا حَائِض) هَذِه الْجُمْلَة وَقعت حَالا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَسَقَطت لغيره. قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: قَالُوا: إِذا أُرِيد الْحُدُوث يُقَال: حائضه، وَإِذا أُرِيد الثُّبُوت، وَإِن من شَأْنهَا الْحيض، يُقَال: حَائِض، وَلَا شكّ أَن المُرَاد هَهُنَا كَونهَا فِي حَالَة الْحيض. قلت: مَعْنَاهُ أَن الحائضة مُخْتَصَّة بِمَا إِذا كَانَت فِيهِ، وَالْحَائِض أَعم مِنْهُ. انْتهى. قلت: لَا فرق بَين الْحَائِض والحائضة، يُقَال: حَاضَت الْمَرْأَة تحيض حيضا ومحيضاً فَهِيَ حَائِض وحائضة عَن الْفراء وَأنْشد:
(كحائضة يَزْنِي بهَا غير حَائِض)
وَفِي اللُّغَة: لم يفرق بَينهمَا، غير أَن الأَصْل فِيهِ التَّأْنِيث، وَلَكِن لخصوصية النِّسَاء بِهِ وَعدم ترك التَّاء.
801 - (بابٌ هَلْ يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ السُّجُودِ لِكَيْ يَسْجُدَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ: هَل يغمز الرجل؟ إِلَى آخِره، يَعْنِي: نعم، إِذا غمزها فَلَا شَيْء يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من فَسَاد الصَّلَاة.
915861 - ح دّثنا عَمْرُو بنُ عَليٍ قَالَ حدّثنا يَحْيى قَالَ حدّثنا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حدّثنا القَاسِمُ عنْ عائِشَةَ رضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ بِئْسَمَا عَدَلْتُمُنا بِالكَلْبِ وَالجِمَارِ لَقَدْ رَأيْتْني ورسولُ اللَّهِ يُصَلِّي وَأنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ فإِذَا أرَادَ أنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُما.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبَين البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب صِحَة الصَّلَاة وَلَو أَصَابَهَا بعض جسده، وبيَّن فِي الْبَاب السَّابِق صِحَّتهَا وَلَو أَصَابَهَا بعض ثِيَابه.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو: بِالْوَاو، ابْن عَليّ الفلاس الْبَاهِلِيّ. الثَّانِي: يحيى الْقطَّان. الثَّالِث: عبيد االعمري. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر. الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) . قَوْله: (بئْسَمَا) ، كلمة بئس من أَفعَال الذَّم، كَمَا أَن كلمة: نِعْمَ، من أَفعَال الْمَدْح، وشرطهما أَن يكون الْفَاعِل الْمظهر فيهمَا مُعَرفا بِاللَّامِ أَو مُضَافا إِلَى الْمُعَرّف بهَا، أَو مضمراً مُمَيّزا بنكرة مَنْصُوبَة، وَهَهُنَا يجوز الْوَجْهَانِ. الأول: أَن تكون: مَا بِمَعْنى الَّذِي، وَيكون فَاعِلا: لبئس. وَالْجُمْلَة أَعنِي قَوْله: (عدلتمونا) ، صلَة لَهُ بِكَوْن الْمَخْصُوص بالذم محذوفاً، وَالتَّقْدِير: بئس الَّذِي عدلتمونا بالحمار ذَلِك الْفِعْل. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون فَاعل: بئس، مضمراً مُمَيّزا، وَتَكون الْجُمْلَة بعده صفة والمخصوص بالذم أَيْضا محذوفاً، وَالتَّقْدِير: بئس شَيْئا مَا عدلتمونا بالحمار شَيْء. وَفِي الْوَجْهَيْنِ الْمَخْصُوص بالذم مُبْتَدأ أَو خَبره الْجُمْلَة الَّتِي قبله، وَمعنى: عدلتمونا: جعلتمونا مثله. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الصَّلَاة على الْفراش.
قَوْلهَا: (لقد رَأَيْتنِي) بِضَم التَّاء، وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب، وَالتَّقْدِير: لقد رَأَيْت نَفسِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِن كَانَت الرُّؤْيَة بمعناها الْأَصْلِيّ فَلَا يجوز حذف أحد مفعوليه، وَإِن كَانَت بِمَعْنى الإبصار فَلَا يجوز اتِّحَاد الضميرين، ثمَّ أجَاب بقول الزَّمَخْشَرِيّ: فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل اأمواتاً} (آل عمرَان: 961) جَازَ حذف أَحدهمَا لِأَنَّهُ مُبْتَدأ فِي الأَصْل فيحذف كالمبتدأ، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي هَذَا مُخَالف لقَوْله فِي الْمفصل وَفِي سَائِر مَوَاضِع الْكَشَّاف لَا يجوز الِاقْتِصَار على أحد مفعولي الحسبان، ثمَّ أجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَيْضا: أَنه إِذا كَانَ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول عبارَة عَن(4/305)
شَيْء وَاحِد جَازَ الْحَذف، وَأمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن القَوْل بِجَوَاز الْحَذف فِيمَا إِذا اتَّحد الْفَاعِل وَالْمَفْعُول معنى وَالْقَوْل بِعَدَمِهِ فِيمَا إِذا كَانَ بَينهمَا الِاخْتِلَاف. والْحَدِيث هُوَ من الْقسم الأول، إِذْ تَقْدِيره: رَأَيْت نَفسِي مُعْتَرضَة أَو أعطي للرؤية الَّتِي بِمَعْنى: الإبصار، حكم الرُّؤْيَة الَّتِي من أَفعَال الْقُلُوب. قَوْلهَا: (وَرَسُول الله يُصَلِّي) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا على الأَصْل، أَعنِي: بِالْوَاو، وَكَذَلِكَ قَوْلهَا: (وَأَنا مُضْطَجِعَة) . قَوْلهَا: (غمز رجْلي) قَالَ الْجَوْهَرِي: غمزت الشَّيْء بيَدي، وَقَالَ الشَّاعِر:
وَكنت إِذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أَو تستقيما
وغمزته بعيني، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذا مروا بهم يتغامزون} (المطففين: 03) وَالْمرَاد هُنَا الغمز بِالْيَدِ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (فَإِذا سجد غمزني، فقبضت برجلي، وَإِذا قَامَ بسطتهما) . وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (فَإِذا سجد غمزني فرفعتهما فقبضتهما، فَإِذا قَامَ مددتهما) . وَفِي رِوَايَة: (غمزها بِرجلِهِ، فَقَالَ: تنحي) . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد ضرب رجْلي فقبضتهما فَسجدَ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد غمز رجْلي فضممتهما إِلَيّ ثمَّ سجد) .
ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ قد ذكرنَا مُسْتَوفى فِي بَاب الصَّلَاة على الْفراش.
901 - (بابٌ المَرْأة تَطْرَحُ عَنِ المُصَلّى شَيْئاً مِنَ الأَذَى)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ الْمَرْأَة تطرح إِلَى آخِره، وَلَفظ: بَاب منون لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. وَقَوله: الْمَرْأَة، مُبْتَدأ و: تطرح، خَبره وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. قَالَ ابْن بطال: هَذِه التَّرْجَمَة قريبَة من التراجم الَّتِي قبلهَا، وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة إِذا تناولت مَا على ظهر الْمُصَلِّي فَإِنَّهَا تقصد إِلَى أَخذه من أَي جِهَة أمكنها تنَاوله، فَإِن لم يكن هَذَا الْمَعْنى أَشد من مرورها بَين يَدَيْهِ فَلَيْسَ بِدُونِهِ، وَقد ترْجم على حَدِيث هَذَا الْبَاب فِي الطَّهَارَة قبل الْغسْل بقوله: بَاب إِذا ألقِي على ظهر الْمُصَلِّي قذر أَو جيفة لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته.
وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث مُسْتَوفى من كل وَجه، فلنذكر هَهُنَا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من غير مَا ذكرنَا.
169 - (حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق السورماري قَالَ حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى قَالَ حَدثنَا إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن عبد الله قَالَ بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَائِم يُصَلِّي عِنْد الْكَعْبَة وَجمع من قُرَيْش فِي مجَالِسهمْ إِذْ قَالَ قَائِل مِنْهُم أَلا تنْظرُون إِلَى هَذَا الْمرَائِي أَيّكُم يقوم إِلَى جزور آل فلَان فيعمد إِلَى فرثها ودمها وسلاها فَيَجِيء بِهِ ثمَّ يمهله حَتَّى إِذا سجد وَضعه بَين كَتفيهِ فانبعث أشقاهم فَلَمَّا سجد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضعه بَين كَتفيهِ وَثَبت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاجِدا فضحكوا حَتَّى مَال بَعضهم إِلَى بعض من الضحك فَانْطَلق منطلق إِلَى فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام وَهِي جوَيْرِية فَأَقْبَلت تسْعَى وَثَبت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاجِدا حَتَّى ألقته عَنهُ وَأَقْبَلت عَلَيْهِم تسبهم فَلَمَّا قضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاة قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْك بِقُرَيْش اللَّهُمَّ عَلَيْك بِقُرَيْش اللَّهُمَّ عَلَيْك بِقُرَيْش ثمَّ سمى اللَّهُمَّ عَلَيْك بِعَمْرو بن هِشَام وَعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة وَأُميَّة بن خلف وَعقبَة ابْن أبي معيط وَعمارَة بن الْوَلِيد قَالَ عبد الله فوَاللَّه لقد رَأَيْتهمْ صرعى يَوْم بدر ثمَّ سحبوا إِلَى القليب قليب بدر ثمَّ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاتبع أَصْحَاب القليب لعنة)(4/306)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأحمد بن اسحق السرماري بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتحهَا وَسُكُون الرَّاء الأولى نِسْبَة إِلَى سرمار قَرْيَة من قرى بُخَارى وَهُوَ الَّذِي يضْرب بشجاعته الْمثل قتل ألفا من التّرْك مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ وَقد شَاركهُ فِي رِوَايَته عَن شَيْخه عبيد الله بن مُوسَى الْمَذْكُور وَعبيد الله وَمن بعده كلهم كوفيون وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي وَأَبُو إِسْحَاق اسْمه عَمْرو بن عبد الله وَهَذَا الحَدِيث لَا يرْوى إِلَّا بِإِسْنَادِهِ وَعَمْرو بن مَيْمُون مر فِي بَاب إِذا ألقِي على ظهر الْمُصَلِّي قذر وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود قَوْله " بَيْنَمَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي رِوَايَته هُنَاكَ " بَينا " وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَالْعَامِل فِيهِ معنى المفاجأة الَّتِي فِي إِذْ قَالَ وَلَا يجوز أَن يعْمل فِيهِ يُصَلِّي لِأَنَّهُ حَال من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُضَاف إِلَيْهِ بَين فَلَا يعْمل فِيهِ قَوْله " فيعمد " بِالرَّفْع عطف على " يقوم " ويروى بِالنّصب لِأَنَّهُ وَقع بعد الِاسْتِفْهَام قَوْله " فانبعث أشقاهم " أَي انتهض أَشْقَى الْقَوْم وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط قَوْله " جوَيْرِية " أَي صَغِيرَة وَهُوَ تَصْغِير جَارِيَة قَوْله " اللَّهُمَّ عَلَيْك بِقُرَيْش " أَي بهلاكهم قَوْله " بِعَمْرو بن هِشَام " هُوَ أَبُو جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة قَوْله " وَعمارَة بن الْوَلِيد " هُوَ السَّابِع وَلم يذكرهُ الرَّاوِي هُنَاكَ وَهَهُنَا ذكره لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَسيَه وَهنا تذكره قَوْله " اتبع " بِضَم الْهمزَة إِخْبَار من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن الله أتبعهم اللَّعْنَة أَي كَمَا أَنهم مقتولون فِي الدُّنْيَا مطرودون عَن رَحْمَة الله فِي الْآخِرَة ويروى وَاتبع بِفَتْح الْهمزَة ويروى بِلَفْظ الْأَمر فَهُوَ عطف على " عَلَيْك بِقُرَيْش " أَي قَالَ فِي حياتهم اللَّهُمَّ أهلكهم وَقَالَ فِي هلاكهم اللَّهُمَّ اتبعهم اللَّعْنَة(4/307)
9 - (كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام مَوَاقِيت الصَّلَاة، وَلما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة بأنواعها الَّتِي هِيَ شَرط الصَّلَاة شرع فِي بَيَان الصَّلَاة بأنواعها الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوط، وَالشّرط مقدم على الْمَشْرُوط، وقدمها على الزَّكَاة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا لما أَنَّهَا تالية الْإِيمَان وثانيته فِي الْكتاب وَالسّنة، ولشدة الِاحْتِيَاج وعمومه إِلَى تعليمها لِكَثْرَة وُقُوعهَا ودورانها، بِخِلَاف غَيرهَا من الْعِبَادَات. وَهِي فِي اللُّغَة من تَحْرِيك الصلوين وهما: العظمان النابتان عِنْد العجيزة. وَقيل: من الدُّعَاء، فَإِن كَانَت من الأول: تكون من الْأَسْمَاء الْمُغيرَة شرعا، المقررة لُغَة، وَإِن كَانَت من الثَّانِي: تكون من الْأَسْمَاء المنقولة وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن الْأَركان الْمَعْلُومَة وَالْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة
والمواقيت جمع: مِيقَات، على وزن: مفعال، وَأَصله موقات قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وإنكسار مَا قبلهَا، من وَقت الشَّيْء يقته إِذا بَين حَده، وَكَذَا وقته يُوَقت، ثمَّ اتَّسع فِيهِ فَأطلق على الْمَكَان فِي الْحَج، والتوقيت أَن يَجْعَل للشَّيْء وَقت يخْتَص بِهِ، وَهُوَ بَيَان مِقْدَار الْمدَّة، وَكَذَلِكَ: التَّأْقِيت. وَقَالَ السفاقسي: الْمِيقَات هُوَ الْوَقْت الْمَضْرُوب للْفِعْل والموضع. وَفِي (الْمُنْتَهى) : كل مَا جعل لَهُ حِين وَغَايَة فَهُوَ موقت، وَوَقته ليَوْم كَذَا أَي أَجله وَفِي (الْمُحكم) : وَقت موقوت وموقت مَحْدُود. وَفِي (نَوَادِر الهجري) ، قَالَ القردي: أيقتوا موقتا آتيكم فِيهِ
ثمَّ قَوْله: كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَبعده الْبَسْمَلَة، ولرفيقيه الْبَسْمَلَة مُقَدّمَة وَبعدهَا بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة وفضلها، وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، لَكِن بِلَا بَسْمَلَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لَكِن بِلَا: بَاب.
1 - (بابُ مَوَاقِيتِ الصلاَةِ وفَضْلِهَا)
من الْعَادة المستمرة عِنْد المصنفين أَن يذكرُوا الْأَبْوَاب والفصول بعد لفظ: الْكتاب، فَإِن الْكتاب يَشْمَل الْأَبْوَاب والفصول، وَالْبَاب هُوَ النَّوْع، وَأَصله: البوب، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَيجمع على: أَبْوَاب، وَقد قَالُوا: أبوبة وَإِنَّمَا جمع فِي قَول الْقِتَال الْكلابِي:
(هتَّاك أخبية ولاَّج أبوبة)
للازدواج، وَلَو أفرده لم يجز، وَيُقَال: أَبْوَاب مبوبة كَمَا يُقَال أَصْنَاف مصنفة، والبابة: الْخصْلَة، والبابات: الْوُجُوه وَقَالَ ابْن السّكيت: البابة عِنْد الْعَرَب: الْوَجْه
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاَةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا مَوْقُوتا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ
(النِّسَاء: 103) .
(وَقَوله) ، مجرور عطفا على: مَوَاقِيت الصَّلَاة، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوَاقِيت الصَّلَاة وَبَيَان قَوْله: {إنَّ الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} (النِّسَاء: 103) وَفسّر: موقوتا، بقوله: وقته عَلَيْهِم، اي: وَقت الله تَعَالَى الْكتاب، أَي: الْمَكْتُوب الَّذِي هُوَ الصَّلَاة عَلَيْهِم، أَي: على الْمُسلمين، وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لوُجُود الْقَرِينَة، وَوَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات: موقوتا موقتا وقته عَلَيْهِم، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: موقتا، يَعْنِي بِالتَّشْدِيدِ وَاسْتشْكل ابْن التِّين تَشْدِيد الْقَاف من: وقته، وَقَالَ: الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة التَّخْفِيف. قلت:(5/2)
لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال لِأَنَّهُ جَاءَ فِي اللُّغَة: وقته، بِالتَّخْفِيفِ و: وقته، بِالتَّشْدِيدِ فَكَأَنَّهُ مَا اطلع على مَا فِي (الْمُحكم) وَغَيره. . وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بقوله: موقتا، بَيَان قَوْله: موقوتا. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ لَيْسَ فِي لفظ: موقوتا، إِبْهَام حَتَّى يُبينهُ بقوله: موقتا، وَعَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله: موقوتا، يَعْنِي مَفْرُوضًا وَقيل: يَعْنِي محدودا.
521 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسلَمَةَ قالَ قَرَأْتُ علَى مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيزِ أخَّرَّ الصَّلاَةَ يَوْما فَدَخَلَ عليهِ عُرْوَةَ بنُ الزُّبَيْرِ فأخْبَرَهُ أنَّ الْمُغِيرَةَ بنَ شُعْبَةَ أخَّرَّ الصَّلاَةَ يَوْما وَهْوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَليْهِ أبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ فقالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ ألَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ جبْرِيلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَزَلَ فَصلَّى فَصَلَّى رَسُولُ الله ثُمَّ صلى فصلى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ صلَّى فصلَّى رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثُمَّ صلَّى فَصَلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ صَلَّى فَصلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قالَ بِهاذَا أُمِرْتُ فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أوَ إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أقَامَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقْتَ الصَّلاَةِ قَالَ عُرْوَة كذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بنُ أبي مسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَن أبِيهِ.
522 - قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عائِشَةُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصلِّي العَصْرَ والشمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أنْ تَظْهَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، نزل فصلى) إِلَى آخِره، وَهِي خمس مَرَّات، فَدلَّ أَن الصَّلَاة موقتة بِخَمْسَة أَوْقَات. فَإِن قلت: إِن الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على عدد الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لم يذكر الْأَوْقَات. قلت: وُقُوع الصَّلَاة خمس مَرَّات يسْتَلْزم كَون الْأَوْقَات خَمْسَة، وَاقْتصر أَبُو مَسْعُود على ذكر الْعدَد، لِأَن الْوَقْت كَانَ مَعْلُوما عِنْد الْمُخَاطب.
ذكر رِجَاله الْمَذْكُورين فِيهِ تِسْعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، أَمِير الْمُؤمنِينَ من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام. السَّادِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة الصَّحَابِيّ. السَّابِع: أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، واسْمه: عقبَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة الخزرجي الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّامِن: ابْنه بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: التَّابِعِيّ الْجَلِيل. التَّاسِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي. وَفِيه: الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَفِيه: مَا قَالَ ابْن عبد الْبر وَهُوَ أَن هَذَا السِّيَاق مُنْقَطع عِنْد جمَاعَة من الْعلمَاء، لِأَن ابْن شهَاب لم يقل: حضرت مُرَاجعَة عُرْوَة لعمر بن عبد الْعَزِيز، وَعُرْوَة لم يقل: حَدثنِي بشير، لَكِن الِاعْتِبَار عِنْد الْجُمْهُور بِثُبُوت اللِّقَاء والمجالسة، لَا بالصيغ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الطَّرِيق لَيْسَ بِمُتَّصِل الْإِسْنَاد، إِذْ لم يقل أَبُو مَسْعُود: شاهدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة اللَّيْث عِنْد المُصَنّف تزيل الْإِشْكَال كُله، وَلَفظه: قَالَ عُرْوَة: سَمِعت بشير بن أبي مَسْعُود، يَقُول: سَمِعت أبي يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: فَذكر الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن شهَاب قَالَ: كُنَّا مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَذكره، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: سَمِعت عُرْوَة يحدث أَن عمر بن عبد الْعَزِيز ... الحَدِيث. انْتهى. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل: رِوَايَة اللَّيْث عِنْد المُصَنّف تزيل الْإِشْكَال كُله ... الخ، غير مُسلم فِي الرِّوَايَة الَّتِي هَهُنَا لِأَنَّهَا غير مُتَّصِلَة الْإِسْنَاد بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر، وَإِن كَانَت فِي نفس الْأَمر مُتَّصِلَة الْإِسْنَاد، وَكَلَام الْكرْمَانِي بِحَسب الظَّاهِر، وَإِن كَانَ الْإِسْنَاد فِي نفس الْأَمر مُتَّصِلا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن(5/3)
اللَّيْث بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن ابْن وهب عَن أُسَامَة بن زيد عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخر الصَّلَاة يَوْمًا) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (أخر الْعَصْر يَوْمًا) . وَقَوله: (يَوْمًا) بالتنكير ليدل على التقليل، وَمرَاده يَوْمًا مَا، لَا أَن ذَلِك كَانَ سجيته، كَمَا كَانَت مُلُوك بني أُميَّة تفعل، لَا سِيمَا الْعَصْر، فقد كَانَ الْوَلِيد ابْن عتبَة يؤخرها فِي زمن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ ابْن مَسْعُود يُنكر عَلَيْهِ، وَقَالَ عَطاء: أخر الْوَلِيد مرّة الْجُمُعَة حَتَّى أَمْسَى، وَكَذَا كَانَ الْحجَّاج يفعل، وَأما عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ أَخّرهَا عَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ المرغب فِيهِ، لَا عَن الْوَقْت، وَلَا يعْتَقد ذَلِك فِيهِ لجلالته وإنكاره عُرْوَة عَلَيْهِ إِنَّمَا وَقع لتَركه الْوَقْت الْفَاضِل الَّذِي صلى فِيهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ وَقَالَ ابْن عبد الْبر، المُرَاد أَنه أَخّرهَا حَتَّى خرج الْوَقْت الْمُسْتَحبّ لَا أَنه أَخّرهَا حَتَّى غربت الشَّمْس. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق يزِيد بن أبي حبيب عَن أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ عَن ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: (دَعَا الْمُؤَذّن لصَلَاة الْعَصْر فأمسى عمر بن عبد الْعَزِيز قبل أَن يُصليهَا) . قلت: مَعْنَاهُ أَنه قَارب الْمسَاء لَا أَنه دخل فِيهِ. قَوْله: (وَهُوَ بالعراق) جملَة أسمية وَقعت حَالا عَن الْمُغيرَة، وَأَرَادَ بِهِ: عراق الْعَرَب، وَهُوَ من عبادان إِلَى الْموصل طولا وَمن الْقَادِسِيَّة إِلَى حلوان عرضا. وَفِي رِوَايَة القعْنبِي وَغَيره، عَن مَالك: وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة عَن القعْنبِي، والكوفة من جملَة عراق الْعَرَب، وَكَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْكُوفَة من قبل مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (فَقَالَ: مَا هَذَا؟) أَي: التَّأْخِير. قَوْله: (أَلَيْسَ قد علمت؟) الرِّوَايَة وَقعت كَذَا: أَلَيْسَ، وَكَانَ مُقْتَضى الْكَلَام: أَلَسْت، بِالْخِطَابِ. قَالَ الْقشيرِي: قَالَ بعض فضلاء الْأَدَب: كَذَا الرِّوَايَة وَهِي جَائِزَة، إلاَّ أَن الْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال: أَلَسْت، يَعْنِي بِالْخِطَابِ، وَقَالَ عِيَاض: يدل ظَاهر قَوْله: قد علمت على علم الْمُغيرَة بذلك، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك على سَبِيل الظَّن من أبي مَسْعُود لعلمه بِصُحْبَة الْمُغيرَة. قلت: لأجل ذَلِك ذكره بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام فِي قَوْله: أَلَيْسَ، وَلَكِن يُؤَيّد الْوَجْه الأول رِوَايَة شُعَيْب عَن ابْن شهَاب عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا فِي غَزْوَة بدر بِلَفْظ: فَقَالَ لقد علمت، بِغَيْر حرف الِاسْتِفْهَام، وَنَحْوه عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر وَابْن جريج جَمِيعًا. قَوْله: (إِن جِبْرِيل نزل) بيّن ابْن اسحاق فِي الْمَغَازِي أَن ذَلِك كَانَ صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي فرضت فِيهَا الصَّلَاة، وَهِي لَيْلَة الْإِسْرَاء. قَوْله: (فصلى فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الْكَلَام هُنَا فِي موضِعين: أَحدهمَا فِي كلمة: (ثمَّ صلى فصلى) ، وَالْآخر فِي كلمة: الْفَاء، أما الأول: فقد قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت: قَالَ فِي صَلَاة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (ثمَّ صلى) بِلَفْظ: ثمَّ، وَفِي صَلَاة الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فصلى بِالْفَاءِ؟ قلت: لِأَن صَلَاة الرَّسُول كَانَت متعقبة لصَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِخِلَاف صلَاته، فَإِن بَين كل صَلَاتَيْنِ زَمَانا، فَنَاسَبَ كلمة التَّرَاخِي. وَأما الثَّانِي: فقد قَالَ عِيَاض: ظَاهره أَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت بعد فرَاغ صَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَكِن الْمَنْصُوص فِي غَيره أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أمَّ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيحمل قَوْله: (صلى فصلى) ، على أَن جِبْرِيل كَانَ كلما فعل جزأً من الصَّلَاة تَابعه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَفعله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: صلى فصلى، مكررا هَكَذَا خمس مَرَّات، مَعْنَاهُ أَنه كلما فعل جزأً من أَجزَاء الصَّلَاة فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى تكاملت صلاتهما. انْتهى. قلت: مبْنى كَلَام عِيَاض على أَن الْفَاء، فِي الأَصْل للتعقيب، فَدلَّ على أَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت عقيب فرَاغ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من صلَاته. وَحَاصِل جَوَابه أَنه جعل: الْفَاء، على أَصله وأوله بالتأويل الْمَذْكُور. وَبَعْضهمْ ذهب إِلَى أَن: الْفَاء، هُنَا بِمَعْنى: الْوَاو، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ائتم بِجِبْرِيل يجب أَن يكون مُصَليا مَعَه لَا بعده. وَإِذا حملت: الْفَاء، على حَقِيقَتهَا وَجب أَن لَا يكون مُصَليا مَعَه، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن: الْفَاء، إِذا كَانَ بِمَعْنى الْوَاو، يحْتَمل أَن يكون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى قبل جِبْرِيل، لِأَن: الْوَاو، لمُطلق الْجمع، و: الْفَاء، لَا تحْتَمل ذَلِك قلت: فجيء: الْفَاء، بِمَعْنى: الْوَاو، لَا يُنكر كَمَا فِي قَوْله:
(بَين الدُّخُول فحومل)
فَإِن: الْفَاء، فِيهِ بِمَعْنى: الْوَاو، وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره الْمُعْتَرض يدْفع بِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، هُنَا مُبين لهيئة الصَّلَاة الَّتِي فرضت لَيْلَة الْإِسْرَاء، فَلَا يُمكن أَن تكون صلَاته بعد صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وإلاَّ لَا يبْقى لصَلَاة جِبْرِيل فَائِدَة. وَيُمكن أَن تكون: الْفَاء، هُنَا للسَّبَبِيَّة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بأَدَاء الصَّلَاة فِي هَذِه الْأَوْقَات. قَوْله: (أمرت، رُوِيَ بِضَم التَّاء وَفتحهَا، وعَلى الْوَجْهَيْنِ هُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: نزل جِبْرِيل،(5/4)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا مُكَلّفا بتعليم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بِأَصْل الصَّلَاة، وَأقوى الرِّوَايَتَيْنِ فتح التَّاء، يَعْنِي: أَن الَّذِي أمرت بِهِ من الصَّلَاة البارحة مُجملا، هَذَا تَفْسِيره الْيَوْم مفصلا. قلت: فعلى هَذَا الْوَجْه يكون الْخطاب من جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما وَجه الضَّم: فَهُوَ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يخبر عَن نَفسه أَنه أَمر بِهِ هَكَذَا، فعلى الْوَجْهَيْنِ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي قَوْله: ثمَّ قَالَ: يرجع إِلَى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمن قَالَ فِي وَجه الضَّم: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر عَن نَفسه أَنه أَمر بِهِ، هَكَذَا، وَأَن الضَّمِير فِي: قَالَ، يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقدأُبعد، وَإِن كَانَ التَّرْكِيب يَقْتَضِي هَذَا أَيْضا. قَوْله: (إعلم مَا تحدث بِهِ) ، بِصِيغَة الْأَمر، تَنْبِيه من عمر بن عبد الْعَزِيز لعروة على إِنْكَاره إِيَّاه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره الْإِنْكَار لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده خبر من إِمَامَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يبلغهُ، أَو بلغه فنسيه، وَالْأولَى عِنْدِي أَن حجَّة عُرْوَة عَلَيْهِ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا رَوَاهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر لَهُ حَدِيث جِبْرِيل موطئا لَهُ ومعلما لَهُ بِأَن الْأَوْقَات (إِنَّمَا ثَبت أَصْلهَا بإيقاف جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهَا. قَوْله: (أَو أَن جِبْرِيل) قَالَ السفاقسي: الْهمزَة حرف الِاسْتِفْهَام دخلت على: الْوَاو، فَكَانَ ذَلِك تَقْديرا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْوَاو، مَفْتُوحَة، وَأَن هَهُنَا تفتح وتكسر، وَقَالَ صَاحب (الاقتضاب) كسر الْهمزَة أظهر لِأَنَّهُ اسْتِفْهَام مُسْتَأْنف إلاَّ أَنه ورد: بِالْوَاو، وَالْفَتْح على تَقْدِير: أَو علمت أَو حدثت أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نزل؟ قلت: لم يذكر أحد مِنْهُم أنَّ: الْوَاو، أَي: وَاو هِيَ، وَهِي: وَاو، الْعَطف على مَا ذكره بَعضهم، وَلكنه قَالَ: والعطف على شَيْء مُقَدّر، وَلم يبين مَا هُوَ الْمُقدر. قَوْله: (وَقت الصَّلَاة) بإفراد الْوَقْت فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: وقوت الصَّلَاة، بِلَفْظ الْجمع. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا إِمَّا مقول ابْن شهَاب أَو تَعْلِيق من البُخَارِيّ. قلت: فَكيف يكون تَعْلِيقا وَقد ذكره مُسْندًا عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب وَقت الْعَصْر، فَحِينَئِذٍ يكون مقول ابْن شهَاب؟ قَوْله: (فِي حُجْرَتهَا) ، قَالَ ابْن سَيّده: الْحُجْرَة من الْبيُوت مَعْرُوفَة، وَقد سميت بذلك لمنعها الدَّاخِل من الْوُصُول إِلَيْهَا، يُقَال: استحجر الْقَوْم واحتجروا: اتَّخذُوا حجرَة، وَفِي (الْمُنْتَهى) و (الصِّحَاح) : الْحُجْرَة حَظِيرَة الْإِبِل، وَمِنْه حجرَة الدَّار. تَقول: احتجرت حجرَة أَي: اتخذتها، وَالْجمع: حجر مثل غرفَة وغرف وحجرات بِضَم الْجِيم. قَوْله: (أَن تظهر) ذكر فِي (الموعب) : يُقَال: ظهر فلَان السَّطْح إِذا علاهُ، وَعَن الزّجاج فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَطَاعُوا أَن يظهروه} (الْكَهْف: 97) أَي: مَا قدرُوا أَن يعلوا عَلَيْهِ لارتفاعه وإملاسه، وَفِي (الْمُنْتَهى) : ظَهرت الْبَيْت علوته، وأظهرت بفلان: أعليت بِهِ، وَفِي كتاب ابْن التِّين وَغَيره: ظهر الرجل فَوق السَّطْح إِذا علا فَوْقه، قيل: وَإِنَّمَا قيل لَهُ كَذَلِك لِأَنَّهُ إِذا علا فَوْقه فقد ظهر شخصه لمن تَأمله، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن يخرج الظل من قاعة حُجْرَتهَا فَيذْهب، وكل شَيْء خرج فقد ظهر، وَالتَّفْسِير الأول أقرب وأليق بِظَاهِر الحَدِيث، لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: (تظهر) إِنَّمَا هُوَ رَاجع إِلَى: الشَّمْس، وَلم يتَقَدَّم للظل ذكر فِي الحَدِيث، وسنستوفي الْكَلَام فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن قريب فِي بَاب وَقت الْعَصْر، إِن شَاءَ الله.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ دَلِيل على أَن وَقت الصَّلَاة من فرائضها وَأَنَّهَا لَا تجزي، قبل وَقتهَا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء إلاَّ شَيْء رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَعَن بعض التَّابِعين: أجمع الْعلمَاء على خِلَافه وَلَا وَجه لذكره هَهُنَا لِأَنَّهُ لَا يَصح عَنْهُم وَصَحَّ عَن أبي مُوسَى خِلَافه مِمَّا وَافق الْجَمَاعَة فَصَارَ اتِّفَاقًا صَحِيحا. الثَّانِي: فِيهِ الْمُبَادرَة بِالصَّلَاةِ فِي أول وَقتهَا وَهَذَا هُوَ الأَصْل وَأَن رُوِيَ: الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ والإسفار بِالْفَجْرِ بالأحاديث الصَّحِيحَة. الثَّالِث: فِيهِ دُخُول الْعلمَاء على الْأُمَرَاء وإنكارهم عَلَيْهِم مَا يُخَالف السّنة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز مُرَاجعَة الْعَالم لطلب الْبَيَان وَالرُّجُوع عِنْد التَّنَازُع إِلَى السّنة. الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحجَّة فِي الحَدِيث الْمسند دون الْمَقْطُوع، وَلذَلِك لم يقنع عمر بِهِ، فَلَمَّا أسْند إِلَى بشير بن أبي مَسْعُود قنع بِهِ. السَّادِس: اسْتدلَّ بِهِ قوم مِنْهُم ابْن الْعَرَبِيّ على جَوَاز صَلَاة المفترض خلف المتنفل من جِهَة أَن الْمَلَائِكَة لَيْسُوا مكلفين بِمثل مَا كلف بِهِ الْإِنْس قلت: هَذَا اسْتِدْلَال غير صَحِيح، لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ مُكَلّفا بتبليغ تِلْكَ الصَّلَاة وَلم يكن متنفلاً، فَتكون صَلَاة مفترض خلف مفترض. وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَن لَا تكون تِلْكَ الصَّلَاة وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ، ورد بِأَنَّهَا كَانَت صَبِيحَة لَيْلَة فرض الصَّلَاة، وَاعْترض عَلَيْهِ بِاحْتِمَال(5/5)
أَن الْوُجُوب عَلَيْهِ كَانَ مُعَلّقا بِالْبَيَانِ، فَلم يتَحَقَّق الْوُجُوب إِلَّا بعد تِلْكَ الصَّلَاة. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْبُنيان، وَلَكِن يَنْبَغِي الِاقْتِصَار فِيهِ، أَلا ترى أَن جِدَار الْحُجْرَة كَانَ قَصِيرا؟ . قَالَ الْحسن: كنت أَدخل فِي بيُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا محتلم وَأَنا أسقفها بيَدي. الثَّامِن: اسْتدلَّ بِهِ من يرى جَوَاز الائتمام بِمن يأتم بِغَيْرِهِ، وَالْجَوَاب عَنهُ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مبلغا فَقَط كَمَا فِي قصَّة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صلَاته خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصَلَاة النَّاس خَلفه. وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي أَبْوَاب الْإِمَامَة. التَّاسِع: فِيهِ فَضِيلَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْعَاشِر: فِيهِ: مَا قَالَ ابْن بطال فِيهِ دَلِيل على ضعف الحَدِيث الْوَارِد فِي أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أم بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي يَوْمَيْنِ لوقتين مُخْتَلفين لكل صَلَاة، قَالَ: لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لم يُنكر عُرْوَة على عمر صلَاته فِي آخر الْوَقْت، محتجا بِصَلَاة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَعَ أَن جِبْرِيل قد صلى فِي الْيَوْم الثَّانِي فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ: الْوَقْت مَا بَين هذَيْن. وَأجِيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن تكون صَلَاة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَت خرجت عَن وَقت الِاخْتِيَار وَهُوَ مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ لَا عَن وَقت الْجَوَاز وَهُوَ مغيب الشَّمْس، فَحِينَئِذٍ يتَّجه إِنْكَار عُرْوَة، وَلَا يلْزم مِنْهُ ضعف الحَدِيث أَو يكون إِنْكَار عُرْوَة لأجل مُخَالفَة عمر مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، وَرَأى أَن الصَّلَاة بعد ذَلِك إِنَّمَا هِيَ لبَيَان الْجَوَاز فَلَا يلْزم مِنْهُ ضعف الحَدِيث أَيْضا. وَفِي قَوْله: مَا واظب عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت نظر لَا يخفى. فَإِن قلت: ذكر حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد ذكر حَدِيث أبي مَسْعُود مَا وَجهه؟ قلت: لِأَن عُرْوَة احْتج بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا، وَهِي الصَّلَاة الَّتِي وَقع الْإِنْكَار بِسَبَبِهَا، وَبِذَلِك تظهر مُنَاسبَة ذكره بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد حَدِيث أبي مَسْعُود، لِأَن حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، يشْعر بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر فِي أول الْوَقْت، وَحَدِيث أبي مَسْعُود يشْعر بِأَن أصل بَيَان الْأَوْقَات كَانَ بتعليم جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْلهَا: قبل أَن تظهر؟ وَالشَّمْس ظَاهِرَة على كل شَيْء من أول طُلُوعهَا إِلَى غُرُوبهَا؟ قلت: إِنَّهَا أَرَادَت: والفيء فِي حُجْرَتهَا. قبل أَن يَعْلُو على الْبيُوت، فَكَنَتْ بالشمس عَن الْفَيْء، لِأَن الْفَيْء عَن الشَّمْس، كَمَا سمي الْمَطَر: سَمَاء، لِأَنَّهُ من السَّمَاء ينزل. ألاَ تَرى أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: لم يظْهر الْفَيْء من حُجْرَتهَا. وَفِي لفظ: (وَالشَّمْس طالعة فِي حُجْرَتي) . فَافْهَم.
2 - (بابٌ قَوْلُ الله تَعَالَى {مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الرّوم: 31)
أَي: هَذَا بَاب، فباب: بِالتَّنْوِينِ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب قَوْله تَعَالَى، بِالْإِضَافَة، ثمَّ الْكَلَام فِي هَذِه الْآيَة على أَنْوَاع:
الأول: أَن هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة الرّوم وَقبلهَا قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطرت الله} (الرّوم: 30) الْآيَة.
الثَّانِي: فِي مَعْنَاهَا وإعرابها، فَقَوله: {فأقم وَجهك للدّين} (الرّوم: 30) أَي: قوم وَجهك لَهُ غير ملتفت يَمِينا وَشمَالًا، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَعَن الضَّحَّاك والكلبي: أَي: أقِم عَمَلك. قَوْله: {حَنِيفا} (الرّوم: 30) أَي: مُسلما، قَالَه الضَّحَّاك. وَقيل: مخلصا، وانتصابه على الْحَال من الدّين. قَوْله: {فطرت الله} (الرّوم: 30) أَي: وَعَلَيْكُم فطْرَة الله أَي: الزموا فطْرَة الله، وَهِي الْإِسْلَام. وَقيل: عهد الله فِي الْمِيثَاق. قَوْله: {منيبين} (الرّوم: 30) نصب على الْحَال من الْمُقدر، وَهُوَ: إلزموا فطْرَة الله، مَعْنَاهُ: منقلبين، واشتقاقه من: نَاب يَنُوب، إِذا رَجَعَ، وَعَن قَتَادَة: مَعْنَاهُ: تَائِبين، وَعَن ابْن زيد مَعْنَاهُ مُطِيعِينَ، والإنابة الِانْقِطَاع إِلَى الله بالإنابة أَي: الرُّجُوع عَن كل شَيْء.
الثَّالِث: فِي بَيَان وَجه عطف قَوْله: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} (الرّوم: 31) هُوَ الْإِعْلَام بِأَن الصَّلَاة من جملَة مَا يَسْتَقِيم بِهِ الْإِيمَان لِأَنَّهَا عماد الدّين، فَمن أَقَامَهَا فقد أَقَامَ الدّين، وَمن تَركهَا فقد هدم الدّين.
523 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا عَبَّادٌ هُوَ ابنُ عَبَّادٍ عنْ أبي جَمْرَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ قدِمَ وَفْدُ عبْدٍ القَيْسِ علَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا إنَّا مِنْ هاذَا الحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَانَصلُ إلَيْكَ إلاَّ فِي الشهْرِ الحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيءٍ نَأخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُوا إلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا فقالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وأنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَعٍ الإيمَانُ بِاللَّه ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ الله وأنِّي رسُولُ الله وإقامُ(5/6)
الصَّلاَةِ وإيتَاءُ الزَّكاةِ وأَنْ تُؤَدُّوا إلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عنِ الدُّبَّاءِ والحنتم وَالمُقَيَّرِ والنَّقِيرِ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة اقتران نفي الشّرك بِإِقَامَة الصَّلَاة، وَفِي الحَدِيث: اقتران إِثْبَات التَّوْحِيد بإقامتها؟ فَإِن قلت: كَيفَ الْمُنَاسبَة بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات؟ قلت: من جِهَة التضاد لِأَن ذكر أحد المتضادين فِي مُقَابلَة الآخر يعد مُنَاسبَة من هَذِه الْجِهَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: قُتَيْبَة، وَعباد بن عباد المهلبي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء واسْمه: نصر بن عمرَان، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، لِأَن هَذَا الحَدِيث ذكر فِيهِ لكنه رَوَاهُ هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، قَالَ: (كنت أقعد مَعَ ابْن عَبَّاس فيجلسني على سَرِيره، فَقَالَ: أقِم عِنْدِي حَتَّى أجعَل لَك سَهْما من مَالِي، فأقمت مَعَه شَهْرَيْن، ثمَّ قَالَ: إِن وَفد عبد الْقَيْس) الحَدِيث، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي عشرَة مَوَاضِع وَذكرنَا أَيْضا من أخرجه غَيره.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: عباد وَهُوَ ابْن عباد، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة غَيره عباد هُوَ ابْن عباد بِدُونِ: الْوَاو. وَفِيه: من وَافق اسْمه اسْم أَبِيه. وَفِيه: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغلاني، وبغلان قَرْيَة من بَلخ، وَهُوَ: قُتَيْبَة. وبصري وَهُوَ: عباد، وَأَبُو جَمْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ مُخْتَصرا: قَوْله: (إِن وَفد عبد الْقَيْس) ، الْوَفْد: قوم يَجْتَمعُونَ فيردون الْبِلَاد، وَقَالَ القَاضِي: هم الْقَوْم يأْتونَ الْملك ركبا، وَهُوَ اسْم الْجمع، وَعبد الْقَيْس: أَبُو قَبيلَة، وَهُوَ ابْن أفصى، بِالْفَاءِ: ابْن دعمى، بِالضَّمِّ: ابْن جديلة بن اسد بن ربيعَة بن نذار. قَوْله: (إِنَّا هَذَا الْحَيّ) بِالنّصب على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (من الربيعة خبرلان وَرَبِيعَة هُوَ ابْن نزار بن معد بن عدنان وانما قَالُوا ربيعَة لَان عبد الْقَيْس من اولاده قَوْله (إلاَّ فِي الشَّهْر الْحَرَام) ، المُرَاد بِهِ الْجِنْس، فَيتَنَاوَل الْأَشْهر الْحرم الْأَرْبَعَة: رَجَب، وَذَا الْقعدَة وَذَا الْحجَّة وَالْمحرم. قَوْله: (تَأْخُذهُ) ، بِالرَّفْع على أَنه اسْتِئْنَاف، وَلَيْسَ جَوَابا لِلْأَمْرِ بِقَرِينَة عطف نَدْعُو عَلَيْهِ مَرْفُوعا. قَوْله: (من وَرَاءَنَا) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: نَدْعُو. قَوْله: (ثمَّ فَسرهَا) ، إِنَّمَا أَنْت الضَّمِير نظرا إِلَى أَن المُرَاد من الْإِيمَان الشَّهَادَة وَإِلَى أَنه خصْلَة، إِذا التَّقْدِير: آمركُم بِأَرْبَع خِصَال. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الصَّوْم هَهُنَا؟ مَعَ أَنه ذكر فِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان حَيْثُ قَالَ: (وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان)) ، وَالْحَال أَن الصَّوْم كَانَ وَاجِبا حينئذٍ لِأَن وفادتهم كَانَت عَام الْفَتْح، وَإِيجَاب الصَّوْم فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قلت: قَالَ ابْن الصّلاح: وَأما عدم ذكر الصَّوْم فِيهِ فَهُوَ إغفال من الرَّاوِي وَلَيْسَ من الِاخْتِلَاف الصَّادِر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الدُّبَّاء) ، بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد، وَقد تقصر وَقد تكسر الدَّال: وَهُوَ اليقطين الْيَابِس، وَهُوَ جمع، والواحدة: دباءة، وَمن قصر قَالَ: دباة و: (الحنتم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهِي الجرار الْخضر تضرب الى الْحمرَة، و: (النقير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف، وَهُوَ جذع ينقر وَسطه وينبذ فِيهِ، و: (المقير) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ المطلى بالقار، وَهُوَ الزفت وَفِي بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان: الحنتم والدباء والنقير والمزفت، وَرُبمَا قَالَ: المقير.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الظروف الْمَذْكُورَة وَأمره بأَدَاء الْخمس بمقارنة أمره بِالْإِيمَان وَمَا ذكره مَعَه قلت كَانَ هَؤُلَاءِ الْوَفْد يكثرون الانتباذ فِي الظروف الْمَذْكُورَة فعرفهم مَا يهمهم، ويخشى مِنْهُم مواقعته، وَكَذَلِكَ كَانَ يخْشَى مِنْهُم الْغلُول فِي الْفَيْء فَلذَلِك نَص عَلَيْهِ.
3 - (بابُ البَيْعَةِ عَلَى إقَامَةِ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبيعَة على إِقَامَة الصَّلَاة. وَقَوله: (إِقَامَة الصَّلَاة) بِالتَّاءِ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا بَاب الْبيعَة على إقَام الصَّلَاة، بِدُونِ: التَّاء، وَهُوَ الأَصْل. والبيعة: هُوَ الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْبيعَة عبارَة عَن المعاقدة على الْإِسْلَام والمعاهدة، كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره.
524 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدَّثنا قَيْسٌ عنْ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ الله قالَ بايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى إقَامِ الصَّلاَة وَإيتَاءِ الزَّكاةِ(5/7)
والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يشْتَمل على ثَلَاثَة أَشْيَاء، والترجمة على الْجُزْء الأول مِنْهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة، تقدم، وَيحيى هُوَ الْقطَّان. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد. وَقيس ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مَعَ هَذَا الاسناد، غير مُحَمَّد بن الْمثنى، قد مضى فِي بَاب قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ فِي آخر كتاب الْإِيمَان، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بلطائف الْإِسْنَاد، وَمعنى الحَدِيث وَغير ذَلِك مُسْتَوفى مستقصىً.
4 - (بابٌ الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّلَاة كَفَّارَة، هَكَذَا: الصَّلَاة كَفَّارَة، فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بَاب تَكْفِير الصَّلَاة الْكَفَّارَة عبارَة عَن الفعلة والخصلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة أَي: تسترها وتمحوها، وَهِي على وزن: فعالة بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة، كقتالة وضرابة، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة فِي بَاب الإسمية، واشتقاقها من الْكفْر بِالْفَتْح وَهُوَ تَغْطِيَة الشَّيْء بالاستهلاك، والتكفير مصدر من: كفر، بِالتَّشْدِيدِ.
4 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن الْأَعْمَش قَالَ حَدثنِي شَقِيق قَالَ سَمِعت حُذَيْفَة قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ أَيّكُم يحفظ قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْفِتْنَة قلت أَنا كَمَا قَالَه قَالَ إِنَّك عَلَيْهِ أَو عَلَيْهَا لجريء قلت فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله وَولده وجاره تكفرها الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْأَمر وَالنَّهْي قَالَ لَيْسَ هَذَا أُرِيد وَلَكِن الْفِتْنَة الَّتِي تموج كَمَا يموج الْبَحْر قَالَ لَيْسَ عَلَيْك مِنْهَا بَأْس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن بَيْنك وَبَينهَا بَابا مغلقا قَالَ أيكسر أم يفتح قَالَ يكسر قَالَ إِذا لَا يغلق أبدا قُلْنَا أَكَانَ عمر يعلم الْبَاب قَالَ نعم كَمَا أَن دون الْغَد اللَّيْلَة إِنِّي حدثته بِحَدِيث لَيْسَ بالأغاليط فهبنا أَن نسْأَل حُذَيْفَة فَأمرنَا مسروقا فَسَأَلَهُ فَقَالَ الْبَاب عمر) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " تكفرها الصَّلَاة " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي يحيى الْقطَّان. الثَّالِث سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي أَبُو وَائِل الْكُوفِي. الْخَامِس حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه حَدثنِي حُذَيْفَة رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره سَمِعت حُذَيْفَة وَفِيه بصريان وهما مُسَدّد وَيحيى وكوفيان الْأَعْمَش وشقيق (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن جرير وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن عمر بن حَفْص قَالَه الْمزي فِي الْأَطْرَاف وَهُوَ وهم وَإِنَّمَا أخرجه عَن عمر بن حَفْص فِي الْفِتَن وَفِي الصَّوْم عَن عَليّ بن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن ابْن نمير وَأبي بكر كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة قَالَه الْمزي وَهُوَ وهم وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن ابْن نمير وَأبي كريب وَمُحَمّد بن الْمثنى ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة فَوَهم فِي ذكره لأبي بكر وَفِي إِسْقَاطه لِابْنِ الْمثنى وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن أَيْضا عَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ أَيْضا عَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَأبي مُعَاوِيَة كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش(5/8)
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " كُنَّا جُلُوسًا " أَي جالسين قَوْله " فِي الْفِتْنَة " وَهِي الْخِبْرَة والإعجاب بالشَّيْء فتنه يفتنه فتنا وفتونا وأفتنه وأباها الْأَصْمَعِي وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ فتنه جعل فِيهِ فتْنَة وأفتنه أوصل الْفِتْنَة إِلَيْهِ قَالَ إِذا قَالَ أفتنته فقد تعرض الْفِتَن وَإِذا قَالَ فتنته فَلم يتَعَرَّض الْفِتَن وَحكى أَبُو زيد أفتن الرجل بِصِيغَة مَا لم يسم فَاعله أَي فتن والفتنة الضلال وَالْإِثْم وَفتن الرجل أماله عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} والفتنة الْكفْر قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} والفتنة الفضيحة والفتنة الْعَذَاب والفتنة مَا يَقع بَين النَّاس من الْقِتَال ذكره ابْن سَيّده والفتنة البلية وأصل ذَلِك كُله من الاختبار وَأَنه من فتنت الذَّهَب فِي النَّار إِذا اختبرته وَفِي الغريبين الْفِتْنَة الغلو فِي التَّأْوِيل المظلم وَقَالَ ابْن طريف فتنته وأفتنته وَفتن بِكَسْر التَّاء فُتُونًا تحول من حسن إِلَى قَبِيح وَفتن إِلَى النِّسَاء وَفتن فِيهِنَّ أَرَادَ الْفُجُور بِهن وَفِي الجمهرة فتنت الرجل أفتنه وأفتنته إفتانا وَفِي الصِّحَاح قَالَ الْفراء أهل الْحجاز يَقُولُونَ (مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين) وَأهل نجد يَقُولُونَ بمفتنين من أفتنت وَزعم عِيَاض أَنَّهَا الِابْتِلَاء والامتحان قَالَ وَقد صَار فِي عرف الْكَلَام لكل أَمر كشفه الاختبار عَن سوء وَيكون فِي الْخَيْر وَالشَّر قَالَ تَعَالَى {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} قَوْله " قلت أَنا كَمَا قَالَه " أَي أحفظ كَمَا قَالَه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) الْكَاف هَهُنَا لماذا وَهُوَ حَافظ لنَفس قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا كمثله (قلت) يجوز أَن تكون الْكَاف هُنَا للتَّعْلِيل لِأَنَّهَا اقترنت بِكَلِمَة مَا المصدرية أَي أحفظ لأجل حفظ كَلَامه وَيجوز أَن تكون للاستعلاء يَعْنِي أحفظ على مَا عَلَيْهِ قَوْله وَقَالَ الْكرْمَانِي لَعَلَّه نَقله بِالْمَعْنَى فاللفظ مثل لَفظه فِي أَدَاء ذَلِك الْمَعْنى (قلت) حَاصِل كَلَامه يؤول إِلَى معنى المثلية وَهُوَ فِي سُؤَاله نفي المثلية فَانْتفى بذلك أَن تكون الْكَاف للتشبيه وَقَالَ بَعضهم الْكَاف زَائِدَة (قلت) هَذَا أَخذه من الْكرْمَانِي وَلم يبين وَاحِد مِنْهُمَا أَن الْكَاف إِذا كَانَت زَائِدَة مَا تكون فَائِدَته (فَإِن قلت) لفظ أَنا مُفْرد وَهُوَ مقول قَوْله (قلت) وَقد علم أَن مقول القَوْل يكون جملَة (قلت) أَنا مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره أَنا أحفظ أَو أضبط أَو نَحْوهمَا قَوْله " عَلَيْهِ " أَي قَول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " أَو عَلَيْهَا " أَي أَو على مقَالَته وَالشَّكّ من حُذَيْفَة قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) يجوز أَن يكون مِمَّن دونه قَوْله " لجريء " خبر أَن فِي قَوْله " إِنَّك " وَاللَّام للتَّأْكِيد والجريء على وزن فعيل من الجراءة وَهِي الْإِقْدَام على الشَّيْء قَوْله " فتْنَة الرجل فِي أَهله " قَالَ ابْن بطال فتْنَة الرجل فِي أَهله أَن يَأْتِي من أَجلهم مَا لَا يحل لَهُ من القَوْل أَو الْعَمَل مِمَّا لم يبلغ كَبِيرَة وَقَالَ الْمُهلب يُرِيد مَا يعرض لَهُ مَعَهُنَّ من شَرّ أَو حزن أَو شُبْهَة قَوْله " وَمَاله " فتْنَة الرجل فِي مَاله أَن يَأْخُذهُ من غير مأخذه ويصرفه فِي غير مصرفه أَو التَّفْرِيط بِمَا يلْزمه من حُقُوق المَال فتكثر عَلَيْهِ المحاسبة قَوْله " وَولده " فتْنَة الرجل فِي وَلَده فرط محبتهم وشغله بهم عَن كثير من الْخَيْر أَو التوغل فِي الِاكْتِسَاب من أَجلهم من غير اكتراث من أَن يكون من حَلَال أَو حرَام قَوْله " وجاره " فتْنَة الرجل فِي جَاره أَن يتَمَنَّى أَن يكون حَاله مثل حَاله إِن كَانَ متسعا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة} قَوْله " تكفرها الصَّلَاة " أَي تكفر فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله وَولده وجاره أَدَاء الصَّلَاة قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يَعْنِي الصَّلَوَات الْخمس إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر هَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ قَول العَبْد سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وَقَالَ ابْن عبد الْبر قَالَ بعض المنتسبين إِلَى الْعلم من أهل عصرنا أَن الْكَبَائِر والصغائر تكفرها الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَاسْتدلَّ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث وَبِحَدِيث الصنَابحِي " إِذا تَوَضَّأ خرجت الْخَطَايَا من فِيهِ " الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عمر هَذَا جهل وموافقة للمرجئة وَكَيف يجوز أَن تحمل هَذِه الْأَخْبَار على عمومها وَهُوَ يسمع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} فِي آي كثير فَلَو كَانَت الطَّهَارَة وَأَدَاء الصَّلَوَات وأعمال الْبر مكفرة لما احْتَاجَ إِلَى التَّوْبَة وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الصَّوْم وَالصَّدَََقَة وَالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن الْمَعْنى أَنَّهَا تكفر إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر قَوْله " وَالْأَمر " أَي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة (فَإِن قلت) مَا النُّكْتَة فِي تعْيين هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة (قلت) الْحُقُوق لما كَانَت فِي الْأَبدَان وَالْأَمْوَال والأقوال فَذكر من أَفعَال الْأَبدَان أَعْلَاهَا وَهُوَ الصَّلَاة وَالصَّوْم قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين} وَذكر من حُقُوق الْأَمْوَال أَعْلَاهَا وَهِي الصَّدَقَة وَمن الْأَقْوَال أَعْلَاهَا وَهِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر قَوْله " تموج " من ماج الْبَحْر أَي تضطرب وَيدْفَع بَعْضهَا بَعْضهَا لعظمها وَكلمَة مَا فِي كَمَا تموج مَصْدَرِيَّة أَي كموج الْبَحْر وَهُوَ تَشْبِيه غير بليغ قَوْله " قَالَ " أَي قَالَ حُذَيْفَة قَوْله " بَأْس " أَي شدَّة قَوْله(5/9)
" لبابا " ويروى " بَابا " بِدُونِ اللَّام قَوْله " مغلقا " صفة الْبَاب قَالَ ثَعْلَب فِي الفصيح أغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه والعامة تَقول غلقت بِغَيْر ألف وَهُوَ خطأ وَذكره أَبُو عَليّ الدينَوَرِي فِي بَاب مَا تحذف مِنْهُ الْعَامَّة الْألف وَقَالَ ابْن سَيّده فِي العويص والجوهري فِي الصِّحَاح فأغلقت قَالَ الْجَوْهَرِي وَهِي لُغَة رَدِيئَة متروكة وَقَالَ ابْن هِشَام فِي شَرحه الْأَفْصَح غلقت بِالتَّشْدِيدِ قَالَ الله تَعَالَى {وغلقت الْأَبْوَاب} وَفِيه نظر لِأَن غلقت مُشَدّدَة للتكثير قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره وَفِي الْمُحكم غلق الْبَاب وأغلقه وغلقه الأولى من ابْن دريرد عزاها إِلَى أبي زيد وَهِي نادرة وَالْمَقْصُود من هَذَا الْكَلَام أَن تِلْكَ الْفِتَن لَا يخرج مِنْهَا شَيْء فِي حياتك قَوْله " قَالَ أيكسر " أَي قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أيكسر هَذَا الْبَاب أم يفتح قَوْله " قَالَ يكسر " أَي قَالَ حُذَيْفَة يكسر قَوْله " قَالَ إِذا لَا يغلق أبدا " أَي قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا لَا يغلق أبدا هَذَا الْبَاب وَإِذا هُوَ جَوَاب وَجَزَاء أَي إِذا انْكَسَرَ لَا يغلق أبدا لِأَن المكسور لَا يُعَاد بِخِلَاف المفتوح وَالْكَسْر لَا يكون غَالِبا إِلَّا عَن إِكْرَاه وَغَلَبَة وَخلاف عَادَة وَلَفظ لَا يغلق رُوِيَ مَرْفُوعا ومنصوبا وَجه الرّفْع أَن يُقَال أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير الْبَاب إِذا لَا يغلق وَوجه النصب أَن لَا يقدر ذَلِك فَلَا يكون مَا بعده مُعْتَمدًا على مَا قبله وَالْحَاصِل أَنه فعل مُسْتَقْبل مَنْصُوب بِإِذن وَأذن تعْمل النصب فِي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل بِثَلَاثَة أَشْيَاء وَهِي أَن يعْتَمد مَا قبلهَا على مَا بعْدهَا وَأَن يكون الْفِعْل فعل حَال وَأَن لَا يكون مَعهَا وَاو الْعَطف وَهَذِه الثَّلَاثَة مَعْدُومَة فِي النصب قَوْله " قُلْنَا " هُوَ مقول شَقِيق قَوْله " كَمَا أَن دون الْغَد اللَّيْلَة " أَي كَمَا يعلم أَن الْغَد أبعد منا من اللَّيْلَة يُقَال هُوَ دون ذَلِك أَي أقرب مِنْهُ قَوْله " إِنِّي حدثته " مقول حُذَيْفَة قَوْله " لَيْسَ بالأغاليط " جمع أغلوطة وَهِي مَا يغالط بهَا قَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ حدثته حَدِيثا صدقا محققا من أَحَادِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا من اجْتِهَاد رَأْي وَنَحْوه وغرضه أَن ذَلِك الْبَاب رجل يقتل أَو يَمُوت كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون حُذَيْفَة علم أَن عمر يقتل وَلكنه كره أَن يُخَاطب عمر بِالْقَتْلِ فَإِن عمر كَانَ يعلم أَنه هُوَ الْبَاب فَأتى بِعِبَارَة يحصل مِنْهَا الْغَرَض وَلَا يكون إِخْبَارًا صَرِيحًا بقتْله قَالَ وَالْحَاصِل أَن الْحَائِل بَين الْفِتْنَة وَالْإِسْلَام عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهُوَ الْبَاب فَمَا دَامَ عمر حَيا لَا تدخل الْفِتَن فِيهِ فَإِذا مَاتَ دخلت وَكَذَا كَانَ قَوْله " فهبنا " أَي خفنا من هاب وَهُوَ مقول شَقِيق أَيْضا قَوْله " مسروقا " هُوَ مَسْرُوق بن الأجدع وَقد تقدم ذكره قَوْله " فَقَالَ الْبَاب عمر " أَي قَالَ مَسْرُوق الْبَاب هُوَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (فَإِن قلت) قَالَ أَولا أَن بَيْنك وَبَينهَا بَابا فالباب يكون بَين عمر وَبَين الْفِتْنَة وَهنا يَقُول الْبَاب هُوَ عمر وَبَين الْكَلَامَيْنِ مُغَايرَة (قلت) لَا مُغَايرَة بَينهمَا لِأَن المُرَاد بقوله " بَيْنك وَبَينهَا " أَي بَين زَمَانك وَبَين زمَان الْفِتْنَة وجود حياتك وَقَالَ الْكرْمَانِي أَو المُرَاد بَين نَفسك وَبَين الْفِتْنَة بدنك إِذْ الرّوح غير الْبدن أَو بَين الْإِسْلَام والفتنة وَقَالَ أَيْضا (فَإِن قلت) من أَيْن علم حُذَيْفَة أَن الْبَاب عمر وَهل علم من هَذَا السِّيَاق أَنه مُسْند إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل كل مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لم يسند مِنْهُ شَيْء إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) الْكل ظَاهر مُسْند إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَرِينَة السُّؤَال وَالْجَوَاب وَلِأَنَّهُ قَالَ حدثته بِحَدِيث وَلَفظ الحَدِيث الْمُطلق لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي حَدِيثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) كَيفَ سَأَلَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْفِتْنَة الَّتِي تَأتي بعده خوفًا أَن يُدْرِكهَا مَعَ علمه بِأَنَّهُ هُوَ الْبَاب (قلت) من شدَّة خَوفه خشى أَن يكون نسي فَسَأَلَ من يذكرهُ
526 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عنْ أبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلاً أصَابَ منَ امْرَأةٍ قُبْلَةً فَأتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {أقِمِ الصَّلاَةَ طرَفَيِ النَّهَارِ وزُلفا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) فقالَ الرَّجُلُ يَا رسولَ الله أَلِي هذَا قالَ لَجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ (الحَدِيث 526 طرفه فِي: 4687) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات) ، لِأَن المُرَاد من الْحَسَنَات: الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا أَقَامَهَا تكفر عَنهُ الذُّنُوب إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر، كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. وَالثَّانِي: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن(5/10)
زُرَيْع بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة. وَالثَّالِث: سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر، وَقد مر فِي بَاب من خص بِالْعلمِ. وَالرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل، بِكَسْر الْمِيم وَضمّهَا وَتَشْديد اللَّام: النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى نهد بن زيد بن لَيْث بن أسلم، بِضَم اللَّام: ابْن الحاف بن قضاعة، أسلم على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، وَلكنه أدّى إِلَيْهِ الصَّدقَات، عَاشَ نَحوا من مائَة وَثَلَاثِينَ سنة، وَمَات سنة خمس وَتِسْعين، وَأَنه كَانَ ليُصَلِّي حَتَّى يغشى عَلَيْهِ. وَالْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون مَا خلا قُتَيْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن قُتَيْبَة وَأبي كَامِل كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن زُرَيْع وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر بن سلمَان وَعَن عُثْمَان بن جرير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَابْن أبي عدي وَعَن اسماعيل بن مَسْعُود عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن سُفْيَان بن وَكِيع وَفِي الزَّاهِد عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ: أَبُو الْيُسْر، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، وَقد صرح بِهِ التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته: حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أخبرنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ: أخبرنَا قيس بن الرّبيع عَن عُثْمَان ابْن عبد الله بن موهب عَن مُوسَى بن طَلْحَة، عَن أبي الْيُسْر، قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَة تبْتَاع تَمرا، فَقلت: إِن فِي الْبَيْت تَمرا أطيب مِنْهُ، فَدخلت معي فِي الْبَيْت، فَأَهْوَيْت إِلَيْهَا فَقَبلتهَا، فَأتيت أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: اسْتُرْ على نَفسك وَتب، فَأتيت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أستر على نَفسك وَتب وَلَا تخبر أحدا، فَلم أَصْبِر، فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: أخلفت غازيا فِي سَبِيل الله فِي أَهله بِمثل هَذَا؟ حَتَّى تمنى أَنه لم يكن أسلم إِلَى تِلْكَ السَّاعَة، حَتَّى ظن أَنه من أهل النَّار. قَالَ: فَأَطْرَقَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَويلا. حَتَّى أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114) . قَالَ أَبُو الْيُسْر: فَأَتَيْته فقرأها عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله أَلِهَذَا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ قَالَ: بل للنَّاس عَامَّة) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَقيس بن الرّبيع ضعفه. وَكِيع وَغَيره، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو الْيُسْر: كَعْب بن عَمْرو السّلمِيّ بَدْرِي. قَوْله: (فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أَتَى الرجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا أَصَابَهُ. قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114) يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي أبي الْيُسْر الْمَذْكُور.
وَفِي تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه: (عَن أبي أُمَامَة أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أقِم فيَّ حد الله، مرّة أَو مرَّتَيْنِ، فَأَعْرض عَنهُ، ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة) ، وروى أَبُو عَليّ الطوسي فِي (كتاب الْأَحْكَام) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَلم يسمع مِنْهُ (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت رجلا لَقِي امْرَأَة وَلَيْسَ بَينهمَا معرفَة، فَلَيْسَ يَأْتِي الرجل شَيْئا إِلَى امْرَأَته إلاَّ قد أَتَاهُ إِلَيْهَا إلاَّ أَنه لم يُجَامِعهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة، فَأمره أَن يتَوَضَّأ وَيُصلي. قَالَ معَاذ: فَقلت يَا رَسُول الله أَهِي لَهُ خَاصَّة أم للْمُؤْمِنين عَامَّة؟ قَالَ: بل للْمُؤْمِنين عَامَّة) . وروى مُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (يَا رَسُول الله إِنِّي عَالَجت امْرَأَة فِي أقْصَى الْمَدِينَة، وَإِنِّي أصبت مِنْهَا مَا دون أَن أَمسهَا، فَأَنا هَذَا فَاقْض فيَّ بِمَا شِئْت. فَقَالَ عمر: لقد سترك الله لَو سترت على نَفسك، وَلم يرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. فَانْطَلق الرجل فَأتبعهُ رجلا فَتلا عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة) . وَاعْلَم أَن فِي كَون الرجل فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: أَبَا الْيُسْر، هُوَ أصح الْأَقْوَال السِّتَّة. القَوْل الثَّانِي: إِنَّه عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، أَبُو حَبَّة، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، التمار، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: (جَاءَت امْرَأَة إِلَى عَمْرو بن غزيَّة تبْتَاع تَمرا، فَقَالَ: إِن فِي بَيْتِي تَمرا فانطلقي أبيعك مِنْهُ، فَلَمَّا دخلت الْبَيْت بَطش بهَا، فَصنعَ بهَا كل شَيْء إلاّ أَنه لم يَقع عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذهب عَنهُ الشَّيْطَان نَدم على مَا صنع، وأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله تناولت امْرَأَة فصنعت بهَا كل شَيْء يصنع الرجل بامرأته إلاَّ أَنِّي لم أقع عَلَيْهَا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أَدْرِي، وَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا(5/11)
فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ حضرت الصَّلَاة فصلوا، فَنزلت الْآيَة: {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114) .
القَوْل الثَّالِث: إِنَّه ابْن معتب، رجل من الْأَنْصَار ذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه) من حَدِيث إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، قَالَ: (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: معتب) ، فَذكر الحَدِيث.
القَوْل الرَّابِع: إِنَّه أَبُو مقبل، عَامر بن قيس الْأنْصَارِيّ ذكره مقَاتل فِي (نَوَادِر التَّفْسِير) وَقَالَ: هُوَ الَّذِي نزل فِيهِ: {أقِم الصَّلَاة} (هود: 114)
القَوْل الْخَامِس: هُوَ نَبهَان التمار، وَزعم الثَّعْلَبِيّ أَن نَبهَان لم ينزل فِيهِ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم} (آل عمرَان: 135) . الْآيَة.
القَوْل السَّادِس: إِنَّه عباد، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره.
قَوْله: {طرفِي النَّهَار} (هود: 114) . قَالَ الثَّعْلَبِيّ: طرفِي النَّهَار: الْغَدَاة والعشي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي صَلَاة الصُّبْح وَصَلَاة الْمغرب. وَقَالَ مُجَاهِد: صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعشي. وَقَالَ الضَّحَّاك: الْفجْر وَالْعصر، وَقَالَ مقَاتل: صَلَاة الْفجْر وَالظّهْر طرف، وَصَلَاة الْمغرب وَالْعصر طرف، وانتصاب: (طرفِي النَّهَار) على الظّرْف لِأَنَّهُمَا مضافان إِلَى الْوَقْت، كَقَوْلِك: أَقمت عِنْده جَمِيع النَّهَار، وَهَذَا على إِعْطَاء الْمُضَاف حكم الْمُضَاف إِلَيْهِ. قَوْله: {وَزلفًا من اللَّيْل} : (هود: 114) : صَلَاة الْعَتَمَة. وَقَالَ الْحسن: هما الْمغرب وَالْعشَاء، وَقَالَ الْأَخْفَش: يَعْنِي صَلَاة اللَّيْل، وَقَالَ الز (جاج: مَعْنَاهُ الصَّلَاة الْقَرِيبَة من أول اللَّيْل، والزلف: جمع زلفة، وَقَرَأَ الْجُمْهُور، بِضَم الزَّاي وَفتح اللَّام، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بضمهما، وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن بِضَم الزَّاي وَجزم اللَّام، وَقَرَأَ مُجَاهِد زلفى مثل قربى، وَفِي (الْمُحكم) زلف اللَّيْل: سَاعَات من أَوله. وَقيل: هِيَ سَاعَات اللَّيْل الْأَخِيرَة من النَّهَار وساعات النَّهَار الْأَخِيرَة من اللَّيْل. وَفِي (جَامع) الْقَزاز: الزلفة: الْقرْبَة من الْخَيْر وَالشَّر، وانتصاب: زلفى، على أَنه عطف على: الصَّلَاة، أَي: أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار، وأقم زلفى من اللَّيْل. قَوْله: {إِن الْحَسَنَات} (هود: 114) . قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لم يخْتَلف أحد من أهل التَّأْوِيل أَن الصَّلَاة فِي هَذِه الْآيَة يُرَاد بهَا الْفَرَائِض. قَوْله: (أَلِي هَذَا؟) الْهمزَة للاستفهام، وَقَوله: هَذَا، مُبْتَدأ، وَقَوله، لي، مقدما خَبره. وَفَائِدَة التَّقْدِيم التَّخْصِيص. قَوْله: (كلهم) ، لَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: عدم وجوب الْحَد فِي الْقبْلَة وَشبههَا من الْمس وَنَحْوه من الصَّغَائِر، وَهُوَ من اللمم المعفو عَنهُ باجتناب الْكَبَائِر بِنَصّ الْقُرْآن. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد يسْتَدلّ بِهِ على أَنه لَا حد وَلَا أدب على الرجل وَالْمَرْأَة، وَإِن وجدا فِي ثوب وَاحِد، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن الْمُنْذر. انْتهى قلت سلمنَا فِي نفي الْحَد، وَلَا نسلم فِي نفي الْأَدَب، سِيمَا فِي هَذَا الزَّمَان.
وَفِيه: أَن إِقَامَة الصَّلَوَات الْخمس تجْرِي مجْرى التَّوْبَة فِي ارْتِكَاب الصَّغَائِر.
وَفِيه: أَن بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح، وَالتَّوْبَة مَقْبُولَة وَفِي الْآي الْمَذْكُورَة دَلِيل على قَول أبي حنيفَة فِي أَن التَّنْوِير بِصَلَاة الْفجْر أفضل، وَذَلِكَ لِأَن ظَاهر الْآيَة يدل على وجوب إِقَامَة الصَّلَاة فِي طرف النَّهَار، وبيَّنا أَن طرفِي النَّهَار: الزَّمَان الأول بِطُلُوع الشَّمْس، وَالزَّمَان الأول بغروبها. وأجمعت الْأمة على أَن إِقَامَة الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت من غير ضَرُورَة غير مَشْرُوع، فقد تعذر الْعَمَل بِظَاهِر هَذِه الْآيَة، فَوَجَبَ حملهَا على الْمجَاز، وَهُوَ أَن يكون المُرَاد إِقَامَة الصَّلَاة فِي الْوَقْت الَّذِي يقرب من طرفِي النَّهَار، لِأَن مَا يقرب من الشَّيْء يجوز أَن يُطلق عَلَيْهِ اسْمه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكل وَقت كَانَ أقرب إِلَى طُلُوع الشَّمْس، وَإِلَى غُرُوبهَا كَانَ أقرب إِلَى ظَاهر اللَّفْظ، وَإِقَامَة صَلَاة الْفجْر عِنْد التَّنْوِير أقرب إِلَى وَقت الطُّلُوع من إِقَامَتهَا عِنْد الْغَلَس، وَكَذَلِكَ إِقَامَة صَلَاة الْعَصْر عِنْدَمَا يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ أقرب إِلَى وَقت الْغُرُوب من إِقَامَتهَا عِنْدَمَا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، وَالْمجَاز: كلما كَانَ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة كَانَ حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ أولى.
وفيهَا: دَلِيل أَيْضا على وجوب الْوتر، لِأَن قَوْله {وَزلفًا} (هود: 114) . يَقْتَضِي الْأَمر بِإِقَامَة الصَّلَاة فِي زلف من اللَّيْل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عطف على الصَّلَاة فِي قَوْله: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} (هود: 114) . فَيكون التَّقْدِير: وأقم الصَّلَاة فِي زلف من اللَّيْل، والزلف جمع، وَأَقل الْجمع ثَلَاثَة، فَالْوَاجِب إِقَامَة الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الثَّلَاثَة، فالوقتان للمغرب وَالْعشَاء، وَالْوَقْت الثَّالِث للوتر، فَيجب الحكم بِوُجُوبِهِ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) ذكر هَذَا شَيخنَا قطب الدّين، وَتَبعهُ شَيخنَا عَلَاء الدّين، وَهِي نزغة وَلَا نسلم لَهما قلت: لَا نسلم لَهُ لِأَن عدم التَّسْلِيم بعد إِقَامَة الدَّلِيل مُكَابَرَة.
5 - (بابُ فَضْلِ الصَّلاَةِ لوَقْتِهَا)
أَي: هَذَا فِي بَيَان فضل الصَّلَاة لوَقْتهَا، وَكَانَ الأَصْل أَن يُقَال: فضل الصَّلَاة فِي وَقتهَا، لِأَن الْوَقْت ظرف لَهَا، ولذكره هَكَذَا وَجْهَان: الأول: أَن عِنْد الْكُوفِيّين أَن حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض. وَالثَّانِي: اللَّام، هُنَا مثل اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى: {فطلقوهن لعدتهن} (الطَّلَاق: 1) أَي: مستقبلات لعدتهن، وَمثل قَوْلهم: لَقيته لثلاث بَقينَ من الشَّهْر، وَتسَمى: بلام التَّأْقِيت، والتأريخ. وَأما(5/12)
قيام: اللَّام، مقَام: فِي، فَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} (الْأَنْبِيَاء: 47) وَقَوله: لَا يجليها لوَقْتهَا إلاَّ هُوَ} (الْأَعْرَاف: 187) . وَقَوْلهمْ: مضى لسبيله. فَإِن قلت: فَفِي حَدِيث الْبَاب: على وَقتهَا، فالترجمة لَا تطابقه؟ قلت: اللَّام تَأتي بِمَعْنى: على، أَيْضا نَحْو قَوْله تَعَالَى: {ويخرون للأذقان} (الْإِسْرَاء: 107، 109) ، {ودعانا لجنبه} (يُونُس: 12) ، {وتله للجبين} (الصافات: 103) . وعَلى الأَصْل جَاءَ أَيْضا فِي الحَدِيث أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن بنْدَار، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر حَدثنَا مَالك بن مغول عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار عَن أبي عَمْرو عَن عبد الله، قَالَ: (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي الْعَمَل أفضل؟ قَالَ: الصَّلَاة فِي وَقتهَا) . وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) ، وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد بِلَفْظ التَّرْجَمَة. وَأخرجه مُسلم بِالْوَجْهَيْنِ.
527 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ هشَاُم بُن عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ الوَلِيدُ بنُ العَيْزَارِ أَخْبرنِي قالَ سَمِعْتُ أبَا عَمْرٍ والشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ حدَّثنا صاحِبُ هَذِه الدَّارِ وأشَارَ إلَى دَارِ عَبْدِ الله قالَ سَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إِلَى الله قالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أيّ قَالَ ثُمَّ بِر الوَالِدَيْنِ قالَ ثُمَّ أيّ قَالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله قَالَ حَدثنِي بهنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَتقدم الْكَلَام فِي: على وَاللَّام.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الْوَلِيد بن الْعيزَار، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالزاي قبل الْألف وبالراء بعْدهَا: ابْن حُرَيْث، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: الْكُوفِي. الرَّابِع: أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَهُوَ سعيد بن إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: المخضرم، أدْرك أهل الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة قَالَ: أذكر أَنِّي سَمِعت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أرعى إبِلا لأهلي بكاظمة، بالظاء الْمُعْجَمَة، وتكامل شَبَابِي يَوْم الْقَادِسِيَّة فَكنت ابْن أَرْبَعِينَ سنة يَوْمئِذٍ، وَكَانَ من أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود. الْخَامِس: هُوَ عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه السماع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِلَفْظ الْإِفْرَاد فِي الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل وَالسَّمَاع وَالسُّؤَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَفِيه: قَوْله: قَالَ الْوَلِيد بن الْعيزَار: أَخْبرنِي، تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الْوَلِيد بن الْعيزَار، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَمْرو.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي التَّوْحِيد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الْجِهَاد عَن الْحسن بن الصَّباح، وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن عباد بن الْعَوام. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبيد الله بن معَاذ، وَعَن مُحَمَّد بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْبر والصلة عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمروزِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (حَدثنَا صَاحب هَذِه الدَّار) ، لم يُصَرح فِيهِ شُعْبَة باسم عبد الله، بل رَوَاهُ مُبْهما. وَرَوَاهُ مَالك بن مغول عَن البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد، وَأَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ فِي التَّوْحِيد عَن الْوَلِيد، وصرحا باسم عبد الله، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَأحمد من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه، وَمَعَ هَذَا فِي قَوْله: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى دَار عبد الله) اكْتِفَاء عَن التَّصْرِيح، لِأَن المُرَاد من: عبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أَي الْعَمَل أحب إِلَى الله؟) . وَفِي رِوَايَة مَالك بن مغول: (أَي الْعَمَل أفضل؟) وَكَذَا الْأَكْثَر الروَاة. قَوْله: (على وَقتهَا) اسْتِعْمَال لَفْظَة: على، هَهُنَا بِالنّظرِ إِلَى إِرَادَة الإستعلاء على الْوَقْت، والتمكن على أَدَائِهَا فِي أَي جُزْء من أَجْزَائِهَا، وَاتفقَ أَصْحَاب شُعْبَة على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَخَالفهُم عَليّ بن حَفْص، فَقَالَ: (الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا) . وَقَالَ الْحَاكِم: روى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة عَن شُعْبَة، وَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة غير حجاج عَن عَليّ بن حَفْص، وحجاج حَافظ ثِقَة، وَقد احْتج مُسلم بعلي بن حَفْص. قَوْله: (قَالَ: ثمَّ أَي؟) قَالَ الْفَاكِهَانِيّ: إِنَّه غير منون لِأَنَّهُ غير مَوْقُوف عَلَيْهِ فِي الْكَلَام، والسائل ينْتَظر الْجَواب، والتنوين لَا يُوقف عَلَيْهِ، فتنوينه وَوَصله بِمَا بعده خطأ، فَيُوقف(5/13)
عَلَيْهِ وَقْفَة لَطِيفَة ثمَّ يُؤْتى بِمَا بعده. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَي، مشدد منون، كَذَلِك سَمِعت من ابْن الخشاب. وَقَالَ: لَا يجوز إلاَّ تنوينه لِأَنَّهُ مُعرب غير مُضَاف. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَنَّهُ مُضَاف تَقْديرا، والمضاف إِلَيْهِ مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: ثمَّ أَي الْعَمَل أحب؟ فَيُوقف عَلَيْهِ بِلَا تَنْوِين. قلت: قَالَ النُّحَاة: إِن أيا الموصولة والشرطية والاستفهامية معربة دَائِما فَإِذا كَانَت: أَي هَذِه معربة عِنْد الْإِفْرَاد، فَكيف يُقَال: إِنَّهَا مَبْنِيَّة عِنْد الْإِضَافَة؟ وَلما نقل عَن سِيبَوَيْهٍ هَذَا هَكَذَا أنكر عَلَيْهِ الزّجاج، فَقَالَ: مَا تبين لي أَن سِيبَوَيْهٍ غلط إلاَّ فِي موضِعين: هَذَا أَحدهمَا، فَإِنَّهُ يسلم أَنَّهَا تعرب إِذا أفردت، فَكيف يَقُول ببنائها إِذا أضيفت؟ قَوْله: (قَالَ: بر الْوَالِدين) ، هَكَذَا هُوَ عِنْد أَكثر الروَاة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (قَالَ: ثمَّ بر الْوَالِدين)) ، بِزِيَادَة كلمة: ثمَّ، و: الْبر، بِكَسْر الْبَاء: الْإِحْسَان، وبر الْوَالِدين: الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا وَالْقِيَام بخدمتهما وَترك العقوق والإساءة إِلَيْهِمَا من: بر يبر فَهُوَ بار، وَجمعه: بررة. قَوْله: الْجِهَاد فِي سَبِيل الله) وَهُوَ: الْمُحَاربَة مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام بِالنَّفسِ وَالْمَال. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الذّكر بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة؟ قلت: هَذِه الثَّلَاثَة أفضل الْأَعْمَال بعد الْإِيمَان، من ضيع الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين مَعَ الْعلم بفضيلتها كَانَ لغَيْرهَا من أَمر الدّين أَشد تضييعا، وَأَشد تهاونا واستخفافا، وَكَذَا من ترك بر وَالِديهِ فَهُوَ لغير ذَلِك من حُقُوق الله أَشد تركا، وَكَذَا الْجِهَاد: من تَركه مَعَ قدرته عَلَيْهِ عِنْد تعينه، فَهُوَ لغير ذَلِك من الْأَعْمَال الَّتِي يتَقرَّب بهَا إِلَى الله تَعَالَى أَشد تركا، فالمحافظ على هَذِه الثَّلَاثَة حَافظ على مَا سواهَا، والمضيع لَهَا كَانَ لما سواهَا أضيع. قَوْله: (حَدثنِي بِهن) مقول عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَي: بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة، وَأَنه تَأْكِيد وَتَقْرِير لما تقدم، إِذْ لَا ريب أَن اللَّفْظ صَرِيح فِي ذَلِك، وَهُوَ أرفع دَرَجَات التَّحَمُّل. قَوْله: (وَلَو استزدته) أَي: وَلَو طلبت مِنْهُ الزِّيَادَة فِي السُّؤَال لزادني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَواب، ثمَّ طلبه الزِّيَادَة يحْتَمل أَن يكون أرادها من هَذَا النَّوْع، وَهِي مَرَاتِب أفضل الْأَعْمَال، وَيحْتَمل أَن يكون أرادها من مُطلق الْمسَائِل الْمُحْتَاج إِلَيْهَا. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: من طَرِيق المَسْعُودِيّ عَن الْوَلِيد: (فَسكت عني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو استزدته لزادني) ، فَكَأَنَّهُ فهم مِنْهُ السَّآمَة، فَلذَلِك قَالَ مَا قَالَه، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (فَمَا تركت أَن أستزيده إلاَّ إرعاء عَلَيْهِ) ، أَي: شَفَقَة عَلَيْهِ لِئَلَّا يسأم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن أَعمال الْبر تفضل بَعْضهَا على بعض عِنْد الله تَعَالَى. فَإِن قلت: ورد أَن إطْعَام الطَّعَام خير أَعمال الْإِسْلَام، وَورد: (إِن أحب الْأَعْمَال إِلَى الله أَدْوَمه) ، وَغير ذَلِك، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل من سَأَلَ بِمَا يُوَافق غَرَضه، أَو بِمَا يَلِيق بِهِ، أَو بِحَسب الْوَقْت، فَإِن الْجِهَاد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام أفضل الْأَعْمَال، لِأَنَّهُ كَانَ كالوسيلة إِلَى الْقيام بهَا. والتمكن من أَدَائِهَا، أَو بِحَسب الْحَال، فَإِن النُّصُوص تعاضدت على فضل الصَّلَاة على الصَّدَقَة، وَرُبمَا تجدّد حَال يَقْتَضِي مواساة مُضْطَر فَتكون الصَّدَقَة حِينَئِذٍ أفضل، وَيُقَال: إِن أفعل، فِي: أفضل الْأَعْمَال، لَيْسَ على بَابه، بل المُرَاد بِهِ الْفضل الْمُطلق. وَيُقَال: التَّقْدِير أَن من أفضل الْأَعْمَال، فحذفت كلمة: من، وَهِي مُرَادة قلت: وَفِيه نظر. وَفِيه: مَا قَالَ ابْن بطال: إِن البدار إِلَى الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا أفضل من التَّرَاخِي فِيهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَرط فِيهَا أَن تكون أحب من الْأَعْمَال إِذا أُقِيمَت لوَقْتهَا الْمُسْتَحبّ. قلت: لفظ الحَدِيث لَا يدل على مَا ذكره على مَا لَا يخفى، وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظ مَا يَقْتَضِي أَولا وَلَا آخرا، فَكَانَ الْمَقْصُود بِهِ الِاحْتِرَاز عَمَّا إِذا وَقعت قَضَاء. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن إخْرَاجهَا عَن وَقتهَا محرم، وَلَفظ: أحب، يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الِاسْتِحْبَاب، فَيكون المُرَاد الِاحْتِرَاز عَن إيقاعها آخر الْوَقْت. قلت: الَّذِي يدل ظَاهر اللَّفْظ أَن الصَّلَاة مُشَاركَة لغَيْرهَا من الْأَعْمَال فِي الْمحبَّة، فَإِذا وَقعت الصَّلَاة فِي وَقتهَا كَانَت أحب إِلَى الله تَعَالَى من غَيرهَا، فَيكون الِاحْتِرَاز عَن وُقُوعهَا خَارج الْوَقْت. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْوَقْت الأول من الصَّلَاة رضوَان الله، وَالْوَقْت الآخر عَفْو الله) . وَالْعَفو لَا يكون إلاَّ عِنْد التَّقْصِير. . قلت: قَالَ ابْن حبَان، لما رَوَاهُ فِي (كتاب الضُّعَفَاء) : وَتفرد بِهِ يَعْقُوب بن الْوَلِيد، وَكَانَ يضع الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: هُوَ مَوْضُوع. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول: لَا أعرف شَيْئا يثبت فِي أَوْقَات الصَّلَاة أَولهَا كَذَا وَآخِرهَا (هَكَذَا، يَعْنِي: مغْفرَة ورضوانا. وَفِيه: تَعْظِيم الْوَالِدين وَبَيَان فَضله وَيجب الْإِحْسَان إِلَيْهِمَا وَلَو كَانَا كَافِرين. وَفِيه: السُّؤَال عَن مسَائِل شَتَّى فِي وَقت وَاحِد، وَجَوَاز تَكْرِير السُّؤَال. وَفِيه: الرِّفْق بالعالم والتوقف عَن الْإِكْثَار عَلَيْهِ خشيَة ملاله. وَفِيه:(5/14)
أَن الْإِشَارَة تنزل منزلَة التَّصْرِيح إِذا كَانَت مُعينَة للمشار إِلَيْهِ، مُمَيزَة عَن غَيره. أَلا ترى أَن الْأَخْرَس إِذا طلق امْرَأَته بِالْإِشَارَةِ المفهمة، يَقع طَلَاقه بِحَسب الْإِشَارَة، وَكَذَا سَائِر تَصَرُّفَاته.
6 - (بابٌ الصَلَوَاتُ الخَمْسُ كَفَّارَةٌ)
بَاب منون، تَقْدِيره: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة، وَهَكَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات. وَفِي بعض الرِّوَايَات التَّرْجَمَة سَقَطت، وَعَلِيهِ مَشى ابْن بطال وَمن تبعه. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بَاب الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة للخطايا إِذا صَلَّاهُنَّ لوقتهن فِي الْجَمَاعَة وَغَيرهَا) . وَقَوله: الصَّلَوَات مُبْتَدأ، و: الْخمس، صفته، و: كَفَّارَة، خَبره. وَقد مر تَفْسِير الْكَفَّارَة.
والخطايا جمع خَطِيئَة، وَهِي الْإِثْم. يُقَال: خطأ يخطأ خطأ وخطأة، على وزن: فعلة بِكَسْر الْفَاء، والخطيئة على وزن فعيلة: الْإِثْم. وَلَك أَن تشدد الْيَاء لِأَن كل يَاء سَاكِنة قبلهَا كسرة أَو: وَاو، سَاكِنة قبلهَا ضمة وهما زائدتان للمد لَا للإلحاق، وَلَا هما من نفس الْكَلِمَة، فَإنَّك تقلب الْهمزَة بعد الْوَاو واوا، وَبعد الْيَاء يَاء، وتدغم. وَتقول فِي مقروء: مقروٍّ وَفِي خَطِيئَة: خطية، وأصل الْخَطَايَا: خطائي، على وزن فعائل، فَلَمَّا اجْتمعت الهمزتان قلبت الثَّانِيَة: يَاء، لِأَن قبلهَا كسرة، ثمَّ استثقلت، وَالْجمع، ثقيل، وَهُوَ معتل مَعَ ذَلِك، فقلبت الْيَاء ألفا، ثمَّ قلبت الْهمزَة الأولى يَاء لخفائها بَين الْأَلفَيْنِ.
528 - حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي حازِمٍ وَالدَّرَاوَرْديُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ ابنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرا بِبابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئا قَالَ فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو الله بِهِ الخَطَايَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله أَعم من هَذِه التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الصَّلَوَات الْخمس وَغَيرهَا من أَنْوَاع الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي بَاب نوم الرِّجَال. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، نِسْبَة إِلَى دراورد، بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة: وَهِي قَرْيَة بخراسان. وَقَالَ أَكْثَرهم مَنْسُوب إِلَى دَار بجرد، مَدِينَة بِفَارِس وَهِي من شواذ النّسَب. الرَّابِع: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ الْأَعْرَج، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن ابراهيم التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، سَمَّاهُ البُخَارِيّ: عبد الله، وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: لَا يعرف لَهُ اسْم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: اثْنَان اسْم كل مِنْهُمَا: عبد الْعَزِيز، وَفِيه: ثَلَاثَة تابعيون وهم: يزِيد وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير، وَمُحَمّد، وَأَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث وَبكر بن مُضر عَن ابْن الْهَاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ، فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَحده بِهِ. .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَأَيْتُم) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل التَّقْرِير، وَالتَّاء للخطاب،، وَمَعْنَاهُ: أخبروني، ويوري: (أَرَأَيْتكُم) ، بِالْكَاف وَالْمِيم، لَا مَحل لَهما من الْإِعْرَاب. قَوْله: (لَو أَن نَهرا) قَالَ الطَّيِّبِيّ: لفظ: لَو، يَقْتَضِي أَن يدْخل على الْفِعْل وَأَن يُجَاب، لكنه وضع الِاسْتِفْهَام مَوْضِعه تَأْكِيدًا أَو تقريرا، وَالتَّقْدِير، لَو ثَبت نهر صفته كَذَا لما بَقِي كَذَا، وَالنّهر، بِفَتْح الْهَاء وسكونها: مَا بَين جنبيّ الْوَادي، سمي بذلك لسعته، وَكَذَلِكَ سمي النَّهَار لسعة ضوئه. قَوْله: (مَا تَقول) أَي: أَيهَا السَّامع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا تَقولُونَ) . قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى الِاغْتِسَال، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى فعل الظَّن، وَالشّرط فِيهِ أَن يكون فعلا مضارعا مُسْندًا إِلَى الْمُخَاطب مُتَّصِلا بالاستفهام، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث. ولغة سليم إِجْرَاء فعل(5/15)
القَوْل مجْرى الظَّن بِلَا شَرّ، فَيجوز على لغتهم أَن يُقَال: قلت زيدا مُنْطَلقًا، وَنَحْوه. قَوْله: (مَا تَقول؟) ، كلمة: مَا، الاستفهامية فِي مَوضِع نصب بِلَفْظ: يبْقى، وَقدم لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَالتَّقْدِير: أَي: شَيْء تظن ذَلِك الِاغْتِسَال مبقيا من درنه؟ و: تَقول، يَقْتَضِي مفعولين: أَحدهمَا هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَالْآخر وَهُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي قَوْله: يبْقى، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِبْقَاء. قَوْله: (من درنه) بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء وَهُوَ: الْوَسخ. قَوْله: (شَيْئا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: لَا يبْقى، بِضَم الْيَاء أَيْضا وَكسر الْقَاف، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يبْقى من درنه شَيْء) ، فشيء، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: لَا يبقي، بِفَتْح الْيَاء وَالْقَاف. قَوْله: (فَكَذَلِك) : الْفَاء، فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا أقررتم ذَلِك وَصَحَّ عنْدكُمْ فَهُوَ مثل الصَّلَوَات. وَفَائِدَة التَّمْثِيل التَّقْيِيد وَجعل الْمَعْقُول كالمحسوس. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَجه التَّمْثِيل أَن الْمَرْء كَمَا يتدنس بالأقذار المحسوسة فِي بدنه وثيابه ويطهره المَاء الْكثير، فَكَذَلِك الصَّلَوَات تطهر العَبْد من أقذار الذُّنُوب حَتَّى لَا تبقي لَهُ ذَنبا إِلَّا أسقطته وكفرته. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يتَنَاوَل الصَّغَائِر والكبائر لِأَن لفظ الْخَطَايَا يُطلق عَلَيْهَا.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر) . قَالَ ابْن بطال: يُؤْخَذ من الحَدِيث أَن المُرَاد الصَّغَائِر خَاصَّة لِأَنَّهُ شبه الْخَطَايَا بالدرن والدرن صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ من القروح والجراحات. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد بالدرن الْحبّ؟ قلت: لَا بل المُرَاد بِهِ: الْوَسخ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبه التَّنْظِيف والتطهير، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أَرَأَيْت لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ معتمل، وَبَين منزله ومعتمله خَمْسَة أَنهَار، فَإِذا انْطلق إِلَى معتمله عمل مَا شَاءَ الله فَأَصَابَهُ وسخ أَو عرق فَكلما مر بنهر اغْتسل مِنْهُ) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ من طَرِيق عَطاء بن يسَار عَنهُ. فَإِن قلت: الصَّغَائِر مكفرة بِنَصّ الْقُرْآن باجتناب الْكَبَائِر، فَمَا الَّذِي تكفره الصَّلَوَات الْخمس؟ قلت: لَا يتم اجْتِنَاب الْكَبَائِر إِلَّا بِفعل الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا لم يَفْعَلهَا لم يكن مجتنبا للكبائر لِأَن تَركهَا من الْكَبَائِر فَيتَوَقَّف التَّكْفِير على فعلهَا. قَوْله: (بهَا) : أَي: بالصلوات، ويروى بِهِ بتذكير الضَّمِير أَي: بأَدَاء الصَّلَوَات.
528 - حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي حازِمٍ وَالدَّرَاوَرْديُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ ابنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرا بِبابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قالُوا لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئا قَالَ فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو الله بِهِ الخَطَايَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله أَعم من هَذِه التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الصَّلَوَات الْخمس وَغَيرهَا من أَنْوَاع الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز ابْن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي بَاب نوم الرِّجَال. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، نِسْبَة إِلَى دراورد، بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ ألف ثمَّ وَاو مَفْتُوحَة ثمَّ رَاء سَاكِنة ثمَّ دَال مُهْملَة: وَهِي قَرْيَة بخراسان. وَقَالَ أَكْثَرهم مَنْسُوب إِلَى دَار بجرد، مَدِينَة بِفَارِس وَهِي من شواذ النّسَب. الرَّابِع: يزِيد، من الزِّيَادَة: ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ الْأَعْرَج، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن ابراهيم التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. السَّادِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، سَمَّاهُ البُخَارِيّ: عبد الله، وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: لَا يعرف لَهُ اسْم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: اثْنَان اسْم كل مِنْهُمَا: عبد الْعَزِيز، وَفِيه: ثَلَاثَة تابعيون وهم: يزِيد وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير، وَمُحَمّد، وَأَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة: عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث وَبكر بن مُضر عَن ابْن الْهَاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ، فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَحده بِهِ. .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَأَيْتُم) الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل التَّقْرِير، وَالتَّاء للخطاب،، وَمَعْنَاهُ: أخبروني، ويوري: (أَرَأَيْتكُم) ، بِالْكَاف وَالْمِيم، لَا مَحل لَهما من الْإِعْرَاب. قَوْله: (لَو أَن نَهرا) قَالَ الطَّيِّبِيّ: لفظ: لَو، يَقْتَضِي أَن يدْخل على الْفِعْل وَأَن يُجَاب، لكنه وضع الِاسْتِفْهَام مَوْضِعه تَأْكِيدًا أَو تقريرا، وَالتَّقْدِير، لَو ثَبت نهر صفته كَذَا لما بَقِي كَذَا، وَالنّهر، بِفَتْح الْهَاء وسكونها: مَا بَين جنبيّ الْوَادي، سمي بذلك لسعته، وَكَذَلِكَ سمي النَّهَار لسعة ضوئه. قَوْله: (مَا تَقول) أَي: أَيهَا السَّامع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا تَقولُونَ) . قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى الِاغْتِسَال، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى فعل الظَّن، وَالشّرط فِيهِ أَن يكون فعلا مضارعا مُسْندًا إِلَى الْمُخَاطب مُتَّصِلا بالاستفهام، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث. ولغة سليم إِجْرَاء فعل القَوْل مجْرى الظَّن بِلَا شَرّ، فَيجوز على لغتهم أَن يُقَال: قلت زيدا مُنْطَلقًا، وَنَحْوه. قَوْله: (مَا تَقول؟) ، كلمة: مَا، الاستفهامية فِي مَوضِع نصب بِلَفْظ: يبْقى، وَقدم لِأَن الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام، وَالتَّقْدِير: أَي: شَيْء تظن ذَلِك الِاغْتِسَال مبقيا من درنه؟ و: تَقول، يَقْتَضِي مفعولين: أَحدهمَا هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَالْآخر وَهُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي قَوْله: يبْقى، وَهُوَ بِضَم الْيَاء من الْإِبْقَاء. قَوْله: (من درنه) بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء وَهُوَ: الْوَسخ. قَوْله: (شَيْئا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: لَا يبْقى، بِضَم الْيَاء أَيْضا وَكسر الْقَاف، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يبْقى من درنه شَيْء) ، فشيء، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل قَوْله: لَا يبقي، بِفَتْح الْيَاء وَالْقَاف. قَوْله: (فَكَذَلِك) : الْفَاء، فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا أقررتم ذَلِك وَصَحَّ عنْدكُمْ فَهُوَ مثل الصَّلَوَات. وَفَائِدَة التَّمْثِيل التَّقْيِيد وَجعل الْمَعْقُول كالمحسوس. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَجه التَّمْثِيل أَن الْمَرْء كَمَا يتدنس بالأقذار المحسوسة فِي بدنه وثيابه ويطهره المَاء الْكثير، فَكَذَلِك الصَّلَوَات تطهر العَبْد من أقذار الذُّنُوب حَتَّى لَا تبقي لَهُ ذَنبا إِلَّا أسقطته وكفرته. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث يتَنَاوَل الصَّغَائِر والكبائر لِأَن لفظ الْخَطَايَا يُطلق عَلَيْهَا.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (الصَّلَوَات الْخمس كَفَّارَة لما بَينهمَا مَا اجْتنبت الْكَبَائِر) . قَالَ ابْن بطال: يُؤْخَذ من الحَدِيث أَن المُرَاد الصَّغَائِر خَاصَّة لِأَنَّهُ شبه الْخَطَايَا بالدرن والدرن صَغِير بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ من القروح والجراحات. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون المُرَاد بالدرن الْحبّ؟ قلت: لَا بل المُرَاد بِهِ: الْوَسخ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبه التَّنْظِيف والتطهير، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أَرَأَيْت لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ معتمل، وَبَين منزله ومعتمله خَمْسَة أَنهَار، فَإِذا انْطلق إِلَى معتمله عمل مَا شَاءَ الله فَأَصَابَهُ وسخ أَو عرق فَكلما مر بنهر اغْتسل مِنْهُ) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ من طَرِيق عَطاء بن يسَار عَنهُ. فَإِن قلت: الصَّغَائِر مكفرة بِنَصّ الْقُرْآن باجتناب الْكَبَائِر، فَمَا الَّذِي تكفره الصَّلَوَات الْخمس؟ قلت: لَا يتم اجْتِنَاب الْكَبَائِر إِلَّا بِفعل الصَّلَوَات الْخمس، فَإِذا لم يَفْعَلهَا لم يكن مجتنبا للكبائر لِأَن تَركهَا من الْكَبَائِر فَيتَوَقَّف التَّكْفِير على فعلهَا. قَوْله: (بهَا) : أَي: بالصلوات، ويروى بِهِ بتذكير الضَّمِير أَي: بأَدَاء الصَّلَوَات.
(بابُ تَضْيِيعِ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَضْييع الصَّلَوَات عَن وَقتهَا، وتضييعها: تَأْخِيرهَا إِلَى أَن يخرج وَقتهَا، وَقيل: تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمُسْتَحبّ، وَالْأول أظهر لِأَن التضييع إِنَّمَا يظْهر فِيهِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة إِنَّمَا تثبت فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني، وَلَيْسَت بثابتة فِي رِوَايَة البَاقِينَ.
529 - حدَّثنا مُوسَى ابنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا مَهْدِي عَنْ غيْلاَنَ عنْ أنَسٍ قَالَ مَا أعْرِفُ شَيْئا ممَّ كانَ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ الصَّلاَةُ قالَ ألَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيها.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَلَيْسَ ضيعتم مَا ضيعتم فِيهَا؟) يَعْنِي: من التضييع.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: مهْدي بن مَيْمُون أَبُو يحيى، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث: غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة ابْن جرير. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن إِسْنَاده كلهم بصريون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قيل: الصَّلَاة) ، أَي: قيل لَهُ: الصَّلَاة هِيَ شَيْء مِمَّا كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي بَاقِيَة، فَكيف تصدق الْقَضِيَّة السالبة عَامَّة؟ فَأجَاب بقوله: (أَلَيْسَ ضيعتم مَا ضيعتم فِيهَا؟) يَعْنِي من تضييعها وَهُوَ: خُرُوجهَا عَن وَقتهَا. وَقَالَ الْمُهلب: المُرَاد بتضييعها تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمُسْتَحبّ لَا أَنهم أخرجوها عَن وَقتهَا، وَتَبعهُ على هَذَا جمَاعَة. قلت: الْأَصَح مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين علم أَن الْحجَّاج والوليد بن عبد الْملك وَغَيرهمَا كَانُوا يؤخرون الصَّلَاة عَن وَقتهَا، والْآثَار فِي ذَلِك مَشْهُورَة. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: أخر الْوَلِيد الْجُمُعَة حَتَّى أَمْسَى فَجئْت فَصليت الظّهْر قبل أَن أَجْلِس، ثمَّ صليت الْعَصْر وَأَنا جَالس إِيمَاء وَهُوَ يخْطب، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك عَطاء خوفًا على نَفسه. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة من طَرِيق أبي بكر بن عتبَة، قَالَ: صليت إِلَى جنب أبي جُحَيْفَة، فَمشى الْحجَّاج(5/16)
للصَّلَاة فَقَامَ أَبُو جُحَيْفَة فصلى. وَمن طَرِيق ابْن عمر: أَنه كَانَ يُصَلِّي مَعَ الْحجَّاج، فَلَمَّا أخر الصَّلَاة ترك أَن يشهدها مَعَه. وَمن طَرِيق مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل قَالَ: كنت بِمَعْنى، وصحف تقْرَأ للوليد، فأخروا الصَّلَاة فَنَظَرت إِلَى سعيد بن جُبَير وَعَطَاء يوميان إِيمَاء وهما قاعدان. مِمَّا يُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة} (مَرْيَم: 59) . أخروها عَن مواقيتها وصلوها لغير وَقتهَا. قَوْله: (أَلَيْسَ؟) اسْمه ضمير الشان. قَوْله: (صَنَعْتُم مَا صَنَعْتُم فِيهَا؟) بصادين مهملتين، وَالنُّون فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بالمعجمتين وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْعَدوي: صَنَعْتُم، بالصَّاد الْمُهْملَة. وَرِوَايَة النَّسَفِيّ بِالْمُعْجَمَةِ وبالياء الْمُثَنَّاة من تَحت. قَالَ: وَالْأول أشبه، يُرِيد: مَا أَحْدَثُوا من تَأْخِيرهَا، إلاَّ أَنه جَاءَ فِي نفس الحَدِيث مَا يبين أَنه بالضاد الْمُعْجَمَة. وَهُوَ قَوْله: (ضيعت) فِي الحَدِيث الْآتِي. قلت: وَيُؤَيّد الأول مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي عمرَان الْجونِي عَن أنس، فَذكر نَحْو هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِي آخِره: (أَو لم تصنعوا فِي الصَّلَاة مَا قد علمْتُم؟) .
75 - وَقَالَ بَكْرٌ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ البُرْسَانيُّ قَالَ أخْبَرَنا عُثْمَانُ بنُ أبي رَوَّادٍ نَحْوَهُ.
بكر بن خلف، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَاللَّام المفتوحتين. قَالَ الغساني: بكر بن خلف البرْسَانِي أَبُو بشر، ذكره البُخَارِيّ مستشهدا بِهِ فِي كتاب الصَّلَاة بعد حَدِيث ذكره عَن أبي عُبَيْدَة الْحداد، وَهُوَ ختن عبد الله بن يزِيد الْمقري، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَمُحَمّد(5/17)
ابْن بكر البرْسَانِي، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة وبالنون: الْبَصْرِيّ مَنْسُوب إِلَى (برسان) بطن من أَزْد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ؛ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ حَدثنَا أَبُو بشر بن بكر بن خلف حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر؛ وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو نعيم عَن أبي بكر بن خَلاد حَدثنَا أَحْمد بن عَليّ الخراز حَدثنَا بكر بن خلف أَنبأَنَا مُحَمَّد ختن المقرىء أخبرنَا مُحَمَّد بن بكر فَذكره. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو سوق عَمْرو بن زُرَارَة عَن عبد الْوَاحِد عَن عُثْمَان بن أبي رواد. إِلَى آخِره، وَالَّذِي ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ مُوَافق للَّذي قبله، وَفِيه زِيَادَة وَهِي: لَا أعرف شَيْئا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْبَاقِي سَوَاء.
8 - (بابٌ المصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُصَلِّي يُنَاجِي ربه، من ناجاه يناجيه مُنَاجَاة فَهُوَ مناج، وَهُوَ الْمُخَاطب لغيره والمحدث لَهُ، وثلاثيه من نجا ينجو نجاة: إِذا أسْرع، وَنَجَا من الْأَمر، إِذا خلص، وأنجاه غَيره.
ومناسبة هَذَا الْبَاب بالأبواب الَّتِي قبله الَّتِي تضمنها كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان أَن أَوْقَات أَدَاء الصَّلَاة أَوْقَات مُنَاجَاة الله تَعَالَى، ومناجاة الله تَعَالَى لَا تحصل للْعَبد إلاَّ فِيهَا خَاصَّة، وَالْأَحَادِيث السَّابِقَة دلّت على مدح من صلى فِي وَقتهَا وذم من أَخّرهَا عَن وَقتهَا. وَأورد البُخَارِيّ أَحَادِيث هَذَا الْبَاب ترغيبا للْمُصَلِّي فِي تَحْصِيل هَذِه الْفَضِيلَة على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب لِئَلَّا يحرم عَن هَذِه الْمنزلَة السّنيَّة الَّتِي يخْشَى فَوَاتهَا على المقصر فِي ذَلِك.
531 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أحَدَكُمْ إذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم أخبرنَا هِشَام أخبرنَا قَتَادَة عَن أنس قَالَ (يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله) الحَدِيث، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو الْبَصْرِيّ، وَهِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي، بِفَتْح الدَّال. وَقَتَادَة ابْن دعامة، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد بأطول مِنْهُ، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد عَن أنس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى نخامة) الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب لَا يبصق عَن يَمِينه فِي الصَّلَاة عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأخرجه أَيْضا عَن أنس من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَنهُ من طرق مُخْتَلفَة، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي.
وقالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلْ قُدَّامَهُ أوْ بَيْنَ يَدَيْهِ ولَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة أَي: قَالَ سعيد عَن قَتَادَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَطَرِيقه مَوْصُولَة عِنْد الإِمَام أَحْمد وَابْن حبَان. قَوْله: (أَو بَين يَدَيْهِ) ، شكّ من الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: قدامه.
وقالَ شُعْبَةُ لاَ يَبْزُقْ بيْنَ يَدَيْهِ ولاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أَي: قَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن قَتَادَة بِالْإِسْنَادِ أَيْضا، وَقد أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم عَن آدم عَنهُ.
وَقَالَ حَمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَبْزُقْ فِي القِبْلَةِ ولاَ عَنْ يَمِينِهِ ولَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم، وَلَكِن لَيْسَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَة. قَوْله: (وَلَا عَن يَمِينه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه تعليقات لَكِنَّهَا لَيست مَوْقُوفَة على شُعْبَة وَلَا على قَتَادَة، وَيحْتَمل الدُّخُول تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق بِأَن يكون مَعْنَاهُ مثلا: حَدثنَا مُسلم حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،. قلت: كلهَا مَوْصُولَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الِاحْتِمَال.
531 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أحَدَكُمْ إذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم أخبرنَا هِشَام أخبرنَا قَتَادَة عَن أنس قَالَ (يخرج من النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله) الحَدِيث، وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو الْبَصْرِيّ، وَهِشَام ابْن أبي عبد الله الدستوَائي، بِفَتْح الدَّال. وَقَتَادَة ابْن دعامة، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد بأطول مِنْهُ، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد عَن أنس (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى نخامة) الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب لَا يبصق عَن يَمِينه فِي الصَّلَاة عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَأخرجه أَيْضا عَن أنس من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة عَنهُ من طرق مُخْتَلفَة، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي.
وقالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلْ قُدَّامَهُ أوْ بَيْنَ يَدَيْهِ ولَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
سعيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة أَي: قَالَ سعيد عَن قَتَادَة بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَطَرِيقه مَوْصُولَة عِنْد الإِمَام أَحْمد وَابْن حبَان. قَوْله: (أَو بَين يَدَيْهِ) ، شكّ من الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: قدامه.
وقالَ شُعْبَةُ لاَ يَبْزُقْ بيْنَ يَدَيْهِ ولاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أَي: قَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن قَتَادَة بِالْإِسْنَادِ أَيْضا، وَقد أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم عَن آدم عَنهُ.
وَقَالَ حَمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَبْزُقْ فِي القِبْلَةِ ولاَ عَنْ يَمِينِهِ ولَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ
أوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا تقدم، وَلَكِن لَيْسَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَة. قَوْله: (وَلَا عَن يَمِينه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه تعليقات لَكِنَّهَا لَيست مَوْقُوفَة على شُعْبَة وَلَا على قَتَادَة، وَيحْتَمل الدُّخُول تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق بِأَن يكون مَعْنَاهُ مثلا: حَدثنَا مُسلم حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،. قلت: كلهَا مَوْصُولَة على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الِاحْتِمَال.(5/18)
532 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ولاَ يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ كالْكَلْبِ وإذَا بَزَقَ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله تقدمُوا.
وَفِي إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل.
قَوْله: (اعتدلوا فِي السُّجُود) ، الْمَقْصُود من الِاعْتِدَال فِيهِ أَن يضع كَفه على الأَرْض وَيرْفَع مرفقيه عَنْهَا، وَعَن جَنْبَيْهِ وَيرْفَع الْبَطن عَن الْفَخْذ، وَالْحكمَة فِيهِ أَنه أشبه بالتواضع وأبلغ فِي تَمْكِين الْجَبْهَة من الأَرْض وَأبْعد من هيئات الكسالى، فَإِن المنبسط يشبه الْكَلْب ويشعر حَاله بالتهاون بالصلوات وَقلة الاعتناء بهَا، والإقبال عَلَيْهَا، والاعتدال من: عدلته فَعدل، أَي: قومته فاستقام. قَالَه الْجَوْهَرِي. قَوْله: (وَلَا يبسط ذِرَاعَيْهِ) ، بِسُكُون الطَّاء، وفاعله مُضْمر أَي الْمُصَلِّي، وَفِي بعض النّسخ: (لَا يبسط أحدكُم) بِإِظْهَار الْفَاعِل، والذراع: الساعد. قَوْله: (فَإِنَّمَا يُنَاجِي ربه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربه) ، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هَهُنَا مَا ملخصه: إِن فِيمَا مضى جعل الْمُنَاجَاة عِلّة لنهي البزاق فِي القدام فَقَط لَا فِي الْيَمين حَيْثُ قَالَ: (فَلَا يبصق أَمَامه فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربه) ، وَقَالَ: (وَلَا عَن يَمِينه فَإِن عَن يَمِينه ملكا) ، وَأجَاب بِأَنَّهُ لَا مَحْذُور بِأَن يُعلل الشَّيْء الْوَاحِد بعلتين منفردتين أَو مجتمعتين، لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة معرفَة، وَجَاز تعدد المعرفات فعلل نهي البزاق عَن الْيَمين بالمناجاة، وَبِأَن ثمَّ ملكا، وَقَالَ أَيْضا عَادَة المناجي أَن يكون فِي القدام، وَأجَاب بِأَن المناجي الشريف قد يكون قداما وَقد يكون يَمِينا.
9 - (بابُ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر عِنْد شدَّة الْحر، وسنفسر الْإِبْرَاد فِي الحَدِيث، وَإِنَّمَا قدم الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ على بَاب وَقت الظّهْر للاهتمام بِهِ.
12 - (حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر عَن سُلَيْمَان قَالَ صَالح بن كيسَان حَدثنَا الْأَعْرَج عبد الرَّحْمَن وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة وَنَافِع مولى عبد الله بن عمر عَن عبد الله بن عمر أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ إِذا اشْتَدَّ الْحر فأبردوا بِالصَّلَاةِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن المُرَاد بقوله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " هِيَ صَلَاة الظّهْر لِأَن الْإِبْرَاد إِنَّمَا يكون فِي وَقت يشْتَد الْحر فِيهِ وَذَلِكَ وَقت الظّهْر وَلِهَذَا صرح بِالظّهْرِ فِي حَدِيث أبي سعيد حَيْثُ قَالَ " أبردوا بِالظّهْرِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم " على مَا يَأْتِي فِي آخر هَذَا الْبَاب فَالْبُخَارِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي هَذِه التَّرْجَمَة. (ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة. الأول أَيُّوب بن سُلَيْمَان بن بِلَال الْمدنِي مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي أَبُو بكر واسْمه عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحي توفّي سنة ثِنْتَيْنِ وَمِائَة. الثَّالِث سُلَيْمَان بن بِلَال وَالِد أَيُّوب الْمَذْكُور. الرَّابِع صَالح بن كيسَان. الْخَامِس الْأَعْرَج وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. السَّادِس نَافِع مولى ابْن عمر. السَّابِع أَبُو هُرَيْرَة. الثَّامِن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة التَّثْنِيَة من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مدنيون وَفِيه صحابيان وَثَلَاثَة من التَّابِعين وهم صَالح بن كيسَان فَإِنَّهُ رأى عبد الله بن عمر قَالَه الْوَاقِدِيّ والأعرج وَنَافِع. وَفِيه أَن أَبَا بكر من أَقْرَان أَيُّوب قَوْله " وَغَيره " أَي وَغير الْأَعْرَج الظَّاهِر أَنه أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وروى أَبُو نعيم هَذَا الحَدِيث فِي الْمُسْتَخْرج من طَرِيق(5/19)
آخر عَن أَيُّوب بن سُلَيْمَان وَلم يقل فِيهِ وَغَيره قَوْله " وَنَافِع " بِالرَّفْع عطف على قَوْله الْأَعْرَج (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ " أَي أَن أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عمر حَدثا من حدث صَالح بن كيسَان وَيحْتَمل أَن يعود الضَّمِير فِي أَنَّهُمَا إِلَى الْأَعْرَج وَنَافِع أَي أَن الْأَعْرَج ونافعا حَدَّثَاهُ أَي صَالح بن كيسَان عَن شيخيهما بذلك وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَنَّهُمَا حَدثا " بِغَيْر ضمير فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير الْمَذْكُور قَوْله " إِذا اشْتَدَّ " من الاشتداد من بَاب الافتعال وَأَصله اشتدد أدغمت الدَّال الأولى فِي الثَّانِيَة قَوْله " فأبردوا " بِفَتْح الْهمزَة من الْإِبْرَاد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْفَائِق حَقِيقَة الْإِبْرَاد الدُّخُول فِي الْبرد وَالْبَاء للتعدية وَالْمعْنَى إِدْخَال الصَّلَاة فِي الْبرد وَيُقَال مَعْنَاهُ افعلوها فِي وَقت الْبرد وَهُوَ الزَّمَان الَّذِي يتَبَيَّن فِيهِ شدَّة انكسار الْحر لِأَن شدته تذْهب الْخُشُوع وَقَالَ السفاقسي أبردوا أَي ادخُلُوا فِي وَقت الْإِبْرَاد مثل أظلم دخل فِي الظلام وَأمسى دخل فِي الْمسَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ الْإِبْرَاد انكسار شدَّة حر الظهيرة وَذَلِكَ أَن فتور حرهَا بِالْإِضَافَة إِلَى وهج الهاجرة برد وَلَيْسَ ذَلِك بِأَن يُؤَخر إِلَى آخر برد النَّهَار وَهُوَ برد العشى إِذْ فِيهِ الْخُرُوج عَن قَول الْأَئِمَّة قَوْله " بِالصَّلَاةِ " وَفِي حَدِيث أبي ذَر الَّذِي يَأْتِي بعد هَذَا الحَدِيث " عَن الصَّلَاة " وَالْفرق بَينهمَا أَن الْبَاء هُوَ الأَصْل وَأما عَن فَفِيهِ تضمين معنى التَّأْخِير أَي أخروا عَنْهَا مبردين وَقيل هما بِمَعْنى وَاحِد لِأَن عَن تَأتي بِمَعْنى الْبَاء كَمَا يُقَال رميت عَن الْقوس أَي بِالْقَوْسِ وَقيل الْبَاء زَائِدَة وَالْمعْنَى أبردوا بِالصَّلَاةِ وَقَوله " بِالصَّلَاةِ " بِالْبَاء هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " عَن الصَّلَاة " كَمَا فِي حَدِيث أبي ذَر وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله " بِالصَّلَاةِ " الْبَاء للتعدية وَقيل زَائِدَة وَمعنى أبردوا أخروا على سَبِيل التَّضْمِين (قلت) قَوْله للتعدية غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يجمع فِي تَعديَة اللَّازِم بَين الْهمزَة وَالْبَاء وَقَوله على سَبِيل التَّضْمِين أَيْضا غير صَحِيح لِأَن معنى التَّضْمِين فِي رِوَايَة عَن كَمَا ذكرنَا لَا فِي رِوَايَة الْبَاء فَافْهَم وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من الصَّلَاة هِيَ صَلَاة الظّهْر قَوْله " فَإِن شدَّة الْحر " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل أَرَادَ أَن عِلّة الْأَمر بالإبراد هِيَ شدَّة الْحر وَاخْتلف فِي حِكْمَة هَذَا التَّأْخِير فَقيل دفع الْمَشَقَّة لكَون شدَّة الْحر مِمَّا يذهب الْخُشُوع وَقيل لِأَنَّهُ وَقت تسجر فِيهِ جَهَنَّم كَمَا روى مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن عبسة حَيْثُ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقصر عَن الصَّلَاة عِنْد اسْتِوَاء الشَّمْس فَإِنَّهَا سَاعَة تسجر فِيهَا جَهَنَّم " انْتهى فَهَذِهِ الْحَالة ينتشر فِيهَا الْعَذَاب (فَإِن قلت) الصَّلَاة سَبَب الرَّحْمَة وإقامتها مَظَنَّة دفع الْعَذَاب فَكيف أَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَرْكِهَا فِي هَذِه الْحَالة (قلت) أُجِيب عَنهُ بجوابين أَحدهمَا قَالَه الْيَعْمرِي بِأَن التَّعْلِيل إِذا جَاءَ من جِهَة الشَّارِع وَجب قبُوله وَإِن لم يفهم مَعْنَاهُ وَالْآخر من جِهَة أهل الْحِكْمَة وَهُوَ أَن هَذَا الْوَقْت وَقت ظُهُور الْغَضَب فَلَا ينجع فِيهِ الطّلب إِلَّا مِمَّن أذن لَهُ كَمَا فِي حَدِيث الشَّفَاعَة حَيْثُ اعتذر الْأَنْبِيَاء كلهم عَلَيْهِم السَّلَام للأمم بذلك سوى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ أذن لَهُ فِي ذَلِك. قَوْله " من فيح جَهَنَّم " بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهُوَ سطوع الْحر وفورانه وَيُقَال بِالْوَاو فوح وفاحت الْقُدْرَة تفوح إِذا غلت وَقَالَ ابْن سَيّده فاح الْحر يفيح فيحا سَطَعَ وهاج وَيُقَال هَذَا خَارج مخرج التَّشْبِيه والتمثيل أَي كَأَنَّهُ فار جَهَنَّم فِي حرهَا وَيُقَال هُوَ حَقِيقَة وَهُوَ أَن نثار وهج الْحر فِي الأَرْض من فيح جَهَنَّم حَقِيقَة ويقوى هَذَا حَدِيث " اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا " كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما لفظ جَهَنَّم فقد قَالَ قطرب زعم يُونُس أَنه اسْم أعجمي وَفِي الزَّاهِر لِابْنِ الْأَنْبَارِي قَالَ أَكثر النَّحْوِيين هِيَ أَعْجَمِيَّة لَا تجْرِي للتعريف والعجمة وَقَالَ أَنه عَرَبِيّ وَلم تجر للتعريف والتأنيث وَفِي المغيث هِيَ نعريب كهنام بالعبرانية وَذكره فِي الصِّحَاح فِي الرباعي ثمَّ قَالَ هُوَ مُلْحق بالخماسي لتشديد الْحَرْف الثَّالِث وَفِي الْمُحكم سميت جَهَنَّم لبعد قعرها وَلم يَقُولُوا فِيهَا جهنام وَيُقَال بِئْر جهنام بعيدَة القعر وَبِه سميت جَهَنَّم وَقَالَ أَبُو عَمْرو جهنام اسْم وَهُوَ الغليظ الْبعيد القعر (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول أَن فِيهِ الْأَمر بالإبراد فِي صَلَاة الظّهْر وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة هَذَا الْأَمر فَحكى القَاضِي عِيَاض وَغَيره أَن بَعضهم ذهب إِلَى أَن الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) ظَاهر الْأَمر للْوُجُوب فَلم قلت للاستحباب (قلت) للْإِجْمَاع على عَدمه وَقَالَ بَعضهم وغفل الْكرْمَانِي فَنقل الْإِجْمَاع على عدم الْوُجُوب (قلت) لَا يُقَال أَنه غفل بل الَّذين نقل عَنْهُم فِيهِ الْإِجْمَاع كَأَنَّهُمْ لم يعتبروا كَلَام من ادّعى الْوُجُوب فَصَارَ كَالْعدمِ وَأَجْمعُوا على أَن الْأَمر للاستحباب (فَإِن قلت) مَا الْقَرِينَة الصارفة(5/20)
عَن الْوُجُوب وَظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِيهِ (قلت) لما كَانَت الْعلَّة فِيهِ دفع الْمَشَقَّة عَن الْمُصَلِّي لشدَّة الْحر وَكَانَ ذَلِك للشفقة عَلَيْهِ فَصَارَ من بَاب النَّفْع لَهُ فَلَو كَانَ للْوُجُوب يصير عَلَيْهِ وَيعود الْأَمر على مَوْضِعه بِالنَّقْضِ وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْإِبْرَاد بِالصَّلَاةِ فَمنهمْ من لم يره وَتَأَول الحَدِيث على إيقاعها فِي برد الْوَقْت وَهُوَ أَوله وَالْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم على القَوْل بِهِ ثمَّ اخْتلفُوا فَقيل أَنه عَزِيمَة وَقيل وَاجِب تعويلا على صِيغَة الْأَمر وَقيل رخصَة وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَصَححهُ الشَّيْخ أَبُو عَليّ من الشَّافِعِيَّة وَأغْرب النَّوَوِيّ فوصفه فِي الرَّوْضَة بالشذوذ لكنه لم يحكه قولا وبنوا على ذَلِك أَن من صلى فِي بَيته أَو مَشى فِي كن إِلَى الْمَسْجِد هَل يسن لَهُ الْإِبْرَاد إِن قُلْنَا رخصَة لم يسن لَهُ إِذْ لَا مشقة عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيل وَإِن قُلْنَا سنة أبرد وَهُوَ الْأَقْرَب لوُرُود الْأَثر بِهِ مَعَ مَا اقْترن بِهِ من الْعلَّة من أَن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم وَقَالَ صَاحب الْهِدَايَة من أَصْحَابنَا يسْتَحبّ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي أَيَّام الصَّيف وَيسْتَحب تَقْدِيمه فِي أَيَّام الشتَاء (فَإِن قلت) يُعَارض حَدِيث الْإِبْرَاد حَدِيث إِمَامَة جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن إِمَامَته فِي الْعَصْر فِي الْيَوْم الأول فِيمَا إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله فَدلَّ ذَلِك على خُرُوج وَقت الظّهْر وَحَدِيث الْإِبْرَاد دلّ على عدم خُرُوج وَقت الظّهْر لِأَن امتداد الْحر فِي دِيَارهمْ فِي ذَلِك الْوَقْت (قلت) الْآثَار إِذا تَعَارَضَت لَا يَنْقَضِي الْوَقْت الثَّابِت بِيَقِين بِالشَّكِّ وَمَا لم يكن ثَابتا بِيَقِين هُوَ وَقت الْعَصْر لَا يثبت بِالشَّكِّ (فَإِن قلت) هَل فِي الْإِبْرَاد تَحْدِيد (قلت) روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ قدر صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظّهْر فِي الصَّيف ثَلَاثَة أَقْدَام إِلَى خَمْسَة أَقْدَام وَفِي الشتَاء خَمْسَة أَقْدَام إِلَى سَبْعَة أَقْدَام فَهَذَا يدل على التَّحْدِيد. اعْلَم أَن هَذَا الْأَمر مُخْتَلف فِي الأقاليم والبلدان وَلَا يَسْتَوِي فِي جَمِيع المدن والأمصار وَذَلِكَ لِأَن الْعلَّة فِي طول الظل وقصره هُوَ زِيَادَة ارْتِفَاع الشَّمْس فِي السَّمَاء وانحطاطها فَكلما كَانَت أَعلَى وَإِلَى محاذاة الرؤس فِي مجْراهَا أقرب كَانَ الظل أقصر وَكلما كَانَت أَخفض وَمن محاذاة الرؤس أبعد كَانَ الظل أطول وَلذَلِك ظلال الشتَاء ترَاهَا أبدا أطول من ظلال الصَّيف فِي كل مَكَان وَكَانَت صَلَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّة وَالْمَدينَة وهما من الإقليم الثَّانِي ثَلَاثَة أَقْدَام ويذكرون أَن الظل فيهمَا فِي أول الصَّيف فِي شهر أدَار ثَلَاثَة أَقْدَام وَشَيْء وَيُشبه أَن تكون صلَاته إِذا اشْتَدَّ الْحر مُتَأَخِّرَة عَن الْوَقْت الْمَعْهُود قبله فَيكون الظل عِنْد ذَلِك خَمْسَة أَقْدَام وَأما الظل فِي الشتَاء فَإِنَّهُم يذكرُونَ أَنه فِي تشرين الأول خَمْسَة أَقْدَام وَشَيْء وَفِي الكانون سَبْعَة أَقْدَام أَو سَبْعَة وَشَيْء فَقَوْل ابْن مَسْعُود منزل على هَذَا التَّقْدِير فِي ذَلِك الإقليم دون سَائِر الأقاليم والبلدان الَّتِي هِيَ خَارِجَة عَن الإقليم الثَّانِي وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف فِي مِقْدَار وقته فَقيل أَن يُؤَخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت مِقْدَار مَا يظْهر للحيطان ظلّ وَظَاهر النَّص أَن الْمُعْتَبر أَن ينْصَرف مِنْهَا قبل آخر الْوَقْت وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي ذَر " حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول " وَقَالَ مَالك أَنه يُؤَخر الظّهْر إِلَى أَن يصير الْفَيْء ذِرَاعا وَسَوَاء فِي ذَلِك الصَّيف والشتاء وَقَالَ أَشهب فِي مدونته لَا يُؤَخر الظّهْر إِلَى آخر وَقتهَا وَقَالَ ابْن بزيزة ذكر أهل النَّقْل عَن مَالك أَنه كره أَن يصلى الظّهْر فِي أول الْوَقْت وَكَانَ يَقُول هِيَ صَلَاة الْخَوَارِج وَأهل الْأَهْوَاء وَأَجَازَ ابْن عبد الحكم التَّأْخِير إِلَى آخر الْوَقْت وَحكى أَبُو الْفرج عَن مَالك أول الْوَقْت أفضل فِي كل صَلَاة إِلَّا الظّهْر فِي شدَّة الْحر وَعَن أبي حنيفَة والكوفيين وَأحمد واسحق يؤخرها حَتَّى يبرد الْحر الْوَجْه الثَّانِي أَن بعض النَّاس استدلوا بقوله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " على أَن الْإِبْرَاد يشرع فِي يَوْم الْجُمُعَة أَيْضا لِأَن لفظ الصَّلَاة يُطلق على الظّهْر وَالْجُمُعَة وَالتَّعْلِيل مُسْتَمر فِيهَا وَفِي التَّوْضِيح اخْتلف فِي الْإِبْرَاد بِالْجمعَةِ على وَجْهَيْن لِأَصْحَابِنَا أصَحهمَا عِنْد جمهورهم لَا يشرع وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك أَيْضا فَإِن التبكير سنة فِيهَا انْتهى (قلت) مَذْهَبنَا أَيْضا التبكير يَوْم الْجُمُعَة لما ثَبت فِي الصَّحِيح أَنهم كَانُوا يرجعُونَ من صَلَاة الْجُمُعَة وَلَيْسَ للحيطان ظلّ يَسْتَظِلُّونَ بِهِ من شدَّة التبكير لَهَا أول الْوَقْت فَدلَّ على عدم الْإِبْرَاد وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ فِي الحَدِيث الظّهْر كَمَا ذكرنَا فعلى هَذَا لَا يبرد بالعصر إِذا اشْتَدَّ الْحر فِيهِ وَقَالَ ابْن بزيزة إِذا اشْتَدَّ الْحر فِي الْعَصْر هَل يبرد بهَا أم لَا الْمَشْهُور نفي الْإِبْرَاد بهَا وَتفرد أَشهب بإبراده وَقَالَ أَيْضا وَهل يبرد الفذام لَا وَالظَّاهِر أَن الْإِبْرَاد مَخْصُوص بِالْجَمَاعَة وَهل يبرد فِي زمن الشتَاء أم لَا فِيهِ قَولَانِ وَالظَّاهِر نَفْيه وَهل يبرد بِالْجمعَةِ أم لَا الْمَشْهُور نَفْيه الْوَجْه الثَّالِث فِيهِ دَلِيل على وجود جَهَنَّم الْآن(5/21)
535 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ المُهَاجِرِ أبي الحَسَنِ سَمِعَ زَيْدَ بنَ وَهَبٍ عنْ أبي ذَرٍّ قَالَ أذَّنَ مُؤَذِّنُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ فَقَالَ أبْرِدْ أَبْرِدْ أوْ قَالَ انْتَظِرْ انْتَظِرْ وَقَالَ شِدَّة الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذَ اشْتَدَّ الحَرُّ فأَبْرِدُوا عنِ الصَّلاَةِ حَتى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار الملقب ببندار، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر، وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَقد تقدم. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: المُهَاجر، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من بَاب المفاعلة، ويكنى بِأبي الْحسن. الْخَامِس: زيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْجُهَنِيّ. قَالَ: رحلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض وَأَنا فِي الطَّرِيق، مَاتَ زمن الْحجَّاج. السَّادِس: أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة على الْمَشْهُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَفِيه: ذكر أحد الروَاة بلقبه وَالْآخر بكنيته وَهُوَ المُهَاجر. فَإِن كنيته أَبُو الْحسن ذكرت للتمييز، فَإِن فِي الروَاة الْمُهَاجِرين مِسْمَار الْمدنِي من أَفْرَاد مُسلم، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للمح الصّفة، كَمَا فِي: الْعَبَّاس، فَإِنَّهُ فِي الأَصْل صفة وَلكنه صَار علما.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن آدم وَعَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي صفة النَّار عَن أبي الْوَلِيد، كلهم عَن شُعْبَة عَن مهَاجر أبي الْحسن وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد عَن شُعْبَة بِمَعْنَاهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أذن مُؤذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هُوَ: بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بعض طرفَة: أذن بِلَال، أخرجه أَبُو عوَانَة. وَفِي أُخْرَى لَهُ: (فَأَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ: مَه يَا بِلَال) . قَوْله: (الظّهْر) بِالنّصب، أَي: وَقت الظّهْر، وَلما حذف الْمُضَاف الْمَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة اقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه. قَوْله: (فَقَالَ: أبرد أبرد) يَعْنِي مرَّتَيْنِ، وَفِي لفظ أبي دَاوُد: (فَأَرَادَ الْمُؤَذّن أَن يُؤذن الظّهْر، فَقَالَ: أبرد ثمَّ أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ: أبرد، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . قَوْله: (عَن الصَّلَاة) ، قد ذكرنَا وَجه: عَن، هُنَا فِي الحَدِيث السَّابِق، قَوْله: (حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول) ، التلول جمع: تل. قَالَ ابْن سَيّده: من التُّرَاب مَعْرُوف، والتل من الرمل: كومة مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا من التل الَّذِي هُوَ القاذي جثة، والتل الرابية. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: التل من التُّرَاب وَهِي الرابية مِنْهُ تكون مكدوسا وَلَيْسَ بِحَلقَة، والفيء فِيمَا ذكره ثَعْلَب فِي (الفصيح) يكون بالْعَشي، كَمَا أَن الظل يكون بِالْغَدَاةِ، وَأنْشد:
(فَلَا الظل من برد الضُّحَى تستطيعه ... وَلَا الْفَيْء من برد الْعشي تذوق)
قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَالَ رؤبة بن العجاج: كل مَا كَانَت عَلَيْهِ الشَّمْس فَزَالَتْ فَهُوَ فَيْء وظل، وَمَا لم يكن عَلَيْهِ شمس فَهُوَ ظلّ. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: الظل مَا نسخته الشَّمْس، والفيء مَا نسخ الشَّمْس. وَقَالَ الْقَزاز: الْفَيْء رُجُوع الظل من جَانب الْمشرق إِلَى جَانب الْمغرب. وَفِي (الْمُخَصّص) و: الْجمع أفياء وفيوء، وَقد فَاء الْفَيْء فيأَ: تحول، وَهُوَ مَا كَانَ شمسا، فنسخه الظل. وَقيل: الْفَيْء لَا يكون إلاَّ بعد الزَّوَال، وَأما الظل فيطلق على مَا قبل الزَّوَال، وَأما بعده، وروى فِيهِ: فِي، بتَشْديد الْيَاء. وَاعْلَم أَن كلمة: حَتَّى، للغاية، وَلَا بُد لَهَا من المغيا وَهُوَ مُتَعَلق: بقال، أَي: كَانَ يَقُول إِلَى زمَان الرُّؤْيَة أبرد مرّة بعد أُخْرَى، أَو هُوَ مُتَعَلق بالإبراد، أَي: أبرد إِلَى أَن ترى الْفَيْء وانتظر إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بمقدر مَحْذُوف تَقْدِيره: أخرنا حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة على أَن الْأَمر بالإبراد كَانَ بعد التأذين، وَلَكِن فِي لفظ آخر للْبُخَارِيّ: (فَأَرَادَ أَن يُؤذن لِلظهْرِ) . وَظَاهر هَذَا الْأَمر بالإبراد وَقع قبل الْأَذَان. وَقَالَ بَعضهم: يجمع بَينهمَا على أَنه شرع فِي الآذان، فَقيل لَهُ: أبرد، فَترك. فَمَعْنَى: أذن، شرع فِي الْأَذَان، وَمعنى: أَرَادَ أَن يُؤذن، أَي: يتم بِهِ الْأَذَان. قلت: هَذَا غير سديد لِأَنَّهُ لَا يُؤمر بِتَرْكِهِ بعد الشُّرُوع، وَلَكِن مَعْنَاهُ: أَرَادَ أَن يشرع فِي الْأَذَان، فَقيل لَهُ: أبرد، فَترك الشُّرُوع. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ لفظ أَبُو عوَانَة: فَأَرَادَ أَن(5/22)
يُؤذن، فَقَالَ: مَه يَا بِلَال. كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَمَعْنَاهُ: اسْكُتْ لَا تشرع فِي الْأَذَان، وَالْأَقْرَب فِي هَذَا أَن يحمل اللفظان على حالتين فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر الْجمع بَينهمَا.
536 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ (انْظُر الحَدِيث 533) . واشتكت النَّار إِلَى رَبهَا فَقَالَت يَا رب أكل بَعْضِي بَعْضًا فَأذن لَهَا بنفسين نفس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف فَهُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَأَشد مَا تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِير) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه القَوْل وَالْحِفْظ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدثنَا الزُّهْرِيّ وَرِوَايَة البُخَارِيّ أبلغ لِأَن حفظ الحَدِيث عَن شيخ فَوق مُجَرّد سَمَاعه مِنْهُ وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " اشتكت النَّار " قيل أَنه مَوْقُوف وَقيل أَنه مُعَلّق وَهُوَ غير صَحِيح بل هُوَ دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ " واشتكت النَّار " أَي قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشتكت النَّار وشكوى النَّار إِلَى رَبهَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون بطرِيق الْحَقِيقَة وَإِلَيْهِ ذهب عِيَاض وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ لَا إِحَالَة فِي حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة لِأَن الْمخبر الصَّادِق بِأَمْر جَائِز لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيله فَحَمله على حَقِيقَته أولى وَقَالَ النَّوَوِيّ نَحْو ذَلِك ثمَّ قَالَ حمله على حَقِيقَته هُوَ الصَّوَاب وَقَالَ نَحْو ذَلِك الشَّيْخ التوربشتي (قلت) قدرَة الله تَعَالَى أعظم من ذَلِك لِأَنَّهُ يخلق فِيهَا آلَة الْكَلَام كَمَا خلق لهدهد سُلَيْمَان مَا خلق من الْعلم والإدراك كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي كِتَابه الْكَرِيم وَحكى عَن النَّار حَيْثُ تَقول {هَل من مزِيد} وَورد أَن الْجنَّة إِذا سَأَلَهَا عبد أمنت على دُعَائِهِ وَكَذَا النَّار وَقَالَ ابْن الْمُنِير حمله على الْحَقِيقَة هُوَ الْمُخْتَار لصلاحية الْقُدْرَة لذَلِك وَلِأَن اسْتِعَارَة الْكَلَام للْحَال وَإِن عهِدت وَسمعت لَكِن الشكوى وتفسيرها وَالتَّعْلِيل لَهُ وَالْإِذْن وَالْقَبُول والتنفس وقصره على اثْنَيْنِ فَقَط بعيد من الْمجَاز خَارج عَمَّا ألف من اسْتِعْمَاله وَقَالَ الدَّاودِيّ وَهُوَ يدل على أَن النَّار تفهم وتعقل وَقد جَاءَ أَنه لَيْسَ شَيْء أسمع من الْجنَّة وَالنَّار وَقد ورد أَن النَّار تخاطب سيدنَا مُحَمَّدًا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتخاطب الْمُؤمن بقولِهَا " جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون بِلِسَان الْحَال كَمَا قَالَ عنترة
(وشكى إِلَيّ بعبرة وتحمحم ... )
وَقَالَ الآخر
(يشكو إِلَيّ جملي طول السرى ... مهلا رويدا فكلانا مبتلى)
وَرجع الْبَيْضَاوِيّ حمله على الْمجَاز فَقَالَ شكوها مجَاز عَن غليانها وأكلها بَعْضهَا بَعْضًا مجَاز عَن ازدحام أَجْزَائِهَا وتنفسها مجَاز عَن خُرُوج مَا يبرز مِنْهَا قَوْله " بنفسين " تَثْنِيَة نفس بِفَتْح الْفَاء وَهُوَ مَا يخرج من الْجوف وَيدخل فِيهِ من الْهَوَاء قَوْله " نفس " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْجَرِّ على الْبَدَل أَو الْبَيَان وَيجوز فيهمَا الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير أَحدهمَا نفس فِي الشتَاء وَالْآخر نفس فِي الصَّيف وَيجوز فيهمَا النصب على تَقْدِير أَعنِي نفسا فِي الشتَاء ونفسا فِي الصَّيف قَوْله " أَشد مَا تَجِدُونَ " بجر أَشد على أَنه بدل من نفس أَو بَيَان ويروى بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره فَذَلِك أَشد وَقَالَ الطَّيِّبِيّ جعل أَشد مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أولى وَالتَّقْدِير أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر من ذَلِك النَّفس انْتهى وَيُؤَيّد الْوَجْه الأول رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ فَهُوَ أَشد وَيُؤَيّد الْوَجْه الثَّانِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من وَجه آخر بِلَفْظ " فأشد مَا تَجِدُونَ من الْحر من حر جَهَنَّم " وَفِي اللَّفْظ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ لف وَنشر على غير التَّرْتِيب وَلَا مَانع من حُصُول الزَّمْهَرِير من نفس النَّار لِأَن المُرَاد من النَّار محلهَا وَهُوَ جَهَنَّم وفيهَا طبقَة زمهريرية وَيُقَال لَا مُنَافَاة فِي الْجمع بَين الْحر وَالْبرد فِي النَّار لِأَن النَّار عبارَة عَن جَهَنَّم وَقد ورد أَن فِي بعض زواياها نَارا وَفِي الْأُخْرَى الزَّمْهَرِير وَلَيْسَ محلا وَاحِدًا يَسْتَحِيل أَن يجتمعا فِيهِ (قلت) الَّذِي خلق الْملك من ثلج ونار قَادر على جمع الضدين فِي مَحل وَاحِد وَأَيْضًا فَالنَّار من أُمُور الْآخِرَة وَأُمُور الْآخِرَة لَا تقاس على أُمُور الدُّنْيَا وَفِي التَّوْضِيح(5/23)
قَالَ ابْن عَبَّاس خلق الله النَّار على أَرْبَعَة فَنَار تَأْكُل وتشرب ونار لَا تَأْكُل وَلَا تشرب ونار تشرب وَلَا تَأْكُل وَعَكسه فَالْأولى الَّتِي خلقت مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالثَّانيَِة الَّتِي فِي الْحِجَارَة وَقيل الَّتِي رؤيت لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَة الْمُنَاجَاة وَالثَّالِثَة الَّتِي فِي الْبَحْر وَقيل الَّتِي خلقت مِنْهَا الشَّمْس وَالرَّابِعَة نَار الدُّنْيَا ونار جَهَنَّم تَأْكُل لحومهم وعظامهم وَلَا تشرب دموعهم وَلَا دِمَاءَهُمْ بل يسيل ذَلِك إِلَى طين الخبال وَأخْبر الشَّارِع أَن عصارة أهل النَّار شراب من مَاتَ مصرا على شرب الْخمر وَالَّذِي فِي الصَّحِيح أَن نَار الدُّنْيَا خلقت من نَار جَهَنَّم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس ضربت بِالْمَاءِ سبعين مرّة وَلَوْلَا ذَلِك مَا انْتفع بهَا الْخَلَائق وَإِنَّمَا خلقهَا الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من تَمام الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة وفيهَا تذكرة لنار الْآخِرَة وتخويف من عَذَابهَا (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ اسْتِحْبَاب الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ عِنْد اشتداد الْحر فِي الصَّيف وَفِيه أَن جَهَنَّم مخلوقة الْآن خلافًا لمن يَقُول من الْمُعْتَزلَة أَنَّهَا تخلق يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه أَن الشكوى تتَصَوَّر من جماد وَمن حَيَوَان أَيْضا كَمَا جَاءَ فِي معجزات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شكوى الْجذع وشكوى الْجمل على مَا عرف فِي مَوْضِعه. وَفِيه أَن المُرَاد من قَوْله " فأبردوا بِالصَّلَاةِ " هُوَ صَلَاة الظّهْر كَمَا ذَكرْنَاهُ
538 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَش قَالَ حدَّثنا أبُو صَالِحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. (الحَدِيث 538 طرفه فِي: 3259) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تقدمُوا غير مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان وَأَبُو صَالح ذكْوَان.
وَمن لطائف إِسْنَاده أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَبَين حَدِيث خباب (شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حر الرمضاء فَلم يشكنا) ، رَوَاهُ مُسلم؛ فَقَالَ بَعضهم: الْإِبْرَاد رخصَة والتقديم أفضل، وَقَالَ بَعضهم: حَدِيث خباب مَنْسُوخ بالإبراد، وَإِلَى هَذَا مَال أَبُو بكر الْأَثْرَم فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) وَأَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: وجدنَا ذَلِك فِي حديثين أَحدهمَا حَدِيث الْمُغيرَة: (كُنَّا نصلي بالهاجرة فَقَالَ لنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبردوا) . فَتبين بهَا أَن الْإِبْرَاد كَانَ بعد التهجير، وَحَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا كَانَ الْبرد بَكرُوا، وَإِذا كَانَ الْحر أبردوا. وَحمل بَعضهم حَدِيث خباب على أَنهم طلبُوا تَأْخِيرا زَائِدا على قدر الْإِبْرَاد. وَقَالَ أَبُو عمر فِي قَول خباب: فَلم يشكنا، يَعْنِي: لم يحوجنا إِلَى الشكوى، وَقيل: لم يزل شكوانا، وَيُقَال: حَدِيث خباب كَانَ بِمَكَّة، وَحَدِيث الْإِبْرَاد بِالْمَدِينَةِ، فَإِن فِيهِ من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ الْخلال فِي (علله) عَن أَحْمد: آخر الْأَمريْنِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِبْرَاد.
تابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وأبُو عَوَانَةَ عنِ الأَعْمَشِ
أَي: تَابع حَفْص بن غياث وَالِد عمر الْمَذْكُور سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي صفة الصَّلَاة عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان ابْن سعيد. قَوْله: (وَيحيى) ، أَي: تَابع حفصا أَيْضا يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَقد وَصله أَحْمد فِي (مُسْند) عَنهُ بِلَفْظ: الصَّلَاة، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن الْمقدمِي عَن يحيى بِلَفْظ: بِالظّهْرِ، وروى الْخلال عَن الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد عَن يحيى وَلَفظه: (فوح جَهَنَّم) . وَقَالَ أَحْمد: مَا أعرف أَن أحدا قَالَ: بِالْوَاو، وَغير الْأَعْمَش. قَوْله: (وَأَبُو عوَانَة) أَي: تَابع حفصا أَيْضا أَبُو عوَانَة الوضاح ابْن عبد الله، وَأَرَادَ بمتابعة سُفْيَان الثَّوْريّ وَيحيى الْقطَّان وَأبي عوَانَة لحفص بن غياث فِي روايتهم عَن الْأَعْمَش فِي لفظ: (أبردوا بِالظّهْرِ) .
10 - (بابُ الإبْرَادِ بِالظُهْرِ فِي السفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر فِي حَالَة السّفر، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ لَا يخْتَص بالحضر.
539 - حدَّثنا آدَمُ بنُ إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا مُهاجرٌ أبُو الحَسَنِ مَولًى لِ بَنِي تَيْمِ الله قَالَ سَمِعتُ زَيْدَ بنَ وَهَبٍ عنْ أبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(5/24)
فِي سَفَرٍ فأرَادَ المُؤذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْرِدْ ثُمَّ أرَادَ أنْ يُؤَذِّنَ فقالَ لَهُ أبْرِدْ حتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فأَبْرِدُوا بالصَّلاةِ.
هَذَا الحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَن هُنَاكَ أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَهَهُنَا عَن آدم بن أبي إِيَاس، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَفِي هَذَا من الزِّيَادَة مَا لَيست هُنَاكَ فاعتبرها، وَهَذَا مُقَيّد بِالسَّفرِ، وَذَلِكَ مُطلق. وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد لِأَن المُرَاد من الْإِبْرَاد التسهيل وَدفع الْمَشَقَّة، فَلَا تفَاوت بَين السّفر والحضر. قَوْله: (فَأَرَادَ الْمُؤَذّن) وَهُوَ: بِلَال، وَفِي رِوَايَة أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شَبابَة، ومسدد عَن أُميَّة بن خَالِد، وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق حَفْص بن عَمْرو وهب بن جرير، والطَّحَاوِي والجوزقي من طَرِيق وهب أَيْضا، كلهم عَن شُعْبَة التَّصْرِيح بِأَنَّهُ بِلَال. قَوْله: (ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة، (مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم فِي بَاب الْأَذَان للمسافرين فِي هَذَا الحَدِيث: (فَأَرَادَ الْمُؤَذّن أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُؤذن فَقَالَ لَهُ: أبرد، حَتَّى سَاوَى الظل التلول) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِبْرَاد إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاة لَا فِي الْأَذَان؟ قلت: كَانَت عَادَتهم أَنهم لَا يتخلفون عِنْد سَماع الْأَذَان عَن الْحُضُور إِلَى الْجَمَاعَة، فالإبراد بِالْأَذَانِ إِنَّمَا هُوَ لغَرَض الْإِبْرَاد بِالصَّلَاةِ، أَو المُرَاد بِالتَّأْذِينِ الْإِقَامَة. قلت: يشْهد للجواب الثَّانِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: أَنبأَنَا شُعْبَة عَن مهَاجر أبي الْحسن عَن زيد ابْن وهب عَن أبي ذَر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سفر، وَمَعَهُ بِلَال، فَأَرَادَ أَن يُقيم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبرد، ثمَّ أَرَادَ أَن يُقيم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبرد فِي الظّهْر، قَالَ: حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول، ثمَّ أَقَامَ فصلى. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم فأبردوا عَن الصَّلَاة) . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: فِي (صَحِيح أبي عوَانَة) من طَرِيق حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة: (فَأَرَادَ بِلَال أَن يُؤذن بِالظّهْرِ) ، وَفِيه بعد. قَوْله: (فَيْء التلول ثمَّ أمره فَأذن وَأقَام) . قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن إِقَامَته مَا كَانَت تتخلف عَن الْأَذَان، فرواية التِّرْمِذِيّ: (فَأَرَادَ أَن يُقيم) ، يَعْنِي: بعد الْأَذَان، وَرِوَايَة أبي عوَانَة: (فَأَرَادَ بِلَال أَن يُؤذن) ، يَعْنِي: أَن يُؤذن ثمَّ يُقيم. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) وَقد اخْتَار قوم من أهل الْعلم تَأْخِير صَلَاة الظّهْر فِي شدَّة الْحر، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا الْإِبْرَاد بِصَلَاة الظّهْر إِذا كَانَ مَسْجِدا ينتاب أَهله(5/25)
من الْبعد، فَأَما الْمُصَلِّي وَحده، وَالَّذِي يُصَلِّي فِي مَسْجِد قومه، فَالَّذِي أحب لَهُ أَن لَا يُؤَخر الصَّلَاة فِي شدَّة الْحر. قَالَ أَبُو عِيسَى ومعن، من ذهب إِلَى تَأْخِير الظّهْر فِي شدَّة الْحر فَهُوَ أولى وأشبه بالاتباع، وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي أَن الرُّخْصَة لمن ينتاب من الْبعد وللمشقة على النَّاس فَإِن فِي حَدِيث أبي ذَر مَا يدل على خلاف مَا قَالَه الشَّافِعِي. قَالَ أَبُو ذَر: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأذن بِلَال بِصَلَاة الظّهْر، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا بِلَال أبرد ثمَّ أبرد) فَلَو كَانَ الْأَمر على مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لم يكن للإبراد فِي ذَلِك الْوَقْت معنى لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السّفر، فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن ينتابوا من الْبعد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول: لَا نسلم إجتماعهم لِأَن الْعَادة فِي القوافل سِيمَا فِي العساكر الْكَثِيرَة تفرقهم فِي أَطْرَاف الْمنزل لمصَالح مَعَ التَّخْفِيف على الاصحاب، وَطلب المرعى وَغَيره، خُصُوصا إِذا كَانَ فِيهِ سُلْطَان جليل الْقدر فَإِنَّهُم يتباعدون عَنهُ احتراما وتعظيما لَهُ. قلت: هَذَا لَيْسَ برد موجه لكَلَام التِّرْمِذِيّ فَإِن كَلَامه على الْغَالِب، وَالْغَالِب فِي الْمُسَافِرين اجْتِمَاعهم فِي مَوضِع وَاحِد لِأَن السّفر مَظَنَّة الْخَوْف، سِيمَا إِذا كَانَ عَسْكَر خَرجُوا لأجل الْحَرْب مَعَ الْأَعْدَاء. وَقَالَ بَعضهم، عقيب كَلَام الْكرْمَانِي: وَأَيْضًا فَلم تجر عَادَتهم باتخاذ خباء كَبِير يجمعهُمْ، بل كَانُوا يتفرقون فِي ظلال الشّجر، لَيْسَ هُنَاكَ كن يَمْشُونَ فِيهِ، فَلَيْسَ فِي سِيَاق الحَدِيث مَا يُخَالف مَا قَالَه الشَّافِعِي، وغايته أَنه استنبط من النَّص الْعَام معنى يَخُصُّهُ. انْتهى. قلت: هَذَا أَكثر بعدا من كَلَام الْكرْمَانِي لِأَن فِيهِ إِسْقَاط الْعَمَل بِعُمُوم النُّصُوص الْوَارِدَة فِي الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ بأَشْيَاء ملفقة من الْخَارِج. وَقَوله: فَلَيْسَ فِي سِيَاق الحَدِيث ... إِلَى آخِره، غير صَحِيح، لِأَن الْخلاف لظَاهِر الحَدِيث صَرِيح لَا يخفى، لِأَن ظَاهره عَام، وَالتَّقْيِيد بِالْمَسْجِدِ الَّذِي ينتاب أَهله من الْبعد خلاف ظَاهر الحَدِيث، والاستنباط من النَّص الْعَام معنى يخصصه لَا يجوز عِنْد الْأَكْثَرين، وَلَئِن سلمنَا فَلَا بُد من دَلِيل للتخصيص، وَلَا دَلِيل لذَلِك. هَهُنَا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضِيَ الله عَنْهُمَا تَتَفَيَّأُ تَتَمَيَّلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {يتفيأ ظلاله} (النَّحْل: 48) . أَن مَعْنَاهُ: يتميل، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الْفَيْء سمي بِهِ لِأَنَّهُ ظلّ مَال إِلَى جِهَة غير الْجِهَة الأولى. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تفيأت الظلال، أَي: تقلبت، ويتفيؤ، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف أَي، وفاعله مَحْذُوف تَقْدِيره: يتفيأ الظل، ويروى تتفيأ: بِالتَّاءِ، الْمُثَنَّاة من فَوق أَي: الظلال.
ومناسبة ذكر هَذَا عَن ابْن عَبَّاس لأجل مَا فِي حَدِيث الْبَاب: (حَتَّى رَأينَا فَيْء التلول) ، وَهَذَا تَعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة، وَقد وَصله ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره.
11 - (بابٌ وَقْتُ الظهْرِ عِنْدَ الزَّوَال)
أَي: هَذَا بَاب، وَيجوز فِي: بَاب، التَّنْوِين على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، كَمَا قدرناه. وَيجوز أَن يكون بِالْإِضَافَة وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن وَقت الظّهْر، أَي: ابتداؤه عِنْد زَوَال الشَّمْس عَن كبد السَّمَاء وميلها إِلَى جِهَة الْمغرب.
وَقَالَ جابرٌ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث جَابر ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي بَاب وَقت الْمغرب، رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِيه: (فسألنا جَابر بن عبد الله فَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الظّهْر بالهاجرة) والهاجرة: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر، وَلَا يُعَارض هَذَا حَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ ثَبت بِالْفِعْلِ، وَحَدِيث الْإِبْرَاد بِالْفِعْلِ، وَالْقَوْل، فيرجح على ذَلِك. وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ بِحَدِيث الْإِبْرَاد لِأَنَّهُ مُتَأَخّر عَنهُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الْإِبْرَاد تَأْخِير الظّهْر أدنى تَأْخِير بِحَيْثُ يَقع الظل، وَلَا يخرج بذلك عَن حد التهجير، فَإِن الهاجرة تطلق على الْوَقْت إِلَى أَن يقرب الْعَصْر. قلت: بِأَدْنَى التَّأْخِير لَا يحصل الْإِبْرَاد، وَلم يقل أحد: إِن الهاجرة تمتد إِلَى قرب الْعَصْر.
540 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مَالِكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى المنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أنَّ فِيهَا أُمُورا عِظَاما ثُمَّ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ فَلاَ تَسْأَلُونِي عنْ شَيْءٍ إلاَّ أخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فأَكْثَرَ النَّاسُ فِي البُكَاءِ وأكْثَرَ أنْ يَقُولَ سَلُونِي فَقَامَ عَبْدُ الله بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ مَنْ أبي قَالَ أبُوكَ حَذافةُ ثُمَّ أكْثَرَ أنْ يَقُولَ سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فقالَ رَضِينَا بِالله رَبّا وبِالإسْلاَمِ دِينا وبِمُحَمَّدٍ نَبِيَّا فَسَكَتَ ثُمَّ قالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ والنَّارُ آنِفا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ فَلَمْ أرَ كَالْخَيْرِ والشَّرِّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خرج حِين زاغت الشَّمْس فصلى الظّهْر) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مضى فِي كتاب الْعلم فِي بَاب من برك على رُكْبَتَيْهِ عِنْد الإِمَام أَو الْمُحدث، وَمتْن الحَدِيث أَيْضا مُخْتَصرا، وَالزِّيَادَة هُنَا من قَوْله: (خرج حِين زاغت الشَّمْس) إِلَى قَوْله: (فَقَامَ عبد الله بن حذافة) وَكَذَا قَوْله: (ثمَّ قَالَ عرضت) إِلَى آخِره. قَوْله: (حِين زاغت) أَي: حِين مَالَتْ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ زَالَت، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن زَوَال الشَّمْس أول وَقت الظّهْر، إِذا لم ينْقل عَنهُ أَنه صلى قبله، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ الْإِجْمَاع. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على أَن وَقت الظّهْر زَوَال الشَّمْس، وَذكر ابْن بطال عَن الْكَرْخِي عَن أبي حنيفَة: أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت تقع نفلا، قَالَ: وَالْفُقَهَاء بأسرهم على خلاف قَوْله. قلت: ذكر أَصْحَابنَا أَن هَذَا قَول ضَعِيف نقل عَن(5/26)
بعض أَصْحَابنَا، وَلَيْسَ مَنْقُولًا عَن أبي حنيفَة أَن الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت تقع نفلا، وَالصَّحِيح عندنَا أَن الصَّلَاة تجب بِأول الْوَقْت وجوبا موسعا. وَذكر القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي الْكتاب (الفاخر) ، فِيمَا ذكره ابْن بطال وَغَيره عَن بعض النَّاس: يجوز أَن يفتح الظّهْر قبل الزَّوَال، وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة فِي (الْمَبْسُوط) : لَا خلاف أَن أول وَقت الظّهْر يدْخل بِزَوَال الشَّمْس إلاَّ شَيْء نقل عَن بعض النَّاس أَنه يدْخل إِذا صَار الْفَيْء بِقدر الشرَاك، وَصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين زاغت الشَّمْس دَلِيل على أَن ذَلِك من وَقتهَا. قَوْله: (فليسأل) أَي: فليسألني عَنهُ. قَوْله: (فَلَا تَسْأَلُونِي) ، بِلَفْظ النَّفْي، وَحذف نون الْوِقَايَة مِنْهُ جَائِز. قَوْله: (إلاَّ أَخْبَرتكُم) أَي: إلاَّ أخْبركُم، فَاسْتعْمل الْمَاضِي مَوضِع الْمُسْتَقْبل إِشَارَة إِلَى تحَققه، وَأَنه كالواقع. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا خطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد الصَّلَاة، وَقَالَ هُوَ: سلوني، لِأَنَّهُ بلغه أَن قوما من الْمُنَافِقين يسْأَلُون مِنْهُ ويعجزونه عَن بعض مَا يسألونه، فتغيظ وَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إلاَّ أَخْبَرتكُم بِهِ. قَوْله: (فَأكْثر النَّاس فِي الْبكاء) إِنَّمَا كَانَ بكاؤهم خوفًا من نزُول عَذَاب لغضبه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا كَانَ ينزل على الْأُمَم عِنْد ردهم على أَنْبِيَائهمْ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، والبكاء يمد وَيقصر، إِذا مددت أردْت الصَّوْت الَّذِي يكون مَعَ الْبكاء، وَإِذا قصرت أردْت الدُّمُوع وخروجها. قَوْله: (وَأكْثر أَن يَقُول) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: وَأكْثر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، القَوْل بقوله: سلوني، وَأَصله: اسألوني، فنقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى السِّين، فحذفت واستغني عَن همزَة الْوَصْل، فَقيل: سلوني، على وزن: فلوني. قَوْله: (فَقَامَ عبد الله بن حذافة) ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِن عبد الله بن حذافة كَانَ يطعن فِي نسبه، فَأَرَادَ أَن يبين لَهُ ذَلِك، فَقَالَت أمه: أما خشيت أَن أكون قارفت بعض مَا كَانَ يصنع فِي الْجَاهِلِيَّة، أَكنت فاضحي عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: وَالله لَو ألحقني بِعَبْد للحقت بِهِ. قَوْله: (آنِفا) ، أَي: فِي أول وَقت يقرب مني، وَمَعْنَاهُ هُنَا: الْآن، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة لِأَنَّهُ يتَضَمَّن معنى الظّرْف. قَوْله: (فِي عرض هَذَا الْحَائِط) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة، يُقَال: عرض الشَّيْء، بِالضَّمِّ: ناحيته من أَي وَجه جِئْته. قَوْله: (فَلم أر كالخير) أَي: مَا أَبْصرت قطّ مثل هَذَا الْخَيْر الَّذِي هُوَ الْجنَّة، وَهَذَا الشَّرّ الَّذِي هُوَ النَّار. أَو: مَا أَبْصرت شَيْئا مثل الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة فِي سَبَب دُخُول الْجنَّة وَالنَّار.
541 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شعْبَةُ عنْ أبي المِنْهَالِ عَنْ أبي بَرْزَةَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جلِيسَهُ وَيَقْرَأ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى المائَةِ وَكَانَ يُصَلِّي الظهْرَ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَالعَصْرَ وأَحَدُنا يَذْهَبُ إلَى أَقْصَى المَدِينَةِ رَجَعَ والشَّمْسُ حَيَّةٌ ونَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ ولاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ العِشَاءِ إلَى ثُلِثِ اللَّيْلِ ثُمَّ إلَى شَطْرِ الليْلِ. وَقَالَ مُعَاذُ قالَ شُعْبَةُ ثُمَّ لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ أوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُصلي الظّهْر إِذا زَالَت الشَّمْس) .
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: حَفْص بن غياث، تكَرر ذكره، وَكَذَلِكَ شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَأَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون واسْمه سيار بن سَلامَة الريَاحي، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ، وَأَبُو بَرزَة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء ثمَّ بالزاي: الْأَسْلَمِيّ، واسْمه: نَضْلَة، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة بن عبيد مُصَغرًا، أسلم قَدِيما وَشهد فتح مَكَّة، وَلم يزل يَغْزُو مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قبض فتحول وَنزل الْبَصْرَة، ثمَّ غزا خُرَاسَان وَمَات بمرو أَو بِالْبَصْرَةِ أَو بمفازة سجستان سنة أَربع وَسِتِّينَ، روى لَهُ البُخَارِيّ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَدثنَا أَبُو الْمنْهَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي، وَيجوز أَن يُقَال: كلهم بصريون، لِأَن شُعْبَة وَإِن كَانَ من وَاسِط فقد سكن الْبَصْرَة وَنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة، وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله، وَعَن مُسَدّد عَن يحيى، كِلَاهُمَا عَن عَوْف نَحوه. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن حبيب، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة، وَعَن أبي كريب عَن سُوَيْد بن عَمْرو الْكَلْبِيّ.(5/27)
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر بِتَمَامِهِ، وَفِي مَوضِع آخر بِبَعْضِه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَعَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن بنْدَار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (واحدنا) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (جليسه) ، الجليس على وزن: فعيل، بِمَعْنى: الْمجَالِس، وَأَرَادَ بِهِ الَّذِي إِلَى جنبه، وَفِي رِوَايَة الجوزقي من طَرِيق وهب عَن شُعْبَة: (فَينْظر الرجل إِلَى جليسه إِلَى جنبه) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَيَنْصَرِف الرجل فَيعرف وَجه جليسه) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وبعضنا يعرف وَجه بعض) . قَوْله: (مَا بَين السِّتين إِلَى الْمِائَة) يَعْنِي: من) آيَات الْقُرْآن الْحَكِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت لفظ: بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، فَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: وَالْمِائَة، بِدُونِ حرف الِانْتِهَاء؟ قلت: تَقْدِيره مَا بَين السِّتين وفوقها إِلَى الْمِائَة، فَحذف لفظ: فَوْقهَا، لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ. قَوْله: (وَالْعصر) بِالنّصب أَي، وَيُصلي الْعَصْر، و: الْوَاو، فِي: وأحدنا، للْحَال. قَوْله: (إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة) أَي: إِلَى آخرهَا. قَوْله: (رَجَعَ) ، كَذَا وَقع بِلَفْظ الْمَاضِي بِدُونِ: الْوَاو، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (وَيرجع) ، بواو الْعَطف وَصِيغَة الْمُضَارع، وَمحله الرّفْع على أَنه خبر للمبتدأ الَّذِي هُوَ قَوْله: (وأحدنا) ، فعلى هَذَا يكون لفظ: يذهب، حَالا بِمَعْنى: ذَاهِبًا، وَيجوز أَن يكون: يذهب، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر لقَوْله: (أَحَدنَا) ، وَقَوله: رَجَعَ، يكون فِي مَحل النصب على الْحَال و: قد، فِيهِ مقدرَة لِأَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة، إِذا وَقعت حَالا فَلَا بُد مِنْهَا من كلمة: قد إِمَّا ظَاهِرَة وَإِمَّا مقدرَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) . أَي: قد حصرت، وَلَكِن تكون حَالا منتظرة مقدرَة، وَالتَّقْدِير: وأحدنا يذهب إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة حَال كَونه مُقَدرا الرُّجُوع إِلَيْهَا وَالْحَال أَن الشَّمْس حَيَّة. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن تكون: الْوَاو، فِي قَوْله: وأحدنا، بِمَعْنى ثمَّ. وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: ثمَّ يذهب أَحَدنَا، أَي مِمَّن صلى مَعَه، وَأما قَوْله: رَاجع، فَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى: يرجع، وَيكون بَيَانا لقَوْله: يذهب. قلت: هَذَا فِيهِ ارْتِكَاب الْمَحْذُور من وُجُوه. الأول: كَون: الْوَاو، بِمَعْنى: ثمَّ، وَلم يقل بِهِ أحد. وَالثَّانِي: إِثْبَات التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير من غير احْتِيَاج إِلَيْهِ. وَالثَّالِث: قَوْله: يرجع، بَيَان لقَوْله: يذهب، فَلَا يَصح ذَلِك لِأَن معنى: يرجع، لَيْسَ فِيهِ غموض حَتَّى يُبينهُ بقوله: يذهب، ومحذور آخر وَهُوَ أَن يكون الْمَعْنى: واحدنا يرجع إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة، وَهُوَ مخل بِالْمَقْصُودِ. وَزعم الْكرْمَانِي أَن فِيهِ وَجها آخر، وَفِيه تعسف جدا، وَهُوَ أَن: رَجَعَ، بِمَعْنى: يرجع، عطف على: يذهب، و: الْوَاو، مقدرَة وَفِيه مَحْذُور آخر أقوى من الأول، وَهُوَ أَن المُرَاد بِالرُّجُوعِ هُوَ: الرُّجُوع إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة لَا الرُّجُوع إِلَى الْمَسْجِد، فعلى هَذَا التَّقْدِير يكون الرُّجُوع إِلَى الْمَسْجِد، وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هُوَ الذّهاب إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة وَالرُّجُوع إِلَيْهَا رِوَايَة عَوْف الْأَعرَابِي عَن سيار بن سَلامَة الْآتِيَة عَن قريب، ثمَّ يرجع أَحَدنَا إِلَى رحْلَة فِي أقْصَى الْمَدِينَة وَالشَّمْس حَيَّة. وَاقْتصر هَهُنَا على ذكر الرُّجُوع لحُصُول الِاكْتِفَاء بِهِ لِأَن المُرَاد بِالرُّجُوعِ الذّهاب إِلَى الْمنزل، وَإِنَّمَا سمي رُجُوعا لِأَن ابْتِدَاء الْمَجِيء كَانَ من الْمنزل إِلَى الْمَسْجِد، فَكَانَ الذّهاب مِنْهُ إِلَى الْمنزل رُجُوعا. قَوْله: (وَالشَّمْس حَيَّة) وحياة الشَّمْس عبارَة عَن بَقَاء حرهَا لم يُغير، وَبَقَاء لَوْنهَا لم يتَغَيَّر، وَإِنَّمَا يدخلهَا التَّغَيُّر بدنو المغيب، كَأَنَّهُ جعل مغيبها موتا لَهَا. قَوْله: (ونسيت) أَي: قَالَ أَبُو الْمنْهَال: (نسيت مَا قَالَه أَبُو بَرزَة فِي (الْمغرب) . قَوْله: (وَلَا يُبَالِي) عطف على قَوْله: (يُصَلِّي) أَي: وَلَا يُبَالِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من المبالاة وَهُوَ الاكتراث بالشَّيْء. قَوْله: (إِلَى شطر اللَّيْل) أَي: نصفه، وَلَا يُقَال: إِن الَّذِي يفهم مِنْهُ أَن وَقت الْعشَاء لَا يتَجَاوَز النّصْف، لِأَن الْأَحَادِيث الاخر تدل على بَقَاء وَقتهَا إِلَى الصُّبْح، وَإِنَّمَا المُرَاد بِالنِّصْفِ هَهُنَا هُوَ الْوَقْت الْمُخْتَار، وَقد اخْتلف فِيهِ، وَالأَصَح الثُّلُث. قَوْله: (قبلهَا) ، أَي: قبل الْعشَاء. قَوْله: (قَالَ معَاذ) هُوَ: معَاذ بن معَاذ بن نصر بن حسان الْعَنْبَري التَّمِيمِي، قَاضِي الْبَصْرَة، سمع من شُعْبَة وَغَيره، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا تَعْلِيق قطعا، لِأَن البُخَارِيّ لم يُدْرِكهُ. قلت: هُوَ مُسْند فِي (صَحِيح مُسلم) ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة ... فَذكره. قَوْله: (ثمَّ لَقيته) ، أَي: أَبَا الْمنْهَال مرّة أُخْرَى بعد ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ: أَو ثلث اللَّيْل) . تردد بَين الشّطْر وَالثلث.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْحجَّة للحنفية لِأَن قَوْله: (وأحدنا يعرف جليسه) ، يدل على الْأَسْفَار، وَلَفظ النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي فِيهِ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْصَرف من الصُّبْح فَينْظر الرجل إِلَى الجليس الَّذِي يعرفهُ فيعرفه) . وَلَكِن قَوْله: (وَيقْرَأ فِيهَا مَا بَين السِّتين إِلَى الْمِائَة) يدل على أَنه كَانَ يشرع فِي الْغَلَس ويمدها بِالْقِرَاءَةِ إِلَى وَقت الْإِسْفَار، وَإِلَيْهِ ذهب(5/28)
الطَّحَاوِيّ. وَفِيه: أَن وَقت الظّهْر من زَوَال الشَّمْس عَن كبد السَّمَاء. وَفِيه: أَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ للعصر أَن يُصَلِّي مَا دَامَت الشَّمْس حَيَّة، وَهَذَا يدل على أَن الْمُسْتَحبّ تَعْجِيلهَا، كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس بَيْضَاء مُرْتَفعَة حَيَّة، وَيذْهب الذَّاهِب إِلَى العوالي وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) . والعوالي أَمَاكِن بِأَعْلَى أَرَاضِي الْمَدِينَة. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَأَدْنَاهَا من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال، وأبعدها من جِهَة نجد ثَمَانِيَة، وَلَكِن فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: (أدناها من الْمَدِينَة على ميلين) ، كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأَرَادَ بِهَذَا الحَدِيث الْمُبَادرَة بِصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يذهب بعد صَلَاة الْعَصْر ميلين وَثَلَاثَة، وَالشَّمْس بعد لم تَتَغَيَّر، ثمَّ قَالَ: وَفِيه دَلِيل لمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالْجُمْهُور: أَن وَقت الْعَصْر يدْخل إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يدْخل حَتَّى يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا حجَّة (للْجَمَاعَة عَلَيْهِ. قُلْنَا: الْجَواب من جِهَة أبي حنيفَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بإبراد الظّهْر بقوله: أبردوا بِالظّهْرِ، يَعْنِي: صلوها إِذا سكنت شدَّة الْحر، واشتداد الْحر فِي دِيَارهمْ يكون فِي وَقت صيرورة ظلّ كل شَيْء مثله، وَلَا يفتر الْحر إلاَّ بعد المثلين، فَإِذا تَعَارَضَت الْآثَار يبْقى مَا كَانَ على مَا كَانَ، وَوقت الظّهْر ثَابت بِيَقِين فَلَا يَزُول بِالشَّكِّ، وَوقت الْعَصْر مَا كَانَ ثَابتا فَلَا يدْخل بِالشَّكِّ. وَفِيه: أَن الْوَقْت الْمُسْتَحبّ للعشاء تَأْخِيره إِلَى ثلث اللَّيْل أَو إِلَى شطره وَهُوَ حجَّة على من فضل التَّقْدِيم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: تَأْخِير الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَأكْثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ قَالَه التِّرْمِذِيّ. وَإِلَى النّصْف مُبَاح، وَمَا بعده مَكْرُوه. وَحكى ابْن الْمُنْذر: أَن الْمَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس إِلَى مَا قبل ثلث اللَّيْل، وَهُوَ مَذْهَب إِسْحَاق وَاللَّيْث أَيْضا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي كتبه الجديدة، وَفِي الْإِمْلَاء، وَالْقَدِيم تَقْدِيمهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ الْأَصَح. وَفِيه: كَرَاهَة النّوم قبل الْعشَاء لِأَنَّهُ تعرض لفواتها باستغراق النّوم. وَفِيه: كَرَاهِيَة الحَدِيث بعْدهَا، وَذَلِكَ لِأَن السهر فِي اللَّيْل سَبَب للكسل فِي النّوم عَمَّا يتَوَجَّه من حُقُوق النّوم والطاعات ومصالح الدّين. قَالُوا: الْمَكْرُوه مِنْهُ مَا كَانَ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا مصلحَة فِيهَا، أما مَا فِيهِ مصلحَة وَخير فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، وَذَلِكَ كمدارسة الْعلم، وحكايات الصَّالِحين، ومحادثة الضَّيْف والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أَهله وَأَوْلَاده للملاطفة وَالْحَاجة، ومحادثة الْمُسَافِرين لحفظ مَتَاعهمْ أَو أنفسهم، والْحَدِيث فِي الْإِصْلَاح بَين النَّاس والشفاعة إِلَيْهِم فِي خير، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والإرشاد إِلَى مصلحَة وَنَحْو ذَلِك، وكل ذَلِك لَا كَرَاهَة فِيهِ.
542 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابنَ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا خالِدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حدَّثني غالِبٌ القَطانُ عنْ بَكْرِ بنِ عَبْدِ اللهِ المُزَنِي عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالظَّهَائِرِ فَسَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا إتِّقَاءَ الحَرِّ. (انْظُر الحَدِيث 385 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن صلَاتهم خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالظهائر، تدل على أَنهم كَانُوا يصلونَ الظّهْر فِي أول وقته، وَهُوَ وَقت اشتداد الْحر عِنْد زَوَال الشَّمْس، كَمَا مر فِي أول الْبَاب عَن جَابر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بالهاجرة) . وَلَا يُعَارض هَذَا حَدِيث الْأَمر بالإبراد، لِأَن هَذَا الْبَيَان الْجَوَاز، وَحَدِيث الْأَمر بالإبراد لبَيَان الْفضل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل، بِضَم الْمِيم: أَبُو الْحسن الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْحَنْظَلِي الْمروزِي. الثَّالِث: خَالِد بن عبد الرَّحْمَن ابْن بكير السّلمِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: غَالب، بالغين الْمُعْجَمَة: ابْن خطَّاف الْمَشْهُور بِابْن أبي غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْقطَّان، تقدم فِي بَاب السُّجُود على الثَّوْب. الْخَامِس: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، تقدم فِي بَاب عرق الْجنب. السَّادِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد بِصِيغَة الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: مُحَمَّد بن مقَاتل من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَوَقع للأصيلي وَغَيره: حَدثنَا مُحَمَّد من غير نِسْبَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، بنسبته إِلَى أَبِيه. وَفِيه: وَقع خَالِد بن عبد الرَّحْمَن على هَذِه الصُّورَة وَهُوَ السّلمِيّ وَاسم جده بكير، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِي طبقته: خَالِد بن عبد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِي نزيل دمشق، وخَالِد(5/29)
ابْن عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي الْعَبْدي، وَلم يخرج لَهما البُخَارِيّ شَيْئا، وَأما خَالِد السّلمِيّ الْمَذْكُور هُنَا فَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي هَذَا الْكتاب إِلَّا فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن راوييه مروزيان والبقية بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك ومسدد، فرقهما، كِلَاهُمَا عَن بشر بن الْمفضل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد ابْن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن بشر بن الْمفضل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالظهائر) جمع: ظهيرة، وَهِي الهاجرة. وَأَرَادَ بهَا: الظّهْر، وَجَمعهَا نظرا إِلَى ظهر الْأَيَّام. قَوْله: (سجدنا على ثيابنا) ، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، والأكثرين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (فسجدنا) ، بِالْفَاءِ العاطفة على مُقَدّر نَحْو: فرشنا الثِّيَاب فسجدنا عَلَيْهَا. قَوْله: (اتقاء الْحر) أَي: لأجل اتقاء الْحر، وانتصابه على التَّعْلِيل، والاتقاء: مصدر من: اتَّقى، يَتَّقِي، وَأَصله: اوتقى، لِأَنَّهُ من: وقى. فَنقل إِلَى بَاب الافتعال، ثمَّ قلبت: الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء، فَصَارَ: اتَّقى، وأصل الاتقاء: الاوتقاء، فَفعل بِهِ مَا فعل بِفِعْلِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: والاتقاء مُشْتَقّ من الْوِقَايَة، أَي: وقاية لأنفسنا من الْحر، أَي: احْتِرَازًا مِنْهُ. قلت: الْمصدر يشتق مِنْهُ الْأَفْعَال وَلَا يُقَال لَهُ: مُشْتَقّ، لِأَنَّهُ مَوضِع صُدُور الْفِعْل، كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه. وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهِ فِي بَاب السُّجُود على الثَّوْب فِي شدَّة الْحر.
12 - (بابُ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إلَى العَصَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَأْخِير صَلَاة الظّهْر إِلَى أول وَقت الْعَصْر، وَالْمرَاد أَنه لما فرغ من صَلَاة الظّهْر دخل وَقت صَلَاة الْعَصْر وَلَيْسَ المُرَاد أَنه جمع بَينهمَا فِي وَقت وَاحِد.
543 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عنْ جَابِرِ بنِ زَيْدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِالمَدِينَةِ سَبْعا وَثَمَانِيا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ فَقَالَ أيُّوبُ لعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ قَالَ عَسَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سبعا وثمانيا) ، لِأَن المُرَاد من قَوْله: (سبعا) الْمغرب وَالْعشَاء، وَمن قَوْله: (ثمانيا) الظّهْر وَالْعصر، على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنه أخر الْمغرب إِلَى آخر وقته، فحين فرغ مِنْهُ دخل وَقت الْعشَاء، وَكَذَلِكَ أخر الظّهْر إِلَى آخر وقته، فَلَمَّا صلاهَا خرج وقته وَدخل وَقت الْعَصْر صلى الْعَصْر، فَهَذَا الْجمع الَّذِي قَالَه أَصْحَابنَا: إِنَّه جمع فعلا لَا وقتا. وَقيل: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى إِثْبَات القَوْل باشتراك الْوَقْتَيْنِ. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن من تَأْخِير الظّهْر إِلَى الْعَصْر لَا يفهم ذَلِك وَلَا يستلزمه.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد أَبُو الشعْثَاء، تقدم فِي بَاب الْغسْل بالصاع. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون مَا خلا عَمْرو بن دِينَار، فَإِنَّهُ مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه أَيْضا فِي صَلَاة اللَّيْل عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب ومسدد وَعَمْرو بن عون، ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن حَمَّاد بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار نَحوه، وَعَن أبي عَاصِم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سبعا) أَي: سبع رَكْعَات، ثَلَاثًا للمغرب وأربعا للعشاء، وثمان رَكْعَات لِلظهْرِ وَالْعصر، وَفِي الْكَلَام لف وَنشر. قَوْله: (الظّهْر) وَمَا عطف عَلَيْهِ، منصوبات إِمَّا بدل أَو عطف بَيَان أَو على الِاخْتِصَاص أَو على نزع الخافص: أَي: لِلظهْرِ وَالْعصر. قَوْله: (أَيُّوب) هُوَ: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَالْمقول لَهُ هُوَ جَابر بن زيد. قَوْله: (لَعَلَّه) أَي: لَعَلَّ هَذَا التَّأْخِير كَانَ فِي لَيْلَة(5/30)
مطيرة، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الطَّاء، أَي: كَثِيرَة الْمَطَر. قَوْله: (قَالَ: عَسى) أَي: قَالَ جَابر بن زيد: عَسى ذَلِك كَانَ فِي اللَّيْلَة الْمَطِيرَة، فاسم عَسى وَخَبره محذوفان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: تَكَلَّمت الْعلمَاء فِي هَذَا الحَدِيث، فأوله بَعضهم على أَنه جمع بِعُذْر الْمَطَر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا القعْنبِي عَن مَالك عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ عَن سعيد بن جُبَير عَن عبد الله بن عَبَّاس، قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا وَالْمغْرب وَالْعشَاء جَمِيعًا فِي غير خوف وَلَا سفر. قَالَ مَالك: أرى ذَلِك كَانَ فِي مطر) . وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ كَلَام مَالك، رَحمَه الله. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ للمطر فِي الْحَضَر فَأَجَازَهُ جمَاعَة من السّلف، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر، وَفعله عُرْوَة بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَابْن الْمسيب وَعمر ابْن عبد الْعَزِيز وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبُو سَلمَة وَعَامة فُقَهَاء الْمَدِينَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، غير أَن الشَّافِعِي اشْترط فِي ذَلِك أَن يكون الْمَطَر قَائِما فِي وَقت افْتِتَاح الصَّلَاتَيْنِ مَعًا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو ثَوْر وَلم يشْتَرط ذَلِك غَيرهمَا. وَكَانَ مَالك يرى أَن يجمع الممطور فِي الطين وَفِي حَالَة الظلمَة، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي: يُصَلِّي الممطور كل صَلَاة فِي وَقتهَا. قلت: هَذَا التَّأْوِيل ترده الرِّوَايَة الْأُخْرَى (من غير خوف وَلَا مطر) وأوله بَعضهم على أَنه كَانَ فِي غيم فصلى الظّهْر، ثمَّ انْكَشَفَ وَبَان أَن أول وَقت الْعَصْر دخل فَصلاهَا، وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِيهِ أدنى احْتِمَال فِي الظّهْر وَالْعصر فَلَا احْتِمَال فِيهِ فِي الْمغرب وَالْعشَاء، وأوله آخَرُونَ على أَنه كَانَ بِعُذْر الْمَرَض أَو نَحوه مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ من الْأَعْذَار. وَقَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ قَول أَحْمد وَالْقَاضِي حُسَيْن من أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ الْخطابِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَالرُّويَانِيّ من أَصْحَابنَا، وَهُوَ الْمُخْتَار لتأويله لظَاهِر الحَدِيث، وَلِأَن الْمَشَقَّة فِيهِ أشق من الْمَطَر. قلت: هَذَا أَيْضا ضَعِيف لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الحَدِيث، وتقييده بِعُذْر الْمَطَر تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَتَخْصِيص بِلَا مُخَصص، وَهُوَ بَاطِل، وَأحسن التأويلات فِي هَذَا وأقربها إِلَى الْقبُول أَنه على تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا فَصلاهَا فِيهِ، فَلَمَّا فرغ عَنْهَا دخلت الثَّانِيَة فَصلاهَا، وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل وَيبْطل غَيره مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة لغير وَقتهَا إلاَّ بِجمع، فَإِنَّهُ جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى صَلَاة الصُّبْح من الْغَد قبل وَقتهَا) . وَهَذَا الحَدِيث يبطل الْعَمَل بِكُل حَدِيث فِيهِ جَوَاز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، سَوَاء كَانَ فِي حضر أَو سفر أَو غَيرهمَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عمر: (إِذا جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بعد أَن يغيب الشَّفق) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَهَذَا صَرِيح فِي الْجمع فِي وَقت إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه إبِْطَال تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم إِن المُرَاد بِالْجمعِ تَأْخِير الأولى إِلَى آخر وَقتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا، وَمثله فِي حَدِيث أنس: إِذا ارتحل قبل أَن تزِيغ الشَّمْس أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر، ثمَّ نزل فَجمع بَينهمَا، وَهُوَ صَرِيح فِي الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقت الثَّانِيَة، وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى أوضح دلَالَة وَهِي قَوْله: إِذا أَرَادَ أَن يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر أخر الظّهْر حَتَّى يدْخل أول وَقت الْعَصْر، ثمَّ يجمع بَينهمَا. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (وَيُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء حَتَّى يغيب الشَّفق) . قلت: الْجَواب عَن الأول: أَن الشَّفق نَوْعَانِ: أَحْمَر وأبيض، كَمَا اخْتلف الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم فِيهِ، وَيحْتَمل أَنه جمع بَينهمَا بعد غياب الْأَحْمَر فَتكون الْمغرب فِي وَقتهَا على قَول من يَقُول الشَّفق هُوَ الْأَبْيَض، وَكَذَلِكَ الْعشَاء تكون فِي وَقتهَا على قَول من يَقُول الشَّفق هُوَ الْأَحْمَر، وَيُطلق عَلَيْهِ أَنه جمع بَينهمَا بعد غياب الشَّفق، وَالْحَال أَنه صلى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي وَقتهَا على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِير الشَّفق، وَهَذَا مِمَّا فتح لي من الْفَيْض الإلهي.
وَفِيه: إبِْطَال لقَوْل من ادّعى بطلَان تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: أخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر أَخّرهُ إِلَى وقته الَّذِي يتَّصل بِهِ وَقت الْعَصْر فصلى الظّهْر فِي آخر وقته، ثمَّ صلى الْعَصْر مُتَّصِلا بِهِ فِي أول وَقت الْعَصْر، فيطلق عَلَيْهِ أَنه جمع بَينهمَا، لكنه فعلا لَا وقتا. وَالْجَوَاب عَن الثَّالِث: أَن أول وَقت الْعَصْر مُخْتَلف فِيهِ كَمَا عرف، وَهُوَ إِمَّا بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ، فَيحْتَمل أَنه أخر الظّهْر إِلَى أَن صَار ظلّ كل شَيْء مثله ثمَّ صلاهَا وَصلى عقيبها الْعَصْر، فَيكون قد صلى الظّهْر فِي وَقتهَا على قَول من يرى أَن آخر وَقت الظّهْر بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله، وَيكون قد صلى الْعَصْر فِي وَقتهَا على قَول من يرى أَن أول(5/31)
وَقتهَا بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَيصدق على من فعل هَذَا أَنه جمع بَينهمَا فِي أول وَقت الْعَصْر، وَالْحَال أَنه قد صلى كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي وَقتهَا على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ فِي أول وَقت الْعَصْر، وَمثل هَذَا لَو فعل الْمُقِيم يجوز فضلا عَن الْمُسَافِر الَّذِي يحْتَاج إِلَى التَّخْفِيف. فَإِن قلت: قد ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر: عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر: (أَنه سَار حَتَّى غَابَ الشَّفق فَنزل فَجمع بَينهمَا) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره، وَفِيه: أخر الْمغرب (بعد ذهَاب الشَّفق حَتَّى ذهب هُوَ أَي: سَاعَة من اللَّيْل، ثمَّ نزل فصلى الْمغرب وَالْعشَاء) قلت: لم يذكر سَنَده حَتَّى ينظر فِيهِ، وروى النَّسَائِيّ خلاف هَذَا وَفِيه: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جد بِهِ أَمر أَو جد بِهِ السّير جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء) . فَإِن قلت: قد قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن نَافِع، فَذكر أَنه سَار قَرِيبا من ربع اللَّيْل، ثمَّ نزل فصلى قلت: أسْندهُ فِي (الخلافيات) من حَدِيث يزِيد بن هَارُون بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور وَلَفظه: (فسرنا أميالاً ثمَّ نزل فصلى) . قَالَ يحيى: فَحَدثني نَافِع هَذَا الحَدِيث مرّة أُخْرَى فَقَالَ: (سرنا حَتَّى إِذا كَانَ قَرِيبا من ربع اللَّيْل نزل فصلى) . فلفظه مُضْطَرب كَمَا ترى، قد رُوِيَ على وَجْهَيْن فاقتصر الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) على مَا يُوَافق مَقْصُوده، وَاسْتدلَّ جمَاعَة من الْأَئِمَّة إِلَى الْأَخْذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث على جَوَاز الْجمع فِي الْحَضَر للْحَاجة، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يتَّخذ عَادَة، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وَابْن الْمُنْذر والقفال الْكَبِير، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ عَن جمَاعَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَاسْتدلَّ لَهُم بِمَا وَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق سعيد بن جُبَير، قَالَ: (فَقلت لِابْنِ عباسِ: لِمَ فعل ذَلِك؟ قَالَ: أَرَادَ أَن لَا يُحرج أحد من أمته) . وللنسائي من طَرِيق عَمْرو بن هرم: عَن أبي الشعْثَاء أَن ابْن عَبَّاس صلى بِالْبَصْرَةِ الأولى وَالْعصر لَيْسَ بَينهمَا شَيْء، وَالْمغْرب وَالْعشَاء لَيْسَ بَينهمَا شَيْء، فعل ذَلِك من شغل. وروى مُسلم من طَرِيق عبد الله بن شَقِيق أَن شغل ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور كَانَ بِالْخطْبَةِ، وَأَنه خطب بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَن بَدَت النُّجُوم، ثمَّ جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَالَّذِي ذكره ابْن عَبَّاس من التَّعْلِيل بِنَفْي الْحَرج جَاءَ مثله عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَلَفظه: (جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: صنعت هَذَا لِئَلَّا تُحرج أمتِي) . قلت: قَالَ الْخطابِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: رَوَاهُ مُسلم عَن ابْن عَبَّاس، هَذَا حَدِيث لَا يَقُول بِهِ أَكثر الْفُقَهَاء. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ فِي كتابي حَدِيث أَجمعت الْعلمَاء على ترك الْعَمَل بِهِ إلاَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْجمع بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر، وَحَدِيث قتل شَارِب الْخمر فِي الْمرة الرَّابِعَة. وَأما الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ فَيردهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة لغير وَقتهَا) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
13 - (بابُ وَقْتِ العَصْرِ. وقَالَ أبُو أُسامَةَ عنْ هِشَامٍ منْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْعَصْر.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة، خُصُوصا بَين هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله.
544 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عَيَّاضٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي بَاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي آخر حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ: قَالَ عُرْوَة: (وَلَقَد حَدَّثتنِي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر) ، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ معنى الحَدِيث، وَهِشَام فِيهِ هُوَ: هِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (وَالشَّمْس) الْوَاو: فِيهِ للْحَال. قَوْله: (من حُجْرَتهَا) أَي: من حجرَة عَائِشَة، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: من حُجْرَتي، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نوع الْتِفَات. قلت: لَيْسَ الْتِفَات هُنَا، وَلَا يصدق عَلَيْهِ حد الِالْتِفَات، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب التَّجْرِيد، فَكَأَنَّهَا جردت وَاحِدَة من النِّسَاء وأثبتت لَهَا حجرَة وأخبرت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس لم تخرج من حُجْرَتهَا، وَفِيه: الْمجَاز أَيْضا، لِأَن المُرَاد من الشَّمْس ضوؤها، لِأَن عين الشَّمْس لَا تدخل حَتَّى تخرج. .(5/32)
545 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قالَ حدَّثنااللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى العَصْرَ والشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ منْ حُجْرَتِهَا. .
قُتَيْبَة هُوَ ابْن سعيد، وَاللَّيْث بن سعد، وأبن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير، كلهم قد ذكرُوا غير مرّة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين بلخي وبصري ومدني.
قَوْله: (وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا) أَي: بَاقِيَة، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَوْله: (لم يظْهر الْفَيْء) أَي: الظل، فِي الْموضع الَّذِي كَانَت الشَّمْس فِيهِ، وَقد مر فِي بَاب الْمَوَاقِيت وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر، وَمعنى الظُّهُور هُنَا الصعُود. يُقَال: ظَهرت على الشَّيْء إِذا علوته، وحجرة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت ضيقَة الرقعة، وَالشَّمْس تقلص عَنْهَا سَرِيعا، وَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر قبل أَن تصعد الشَّمْس عَنْهَا. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس وبظهور الْفَيْء؟ قلت: المُرَاد بِظُهُور الشَّمْس: خُرُوجهَا من الْحُجْرَة، وبظهور الْفَيْء: انبساطه فِي الْحُجْرَة، وَلَيْسَ بَين الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَاف، لِأَن انبساط الْفَيْء لَا يكون، إلاَّ بعد خُرُوج الشَّمْس، وَاسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي وَمن تبعه على تَعْجِيل صَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا دلَالَة فِيهِ على التَّعْجِيل لاحْتِمَال أَن الْحُجْرَة كَانَت قَصِيرَة الْجِدَار، فَلم تكن الشَّمْس تحتجب عَنْهَا إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، فَيدل على التَّأْخِير لَا على التَّعْجِيل. وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن الَّذِي ذكره من الِاحْتِمَال إِنَّمَا يتَصَوَّر مَعَ اتساع الْحُجْرَة، وَقد عرف بالاستفاضة والمشاهدة أَن حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن متسعة، وَلَا يكون ضوء الشَّمْس بَاقِيا فِي قَعْر الْحُجْرَة الصَّغِيرَة إلاَّ وَالشَّمْس قَائِمَة مُرْتَفعَة، وإلاَّ مَتى مَالَتْ جدا ارْتَفع ضوؤها عَن قاع الْحُجْرَة، وَلَو كَانَت الْجدر قَصِيرَة. قلت: لَا وَجه للتعقب فِيهِ لِأَن الشَّمْس لَا تحتجب عَن الْحُجْرَة القصيرة الْجِدَار إلاَّ بِقرب غُرُوبهَا، وَهَذَا يعلم بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يحْتَاج إِلَى المكابرة، وَلَا دخل هُنَا لاتساع الْحُجْرَة وَلَا لضيقها، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي قصر جدرها، وبالنظر على هَذَا فَالْحَدِيث حجَّة على من يرى تَعْجِيل الْعَصْر فِي أول وَقتهَا. فَإِن قلت: عقد البُخَارِيّ بَابا لوقت الْعَصْر وَذكر فِيهِ أَحَادِيث لَا يدل وَاحِد مِنْهَا على أَن أول وقته بِمَاذَا يكون؟ بصيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: لم يَقع لَهُ حَدِيث فِي شَرطه على تعْيين ذَلِك، فَذكر الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة الدَّالَّة على ذَلِك بطرِيق الاستنباط قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه لَهُ أَن لَا يَقع لغيره فِي تعْيين ذَلِك.
وَقد روى جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب، مِنْهُم ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمني جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد الْبَيْت مرَّتَيْنِ) الحَدِيث. وَفِيه: (صلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثله) . هَذَا فِي الْمرة الأولى، وَقَالَ فِي الثَّانِيَة: (وَصلى بِي الْعَصْر حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ) . أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) : وَقد تكلم بعض النَّاس فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا بِكَلَام لَا وَجه لَهُ، وَرُوَاته كلهم مَشْهُورُونَ بِالْعلمِ. قلت: هَذَا الحَدِيث هُوَ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبَاب. وَقَوله: (حِين كَانَ ظله مثلَيْهِ) ، بالتثنية، وَهَذَا آخر وَقت الظّهْر عِنْد أبي حنيفَة، لِأَن عِنْده: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ سوى فَيْء الزَّوَال يخرج وَقت الظّهْر، وَيدخل وَقت الْعَصْر، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله يخرج وَقت الظّهْر وَيدخل وَقت الْعَصْر، وَهِي رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد عَنهُ، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَالثَّوْري وَإِسْحَاق، وَلَكِن قَالَ الشَّافِعِي: آخر وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ لمن لَيْسَ لَهُ عذر، وَأما أَصْحَاب الْعذر والضرورات فآخر وَقتهَا لَهُم غرُوب الشَّمْس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: خَالف النَّاس كلهم أَبَا حنيفَة فِيمَا قَالَه حَتَّى أَصْحَابه. قلت: إِذا كَانَ اسْتِدْلَال أبي حنيفَة بِالْحَدِيثِ فَمَا يضرّهُ مُخَالفَة النَّاس لَهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه أَبُو حنيفَة حَدِيث عَليّ بن شَيبَان، قَالَ: (قدمنَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَكَانَ يُؤَخر الْعَصْر مَا دَامَت الشَّمْس بَيْضَاء نقية) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَهُوَ حجَّة على خَصمه. وَحَدِيث جَابر: (صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر حِين صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ قدر مَا يسير الرَّاكِب إِلَى ذِي الحليفة الْعُنُق) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ.(5/33)
وَقَالَ أبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ منْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وكريمة على رَأس الحَدِيث الَّذِي عقيب الْبَاب، وَالصَّوَاب وُقُوعه هَهُنَا، وأسنده الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن مَاجَه، وَغَيره عَن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلَاة الْعَصْر وَالشَّمْس فِي قَعْر حُجْرَتي) ، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة.
546 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ قالَتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلاَةَ العَصْرِ والشَّمْسُ طالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ. .
أَبُو نعيم: الْفضل بن دُكَيْن، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ: سُفْيَان. وَفِي (مُسْند الْحميدِي) عَن ابْن عُيَيْنَة: حَدثنَا الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد ابْن مَنْصُور عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن سُفْيَان: (سمعته أذناي ووعاه قلبِي من الزُّهْرِيّ) ، وَالزهْرِيّ هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (وَالشَّمْس طالعة) أَي: ظَاهِرَة، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال. قَوْله: (بعد) مَبْنِيّ على الضَّم لِأَنَّهُ من الغايات الْمَقْطُوع عَنْهَا الْإِضَافَة الْمَنوِي بهَا، وَلَو لم تنو الْإِضَافَة لَقلت من بعد التَّنْوِين.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ مالِكٌ وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ وَشُعَيْبٌ وابنُ أبي حَفْصَةَ والشَّمْسُ قَبْلَ أنْ تَظْهَرَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين رووا الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَعِنْدهم: (وَالشَّمْس قبل أَن تظهر) ، فالظهور فِي روايتهم للشمس، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة الظُّهُور للفيء، وَقد ذكرنَا عَن قريب طَريقَة الْجمع بَينهمَا، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة بِالْمُهْمَلَةِ، وَابْن أبي حَفْصَة مُحَمَّد بن ميسرَة أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ. وَأما طَرِيق مَالك فقد أوصله البُخَارِيّ فِي بَاب الْمَوَاقِيت، وَأما طَرِيق يحيى بن سعيد فَعِنْدَ الذهلي مَوْصُولا وَأما طَرِيق شُعَيْب فَعِنْدَ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) وَأما طَرِيق ابْن أبي حَفْصَة فَعِنْدَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان من طَرِيق ابْن عدي.
547 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عَوْفٌ عَنْ سَيَّار بنِ سَلاَمَةَ قالَ دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِي فَقَالَ لَهُ أبي كَيْفَ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ فَقَالَ كانَ يُصَلِّي الهَجِرَةَ الَّتي تَدْعُونَهَا الأُولي حِين تَدْحَضُ الشَّمْسُ ويُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أقْصَى المَدِينَةِ والشَّمْسُ حَيّةٌ ونَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ وكانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ العِشَاءَ الَّتي تَدْعُونَهَا العَتَمَةَ وكانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا والحَدِيثَ بَعْدَهَا وكانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجلُ جَلِيسَهُ ويَقْرَأ بِالسِّتِّين إِلَى المِائَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيُصلي الْعَصْر ثمَّ يرجع أَحَدنَا إِلَى رَحْله فِي أقْصَى الْمَدِينَة) . وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي بَاب وَقت الظّهْر عِنْد الزَّوَال: عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي الْمنْهَال، وَهُوَ سيار بن سَلامَة، وَهَهُنَا: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن عَوْف الْأَعرَابِي عَن سيار بن سَلامَة عَن أبي بَرزَة نَضْلَة بن عبيد، وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير وَزِيَادَة ونقصان، وَيظْهر ذَلِك بالمقابلة. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَة. وَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ. قَوْله: (قَالَ دخلت أَنا وَأبي) الْقَائِل هُوَ: سيار وَأَبوهُ سَلامَة، وَحكى عَنهُ (ابْنه هُنَا، ولابنه عَنهُ رِوَايَة فِي الطَّبَرَانِيّ (الْكَبِير) فِي ذكر الْحَوْض، وَكَانَ دخولهما على أبي بَرزَة زمن أخرج ابْن زِيَاد من الْبَصْرَة، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لما كَانَ زمن أخرج ابْن زِيَاد، ووثب مَرْوَان بِالشَّام، قَالَ أَبُو الْمنْهَال: (انْطلق أبي إِلَى أبي بَرزَة وَانْطَلَقت مَعَه، فَإِذا هُوَ قَاعد فِي ظلّ علوله من قصب فِي يَوْم شَدِيد الْحر ... فَذكر الحَدِيث. قَوْله: (الْمَكْتُوبَة) أَي: الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة الَّتِي كتبهَا الله تَعَالَى على(5/34)
عباده. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على أَن الْوتر لَيْسَ من الْمَكْتُوبَة، لكَون أبي بَرزَة لم يذكرهُ. قلت: عدم ذكره إِيَّاه لَا يسْتَلْزم نفي وجوب الْوتر، وَقد ثَبت وُجُوبه بدلائل أُخْرَى. قَوْله: (يُصَلِّي الهجير) ، وَهُوَ الهاجرة، أَي: صَلَاة الهجير، وَهُوَ وَقت شدَّة الْحر، وَسمي الظّهْر بذلك لِأَن وَقتهَا يدْخل حِينَئِذٍ. قَوْله: (الَّتِي تدعونها الأولى) ، وتأنيث الضَّمِير إِمَّا بِاعْتِبَار الهاجرة وَإِمَّا بِاعْتِبَار الصَّلَاة، ويروى: (يُصَلِّي الهجيرة) . وَإِنَّمَا قيل لَهَا: الأولى، لِأَنَّهَا أول صَلَاة صليت عِنْد إِمَامَة جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: لِأَنَّهَا أول صَلَاة النَّهَار قَوْله: (حِين تدحض) أَي: حِين تَزُول عَن وسط السَّمَاء إِلَى جِهَة الْمغرب من: الدحض وَهُوَ: الزلق. وَمُقْتَضى ذَلِك أَنه كَانَ يُصَلِّي الظّهْر فِي أول وَقتهَا، وَلَكِن لَا يُعَارض حَدِيث الْأَمر بالإبراد لما ذكرنَا وَجه ذَلِك مستقصىً. قَوْله: (إِلَى رَحْله) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ مسكن الرجل وَمَا يستصحبه من الأثاث. قَوْله: (فِي أقْصَى الْمَدِينَة) صفة لرحل، وَلَيْسَ بظرف للْفِعْل. قَوْله: (وَالشَّمْس حَيَّة) أَي: بَيْضَاء نقية، و: الْوَاو، فِيهِ للْحَال، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح: عَن خَيْثَمَة التَّابِعِيّ، قَالَ: حَيَاتهَا أَن تَجِد حرهَا) . قَوْله: (ونسيت مَا قَالَ) قَائِل ذَلِك هُوَ: سيار، بَينه أَحْمد فِي رِوَايَته عَن حجاج عَن شُعْبَة بِهِ. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَن يُؤَخر الْعشَاء) ، أَي: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (الَّتِي تدعونها الْعَتَمَة) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَالْعَتَمَة من اللَّيْل بعد غيبوبة الشَّفق، وَقد أعتم اللَّيْل أَي: أظلم، وَفِيه إِشَارَة إِلَى ترك تَسْمِيَتهَا بذلك. قَوْله: (والْحَدِيث بعْدهَا) ، أَي: التحدث. قَوْله: (وَكَانَ يَنْفَتِل) أَي: ينْصَرف من الصَّلَاة، أَو يلْتَفت إِلَى الْمَأْمُومين. قَوْله: (صَلَاة الْغَدَاة) أَي: الصُّبْح، وَفِيه أَنه لَا كَرَاهَة فِي تَسْمِيَة الصُّبْح بذلك. قَوْله: (يقْرَأ) أَي: فِي الصُّبْح، (بالستين إِلَى الْمِائَة) أَي: من الْآي، وقدرها الطَّبَرَانِيّ بِسُورَة الحاقة وَنَحْوهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث حجَّة على الْحَنَفِيَّة حَيْثُ قَالُوا: لَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ. قلت: لَا نسلم أَن الْحَنَفِيَّة قَالُوا ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَة أَسد بن عَمْرو عَن أبي حنيفَة وَحده، وروى الْحسن عَنهُ أَن أول وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وروى الْمُعَلَّى عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: إِذا صَار الظل أقل من قامتين يخرج وَقت الظّهْر، وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير قامتين، وَصَححهُ الْكَرْخِي، وَفِي رِوَايَة الْحسن أَيْضا: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء قامة خرج وَقت الظّهْر وَلَا يدْخل وَقت الْعَصْر حَتَّى يصير قامتين، وَبَينهمَا وَقت مهمل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّاس: بَين الصَّلَاتَيْنِ. وَحكى ابْن قدامَة فِي (المغنى) : عَن ربيعَة أَن وَقت الظّهْر وَالْعصر إِذا زَالَت الشَّمْس، وَعَن عَطاء وطاووس: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله، دخل وَقت الظّهْر، وَمَا بَينهمَا وَقت لَهما على سَبِيل الِاشْتِرَاك حَتَّى تغرب الشَّمْس. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه والمزني وَأَبُو ثَوْر وَالطَّبَرَانِيّ: إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثله دخل وَقت الْعَصْر، وَيبقى وَقت الظّهْر قدر مَا يُصَلِّي أَربع رَكْعَات، ثمَّ يتمحض الْوَقْت للعصر، وَبِه قَالَ مَالك.
548 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ ابنِ مالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإنْسَانُ إلَى بنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ العَصْرَ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث، ومطابقة بَقِيَّة أَحَادِيث هَذَا الْبَاب للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن دلالتها على تَعْجِيل الْعَصْر، وتعجيله لَا يكون إلاَّ فِي أول وقته، وَهُوَ عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثله أَو مثلَيْهِ على الْخلاف.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي، وَمَالك بن أنس وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى: أَبَا يحيى، مَاتَ سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ مَالك لَا يقدم عَلَيْهِ أحدا فِي الحَدِيث.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث مُسْند أَو مَوْقُوف؟ قلت: قَول الصَّحَابِيّ: كُنَّا نَفْعل كَذَا، فِيهِ خلاف، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنه مُسْند، وَهُوَ اخْتِيَار الْحَاكِم، وإيراد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مشْعر بِأَنَّهُ مُسْند، وَإِن لم يُصَرح بإضافته إِلَى زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ والخطيب وَآخَرُونَ: إِنَّه مَوْقُوف، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن مثل هَذَا مَوْقُوف لفظا، مَرْفُوع حكما، لِأَن الصَّحَابِيّ أوردهُ فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيحمل على أَنه أَرَادَ كَونه فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى ابْن الْمُبَارك هَذَا الحَدِيث عَن مَالك، فَقَالَ(5/35)
فِيهِ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر) ، الحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ.
ذكر تعدد موضه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بني عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، وَكَانَت مَنَازِلهمْ على ميلين من الْمَدِينَة بقباء. قَوْله: (فيجدهم يصلونَ الْعَصْر) أَي: عصر ذَلِك الْيَوْم، وَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يؤخرون عَن أول الْوَقْت، لأَنهم كَانُوا عمالاً فِي أراضيهم وحروثهم. وَقَالَ بَعضهم: فَدلَّ هَذَا الحَدِيث على تَعْجِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، قلت: إِنَّمَا يدل ذَلِك على مَا ذكره إِذا كَانَ الحَدِيث مَرْفُوعا قطعا، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن فِي مثل هَذَا خلافًا، هَل هُوَ مَوْقُوف أَو فِي حكم الْمَرْفُوع؟
549 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا أبُو بَكْرِ بنُ عُثْمانَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ سمِعْتُ أَبَا امامَةَ يَقُولُ صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أنَسِ بنِ مالِكٍ فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي العَصْرَ فَقُلْتُ يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّيْتَ قَالَ العَصْرُ وهَذِهِ صَلاَةُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ.
ابْن مقَاتل هُوَ: مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي، المجاور بِمَكَّة. وَعبد الله هُوَ: ابْن الْمُبَارك، وَأَبُو بكر بن عُثْمَان بن سهل ابْن حنيف، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء: الْأنْصَارِيّ الأوسي، سمع عَمه أَبَا أُمَامَة، بِضَم الْهمزَة، واسْمه: أسعد بن سهل، الْمَوْلُود فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ صَحَابِيّ على الْأَصَح. مَاتَ سنة مائَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل والسماعوفيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: راويان مروزيان والبقية مدنيون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مَنْصُور بن مُزَاحم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر، كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن الْمُبَارك.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (دَخَلنَا على أنس بن مَالك) ، وداره كَانَت بِجنب الْمَسْجِد. قَوْله: (يَا عَم) ، بِكَسْر الْمِيم، وَأَصله: يَا عمي، فحذفت الْيَاء، وَهَذَا من بَاب التوقير وَالْإِكْرَام لأنس، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَمه على الْحَقِيقَة. قَوْله: (مَا هَذِه الصَّلَاة؟) أَي: مَا هَذِه الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت؟ وَالْإِشَارَة فِيهِ بِحَسب وَقت تِلْكَ الصَّلَاة لَا بِحَسب شخصها. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر فِي أول وَقتهَا، فَإِن وَقتهَا يدْخل بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَلِهَذَا كَانَ الْآخرُونَ يؤخرون الظّهْر إِلَى ذَلِك الْوَقْت، وَإِنَّمَا أَخّرهَا عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عَادَة الْأُمَرَاء قبل أَن تبلغه السّنة فِي تَقْدِيمهَا قبله، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهَا لعذر عرض لَهُ، وَهَذَا كَانَ حِين ولي الْمَدِينَة نِيَابَة، لَا فِي خِلَافَته، لِأَن أنسا توفّي قبل خِلَافَته بِنَحْوِ تسع سِنِين. انْتهى. قلت: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح فِي التبكير لصَلَاة الْعَصْر، وَمثل عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يتبع الْأُمَرَاء وَيتْرك السّنة؟
550 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أنسُ بنُ مالِكٍ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذاهِبُ إلَى العَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ وَبَعْضُ العَوَالِي مِنَ المَدِينَةِ عَلَى أرْبَعَةِ أمْيَالٍ أوْ نَحْوِهِ.
أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع البهراني الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع آخر. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: من الروَاة حمصيان ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن هَارُون بن سعيد عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث عَن الزُّهْرِيّ(5/36)
عَن أنس. وَأخرجه أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد ابْن رمح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) ، الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَقد مر تَفْسِير قَوْله: حَيَّة. قَوْله: (العوالي) ، جمع: عالية وَهِي الْقرى الَّتِي حول الْمَدِينَة من جِهَة نجد، وَأما من جِهَة تهَامَة فَيُقَال لَهَا: السافلة. قَوْله: (فيأتيهم وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) أَي: دون ذَلِك الِارْتفَاع. قَوْله: (وَبَعض العوالي) ، إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا كَلَام البُخَارِيّ وَإِمَّا كَلَام أنس أَو هُوَ لِلزهْرِيِّ، كَمَا هُوَ عَادَته فِي الإدراجات. قلت: الظَّاهِر أَنه من الزُّهْرِيّ، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ فِيهِ، بعد قَوْله: (وَالشَّمْس حَيَّة) ، قَالَ الزُّهْرِيّ: والعوالي من الْمَدِينَة على ميلين أَو ثَلَاثَة. وروى الْبَيْهَقِيّ حَدِيث الْبَاب من طَرِيق أبي بكر الصَّنْعَانِيّ عَن أبي الْيَمَان، شيخ البُخَارِيّ، وَقَالَ فِي آخِره: وَبعد العوالي، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة، وَكَذَلِكَ أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام تَعْلِيقا، وَوَصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق اللَّيْث: عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، لَكِن قَالَ: أَرْبَعَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة. وروى هَذَا الحَدِيث أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَأَبُو الْعَبَّاس السراج جَمِيعًا عَن أَحْمد بن الْفرج أبي عتبَة عَن مُحَمَّد بن حمير عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة عَن الزُّهْرِيّ، وَلَفظه: (والعوالي من الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال) وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْمحَامِلِي عَن أبي عتبَة الْمَذْكُور بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور، فَوَقع عَنهُ: (على سِتَّة أَمْيَال) . وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَ فِيهِ: (على ميلين أَو ثَلَاثَة) . وَوَقع فِي (الْمُدَوَّنَة) عَن مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى: أبعد العوالي مَسَافَة ثَلَاثَة أَمْيَال. قَالَ عِيَاض: كَأَنَّهُ أَرَادَ مُعظم عمارتها، وإلاَّ فأبعدها ثَمَانِيَة أَمْيَال. قلت: علم من هَذِه الاختلافات أَن أقرب العوالي من الْمَدِينَة مَسَافَة ميلين، وأبعدها ثَمَانِيَة أَمْيَال، وَأما الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة والستة فباعتبار الْقرب والبعد من الْمَدِينَة، فَبِهَذَا الْوَجْه يحصل التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات، والميل: ثلث فَرسَخ، أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع مُحَمَّد بن فرج الشَّاشِي، طولهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ إصبعا بِعَدَد حُرُوف: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَعرض الإصبع: سِتّ حبات شعير ملصقة ظهرا لبطن، وزنة الْحبَّة من الشّعير: سَبْعُونَ حَبَّة خَرْدَل. وَفسّر أَبُو شُجَاع الْميل: بِثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع، وَخَمْسمِائة ذِرَاع، إِلَى أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع. وَفِي (الْيَنَابِيع) الْميل: ثلث الفرسخ، أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة، كل خطْوَة ذِرَاع وَنصف بِذِرَاع الْعَامَّة، وَهُوَ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ إصبعا.
551 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شَهَابٍ عَن أنَس بنِ مالِكٍ قَالَ كنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ
قد تكَرر ذكر هَؤُلَاءِ الروَاة.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل.
قَوْله: (كُنَّا نصلي الْعَصْر) أَي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ خَالِد بن مخلد عَن مَالك، كَذَلِك مُصَرحًا بِهِ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غَرَائِبه) . قَوْله: (إِلَى قبَاء) ، قَالَ أَبُو عمر: قَول مَالك، قبَاء، وهم لَا شكّ فِيهِ وَلم يُتَابِعه أحد فِيهِ عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يُتَابع مَالك على قَوْله: (قبَاء) ، وَالْمَعْرُوف: العوالي، وَكَذَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ فِي آخَرين: إِلَى العوالي، وَأخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حدديث الزُّهْرِيّ، وَقَالَ التَّيْمِيّ: الصَّحِيح بدل قبَاء العوالي، كَذَلِك رَوَاهُ أَصْحَاب ابْن شهَاب كلهم غير مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) فَإِنَّهُ تفرد بِذكر: قبَاء، وَهُوَ مِمَّا يعد على مَالك أَنه وهم فِيهِ. قلت: تَابع مَالِكًا ابْن أبي ذِئْب، فَإِنَّهُ روى عَن الزُّهْرِيّ: إِلَى قبَاء، كَمَا قَالَه مَالك، نَقله الْبَاجِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ، فنسبة الْوَهم إِلَى مَالك غير موجه، وَلَئِن سلمنَا أَنه وهم، وَلَكِن لَا نسلم أَن يكون ذَلِك من مَالك قطعا، فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ مَالِكًا. وَقَالَ ابْن بطال: روى خَالِد بن مخلد عَن مَالك فَقَالَ فِيهِ: إِلَى العوالي، كَمَا قَالَه الْجَمَاعَة، فَهَذَا يدل على أَن الْوَهم فِيهِ مِمَّن دون مَالك. ورد هَذَا بِأَن مَالِكًا أثْبته فِي (الْمُوَطَّأ) بِاللَّفْظِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ كَافَّة أَصْحَابه، فرواية خَالِد عَنهُ شَاذَّة، وَلَئِن سلمنَا الْوَهم فِيهِ، فَهُوَ إِمَّا من مَالك كَمَا جزم بِهِ الْبَزَّار وَالدَّارَقُطْنِيّ وَمن تبعهما، أَو من الزُّهْرِيّ حِين حدث بِهِ، وَمَعَ هَذَا كُله فقباء من العوالي، فَلَعَلَّ مَالِكًا رأى فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ إِجْمَالا وفسرها بقباء، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة الْوَهم إِلَى أحد. فَافْهَم. قَوْله: (فيأتيهم) أَي: فَيَأْتِي أهل قبَاء، و: الْوَاو، فِي: (وَالشَّمْس) للْحَال.
14 -(5/37)
(بابُ إثْمِ مَنْ فَاتَهُ العَصْرُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من فَاتَتْهُ صَلَاة الْعَصْر، وَالْمرَاد بفواتها تَأْخِيرهَا عَن وَقت الْجَوَاز بِغَيْر عذر، لِأَن ترَتّب الْإِثْم على ذَلِك.
552 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ كأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ ومالَهُ.
رجال هَذَا الحَدِيث ولطائف إِسْنَاده قد مَرَرْت غير مرّة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق مَالك، وَأخرجه الْكشِّي من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن نَافِع، وَزَاد فِي آخِره: وَهُوَ قَاعد، وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة كَرِوَايَة ابْن عمر، وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: إِن نوفلاً رَوَاهُ عَن أَبِيه مُعَاوِيَة بِلَفْظ: (لِأَن يُوتر أحدكُم أَهله وَمَاله خير لَهُ من أَن تفوته صَلَاة الْعَصْر) . وَقَالَ الذَّهَبِيّ: نَوْفَل بن مُعَاوِيَة الديلِي، شهد الْفَتْح وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ سنة يزِيد، روى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ فِي بَاب الْمِيم: مُعَاوِيَة بن نَوْفَل الديلِي صَحَابِيّ روى عَنهُ ابْنه. قَوْله: (صَلَاة الْعَصْر) فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يفوتهُ الْعَصْر) . قَوْله: (كَأَنَّمَا) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَكَأَنَّمَا) بِالْفَاءِ، والمبتدأ إِذا تضمن معنى الشَّرْط جَازَ فِي خَبره: الْفَاء، وَتركهَا. قَوْله: (وتر أَهله وَمَاله) بِنصب اللاَّمين فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين لِأَنَّهُ مفعول ثَان لقَوْله: (وتر) ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر) ، وَهُوَ الْمَفْعُول الأول. فَإِن قلت: الْفِعْل الَّذِي يَقْتَضِي المفعولين يكون من أَفعَال الْقُلُوب، ووتر لَيْسَ مِنْهَا. قلت: إِذا كَانَ أحد المفعولين غير صَرِيح يَأْتِي أَيْضا من غير أَفعَال الْقُلُوب، وَهَهُنَا كَذَلِك، ووتر هَهُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى إِلَى مفعولين بِهَذَا الْوَجْه، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لن يتركم أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 35) . أَي: لن ينقصكم أَعمالكُم، فعلى هَذَا الْمَعْنى فِي: وتر، نقص من: وترته، إِذا نقصته فكأنك جعلته: وترا بعد أَن كَانَ كثيرا. وَقيل: مَعْنَاهُ هَهُنَا: سلب أَهله وَمَاله، فَبَقيَ وترا لَيْسَ لَهُ أهل وَلَا مَال. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ بِرَفْع الَّلامين، قلت: هِيَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَجههَا أَنه لَا يضمر شَيْء فِي: وتر، بل يقوم: الْأَهْل، مقَام مَا لم يسم فَاعله، و: مَاله، عطف عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: من رد النَّقْص إِلَى الرجل نصبهما، وَمن رده إِلَى الْأَهْل وَالْمَال رفعهما. وَقيل: مَعْنَاهُ وتر فِي أَهله، فَلَمَّا حذف الْخَافِض انتصب، وَقيل: إِنَّه بدل اشْتِمَال أَو بدل بعض، وَمَعْنَاهُ: انتزع مِنْهُ أَهله وَمَاله. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الموتر: الَّذِي قتل لَهُ قَتِيل فَلم يدْرك بدمه، تَقول مِنْهُ: وتره يتره وترا ووترا وترة. قلت: أصل: ترة وتر، فحذفت مِنْهَا الْوَاو تبعا لفعله الْمُضَارع، وَهُوَ: يتر، لِأَن أَصله يُوتر، فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين يَاء وكسرة، فَلَمَّا حذفت الْوَاو فِي الْمصدر عوض عَنْهَا: التَّاء، كَمَا فِي: عدَّة.
وَتَكَلَّمُوا فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ الْخطابِيّ: نقص هُوَ أَهله وَمَاله وسلبهم، فَبَقيَ بِلَا أهل وَلَا مَال، فليحذر من يفوتها كحذره من ذهَاب أَهله وَمَاله. وَقَالَ أَبُو عمر: مَعْنَاهُ كَالَّذي يصاب بأَهْله وَمَاله إِصَابَة يطْلب بهَا وترا، وَهِي الْجِنَايَة الَّتِي تطلب ثأرها، فيجتمع عَلَيْهِ غمان: غم الْمُصِيبَة، وغم مقاساة طلب الثأر. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يتَوَجَّه عَلَيْهِ من الاسترجاع مَا يتَوَجَّه على من فقد أَهله وَمَاله، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ النَّدَم والأسف لتفويته الصَّلَاة. وَقيل: مَعْنَاهُ فَاتَهُ من الثَّوَاب مَا يلْحقهُ من الأسف، كَمَا يلْحق من ذهب أَهله وَمَاله. ثمَّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِفَوَات الْعَصْر فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ ابْن وهب وَغَيره: هُوَ فِيمَن لم يصلها فِي وَقتهَا الْمُخْتَار. وَقَالَ الْأصيلِيّ وَسَحْنُون: هُوَ أَن تفوته بغروب الشَّمْس. وَقيل: أَن يفوتها إِلَى أَن تصفر الشَّمْس، وَقد ورد مُفَسرًا فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ فِي هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وفواتها أَن تدخل الشَّمْس صفرَة. وروى سَالم عَن أَبِيه أَنه قَالَ: هَذَا فِيمَن فَاتَتْهُ نَاسِيا، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا فِي الْعَامِد، وَكَأَنَّهُ أظهر لما فِي البُخَارِيّ: (من ترك صَلَاة الْعَصْر حَبط عمله) . وَهَذَا ظَاهر فِي الْعمد. وَقَالَ الْمُهلب: هُوَ فَوَاتهَا فِي الْجَمَاعَة لما يفوتهُ من شُهُود الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، وَلَو كَانَ فَوَاتهَا بغيبوبة أَو اصفرار لبطل الِاخْتِصَاص، لِأَن ذهَاب الْوَقْت كُله مَوْجُود فِي كل صَلَاة، وَقَالَ أَبُو عمر: يحْتَمل أَن يكون تَخْصِيص الْعَصْر لكَونه جَوَابا بالسائل سَأَلَ عَن صَلَاة الْعَصْر، وعَلى هَذَا يكون حكم من فَاتَهُ الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس، وَالْعشَاء بِطُلُوع الْفجْر، كَذَلِك. وخصت الْعَصْر لفضلها ولكونها مَشْهُودَة. وَقيل: خصت بذلك تَأْكِيدًا وحضا على المثابرة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَأتي فِي وَقت اشْتِغَال النَّاس، وَقيل: يحْتَمل أَنَّهَا خصت بذلك لِأَنَّهَا(5/38)
على الصَّحِيح أَنَّهَا الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَبهَا تختم الصَّلَوَات. وَاعْترض النَّوَوِيّ لِابْنِ عبد الْبر فِي قَوْله: فعلى هَذَا يكون حكم من فَاتَهُ الصُّبْح. . إِلَى آخِره، فَإِن غير الْمَنْصُوص إِنَّمَا يلْحق بالمنصوص إِذا عرفت الْعلَّة واشتركا فِيهَا. قَالَ: وَالْعلَّة فِي هَذَا الحكم لم تتَحَقَّق فَلَا يلْحق غير الْعَصْر بهَا. انْتهى. قلت: لقَائِل أَن يحْتَج لِابْنِ عبد الْبر بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَغَيره من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا: (من ترك صَلَاة مَكْتُوبَة حَتَّى تفوته) الحَدِيث، ورد بِأَن فِي إِسْنَاده انْقِطَاعًا، لِأَن أَبَا قلَابَة لم يسمع من أبي الدَّرْدَاء، وَقد روى أَحْمد حَدِيث أبي الدَّرْدَاء بِلَفْظ: (من ترك الْعَصْر) ، فَرجع حَدِيث أبي الدَّرْدَاء إِلَى تعْيين الْعَصْر. قلت: روى ابْن حبَان وَغَيره عَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: (من فَاتَتْهُ الصَّلَاة فَكَأَنَّمَا وتر أَهله وَمَاله) . وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا يَشْمَل جَمِيع الصَّلَوَات المكتوبات، وَلَكِن روى الطَّبَرَانِيّ هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الْبَاب من وَجه آخر، وَزَاد فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ: (قلت لأبي بكر يَعْنِي ابْن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ الَّذِي حَدثهُ بِهِ مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: الْعَصْر) . رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة من وَجه آخر، فَصرحَ بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي نفس الْخَبَر، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر فصرحا بِكَوْنِهَا الْعَصْر فِي نفس الْخَبَر، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر، وَفِيه: إِن التَّفْسِير من قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَاعْترض ابْن الْمُنِير على قَول الْمُهلب الْمَذْكُور عَن قريب بِأَن الْفجْر أَيْضا فِيهَا شُهُود الْمَلَائِكَة الليلية والنهارية، فَلَا يخْتَص الْعَصْر بذلك. قَالَ: وَالْحق أَن الله تَعَالَى يخص مَا شَاءَ من الصَّلَوَات بِمَا شَاءَ من الْفَضِيلَة. وَبَوَّبَ التِّرْمِذِيّ على حَدِيث الْبَاب مَا جَاءَ فِي السَّهْو عَن وَقت الْعَصْر فَحَمله على الساهي. قلت: لَا تطابق بَين تَرْجَمته وَبَين الحَدِيث، فَإِن لفظ الحَدِيث: الَّذِي تفوته، أَعم من أَن يكون سَاهِيا أَو عَامِدًا، وتخصيصه بالساهي لَا وَجه لَهُ، بل الْقَرِينَة دَالَّة على أَن المُرَاد بِهَذَا الْوَعيد فِي الْعَامِد دون الساهي.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله يَتِرُكُمْ أعْمَالُكُمْ وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذَا قَتَلْتُ لَهُ قَتِيلاً أوْ أخَذْتُ لَهُ مَالا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن لَفْظَة: يتركم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يتركم} (مُحَمَّد: 35) . أَنه مُتَعَدٍّ إِلَى مفعولين، وَهَذَا يُؤَيّد نصب اللاَّمين فِي الحَدِيث، وَأَشَارَ بقوله (وترت الرجل) ، إِلَى أَنه يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وَهُوَ يُؤَيّد رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
15 - (بابُ إثْمِ مَنْ تَرَكَ العَصْرَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من ترك صَلَاة الْعَصْر. قيل: لَا فَائِدَة فِي هَذَا التَّبْوِيب لِأَن الْبَاب السَّابِق يُغني عَنهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر حَدِيث هَذَا الْبَاب فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَن كلا مِنْهُمَا فِي الْوَعيد، قلت: بَينهمَا فرق دَقِيق، وَهُوَ أَنهم قد اخْتلفُوا فِي المُرَاد من معنى التفويت على مَا ذكرنَا، وَالتّرْك لَا خلاف فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: إِذا كَانَ عَامِدًا.
553 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ عنْ أبِي قِلاَبَةَ عنْ أبي المَلِيحِ قالَ كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ بِكِّرُوا بِصَلاَةِ العَصْرِ فَإِنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. ((الحَدِيث 553 طرفه فِي: 594) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الحَدِيث يتَضَمَّن حَبط الْعَمَل عِنْد التّرْك، والترجمة فِي إِثْم التّرْك.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُسلم بن ابراهيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي الْبَصْرِيّ القصاب، يكنى أَبَا عَمْرو. الثَّانِي: هِشَام بن عبد الله الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى ابْن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الحرمي. الْخَامِس: أَبُو الْمليح، بِفَتْح الْمِيم وَكسر اللَّام وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: واسْمه عَامر بن أُسَامَة الْهُذلِيّ، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين. السَّادِس: بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن الْحصيب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: الْأَسْلَمِيّ، رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا ثَلَاث، مَاتَ غازيا بمرو، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بخراسان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ.(5/39)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع بِاتِّفَاق الروَاة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع عَن هِشَام عِنْد أبي ذَر، وَعند غَيره. أخبرنَا بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع عَن يحيى عِنْد أبي ذَر، وَعند غَيره: حَدثنَا. وَفِيه: العنعنة عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمليح، وَعند ابْن خُزَيْمَة: من طَرِيق أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن هِشَام عَن يحيى: أَن أَبَا قلَابَة حَدثهُ، وَعند البُخَارِيّ فِي بَاب التبكير بِالصَّلَاةِ فِي يَوْم الْغَيْم: عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى عَن أبي قلَابَة: أَن أَبَا الْمليح حَدثهُ. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على الْوَلَاء. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن معَاذ بن فضَالة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى عَن هِشَام بِهِ. وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه وَابْن حبَان من حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي قلَابَة عَن أبي المُهَاجر عَنهُ، قَالَ ابْن حبَان: وهم الْأَوْزَاعِيّ فِي تصحيفه عَن يحيى، فَقَالَ: عَن أبي المُهَاجر، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو الْمُهلب عَم أبي قلَابَة عَن عَمه عَنهُ، على الصَّوَاب. وَاعْترض عَلَيْهِ الضياء الْمَقْدِسِي، فَقَالَ: الصَّوَاب أَبُو الْمليح عَن أبي بُرَيْدَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ذِي غيم) ، صفة يَوْم وَمحل: (فِي غَزْوَة) و: (فِي يَوْم) نصب على الْحَال، وَإِنَّمَا خص يَوْم الْغَيْم لِأَنَّهُ مَظَنَّة التَّأْخِير، لِأَنَّهُ رُبمَا يشْتَبه عَلَيْهِ فَيخرج الْوَقْت بغروب الشَّمْس. قَوْله: (بَكرُوا) أَي: أَسْرعُوا وعجلوا وَبَادرُوا وكل من بَادر إِلَى الشَّيْء فقد بكر، وأبكر إِلَيْهِ أَي وَقت كَانَ، يُقَال: بَكرُوا بِصَلَاة الْمغرب أَي: صلوها عِنْد سُقُوط القرص. قَوْله: (من ترك) كلمة من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَخَبره: (فقد حَبط عمله) . وَدخُول: الْفَاء، فِيهِ لأجل تضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط. و: حَبط، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: بَطل، يُقَال: حَبط يحبط من بَاب: علم يعلم، يُقَال: حَبط عمله وأحبطه غَيره، وَهُوَ من قَوْلهم: حبطت الدَّابَّة حَبطًا بِالتَّحْرِيكِ إِذا أَصَابَت مرعى طيبا، فأفرطت فِي الْأكل حَتَّى تنتفخ فتموت، وَزَاد معمر فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث لفظ: مُتَعَمدا، وَكَذَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء. وَفِي رِوَايَة معمر: (أحبط الله عمله) ، وَسقط من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لفظ: فقد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا على أَن الْمُسْتَحبّ تَعْجِيل الْعَصْر يَوْم الْغَيْم. الثَّانِي: احْتج بِهِ الْخَوَارِج على تَكْفِير أهل الْمعاصِي، قَالُوا: وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} (الْمَائِدَة: 5) . ورد عَلَيْهِم أَبُو عمر بِأَن مَفْهُوم الْآيَة أَن من لم يكفر بِالْإِيمَان لم يحبط عمله، فيتعارض مَفْهُوم الْآيَة ومنطوق الحَدِيث، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يتَعَيَّن تَأْوِيل الحَدِيث، لِأَن الْجمع إِذا كَانَ مُمكنا كَانَ أولى من التَّرْجِيح، وَنَذْكُر عَن قريب وَجه الْجمع، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: احْتج بِهِ بعض الْحَنَابِلَة: أَن تَارِك الصَّلَاة يكفر، ورد بِأَن ظَاهره مَتْرُوك، وَالْمرَاد بِهِ التَّغْلِيظ والتهديد، وَالْكفْر ضد الْإِيمَان وتارك الصَّلَاة لَا يَنْفِي عَنهُ الْإِيمَان، وَأَيْضًا لَو كَانَ الْأَمر كَمَا قَالُوا لما اخْتصّت الْعَصْر بذلك. وَأما وَجه اخْتِصَاص الْعَصْر بذلك فَلِأَنَّهُ وَقت ارْتِفَاع الْأَعْمَال، وَوقت اشْتِغَال النَّاس بِالْبيعِ وَالشِّرَاء فِي هَذَا الْوَقْت بِأَكْثَرَ من وَقت غَيره، وَوقت نزُول مَلَائِكَة اللَّيْل. وَأما وَجه الْجمع فَهُوَ أَن الْجُمْهُور تأولوا الحَدِيث فافترقوا على فرق: فَمنهمْ من أول سَبَب التّرْك فَقَالُوا: المُرَاد من تَركهَا جاحدا لوُجُوبهَا، أَو معترفا لَكِن مستخفا مستهزئا بِمن أَقَامَهَا، وَفِيه نظر، لِأَن الَّذِي فهمه الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِنَّمَا هُوَ التَّفْرِيط، وَلِهَذَا أَمر بالتبكير والمبادرة إِلَيْهَا وفهمه أولى من فهم غَيره. وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد بِهِ من تَركهَا متكاسلاً، لَكِن خرج الْوَعيد مخرج الزّجر الشَّديد، وَظَاهره غير مُرَاد كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمن) . وَمِنْهُم من أول سَبَب الحبط، فَقيل: هُوَ من مجَاز التَّشْبِيه، كَأَن الْمَعْنى: فقد أشبه من حَبط عمله. قيل: مَعْنَاهُ كَاد أَن يحبط، وَقيل: المُرَاد من الحبط نُقْصَان الْعَمَل فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي ترفع فِيهِ الْأَعْمَال إِلَى الله تَعَالَى، وَكَانَ المُرَاد بِالْعَمَلِ الصَّلَاة خَاصَّة أَي: لَا يحصل على أجر من صلى الْعَصْر، وَلَا يرْتَفع لَهُ عَملهَا حِينَئِذٍ، وَقيل: المُرَاد بالحبط الْإِبْطَال، أَي: بَطل انتفاعه بِعَمَلِهِ فِي وَقت ينْتَفع بِهِ غَيره فِي ذَلِك الْوَقْت. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) ذكر أَن الحبط على قسمَيْنِ: حَبط إِسْقَاط وَهُوَ: إحباط الْكفْر للْإيمَان وَجَمِيع الْحَسَنَات، وحبط موازنة وَهُوَ: إحباط الْمعاصِي للِانْتِفَاع بِالْحَسَنَاتِ عِنْد رُجْحَانهَا عَلَيْهَا إِلَى أَن تحصل النجَاة، فَيرجع إِلَيْهِ جَزَاء حَسَنَاته. وَقيل: المُرَاد بِالْعَمَلِ فِي الحَدِيث الْعَمَل الَّذِي كَانَ سَببا لترك الصَّلَاة، بِمَعْنى أَنه: لَا ينْتَفع بِهِ وَلَا يتمتع وَأقرب الْوُجُوه فِي هَذَا مَا قَالَه ابْن بزيزة: إِن هَذَا على وَجه التَّغْلِيظ، وَإِن ظَاهره غير مُرَاد، وَالله تَعَالَى أعلم، لِأَن الْأَعْمَال لَا يحبطها إلاَّ الشّرك.
16 -(5/40)
(بابُ فَضْلِ صَلاَةِ العَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعَصْر. والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة.
554 - حدَّثنا الحُمَيْدِي قَالَ حدَّثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ قَيْسٍ عنْ جَرِير قَالَ كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي البَدْرَ فَقَالَ إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لاَ تُغْلَوْا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فافْعَلُوا ثمَّ قَرَأَ وَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ. قالَ إسْمَاعِيلُ افْعَلوا لاَ تَفُوتَنَّكُمْ. . [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَقبل غُرُوبهَا) ، أَي: قبل غرُوب الشَّمْس، وَالصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت هِيَ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو قَالَ: بَاب فضل الصَّلَاة الْفجْر وَالْعصر لَكَانَ أولى، لِأَن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَالْآيَة صَلَاة الْفجْر وَالْعصر كلتاهما. وَقَالَ بَعضهم: بَاب فضل صَلَاة الْعَصْر، أَي: على جَمِيع الصَّلَوَات، إلاَّ قلت هَذَا التَّقْدِير الْمَذْكُور فِي الحَدِيث فِيهِ تعسف، وَلِأَن جَمِيع الصَّلَوَات مُشْتَركَة فِي الْفضل غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن لصلاتي الْفجْر وَالْعصر مزية على غَيرهمَا، وَإِنَّمَا خصص الْعَصْر بِالذكر للاكتفاء، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (لنحل: 81) . أَي: وَالْبرد أَيْضا. وَقيل: إِنَّمَا خص الْعَصْر لِأَن فِي وقته ترْتَفع الْأَعْمَال وَتشهد فِيهِ مَلَائِكَة اللَّيْل، وَلِهَذَا ذكر فِي الحَدِيث: (فَإِن اسْتَطَعْتُم) . الحَدِيث. قلت: وَفِي الْفجْر أَيْضا تشهد فِيهِ مَلَائِكَة النَّهَار، وَالْأَوْجه فِي الْجَواب مَا ذكرته الْآن. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن الْعَصْر ذَات فَضِيلَة لَا ذَات أَفضَلِيَّة. قلت: كل الصَّلَوَات ذَوَات فَضِيلَة، والترجمة أَيْضا تنبىء عَن ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: واسْمه عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبد الله بن الزبير بن عبد الله بن حميد، ونسبته إِلَى جده: حميد الْقرشِي الْمَكِّيّ، مَاتَ سنة تسع عشرَة وماتين. الثَّانِي: مَرْوَان بن مُعَاوِيَة بن الْحَارِث الْفَزارِيّ، مَاتَ بِدِمَشْق سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة، قبل التَّرويَة بِيَوْم فجاة. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة. الْخَامِس: جُبَير بن عبد الله بن جَابر البَجلِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل، وَوَقع عِنْد أبي مرْدَوَيْه من طَرِيق شُعْبَة عَن إِسْمَاعِيل التَّصْرِيح بِسَمَاع إِسْمَاعِيل من قيس، وَسَمَاع قيس عَن جرير. وَفِيه: ذكر الْحميدِي بنسبته إِلَى أحد أجداده، وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وكوفي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهما: إِسْمَاعِيل وَقيس. وَفِيه: أَن أحد الروَاة من المخضرمين، وَهُوَ: قيس، فَإِنَّهُ قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد فِي الصَّلَاة أَيْضا وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير، وَفِي التَّوْحِيد عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد وهشيم وَعَن يُوسُف ابْن مُوسَى عَن عَاصِم وَعَن عَبدة بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مَرْوَان بِهِ وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير وَأبي اسامة ووكيع ثَلَاثَتهمْ عَن اسماعيل بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان بن ابي شيبَة عَن جرير ووكيع وَأبي أُسَامَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يحيى بن كثير وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه ووكيع وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن خَالِد ويعلى بن عبيد ووكيع وَأبي مُعَاوِيَة، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَيْلَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه من بَاب تنَازع الْفِعْلَيْنِ عَلَيْهِ. قلت: الظَّاهِر أَن: لَيْلَة، نصب على الظَّرْفِيَّة، وَالتَّقْدِير: نظر إِلَى الْقَمَر فِي لَيْلَة من اللَّيَالِي، وَهَذِه اللَّيْلَة كَانَت لَيْلَة الْبَدْر. وَبِه صرح فِي رِوَايَة مُسلم، وَسَنذكر اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ. قَوْله: (لَا تضَامون) ، رُوِيَ بِضَم التَّاء وبتخفيف الْمِيم: من الضيم، وَهُوَ التَّعَب، وبتشديدها من: الضَّم.(5/41)
وبفتح التَّاء وَتَشْديد الْمِيم، قَالَ الْخطابِيّ: يرْوى على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَفْتُوحَة التَّاء مُشَدّدَة الْمِيم، وَأَصله: تتضامون، حذفت إِحْدَى التائين، أَي: لَا يضام بَعْضكُم بَعْضًا كَمَا تَفْعَلهُ النَّاس فِي طلب الشَّيْء الْخَفي الَّذِي لَا يسهل دركه فيتزاحمون عِنْده، يُرِيد أَن كل وَاحِد مِنْهُم وادع مَكَانَهُ لَا ينازعه فِي رُؤْيَته أحد. وَالْآخر: لَا تضَامون من: الضيم، أَي: لَا يضيم بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته. وَقَالَ التَّيْمِيّ: لَا تضَامون، بتَشْديد الْمِيم، مُرَاده: أَنكُمْ لَا تختلفون إِلَى بعض فِيهِ حَتَّى تجتمعوا للنَّظَر، وينضم بَعْضكُم إِلَى بعض فَيَقُول وَاحِد: هُوَ ذَاك، وَيَقُول الآخر: لَيْسَ ذَاك، كَمَا تَفْعَلهُ النَّاس عِنْد النّظر إِلَى الْهلَال أول الشَّهْر، وبتخفيفها، مَعْنَاهُ: لَا يضيم بَعْضكُم بَعْضًا بِأَن يَدْفَعهُ عَنهُ أَو يستأثر بِهِ دونه. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا يَقع لكم فِي الرُّؤْيَة ضيم وَهُوَ الذل، وَأَصله: تضيمون فالقيت حَرَكَة الْيَاء على الضَّاد فَصَارَت الْيَاء ألفا لانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا تضَامون، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْمِيم، وَعَلِيهِ أَكثر الروَاة، وَالْمعْنَى لَا ينالكم ضيم، والضيم أَصله: الظُّلم، وَهَذَا الضيم يلْحق الرَّائِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا من مزاحمة الناظرين لَهُ، أَي: لَا تزدحمون فِي رُؤْيَته فيراه بَعْضكُم دون بعض، وَلَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا. وَالثَّانِي: من تَأَخره عَن مقَام النَّاظر الْمُحَقق، فَكَأَن الْمُتَقَدِّمين ضاموه، ورؤية الله عز وَجل يَسْتَوِي فِيهَا الْكل، فَلَا ضيم وَلَا ضَرَر وَلَا مشقة. وَفِي رِوَايَة: (لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون) . يَعْنِي: على الشَّك، أَي: لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وترتابون فيعارض بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته. وَقيل: لَا تشبهونه فِي رُؤْيَته بِغَيْرِهِ من المرئيات. وَرُوِيَ: (تضَارونَ) ، بالراء الْمُشَدّدَة وَالتَّاء مَفْتُوحَة ومضمومة. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُمَا لَا تتضارون أَي: لَا يضار بَعْضكُم بَعْضًا فِي رُؤْيَته بالمخالفة. وَعَن ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ تتفاعلون من الضرار، أَي: لَا تتنازعون وتختلفون. وَرُوِيَ إيضا: لَا تضَارونَ، بِضَم التَّاء وَتَخْفِيف الرَّاء، أَي: لَا يَقع للمرء فِي رُؤْيَته ضير مَا بالمخالفة أَو الْمُنَازعَة أَو الخفأ. وَرُوِيَ: تمارون، برَاء مُخَفّفَة يَعْنِي: تجادلون أَي لَا يدخلكم شكّ قَوْله (فان اسْتَطَعْتُم ان لَا تغلبُوا) بِلَفْظ الْمَجْهُول وَكلمَة ان مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير ان لاتغلبوا أَي: من الْغَلَبَة بِالنَّوْمِ والاشتغال بِشَيْء من الْأَشْيَاء الْمَانِعَة عَن الصَّلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس، وَقبل غُرُوبهَا قَوْله: (فافعلوا) أَي: الصَّلَاة فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، وَزَاد مُسلم بعد قَوْله: قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا يَعْنِي الْعَصْر وَالْفَجْر وَفِي رِوَايَة ابْن مردوية من وَجه آخر عَن اسماعيل (قبل طُلُوع الشَّمْس صَلَاة الصُّبْح، وَقبل غُرُوبهَا صَلَاة الْعَصْر) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِلَفْظ: إفعلوا؟ إِذْ لَا يَصح أَن يُرَاد إفعلوا الِاسْتِطَاعَة، أَو إفعلوا عدم المغلوبية؟ قلت: عدم المغلوبية كِنَايَة عَن الْإِتْيَان بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَازم الْإِتْيَان، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأتوا بِالصَّلَاةِ فاعلين لَهَا. انْتهى. قلت: لَو وَقدر مفعول: إفعلوا، مثل مَا قَدرنَا لَكَانَ اسْتغنى عَن هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) لم يبين فَاعل: قَرَأَ، من هُوَ فِي جَمِيع رِوَايَات البُخَارِيّ. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هَذَا تخمين وحسبان. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي شَرحه: لم يبين أحد فِي رِوَايَته من قَرَأَ، ثمَّ سَاق من طَرِيق أبي نعيم فِي (مستخرجه) أَن جَرِيرًا قَرَأَهُ. قلت: وَقع عِنْد مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة بِإِسْنَاد هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَرَأَ جرير، أَي الصَّحَابِيّ. وَكَذَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من طَرِيق يعلى بن عبيد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، فالعجب من الشَّيْخ قطب الدّين كَيفَ ذهل عَن عُرْوَة إِلَى مُسلم. قَوْله: (فسبح) التِّلَاوَة، وَسبح: بِالْوَاو، لَا: بِالْفَاءِ، المُرَاد بالتسبيح: الصَّلَاة. قَوْله: (افعلوا) ، أَي: افعلوا هَذِه الصَّلَاة لَا تفوتكم، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الصَّلَاة، وَهُوَ بنُون التَّأْكِيد، وَهُوَ مدرج من كَلَام إِسْمَاعِيل، كَذَلِك ثمَّ قَرَأَ مدرج.
ذكر الرِّوَايَات فِي قَوْله: (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته) ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (إِذْ نظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ: أما أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا، لَا تضَامون، أَو لَا تضاهون فِي رُؤْيَته) . وَفِي كتاب التَّوْحِيد: (أَنكُمْ سَتَرَوْنَ ربكُم عيَانًا) . وَفِي التَّفْسِير: (فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة) ، وَعَن اللالكائي عَن البُخَارِيّ: (أَنكُمْ ستعرضون على ربكُم وترونه كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: وَقَالَ زيد بن أبي أنيسَة: (فتنظرون إِلَيْهِ كَمَا تنْظرُون إِلَى هَذَا الْقَمَر) ، وَقَالَ وَكِيع: (ستعاينون) ، وَسَيَأْتِي عِنْد البُخَارِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد: (هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس فِي الظهيرة لَيست فِي سَحَابَة؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ فِيهِ سَحَابَة؟) . قَالُوا: لَا. قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته إِلَّا كَمَا تضَارونَ فِي رُؤْيَة أَحدهمَا) . وَعَن أبي مُوسَى عِنْده بِنَحْوِهِ، وَعَن أبي رزين الْعقيلِيّ: (قلت: يَا رَسُول الله أكلنَا يرى ربه منجليا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؟ . قَالَ: نعم. قَالَ: وَمَا آيَة ذَلِك فِي خلقه؟ قَالَ: يَا أَبَا رزين، أَلَيْسَ كلكُمْ يرى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر منجليا بِهِ؟ قَالَ:(5/42)
فَالله أعظم وَأجل، وَذَلِكَ آيَة فِي خلقه) . وَعند ابْن مَاجَه عَن جَابر: (بَينا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور فَرفعُوا رؤوسهم فَإِذا الرب قد أشرف عَلَيْهِم، فَينْظر إِلَيْهِم وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) . وَعَن صُهَيْب عِنْد مُسلم، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: (فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فوَاللَّه مَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَيْهِ) . وَفِي (سنَن اللالكائي) : عَن أنس وَأبي بن كَعْب وَكَعب بن عجْرَة: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الزِّيَادَة فِي كتاب الله تَعَالَى، قَالَ: النّظر إِلَى وَجهه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه. الأول: اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث وَبِالْقُرْآنِ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على إِثْبَات رُؤْيَة الله فِي الْآخِرَة للْمُؤْمِنين، وَقد روى أَحَادِيث الرُّؤْيَة أَكثر من عشْرين صحابيا، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: روى رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ لرَبهم عز وَجل فِي الْقِيَامَة: أَبُو بكر وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَابْن مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَحُذَيْفَة وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَأنس وعمار بن يَاسر وَزيد بن ثَابت وَعبادَة بن الصَّامِت وَبُرَيْدَة بن حصيب وجنادة بن أبي أُميَّة وفضالة بن عبيد وَرجل لَهُ صُحْبَة بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ذكر أَحَادِيثهم بأسانيد غالبها جيد، وَذكر أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي (كتاب تثبيت النّظر) أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَعمارَة بن رؤيبة وَأَبا رزين الْعقيلِيّ وَأَبا بَرزَة. وَزَاد الْآجُرِيّ فِي (كتاب الشَّرِيعَة) وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِأبي الشَّيْخ فِي (كتاب السّنة الْوَاضِحَة) تأليفهما: عدي بن حَاتِم الطَّائِي بِسَنَد جيد، والرؤية مُخْتَصَّة بِالْمُؤْمِنِينَ مَمْنُوعَة من الْكفَّار. وَقيل: يرَاهُ مُنَافِقُو هَذِه الْأمة، وَهَذَا ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَن الْمُنَافِقين كالكفار بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَعَن ابْن عمر وَحُذَيْفَة: من أهل الْجنَّة من ينظر إِلَى وَجهه غدْوَة وَعَشِيَّة.
وَمنع من ذَلِك الْمُعْتَزلَة والخوارج وَبَعض المرجئة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوه: الأول: قَوْله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) . وَقَالُوا: يلْزم من نفي الْإِدْرَاك بالبصر نفي الرُّؤْيَة. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . و: لن، للتأييد بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {قل لن تتبعونا} (الْفَتْح: 15) . وَإِذا ثَبت فِي حق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عدم الرُّؤْيَة ثَبت فِي حق غَيره، الثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} (الشورى: 51) . فالآية دلّت على أَن كل من يتَكَلَّم الله مَعَه فَإِنَّهُ لَا يرَاهُ، فَإِذا ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي وَقت الْكَلَام ثَبت فِي غير وَقت الْكَلَام ضَرُورَة، أَنه لَا قَائِل بِالْفَصْلِ. الرَّابِع: أَن الله تَعَالَى مَا ذكر فِي طلب الرُّؤْيَة فِي الْقُرْآن إلاَّ وَقد استعظمه وذم عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي آيَات: مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون} (الْبَقَرَة: 55) . الْخَامِس: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى لرأيناه الْآن، والتالي بَاطِل، والمقدم مثله.
وَلأَهل السّنة مَا ذَكرْنَاهُ من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} (الْقِيَامَة: 22) . وَقَوله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} (المطففين: 55) .، بِهَذَا يدل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يكونُونَ محجوبين، وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى: لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) . أَن المُرَاد من الْإِدْرَاك الْإِحَاطَة، وَنحن أَيْضا نقُول بِهِ، وَعَن قَوْله: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . أَنا لَا نسلم أَن: لن، تدل على التَّأْبِيد، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة: 95) . مَعَ أَنهم يتمنونه فِي الْآخِرَة. وَعَن قَوْله: {وَمَا كَانَ لبشر} (الشورى: 51) . الْآيَة أَن الْوَحْي كَلَام يسمع بالسرعة، وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على كَون الْمُتَكَلّم محجوبا عَن نظر السَّامع أَو غير مَحْجُوب عَن نظره، وَعَن قَوْله: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} (الْبَقَرَة: 55) . الْآيَة أَن الاستعظام لِمَ لَا يجوز أَن يكون لأجل طَلَبهمْ الرُّؤْيَة على سَبِيل التعنت والعناد؟ بِدَلِيل الاستعظام فِي نزُول الْمَلَائِكَة فِي قَوْله: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة} (الْفرْقَان: 21) . وَلَا نزاع فِي جَوَاز ذَلِك، وَالْجَوَاب عَن قَوْلهم: لَو صحت رُؤْيَة الله تَعَالَى ... إِلَخ أَن عدم الْوُقُوع لَا يسْتَلْزم عدم الْجَوَاز، فَإِن قَالُوا: الرُّؤْيَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِثمَانِيَة أَشْيَاء: سَلامَة الحاسة، وَكَون الشَّيْء بِحَيْثُ يكون جَائِز الرُّؤْيَة، وَأَن يكون المرئي مُقَابلا للرائي، أَو فِي حكم الْمُقَابل، فَالْأول كالجسم المحاذي للرائي وَالثَّانِي كالأعراض المرئية، فَإِنَّهَا لَيست مُقَابلَة للرائي إِذْ الْعرض لَا يكون مُقَابلا للجسم، وَلكنهَا حَالَة فِي الْجِسْم الْمُقَابل للرائي فَكَانَ فِي حكم الْمُقَابل، وَأَن لَا يكون المرئي فِي غَايَة الْقرب وَلَا فِي غَايَة الْبعد، وَأَن لَا يكون فِي غَايَة الصغر وَلَا فِي غَايَة اللطافة، وَأَن لَا يكون بَين الرَّائِي والمرئي حجاب. قُلْنَا: الشَّرَائِط السِّتَّة الْأَخِيرَة لَا يُمكن اعْتِبَارهَا إلاَّ فِي رُؤْيَة الْأَجْسَام، وَالله تَعَالَى لَيْسَ بجسم، فَلَا يُمكن اعْتِبَار هَذِه الشَّرَائِط فِي رُؤْيَته، وَلَا يعْتَبر فِي حُصُول الرُّؤْيَة إلاَّ أَمْرَانِ: سَلامَة الحاسة، وَكَونه بِحَيْثُ يَصح أَن يرى، وَهَذَانِ الشرطان حاصلان. فَإِن قلت: الْكَاف، فِي: كَمَا ترَوْنَ، للتشبيه، وَلَا بُد أَن تكون مُنَاسبَة بَين الرَّائِي والمرئي؟ قلت: معنى التَّشْبِيه فِيهِ أَنكُمْ تَرَوْنَهُ رُؤْيَة مُحَققَة لَا شكّ فِيهَا وَلَا مشقة وَلَا خَفَاء، كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر(5/43)
كَذَلِك فَهُوَ تَشْبِيه للرؤية بِالرُّؤْيَةِ لَا المرئي بالمرئي.
الْوَجْه الثَّانِي: فِيهِ زِيَادَة شرف الصَّلَاتَيْنِ، وَذَلِكَ لتعاقب الْمَلَائِكَة فِي وقتيهما، وَلِأَن وَقت صَلَاة الصُّبْح وَقت لَذَّة النّوم كَمَا قيل:
(ألذ الْكرَى عِنْد الصَّباح يطيب)
وَالْقِيَام فِيهِ أشق على النَّفس من الْقيام فِي غَيره، وَصَلَاة الْعَصْر وَقت الْفَرَاغ عَن الصناعات وإتمام الْوَظَائِف، وَالْمُسلم إِذا حَافظ عَلَيْهَا مَعَ مَا فِيهِ من التثاقل والتشاغل فَلِأَن يحافظ على غَيرهَا بِالطَّرِيقِ الأولى.
الْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ إِن قَوْله: (إفعلوا) ، يدل على أَن الرُّؤْيَة قد يُرْجَى نيلها بالمحافظة على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ.
555 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُف قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أَبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) وَقد ذكرنَا أَن اقْتِصَاره فِي التَّرْجَمَة على الْعَصْر من بَاب الإكتفاء.
1 - ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَقد ذكرُوا غير مرّة، وَأبي الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن ابْن هُرْمُز.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله بن يُوسُف فَإِنَّهُ تنيسي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل وقتيبة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْبعُوث عَن قُتَيْبَة وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم، الْكل عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة) فَاعل: يتعاقبون، مُضْمر وَالتَّقْدِير: مَلَائِكَة يتعاقبون. وَقَوله: (مَلَائِكَة) بدل من الضَّمِير الَّذِي فِيهِ، إو بَيَان كَأَنَّهُ قيل: من هم؟ فَقيل: مَلَائِكَة. وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِيهِ وَفِي نَظَائِره، وَقَالَ الْأَخْفَش وَمن تَابعه: إِن إِظْهَار ضمير الْجمع والتثنية فِي الْفِعْل إِذا تقدم جَائِز، وَهِي لُغَة بني الْحَارِث. وَقَالُوا: هُوَ نَحْو: أكلوني البراغيث. وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} (الْأَنْبِيَاء: 3) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذِه لُغَة فَاشِية وَلها وَجه فِي الْقيَاس صَحِيح، وَعَلَيْهَا حمل الْأَخْفَش قَوْله تَعَالَى: {وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} (الْأَنْبِيَاء: 3) . وَقيل: هَذَا الطَّرِيق الْمَذْكُور هُنَا اخْتَصَرَهُ الرَّاوِي، وَأَصله: الْمَلَائِكَة يتعاقبون مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ، وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق من طَرِيق شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن أبي الزِّنَاد: (إِن الْمَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم) . فَاخْتلف فِيهِ عَن أبي الزِّنَاد. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: (إِن الْمَلَائِكَة يتعاقبون فِيكُم) . فَاخْتلف فِيهِ على أبي الزِّنَاد فَالظَّاهِر أَنه كَانَ تَارَة يذكرهُ هَكَذَا، وَتارَة هَكَذَا، وَهَذَا يُقَوي قَول هَذَا الْقَائِل، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن غير الْأَعْرَج من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة قد رَوَوْهُ تَاما، فَأخْرجهُ أَحْمد وَمُسلم من طَرِيق همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة مثل رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، لَكِن بِحَذْف: إِن، من أَوله. وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة والسراج من طَرِيق أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِن لله مَلَائِكَة يتعاقبون) ، وَهَذِه الطَّرِيقَة أخرجهَا الْبَزَّار أَيْضا. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق أبي يُونُس عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِن لله مَلَائِكَة فِيكُم يتعاقبون) . وَمعنى: يتعاقبون، تَأتي طَائِفَة عقيب طَائِفَة، وَمِنْه: تعقيب الجيوش، وَهُوَ أَن يذهب قوم وَيَأْتِي آخَرُونَ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَإِنَّمَا يكون التَّعَاقُب بَين طائفتين أَو رجلَيْنِ بِأَن يَأْتِي هَذَا مرّة ويعقبه هَذَا، وَمِنْه: تعقيب الجيوش، أَن يُجهز الْأَمِير بعثا إِلَى مُدَّة، ثمَّ يَأْذَن لَهُم فِي الرُّجُوع بعد أَن يُجهز غَيرهم إِلَى مُدَّة، ثمَّ يَأْذَن لَهُم فِي الرُّجُوع بعد أَن يُجهز الْأَوَّلين فَإِن قلت: مَا وَجه تَكْرِير تنكيره مَلَائِكَة؟ قلت: ليدل على أَن الثَّانِيَة غير الأولى. كَقَوْلِه تَعَالَى: {غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ: 12) . وَأما الْمَلَائِكَة فَعِنْدَ أَكثر الْعلمَاء هم الْحفظَة، فسؤاله لَهُم إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَمَّا أَمرهم بِهِ من حفظهم(5/44)
لأعمالهم وكتبهم إِيَّاهَا عَلَيْهِم.
وَقَالَ عِيَاض، رَحمَه الله: وَقيل: يحْتَمل أَن يَكُونُوا غير الْحفظَة، فسؤاله لَهُم إِنَّمَا هُوَ على جِهَة التوبيخ لمن قَالَ: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 30) . وَإنَّهُ اظهر لَهُم مَا سبق فِي علمه بقوله (اني اعْلَم مَا لَا تعلمُونَ) وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذِه حِكْمَة اجْتِمَاعهم فِي هَاتين الصَّلَاتَيْنِ، أَو يكون سُؤَاله لَهُم استدعاءً لشهادتهم لَهُم، وَلذَلِك قَالُوا: (أتيناهم وهم يصلونَ وتركناهم وهم يصلونَ) . وَهَذَا من خَفِي لطفه وَجَمِيل ستره، إِذا لم يطلعهم إلاَّ على حَال عِبَادَتهم، وَلم يطلعهم على حَالَة شهواتهم وَمَا يشبهها. انْتهى. هَذَا الَّذِي قَالَه يُعْطي أَنهم غير الْحفظَة، لِأَن الْحفظَة يطلعون على أَحْوَالهم كلهَا، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن تكون الْحفظَة غير الْكَاتِبين، فَيتَّجه مَا قَالَه. وَالظَّاهِر أَنهم غَيرهمَا، لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث: (إِذا مَاتَ العَبْد جلس كاتباه عِنْد قَبره يستغفران لَهُ ويصليان عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . يُوضحهُ مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر بِسَنَد لَهُ عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله عَن أَبِيه أَنه كَانَ يَقُول: (يتداول الحارسان من مَلَائِكَة الله تَعَالَى: حارس اللَّيْل وحارس النَّهَار، عِنْد طُلُوع الْفجْر) . وَعَن الضَّحَّاك فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآن الْفجْر} (الْإِسْرَاء: 78) . قَالَ: (تشهد مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار يشْهدُونَ أَعمال بني آدم) . وَفِي تَفْسِير ابْن أبي حَاتِم: تشهده الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ.
قَوْله: (ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) اجْتِمَاعهم فِي هَاتين الصَّلَاتَيْنِ لطف من الله تَعَالَى بعباده الْمُؤمنِينَ، إِذْ جعل اجْتِمَاعهم عِنْدهم ومفارقتهم لَهُم فِي أَوْقَات عِبَادَتهم، واجتماعهم على طَاعَة رَبهم، فَتكون شَهَادَتهم لَهُم بِمَا شاهدوه من الْخَيْر. وَقَالَ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : فِيهِ بَيَان أَن مَلَائِكَة اللَّيْل تنزل وَالنَّاس فِي صَلَاة الْعَصْر، وَحِينَئِذٍ تصعد مَلَائِكَة النَّهَار، وَهَذَا ضد قَول من زعم: أَن مَلَائِكَة اللَّيْل تنزل بعد غرُوب الشَّمْس. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَاتين الصَّلَاتَيْنِ عِنْد ذكر الرُّؤْيَة (؟ قلت: لما ثَبت لَهما من الْفضل على غَيرهمَا من اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة فيهمَا وَرفع الْأَعْمَال وَغير ذَلِك، ناسب أَن يجازي المحافظ عَلَيْهِمَا بِأَفْضَل العطايا، وَهُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى. وَالله أعلم. فَإِن قلت: التَّعَاقُب مُغَاير للاجتماع فَيكون بَين قَوْله: (يتعاقبون) ، وَبَين قَوْله: (يَجْتَمعُونَ) مُنَافَاة؟ قلت: كل مِنْهُمَا فِي حَالَة، فَلَا مُنَافَاة. فَإِن قلت: شهودهم مَعَهم الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة أم مُطلقًا؟ قلت: اللَّفْظ يحْتَمل للْجَمَاعَة وَغَيرهم، وَلَكِن الظَّاهِر أَن ذَلِك فِي الْجَمَاعَة. قَوْله: (ثمَّ يعرج) ، من: عرج يعرج عروجا، من بَاب: نصر ينصر: والعروج: الصعُود، وَيُقَال: عرج يعرج عرجانا إِذا عجز عَن شَيْء أَصَابَهُ، وعرج يعرج عرجا: إِذا صَار أعرج أَو كَانَ خلقه فِيهِ، وعرج بِالتَّشْدِيدِ تعريجا: إِذا قَامَ. قَوْله: (الَّذين باتوا فِيكُم) ، الْخطاب فِيهِ وَفِي قَوْله: (يتعاقبون فِيكُم) ، للمصلين. وَقَالَ بَعضهم: أَي: الْمُصَلِّين أَو مُطلق الْمُؤمنِينَ قلت: لَا يَصح أَن يكون مُطلق الْمُؤمنِينَ، لِأَن هَذِه الْفَضِيلَة للمصلين، وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله: (يَجْتَمعُونَ فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه التَّخْصِيص بالذين باتوا وَترك الَّذين ظلوا؟ قلت: إِمَّا للاكتفاء بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 81) . وَإِمَّا لِأَن اللَّيْل مَظَنَّة الْمعْصِيَة ومظنة الاسْتِرَاحَة، فَلَمَّا لم يعصوا وَاشْتَغلُوا بِالطَّاعَةِ فالنهار أولى بذلك، وَإِمَّا لِأَن حكم طرفِي النَّهَار يعلم من طرفِي اللَّيْل، فَذكره يكون تَكْرَارا. انْتهى. وَقيل: الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن مَلَائِكَة اللَّيْل إِذا صلوا الْفجْر عرجوا فِي الْحَال، وملائكة النَّهَار إِذا صلوا الْعَصْر لَبِثُوا إِلَى آخر النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل النَّهَار. وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن مَلَائِكَة النَّهَار لَا يسْأَلُون، وَهُوَ خلاف ظَاهر الحَدِيث. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره ضَعِيف، لِأَن لبث مَلَائِكَة النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل النَّهَار لَا يسْتَلْزم عدم السُّؤَال. وَقيل: الْحِكْمَة فِي ذَلِك بِنَاء على أَن الْمَلَائِكَة هم الْحفظَة أَنهم لَا يبرحون عَن مُلَازمَة بني آدم، وملائكة اللَّيْل هم الَّذين يعرجون ويتعاقبون، ويؤيدها مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) لَهُ، من طَرِيق الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، قَالَ: (يلتقي الحارسان) ، أَي: مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار، (عِنْد صَلَاة الصُّبْح فَيسلم بَعضهم على بعض فتصعد مَلَائِكَة اللَّيْل وتلبث مَلَائِكَة النَّهَار) . وَقيل: يحْتَمل أَن يكون العروج إِنَّمَا يَقع عِنْد صَلَاة الْفجْر خَاصَّة، وَأما النُّزُول فَيَقَع فِي الصَّلَاتَيْنِ مَعًا، وَفِيه التَّعَاقُب، وَصورته أَن تنزل طَائِفَة عِنْد الْعَصْر، وتبيت ثمَّ تنزل طَائِفَة ثَانِيَة عِنْد الْفجْر، فتجتمع الطائفتان فِي صَلَاة الْفجْر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فَقَط، وَيسْتَمر الَّذين نزلُوا وَقت الْفجْر إِلَى الْعَصْر، فتنزل الطَّائِفَة الْأُخْرَى فَيحصل اجْتِمَاعهم عِنْد الْعَصْر أَيْضا، وَلَا يصعد مِنْهُم أحد، بل تبيت الطائفتان أَيْضا ثمَّ تعرج إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَيسْتَمر ذَلِك، فَتَصِح صُورَة التَّعَاقُب مَعَ اخْتِصَاص النُّزُول بالعصر، والعروج بِالْفَجْرِ، فَلهَذَا خص السُّؤَال بالذين باتوا. وَقيل: إِن قَوْله: فِي هَذَا الحَدِيث، أَعنِي: حَدِيث الْبَاب. (ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر) وهم، لِأَنَّهُ ثَبت من طرق كَثِيرَة(5/45)
أَن الِاجْتِمَاع فِي صَلَاة الْفجْر من غير ذكر صَلَاة الْعَصْر، كَمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة فِي اثناء حَدِيث، قَالَ فِيهِ: (ويجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: واقرأوا إِن شِئْتُم: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء: 78) : وَفِي التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من وَجه آخر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي هُرَيْرَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} (الْإِسْرَاء: 78) . قَالَ: تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار. وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء مَرْفُوعا نَحوه، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَيْسَ فِي هَذَا دفع للرواية الَّتِي ذكر فِيهَا الْعَصْر. قلت: مُحَصل كَلَامه أَن ذكر الْفجْر فِي الحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ الْقَائِل الْمَذْكُور على أَن ذكر الْعَصْر وهم غير صَحِيح، لِأَن ذكر الْفجْر لَا يسْتَلْزم نفي ذكر الْعَصْر، وَلَا وَجه لنسبة الرَّاوِي الثِّقَة إِلَى الْوَهم مَعَ إِمْكَان التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات، مَعَ أَن الزِّيَادَة من الثِّقَة الْعدْل مَقْبُولَة، أَو يكون الِاقْتِصَار فِي الْفجْر لكَونهَا جهرية، وَلقَائِل أَن يَقُول: لِمَ لَا يجوز أَن يكون تَقْصِير من بعض الروَاة فِي تَركهم سُؤال الَّذين أَقَامُوا فِي النَّهَار؟ ولِمَ لَا يجوز أَن يحمل قَوْله: الَّذين باتوا، على مَا هُوَ أَعم من الْمبيت بِاللَّيْلِ وبالإقامة بِالنَّهَارِ، فَلَا يخْتَص ذَلِك حِينَئِذٍ بلَيْل دون نَهَار، وَلَا نَهَار دون ليل، بل كل طَائِفَة مِنْهُم إِذا صعدت سُئِلت؟ وَيكون فِيهِ اسْتِعْمَال لفظ: بَات، فِي أَقَامَ مجَازًا، وَيكون قَوْله: فيسألهم، أَي: كلاًّ من الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْوَقْت الَّذِي تصعد فِيهِ؟ وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) والسراج فِي (مُسْنده) جَمِيعًا عَن يُوسُف بن مُوسَى عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تَجْتَمِع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر، فيجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر، فتصعد مَلَائِكَة اللَّيْل وَتثبت مَلَائِكَة النَّهَار، ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر، فتصعد مَلَائِكَة النَّهَار وتبيت مَلَائِكَة اللَّيْل، فيسألهم رَبهم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟) الحَدِيث، وَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيح بسؤال كل من الطَّائِفَتَيْنِ. قَوْله: (فيسألهم) الْحِكْمَة فِيهِ استدعاء شَهَادَتهم لبني آدم بِالْخَيرِ، واستعطافهم بِمَا يَقْتَضِي الْعَطف عَلَيْهِم، وَقيل: كَانَ ذَلِك لإِظْهَار الْحِكْمَة فِي خلق بني آدم فِي مُقَابلَة من قَالَ من الْمَلَائِكَة {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 30) . الْآيَة وَالْمعْنَى: أَنه قد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكُمْ بِنَصّ شهادتكم. وَقَالَ عِيَاض: هَذَا السُّؤَال على سَبِيل التَّعَبُّد للْمَلَائكَة، كَمَا أمروا أَن يكتبوا أَعمال بني آدم، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم من الْجَمِيع بِالْجَمِيعِ. قَوْله: (كَيفَ تركْتُم؟) قَالَ ابْن أبي حَمْزَة: وَقع السُّؤَال عَن آخر الْأَعْمَال، لِأَن الْأَعْمَال بخواتيمها. قَالَ: والعباد المسؤول عَنْهُم هم الَّذين ذكرُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} (الْحجر: 242 والإسراء: 65) . قَوْله: (تركناهم وهم يصلونَ وأتيناهم وهم يصلونَ) . فَإِن قلت: كَانَ مُقْتَضى الْحَال أَن يبدؤا أَولا بالإتيان ثمَّ بِالتّرْكِ، وَلم يراعوا التَّرْتِيب؟ قلت: لِأَن الْمَقْصُود هُوَ الْإِخْبَار عَن صلَاتهم، والأعمال بخواتيمها، فَنَاسَبَ أَن يخبروا عَن آخر أَعْمَالهم قبل أَولهَا. وَقَالَ ابْن التِّين: الْوَاو، فِي قَوْله: (وهم يصلونَ) وَاو الْحَال، أَي: تركناهم على هَذِه الْحَال. فَإِن قلت: يلْزم من هَذَا أَنهم فارقوهم قبل انْقِضَاء الصَّلَاة، فَلم يشهدوها مَعَهم، وَالْخَبَر نَاطِق بِأَنَّهُم شهدوها. قلت: الْخَبَر مَحْمُول على أَنهم شهدُوا الصَّلَاة مَعَ من صلاهَا فِي أول وَقتهَا، وشهدوا من دخل فِيهَا بعد ذَلِك، وَمن شرع فِي إسباب ذَلِك. فَإِن قيل: مَا الْفَائِدَة فِي قَوْلهم (وأتيناهم) ؟ وَكَانَ السُّؤَال عَن كَيْفيَّة التّرْك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم زادوا فِي الْجَواب إِظْهَارًا لبَيَان فضيلتهم، وحرصا على ذكر مَا يُوجب مغفرتهم، كَمَا هُوَ وظيفتهم فِيمَا أخبر الله عَنْهُم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا} (غَافِر: 7)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الصَّلَاة أَعلَى الْعِبَادَات، لِأَنَّهُ عَلَيْهَا وَقع السُّؤَال وَالْجَوَاب. وَفِيه: التَّنْبِيه على أَن الْفجْر وَالْعصر من أعظم الصَّلَوَات، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى شرف هذَيْن الْوَقْتَيْنِ، وَقد ورد أَن الرزق يقسم بعد صَلَاة الصُّبْح، وَأَن الْأَعْمَال ترفع آخر النَّهَار، فَمن كَانَ حِينَئِذٍ فِي طَاعَة بورك فِي رزقه وَفِي عمله. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى تشريف هَذِه الْأمة على غَيرهَا، وَيلْزم من ذَلِك تشريف نَبينَا على غَيره من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. وَفِيه: الإيذان بِأَن الْمَلَائِكَة تحب هَذِه الْأمة ليزدادوا فيهم حبا ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم مَعَ مَلَائكَته. وَفِيه: الْحَث على المثابرة على صَلَاة الْعَصْر، لِأَنَّهَا تَأتي فِي وَقت اشْتِغَال النَّاس، وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بعض الْحَنَفِيَّة بقوله: (ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم) على اسْتِحْبَاب تَأْخِير صَلَاة الْعَصْر، ليَقَع عروج الْمَلَائِكَة إِذا فرغ مِنْهَا آخر النَّهَار، ثمَّ قَالَ: وَتعقب بِأَن ذَلِك غير لَازم، إِذْ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أَنهم لَا يصعدون إِلَّا سَاعَة الْفَرَاغ من الصَّلَاة، بل جَائِز أَن تفرغ الصَّلَاة ويتأخروا بعد ذَلِك إِلَى آخر النَّهَار، وَلَا مَانع أَيْضا من أَن تصعد مَلَائِكَة النَّهَار وَبَعض النَّهَار بَاقٍ، وَيُقِيم مَلَائِكَة اللَّيْل. انْتهى. قلت هَذَا(5/46)
الْقَائِل ذكر فِي هَذَا الْموضع نَاقِلا عَن الْبَعْض أَن مَلَائِكَة اللَّيْل إِذا صلوا الْفجْر عرجوا فِي الْحَال، وملائكة النَّهَار إِذا صلوا الْعَصْر لَبِثُوا إِلَى آخر النَّهَار لضبط بَقِيَّة عمل النَّهَار، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن مَلَائِكَة النَّهَار لَا يسْأَلُون، وَهُوَ خلاف ظَاهر الحَدِيث، وَالْعجب مِنْهُ أَنه نَاقض كَلَامه الَّذِي ذكره فِي التعقيب على مَا لَا يخفى، وبمثل هَذَا التَّصَرُّف لَا يتَوَجَّه الرَّد على المستدلي بقوله: (ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم) على اسْتِحْبَاب تَأْخِير صَلَاة الْعَصْر.
17 - (بابُ منْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ الغُرُوبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس. قيل: جَوَاب: من، الَّتِي تضمن معنى الشَّرْط مَحْذُوف. قلت: لَا نسلم أَن: من، هَهُنَا شَرْطِيَّة، وَلكنهَا مَوْصُولَة، يُوضح ذَلِك مَا قدرناه. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا لم يَأْتِ المُصَنّف فِي التَّرْجَمَة بِجَوَاب الشَّرْط لما فِي لفظ الْمَتْن الَّذِي أوردهُ من الِاحْتِمَال، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) ، فَإِن الْأَمر بالإتمام أَعم من أَن يكون مَا يتمه أَدَاء أَو قَضَاء. قلت: لَا بُد للشّرط من جَوَاب، سَوَاء كَانَ ملفوظا أَو مُقَدرا، وَالْجَوَاب فِي الحَدِيث مَذْكُور، وَكَون الْأَمر بالإتمام أَعم لَيست قرينَة لترك جَوَاب الشَّرْط فِي التَّرْجَمَة، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: جَوَاب الشَّرْط فِي التَّرْجَمَة مَحْذُوف تَقْدِيره: فليتم، ويبينه جَوَاب الشَّرْط الَّذِي فِي متن الحَدِيث، وَلَكِن التَّقْدِير الَّذِي قدرناه لَا يحوجنا إِلَى تَقْدِير جَوَاب الشَّرْط وَلَا إِلَى القَوْل بِأَن: من، شَرْطِيَّة.
556 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) . (فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث: سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر، والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت: المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بَاب الِاكْتِفَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) . أخرجه فِي بَاب من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج: (من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم يفته الصُّبْح) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) . وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) . وَفِي لفظ: (من صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) . وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد. غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة من صَلَاة(5/47)
الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ: (من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من أبي بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا: (فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي (سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا) ، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) . وَعند مُسلم: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلاَّ أَنه يقْضِي مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) . قَالَ: وَأكْثر الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر. وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا، تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) . قَوْله: (سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة) . وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد أدْركهَا) . والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد: بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ، مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ الْجَامِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته، بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَأما فِي الصُّبْح فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَعند أبي حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم، فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلاَّ تنْتَقل إِلَى الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا، حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن غربت. قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ:(5/48)
أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى الْإِدْرَاك فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون قبل طُلُوع الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن، وَالنَّصَارَى الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي هَذَا الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ الَّذين سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة، فَيجب عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها فِيهِ. فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته) . رَوَاهُ البُخَارِيّ والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ التَّوَاتُر بِالنَّهْي. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار والْآثَار فِي بَاب الْمحرم مَا لم تتواتر فِي بَاب الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم النّسخ مرَّتَيْنِ. فَافْهَم. فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية. فان قلت إِنَّمَا ورد النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.
وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله: (فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:، لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.
وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك. هَل هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة، وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم الصَّلَاة. فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا، حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ، (وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ، وَمرَّة بِسَجْدَة. وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ أدْرك رَكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب، وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول: هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا قصرت من أجل الْخطْبَة:(5/49)
وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار: كالحائض والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة الَّتِي يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك، على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا. وَأَشْهَب لَا يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ، وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل: يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس، وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل سُجُود الإِمَام. وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.
وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء، وَقَالَ بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء، وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء، فَلهُ قصرهَا. وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو: بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور: كلهَا قَضَاء.
557 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِم بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أوتِيَ أهْلُ التوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فأُعْطُوا قِيرَاطا قِيرَاطا ثُمَّ أُوتِيَ أهْل الإِنْجِيلِ الإنْجِيلَ فَعَمِلُوا إلَى صَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيراطا قِيرَاطا ثُمَّ أوتِينَا القُرْآنَ فَعَمِلْنَا إلَى غُرُوب الشمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ فقَالَ أهْلُ الكِتَابَيْنِ أيْ رَبَّنَا أعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وأعْطَيْتَنَا قِيرَاطا قِيرَاطا وَنَحْنُ كُنَّا أكْثَرَ عَمَلاً قَالَ قَالَ الله عَزَّ وجلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شيءٍ قالُوا لاَ قالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، فَدلَّ على أَن وَقت الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَن من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل الْغُرُوب فقد أدْرك وَقتهَا، فليتم مَا بَقِي، وَهَذَا الْمِقْدَار بطرِيق الِاسْتِئْنَاس الإقناعي، لَا بطرِيق الْأَمر البرهاني، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا الحَدِيث مِثَال لمنازل الْأُمَم عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن هَذِه الْأمة أقصرها عمرا وأقلها عملا وَأَعْظَمهَا ثَوابًا.
ويستنبط مِنْهُ للْبُخَارِيّ بتكلف فِي قَوْله: (فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس،) ، فَدلَّ أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَنه لَا يفوت، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُور بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَهُوَ من قبيل الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ، لَا من(5/50)
صَرِيح الْعبارَة، فَإِن الحَدِيث مِثَال وَلَيْسَ المُرَاد عملا خَاصّا بِهَذَا الْوَقْت، بل المُرَاد سَائِر أَعمال الْأمة من سَائِر الصَّلَوَات، وَغَيرهَا من سَائِر الْعِبَادَات فِي سَائِر مُدَّة بَقَاء الْأمة إِلَى قيام السَّاعَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: بِأَن الْأَحْكَام لَا تتَعَلَّق بالأحاديث الَّتِي تَأتي لضرب الْأَمْثَال فَإِنَّهُ مَوضِع تجوز. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، والْحَدِيث الَّذِي بعده، فِي هَذَا الْبَاب لقَوْله: (ثمَّ أوتينا الْقُرْآن فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أَنه قد يسْتَحق بِعَمَل الْبَعْض أجر الْكل، مثل الَّذِي أعطي من الْعَصْر إِلَى اللَّيْل أجر النَّهَار كُله، فَمثله كَالَّذي أعطي على رَكْعَة أدْرك وَقتهَا أجر الصَّلَاة كلهَا فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ بعد، لِأَنَّهُ لَو قَالَ: إِن (هَذِه الْأمة أَعْطَيْت ثَلَاثَة قراريط لَكَانَ أشبه، وَلكنهَا مَا أَعْطَيْت إلاَّ بعض أجر جَمِيع النَّهَار، نعم عملت هَذِه الْأمة قَلِيلا وَأخذت كثيرا، ثمَّ هُوَ أَيْضا منفك عَن مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه الْأمة آخر النَّهَار كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين قبلهَا، وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل من صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة، ثمَّ هَذَا من الخصائص المستثناة عَن الْقيَاس، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى أَن صِيَام آخر النَّهَار لَا يقوم مقَام جملَته، وَكَذَا سَائِر الْعِبَادَات؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكرُوا هَهُنَا لَا يَخْلُو عَن تعسف، وَقَوله: لَا خلاف، غير موجه، لِأَن الْخلاف مَوْجُود فِي تَقْدِيم صَلَاة الْعَصْر وتأخيرها، وَقِيَاسه على الصَّوْم كَذَلِك، لِأَن وَقت الصَّوْم لَا يتجزى، بِخِلَاف الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي، بِضَم الْهمزَة، مر فِي كتاب الْحِرْص على الحَدِيث، ونسبته إِلَى أويس أحد أجداده. الثَّانِي: ابراهيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الافراد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التابعة عَن التَّابِعِيّ. وهما: ابْن شهَاب وَسَالم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب فضل الْقُرْآن عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث عَن نَافِع بِهِ. وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف من الْأُمَم قبلكُمْ) ، ظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد، لِأَن ظَاهره أَن بَقَاء هَذِه الْأمة وَقع فِي زمَان الْأُمَم السالفة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن نسبتكم إِلَيْهِم كنسبة وَقت الْعَصْر إِلَى تَمام النَّهَار، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّمَا أجلكم فِي أجل من خلا من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى مغرب الشَّمْس) . قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: وغروب الشَّمْس، بِالْوَاو، لِأَن: بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، وَلَكِن المُرَاد من الصَّلَاة وَقت الصَّلَاة، وَله أَجزَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَين أَجزَاء وَقت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (أُوتِيَ أهل التَّوْرَاة) ، أُوتِيَ: على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة مَنْصُوبَة على أَنه مفعول ثَان، قيل: اشتقاق التَّوْرَاة من الوري، ووزنها: تفعلة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين. وَقَرَأَ الْحسن: الأنجيل، بِفَتْح الْهمزَة، وَهُوَ دَلِيل على العجمة، لِأَن: أفعيل، بِفَتْح الْهمزَة عديم فِي أوزان الْعَرَب. قَوْله: (عجزوا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَه أَيْضا فِي النَّصَارَى، فَإِن كَانَ المُرَاد من مَاتَ مِنْهُم مُسلما فَلَا يُقَال: عجزوا، لِأَنَّهُ عمل مَا أَمر بِهِ، وَإِن كَانَ قَالَه فِيمَن آمن ثمَّ كفر فَكيف يعْطى القيراط من حَبط عمله بِكفْر؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد: من مَاتَ مِنْهُم مُسلما قبل التَّغْيِير والتبديل، وَعبر بِالْعَجزِ لكَوْنهم لم يستوفوا عمل النَّهَار كُله، وَإِن كَانُوا قد استوفوا مَا قدر لَهُم، فَقَوله: عجزوا، أَي: عَن إِحْرَاز الْأجر الثَّانِي دون الأول، لَكِن من أدْرك مِنْهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وآمن بِهِ أعطي الْأجر مرَّتَيْنِ. قَوْله: (قيراطا) هُوَ نصف دانق، وَالْمرَاد مِنْهُ: النَّصِيب والحصة، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِنَّمَا كرر لفظ القيراط ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم، كَمَا هُوَ عَادَة كَلَامهم، حَيْثُ أَرَادوا تَقْسِيم الشَّيْء(5/51)
على مُتَعَدد. قَوْله: (ثمَّ أُوتِيَ أهل الْإِنْجِيل الْإِنْجِيل) الأول مجرور بِالْإِضَافَة، وَالثَّانِي مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (فَقَالَ أهل الْكِتَابَيْنِ) أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. قَوْله: أَي رَبنَا) ، كلمة: أَي، من حُرُوف النداء، يَعْنِي: يَا رَبنَا، وَلَا تفَاوت فِي إِعْرَاب المنادى بَين حُرُوفه. قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا قَالَت النَّصَارَى (: نَحن أَكثر عملا لأَنهم آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: النَّصَارَى لم يُؤمنُوا بمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك جمَاعَة الإخباريين، وَأَيْضًا قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) حِكَايَة عَن قَول أهل الْكِتَابَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَول الْيَهُود ظَاهر، لِأَن الْوَقْت من الصُّبْح إِلَى الظّهْر أَكثر من وَقت الْعَصْر إِلَى الْمغرب، وَقَول النَّصَارَى لَا يَصح إلاَّ على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ يَقُولُونَ: الْعَصْر هُوَ مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا من جملَة أدلتهم على مَذْهَبهم. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة وَحده، وَغَيره من أَصْحَابه يَقُولُونَ مثله، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا أسْند الأكثرية إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِن كَانَ فِي إِحْدَاهمَا بطرِيق التغليب، وَيُقَال: لَا يلْزم من كَونهم أَكثر عملا أَكثر زَمَانا، لاحْتِمَال كَون الْعَمَل أَكثر فِي الزَّمَان الْأَقَل. قَوْله: هَل ظلمتكم؟) أَي: هَل نقصتكم؟ إِذْ الظُّلم قد يكون بِزِيَادَة الشَّيْء، وَقد يكون بنقصانه. وَفِي بعض النّسخ: (أظلمتكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ أَيْضا بِمَعْنى: هَل ظلمتكم؟ أَي: فِي الَّذِي شرطت لكم شَيْئا؟ .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفر أجرهَا مَعَ قلَّة الْعَمَل، وَإِنَّمَا فضلت بِقُوَّة يقينها ومراعاة أصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها فِي الْفُرُوع، بِخِلَاف من كَانَ قبلهم كَقَوْلِهِم: {اجْعَل لنا إلاها} (الْأَعْرَاف: 138) . وكامتناعهم من أَخذ الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم، و: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: 54) .
وَفِيه: مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله، وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا، فيستقيم قَوْلهم: أَكثر عملا؟ وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يتفقان على قَول وَاحِد، بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد هَكَذَا، ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ مُسَاوِيا لوقت الظّهْر، وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا، فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله، مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة بالتحقيق، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى التَّنْزِيل لَا يلْزم من التَّمْثِيل والتشبيه التَّسْوِيَة من كل جِهَة. قلت: مَا ادّعى هُوَ التَّسْوِيَة من كل جِهَة حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ.
وَفِيه: مَا استنبطه بَعضهم أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَنهُ، وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ، قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي أنذر بهَا، ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي: والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح، أَنه قَالَ: (الدُّنْيَا سَبْعَة(5/52)
أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي: وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع، كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع، وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي: أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
556 - حدَّثنا أبُو نَعِيمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَدْرَكَ أحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ وَإِذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعُ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) . (فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة رَكْعَة، وَفِي الحَدِيث: سَجْدَة، والترجمة فِي الْإِدْرَاك من الْعَصْر، والْحَدِيث فِي: الْعَصْر وَالصُّبْح، فَلَا تطابق؟ قلت: المُرَاد من السَّجْدَة الرَّكْعَة على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَترك الصُّبْح فِيهَا من بَاب الِاكْتِفَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن التَّمِيمِي، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ الحَدِيث الْمَذْكُور: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك الْعَصْر) . أخرجه فِي بَاب من أدْرك من الْفجْر رَكْعَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع وَلَفظه: (من أدْرك مِنْكُم أول رَكْعَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَمن أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِذا أدْرك أحدكُم أول السَّجْدَة من صَلَاة الْعَصْر) وَعند السراج: (من صلى بِسَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد غرُوب الشَّمْس فَلم يفته الْعَصْر، وَمن صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد طُلُوعهَا فَلم يفته الصُّبْح) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْفجْر قبل أَن تطلع الشَّمْس وركعة بعد مَا تطلع فقد أدْرك) . وَفِي لفظ: (من صلى رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح ثمَّ طلعت الشَّمْس فليتم صلَاته) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة من الْجُمُعَة فَليصل إِلَيْهَا أُخْرَى) . وَفِي لفظ: (من صلى سَجْدَة وَاحِدَة من الْعَصْر قبل غرُوب الشَّمْس، ثمَّ صلى مَا بَقِي بعد الْغُرُوب فَلم يفته الْعَصْر) . وَفِي لفظ: (من أدْرك قبل طُلُوع الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة، وَمن أدْرك قبل غرُوب الشَّمْس سَجْدَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَفِي لفظ: (من أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر) ، وَفِي لفظ: (رَكْعَتَيْنِ) ، من غير تردد. غير أَنه مَوْقُوف، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة مَرْفُوع بِزِيَادَة: (أَو رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح) وَهُوَ عِنْد الطَّيَالِسِيّ: (من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ أَو رَكْعَة الشَّك من أبي بشر قبل أَن تغيب الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك) . وَعند أَحْمد: (من أدْرك رَكْعَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك، وَمن أدْرك رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْرك) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (قبل أَن يُقيم الإِمَام صلبه فقد أدْركهَا) ، وَعِنْده أَيْضا: (فقد أدْرك الْفَضِيلَة وَيتم مَا بَقِي) ، وَضَعفه وَفِي (سنَن) الكبحي: (من أدْرك من صَلَاة رَكْعَة فقد أدْركهَا) ، وَفِي (الصَّلَاة) لأبي نعيم: (وَمن أدْرك رَكْعَتَيْنِ قبل أَن تغرب الشَّمْس، وَرَكْعَتَيْنِ بعد أَن غَابَتْ الشَّمْس فَلم تفته الْعَصْر) . وَعند مُسلم: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة مَعَ الإِمَام فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد صَحِيح: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة كلهَا إلاَّ أَنه يقْضِي مَا فَاتَهُ) ، وَعند الطَّحَاوِيّ: (من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة وفضلها) . قَالَ: وَأكْثر الروَاة لَا يذكرُونَ: فَضلهَا، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهر. وَعند الطَّحَاوِيّ: من حَدِيث عَائِشَة نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أدْرك) كلمة: إِذا، تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت: الْفَاء، فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: (فليتم صلَاته) . قَوْله: (سَجْدَة) أَي: رَكْعَة، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ: (من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة) . وَكَذَلِكَ فَسرهَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، والسياق لحرملة، قَالَ: أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَن عُرْوَة بن الزبير حَدثهُ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْرك من الْعَصْر سَجْدَة قبل أَن تغرب الشَّمْس، أَو من الصُّبْح قبل أَن تطلع، فقد أدْركهَا) . والسجدة إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَة، وفسرها حَرْمَلَة، وَكَذَا فسر فِي (الْأُم) أَنه يعبر بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الآخر، وأيا مَا كَانَ، فَالْمُرَاد: بعض الصَّلَاة، وَإِدْرَاك شَيْء مِنْهَا، وَهُوَ يُطلق على الرَّكْعَة والسجدة وَمَا دونهَا، مثل: تَكْبِيرَة الْإِحْرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ؛ قَوْله: (سَجْدَة) ، مَعْنَاهَا: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها، والركعة إِنَّمَا يكون تَمامهَا بسجودها، فسميت على هَذَا الْمَعْنى سَجْدَة: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين قَوْله: (من أدْرك من الصُّبْح سَجْدَة؟) وَبَين قَوْله: (من أدْرك سَجْدَة من الصُّبْح؟) قلت: رِوَايَة تقدم السَّجْدَة هِيَ السَّبَب الَّذِي بِهِ الْإِدْرَاك، وَمن قدم الصُّبْح أَو الْعَصْر قبل الرَّكْعَة فَلِأَن هذَيْن الإسمين هما اللَّذَان يدلان على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ دلَالَة خَاصَّة تتَنَاوَل جَمِيع أوصافها، بِخِلَاف السَّجْدَة فَإِنَّهَا تدل على بعض أَوْصَاف الصَّلَاة، فَقدم اللَّفْظ الْأَعَمّ الْجَامِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا صَرِيحًا فِي أَن من صلى رَكْعَة من الْعَصْر، ثمَّ خرج الْوَقْت قبل سَلَامه لَا تبطل صلَاته، بل يُتمهَا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَأما فِي الصُّبْح فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَعند أبي حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، وَقَالُوا: الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس فِيهَا، لِأَنَّهُ دخل وَقت النَّهْي عَن الصَّلَاة، بِخِلَاف الْغُرُوب، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: من وقف على مَا أسس عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة عرف أَن الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَعرف أَن غير هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث حجَّة عَلَيْهِم، فَنَقُول: لَا شكّ أَن الْوَقْت سَبَب للصَّلَاة وظرف لَهَا، وَلَكِن لَا يُمكن أَن يكون كل الْوَقْت سَببا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك يلْزم تَأْخِير الْأَدَاء عَن الْوَقْت، فَتعين أَن يَجْعَل بعض الْوَقْت سَببا، وَهُوَ الْجُزْء الأول لسلامته عَن المزاحم، فَإِن اتَّصل بِهِ الْأَدَاء تقررت السَّبَبِيَّة وإلاَّ تنْتَقل إِلَى الْجُزْء الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَمَا بعده إِلَى أَن يتَمَكَّن فِيهِ من عقد التَّحْرِيمَة إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت، ثمَّ هَذَا الْجُزْء إِن كَانَ صَحِيحا، بِحَيْثُ لم ينْسب إِلَى الشَّيْطَان وَلم يُوصف بِالْكَرَاهَةِ كَمَا فِي الْفجْر، وَجب عَلَيْهِ كَامِلا، حَتَّى لَو اعْترض الْفساد فِي الْوَقْت بِطُلُوع الشَّمْس فِي خلال الصَّلَاة فَسدتْ، خلافًا لَهُم، لِأَن مَا وَجب كَامِلا لَا يتَأَدَّى بالناقص، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُور الْمُطلق وَصَوْم الْقَضَاء لَا يتَأَدَّى فِي أَيَّام النَّحْر والتشريق، وَإِذا كَانَ هَذَا الْجُزْء نَاقِصا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان: كالعصر وَقت الاحمرار وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان الْمُسَبّب، فيتأدى بِصفة النُّقْصَان لِأَنَّهُ أدّى كَمَا لزم، كَمَا إِذا أنذر صَوْم النَّحْر وَأَدَّاهُ فِيهِ، فَإِذا غربت الشَّمْس فِي أثْنَاء الصَّلَاة لم تفْسد الْعَصْر، لِأَن مَا بعد الْغُرُوب كَامِل فيتأدى فِيهِ، لِأَن مَا وَجب نَاقِصا يتَأَدَّى كَامِلا بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: يلْزم أَن تفْسد الْعَصْر إِذا شرع فِيهِ فِي الْجُزْء الصَّحِيح ومدها إِلَى أَن غربت. قلت: لما كَانَ الْوَقْت متسعا جَازَ لَهُ شغل كل الْوَقْت، فيعفى الْفساد الَّذِي يتَّصل بِهِ بِالْبِنَاءِ، لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ مَعَ الإقبال على الصَّلَاة مُتَعَذر، وَأما الْجَواب عَن الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ مَا ذكره الإِمَام الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى الْإِدْرَاك فِي الصّبيان الَّذين يدركون، يَعْنِي يبلغون قبل طُلُوع الشَّمْس، وَالْحيض اللَّاتِي يطهرن، وَالنَّصَارَى الَّذين يسلمُونَ، لِأَنَّهُ لما ذكر فِي هَذَا الْإِدْرَاك وَلم يذكر الصَّلَاة فَيكون هَؤُلَاءِ الَّذين سميناهم وَمن أشبههم مدركين لهَذِهِ الصَّلَاة، فَيجب عَلَيْهِم قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَ الَّذِي بَقِي عَلَيْهِم من وَقتهَا أقل من الْمِقْدَار الَّذِي يصلونها فِيهِ. فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا رَوَاهُ أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته، وَإِذا أدْرك سَجْدَة من صَلَاة الصُّبْح قبل أَن تطلع الشَّمْس فليتم صلَاته) . رَوَاهُ البُخَارِيّ والطَّحَاوِي أَيْضا فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذكر الْبناء بعد طُلُوع الشَّمْس؟ قلت: قد تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس مَا لم تتواتر بِإِبَاحَة الصَّلَاة عِنْد ذَلِك، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا كَانَ فِيهِ الْإِبَاحَة كَانَ مَنْسُوخا بِمَا كَانَ فِيهِ التَّوَاتُر بِالنَّهْي. فَإِن قلت: مَا حَقِيقَة النّسخ فِي هَذَا وَالَّذِي تذكره احْتِمَال؟ وَهل يثبت النّسخ بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: حَقِيقَة النّسخ هُنَا أَنه اجْتمع فِي هَذَا الْموضع محرم ومبيح، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار والْآثَار فِي بَاب الْمحرم مَا لم تتواتر فِي بَاب الْمُبِيح، وَقد عرف من الْقَاعِدَة أَن الْمحرم والمبيح إِذا اجْتمعَا يكون الْعَمَل للْمحرمِ، وَيكون الْمُبِيح مَنْسُوخا، وَذَلِكَ لِأَن النَّاسِخ هُوَ الْمُتَأَخر، وَلَا شكّ أَن الْحُرْمَة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِبَاحَة لِأَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم عَارض، وَلَا يجوز الْعَكْس لِأَنَّهُ يلْزم النّسخ مرَّتَيْنِ. فَافْهَم. فَإِنَّهُ كَلَام دَقِيق قد لَاحَ لي من الْأَنْوَار الإلهية. فان قلت إِنَّمَا ورد النَّهْي الْمَذْكُور عَن الصَّلَاة فِي التَّطَوُّع خَاصَّة وَلَيْسَ بنهي عَن قَضَاء الْفَرَائِض قلت: دلّ حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا على أَن الصَّلَاة الْفَائِتَة قد دخلت فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، وَعَن عمرَان أَنه قَالَ: (سرينا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة، أَو قَالَ: فِي سَرِيَّة، فَلَمَّا كَانَ آخر السحر عرسنا، فَمَا استيقظنا حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس) الحَدِيث، وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى فَاتَت عَنْهُم إِلَى أَن ارْتَفَعت الشَّمْس، وَلم يصلها قبل الإرتفاع، فَدلَّ ذَلِك أَن النَّهْي عَام يَشْمَل الْفَرَائِض والنوافل، والتخصيص بالتطوع تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.
وَمِنْهَا: أَي: من الْأَحْكَام: أَن أَبَا حنيفَة وَمن تبعه استدلوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَن آخر وَقت الْعَصْر هُوَ غرُوب الشَّمْس، لِأَن من أدْرك مِنْهُ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ مدرك لَهُ، فَإِذا كَانَ مدْركا يكون ذَلِك الْوَقْت من وَقت الْعَصْر لِأَن معنى قَوْله: (فقد أدْرك) ، أدْرك وُجُوبهَا، حَتَّى إِذا أدْرك الصَّبِي قبل غرُوب الشَّمْس أَو أسلم الْكَافِر أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض تجب عَلَيْهِ صَلَاة الْعَصْر، وَلَو كَانَ الْوَقْت الَّذِي أدْركهُ جزأ يَسِيرا لَا يسع فِيهِ الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء، وَكَذَلِكَ الحكم قبل طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ زفر: لَا يجب مَا لم يجد وقتا يسع الْأَدَاء فِيهِ حَقِيقَة، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِيمَا إِذا أدْرك دون رَكْعَة كتكبيرة مثلا: أَحدهمَا:، لَا يلْزمه، وَالْآخر: يلْزمه، وَهُوَ أصَحهمَا.
وَمِنْهَا: أَنهم اخْتلفُوا فِي معنى الْإِدْرَاك. هَل هُوَ للْحكم أَو للفضل أَو للْوَقْت فِي أقل من رَكْعَة؟ فَذهب مَالك وَجُمْهُور الْأَئِمَّة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي: إِلَى أَنه لَا يدْرك شَيْئا من ذَلِك بِأَقَلّ من رَكْعَة، مُتَمَسِّكِينَ بِلَفْظ الرَّكْعَة، وَبِمَا فِي (صَحِيح) ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة وَنحن سُجُود فاسجدوها وَلَا تعدوها شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة) . وَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: إِلَى أَنه يكون مدْركا لحكم الصَّلَاة. فَإِن قلت: قيد فِي الحَدِيث بِرَكْعَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر أقل مِنْهَا؟ قلت: قيد الرَّكْعَة فِيهِ خرج مخرج الْغَالِب، فَإِن غَالب مَا يُمكن معرفَة الْإِدْرَاك بِهِ رَكْعَة أَو نَحْوهَا، حَتَّى قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر الرَّكْعَة الْبَعْض من الصَّلَاة، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنهُ: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) و: (من أدْرك رَكْعَتَيْنِ من الْعَصْر) ، (وَمن أدْرك سَجْدَة من الْعَصْر) ، فَأَشَارَ إِلَى بعض الصَّلَاة مرّة: بِرَكْعَة، وَمرَّة: بِرَكْعَتَيْنِ، وَمرَّة بِسَجْدَة. وَالتَّكْبِيرَة فِي حكم الرَّكْعَة لِأَنَّهَا بعض الصَّلَاة، فَمن أدْركهَا فَكَأَنَّهُ أدْرك رَكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاتفقَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، على إدراكهم الْعَصْر بتكبيرة قبل الْغُرُوب، وَاخْتلفُوا فِي الظّهْر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي قَول: هُوَ مدرك بتكبيرة لَهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَنه بِتمَام الْقيام لِلظهْرِ يكون قَاضِيا لَهَا بعد، وَاخْتلفُوا فِي الْجُمُعَة، فَذهب مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَزفر وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَن: من أدْرك مِنْهَا رَكْعَة أضَاف إِلَيْهَا أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: إِذا أحرم فِي الْجُمُعَة قبل سَلام الإِمَام صلى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد، وَأغْرب عَطاء وَمَكْحُول وطاووس وَمُجاهد فَقَالُوا: إِن من فَاتَتْهُ الْخطْبَة يَوْم الْجُمُعَة يُصَلِّي أَرْبعا، لِأَن الْجُمُعَة إِنَّمَا قصرت من أجل الْخطْبَة: وَحمل أَصْحَاب مَالك قَوْله: (من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر) على أَصْحَاب الْأَعْذَار: كالحائض والمغمى عَلَيْهِ وشبههما، ثمَّ هَذِه الرَّكْعَة الَّتِي يدركون بهَا الْوَقْت هِيَ بِقدر مَا يكبر فِيهَا للْإِحْرَام وَيقْرَأ أم الْقُرْآن قِرَاءَة معتدلة ويركع وَيسْجد سَجْدَتَيْنِ يفصل بَينهمَا ويطمئن فِي كل ذَلِك، على قَول من أوجب الطُّمَأْنِينَة، وعَلى قَول من لَا يُوجب قِرَاءَة أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة، يَكْفِيهِ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالْوُقُوف لَهَا. وَأَشْهَب لَا يُرَاعِي إِدْرَاك السَّجْدَة بعد الرَّكْعَة، وَسبب الْخلاف: هَل الْمَفْهُوم من اسْم الرَّكْعَة الشَّرْعِيَّة أَو اللُّغَوِيَّة؟
وَأما الَّتِي يدْرك بهَا فَضِيلَة الْجَمَاعَة فَحكمهَا بِأَن يكبر لإحرامها ثمَّ يرْكَع، وَيُمكن يَدَيْهِ من رُكْبَتَيْهِ قبل رفع الإِمَام رَأسه، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه: لَا يعْتد بالركعة مَا لم يدْرك الإِمَام قَائِما قبل أَن يرْكَع، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن أَشهب، وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف أَنه: مَتى أحرم وَالْإِمَام رَاكِع أَجزَأَهُ، وَإِن لم يدْرك الرُّكُوع وَركع بعد الإِمَام. وَقيل: يجْزِيه وَإِن رفع الإِمَام رَأسه مَا لم يرفع النَّاس، وَنَقله ابْن بزيزة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: وَإِذا انْتهى إِلَى الصَّفّ الآخر وَلم يرفعوا رؤوسهم، أَو بَقِي مِنْهُم وَاحِد لم يرفع رَأسه، وَقد رفع الإِمَام رَأسه فَإِنَّهُ يرْكَع وَقد أدْرك الصَّلَاة، لِأَن الصَّفّ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِمَامه، وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَزفر وَالثَّوْري: إِذا كبر قبل أَن يرفع الإِمَام رَأسه فقد أدْرك، وَإِن رفع الإِمَام قبل أَن يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن سِيرِين: إِذا أدْرك تَكْبِيرَة يدْخل بهَا فِي الصَّلَاة وَتَكْبِيرَة للرُّكُوع فقد أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: يجْزِيه إِن أحرم قبل سُجُود الإِمَام. وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا جَاءَ وهم سُجُود يسْجد مَعَهم، فَإِذا سلم الإِمَام قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَة وَلَا يسْجد، ويعتد بِتِلْكَ الرَّكْعَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ إِذا جَاءَ وَالْقَوْم سُجُود سجد مَعَهم، فَإِذا رفعوا رؤوسهم سجد أُخْرَى، وَلَا يعْتد بهَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِذا ركع ثمَّ مَشى فَدخل فِي الصَّفّ قبل أَن يرفعوا رؤوسهم اعْتد بهَا، وَإِن رفعوا رؤوسهم قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ فَلَا يعْتد بهَا.
وَأما حكم هَذِه الصَّلَاة: فَالصَّحِيح أَنَّهَا كلهَا أَدَاء، قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: كلهَا قَضَاء، وَقَالَ بَعضهم: تِلْكَ الرَّكْعَة أَدَاء، وَمَا بعْدهَا قَضَاء، وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي مُسَافر نوى الْعَصْر وَصلى رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن قُلْنَا: الْجَمِيع أَدَاء، فَلهُ قصرهَا. وَإِن قُلْنَا: كلهَا قَضَاء، أَو: بَعْضهَا، وَجب إِتْمَامهَا أَرْبعا إِن قُلْنَا: إِن فَائِتَة السّفر إِذا قَضَاهَا فِي السّفر يجب إِتْمَامهَا، وَهَذَا كُله إِذا أدْرك رَكْعَة فِي الْوَقْت، فَإِن كَانَ دون رَكْعَة، فَقَالَ الْجُمْهُور: كلهَا قَضَاء.
557 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِم بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أوتِيَ أهْلُ التوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فأُعْطُوا قِيرَاطا قِيرَاطا ثُمَّ أُوتِيَ أهْل الإِنْجِيلِ الإنْجِيلَ فَعَمِلُوا إلَى صَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيراطا قِيرَاطا ثُمَّ أوتِينَا القُرْآنَ فَعَمِلْنَا إلَى غُرُوب الشمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ فقَالَ أهْلُ الكِتَابَيْنِ أيْ رَبَّنَا أعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وأعْطَيْتَنَا قِيرَاطا قِيرَاطا وَنَحْنُ كُنَّا أكْثَرَ عَمَلاً قَالَ قَالَ الله عَزَّ وجلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شيءٍ قالُوا لاَ قالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، فَدلَّ على أَن وَقت الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَن من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر قبل الْغُرُوب فقد أدْرك وَقتهَا، فليتم مَا بَقِي، وَهَذَا الْمِقْدَار بطرِيق الِاسْتِئْنَاس الإقناعي، لَا بطرِيق الْأَمر البرهاني، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا الحَدِيث مِثَال لمنازل الْأُمَم عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن هَذِه الْأمة أقصرها عمرا وأقلها عملا وَأَعْظَمهَا ثَوابًا.
ويستنبط مِنْهُ للْبُخَارِيّ بتكلف فِي قَوْله: (فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس،) ، فَدلَّ أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأَنه لَا يفوت، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُور بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَهُوَ من قبيل الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ، لَا من صَرِيح الْعبارَة، فَإِن الحَدِيث مِثَال وَلَيْسَ المُرَاد عملا خَاصّا بِهَذَا الْوَقْت، بل المُرَاد سَائِر أَعمال الْأمة من سَائِر الصَّلَوَات، وَغَيرهَا من سَائِر الْعِبَادَات فِي سَائِر مُدَّة بَقَاء الْأمة إِلَى قيام السَّاعَة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ: بِأَن الْأَحْكَام لَا تتَعَلَّق بالأحاديث الَّتِي تَأتي لضرب الْأَمْثَال فَإِنَّهُ مَوضِع تجوز. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث، والْحَدِيث الَّذِي بعده، فِي هَذَا الْبَاب لقَوْله: (ثمَّ أوتينا الْقُرْآن فعملنا إِلَى غرُوب الشَّمْس فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أَنه قد يسْتَحق بِعَمَل الْبَعْض أجر الْكل، مثل الَّذِي أعطي من الْعَصْر إِلَى اللَّيْل أجر النَّهَار كُله، فَمثله كَالَّذي أعطي على رَكْعَة أدْرك وَقتهَا أجر الصَّلَاة كلهَا فِي آخر الْوَقْت. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ بعد، لِأَنَّهُ لَو قَالَ: إِن (هَذِه الْأمة أَعْطَيْت ثَلَاثَة قراريط لَكَانَ أشبه، وَلكنهَا مَا أَعْطَيْت إلاَّ بعض أجر جَمِيع النَّهَار، نعم عملت هَذِه الْأمة قَلِيلا وَأخذت كثيرا، ثمَّ هُوَ أَيْضا منفك عَن مَحل الِاسْتِدْلَال، لِأَن عمل هَذِه الْأمة آخر النَّهَار كَانَ أفضل من عمل الْمُتَقَدِّمين قبلهَا، وَلَا خلاف أَن صَلَاة الْعَصْر مُتَقَدّمَة أفضل من صلَاتهَا مُتَأَخِّرَة، ثمَّ هَذَا من الخصائص المستثناة عَن الْقيَاس، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ؟ أَلا ترى أَن صِيَام آخر النَّهَار لَا يقوم مقَام جملَته، وَكَذَا سَائِر الْعِبَادَات؟ انْتهى. قلت: كل مَا ذكرُوا هَهُنَا لَا يَخْلُو عَن تعسف، وَقَوله: لَا خلاف، غير موجه، لِأَن الْخلاف مَوْجُود فِي تَقْدِيم صَلَاة الْعَصْر وتأخيرها، وَقِيَاسه على الصَّوْم كَذَلِك، لِأَن وَقت الصَّوْم لَا يتجزى، بِخِلَاف الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي، بِضَم الْهمزَة، مر فِي كتاب الْحِرْص على الحَدِيث، ونسبته إِلَى أويس أحد أجداده. الثَّانِي: ابراهيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الافراد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة التابعة عَن التَّابِعِيّ. وهما: ابْن شهَاب وَسَالم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب الْإِجَارَة إِلَى نصف النَّهَار عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب فضل الْقُرْآن عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب مَا ذكر عَن بني إِسْرَائِيل عَن قُتَيْبَة عَن لَيْث عَن نَافِع بِهِ. وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف من الْأُمَم قبلكُمْ) ، ظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد، لِأَن ظَاهره أَن بَقَاء هَذِه الْأمة وَقع فِي زمَان الْأُمَم السالفة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن نسبتكم إِلَيْهِم كنسبة وَقت الْعَصْر إِلَى تَمام النَّهَار، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (إِنَّمَا أجلكم فِي أجل من خلا من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى مغرب الشَّمْس) . قَوْله: (إِلَى غرُوب الشَّمْس) ، كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: وغروب الشَّمْس، بِالْوَاو، لِأَن: بَين، يَقْتَضِي دُخُوله على مُتَعَدد، وَلَكِن المُرَاد من الصَّلَاة وَقت الصَّلَاة، وَله أَجزَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَين أَجزَاء وَقت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (أُوتِيَ أهل التَّوْرَاة) ، أُوتِيَ: على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة مَنْصُوبَة على أَنه مفعول ثَان، قيل: اشتقاق التَّوْرَاة من الوري، ووزنها: تفعلة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة وإفعيل، إِنَّمَا يَصح بعد كَونهمَا عربيين. وَقَرَأَ الْحسن: الأنجيل، بِفَتْح الْهمزَة، وَهُوَ دَلِيل على العجمة، لِأَن: أفعيل، بِفَتْح الْهمزَة عديم فِي أوزان الْعَرَب. قَوْله: (عجزوا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قَالَه أَيْضا فِي النَّصَارَى، فَإِن كَانَ المُرَاد من مَاتَ مِنْهُم مُسلما فَلَا يُقَال: عجزوا، لِأَنَّهُ عمل مَا أَمر بِهِ، وَإِن كَانَ قَالَه فِيمَن آمن ثمَّ كفر فَكيف يعْطى القيراط من حَبط عمله بِكفْر؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد: من مَاتَ مِنْهُم مُسلما قبل التَّغْيِير والتبديل، وَعبر بِالْعَجزِ لكَوْنهم لم يستوفوا عمل النَّهَار كُله، وَإِن كَانُوا قد استوفوا مَا قدر لَهُم، فَقَوله: عجزوا، أَي: عَن إِحْرَاز الْأجر الثَّانِي دون الأول، لَكِن من أدْرك مِنْهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وآمن بِهِ أعطي الْأجر مرَّتَيْنِ. قَوْله: (قيراطا) هُوَ نصف دانق، وَالْمرَاد مِنْهُ: النَّصِيب والحصة، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِنَّمَا كرر لفظ القيراط ليدل على تَقْسِيم القراريط على جَمِيعهم، كَمَا هُوَ عَادَة كَلَامهم، حَيْثُ أَرَادوا تَقْسِيم الشَّيْء على مُتَعَدد. قَوْله: (ثمَّ أُوتِيَ أهل الْإِنْجِيل الْإِنْجِيل) الأول مجرور بِالْإِضَافَة، وَالثَّانِي مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (فَقَالَ أهل الْكِتَابَيْنِ) أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. قَوْله: أَي رَبنَا) ، كلمة: أَي، من حُرُوف النداء، يَعْنِي: يَا رَبنَا، وَلَا تفَاوت فِي إِعْرَاب المنادى بَين حُرُوفه. قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) ، قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا قَالَت النَّصَارَى (: نَحن أَكثر عملا لأَنهم آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: النَّصَارَى لم يُؤمنُوا بمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك جمَاعَة الإخباريين، وَأَيْضًا قَوْله: (وَنحن كُنَّا أَكثر عملا) حِكَايَة عَن قَول أهل الْكِتَابَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَول الْيَهُود ظَاهر، لِأَن الْوَقْت من الصُّبْح إِلَى الظّهْر أَكثر من وَقت الْعَصْر إِلَى الْمغرب، وَقَول النَّصَارَى لَا يَصح إلاَّ على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، حَيْثُ يَقُولُونَ: الْعَصْر هُوَ مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ، وَهَذَا من جملَة أدلتهم على مَذْهَبهم. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة وَحده، وَغَيره من أَصْحَابه يَقُولُونَ مثله، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّمَا أسْند الأكثرية إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِن كَانَ فِي إِحْدَاهمَا بطرِيق التغليب، وَيُقَال: لَا يلْزم من كَونهم أَكثر عملا أَكثر زَمَانا، لاحْتِمَال كَون الْعَمَل أَكثر فِي الزَّمَان الْأَقَل. قَوْله: هَل ظلمتكم؟) أَي: هَل نقصتكم؟ إِذْ الظُّلم قد يكون بِزِيَادَة الشَّيْء، وَقد يكون بنقصانه. وَفِي بعض النّسخ: (أظلمتكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، وَهُوَ أَيْضا بِمَعْنى: هَل ظلمتكم؟ أَي: فِي الَّذِي شرطت لكم شَيْئا؟ .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفر أجرهَا مَعَ قلَّة الْعَمَل، وَإِنَّمَا فضلت بِقُوَّة يقينها ومراعاة أصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها فِي الْفُرُوع، بِخِلَاف من كَانَ قبلهم كَقَوْلِهِم: {اجْعَل لنا إلاها} (الْأَعْرَاف: 138) . وكامتناعهم من أَخذ الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم، و: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} (الْمَائِدَة: 54) .
وَفِيه: مَا استنبطه أَبُو زيد الدبوسي فِي (كتاب الْأَسْرَار) من أَن وَقت الْعَصْر إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ قَرِيبا من أول الْعَاشِرَة، فَيكون إِلَى الْمغرب ثَلَاث سَاعَات غير شَيْء يسير، وَتَكون النَّصَارَى أَيْضا عمِلُوا ثَلَاث سَاعَات وشيئا يَسِيرا، وَهَذَا من أول الزَّوَال إِلَى أول السَّاعَة الْعَاشِرَة، وَهُوَ إِذا صَار ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَاعْترض على هَذَا بِأَن النَّصَارَى لم تقله، وَإِنَّمَا قَالَه الْفَرِيقَانِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، ووقتهم أَكثر من وقتنا، فيستقيم قَوْلهم: أَكثر عملا؟ وَأجِيب: بِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يتفقان على قَول وَاحِد، بل قَالَت النَّصَارَى: كُنَّا أَكثر عملا وَأَقل عَطاء، وَكَذَا الْيَهُود، بِاعْتِبَار كَثْرَة الْعَمَل وَطوله، وَنقل بَعضهم كَلَام أبي زيد هَكَذَا، ثمَّ قَالَ: تمسك بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة كَأبي زيد إِلَى أَن وَقت الْعَصْر من مصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظلّ كل شَيْء مثله لَكَانَ مُسَاوِيا لوقت الظّهْر، وَقد قَالُوا: كُنَّا أَكثر عملا، فَدلَّ على أَنه دون وَقت الظّهْر. ثمَّ قَالَ: وَأجِيب بِمَنْع الْمُسَاوَاة، وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم بِهَذَا الْفَنّ، وَهُوَ أَن الْمدَّة بَين الظّهْر وَالْعصر أطول من الْمدَّة الَّتِي بَين الْعَصْر وَالْمغْرب. انْتهى. قلت: لَا يخفى على كل أحد أَن وَقت الْعَصْر، لَو كَانَ بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، يكون وَقت الظّهْر الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى مصير ظلّ كل شَيْء مثله، مثل وَقت الْعَصْر الَّذِي نقُول: وقته بمصير ظلّ كل شَيْء مثله، وَمَعَ هَذَا أَبُو زيد مَا ادّعى الْمُسَاوَاة بالتحقيق، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى التَّنْزِيل لَا يلْزم من التَّمْثِيل والتشبيه التَّسْوِيَة من كل جِهَة. قلت: مَا ادّعى هُوَ التَّسْوِيَة من كل جِهَة حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ.
وَفِيه: مَا استنبطه بَعضهم أَن مُدَّة الْمُسلمين من حِين ولد سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قيام السَّاعَة ألف سنة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جعل النَّهَار نِصْفَيْنِ الأول للْيَهُود، فَكَانَت مدتهم ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَزِيَادَة فِي قَول ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَنهُ، وَفِي قَول ابْن إِسْحَاق: ألف سنة وَتِسْعمِائَة سنة وتسع عشرَة سنة، وَلِلنَّصَارَى كَذَلِك، فَجَاءَت مُدَّة النَّصَارَى لَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلوَات الله على نَبينَا وَعَلِيهِ سِتّمائَة سنة، فَبَقيَ للْمُسلمين ألف سنة وَزِيَادَة، وَفِيه نظر، من حَيْثُ إِن الْخلاف فِي مُدَّة الفترة، فَذكر الْحَاكِم فِي (الإكليل) أَنَّهَا مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ سنة، وَذكر أَنَّهَا أَرْبَعمِائَة سنة، وَقيل: خَمْسمِائَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وَعَن الضَّحَّاك أَرْبَعمِائَة وبضع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقد ذكر السُّهيْلي عَن جَعْفَر بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي: أَن جعفرا حدث بِحَدِيث مَرْفُوع: (إِن أَحْسَنت أمتِي فبقاؤها يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، وَذَلِكَ ألف سنة، وَإِن أساءت فَنصف يَوْم) . وَفِي حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ، قَالَ: (رَأَيْتُك يَا رَسُول الله على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات، وَإِلَى جَنْبك نَاقَة عجفاء كَأَنَّك تبعتها، ففسر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاقة بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي أنذر بهَا، ودرجات الْمِنْبَر عدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفا) قَالَ السُّهيْلي: والْحَدِيث، وَإِن كَانَ ضَعِيف الْإِسْنَاد، فقد رُوِيَ مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح، أَنه قَالَ: (الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام، كل يَوْم ألف سنة) ، وَصحح الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل وعضده بآثار.
وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على أَن آخر وَقت الظّهْر ممتد إِلَى أَن يصير ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنه جعل لنا من الزَّمَان من الدُّنْيَا فِي مُقَابلَة من كَانَ قبلنَا من الْأُمَم بِقدر مَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَهُوَ يدل أَن بَينهمَا أقل من ربع النَّهَار، لِأَنَّهُ لم يبْق من الدُّنْيَا ربع الزَّمَان، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت أَنا والساعة كهاتين، وَأَشَارَ بالسبابة وَالْوُسْطَى) ، فَشبه مَا بَقِي من الدُّنْيَا إِلَى قيام السَّاعَة مَعَ مَا انْقَضى بِقدر مَا بَين السبابَة وَالْوُسْطَى من التَّفَاوُت. قَالَ السُّهيْلي: وَبَينهمَا نصف سبع، لِأَن الْوُسْطَى ثَلَاثَة أَسْبَاع، كل مفصل مِنْهَا سبع، وزيادتها على السبابَة نصف سبع، وَالدُّنْيَا على مَا قدمْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس سَبْعَة آلَاف سنة، فَلِكُل سبع ألف سنة، وفضلت الْوُسْطَى على السبابَة بِنصْف الْأُنْمُلَة، وَهُوَ ألف سنة فِيمَا ذكره أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَغَيره، وَزعم السُّهيْلي: أَنه بِحِسَاب الْحُرُوف الْمُقطعَة أَوَائِل السُّور تكون تِسْعمائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، وَهل هِيَ من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو هجرته أَو وَفَاته؟ وَالله أعلم.
558 - حدَّثنا أبُو كُرَيْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبي مُوسَى عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَثَلُ المُسْلِمِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْما يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إلَى اللَّيْلِ فَعَمِلُوا إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فقالُوا لاَ حَاجَةَ لَنا إلَى أجْرِكَ فاسْتَأْجَرَ آخرِينَ فَقَالَ أكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ ولَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ فَعَمِلُوا حتَّى إذَا كانَ حِينَ صَلاَةِ العَصْرِ قالُوا لَكَ مَا عمِلْنَا فاسْتَأجَرَ قَوْما فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمسُ وَاسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ (الحَدِيث 558 طرفه فِي: 2271) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة لَا بالتصريح، بَيَان ذَلِك أَن وَقت الْعَمَل ممتد إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَأقرب الْأَعْمَال الْمَشْهُورَة بِهَذَا الْوَقْت صَلَاة الْعَصْر، وَإِنَّمَا قُلْنَا: بطرِيق الْإِشَارَة، لِأَن هَذَا الحَدِيث قصد بِهِ بَيَان الْأَعْمَال لَا بَيَان الْأَوْقَات.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أبي أُسَامَة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي، ويكنى أَبَا بردة. الرَّابِع: أَبُو بردة، واسْمه: عَامر، وَهُوَ جد بريد الْمَذْكُور. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَرِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري. وَفِيه: ثَلَاثَة بالكنى.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الْمُسلمين) ، الْمثل، بِفَتْح الْمِيم فِي الأَصْل بِمَعْنى: الْمثل، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ النظير. يُقَال: مثل وَمثل ومثيل: كشبه وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده مثل، وَلم يضْربُوا مثلا إلاَّ لقَوْل فِيهِ غرابة، وَهَذَا تَشْبِيه الْمركب بالمركب، فالمشبه والمشبه بِهِ هما المجموعان الحاصلان من الطَّرفَيْنِ، وإلاَّ كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال كَمثل: أَقوام استأجرهم رجل. وَدخُول: كَاف، التَّشْبِيه على الْمُشبه بِهِ، فِي تَشْبِيه الْمُفْرد بالمفرد، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك) ، الْخطاب إِنَّمَا هُوَ للْمُسْتَأْجر، وَالْمرَاد مِنْهُ لَازم هَذَا القَوْل، وَهُوَ ترك الْعَمَل. قَوْله: (فَقَالَ أكملوا) ، من الْإِكْمَال بِهَمْزَة الْقطع، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْإِجَارَة، وَوَقع هُنَا فِي رِوَايَة الْكشميهني: (اعْمَلُوا) ، بِهَمْزَة الْوَصْل من الْعَمَل. قَوْله: (حِين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ، أَي: كَانَ الزَّمَان زمَان الصَّلَاة، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِأَنَّهُ اسْم: كَانَ، وَتَكون تَامَّة. وَحَاصِل الْمَعْنى من قَوْله: (وَقَالُوا لَا حَاجَة لنا فِي أجرك) إِلَى آخِره لَا حَاجَة لنا فِي أجرتك الَّتِي شرطت لنا، وَمَا عَملنَا بَاطِل، فَقَالَ لَهُم: لَا تَفعلُوا، اعْمَلُوا بَقِيَّة يومكم وخذوا أجرتكم كَامِلا، فَأَبَوا وَتركُوا ذَلِك كُله عَلَيْهِ، فاستأجر قوما آخَرين، فَقَالَ لَهُم: إعملوا بَقِيَّة يومكم وَلكم الَّذِي شرطت لهَؤُلَاء من الْأجر، فعملوا حَتَّى حَان الْعَصْر، قَالُوا: لَك مَا عَملنَا بَاطِل ذَلِك الْأجر الَّذِي جعلت لنا، لَا حَاجَة لنا فِيهِ، فَقَالَ لَهُم: اكملوا بَقِيَّة عَمَلكُمْ، فَإِنَّمَا بَقِي من النَّهَار شَيْء يسير وخذوا أجركُم، فَأَبَوا عَلَيْهِ، فاستأجر قوما آخَرين فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى إِذا غَابَتْ الشَّمْس واستكملوا أجر الْفَرِيقَيْنِ كُله، ذَلِك مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى تركُوا مَا أَمرهم(5/53)
الله تَعَالَى، وَمثل الْمُسلمين الَّذين قبلوا هدى الله، وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمَقْصُود من هَذَا الحَدِيث ضرب الْمثل للنَّاس الَّذين شرع لَهُم دين مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ليعملوا الدَّهْر كُله بِمَا يَأْمُرهُم بِهِ وينهاهم إِلَى أَن بعث الله عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأَمرهمْ باتباعه فَأَبَوا وتبرأوا مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَعمل آخَرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَمرهمْ على أَن يعملوا بِمَا يؤمرون بِهِ بَاقِي الدَّهْر، فعملوا حَتَّى بعث سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَل بِمَا جَاءَ بِهِ، فَأَبَوا وعصوا، فجَاء الله تَعَالَى بِالْمُسْلِمين فعملوا بِمَا جَاءَ بِهِ، واستكملوا إِلَى قيام السَّاعَة، فَلهم أجر من عمل الدَّهْر، كُله بِعبَادة الله تَعَالَى، كإتمام النَّهَار الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ كُله أول طبقَة. وَفِي حَدِيث ابْن عمر: قدر لَهُم مُدَّة أَعمال الْيَهُود، وَلَهُم أجرهم إِلَى أَن نسخ الله تَعَالَى شريعتهم بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ عِنْد مبعث عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام: من يعْمل إِلَى مُدَّة هَذَا الشَّرْع وَله أجر قِيرَاط؟ فَعمِلت النَّصَارَى إِلَى أَن نسخ الله تَعَالَى ذَلِك بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ، متفضلاً على الْمُسلمين: من يعْمل بَقِيَّة النَّهَار إِلَى اللَّيْل وَله قيراطان؟ فَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن نعمل إِلَى انْقِطَاع الدَّهْر، فَمن عمل من الْيَهُود إِلَى أَن آمن بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَعمل بِشَرِيعَتِهِ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى إِذا آمنُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث، (و: رجل آمن بِنَبِيِّهِ وآمن بِي، يُؤْتى أجره مرَّتَيْنِ) . فَإِن قلت: حَدِيث أبي مُوسَى دلّ على أَن الْفَرِيقَيْنِ لم يأخذا شَيْئا، وَحَدِيث ابْن عمر دلّ على أَن كلا مِنْهُمَا أَخذ قيراطا. قلت: ذَلِك فِيمَن مَاتُوا مِنْهُم قبل النّسخ، وَهَذَا فِيمَن حرف أَو كفر بِالنَّبِيِّ الَّذِي بعث بعد نبيه، وَقَالَ ابْن رشد مَا محصله: إِن حَدِيث ابْن عمر ذكر مِثَالا لأهل الْأَعْذَار لقَوْله: فعجزوا، فَأَشَارَ إِلَى أَن من عجز عَن اسْتِيفَاء الْعَمَل من غير أَن يكون لَهُ صَنِيع فِي ذَلِك الْأجر يحصل لَهُ تَاما فضلا من الله تَعَالَى، وَذكر حَدِيث أبي مُوسَى مِثَالا لمن أخر من غير عذر، وَإِلَى ذَلِك إِشَارَة بقوله عَنْهُم: لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك، فَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن من أخر عَامِدًا لَا يحصل لَهُ مَا حصل لأهل الْأَعْذَار. وَقَالَ الْخطابِيّ: دلّ حَدِيث ابْن عمر ان مبلغ أُجْرَة الْيَهُود لعمل النَّهَار كُله قيراطان، وَأُجْرَة النَّصَارَى لِلنِّصْفِ الْبَاقِي من النَّهَار إِلَى اللَّيْل قيراطان. وَلَو تمموا الْعَمَل إِلَى آخر النَّهَار لاستحقوا تَمام الْأُجْرَة، وَهُوَ: قِيرَاط، ثمَّ إِن الْمُسلمين لما استوفوا أُجْرَة الْفَرِيقَيْنِ مَعًا حاسدوهم، وَقَالُوا: ... . الخ يَعْنِي قَوْلهم: إِي رَبنَا أَعْطَيْت هَؤُلَاءِ قيراطين ... الخ. وَلَو لم تكن صُورَة الْأَمر على هَذَا لم يَصح هَذَا الْكَلَام. وَفِي طَرِيق أبي مُوسَى زِيَادَة بَيَان لَهُ، وَقَوْلهمْ: لَا حَاجَة لنا، إِشَارَة إِلَى أَن تحريفهم الْكتب وتبديلهم الشَّرَائِع وَانْقِطَاع الطَّرِيق بهم عَن بُلُوغ الْغَايَة، فحرموا تَمام الْأُجْرَة لجنايتهم على أنفسهم حِين امْتَنعُوا من تَمام الْعَمَل الَّذِي ضمنوه.
18 - (بابُ وقْتِ المغْرَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْمغرب.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله ظَاهر لَا يخفى.
وَقَالَ عَطَاءٌ يَجْمَعُ المَرِيضُ بَيْنَ المَغْرَبَ والعِشَاءِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن جريج عَنهُ، وَبِقَوْلِهِ: قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَهَذَا بِنَاء على أَن وَقت الْمغرب وَالْعشَاء وَاحِد عِنْده، وَقَالَ عِيَاض: الْجمع بَين الصَّلَوَات الْمُشْتَركَة فِي الْأَوْقَات تكون تَارَة سنة وَتارَة رخصَة، فَالسنة الْجمع بِعَرَفَة والمزدلفة. وَأما الرُّخْصَة فالجمع فِي السّفر وَالْمَرَض والمطر، فَمن تمسك بِحَدِيث صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد أمَّه، لم ير الْجمع فِي ذَلِك، وَمن خصّه أثبت جَوَاز الْجمع فِي السّفر بالأحاديث الْوَارِدَة فِيهِ، وقاس الْمَرَض عَلَيْهِ، فَنَقُول: إِذا أُبِيح للْمُسَافِر الْجمع بِمَشَقَّة السّفر، فأحرى أَن يُبَاح للْمَرِيض. وَقد قرن الله تَعَالَى الْمَرِيض بالمسافر فِي الترخيص لَهُ فِي الْفطر وَالتَّيَمُّم، وَأما الْجمع فِي الْمَطَر فَالْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك إثْبَاته فِي الْمغرب وَالْعشَاء، وَعنهُ قولة شَاذَّة: إِنَّه لَا يجمع إلاَّ فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمذهب الْمُخَالف جَوَاز الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء، فِي الْمَطَر.
فَإِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة؟ قلت: من حَيْثُ إِن وَقت الْمغرب يَمْتَد إِلَى الْعشَاء، والترجمة فِي بَيَان وَقت الْمغرب.(5/54)
559 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَهْرَانَ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو النَّجَاشِيِّ مَوْلَى رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ وَهْوَ عَطَاءُ بنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ يَقُولُ كُنَّا نُصَلِّي المَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْصَرِفُ أحَدُنَا وإِنَّهُ لَيُبْصِرَ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل بِالْإِشَارَةِ لَا بالتصريح، فَإِن الْمَفْهُوم مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد الْمُبَادرَة إِلَى صَلَاة الْمغرب خوفًا أَن تتأخر إِلَى اشتباك النُّجُوم. وَقد روى ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: (لَا تزَال أمتِي على الْفطْرَة مَا لم يؤخروا الْمغرب إِلَى النُّجُوم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مهْرَان الْجمال، بِالْجِيم: الْحَافِظ الرَّازِيّ أَبُو جَعْفَر، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، بِكَسْر اللَّام الْخَفِيفَة: أَبُو الْعَبَّاس الْأمَوِي عَالم أهل الشَّام، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، وَقد مر فِي بَاب الْخُرُوج فِي طلب الْعلم. الرَّابِع: أَبُو النَّجَاشِيّ، بِفَتْح النُّون وَتَخْفِيف الْجِيم وبالشين الْمُعْجَمَة: واسْمه عَطاء بن صُهَيْب، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة، مولى رَافع بن خديج. الْخَامِس: رَافع، بِالْفَاءِ: ابْن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم: الْأنْصَارِيّ الأوسي الْمدنِي.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي وشامي ومدني. .
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن مهْرَان بِهِ وَعَن اسحاق بن إِبْرَاهِيم عَن شُعَيْب بن إِسْحَاق عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ليبصر) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف: من الإبصار. وَاللَّام: فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (مواقع نبله) ، المواقع جمع: موقع، وَهُوَ مَوضِع الْوُقُوع. و: النبل، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: السِّهَام الْعَرَبيَّة، وَهِي مُؤَنّثَة. وَقَالَ ابْن سَيّده: لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. وَقيل: واحدتها: نبلة، مثل: تمر وَتَمْرَة، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: هُوَ سهم عَرَبِيّ لطيف غير طَوِيل، لَا كسهام النشاب، والحسيان أَصْغَر من النبل يرْمى بهَا على القسي الْكِبَار فِي مجاري الْخشب.
وَمعنى الحَدِيث أَنه: يبكر بالمغرب فِي أول وَقتهَا بِمُجَرَّد غرُوب الشَّمْس حَتَّى ينْصَرف أَحَدنَا وَيَرْمِي النبل عَن قوسه، ويبصر موقعه لبَقَاء الضَّوْء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: دلّ الحَدِيث الْمَذْكُور على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْمغرب عِنْد غرُوب الشَّمْس وبادر بهَا بِحَيْثُ إِنَّه لما فرغ مِنْهَا كَانَ الضَّوْء بَاقِيا، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور. وَذهب طَاوُوس وَعَطَاء ووهب بن مُنَبّه إِلَى أَن أول وَقت الْمغرب حِين طُلُوع النَّجْم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي بصرة الْغِفَارِيّ، قَالَ: (صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر بالمحمض، فَقَالَ: إِن هَذِه الصَّلَاة عرضت على من كَانَ قبلكُمْ فضيعوها، فَمن حَافظ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاة بعْدهَا حَتَّى يطلع الشَّاهِد، وَالشَّاهِد: النَّجْم) ، أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ والطَّحَاوِي، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِأَن قَوْله: (وَلَا صَلَاة بعْدهَا حِين يرى الشَّاهِد) ، يحْتَمل أَن يكون هُوَ آخر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكره اللَّيْث، وَلَكِن الَّذِي رَوَاهُ غَيره تَأَول أَن الشَّاهِد هُوَ النَّجْم، فَقَالَ ذَلِك بِرَأْيهِ لَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن الْآثَار قد تَوَاتَرَتْ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يُصَلِّي الْمغرب إِذا تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب. و: أَبُو بصرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، واسْمه: جميل، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقيل: جميل: بِالْجِيم، وَالْأول أصح، و: المحمض، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة: وَهُوَ الْموضع الَّذِي ترعى فِيهِ الْإِبِل الحمض، وَهُوَ: مَا حمض وملح وَأمر من النَّبَات: كالرمث والأثل والطرفا وَنَحْوهَا، و: الْخلَّة، من النبت مَا كَانَ حلوا. تَقول الْعَرَب: الْخلَّة خبز الْإِبِل، والحمض فاكهتها.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث وَاخْتِلَاف رُوَاته: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كُنَّا نصلي الْمغرب ثمَّ نرمي فَيرى أَحَدنَا موقع نبله) . وَعَن كَعْب بن مَالك: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْمغرب ثمَّ يرجع النَّاس (إِلَى أَهْليهمْ ببني سَلمَة وهم يبصرون مواقع النبل حِين يرْمى بهَا) . قَالَ أَبُو حَاتِم: صَحِيح مُرْسل. وَعَن أبي طريف: (كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين حاصر الطَّائِف، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا صَلَاة الْبَصَر، حَتَّى لَو أَن رجلا رمى بِسَهْم لرَأى مَوضِع نبله) . قَالَ أَحْمد بن(5/55)
حَنْبَل: صَلَاة الْبَصَر: الْمغرب، وَعند أَحْمد من حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ وَلَفظه: (نأتي بني سَلمَة وَنحن نبصر مواقع النبل) . وَعند الشَّافِعِي، من حَدِيثه عَن إِبْرَاهِيم: (ثمَّ نخرج نتناضل حَتَّى ندخل بيُوت بني سَلمَة فَنَنْظُر مواقع النبل من الْإِسْفَار) . وَعند النَّسَائِيّ، بِسَنَد صَحِيح: عَن رجل من أسلم: أَنهم كَانُوا يصلونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى أَهْليهمْ إِلَى أقْصَى الْمَدِينَة، ثمَّ يرْمونَ فيبصرون مواقع نبلهم، وَعند الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) من حَدِيث زيد بن خَالِد: (كُنَّا نصلي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب ثمَّ ننصرف حَتَّى نأتي السُّوق، وإنَّا لنرى مَوَاضِع النبل) . وَعَن أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان نَحوه، ذكره أَبُو عَليّ الطوسي فِي (الْأَحْكَام) فَإِن قلت: وَردت أَحَادِيث تدل على تَأْخِيره إِلَى قرب سُقُوط الشَّفق؟ قلت: هَذِه لبَيَان جَوَاز التَّأْخِير.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي خُرُوج وَقت الْمغرب، فَقَالَ الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وطاووس وَمَكْحُول وَالْحسن بن حَيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد: إِذا غَابَ الشَّفق وَهُوَ الْحمرَة خرج وقتهاوممن قَالَ ذَلِك أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعبد الله بن الْمُبَارك وَالْأَوْزَاعِيّ، فِي رِوَايَة، وَمَالك فِي رِوَايَة وَزفر بن الْهُذيْل وَأَبُو ثَوْر والمبرد وَالْفراء: لَا يخرج حَتَّى يغيب الشَّفق الْأَبْيَض، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق وَعَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة ومعاذ بن جبل وَأبي ابْن كَعْب وَعبد الله بن الزبير، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَكَانَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ يَقُولُونَ: لَا وَقت لَهَا إلاَّ وقتا وَاحِدًا إِذا غَابَتْ الشَّمْس، وَقد روينَا عَن طَاوُوس (أَنه قَالَ: لَا تفوت الْمغرب وَالْعشَاء حَتَّى الْفجْر.
560 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةَ عنْ سَعْدٍ عنْ مُحَمَّدِ ابنِ عَمْرِو بنِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ قَالَ قَدِمَ الحَجّاجُ فَسَأَلْنا جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله فقالَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالهَاجِرَةِ والعَصْرَ والشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ والعِشَاءَ أَحْيَانا وأَحْيَانا إذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ وَإِذَا رَآهُمْ أبْطَأُوا أخَّرَ والصُّبْحَ كانُوا أوْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ. (الحَدِيث 560 طرفه فِي: 565) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الأول.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: مُحَمَّد بن جَعْفَر هُوَ غنْدر وَقد تكَرر ذكره، وَسعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَمُحَمّد بن عَمْرو بِالْوَاو بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب أَبُو عبد الله، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: تابعيان. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ إيضا فِي الصَّلَاة عَن مُسلم. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر وَبُنْدَار وَأبي مُوسَى، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ وَبُنْدَار، وَكِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ((قدم الْحجَّاج) هُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ وَالِي الْعرَاق، وَقَالَ بَعضهم: وَزعم الْكرْمَانِي أَن الرِّوَايَة بِضَم أَوله قَالَ: وَهُوَ جمع حَاج. قَالَ: وَهُوَ تَحْرِيف بِلَا خلاف. قلت: لم يقل الْكرْمَانِي: إِن الرِّوَايَة بِضَم أَوله، وَإِنَّمَا قَالَ: الْحجَّاج، بِضَم أَوله جمع الْحَاج، وَفِي بَعْضهَا بِفَتْحِهَا، وَهُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَهَذَا أصح ذكره فِي مُسلم وَلم يقف الْكرْمَانِي على الضَّم بل نبه على الْفَتْح، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا أصح. وَقَوله فِي مُسلم: هُوَ مَا رَوَاهُ من طَرِيق معَاذ عَن شُعْبَة: كَانَ الْحجَّاج يُؤَخر الصَّلَوَات. قَوْله: (قدم الْحجَّاج) يَعْنِي: قدم الْمَدِينَة واليا من قبل عبد الْملك بن مَرْوَان سنة أَربع وَسبعين، وَذَلِكَ عقيب قتل ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، فأمَّره عبد الْملك على الْحَرَمَيْنِ قَوْله: (فسألنا جَابر بن عبد الله) لم يبين المسؤول مَا هُوَ تَقْدِيره، فسألنا جَابر بن عبد الله عَن وَقت الصَّلَاة وَقد فسره فِي حَدِيث أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق أبي النَّضر عَن شُعْبَة، سَأَلنَا جَابر بن عبد الله فِي زمن الْحجَّاج، وَكَانَ يُؤَخر الصَّلَاة عَن وَقت الصَّلَاة. قَوْله: (بالهاجرة) الهاجرة: شدَّة الْحر، وَالْمرَاد بهَا نصف النَّهَار بعد الزَّوَال، سميت بهَا لِأَن الْهِجْرَة هِيَ التّرْك، وَالنَّاس يتركون التَّصَرُّف حِينَئِذٍ لشدَّة الْحر لأجل القيلولة وَغَيرهَا. فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث الْإِبْرَاد، لِأَن قَوْله: (كَانَ(5/56)
يُصَلِّي الظّهْر بالهاجرة) ، يشْعر بِالْكَثْرَةِ والدوام عرفا. قلت: لَا تعَارض بَينهمَا، لِأَنَّهُ أطلق الهاجرة على الْوَقْت بعد الزَّوَال مُطلقًا. والإبراد مُقَيّد بِشدَّة الْحر. قَوْله: (وَالْعصر) ، بِالنّصب أَي: وَكَانَ يُصَلِّي الْعَصْر. قَوْله: (وَالشَّمْس نقية) جملَة إسمية وَقعت حَالا على الأَصْل بِالْوَاو، وَمعنى: نقية، خَالِصَة صَافِيَة لم يدخلهَا بعد صفرَة وَتغَير. قَوْله: (وَالْمغْرب) ، بِالنّصب أَيْضا، أَي: وَكَانَ يُصَلِّي الْمغرب إِذا وَجَبت، أَي: إِذا غَابَتْ الشَّمْس. وأصل الْوُجُوب السُّقُوط، وَالْمرَاد سُقُوط قرص الشَّمْس. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم: (وَالْمغْرب إِذا غربت) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق أبي النَّضر عَن شُعْبَة: (وَالْمغْرب حِين تجب الشَّمْس) أَي: حِين تسْقط. قَوْله: (وَالْعشَاء) بِالنّصب أَيْضا أَي: وَكَانَ يُصَلِّي الْعشَاء. قَوْله: (أَحْيَانًا وَأَحْيَانا) منصوبان على الظَّرْفِيَّة، وَالْمعْنَى، كَانَ يُصَلِّي الْعشَاء فِي أحيان بالتقديم، وَفِي أحيان بِالتَّأْخِيرِ. وَقَوله: (إِذا رَآهُمْ اجْتَمعُوا على عجل) بَيَان لقَوْله: (أَحْيَانًا) يَعْنِي: إِذا رأى الْجَمَاعَة اجْتَمعُوا عجل بالعشاء، لِأَن فِي تَأْخِيرهَا تنفيرهم. وَقَوله: (وَإِذا رَآهُمْ إبطأوا أخر) بَيَان لقَوْله: (وَأَحْيَانا) يَعْنِي: إِذا رأى الْجَمَاعَة تَأَخَّرُوا بالعشاء لإحراز فَضِيلَة الْجَمَاعَة، والأحيان جمع: حِين، وَهُوَ اسْم مُبْهَم يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير من الزَّمَان، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ المُرَاد هَهُنَا. وَإِن كَانَ جَاءَ بِمَعْنى أَرْبَعِينَ سنة وَبِمَعْنى سِتَّة أشهر. وَقَوله: (أبطأوا) على وزن: أفعلوا، بِفَتْح الطَّاء وَضم الْهمزَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: والجملتان الشرطيتان فِي مَحل النصب حالان من الْفَاعِل، أَي: يُصَلِّي الْعشَاء معجلا إِذا اجتمعووا، ومؤخرا إِذا تباطأوا، وَيحْتَمل أَن يَكُونَا من الْمَفْعُول. والراجع إِلَيْهِ مَحْذُوف، إِذْ التَّقْدِير: عجلها وأخرها. قلت: لَا نسلم أَن: إِذا هَهُنَا للشّرط، بل على أَصْلهَا للْوَقْت، وَالْمعْنَى: كَانَ يُصَلِّي الْعشَاء أَحْيَانًا بالتعجيل إِذا رَآهُمْ اجْتَمعُوا، وَكَانَ يُصَلِّي أَحْيَانًا بِالتَّأْخِيرِ إِذا رَآهُمْ تَأَخَّرُوا، والجملتان بيانيتان كَمَا ذكرنَا، وكل وَاحِد من: عجل وَأخرج جَوَاب: إِذا. قَوْله: (وَالصُّبْح) بِالنّصب أَيْضا أَي: وَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْح. وَقَوله: (يُصليهَا بِغَلَس) ، إِضْمَار على شريطة التَّفْسِير، وَقد علم أَن الْإِضْمَار على شريطة التَّفْسِير كل اسْم بعده فعل أَو شُبْهَة مشتغل عَنهُ بضميره أَو مُتَعَلّقه، لَو سلط عَلَيْهِ لنصبه. وَهَهُنَا الإسم هُوَ قَوْله: (الصُّبْح) . وَقَوله: (يُصليهَا) ، فعل وَقع بعده قَوْله: (كَانُوا أَو كَانَ) بِكَلِمَة الشَّك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من الرَّاوِي عَن جَابر، ومعناهما متلازمان لِأَن أَيهمَا كَانَ يدْخل فِيهِ الآخر إِن أَرَادَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فالصحابة فِي ذَلِك كَانُوا مَعَه، وَإِن أَرَادَ الصَّحَابَة فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إمَامهمْ، وَخبر: كَانُوا، مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ كَانَ يُصليهَا، أَي: كَانُوا يصلونَ. وَقَالَ ابْن بطال: ظَاهره أَن الصُّبْح كَانَ يُصليهَا بِغَلَس، اجْتَمعُوا أَو لم يجتمعوا، وَلَا يفعل فِيهَا كَمَا يفعل فِي الْعشَاء، وَهَذَا من أفْصح الْكَلَام، وَفِيه حذفان: حذف خبر: كَانُوا، وَهُوَ جَائِز كحذف خبر الْمُبْتَدَأ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واللائي لم يحضن} (الطَّلَاق: 4) . وَالْمعْنَى: واللائي لم يحضن فعدتهن مثل ذَلِك ثَلَاثَة أشهر، والحذف الثَّانِي حذف الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ الْخَبَر لدلَالَة مَا تقدم عَلَيْهِ، وَحذف الْجُمْلَة الَّتِي بعد: أَو مَعَ كَونهَا مقتضية لَهَا. وَقَالَ السفاقسي: تَقْدِيره: أَو لم يَكُونُوا مُجْتَمعين، وَيصِح أَن تكون: كَانَ، تَامَّة غير نَاقِصَة، فَتكون بِمَعْنى الْحُضُور والوقوع، وَيكون الْمَحْذُوف مَا بعد: أَو، وخاصة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: يحْتَمل أَن يكون شكا من الرَّاوِي، هَل قَالَ: كَانَ النَّبِي، أَو كَانُوا؟ وَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِيره: وَالصُّبْح كَانُوا مُجْتَمعين مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده يُصليهَا بِغَلَس قلت: الْأَوْجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَول كل وَاحِد من الثَّلَاثَة لَا يَخْلُو عَن تعسف لَا يخفى ذَلِك على المتأمل. قَوْله: بِغَلَس) مُتَعَلق بقوله: (كَانُوا) ، أَو: (كَانَ) بِاعْتِبَار الشَّك، فَإِن علقتها بقوله: (كَانُوا) لَا يلْزم مِنْهُ أَن لَا يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهم، وَإِن علقتها: (بكان) لَا يلْزم أَن لَا يكون أَصْحَابه مَعَه، والغلس، بِفتْحَتَيْنِ: ظلمَة آخر اللَّيْل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان معرفَة أَوْقَات الصَّلَاة الْخمس. وَفِيه: بَيَان الْمُبَادرَة إِلَى الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا إلاَّ مَا ورد فِيهِ الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ والإسفار بالصبح، وَتَأْخِير الْعشَاء عِنْد تَأَخّر الْجَمَاعَة. وَفِيه: السُّؤَال عَن أهل الْعلم. وَفِيه: تعين الْجَواب على المسؤول عَنهُ إِذا علم بالمسؤول.
56 - ح دَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدَّثَنا يَزِيدُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَغْرِبَ إذَا تَوَارَتْ بالحِجَابِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يعلم مِنْهُ أَن وَقت الْمغرب بغيبوبة الشَّمْس.
ذكر رِجَاله: وهم ثَلَاثَة: الْمَكِّيّ(5/57)
بن إِبْرَاهِيم ابْن بشير بن فرقد الْبَلْخِي، وَيزِيد بن أبي عبيد مولى سَلمَة هَذَا. وَهُوَ سَلمَة بن الْأَكْوَع الصَّحَابِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن هَذَا من ثلاثيات البُخَارِيّ. وَفِيه: أَن اسْم شيخ البُخَارِيّ على صُورَة الْمَنْسُوب، وَرُبمَا يتَوَهَّم أَنه شخص مَنْسُوب إِلَى مَكَّة وَلَيْسَ كَذَلِك.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَيْضا مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، وَأَبُو دَاوُد عَن عَمْرو بن عَليّ وَالتِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة وَابْن مَاجَه عَن يَعْقُوب بن حميد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمغرب) أَي: صَلَاة الْمغرب. قَوْله: (إِذا تَوَارَتْ) أَي: الشَّمْس، وَلَا يُقَال: إِن الضَّمِير فِيهِ مُبْهَم لَا يعلم مرجعه، لِأَن قَوْله: (الْمغرب) قرينَة تدل على أَن الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الشَّمْس كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} (ص: 32) . وَالظَّاهِر أَن طي ذكر الْفَاعِل فِيهِ من شيخ البُخَارِيّ، لِأَن عبد بن حميد رَوَاهُ عَن صَفْوَان بن عِيسَى، والإسماعيلي كَذَلِك عَن يزِيد بن أبي عبيد بِلَفْظ: (كَانَ يُصَلِّي الْمغرب سَاعَة تغرب الشَّمْس حِين يغيب حاجبها) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن سَلمَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْمغرب سَاعَة مغرب الشَّمْس إِذا غَابَ حاجبها) . قَوْله: (سَاعَة) نصب على الظّرْف ومضاف إِلَى الْجُمْلَة. قَوْله: (إِذا غَابَ حاجبها) ، بدل من قَوْله: سَاعَة تغرب الشَّمْس) وحاجب الشَّمْس، طرفها الْأَعْلَى من قرصها، وحواجبها نَوَاحِيهَا. وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ أول مَا يَبْدُو مِنْهَا كحاجب الْإِنْسَان، فعلى هَذَا يخْتَص الْحَاجِب بالحرف الْأَعْلَى البادي أَولا، وَلَا يُسمى جَمِيع جوانبها حواجب.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن أول وَقت صَلَاة الْمغرب حِين تغرب الشَّمْس، وَفِي خُرُوج وقته اخْتِلَاف، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
19 - (بابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ العِشَاءُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من كره أَن يُقَال للمغرب: الْعشَاء، وَإِنَّمَا لم يجْزم بقوله: بَاب، كَرَاهِيَة كَذَا، لِأَن لفظ الحَدِيث لَا يَقْتَضِي نهيا مُطلقًا، لِأَن النَّهْي فِيهِ عَن غَلَبَة الْإِعْرَاب على ذَلِك، فَكَأَنَّهُ رأى جَوَاز إِطْلَاقه بالعشاء على وَجه لَا يتْرك التَّسْمِيَة الْأُخْرَى، كَمَا ترك الْإِعْرَاب. والمشروع أَن يُقَال لَهَا: الْمغرب، لِأَنَّهُ اسْم يشْعر بمسماها وبابتداء وَقتهَا. وَوجه كَرَاهَة إِطْلَاق الْعشَاء عَلَيْهَا لأجل الالتباس بِالصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فعلى هَذَا لَا يكره أَن يُقَال للمغرب: الْعشَاء الأولى، وَيُؤَيِّدهُ قَوْلهم الْعشَاء الْآخِرَة كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح وَنقل ابْن بطال عَن بَعضهم انه لَا يُقَال للمغرب الْعشَاء الأولى وَيحْتَاج إِلَى دَلِيل خَاص لِأَنَّهُ لَا حجَّة لَهُ من حَدِيث الْبَاب. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا كره أَن يُقَال للمغرب: الْعشَاء، لِأَن التَّسْمِيَة من الله تَعَالَى وَرَسُوله، قَالَ تَعَالَى: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} (الْبَقَرَة: 31) .
563 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا عَبْد الوَارِثِ عَنِ الحُسَيْنِ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله المُزَنِيُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَغْلِبَنَّكُمْ الأَعْرَابُ عَلَى إسْمِ صَلاَتِكُمْ المَغْرِبِ قالَ وتَقُولُ الأَعْرَابُ هِيَ العِشَاءُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَاهُم أَن يسموا الْمغرب بِالِاسْمِ الَّذِي تسميه الْأَعْرَاب وَهُوَ: الْعشَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: واسْمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التنوري الثالثص الْحُسَيْن الْمعلم. الرَّابِع: عبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: قَاضِي مرو، مَاتَ بهَا سنة خمس عشرَة وَمِائَة. الْخَامِس: عبد الله بن مُغفل، بِضَم الْمِيم وَفتح(5/58)
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء: الْمُزنِيّ من أَصْحَاب الشَّجَرَة، قَالَ: (كنت أرفع أَغْصَانهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رُوِيَ لَهُ ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ مِنْهَا خَمْسَة، وَهُوَ أول من دخل تستر وَقت الْفَتْح، مَاتَ سنة سِتِّينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب) ، قَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ: لَا يَغُرنكُمْ فعلهم هَذَا عَن صَلَاتكُمْ فتؤخروها، وَلَكِن صلوها إِذا كَانَ وَقتهَا، وَالْعشَاء أول ظلام اللَّيْل، وَذَلِكَ من حِين يكون غيبوبة الشَّفق. فَلَو قيل فِي الْمغرب: عشَاء، لَأَدَّى إِلَى اللّبْس بالعشاء الْآخِرَة، وَالْكَرَاهَة فِي ذَلِك أَن لَا تتبع الْأَعْرَاب فِي هَذِه التَّسْمِيَة. وَقيل: إِن الْأَعْرَاب يسمونها: الْعَتَمَة لكَوْنهم يؤخرون الْحَلب إِلَى شدَّة الظلام. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لِئَلَّا يعدل بهَا عَمَّا سَمَّاهَا الله تَعَالَى، فَهُوَ إرشاد إِلَى مَا هُوَ الأولى لَا على التَّحْرِيم وَلَا على أَنه لَا يجوز. أَلاَ ترَاهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ: (وَلَو يعلمُونَ مَا فِي الْعَتَمَة وَالصُّبْح) . وَقد أَبَاحَ تَسْمِيَتهَا بذلك أَبُو بكر وَابْن عَبَّاس فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يُقَال: غَلبه على كَذَا: غصبه مِنْهُ، أَو أَخذه مِنْهُ قهرا، وَالْمعْنَى: لَا تتعرضوا لما هُوَ من عَادَتهم من تَسْمِيَة الْمغرب بالعشاء، وَالْعشَاء بالعتمة، فيغصب مِنْكُم الْأَعْرَاب اسْم الْعشَاء الَّتِي سَمَّاهَا الله تَعَالَى بهَا، قَالَ: فالنهي على الظَّاهِر للأعراب، وعَلى الْحَقِيقَة لَهُم. وَقَالَ غَيره: معنى الْغَلَبَة أَنكُمْ تسمونها إسما وهم يسمونها إسما، فَإِن سميتموها بِالِاسْمِ الَّذِي يسمونها بِهِ وافقتموهم، وَإِذا وَافق الْخصم خَصمه صَار كَأَنَّهُ انْقَطع لَهُ حَتَّى غَلبه، وَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير غصب وَلَا أَخذ. قلت: لما فسر الطَّيِّبِيّ الْغَلَبَة: بِالْغَصْبِ، يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير ليتضح الْمَعْنى، وَقَالَ التوربشتي شَارِح (المصابيح) : الْمَعْنى: لَا تطلقوا هَذَا الِاسْم على مَا هُوَ متداول بَينهم فيغلب مصطلحهم على الِاسْم الَّذِي شرعته لكم. قَوْله: (الْأَعْرَاب) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْأَعْرَاب من كَانَ من أهل الْبَادِيَة وَإِن لم يكن عَرَبيا، والعربي من ينْسب إِلَى الْعَرَب وَلَو لم يسكن الْبَادِيَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْأَعْرَاب ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إلاَّ لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل من النَّاس، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن. وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمَا أَعْرَابِي وعربي. قَوْله: (على اسْم صَلَاتكُمْ الْمغرب) ، كلمة: على، مُتَعَلقَة بقوله: (لَا يغلبنكم) . و (الْمغرب) ، بِالْجَرِّ صفة: للصَّلَاة، وَهَذِه اللَّفْظَة ترد تَفْسِير الْأَزْهَرِي: لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ عَن قريب. قَوْله: (قَالَ: وَتقول الْأَعْرَاب) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: قَالَ عبد الله الْمُزنِيّ: وَكَانَ الْأَعْرَاب يَقُولُونَ، ويريدون بِهِ الْمغرب، فَكَانَ يشْتَبه ذَلِك على الْمُسلمين بالعشاء الْآخِرَة فَنهى عَن إِطْلَاق الْعشَاء على الْمغرب دفعا للالتباس. وَقَالَ بَعضهم: وَقد جزم الْكرْمَانِي بِأَنَّهُ فَاعل: قَالَ، هُوَ عبد الله الْمُزنِيّ رَاوِي الحَدِيث، وَيحْتَاج إِلَى نقل خَاص لذَلِك، وإلاَّ فَظَاهر إِيرَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَنه من تَتِمَّة الحَدِيث، فَإِنَّهُ أورد بِلَفْظ: فَإِن الْأَعْرَاب تسميها، وَالْأَصْل فِي مثل هَذَا أَن يكون كلَاما وَاحِدًا حَتَّى يقوم دَلِيل على إدراجه. قلت: لم يجْزم الْكرْمَانِي بذلك، وَإِنَّمَا قَالَ: قَالَ عبد الله الْمُزنِيّ، بِنَاء على ظَاهر الْكَلَام، فَإِنَّهُ فصل بَين الْكَلَامَيْنِ بِلَفْظ: قَالَ: وَالظَّاهِر أَنه الرَّاوِي، على أَنه يحْتَمل أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة مطوية فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. قَوْله: (هِيَ الْعشَاء) ، بِكَسْر الْعين وبالمد، وَهُوَ من الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة. وَقيل: من الزَّوَال إِلَى طُلُوع الْفجْر. وَاعْلَم أَنه اخْتلف فِي لفظ الْمَتْن الْمَذْكُور، فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجه) وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) كَرِوَايَة البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ ابو مَسْعُود الرَّازِيّ عَن عبد الصَّمد: (لَا يغلبنكم على اسْم صَلَاتكُمْ، فَإِن الْأَعْرَاب تسميها عتمة) . وَكَذَا رَوَاهُ عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ عَن أبي معمر شيخ البُخَارِيّ. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ كَذَلِك، وَرجح الْإِسْمَاعِيلِيّ رِوَايَة أبي مَسْعُود الرَّازِيّ لموافقته حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن ابْن عمر بِلَفْظ: (لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ، فَإِنَّهَا فِي كتاب الله الْعشَاء، وَإِنَّهُم يعتمون بحلاب ازبل) . وَلابْن مَاجَه نَحوه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد حسن، وَلأبي يعلى وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَذَلِك.
20 - (بابُ ذِكْرِ العِشَاءِ والعَتْمَةِ ومَنْ رَآهُ واسِعا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر الْعشَاء وَالْعَتَمَة فِي الْآثَار، وَمن رأى إِطْلَاق إسم الْعَتَمَة على الْعشَاء وَاسِعًا، أَي: جَائِزا وَالْعَتَمَة(5/59)
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: وَقت صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة، وَقَالَ الْخَلِيل: هِيَ بعد غيبوبة الشَّفق. وأعتم: إِذا دخل فِي الْعَتَمَة، وَالْعَتَمَة الإبطاء. يُقَال: أعتم الشَّيْء وعتمه إِذا أَخّرهُ، وعتمت الْحَاجة واعتمت إِذا تَأَخَّرت. فَإِن قلت: سِيَاق الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب، والْحَدِيث الَّذِي فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَاحِد، فَمَا وَجه مُغَايرَة الترجمتين؟ قلت: لِأَنَّهُ لم يثبت عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِطْلَاق إسم الْعشَاء على الْمغرب، وَثَبت عَنهُ إِطْلَاق اسْم الْعَتَمَة على الْعشَاء، فغاير البُخَارِيّ بَين الترجمتين بِحَسب ذَلِك.
وقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى المُنَافِقِينَ العِشَاءُ والفَجْرُ وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُون مَا فِي العَتَمَةِ والفَجْرِ
اللَّفْظ الأول، أسْندهُ البُخَارِيّ فِي فضل الْعشَاء فِي جمَاعَة، وَالثَّانِي أسْندهُ فِي بَاب الْأَذَان والشهادات، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث الَّتِي بعده محذوفة الْأَسَانِيد، إِلَى جَوَاز تَسْمِيَة الْعشَاء بالعتمة، وَقد أَبَاحَ تَسْمِيَتهَا بالعتمة أَيْضا أَبُو بكر وَابْن عَبَّاس، ذكره ابْن أبي شيبَة
قالَ أبُو عَبْدِ الله والاخْتِيَارُ أنْ يَقُولَ العِشَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ومِن بَعْدِ صَلاَةِ العِشَاءِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَأَنَّهُ اقتبس مِمَّا ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ الْعشَاء، فَإِنَّهَا فِي كتاب الله تَعَالَى: الْعشَاء. قَالَ تَعَالَى: {وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} (النُّور: 58) . وَقَالَ ابْن الْمُنِير: هَذَا لَا يتَنَاوَلهُ لفظ التَّرْجَمَة، فَإِن لَفظهَا يفهم التَّسْوِيَة، وَهَذَا ظَاهر فِي التَّرْجِيح، وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ: لَا مُنَافَاة بَين الْجَوَاز والأولوية، فالشيئان إِذا كَانَا جائزي الْفِعْل قد يكون أَحدهمَا أولى من الآخر، وَإِنَّمَا صَار أولى مِنْهُ لموافقته لفظ الْقُرْآن. قلت: لَا نسلم أَن لفظ التَّرْجَمَة يفهم بالتسوية، غَايَة مَا فِي الْبَاب إِنَّمَا تفهم الْجَوَاز عِنْد من رَآهُ وَالْجَوَاز لَا يسْتَلْزم التَّسْوِيَة.
ويُذْكَرُ عنْ أبي مُوسَى قَالَ كُنَّا نَتَنَاوَبُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ صَلاةِ العِشَاءِ فأَعْتَمَ بِهَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي بَاب فضل الْعشَاء مطولا، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يَلِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَلَفظه فِيهِ: (فَكَانَ يتناوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد صَلَاة الْعشَاء كل لَيْلَة نفر مِنْهُم، فَوَافَقنَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنا وأصحابي، وَله بعض الشّغل فِي بعض أمره، فاعتم بِالصَّلَاةِ) ، الحَدِيث. فَإِن قلت: هَذَا صَحِيح عِنْده، فَكيف ذكره بِصِيغَة التمريض قلت غَرَضه بَيَان اطلاقهم الْعَتَمَة وَالْعشَاء عَلَيْهِمَا عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ بِصِيغَة التمريض لنَحْو: يذكر، أَو بِصِيغَة التَّصْحِيح نَحْو: قَالَ، كَمَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، فِيمَا مضى الْآن.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وعَائِشَةُ أعْتَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعَتْمَةِ بِالعِشَاءِ
هَذَا التَّعْلِيق ذكر بِصِيغَة التَّصْحِيح، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَصله فِي بَاب النّوم قبل الْعشَاء، وَهُوَ الْبَاب الرَّابِع بعد هَذَا الْبَاب، وَلَفظه فِيهِ: قلت: لعطاء، فَقَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: (اعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة بالعشاء حَتَّى رقد النَّاس) الحَدِيث، وَأما حَدِيث عَائِشَة فوصله فِي بَاب فضل الْعشَاء وَلَفظه: عَن عُرْوَة أَن عَائِشَة أخْبرته، قَالَ: (اعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة بالعشاء) الحَدِيث، وَكَذَا وَصله فِي بَاب النّوم قبل الْعشَاء عَن عُرْوَة أَن عَائِشَة قَالَت: (اعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعشاء) الحَدِيث. قَوْله: (اعتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالعتمة) أَي: أخر صَلَاة الْعَتَمَة أَو أَبْطَأَ بهَا. قَوْله: (بالعشاء) ، بدل اشْتِمَال من قَوْله: (بالعتمة) .
وقالَ بَعْضُهُمْ عنْ عَائِشَةَ أعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعَتْمَةِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد بِاللَّيْلِ من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من هَذَا الطَّرِيق قَوْله: (اعتم بالعتمة) ، أَي: دخل فِي وَقت الْعَتَمَة.
وَقَالَ جابرٌ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العِشَاءَ
لما ذكر ثَلَاث تعليقات عَن ثَلَاثَة من الصَّحَابَة وهم: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى(5/60)
عَنْهُم، وفيهَا ذكر الْعَتَمَة وأعتم، شرع يذكر عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة بِالتَّعْلِيقِ فِيهَا ذكر الْعشَاء: الأول عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي بَاب وَقت الْمغرب عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره. وَفِيه: (وَالْعشَاء أَحْيَانًا وَأَحْيَانا) الحَدِيث، وَوَصله أَيْضا فِي بَاب وَقت الْعشَاء الَّذِي يَلِي الْبَاب الَّذِي نَحن فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤَخِّرُ العِشَاءَ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي بَاب وَقت الْعَصْر الَّذِي مضى قبل هَذَا الْبَاب بِسِتَّة أَبْوَاب من حَدِيث سيار بن سَلامَة، قَالَ: (دخلت أَنا وَأبي على أبي بَرزَة) الحَدِيث وَفِيه: (وَكَانَ يسْتَحبّ أَن يُؤَخر الْعشَاء.
وَقَالَ أنَسٌ أخَّرَّ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءَ الآخِرَةَ
وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي بَاب وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، وَهُوَ بعد الْبَاب الَّذِي نَحن فِيهِ بأَرْبعَة أَبْوَاب، من حَدِيث حميد الطَّوِيل عَن أنس، قَالَ: (أخر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَلَاة الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل)
وقالَ ابنُ عُمَرَ وأبُو أيُّوبَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم صلى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَغْرِبَ والعِشَاءَ
وَهَذَا التَّعْلِيق فِيهِ ثَلَاثَة من الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر، وَأَبُو أَيُّوب خَالِد بن زيد الخزرجي، وَعبد الله بن عَبَّاس. أما حَدِيث ابْن عمر فوصله البُخَارِيّ فِي الْحَج بِلَفْظ: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ) . وَأما حَدِيث أبي أَيُّوب فوصله أَيْضا بِلَفْظ: (جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بَين الْمغرب وَالْعشَاء) . وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فوصله فِي بَاب تَأْخِير الظّهْر إِلَى الْعَصْر، وَكَذَا أسْندهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه.
564 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سالِمٌ أَخْبرنِي عَبْد الله قَالَ صلَّى لَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ وَهْيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ العَتْمَةَ ثُمَّ انْصَرَفَ فأقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ أرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإنَّ رَأْسَ مَائَةِ سنَةٍ مِنْهَا لاَيَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أحَدٌ. . (انْظُر الحَدِيث 116 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ ذكر الْعشَاء وَالْعَتَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَبْدَانِ، بِفَتْح العيم الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن أَبِيه بِذكر إسمه وَهُوَ قَوْله: قَالَ سَالم: أَخْبرنِي: عبد الله، فَإِن سالما هُوَ ابْن عبد الله بن عمر، وَشَيْخه هُنَا هُوَ أَبوهُ عبد الله بن عمر. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي ومدني وأيلي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: قد ذكرنَا فِي كتاب الْعلم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِيهِ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ عَن سَالم وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة أَن عبد الله بن عمر، قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر حَيَاته، فَلَمَّا سلم قَالَ: أَرَأَيْتكُم) الحَدِيث، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن شُعَيْب بِهِ، وَعَن أبي رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (صلى لنا) ، ويروى: (صلى بِنَا) ، وَمعنى: اللَّام، صلى إِمَامًا لنا، وإلاَّ فَالصَّلَاة لله لَا لَهُم. قَوْله: (لَيْلَة) أَي: فِي لَيْلَة من اللَّيَالِي. قَوْله: (وَهِي الَّتِي يَدْعُو النَّاس الْعَتَمَة) وَقد مر نَظِيره فِي حَدِيث أبي بَرزَة فِي قَوْله: (وَكَانَ يسْتَحبّ أَن يُؤَخر الْعشَاء الَّتِي تدعونها الْعَتَمَة) ، وَهَذَا يدل على غَلَبَة استعمالهم لَهَا بِهَذَا الإسم مِمَّن لم يبلغهم النَّهْي، وَأما من عرف النَّهْي(5/61)
عَن ذَلِك يحْتَاج إِلَى ذكره لقصد التَّعْرِيف. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) ، أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (أَرَأَيْتكُم) بِفَتْح الرَّاء وتاء الْخطاب، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. قَوْله: (فَإِن رَأس) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَإِن على رَأس مائَة سنة) . قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من تِلْكَ اللَّيْلَة. قَوْله: (لَا يبْقى) ، خبر: إِن، وَالتَّقْدِير: لَا يبْقى عِنْده أَو فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة سنة، سَوَاء قل عمره بعد ذَلِك أَو لَا وَلَيْسَ فِيهِ نفي عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذين هم فِيهَا، فوعظهم بقصر أعمارهم وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَرْضِ: الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا: وَقَالَ تَعَالَى: {ألَمْ تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء: 97) . يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: (مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض) إحتراز عَن الْمَلَائِكَة، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر، وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَقَالَ السُّهيْلي، عَن أبي عمر بن عبد الْبر: قد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار باجتماع الْخضر بسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا يرد قَول من قَالَ: لَو كَانَ حَيا لاجتمع بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَيْضًا عدم إِتْيَانه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ مؤثرا فِي الْحَيَاة وَلَا غَيرهَا، لأَنا عهدنا جمَاعَة آمنُوا بِهِ وَلم يروه مَعَ الْإِمْكَان، وَزعم ابْن عَبَّاس ووهب: أَن الْخضر كَانَ نَبيا مُرْسلا، وَمِمَّنْ قَالَ بنبوته أَيْضا: مقَاتل وَإِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي. وَقيل: كَانَ وليا. وَقَالَ أَبُو الْفرج: وَالصَّحِيح أَنه نَبِي، وَلَا يعْتَرض على الحَدِيث بِعِيسَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ على وَجه الأَرْض، وَلَا بالخضر لِأَنَّهُ فِي الْبَحْر، وَلَا لِأَنَّهُمَا ليسَا ببشر، وَكَذَا الْجَواب فِي إِبْلِيس. وَيُقَال معنى الحَدِيث: لَا يبْقى مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَالْجَوَاب الْأَوْجه فِي هَذَا أَن نقُول: إِن المُرَاد مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض: أمته، وكل من هُوَ على ظهر الأَرْض: أمته الْمُسلمُونَ أمة إِجَابَة، وَالْكفَّار أمة دَعْوَة، وَعِيسَى وَالْخضر ليسَا داخلين فِي الْأمة، والشيطان لَيْسَ من بني آدم.
21
- (بابُ وَقْتِ العِشَاءِ إذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أوْ تَأَخَّرُوا
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت الْعشَاء عِنْد اجْتِمَاع الْجَمَاعَة وَعند تأخرهم، فوقتها عِنْد الِاجْتِمَاع أول الْوَقْت، وَعند التَّأَخُّر التَّأْخِير وَأما حد التَّأْخِير فَفِي حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ: وَقتهَا إِلَى نصف اللَّيْل الْأَوْسَط، وَفِي رِوَايَة بُرَيْدَة أَنه صلى فِي الْيَوْم الثَّانِي بَعْدَمَا ذهب ثلث اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة: عِنْدَمَا ذهب ثلث اللَّيْل، وَمثله فِي حَدِيث أبي مُوسَى: حِين كَانَ ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين ذهب سَاعَة من اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس: إِلَى ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث أبي بَرزَة: إِلَى نصف اللَّيْل أَو ثلثه، وَقَالَ مرّة: إِلَى نصف اللَّيْل، وَمرَّة إِلَى ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث أنس: شطره، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: حِين ذهب ثلثه، وَفِي حَدِيث جَابر: إِلَى شطره، وَعنهُ إِلَى ثلثه، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: حِين ذهب عَامَّة اللَّيْل. وَاخْتلف الْعلمَاء بِحَسب هَذَا، وَقَالَ عِيَاض: وبالثلث قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: وبنصف قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَأَصْحَاب الحَدِيث وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَابْن حبيب من أَصْحَابنَا. وَعَن النَّخعِيّ: الرّبع، وَقيل: وَقتهَا إِلَى طُلُوع الْفجْر، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَهَذَا عِنْد مَالك وَقت الضَّرُورَة. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: التَّأْخِير أفضل إلاَّ فِي ليَالِي الصَّيف، وَفِي (شرح الْهِدَايَة: تَأْخِيرهَا إِلَى نصف اللَّيْل مُبَاح، وَقيل: تَأْخِيرهَا بعد الثُّلُث مَكْرُوه، وَفِي (الْقنية) : تَأْخِيرهَا على النّصْف مَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِنَّهَا تسمى الْعشَاء إِذا عجلت، وَالْعَتَمَة إِذا أخرت. قلت: هَذَا كَلَام واه، لِأَن التَّرْجَمَة لَا تدل على هَذَا أصلا، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اخْتِيَاره فِي وَقت الْعشَاء التَّقْدِيم عِنْد الإجتماع، وَالتَّأْخِير عِنْد التَّأَخُّر، وَهُوَ نَص الشَّافِعِي أَيْضا فِي (الْأُم) أَنهم إِذا اجْتَمعُوا عجل، وَإِذا أبطأوا أخر.
42 - (حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن عَمْرو وَهُوَ ابْن الْحسن بن عَليّ قَالَ سَأَلنَا جَابر بن عبد الله عَن صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(5/62)
فَقَالَ كَانَ النَّبِي يُصَلِّي الظّهْر بالهاجرة وَالْعصر وَالشَّمْس حَيَّة وَالْمغْرب إِذا وَجَبت وَالْعشَاء إِذا كثر النَّاس عجل وَإِذا قلوا أخروا الصُّبْح بِغَلَس) قد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي بَاب وَقت الْمغرب عَن قريب رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة فَانْظُر بَينهمَا فِي التَّفَاوُت فِي الروَاة وَمتْن الحَدِيث وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصى -
21
- (بابُ وَقْتِ العِشَاءِ إذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أوْ تَأَخَّرُوا
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت الْعشَاء عِنْد اجْتِمَاع الْجَمَاعَة وَعند تأخرهم، فوقتها عِنْد الِاجْتِمَاع أول الْوَقْت، وَعند التَّأَخُّر التَّأْخِير وَأما حد التَّأْخِير فَفِي حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ: وَقتهَا إِلَى نصف اللَّيْل الْأَوْسَط، وَفِي رِوَايَة بُرَيْدَة أَنه صلى فِي الْيَوْم الثَّانِي بَعْدَمَا ذهب ثلث اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة: عِنْدَمَا ذهب ثلث اللَّيْل، وَمثله فِي حَدِيث أبي مُوسَى: حِين كَانَ ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين ذهب سَاعَة من اللَّيْل، وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس: إِلَى ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث أبي بَرزَة: إِلَى نصف اللَّيْل أَو ثلثه، وَقَالَ مرّة: إِلَى نصف اللَّيْل، وَمرَّة إِلَى ثلث اللَّيْل، وَفِي حَدِيث أنس: شطره، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: حِين ذهب ثلثه، وَفِي حَدِيث جَابر: إِلَى شطره، وَعنهُ إِلَى ثلثه، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: حِين ذهب عَامَّة اللَّيْل. وَاخْتلف الْعلمَاء بِحَسب هَذَا، وَقَالَ عِيَاض: وبالثلث قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول: وبنصف قَالَ أَصْحَاب الرَّأْي وَأَصْحَاب الحَدِيث وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَابْن حبيب من أَصْحَابنَا. وَعَن النَّخعِيّ: الرّبع، وَقيل: وَقتهَا إِلَى طُلُوع الْفجْر، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَهَذَا عِنْد مَالك وَقت الضَّرُورَة. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: التَّأْخِير أفضل إلاَّ فِي ليَالِي الصَّيف، وَفِي (شرح الْهِدَايَة: تَأْخِيرهَا إِلَى نصف اللَّيْل مُبَاح، وَقيل: تَأْخِيرهَا بعد الثُّلُث مَكْرُوه، وَفِي (الْقنية) : تَأْخِيرهَا على النّصْف مَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من قَالَ: إِنَّهَا تسمى الْعشَاء إِذا عجلت، وَالْعَتَمَة إِذا أخرت. قلت: هَذَا كَلَام واه، لِأَن التَّرْجَمَة لَا تدل على هَذَا أصلا، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اخْتِيَاره فِي وَقت الْعشَاء التَّقْدِيم عِنْد الإجتماع، وَالتَّأْخِير عِنْد التَّأَخُّر، وَهُوَ نَص الشَّافِعِي أَيْضا فِي (الْأُم) أَنهم إِذا اجْتَمعُوا عجل، وَإِذا أبطأوا أخر.
22
- (يايُ فَضْلِ العِشَاءِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعشَاء. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهر.
22
- (يايُ فَضْلِ العِشَاءِ
(
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعشَاء. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهر.
566 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا الليْثُ عَن عقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قالَتْ أعْتَمَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةً بالعِشَاءِ وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَفْشُوَ الإسْلاَمُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ نامَ النِّسَاءُ والصِّبْيَانُ فَخَرَجَ فَقَالَ لأِهْلِ المَسْجِدِ مَا يَنْتَظِرُها أحَدٌ مِن أهْلِ الأَرْضِ غَيْرُكُمْ. .
قَالَ بَعضهم: لم أر من تكلم على هَذِه التَّرْجَمَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثين اللَّذين ذكرهمَا الْمُؤلف فِي هَذَا الْبَاب مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاص الْعشَاء بفضيلة ظَاهِرَة، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَوْله: (مَا ينتظرها أحد من أهل الأَرْض غَيْركُمْ) ، فعلى هَذَا فِي التَّرْجَمَة حذف تَقْدِيره: بَاب فضل انْتِظَار الْعشَاء قلت: هَذَا الْقَائِل نفى أَولا كَلَام النَّاس على هَذِه التَّرْجَمَة. ثمَّ ذكر شَيْئا ادّعى أَنه تفرد بِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْء لِأَن كَلَامه آل إِلَى الْفضل لانتظار الْعشَاء لَا للعشاء، والترجمة فِي أَن الْفضل للعشاء. فَنَقُول: مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ (إِن الْعشَاء عبَادَة قد اخْتصّت بالانتظار لَهَا من بَين سَائِر الصَّلَوَات، وَبِهَذَا ظهر فَضلهَا فَحسن قَوْله: بَاب فضل الْعشَاء.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة كلهم ذكرُوا غير مرّة، وَاللَّيْث: هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بتأنيث الْفِعْل الْمُفْرد من الْمَاضِي. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: عَن عُرْوَة، وَعند مُسلم فِي رِوَايَة: يُونُس عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عُرْوَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب النّوم قبل الْعشَاء لمن غلب عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يَلِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي نَحن فِيهِ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا بِإِسْنَاد الْبَاب. وَلَفظ مُسلم: (أعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة من اللَّيَالِي بِصَلَاة الْعشَاء وَهِي الَّتِي تدعى: الْعَتَمَة) . قَالَ ابْن شهَاب: (وَذكر لي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وَمَا كَانَ لكم أَن تبْرزُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّلَاة، وَذَلِكَ حِين صَاح عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ ابْن شهَاب، وَلَا يُصَلِّي يَوْمئِذٍ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَكَانُوا يصلونَ فِيمَا بَين أَن يغيب الشَّفق إِلَى ثلث اللَّيْل الأول، وَأخرج مُسلم من حَدِيث أم كُلْثُوم عَن عَائِشَة: (أعتم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَات لَيْلَة حَتَّى ذهب عَامَّة اللَّيْل، وَحَتَّى نَام أهل الْمَسْجِد ثمَّ خرج فصلى، وَقَالَ: إِنَّه لوَقْتهَا لَوْلَا أَن يشق على أمتِي) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أعتم) : أَي: دخل فِي الْعَتَمَة، وَمَعْنَاهُ: أخر صَلَاة الْعَتَمَة، وَذكر ابْن سَيّده: الْعَتَمَة ثلث اللَّيْل الأول بعد غيبوبة الشَّفق، وَقيل: عَن وَقت صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة، وَقيل: هِيَ بَقِيَّة اللَّيْل. وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا شريك عَن أبي فَزَارَة عَن مَيْمُون بن مهْرَان، قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: مَن أول من سَمَّاهَا الْعَتَمَة؟ قَالَ: الشَّيْطَان. قَوْله: (وَذَلِكَ قبل أَن يفشو الْإِسْلَام) ، أَي: قبل أَن يظْهر، يَعْنِي: فِي غير الْمَدِينَة، وَإِنَّمَا فَشَا الْإِسْلَام فِي غَيرهَا بعد فتح مَكَّة. قَوْله: (حَتَّى قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، تَأتي من رِوَايَة صَالح عَن ابْن شهَاب: (حَتَّى ناداه عمر الصَّلَاة) ، بِالنّصب بِفعل مُضْمر تَقْدِيره: صل الصَّلَاة وَنَحْوهَا. قَوْله: (نَام النِّسَاء وَالصبيان) ، أَرَادَ بهم الْحَاضِرين فِي الْمَسْجِد لَا النائمين فِي بُيُوتهم، وَإِنَّمَا خص(5/63)
هَؤُلَاءِ بِالذكر لأَنهم مَظَنَّة قلَّة الصَّبْر على النّوم، وَمحل الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة. قَوْله: (مَا ينتظرها) أَي: الصَّلَاة فِي هَذِه السَّاعَة، وَذَلِكَ إِمَّا أَنه لَا يُصَلِّي حينئذٍ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ، وَإِمَّا لِأَن سَائِر الأقوام لَيست فِي أديانهم صَلَاة فِي هَذَا الْوَقْت. قَوْله: (غَيْركُمْ) ، بِالرَّفْع: صفة لأحد، وَوَقع صفة للنكرة لِأَنَّهُ لَا يتعرف بِالْإِضَافَة إِلَى الْمعرفَة لتوغله فِي الْإِبْهَام، أللهم إلاَّ إِذا أضيف إِلَى المشتهر بالمغايرة، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من لفظ: أحد، وَيجوز أَن ينْتَصب على الِاسْتِثْنَاء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قَوْله: (أعتم لَيْلَة) ، يدل على أَن غَالب أَحْوَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تَقْدِيم الْعشَاء. وَفِيه: جَوَاز النّوم قبل الْعشَاء، وَهُوَ الَّذِي بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ: بَاب النّوم قبل الْعشَاء لمن غلب. وَفِيه: الدّلَالَة على فَضِيلَة الْعشَاء كَمَا بيناها فِي أول الْبَاب. وَفِيه: جَوَاز الْإِعْلَام للْإِمَام بِأَن يخرج للصَّلَاة إِذا كَانَ فِي بَيته. وَفِيه: لطف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتواضعه حَيْثُ لم يقل شَيْئا عِنْد مناداة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
567 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ أخبرنَا أبُو أسامةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى قَالَ كُنْتُ أَنا وأصْحابِي الَّذِين قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ نُزُولاً فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ والنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ فَكَانَ يَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَوَافَقْنَا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا وأصْحَابِي وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أمْرِهِ فأعْتَمَ بِالصَّلاَةِ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا قضَى صَلاتَهُ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ عَلَى رِسْلِكُمْ أبْشِرُوا إنَّ مِنْ نِعْمَةِ الله عَلَيْكُمْ أنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ أوْ قَالَ مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أحَدٌ غٍ يْرُكُمْ لاَ نَدْرِي أيَّ الكَلِمَتَيْنِ قَالَ. قَالَ أبُو موسَى فَرَجَعْنَا فَفَرِحْنَا بِمَا سَمِعْنَا منْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله: كلهم تقدمُوا، وَمُحَمّد بن الْعَلَاء هُوَ أَبُو كريب، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أُسَامَة، وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَأَبُو بردة اسْمه: عَامر، وَهُوَ جد بريد، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده. وَفِيه: ثَلَاثَة بالكنى. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مضى فِي بَاب من أدْرك من الْعَصْر رَكْعَة، غير أَن هُنَاكَ ذكر مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بكنيته وَهَهُنَا باسمه.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعبد الله بن براد وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي أُسَامَة عَنهُ بِهِ، وروى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهم، من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (صلينَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْعَتَمَة فَلم يخرج حَتَّى مضى نَحْو من شطر اللَّيْل، فَقَالَ: إِن النَّاس قد صلوا وَأخذُوا مضاجعهم، وَإِنَّكُمْ لن تزالوا فِي صَلَاة مَا انتظرتم الصَّلَاة، وَلَوْلَا ضعف الضَّعِيف وسقم السقيم وحاجة ذِي الْحَاجة لأخرت هَذِه الصَّلَاة إِلَى شطر اللَّيْل) . وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي سعيد: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْمغرب ثمَّ لم يخرج حَتَّى ذهب شطر اللَّيْل، ثمَّ خرج فصلى بهم، وَقَالَ: لَوْلَا الضَّعِيف والسقيم لأحببت أَن أؤخر هَذِه الصَّلَاة إِلَى شطر اللَّيْل) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم أَن يؤخروا الْعشَاء إِلَى ثلث اللَّيْل أَو نصفه) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث معَاذ بن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: (بَقينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْعَتَمَة فَتَأَخر حَتَّى ظن ظان أَنه لَيْسَ بِخَارِج، وَالْقَائِل منا يَقُول: صلى وَأَنا كَذَلِك حَتَّى خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا لَهُ كَمَا قَالُوا، فَقَالَ: أعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاة فَإِنَّكُم قد فضلْتُمْ بهَا على سَائِر الْأُمَم، وَلم تصلها أمة قبلكُمْ) . قَوْله: (بَقينَا) بِفَتْح الْقَاف أَي انتظرناه، يُقَال: بقيت الرجل أبقيته إِذا انتظرته. وَأخرج أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عبد الله بن عمر: (مكثنا ذَات لَيْلَة نَنْتَظِر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لصَلَاة الْعشَاء: فَخرج إِلَيْنَا حِين(5/64)
ذهب ثلث اللَّيْل أَو بعده، فَلَا نَدْرِي أَشَيْء شغله أم غير ذَلِك؟ فَقَالَ حِين خرج: أتنتظرون هَذِه الصَّلَاة؟ لَوْلَا أَن تثقل على أمتِي لصليت بهم هَذِه السَّاعَة، ثمَّ أَمر الْمُؤَذّن فَأَقَامَ الصَّلَاة) . وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نزولا) ، جمع: نَازل، كشهود جمع شَاهد. قَوْله: (فِي بَقِيع بطحان) البقيع، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، وَهُوَ من الأَرْض: الْمَكَان المتسع، وَلَا يُسمى بقيعا، إلاَّ وَفِيه شجر أَو أُصُولهَا، و: بطحان، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، غير منصرف: وَاد بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْن قرقول: بطحان، بِضَم الْبَاء، يرويهِ المحدثون أَجْمَعُونَ، وَحكى أهل اللُّغَة فِيهِ بطحان، بِفَتْح الْبَاء وَكسر الطَّاء، وَلذَلِك قَيده أَبُو الْمَعَالِي فِي (تَارِيخه) ، وَأَبُو حَاتِم. وَقَالَ الْبكْرِيّ: بِفَتْح أَوله وَكسر ثَانِيه، على وزن: فعلان، لَا يجوز غَيره. قَوْله: (نفر) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: يتناوب، و: النَّفر، عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة. قَوْله: (فَوَافَقنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم. قَوْله: (وَله بعض الشّغل) ، جملَة حَالية، وَجَاء فِي تَفْسِير: بعض الشّغل، فِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) ، من وَجه صَحِيح: عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر: (كَانَ فِي تجهيز جَيش) ، قَوْله: (فاعتم بِالصَّلَاةِ) أَي: أَخّرهَا عَن أول وَقتهَا. قَوْله: (حَتَّى ابهار اللَّيْل) ، بتَشْديد الرَّاء على وزن: إفعال، كإحمار. وَمَعْنَاهُ: انتصف. وَعَن سِيبَوَيْهٍ: كثرت ظلمته، وابهار الْقَمَر، كثر ضوؤه، ذكره فِي (الموعب) وَفِي (الْمُحكم) : إبهار اللَّيْل إِذا تراكمت ظلمته، وَقيل: إِذا ذهبت عامته. وَفِي كتاب (الواعي) : ابهيرار اللَّيْل: طُلُوع نجومه. وَفِي (الصِّحَاح) : إبهار اللَّيْل ابهيرارا: إِذا ذهب معظمه وَأَكْثَره، وإبهار علينا اللَّيْل أَي: طَال. قَالَ الدَّاودِيّ: انهار اللَّيْل، يَعْنِي بالنُّون، مَوضِع الْبَاء، تَقول: كسر مِنْهُ وَانْهَزَمَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم} (التَّوْبَة: 109) . وَفِيه نظر، وَلم يقلهُ أحد غَيره. قَوْله: (على رسلكُمْ) ، بِكَسْر الرَّاء وَفتحهَا أَي: على هيئتكم، وَالْكَسْر أفْصح. قَوْله: (أَبْشِرُوا) من: أبشر، إبشارا، يُقَال: بشرت الرجل وأبشرته وبشرته بِالتَّشْدِيدِ، ثَلَاث لُغَات بِمَعْنى، وَيُقَال: بَشرته بمولود فأبشر إبشارا أَي: سر. قَوْله: (إِن من نعْمَة الله) كلمة: من، للتَّبْعِيض وَهُوَ اسْم: إِن. وَقَوله: إِنَّه، بِالْفَتْح لِأَنَّهُ خَبره. وَقَالَ بَعضهم: أَنه: بِالْفَتْح للتَّعْلِيل. قلت: لَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفى. قَوْله: (ففرحنا) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، عطف على قَوْله: فرجعنا) ، هَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فرجعنا فرحى) ، على وزن: فعلى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا جمع فريح على غير قِيَاس، وَإِمَّا مؤنث الأفرح، وَهُوَ نَحْو: الرِّجَال فعلت. قلت: بل هُوَ جمع: فرحان، كعطشان يجمع على: عطشى، وسكران على سكرى، ويروى (فرجعنا فَرحا) ، بِفَتْح الرَّاء مصدرا بِمَعْنى الفرحين، وَهُوَ نَحْو: الرِّجَال فعلوا، وعَلى الْوَجْهَيْنِ أَعنِي: فرحى وفرحا، نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي رَجعْنَا فَإِن قلت: الْمُطَابقَة بَين الْحَال وَذي الْحَال شَرط فِي الْوَاحِد والتثنية وَالْجمع والتذكير والتأنيث، وَفِي رِوَايَة: (فَرحا) ، غير مَوْجُود. قلت: الْفَرح مصدر فِي الأَصْل وَيَسْتَوِي فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء. قَوْله: (بِمَا سمعناه) ، الْبَاء: تتَعَلَّق (بفرحنا) ، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: بِمَا سمعناه. فَإِن قلت: مَا سَبَب فَرَحهمْ؟ قلت: علمت باختاصهم بِهَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ نعْمَة عظمى مستلزمة للمثوبة الْحسنى، هَذَا الْوَجْه ذكره الْكرْمَانِي، وَعِنْدِي وَجه آخر، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كَونه مَشْغُولًا بِأَمْر الْجَيْش، خرج إِلَيْهِم وَصلى بهم، فَحصل لَهُم الْفَرح بذلك. وازدادوا فَرحا ببشارته بِتِلْكَ النِّعْمَة الْعَظِيمَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الحَدِيث بعد صَلَاة الْعشَاء. وَفِيه: إِبَاحَة تَأْخِير الْعشَاء إِذا علم أَن بالقوم قُوَّة على انتظارها ليحصل لَهُم فضل الِانْتِظَار، لِأَن المنتظر للصَّلَاة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا لَا يصلح الْيَوْم لأئمتنا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَمر الْأَئِمَّة بِالتَّخْفِيفِ وَقَالَ: (إِن فيهم الضَّعِيف والسقيم وَذَا الْحَاجة) ، كَانَ ترك التَّطْوِيل عَلَيْهِم فِي انتظارها أولى وَقَالَ مَالك: تَعْجِيلهَا أفضل للتَّخْفِيف، وَقَالَ ابْن قدامَة يسْتَحبّ تَأْخِيرهَا للمنفرد، ولجماعة يرضون بذلك، وَإِنَّمَا نقل التَّأْخِير عَنهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مرّة أَو مرَّتَيْنِ لشغل حصل لَهُ. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: إِن كَانَ الْقَوْم كسَالَى يسْتَحبّ التَّعْجِيل، وَإِن كَانُوا راغبين يسْتَحبّ التَّأْخِير. وَفِيه: أَن التأني فِي الْأُمُور مَطْلُوب. وَفِيه: أَن التبشير لأحد بِمَا يسره مَحْبُوب لِأَن فِيهِ إِدْخَال السرُور فِي قلب الْمُؤمن.
23 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء.(5/65)
568 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عَنْ أبِي المِنْهَالِ عنْ أبِي بَرْزَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العِشَاءِ والحَدِيثَ بَعْدَهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم: اسْمه سيار بن سَلامَة الريَاحي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. وَأَبُو بَرزَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي الْمُعْجَمَة: اسْمه نَضْلَة بن عبيد الْأَسْلَمِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: مُحَمَّد ابْن سَلام، كَذَا وَقع بِذكر أَبِيه فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَافَقَهُ ابْن السكن أَنه: ابْن سَلام، وَوَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات: حَدثنَا مُحَمَّد غير مَنْسُوب، وَرِوَايَة أبي ذَر تفسره. وَقَالَ أَبُو نصر: إِن البُخَارِيّ يروي فِي (الْجَامِع) عَن مُحَمَّد بن سَلام وَمُحَمّد بن بشار وَمُحَمّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب وَسَلام، هَذَا بتَخْفِيف اللَّام.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قبل الْعشَاء) . أَي: قبل صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (والْحَدِيث) بِالنّصب عطف على قَوْله: (النّوم) أَي: وَكَانَ يكره الحَدِيث، أَي: المحادثة بعْدهَا، أَي: بعد الْعشَاء. وَهَذَا مَحْمُول على المحادثة الَّتِي لَا مصلحَة فِيهَا وَالَّتِي فِيهَا الْمصلحَة الدِّينِيَّة أَو الدُّنْيَوِيَّة فَلَا كَرَاهَة فِيهِ، وَبِهَذَا ينْدَفع الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بِمَا ورد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يتحدث بعد الْعشَاء) . وَأما سَبَب كَرَاهَة النّوم قبلهَا فَلِأَن فِيهِ تعرضا لفَوَات وَقتهَا باستغراق النّوم، وَلِئَلَّا يتساهل النَّاس فِي ذَلِك فيناموا عَن صلَاتهَا جمَاعَة. وَأما كَرَاهَة الحَدِيث بعْدهَا فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى السهر، وَيخَاف مِنْهُ غَلَبَة النّوم عَن قيام اللَّيْل وَالذكر فِيهِ، أَو عَن صَلَاة الصُّبْح، وَلِأَن السهر سَبَب الكسل فِي النَّهَار عَمَّا يتَوَجَّه من حُقُوق الدّين ومصالح الدُّنْيَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: كره أَكثر أهل الْعلم النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء، وَرخّص فِيهِ بَعضهم فِي رَمَضَان خَاصَّة، وَحمل الطَّحَاوِيّ الرُّخْصَة على مَا قبل دُخُول وَقت الْعشَاء، وَالْكَرَاهَة على مَا بعد دُخُوله. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف السّلف فِي ذَلِك، فَكَانَ ابْن عمر يسب الَّذِي ينَام قبلهَا فِيمَا حَكَاهُ ابْن بطال: وَلَكِن رُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يرقد قبلهَا، وَذكر عَنهُ: كَانَ ينَام ويوكل من يوقظه. روى معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَنهُ: أَنه كَانَ رُبمَا ينَام عَن الْعشَاء الْآخِرَة وَيَأْمُر أَن يُوقِظُوهُ. وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كُنَّا نجتنب الْفرش قبل الْعشَاء. وَكتب عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا ينَام قبل أَن يُصليهَا، فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عَيناهُ. وَكره ذَلِك أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وابراهيم وَمُجاهد وطاووس وَمَالك والكوفيون، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رُبمَا أغفى قبل الْعشَاء، وَعَن أبي مُوسَى وَعبيدَة، ينَام ويوكل من يوقظه، وَعَن عُرْوَة وَابْن سِيرِين وَالْحكم: أَنهم كَانُوا ينامون نومَة قبل الصَّلَاة، وَكَانَ أَصْحَاب عبد الله يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَبِه قَالَ بعض الْكُوفِيّين، وَاحْتج لَهُم بِأَنَّهُ كره ذَلِك لمن خشِي الْفَوات فِي الْوَقْت وَالْجَمَاعَة، أما من وكل بِهِ من يوقظه لوَقْتهَا فمباح، فَدلَّ على أَن النَّهْي لَيْسَ للتَّحْرِيم لفعل الصَّحَابَة، لَكِن الْأَخْذ بِظَاهِر الحَدِيث أحوط.
24 - (بابُ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء، لمن غُلب، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لمن غلب عَلَيْهِ النّوم، وَتَمام الْكَلَام مُقَدّر، يَعْنِي: لَا بَأْس بِهِ، والْحَدِيث الثَّانِي فِي هَذَا الْبَاب يدل على هَذَا.
569 - حدَّثنا أيُّوبُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني أبُو بَكْرٍ عنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صالِحُ بنُ كَيْسَانَ أَخْبرنِي ابنُ شِهَابٍ عَن عُرْوَةَ أنَّ عَائِشَةَ قالَتْ أعْتَمَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعِشَاءِ حَتَّى نادَاهُ عُمَرُ الصَّلاَةَ نامَ النِّساءُ والصِّبْيَانُ فَخَرَجَ فقالَ مَا يَنْتَظِرُهَا أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ غَيْرُكُمُ قَالَ ولاَ تُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إلاَّ بِالمَدِينَةِ قَالَ وكانُوا يُصَلُّونَ العِشَاءَ فِيما بَيْنَ أنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلِثِ اللَّيْلِ الأوَّلِ. (انْظُر الحَدِيث 566 وطرفييه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَام النِّسَاء وَالصبيان) فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يُنكر على من نَام من الَّذين كَانُوا(5/66)
ينتظرون خُرُوجه لصَلَاة الْعشَاء، وَلم يكن نومهم إِلَّا حِين غلب النّوم عَلَيْهِم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَيُّوب ابْن سُلَيْمَان بن بِلَال، مولى عبد الله بن أبي عَتيق، واسْمه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو بكر، هُوَ عبد الحميد بن أبي أويس، واسْمه: عبد الله أَخُو إِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ، وَيعرف بالأعشى. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ، مولى عبد الله بن أبي عَتيق الْمَذْكُور آنِفا. الرَّابِع: صَالح ابْن كيسَان أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو الْحَارِث الْغِفَارِيّ مَوْلَاهُم. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عُرْوَة ابْن الزبير. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار المفردة من الْمَاضِي. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من الْأَفْرَاد. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَمَّن روى عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابَة. وَفِيه: القَوْل، فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أعتم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قد مر مَعْنَاهُ فِي بَاب فضل الْعشَاء لِأَن الحَدِيث قد تقدم فِيهِ، رَوَاهُ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب. قَوْله: (الصَّلَاة) ، نصب على الإغراء. قَوْله: (نَام النِّسَاء) من تَتِمَّة كَلَام عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَلَا تصلَّى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: لَا تصل الصَّلَاة بالهيئة الْمَخْصُوصَة بِالْجَمَاعَة إلاَّ بِالْمَدِينَةِ، وَبِه صرح الدَّاودِيّ، لِأَن من كَانَ بِمَكَّة من الْمُسْتَضْعَفِينَ لم يَكُونُوا يصلونَ إلاَّ سرّا، وَأما غير مَكَّة وَالْمَدينَة من الْبِلَاد فَلم يكن الْإِسْلَام دَخلهَا. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: الرَّاوِي، وَلم يقل: قَالَت، نظرا إِلَى الرَّاوِي سَوَاء كَانَ الْقَائِل بِهِ عَائِشَة أَو غَيرهَا. قَوْله: (بَين أَن يغيب) لَا بُد من تَقْدِير أَجزَاء المغيب حَتَّى يَصح دُخُول: بَين، عَلَيْهِ. و: (الشَّفق) الْبيَاض دون الْحمرَة عِنْد أبي حنيفَة، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ هُوَ: الْحمرَة. قَوْله: (الأول) بِالْجَرِّ صفة: الثُّلُث، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب زِيَادَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَهِي: قَالَ ابْن شهَاب: (وَذكر لي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وَمَا كَانَ لَكِن أَن تنزروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للصَّلَاة، وَذَلِكَ حِين صَاح عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) قَوْله: (تنزروا) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون وَضم الزَّاي بعْدهَا رَاء أَي: تلحوا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ بِضَم أَوله بعْدهَا بَاء مُوَحدَة ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ زَاي أَي: تحرجوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَا ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب فضل الْعشَاء. وَفِيه: تذكير الإِمَام. وَفِيه: أَنه إِذا تَأَخّر عَن أَصْحَابه، أَو جرى مِنْهُ مَا يظنّ أَنه يشق عَلَيْهِم، يعْتَذر إِلَيْهِم وَيَقُول لَهُم: لكم فِيهِ مصلحَة من جِهَة كَذَا، أَو: كَانَ لي عذر، وَنَحْوه.
570 - 571 حدَّثنا مَحْمُودُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي المَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَاثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَالَ لَيْسَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ وكانَ ابنُ عُمَرَ لَا يُبَالِي أقَدَّمَهَا أم أخَّرَهَا إذَا كانَ لاَ يَخْشَى أنْ يَغْلِبَهُ النوْمُ عنْ وَقْتِهَا وكانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ فقَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أعْتَمَ رسولُ الله لَيْلَةً بِالعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ واسْتَيْقَظُوا وَرَقَدُوا واسْتَيْقَظُوا فقامَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ الصَّلاَةَ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابنُ عبَّاسٍ فِخَرَجَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ الآنَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاء واضِعا يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ فَقَالَ لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أنْ يُصَلُّوها هَكَذَا فاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً كَيْفَ وضعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ كَمَا أنْبَأَهُ ابنُ عبَّاسٍ فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أصَابِعِهِ شَيْئَا مِنْ تَبْدِيدٍ ثمَّ وَضَعَ أطْرَافَ أصَابِعِه على(5/67)
قَرْنِ الرَّأْسِ ثُمَّ ضَمَّهَا يُمِرُّهَا عَلى الرَّأْسِ حَتَّى مَسَّت إبهَامُهُ طَرَفَ الأُذُنِ مِمَّا يَلِي الوَجْهَ عَلى الصُّدْغِ وناحِيَةَ اللِّحْيَةِ لاَ يُقَصِّرُ ولاَ يَبْطُشُ إِلَّا كَذَلِكَ وَقَالَ لَوْلاَ أنْ أشقَّ عَلى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَن يُصَلّوا هَكذَا. (الحَدِيث 571 طرفه فِي: 7239) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى رقدنا فِي الْمَسْجِد) وَفِي قَوْله: (رقد النَّاس) ، وَفِي قَوْله: (وَكَانَ يرقد قبلهَا) ، أَي: كَانَ ابْن عمر يرقد قبل الْعشَاء، وَحمله البُخَارِيّ على مَا إِذا غَلبه النّوم، وَهُوَ اللَّائِق بِحَال ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مَحْمُود بن غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْحَافِظ الْمروزِي، تقدم. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق الْيَمَانِيّ، تقدم. الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي ويماني ومكي ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه: أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد ابْن حَنْبَل إِلَى قَوْله: (لَيْسَ أحد ينْتَظر الصَّلَاة غَيْركُمْ) . وَأخرجه مُسلم عَن عَطاء مُفردا مَفْصُولًا من حَدِيث نَافِع بِلَفْظ: (قلت لعطاء: أَي: حِين أحب إِلَيْك أَن أُصَلِّي الْعشَاء؟ فَقَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس) الحَدِيث. قلت: لعطاء: كم ذكر لَك أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَخّرهَا ليلتئذ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ عَطاء: وَأحب إِلَيّ أَن تصليها إِمَامًا وخلوا مؤخرة، كَمَا صلاهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليلتئذ، فَإِن شقّ ذَلِك عَلَيْك خلوا. أَو على النَّاس فِي الْجَمَاعَة وَأَنت إمَامهمْ فصلها وسطا لَا مُعجلَة وَلَا مؤخرة. وَعند النَّسَائِيّ: عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: (أخر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء ذَات لَيْلَة حَتَّى ذهب اللَّيْل، فَقَامَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَنَادَى: الصَّلَاة يَا رَسُول الله، رقد النِّسَاء والولدان. فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَاء يقطر من رَأسه، فَقَالَ: إِنَّه للْوَقْت، لَوْلَا أشق على أمتِي لصليت بهم هَذِه السَّاعَة) .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (شغل) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: شغلت عَنْك بِكَذَا، على مَا لم يسم فَاعله. قَوْله: ((عَنْهَا) أَي: عَن وَقتهَا، أَي: متجاوزا عَنهُ. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر لَا يُبَالِي) أَي: لَا يكترث أقدَّم الْعشَاء أم أَخّرهَا عِنْد عدم خَوفه من غَلَبَة النّوم عَن وَقت الْعشَاء، وَقد (كَانَ يرقد قبلهَا) أَي: قبل الْعشَاء. قَوْله: (قَالَ ابْن جريج) أَي: قَالَ عبد الْملك بن جريج بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قبله، وَهُوَ: مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، وَلَيْسَ هُوَ بتعليق، وَقد أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) بالإسنادين، وَأخرجه من طَرِيقه الطَّبَرَانِيّ وَعنهُ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) . قَوْله: (فَقَامَ عمر بن الْخطاب فَقَالَ: الصَّلَاة)) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: زَاد: (رقد النِّسَاء وَالصبيان) ، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة، و: الصَّلَاة، مَنْصُوبَة على الإغراء. قَوْله: (يقطر رَأسه مَاء) جملَة فعلية مضارعية وَقت حَالا بِدُونِ: الْوَاو، وَالْمعْنَى: يقطر مَاء رَأسه، لِأَن التَّمْيِيز فِي حكم الْفَاعِل. قَوْله: (وَاضِعا يَده على رَأسه) ، أَيْضا حَال. وَكَانَ قد اغْتسل قبل أَن يخرج. وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (على رَأْسِي) ، وَهَذَا وهم. قَوْله: (فاستثبت) . مقول ابْن جريج بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، والاستثبات: طلب التثبيت، وَهُوَ التَّأْكِيد فِي سُؤَاله. قَوْله: (عَطاء) مَنْصُوب بقوله: فاستثبت) وَهُوَ عَطاء ابْن أبي رَبَاح، وَقد تردد فِيهِ الْكرْمَانِي بَين عَطاء بن يسَار وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَالْحَامِل عَلَيْهِ كَون كل مِنْهُمَا يروي عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من زعم أَنه ابْن يسَار. قلت: أَرَادَ بِهِ الْكرْمَانِي: وَلكنه مَا جزم بِأَنَّهُ ابْن يسَار، بل قَالَ: الظَّاهِر أَنه عَطاء بن يسَار، وَيحْتَمل عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (كَمَا أنبأه) أَي: مثل مَا أخبرهُ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فبدد) أَي: فرق، التبديد: التَّفْرِيق. قَوْله: (على قرن الرَّأْس) ، الْقرن، بِسُكُون الرَّاء: جَانب الرَّأْس. قَوْله: (ثمَّ ضمهَا) أَي: ثمَّ ضم أَصَابِعه، وَهُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وصبها) ، بالصَّاد الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ عِيَاض، رَحمَه الله: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ يصف عصر المَاء من الشّعْر بِالْيَدِ. قَوْله: (حَتَّى مست إبهامه طرف الْأذن) ، فإبهامه مَرْفُوع بالفاعلية، وطرف الْأذن مَنْصُوب على المفعولية. وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بإفراد الْإِبْهَام، وَفِي رِوَايَة غَيره إبهاميه بالتثنية وَالنّصب، ووجهها أَن يكون قَوْله: (إبهاميه)(5/68)
مَنْصُوبًا على المفعولية. و: (طرف الْأذن) مَرْفُوعا بالفاعلية، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن حجاج عَن ابْن جريج: (حَتَّى مست إبهاماه طرف الْأذن) . فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: كَيفَ أنث الْفِعْل الْمسند إِلَى الطّرف وَهُوَ مُذَكّر؟ قلت: لِأَن الْمُضَاف اكْتسب التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ لشدَّة الِاتِّصَال بَينهمَا، فأنث كَذَلِك. قَوْله: (لَا يقصر) ، بِالْقَافِ من التَّقْصِير، وَمَعْنَاهُ لَا يبطىء. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا يعصر، بِالْعينِ. قَوْله: (وَلَا يبطش) أَي: لَا يستعجل. قَوْله: (لأمرتهم) أَي: انْتِفَاء الْأَمر لوُجُود الْمَشَقَّة. قَوْله: (وَهَكَذَا) أَي: فِي هَذَا الْوَقْت بَين ذَلِك فِي رِوَايَة أُخْرَى بقوله: (إِنَّه للْوَقْت) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة النّوم قبل الْعشَاء لمن يغلب عَلَيْهِ النّوم وَلمن تعرض لَهُ ضَرُورَة لَازِمَة. وَفِيه: الدّلَالَة على فَضِيلَة صَلَاة الْعشَاء. وَفِيه: تذكير الإِمَام والإعلام بِالصَّلَاةِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب حُضُور النِّسَاء وَالصبيان الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. وَفِيه: أَن النّوم من الْقَاعِد لَا ينْقض الْوضُوء إِذا كَانَ مَقْعَده مُمكنا، وَهَذَا هُوَ محمل الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين، وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر أحد من الروَاة أَنهم توضأوا من ذَلِك النّوم، وَلَا يدل لفظ: (ثمَّ استيقظوا) ، على النّوم الْمُسْتَغْرق الَّذِي يزِيل الْعقل، لِأَن الْعَرَب تَقول: اسْتَيْقَظَ من سنته وغفلته. وَفِيه: رد على الْمُزنِيّ حَيْثُ يَقُول: قَلِيل النّوم وَكَثِيره حدث ينْقض الْوضُوء. لِأَنَّهُ محَال أَن يذهب على أَصْحَابه أَن النّوم حدث فيصلون بِهِ.
ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النّوم، فمذهب الْبَعْض إِلَى أَن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء على أَي حَالَة كَانَ، وَهَذَا محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَسَعِيد بن الْمسيب وَأبي مجلز وَحميد الْأَعْرَج وَشعْبَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ والمزني وَأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَهُوَ قَول غَرِيب للشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَقد رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة. وَمذهب الْبَعْض أَن كَثِيره ينقص بِكُل حَال وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّين: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْتَقض وضوؤه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، وَإِن نَام مضطجعآ أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَدَاوُد وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَمذهب الْبَعْض أَنه لَا ينْقض إِلَّا نوم الرَّاكِع والساجد، وَرُوِيَ هَذَا عَن أَحْمد أَيْضا. وَمذهب الْبَعْض: لَا ينْقض النّوم فِي الصَّلَاة بِكُل حَال، وينقض خَارج الصَّلَاة. وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْتَقض، وإلاَّ انْتقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
569 - حدَّثنا أيُّوبُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني أبُو بَكْرٍ عنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صالِحُ بنُ كَيْسَانَ أَخْبرنِي ابنُ شِهَابٍ عَن عُرْوَةَ أنَّ عَائِشَةَ قالَتْ أعْتَمَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالعِشَاءِ حَتَّى نادَاهُ عُمَرُ الصَّلاَةَ نامَ النِّساءُ والصِّبْيَانُ فَخَرَجَ فقالَ مَا يَنْتَظِرُهَا أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ غَيْرُكُمُ قَالَ ولاَ تُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إلاَّ بِالمَدِينَةِ قَالَ وكانُوا يُصَلُّونَ العِشَاءَ فِيما بَيْنَ أنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلِثِ اللَّيْلِ الأوَّلِ. (انْظُر الحَدِيث 566 وطرفييه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَام النِّسَاء وَالصبيان) فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يُنكر على من نَام من الَّذين كَانُوا ينتظرون خُرُوجه لصَلَاة الْعشَاء، وَلم يكن نومهم إِلَّا حِين غلب النّوم عَلَيْهِم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَيُّوب ابْن سُلَيْمَان بن بِلَال، مولى عبد الله بن أبي عَتيق، واسْمه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو بكر، هُوَ عبد الحميد بن أبي أويس، واسْمه: عبد الله أَخُو إِسْمَاعِيل شيخ البُخَارِيّ، وَيعرف بالأعشى. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي التَّيْمِيّ، مولى عبد الله بن أبي عَتيق الْمَذْكُور آنِفا. الرَّابِع: صَالح ابْن كيسَان أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو الْحَارِث الْغِفَارِيّ مَوْلَاهُم. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عُرْوَة ابْن الزبير. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار المفردة من الْمَاضِي. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: شيخ البُخَارِيّ من الْأَفْرَاد. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَمَّن روى عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابَة. وَفِيه: القَوْل، فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أعتم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قد مر مَعْنَاهُ فِي بَاب فضل الْعشَاء لِأَن الحَدِيث قد تقدم فِيهِ، رَوَاهُ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب. قَوْله: (الصَّلَاة) ، نصب على الإغراء. قَوْله: (نَام النِّسَاء) من تَتِمَّة كَلَام عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَلَا تصلَّى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: لَا تصل الصَّلَاة بالهيئة الْمَخْصُوصَة بِالْجَمَاعَة إلاَّ بِالْمَدِينَةِ، وَبِه صرح الدَّاودِيّ، لِأَن من كَانَ بِمَكَّة من الْمُسْتَضْعَفِينَ لم يَكُونُوا يصلونَ إلاَّ سرّا، وَأما غير مَكَّة وَالْمَدينَة من الْبِلَاد فَلم يكن الْإِسْلَام دَخلهَا. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: الرَّاوِي، وَلم يقل: قَالَت، نظرا إِلَى الرَّاوِي سَوَاء كَانَ الْقَائِل بِهِ عَائِشَة أَو غَيرهَا. قَوْله: (بَين أَن يغيب) لَا بُد من تَقْدِير أَجزَاء المغيب حَتَّى يَصح دُخُول: بَين، عَلَيْهِ. و: (الشَّفق) الْبيَاض دون الْحمرَة عِنْد أبي حنيفَة، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ هُوَ: الْحمرَة. قَوْله: (الأول) بِالْجَرِّ صفة: الثُّلُث، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب زِيَادَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَهِي: قَالَ ابْن شهَاب: (وَذكر لي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وَمَا كَانَ لَكِن أَن تنزروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للصَّلَاة، وَذَلِكَ حِين صَاح عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) قَوْله: (تنزروا) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون وَضم الزَّاي بعْدهَا رَاء أَي: تلحوا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ بِضَم أَوله بعْدهَا بَاء مُوَحدَة ثمَّ رَاء مَكْسُورَة ثمَّ زَاي أَي: تحرجوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَا ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث الأول فِي بَاب فضل الْعشَاء. وَفِيه: تذكير الإِمَام. وَفِيه: أَنه إِذا تَأَخّر عَن أَصْحَابه، أَو جرى مِنْهُ مَا يظنّ أَنه يشق عَلَيْهِم، يعْتَذر إِلَيْهِم وَيَقُول لَهُم: لكم فِيهِ مصلحَة من جِهَة كَذَا، أَو: كَانَ لي عذر، وَنَحْوه.
570 - 571 حدَّثنا مَحْمُودُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي المَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَاثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَالَ لَيْسَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ وكانَ ابنُ عُمَرَ لَا يُبَالِي أقَدَّمَهَا أم أخَّرَهَا إذَا كانَ لاَ يَخْشَى أنْ يَغْلِبَهُ النوْمُ عنْ وَقْتِهَا وكانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ فقَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أعْتَمَ رسولُ الله لَيْلَةً بِالعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ واسْتَيْقَظُوا وَرَقَدُوا واسْتَيْقَظُوا فقامَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ الصَّلاَةَ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ ابنُ عبَّاسٍ فِخَرَجَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ الآنَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاء واضِعا يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ فَقَالَ لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أنْ يُصَلُّوها هَكَذَا فاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً كَيْفَ وضعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ كَمَا أنْبَأَهُ ابنُ عبَّاسٍ فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أصَابِعِهِ شَيْئَا مِنْ تَبْدِيدٍ ثمَّ وَضَعَ أطْرَافَ أصَابِعِه على قَرْنِ الرَّأْسِ ثُمَّ ضَمَّهَا يُمِرُّهَا عَلى الرَّأْسِ حَتَّى مَسَّت إبهَامُهُ طَرَفَ الأُذُنِ مِمَّا يَلِي الوَجْهَ عَلى الصُّدْغِ وناحِيَةَ اللِّحْيَةِ لاَ يُقَصِّرُ ولاَ يَبْطُشُ إِلَّا كَذَلِكَ وَقَالَ لَوْلاَ أنْ أشقَّ عَلى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَن يُصَلّوا هَكذَا. (الحَدِيث 571 طرفه فِي: 7239) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى رقدنا فِي الْمَسْجِد) وَفِي قَوْله: (رقد النَّاس) ، وَفِي قَوْله: (وَكَانَ يرقد قبلهَا) ، أَي: كَانَ ابْن عمر يرقد قبل الْعشَاء، وَحمله البُخَارِيّ على مَا إِذا غَلبه النّوم، وَهُوَ اللَّائِق بِحَال ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مَحْمُود بن غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْحَافِظ الْمروزِي، تقدم. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق الْيَمَانِيّ، تقدم. الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي ويماني ومكي ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه: أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد ابْن حَنْبَل إِلَى قَوْله: (لَيْسَ أحد ينْتَظر الصَّلَاة غَيْركُمْ) . وَأخرجه مُسلم عَن عَطاء مُفردا مَفْصُولًا من حَدِيث نَافِع بِلَفْظ: (قلت لعطاء: أَي: حِين أحب إِلَيْك أَن أُصَلِّي الْعشَاء؟ فَقَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس) الحَدِيث. قلت: لعطاء: كم ذكر لَك أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَخّرهَا ليلتئذ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ عَطاء: وَأحب إِلَيّ أَن تصليها إِمَامًا وخلوا مؤخرة، كَمَا صلاهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليلتئذ، فَإِن شقّ ذَلِك عَلَيْك خلوا. أَو على النَّاس فِي الْجَمَاعَة وَأَنت إمَامهمْ فصلها وسطا لَا مُعجلَة وَلَا مؤخرة. وَعند النَّسَائِيّ: عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: (أخر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء ذَات لَيْلَة حَتَّى ذهب اللَّيْل، فَقَامَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَنَادَى: الصَّلَاة يَا رَسُول الله، رقد النِّسَاء والولدان. فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَاء يقطر من رَأسه، فَقَالَ: إِنَّه للْوَقْت، لَوْلَا أشق على أمتِي لصليت بهم هَذِه السَّاعَة) .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (شغل) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: شغلت عَنْك بِكَذَا، على مَا لم يسم فَاعله. قَوْله: ((عَنْهَا) أَي: عَن وَقتهَا، أَي: متجاوزا عَنهُ. قَوْله: (وَكَانَ ابْن عمر لَا يُبَالِي) أَي: لَا يكترث أقدَّم الْعشَاء أم أَخّرهَا عِنْد عدم خَوفه من غَلَبَة النّوم عَن وَقت الْعشَاء، وَقد (كَانَ يرقد قبلهَا) أَي: قبل الْعشَاء. قَوْله: (قَالَ ابْن جريج) أَي: قَالَ عبد الْملك بن جريج بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قبله، وَهُوَ: مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، وَلَيْسَ هُوَ بتعليق، وَقد أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) بالإسنادين، وَأخرجه من طَرِيقه الطَّبَرَانِيّ وَعنهُ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) . قَوْله: (فَقَامَ عمر بن الْخطاب فَقَالَ: الصَّلَاة)) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: زَاد: (رقد النِّسَاء وَالصبيان) ، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة، و: الصَّلَاة، مَنْصُوبَة على الإغراء. قَوْله: (يقطر رَأسه مَاء) جملَة فعلية مضارعية وَقت حَالا بِدُونِ: الْوَاو، وَالْمعْنَى: يقطر مَاء رَأسه، لِأَن التَّمْيِيز فِي حكم الْفَاعِل. قَوْله: (وَاضِعا يَده على رَأسه) ، أَيْضا حَال. وَكَانَ قد اغْتسل قبل أَن يخرج. وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (على رَأْسِي) ، وَهَذَا وهم. قَوْله: (فاستثبت) . مقول ابْن جريج بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، والاستثبات: طلب التثبيت، وَهُوَ التَّأْكِيد فِي سُؤَاله. قَوْله: (عَطاء) مَنْصُوب بقوله: فاستثبت) وَهُوَ عَطاء ابْن أبي رَبَاح، وَقد تردد فِيهِ الْكرْمَانِي بَين عَطاء بن يسَار وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَالْحَامِل عَلَيْهِ كَون كل مِنْهُمَا يروي عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من زعم أَنه ابْن يسَار. قلت: أَرَادَ بِهِ الْكرْمَانِي: وَلكنه مَا جزم بِأَنَّهُ ابْن يسَار، بل قَالَ: الظَّاهِر أَنه عَطاء بن يسَار، وَيحْتَمل عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (كَمَا أنبأه) أَي: مثل مَا أخبرهُ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فبدد) أَي: فرق، التبديد: التَّفْرِيق. قَوْله: (على قرن الرَّأْس) ، الْقرن، بِسُكُون الرَّاء: جَانب الرَّأْس. قَوْله: (ثمَّ ضمهَا) أَي: ثمَّ ضم أَصَابِعه، وَهُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وصبها) ، بالصَّاد الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ عِيَاض، رَحمَه الله: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ يصف عصر المَاء من الشّعْر بِالْيَدِ. قَوْله: (حَتَّى مست إبهامه طرف الْأذن) ، فإبهامه مَرْفُوع بالفاعلية، وطرف الْأذن مَنْصُوب على المفعولية. وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بإفراد الْإِبْهَام، وَفِي رِوَايَة غَيره إبهاميه بالتثنية وَالنّصب، ووجهها أَن يكون قَوْله: (إبهاميه) مَنْصُوبًا على المفعولية. و: (طرف الْأذن) مَرْفُوعا بالفاعلية، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن حجاج عَن ابْن جريج: (حَتَّى مست إبهاماه طرف الْأذن) . فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: كَيفَ أنث الْفِعْل الْمسند إِلَى الطّرف وَهُوَ مُذَكّر؟ قلت: لِأَن الْمُضَاف اكْتسب التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ لشدَّة الِاتِّصَال بَينهمَا، فأنث كَذَلِك. قَوْله: (لَا يقصر) ، بِالْقَافِ من التَّقْصِير، وَمَعْنَاهُ لَا يبطىء. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا يعصر، بِالْعينِ. قَوْله: (وَلَا يبطش) أَي: لَا يستعجل. قَوْله: (لأمرتهم) أَي: انْتِفَاء الْأَمر لوُجُود الْمَشَقَّة. قَوْله: (وَهَكَذَا) أَي: فِي هَذَا الْوَقْت بَين ذَلِك فِي رِوَايَة أُخْرَى بقوله: (إِنَّه للْوَقْت) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة النّوم قبل الْعشَاء لمن يغلب عَلَيْهِ النّوم وَلمن تعرض لَهُ ضَرُورَة لَازِمَة. وَفِيه: الدّلَالَة على فَضِيلَة صَلَاة الْعشَاء. وَفِيه: تذكير الإِمَام والإعلام بِالصَّلَاةِ. وَفِيه: اسْتِحْبَاب حُضُور النِّسَاء وَالصبيان الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. وَفِيه: أَن النّوم من الْقَاعِد لَا ينْقض الْوضُوء إِذا كَانَ مَقْعَده مُمكنا، وَهَذَا هُوَ محمل الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين، وَالصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر أحد من الروَاة أَنهم توضأوا من ذَلِك النّوم، وَلَا يدل لفظ: (ثمَّ استيقظوا) ، على النّوم الْمُسْتَغْرق الَّذِي يزِيل الْعقل، لِأَن الْعَرَب تَقول: اسْتَيْقَظَ من سنته وغفلته. وَفِيه: رد على الْمُزنِيّ حَيْثُ يَقُول: قَلِيل النّوم وَكَثِيره حدث ينْقض الْوضُوء. لِأَنَّهُ محَال أَن يذهب على أَصْحَابه أَن النّوم حدث فيصلون بِهِ.
ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النّوم، فمذهب الْبَعْض إِلَى أَن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء على أَي حَالَة كَانَ، وَهَذَا محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَسَعِيد بن الْمسيب وَأبي مجلز وَحميد الْأَعْرَج وَشعْبَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ والمزني وَأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَهُوَ قَول غَرِيب للشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَقد رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة. وَمذهب الْبَعْض أَن كَثِيره ينقص بِكُل حَال وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال، وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّين: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْتَقض وضوؤه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، وَإِن نَام مضطجعآ أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَدَاوُد وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَمذهب الْبَعْض أَنه لَا ينْقض إِلَّا نوم الرَّاكِع والساجد، وَرُوِيَ هَذَا عَن أَحْمد أَيْضا. وَمذهب الْبَعْض: لَا ينْقض النّوم فِي الصَّلَاة بِكُل حَال، وينقض خَارج الصَّلَاة. وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ. وَمذهب الْبَعْض أَنه إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْتَقض، وإلاَّ انْتقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
25 - (بابُ وقْتِ العِشَاءِ إلَى نِصْفِ الليْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، وَهَذِه التَّرْجَمَة تدل على أَن اخْتِيَاره فِي آخر وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب، وَقد تكلمنا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي بَاب وَقت الْعَصْر فِيمَا مضى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ظَاهر التَّرْجَمَة مشْعر بِأَن مَذْهَب البُخَارِيّ: أَن وَقت الْعشَاء إِلَى النّصْف فَقَط، وَلِهَذَا لم يذكر حَدِيثا يدل على امتداد وقته إِلَى الصُّبْح. انْتهى. قلت: مُرَاده من هَذَا وَقت الِاخْتِيَار لَا وَقت الْجَوَاز، وَهُوَ صَرِيح بذلك قبل كَلَامه هَذَا بِأَن المُرَاد من التَّرْجَمَة الْوَقْت الْمُخْتَار من الْعشَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا: فَإِن قلت: قد تقدم أَن الْوَقْت الْمُخْتَار إِلَى الثُّلُث كَمَا قَالَ فِي الْبَاب السَّابِق: (وَكَانُوا يصلونَ فِيمَا بَين أَن يغيب الشَّفق، إِلَى ثلث اللَّيْل) ؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا إِذْ الثُّلُث دَاخل فِي النّصْف.
وقالَ أبُو بَرْزَةَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَحِبُّ تأخِيرَهَا
هَذَا طرف من حَدِيث أبي بَرزَة الَّذِي تقدم فِي بَاب وَقت الْعَصْر، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَفِيه: (وَكَانَ يسْتَحبّ أَن يُؤَخر الْعشَاء الَّتِي تدعونها الْعَتَمَة) . فَإِن قلت: هَذَا لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ إِلَّا نصف اللَّيْل. قلت: لما وَردت أَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب بَعْضهَا مُقَيّد بِالثُّلثِ وَبَعضهَا بِالنِّصْفِ، كَانَ النّصْف غَايَة التَّأْخِير، فَدلَّ على التَّرْجَمَة دلَالَة لَا تَصْرِيحًا.
572 - حدَّثنا عَبْدُ الَّرحِيمِ المحَارِبي قَالَ حدَّثنا زَائِدَةُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسٍ(5/69)
قَالَ أخَّرَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةَ العِشَاء إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ قَدْ صَلَّى النَّاسُ ونامُوا أمَا إنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة صَرِيحًا.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الرَّحِيم بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي الْكُوفِي، ويكنى أَبَا زِيَاد، وَهُوَ من قدماء شُيُوخ البُخَارِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَلَيْسَ للْبُخَارِيّ فِي الصَّحِيح عَنهُ غير هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد. قَوْله: (الْمحَاربي) ، بِضَم الْمِيم وإهمال الْحَاء وَكسر الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَهُوَ نِسْبَة إِلَى: محَارب ابْن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بن أفصى بن عبد الْقَيْس. الثَّانِي: زَائِدَة بن قدامَة، بِضَم الْقَاف، وَقد تقدم. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء: الطَّوِيل. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ لَيْسَ لَهُ هَهُنَا إلاَّ هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قد صلى النَّاس) ، أَي: المعهودون من الْمُسلمين إِذْ ذَاك. قَوْله: ((أما إِنَّكُم) ، بتَخْفِيف الْمِيم حرف التَّنْبِيه. قَوْله: (مَا انتظرتموها) أَي: مُدَّة انتظاركم، وَالْمعْنَى: أَن الرجل إِذا انْتظر الصَّلَاة فَكَأَنَّهُ فِي نفس الصَّلَاة.
وزَادَ ابنُ أبي مَرْيَمَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ أيُّوبَ قَالَ حدَّثني حُمَيْدٌ أنَّهُ سَمِعَ أنَسا قَالَ كأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ
وَهَذَا تَعْلِيق نبه بِهِ على أَن حميد الطَّوِيل سمع أنسا، وَذكر هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا فِي اللبَاس بِلَفْظ: وَقَالَ يحيى بن أَيُّوب عَن حميد ... فَذكره. وَأخرجه مُسلم أَيْضا، وَوَصله الْبَغَوِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن مَنْصُور، قَالَ حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم. . إِلَى آخِره، وَأول الحَدِيث: (سُئِلَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَل اتخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتمًا؟ قَالَ: نعم، أخر الْعشَاء) . فَذكره وَفِي آخِره: (فَكَأَنِّي أنظر إِلَى وبيص خَاتمه ليلتئذ) . وَابْن أبي مَرْيَم: هُوَ سعيد بن الحكم الْمصْرِيّ. قَوْله: (وبيص خَاتمه) ، الوبيص، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالصاد الْمُهْملَة: البريث واللمعان. و: (الْخَاتم) فِيهِ أَربع لُغَات: كسر التَّاء وخاتام وخيتام. قَوْله: (ليلتئذ) أَي: لَيْلَة إِذْ أخر الصَّلَاة، والتنوين عوض عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ.
26 - (بابُ فَضْلِ صَّلاَةِ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الْفجْر. قَوْله: (وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَلم يَقع فِي رِوَايَة غَيره. قَالَ الْكرْمَانِي: وَلم تظهر مُنَاسبَة لفظ الحَدِيث فِي هَذَا الْموضع، وَقد يُقَال: الْغَرَض مِنْهُ بَاب كَذَا: وَبَاب الحَدِيث الْوَارِد فِي فضل صَلَاة الْفجْر. وَقَالَ بَعضهم: وَلم يظْهر لي تَوْجِيه لهَذَا: اللَّفْظ، واستبعد تَوْجِيه الْكرْمَانِي، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر أَن هَذَا وهم، وَيدل لذَلِك أَنه ترْجم لحَدِيث جرير إيضا بَاب صَلَاة الْعَصْر بِغَيْر زِيَادَة، وَيحْتَمل أَنه كَانَ فِيهِ بَاب فضل صَلَاة الْفجْر وَالْعصر، فتحرفت الْكَلِمَة الْأَخِيرَة. قلت: استبعاده كَلَام الْكرْمَانِي بعيد، لِأَنَّهُ لَا يبعد أَن يُقَال: تَقْدِير كَلَامه: بَاب فِي بَيَان فضل الْفجْر، وَفِي بَيَان الحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، وَهَذَا أوجه من إدعاء الْوَهم، وَلَا يلْزم من قَوْله: لفظ الحَدِيث فِي بَاب صَلَاة الْفجْر، أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة هَهُنَا وهما، وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره بعيد، لِأَن تحرف الْعَصْر بِالْحَدِيثِ بعيد جدا.
فَإِن قلت: فَمَا وَجه خُصُوصِيَّة هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ اللَّفْظَة دون سَائِر الْأَبْوَاب الَّذِي يذكر فِيهَا فَضَائِل الْأَعْمَال؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون وَجه ذَاك أَن صَلَاة الْفجْر إِنَّمَا هِيَ عقيب النّوم، وَالنَّوْم أَخُو الْمَوْت، أَلا ترى كَيفَ ورد أَن يُقَال عِنْد الاستيقاظ من النّوم: (الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانًا بَعْدَمَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور) . فَإِذا كَانَ كَذَلِك يَنْبَغِي أَن يجْتَهد المستيقظ على أَدَاء صَلَاة الْفجْر شكرا لله على حَيَاته وإعادة روحه إِلَيْهِ، وَيعلم أَن لإقامتها فضلا عَظِيما لوُرُود الْأَحَادِيث فِيهِ، فنبه على ذَلِك بقوله: والْحَدِيث، وَخص هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ الزِّيَادَة.
573 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى عنْ إسْماعِيلَ قَالَ حدَّثنا قَيْسٌ قَالَ لي جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الله كنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ نَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فَقَالَ أمَا إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكم(5/70)
كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُّونَ أوْ لاَ تُضَاهُونَ فِي رُؤيَتِهِ فإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس وقَبْلَ غُرُوبِهَا فأفْعَلُوا ثمَّ قَالَ فسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طلوعِ الشَّمْس وقَبْلَ غُرُوبِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ((على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس) ، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب فضل صَلَاة الْعَصْر، وَرَوَاهُ هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس عَن جرير، وَهَهُنَا عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل ابْن أبي خَالِد عَن قيس ابْن أبي حَازِم، قَالَ: قَالَ لي جرير بن عبد الله، وَهُنَاكَ: قَالَ عَن جرير، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ متعلقات الحَدِيث كلهَا. قَوْله: (أوَ لَا تضاهون) من المضاهاة، وَهِي المشابهة. قَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وَلَا ترتابون فِيهِ.
574 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثني أبُو جَمْرَةَ عنْ أبِي بَكْرٍ بن أبي مُوسَى عنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من صَلى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن أحد البردين صَلَاة الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: هدبة، بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن خَالِد الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ الْحَافِظ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: همام بن يحيى، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء: نصر بن عمرَان الضبعِي الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو بكر بن عبد الله بن قيس، هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: ثَلَاثَة بصريون بالتوالي. وَفِيه: فِي أبي بكر اخْتلفُوا فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ بعض أهل الْعلم: هُوَ أَبُو بكر بن عمَارَة ابْن رؤيبة الثَّقَفِيّ، وَهَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَنهُ. وَقَالَ الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يروي عَن أبي مُوسَى إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَإِنَّمَا يعرف: عَن أبي بكر بن عمَارَة بن رؤيبة عَن أَبِيه، وَلَكِن هَكَذَا قَالَ همام، يعنيان بذلك حَدِيث أبي بكر بن عمَارَة بن رؤيبة الْمخْرج عِنْد مُسلم بِلَفْظ، قَالَ عمَارَة: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لن يلج النَّار أحد صلى قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا) . يَعْنِي الْفجْر وَالْعصر، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث السّري بن إِسْمَاعِيل عَن الشّعبِيّ عَن عمَارَة بن رؤيبة: (لن يدْخل النَّار من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا، وَكَانَ يُبَادر بِصَلَاتِهِ قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (البردين) : تَثْنِيَة برد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء، وَالْمرَاد بهما: صَلَاة الْفجْر وَالْعصر. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَ كثير من الْعلمَاء: البردان الْفجْر وَالْعصر، وسميا بذلك لِأَنَّهُمَا يفْعَلَانِ فِي وَقت الْبرد. وَقَالَ الْخطابِيّ: لِأَنَّهُمَا يصليان فِي بردي النَّهَار، وهما طرفاه حِين يطيب الْهَوَاء وَتذهب سُورَة الْحر. وَقَالَ السفاقسي عَن أبي عُبَيْدَة: المُرَاد الصُّبْح وَالْعصر وَالْمغْرب، وَفِيه نظر لِأَن الْمَذْكُور تَثْنِيَة وَمَعَ هَذَا لم يتبعهُ على هَذَا أحد، وَزعم الْقَزاز أَنه اجْتهد فِي تَمْيِيز هذَيْن الْوَقْتَيْنِ لعظم فائدتهما، فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى أَدخل الْجنَّة كل من صلى تِلْكَ الصَّلَاة مِمَّن آمن بِهِ فِي أول دَعوته، وَبشر بِهَذَا الْخَبَر أَن من صلاهما مَعَه فِي أول فَرْضه إِلَى أَن نسخ لَيْلَة الْإِسْرَاء، أدخلهم الله الْجنَّة كَمَا بَادرُوا إِلَيْهِ من الْإِيمَان تفضلاً مِنْهُ تَعَالَى. انْتهى. قلت: كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى أَن هَذَا مَخْصُوص ((لِأُنَاس مُعينين، وَلَا عُمُوم فِيهِ؛ وَأَنه مَنْسُوخ، وَلَيْسَ كَذَلِك من وُجُوه: الأول: أَن رَاوِيه أَبَا مُوسَى سَمعه فِي آواخر الْإِسْلَام، وَأَنه فهم الْعُمُوم، وَكَذَا غَيره فهم ذَلِك لِأَنَّهُ خير فضل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته. الثَّانِي: أَن الْفَضَائِل لَا تنسخ. الثَّالِث: أَن كلمة: من، شَرْطِيَّة. وَقَوله: (دخل الْجنَّة) جَوَاب الشَّرْط، فَكل من أَتَى بِالشّرطِ فقد اسْتحق الْمَشْرُوط لعُمُوم كلمة الشَّرْط، وَلَا يُقَال: إِن مَفْهُومه يَقْتَضِي أَن من لم يصلها لم يدْخل الْجنَّة، لأَنا نقُول: الْمَفْهُوم لَيْسَ بِحجَّة وَأَيْضًا فَإِن قَوْله: (دخل الْجنَّة) خرج مخرج الْغَالِب، لِأَن الْغَالِب أَن من صلاهما وراعاهما، انْتهى. عَمَّا ينافيهما من فحشاء ومنكر، لِأَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، أَو يكون آخر أمره دُخُول الْجنَّة. وَأما وَجه التَّخْصِيص بهما فَهُوَ لزِيَادَة شرفهما وترغيبا فِي حفظهما لشهود الْمَلَائِكَة فيهمَا، كَمَا تقدم، وَقد مضى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِيهِ(5/71)
وروى أَبُو الْقَاسِم بن الْجَوْزِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا (يُنَادي مُنَاد عِنْد صَلَاة الصُّبْح يَا بني آدم قومُوا فاطفئوا مَا أوقدتم على أَنفسكُم، وينادي عِنْد الْعَصْر كَذَلِك، فيتطهرون وَيصلونَ وينامون وَلَا ذَنْب لَهُم) . وَوجه الْعُدُول عَن الأَصْل وَهُوَ أَن يَقُول: يدْخل الْجنَّة، بِصِيغَة الْمُضَارع لإِرَادَة التَّأْكِيد فِي وُقُوعه بِجعْل مَا هُوَ للوقوع كالواقع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ( {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 44) .
وَقَالَ ابنُ رجاءٍ حدَّثنا هُمَّامٌ عنْ أبي جَمْرَةَ أنَّ أَبَا بَكْرٍ بنَ عَبْدِ الله بنِ قَيْسٍ أخْبَرَه بِهذَا
أورد البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق عَن شَيْخه عبد الله بن رَجَاء، بِفَتْح الرَّاء وَالْجِيم وبالمد: الغداني الْبَصْرِيّ ليُفِيد بذلك أَن نِسْبَة أبي بكر إِلَى أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، لِأَن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَقد وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) فَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء، فَذكره. قَوْله: (أخبر بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ مُرْسل لِأَنَّهُ لم يقل: عَن أَبِيه، إلاَّ أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ الحَدِيث وَبَقِيَّة الأسناد كِلَاهُمَا.
حدَّثنا إسْحَاقُ عنْ حَبَّانَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا أبُو جمرَةَ عنْ أبي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلُهُ.
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا أَيْضا بِأَن شيخ أبي جَمْرَة هُوَ أَبُو بكر بن عبد الله بن قيس، وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، ردا على من زعم أَنه ابْن عمَارَة بن رؤيبة. وَقد ذكرنَا أَن حَدِيث عمَارَة أخرجه مُسلم وَغَيره فَظهر من هَذَا أَنَّهُمَا حديثان: أَحدهمَا عَن أبي مُوسَى، وَالْآخر عَن عمَارَة بن رؤيبة. قَوْله: (حَدثنَا إِسْحَاق) قَالَ الغساني فِي كِتَابه (التَّقْيِيد) : لَعَلَّه إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ: قَالَ ابْن السكن: كل مَا فِي كتاب البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَاسْتدلَّ الغساني على أَنه مَنْصُور بِأَن مُسلما روى عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال حَدِيثا غير هَذَا. قلت: الْأَصَح أَنه إِسْحَاق بن مَنْصُور، لِأَنَّهُ روى عَن الْفربرِي فِي بَاب البيعان بِالْخِيَارِ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور حَدثنَا جَعْفَر ابْن هِلَال، فَذكر حَدِيثا. وحبان هَذَا، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن هِلَال الْبَاهِلِيّ، مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ. قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور، ويروى (بِمثلِهِ) بِزِيَادَة الْبَاء.
27 - (بابُ وقتِ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت صَلَاة الْفجْر.
575 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عاصمٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ أنَّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قامُوا إِلَى الصَّلاة قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ أوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً. (الحَدِيث 575 طرفه فِي: 1921) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من خيث إِنَّهُم قَامُوا إِلَى الصَّلَاة بعد أَن تسحرُوا بِمِقْدَار قِرَاءَة خمسين آيَة أَو نَحْوهَا، وَذَلِكَ أول مَا يطلع الْفجْر، وَهُوَ أول وَقت الصُّبْح. وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا أَن أول وَقت الصُّبْح هُوَ طُلُوع الْفجْر، فَحصل التطابق بَين الحَدِيث والترجمة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو بن عَاصِم، بِالْوَاو، الْحَافِظ الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: همام بن يحيى. الثَّالِث: قَتَادَة بن دعامة. الرَّابِع: أنس بن مَالك. الْخَامِس: زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم، عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام بِهِ. وَعَمْرو النَّاقِد عَن يزِيد بن هَارُون عَن همام بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن سَالم بن نوح عَن عَمْرو بن عَامر عَن قَتَادَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى عَن(5/72)
أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَعَن هناد عَن وَكِيع عَن همام بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن إِسْمَاعِيل ابْن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن همام بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنهم) أَي: أَنه وَأَصْحَابه تسحرُوا. أَي: أكلُوا السّحُور، وَهُوَ بِفَتْح السِّين، اسْم مَا يتسحر بِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب، وبالضم الْمصدر، وَالْفِعْل نَفسه. وَأكْثر مَا يروي بِالْفَتْح، وَقيل: إِن الصَّوَاب بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ بِالْفَتْح الطَّعَام وَالْبركَة وَالْأَجْر وَالثَّوَاب فِي الْفِعْل لَا فِي الطَّعَام. قَوْله: (إِلَى الصَّلَاة) أَي: صَلَاة الْفجْر. قَوْله: (كم كَانَ بَينهمَا) ، سقط لفظ: كَانَ، من رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وفاعل قلت هُوَ: أنس، وَالضَّمِير فِي بَينهمَا يرجع إِلَى التسحر، وَالْقِيَام إِلَى الصَّلَاة من قبيل: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . قَوْله: (قَالَ) أَي: زيد بن ثَابت. قَوْله: (قدر خمسين) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: قدر خمسين آيَة بَينهمَا، والتمييز مَحْذُوف أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (يَعْنِي آيَة) .
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتِحْبَاب التسحر وتأخيره إِلَى قريب طُلُوع الْفجْر.
576 - حدَّثنا حَسَنُ بنُ صَبَّاحٍ سَمِعَ رَوْحا قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزَيْدَ بنَ ثَابتٍ تَسَحَّرَا فلمَّا فَرَغَا منْ سَحُورِهِمَا قامَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّيْنَا قُلْتُ لأِنَسٍ كَمْ كانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا منْ سَحُورِهِمَا ودُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ قَالَ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. (الحَدِيث 576 طرفه فِي: 1134) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن صباح، بتَشْديد الْبَاء الْبَزَّار بالزاي. ثمَّ الرَّاء أحد الْأَعْلَام وَقد تقدم. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء: بن عبَادَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم. الثَّالِث: سعيد بن أبي عرُوبَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، تقدم الرَّابِع: قَتَادَة بن دعامة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين، وَالْفرق بَين سَنَد هَذَا الحَدِيث وَسَنَد الحَدِيث السَّابِق أَن هَذَا الحَدِيث من مسانيد أنس، وَذَاكَ من مسانيد زيد بن ثَابت، وَرجح مُسلم رِوَايَة همام عَن قَتَادَة فأخرجها وَلم يخرج رِوَايَة سعيد. قَالَ بَعضهم: وَيدل على رُجْحَانهَا أَيْضا أَن الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرج رِوَايَة سعيد من طَرِيق خَالِد بن الْحَارِث عَن سعيد فَقَالَ: عَن أنس عَن زيد بن ثَابت، وَالَّذِي يظْهر لي فِي الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَن أنسا حضر ذَلِك لكنه لم يتسحر مَعَهُمَا، وَلأَجل ذَلِك سَأَلَ زيدا عَن مِقْدَار وَقت السّحُور. انْتهى. قلت: خرج الطَّحَاوِيّ من حَدِيث هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة عَن أنس وَزيد بن ثَابت قَالَا: تسحرنا. . الحَدِيث، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: إِن أنسا حضر ذَلِك لكنه لم يتسحر مَعَهُمَا؟
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سمع روح بن عبَادَة) جملَة وَقعت حَالا، وَكلمَة: قد، مقدرَة فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) . أَي: قد حصرت. قَوْله: (تسحرا) ، بالتثنية، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (تسحرُوا) بِالْجمعِ. قَوْله: (فصلينا) ، بِصِيغَة الْجمع عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِصِيغَة التَّثْنِيَة، ويروى: (فصلى) بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (قلت لأنس) الْقَائِل قَتَادَة، ويروى: (قُلْنَا) ، بِصِيغَة الْجمع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان أول وَقت الصُّبْح، وَهُوَ طُلُوع الْفجْر لِأَنَّهُ الْوَقْت الَّذِي يحرم فِيهِ الطَّعَام وَالشرَاب على الصَّائِم، والمدة الَّتِي بَين الْفَرَاغ والسحور وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة هِيَ قِرَاءَة الْخمسين آيَة أَو نَحْوهَا، وَهِي قدر ثلث خمس سَاعَة، وَاخْتلفُوا فِي آخر وَقت الْفجْر، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى آخِره أول طُلُوع جرم الشَّمْس، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم وَابْن عبد الحكم: أَن آخر وَقتهَا الْإِسْفَار الْأَعْلَى؛ وَعَن الاصطخري: من صلاهَا بعد الْإِسْفَار الشَّديد يكون قَاضِيا مُؤديا وَإِن لم تطلع الشَّمْس.
577 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ عنْ أخِيهِ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ أبي حازمٍ أنَّهُ سمِعَ سَهْلَ بنَ سعْدٍ يَقُولُ كنْت أتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثمَّ تَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أنْ أُدْرِكَ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الحَدِيث 577 طرفه فِي: 1920) .(5/73)
مطابقته للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة أَن أول وَقت صَلَاة الْفجْر طُلُوع الْفجْر. وَقَالَ بَعضهم: الْغَرَض مِنْهُ هَهُنَا الْإِشَارَة إِلَى مبادرة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى صَلَاة الصُّبْح فِي أول الْوَقْت. قلت: التَّرْجَمَة فِي بَيَان وَقت الْفجْر لَا فِيمَا قَالَه، فَلَا تطابق حِينَئِذٍ بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَأَيْضًا لَا يسْتَلْزم سرعَة سهل لإدراك الصَّلَاة مبادرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَاسم أبي أويس: عبد الله الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت مَالك ابْن أنس، رَحمَه الله. الثَّانِي: أَخُوهُ عبد الحميد بن أبي أويس، يكنى أَبَا بكر. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب، وَقد تقدم. الرَّابِع: أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، من عبَّاد أهل الْمَدِينَة. الْخَامِس: سهل بن سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ تكون سرعَة) ، يجوز فِي: سرعَة، الرّفْع وَالنّصب؛ أما الرّفْع فعلى أَن: كَانَ، تَامَّة بِمَعْنى: تُوجد سرعَة، وَلَفْظَة: بِي، تتَعَلَّق بِهِ، وَأما النصب فعلى أَن تكون: كَانَ، نَاقِصَة وَيكون اسْم: كَانَ، مضمرا فِيهِ، وَسُرْعَة، خَبره، وَالتَّقْدِير: تكون السرعة سرعَة حَاصِلَة بِي. وَهَكَذَا قدره الْكرْمَانِي، وَقَالَ: وَالِاسْم ضمير يرجع إِلَى مَا يدل عَلَيْهِ لَفْظَة السرعة. قلت: فِيهِ تعسف، الْأَوْجه أَن يُقَال: إِن: كَانَ، نَاقِصَة: وَسُرْعَة، بِالرَّفْع اسْمهَا، وَقَوله: بِي، فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة سرعَة، وَقَوله: (أَن أدْرك) خبر: كَانَ، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: وَتَكون سرعَة حَاصِلَة بِي لإدراك صَلَاة الْفجْر مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما نصب: سرعَة، فقد ذكر الْكرْمَانِي فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا مَا ذَكرْنَاهُ، وَالْآخر: أَنه نصب على الِاخْتِصَاص، فَالْأول فِيهِ التعسف، كَمَا ذكرنَا، وَالثَّانِي لَا وَجه لَهُ يظْهر بِالتَّأَمُّلِ.
578 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ أخبرنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةَ ابنُ الزبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ أخْبَرَتْهُ قالَتْ كُنَّ نِساءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةَ الفَجْرِ مُتَلَفعاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ مِنَ الغَلَسِ
هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي بَاب كم تصلي الْمَرْأَة من الثِّيَاب؟ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ ابْن شهَاب، وتكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي جَمِيع متعلقات الحَدِيث، ولنتكلم هُنَا بِبَعْض شَيْء زِيَادَة الْإِيضَاح، وَذكر هَذَا الحَدِيث هَهُنَا لَا يُطَابق التَّرْجَمَة. فَإِن قلت: فِيهِ دلَالَة على اسْتِحْبَاب الْمُبَادرَة بِصَلَاة الصُّبْح فِي أول الْوَقْت. قلت: سلمنَا هَذَا، وَلَكِن لَا يدل هَذَا على أَن وَقت الْفجْر عِنْد طُلُوع الْفجْر، لِأَن الْمُبَادرَة تحصل مَا دَامَ الْغَلَس بَاقِيا. قَوْله: (اللَّيْث عَن عقيل) ، اللَّيْث هُوَ ابْن سعد الْمصْرِيّ، وَعقيل بِالضَّمِّ ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
وَفِي الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي الْمُذكر فِي مَوضِع، وَمثله فِي مَوضِع وَلَكِن بالتأنيث.
قَوْله: (كن) ، أَي: النِّسَاء، وَالْقِيَاس أَن يُقَال: كَانَت النِّسَاء الْمُؤْمِنَات، وَلَكِن هُوَ من قبيل: أكلوني البراغيث، فِي أَن البراغيث إِمَّا بدل أَو بَيَان، وَإِضَافَة النِّسَاء إِلَى الْمُؤْمِنَات مؤولة، لِأَن إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه لَا تجوز، وَالتَّقْدِير نسَاء الْأَنْفس الْمُؤْمِنَات، أَو الْجَمَاعَة الْمُؤْمِنَات. وَقيل: إِن النِّسَاء هَهُنَا بِمَعْنى: الفاضلات، أَي: فاضلات الْمُؤْمِنَات، كَمَا يُقَال: رجال الْقَوْم أَي فضلاؤهم ومتقدموهم. قَوْله: (يشهدن) أَي: يحضرن. قَوْله: (صَلَاة الْفجْر) ، بِالنّصب إِمَّا مفعول بِهِ أَو مفعول فِيهِ، وَكِلَاهُمَا جائزان لِأَنَّهَا مَشْهُودَة ومشهود فِيهَا. قَوْله: (متلفعات) ، حَال أَي: متلحفات، من التلفع وَهُوَ: شدّ اللفاع وَهُوَ مَا يُغطي الْوَجْه ويتلحف بِهِ. قَوْله: (بمروطهن) ، يتَعَلَّق: بمتلفعات، وَهُوَ جمع مرط: بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ: كسَاء من صوف أَو خَز يؤتزر بِهِ. قَوْله: (ثمَّ يَنْقَلِبْنَ) ، أَي: يرجعن إِلَى بُيُوتهنَّ. قَوْله: (لَا يعرفهن أحد) قَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ لَا يعرفن أنساء أم رجال، يَعْنِي: لَا يظْهر للرائي إِلَّا الأشباح خَاصَّة. وَقيل: لَا يعرف أعيانهن، فَلَا يفرق بَين فَاطِمَة وَعَائِشَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ نظر لِأَن المتلفعة بِالنَّهَارِ لَا تعرف عينهَا، فَلَا يبْقى فِي الْكَلَام فَائِدَة، ورد بِأَن الْمعرفَة إِنَّمَا تتَعَلَّق بالأعيان، فَلَو كَانَ المُرَاد غَيرهَا لنفى الرُّؤْيَة بِالْعلمِ. وَقَالَ بَعضهم: وَمَا ذكره من أَن المتلفعة بِالنَّهَارِ لَا يعرف عينهَا فِيهِ نظر، لِأَن لكل امْرَأَة هَيْئَة غير هَيْئَة(5/74)