مُوسَى: وَلم يسْلك فيهمَا طَرِيقا وَاحِدًا قلت: الْمُتَابَعَة أقوى لِأَن القَوْل أَعم من الذّكر على سَبِيل النَّقْل والتحمل، أَو من الذّكر على سَبِيل المحاورة والمذاكرة، فَأَرَادَ الْإِشْعَار بذلك، ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم بِأَنَّهُ يحْتَمل سَماع البُخَارِيّ من عَمْرو ومُوسَى فَلَا يجوم بِأَنَّهُ ذكرهمَا على سَبِيل التَّعْلِيق قلت: كِلَاهُمَا تَعْلِيق صُورَة، وَلَكِن الِاحْتِمَال الْمَذْكُور مَوْجُود لِأَن كليهمَا من مَشَايِخ البُخَارِيّ.
29 - (بابُ غَسْلِ مَا يُصيبُ منْ رُطُوبَةِ فَرْجِ المَرْأَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل مَا يُصِيب الرجل من فرج الْمَرْأَة من رُطُوبَة.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْإِصَابَة الْمَذْكُورَة تكون عِنْد التقاء الختانين.
292 - حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عَنِ الحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى اوَأَخْبَرَنِي أبُو سَلَمَة أنَّ عطَاءَ بنَ يَسَارِ أخْبَرَهُ أنَّ زَيْدَ بْنِ خالِدٍ الجُهْنِي أخْبَرَهُ أنَّهُ سَأَلَ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ قالَ أَرَأَيْتَ إِذا جامَعَ الرَّجلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمِنْ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوضَأُ كَمَا يَتَوَضَأُ لِلصَّلاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ علِيَّ بْنَ أبي طالِبٍ والزُّبَيُرَ بْنَ العَوَّامِ وطلْحَةَ بْنَ عبيد الله وَأبي بن كَعْب رَضِي الله عَنْهُم فأمروه بذلك قَالَ يحي وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة أَن عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أنَّ أَبَا أيُّوب أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 179) [/ ح] .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيغسل ذكره) يَعْنِي: إِذا جَامع امْرَأَته فَلم ينزل يغسل ذكره، لِأَنَّهُ لَا شكّ أَصَابَهُ من رُطُوبَة فرج الْمَرْأَة.
ذكر رِجَاله والمذكورون فِيهِ أَرْبَعَة عشر نفسا، مِنْهُم سَبْعَة من الصَّحَابَة الأجلاء وهم: عُثْمَان بن عَفَّان، وَزيد بن خَالِد، وَعلي بن أبي طَالب، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام، وَطَلْحَة بن عبيد الله، وَأبي بن كَعْب، وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ واسْمه خَالِد بن زيد، والسبعة الْبَاقِيَة: أَبُو معمر، بِفَتْح الْمِيم عبد الله بن عَمْرو، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَالْحُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين عَن الْحُسَيْن فَقَط وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحُسَيْن الْمعلم، وَيحيى بن أبي كثير وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعَطَاء بن يسَار ضد الْيَمين، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه: لفظ الْإِخْبَار فِي خَمْسَة مَوَاضِع: مِنْهَا بِلَفْظ أَخْبرنِي، فِي موضِعين، وبلفظ أخبرهُ فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: لفظ القَوْل فِي موضِعين: أَحدهمَا: هُوَ قَوْله: قَالَ يحيى، أَي: قَالَ الْحُسَيْن. قَالَ يحيى وَلَفظ. قَالَ الأولى بِحَذْف فِي الْخط فِي اصطلاحهم، وَقَالَ الآخر قَوْله، وَقَالَ عُثْمَان. وَفِيه: السُّؤَال فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: قَالَ يحيى وَأَخْبرنِي هَذَا عطف على مُقَدّر تَقْدِيره، قَالَ يحيى أَخْبرنِي بكذاوكذا وَأَخْبرنِي بِهَذَا وَإِنَّمَا احتجنا إِلَى التَّقْدِير لِأَن أَخْبرنِي، مقول، قَالَ: وَهُوَ مفعول حَقِيقَة، فَلَا يجوز دُخُول الْوَاو بَينهمَا، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم بِحَذْف الْوَاو، على الأَصْل، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ دقة وهوالإشعار بِأَن هَذَا من جملَة مَا سمع يحيى من أبي سَلمَة فَإِن قلت: قَول الْحُسَيْن، قَالَ يحيى، يُوهم أَنه لم يسمع من يحيى، وَلذَا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أَنه لم يسمع من يحيى، فَلذَلِك قَالَ: قَالَ يحيى قلت: وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي هَذَا الْموضع عَن الْحُسَيْن عَن يحيى، فَإِن قلت: العنعنة لَا تدل صَرِيحًا على التحديث قلت: الْحُسَيْن لَيْسَ بمدلس، وعنعنة غير المدلس مَحْمُولَة على السماع، على أَنه قد وَقع التَّصْرِيح فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رِوَايَة الْحُسَيْن عَن يحيى بِالتَّحْدِيثِ، وَلَفظه حَدثنِي يحيى بن أبي كثير، وَأَيْضًا لم ينْفَرد بِهِ الْحُسَيْن، فقد رَوَاهُ عَن يحيى أَيْضا مُعَاوِيَة بن سَلام، أخرجه ابْن شاهين، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن أخرجه البُخَارِيّ فِي بَاب الْوضُوء من المخرجين: حَدثنَا سعد بن حَفْص، قَالَ: حَدثنَا شَيبَان عَن يحيى عَن أبي سَلمَة أَن عَطاء بن يسَار أخبرهُ أَن زيد أَنه سَأَلَ عُثْمَان بن عَفَّان الحَدِيث، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ.(3/251)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن أبي معمر، وَفِي بَاب الْوضُوء من المخرجين عَن سعد بن حَفْص كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَأخرجه مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعبد بن حميد، وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه عَن حُسَيْن الْمعلم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ الْجُهَنِيّ بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وبالنون نِسْبَة إِلَى جُهَيْنَة بن زيد. قَوْله: (فَقَالَ: أَرَأَيْت) أَي: فَقَالَ زيد لعُثْمَان أَرَأَيْت، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت؟ أَي: قَالَ زيد لعُثْمَان. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (فَلم يمن) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، من الإمناء إراداته أَنه لم ينزل الْمَنِيّ، وَهَذَا أفْصح اللُّغَات. وَالثَّانِي: مِنْهَا فتح الْيَاء. وَالثَّالِث: بِضَم الْيَاء مَعَ فتح الْمِيم وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (فَقَالَ عُثْمَان: سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى مَا ذكره من قَوْله: (يتَوَضَّأ للصَّلَاة وَيغسل ذكره) وَذَلِكَ بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، وَهَذَا سَماع وَرِوَايَة وَقَوله: أَولا فَتْوَى مِنْهُ. قَوْله: (فَسَأَلت عَن ذَلِك) أَي: عَمَّن يُجَامع امْرَأَته فَلم يمن، وَالظَّاهِر أَن سُؤَاله عَن عَليّ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَأبي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، استفتاء من عُثْمَان، وفتوى مِنْهُم لَا رِوَايَة لَكِن رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ مرّة بِإِظْهَار أَنه رِوَايَة، وَصرح بِهِ أُخْرَى وَلم يذكر عليا، ثمَّ ذكر بعد ذَلِك، رِوَايَات وَقَالَ: لم يقل أحد مِنْهُم عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غير الْحمانِي، وَلَيْسَ هُوَ من شَرط هَذَا الْكتاب قَوْله: (فأمروه) الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الصَّحَابَة الْأَرْبَعَة: وهم: عَليّ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَأبي بن كَعْب، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى المجامع الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (إِذا جَامع الرجل امْرَأَته) وَهَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (سُورَة الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل أقرب للتقوى، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ الْتِفَات لِأَن الأَصْل فِيهِ أَن يَقُول: فأمروني قلت، لَيْسَ فِيهِ الْتِفَات أصلا لِأَن عُثْمَان سَأَلَ هَؤُلَاءِ عَن المجامع الَّذِي لم يمن فَأَجَابُوا لَهُ بِمَا أجابوا، وَالْكَلَام على أَصله، لِأَن قَوْله: فأمروه عطف على. قَوْله: (فَسَأَلت) أَي: فَأمروا المجامع الَّذِي لم يمن بذلك أَي: بِغسْل الذّكر وَالْوُضُوء، وَالْإِشَارَة ترجع إِلَى الْجُمْلَة بِاعْتِبَار الْمَذْكُور. قَوْله: (وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة البَاقِينَ قَالَ يحيى: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة، وَهَذَا هُوَ المُرَاد لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: قَالَ يحيى: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة أَن عَطاء بن يسَار، فَيكون دَاخِلا فِي الْإِسْنَاد فيندفع بِهَذَا قَول من يَقُول: إِن ظَاهره مُعَلّق، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه بالإسنادين جَمِيعًا. قَوْله: (أَنه سمع ذَلِك) أَي: أخبر أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عُرْوَة بن الزبير أَنه سمع ذَلِك. أَي: غسل الذّكر وَالْوُضُوء كوضوء الصَّلَاة، وتذكير الْإِشَارَة بِاعْتِبَار الْمَذْكُور كَمَا قُلْنَا آنِفا مثله، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فِيهِ وهم، لِأَن أَبَا أَيُّوب لم يسمعهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا سَمعه من أبي بن كَعْب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك هِشَام عَن أَبِيه عَن أبي أَيُّوب عَن أبي بن كَعْب. قلت: قَوْله: لم يسمعهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. نفي، وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر عَن أبي أَيُّوب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ إِثْبَات، وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي، على أَن أَبَا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أكبر قدرا وسناً وعلماً من هِشَام بن عُرْوَة، وَحَدِيث الْإِثْبَات رَوَاهُ الدَّارمِيّ وَابْن مَاجَه. فَإِن قلت: حكى الْأَثْرَم عَن أَحْمد أَن حَدِيث زيد بن خَالِد الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب مَعْلُول لِأَنَّهُ ثَبت عَن هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة الْفَتْوَى بِخِلَاف مَا فِي خذا الحَدِيث. قلت: كَونهم أفتوا بِخِلَافِهِ لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث، لِأَنَّهُ حكم من حَدِيث مَنْسُوخ وَهُوَ صَحِيح، فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا، أَلا ترى أَن أَبَيَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يرى المَاء من المَاء لظَاهِر الحَدِيث، ثمَّ أخبر عَنهُ سهل بن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل المَاء من المَاء رخصَة فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نهى عَن ذَلِك وَأمره بِالْغسْلِ.
وَأما الَّذِي يستنبط من حَدِيث الْبَاب إِن الَّذِي يُجَامع امْرَأَته وَلم ينزل منيه لَا يجب عَلَيْهِ الْغسْل، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَهَذَا مَنْسُوخ لما بَيناهُ وَمذهب الْجُمْهُور هُوَ أَن إِيجَاب الْغسْل لَا يتَوَقَّف على إِنْزَال الْمَنِيّ، بل مَتى غَابَتْ الْحَشَفَة فِي الْفرج وَجب الْغسْل على الرجل وَالْمَرْأَة، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي (الصَّحِيح) وَإِن لم ينزل وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة تغييب الْحَشَفَة فِي الْفرج هُوَ الْمُوجب للْغسْل سَوَاء كَانَ الْفرج قبلا أَو دبراً من كل حَيَوَان آدَمِيّ أَو بهيم حَيا أَو مَيتا طَائِعا أَو مكْرها، نَائِما أَو مستيقظاً انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا والتقاء الختانين يُوجب الْغسْل أَي: مَعَ توازي الْحَشَفَة فَإِن نفس ملاقاة الْفرج بالفرج من غير التواري لَا يُوجب الْغسْل، وَلَكِن يُوجب الْوضُوء عِنْدهمَا، خلافًا لمُحَمد. وَفِي (الْمُحِيط) لَو أَتَى امْرَأَته وَهِي بكر فَلَا غسل مَا لم ينزل، لِأَن بِبَقَاء الْبكارَة يعلم أَنه لم يُوجد الْإِيلَاج، وَلَكِن إِذا جومعت الْبكر فِيمَا دون الْفرج فحبلت فعلَيْهِمَا الْغسْل لوُجُود الْإِنْزَال لِأَنَّهُ لَا حَبل بِدُونِ، وَقَالَ [قعأبو حنيفَة [/ قع:(3/252)
لَا يجب الْغسْل بِوَطْء الْبَهِيمَة أَو الْميتَة إلاَّ بإنزال.
293 - حدّثنا مُسَدَّدُ قالَ حدّثنا يَحْيَى عَنْ هِشَامِ بَنْ عُرْوة قالَ أخْبَرَنِي أبي قالَ أخْبَرَنِي أبُو أيُّوبَ قَالَ أخْبَرَني أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قالَ يَا رَسُول الله إذَا جَامَعَ الرَّجْلُ المَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ قالَ يَغْسِلُ مَا مَسّ المَرْأَةَ مِنْهُ ثُمَّ يَتَوَضَأُ ويُصَلِي.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد. وَالثَّانِي: يحيى الْقطَّان. وَالثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. وَالرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: أَخْبرنِي أبي، وَرُبمَا يظنّ ظان أَنه أبي، بِضَم الْهمزَة، وَهُوَ أبي ابْن كَعْب لكَونه ذكر فِي الْإِسْنَاد. وَالْخَامِس: أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، واسْمه خَالِد بن زيد. وَالسَّادِس: أبي بن كَعْب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الإفرد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَأَبُو أَيُّوب يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ الطَّرِيق بِلَا وَاسِطَة وَفِي هَذِه الطَّرِيق بِوَاسِطَة لِأَن الطريقان مُخْتَلِفَانِ فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَإِن توافقا فِي بعض الْأَحْكَام مَعَ جَوَاز سَمَاعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن أبي بن كَعْب وَذكر الْوَاسِطَة تكون للتقوية أَو لغَرَض آخر.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (إِذا جَامع الرجل الْمَرْأَة) ويروى: (امْرَأَته) قَوْله: (مَا مس الْمَرْأَة مِنْهُ) وَفِي: مس، ضمير وَهُوَ فَاعله يرجع إِلَى كلمة مَا، ومحلها النصب على أَنَّهَا مفعول لقَوْله: (يغسل) أَي: يغسل الرجل الْمَذْكُور الْعُضْو الَّذِي مس فرج المآأة من أَعْضَائِهِ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان مَا أَصَابَهُ من رُطُوبَة فرج الْمَرْأَة، فَكيف يدل عَلَيْهِ وَظَاهر، أَن مَا مس الْمَرْأَة مُطلقًا من يدٍ وَرجل وَنَحْوه لَا يجب غسله؟ قلت: فِيهِ إِمَّا إِضْمَار أَو كِنَايَة، لِأَن تَقْدِيره يغسل عضوا مس فرج الْمَرْأَة، وَهُوَ إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم، وَهُوَ: مس الْمَرْأَة، وَإِرَادَة اللُّزُوم، وَهُوَ إِصَابَة رُطُوبَة فرجهَا. قَوْله: (ثمَّ يتَوَضَّأ صَرِيح بِتَأْخِير الْوضُوء عَن غسل مَا يُصِيبهُ مِنْهَا، وَزَاد عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن هِشَام فِيهِ، وضوءه للصَّلَاة. قَوْله: (وَيُصلي) هُوَ صَرِيح فِي الدّلَالَة على ترك الْغسْل من الحَدِيث الَّذِي قبله.
قالَ أبُو عبْدِ الْغَسْلُ أحُوَطُ وذَاكَ الآخِرُ وإنَّما بَيَّنَّا لاِخْتِلاَفِهِمْ
فَاعل: قَالَ، مَحْذُوف هُوَ الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ. وَأَبُو عبد الله، هُوَ كنية البُخَارِيّ. قَوْله: (الْغسْل أحوط) مقول القَوْل، أَي: الِاغْتِسَال من الْجِمَاع بِغَيْر إِنْزَال أحوط أَي: أَكثر احْتِيَاطًا فِي أَمر الدّين، وَأَشَارَ بقوله: وَذَلِكَ الْأَخير، إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث الَّذِي فِي الْبَاب غير مَنْسُوخ أَي: آخر الْأَمريْنِ من الشَّارِع. قَوْله: (الْأَخير) على وزن فعيل، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره، وَذَلِكَ الآخر، بِالْمدِّ بِغَيْر يَاء، وَقَالَ ابْن الَّتِي: ضبطناه بِفَتْح الْهَاء. قَوْله: (إِنَّمَا بَينا لاختلافهم) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (إِنَّمَا بَينا اخْتلَافهمْ) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (إِنَّمَا بَيناهُ لاختلافهم) أَي: لأجل اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، أَو لاخْتِلَاف الْمُحدثين فِي صِحَّته وَعدمهَا، وَقد خبط ابْن الْعَرَبِيّ على البُخَارِيّ لمُخَالفَته فِي هَذَا الْجُمْهُور، فَإِن إِيجَاب الْغسْل أطبق عَلَيْهِ الصَّحَابَة. وَمن بعدهمْ، وَمَا خَالف إلاَّ دَاوُد، وَلَا عِبْرَة بِخِلَافِهِ، وَكَيف يحكم بأستحباب الْغسْل وَهُوَ أحد أَئِمَّة الدّين، وَمن أَجله عُلَمَاء الْمُسلمين، ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مُرَاده بقوله: الْغسْل أحوط، أَي: فِي الدّين؟ وَهُوَ بَاب مَشْهُور فِي أصُول الدّين، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بإمامته وَعلمه؟ قَالَ بَعضهم: قلت: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر من تصرفه، فَإِنَّهُ لم يترجم بِجَوَاز ترك الْغسْل، وَإِنَّمَا ترْجم بِبَعْض مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث بِغَيْر هَذِه الْمَسْأَلَة قلت: من تَرْجَمته يفهم جَوَاز ترك الْغسْل لِأَنَّهُ اقْتصر على غسل مَا يُصِيب الرجل من الْمَرْأَة وَأَنه هُوَ الْوَاجِب، وَالْغسْل غير وَاجِب، وَلكنه مُسْتَحبّ للِاحْتِيَاط وَأما قَول ابْن الْعَرَبِيّ: أطبق عَلَيْهِ الصَّحَابَة، فَفِيهِ نظر، فَإِن الْخلاف مَشْهُور فِي الصَّحَابَة ثَبت عَن جمَاعَة مِنْهُم، كَذَا قَالَ بَعضهم: قلت لقَائِل أَن يَقُول انْعَقَد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فارتفع الْخلاف، بَيَانه مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا روح بن الْفرج، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن عبد الله بن بكير، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي معمر بن أبي حَبِيبَة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف المكررة، فَهِيَ حَبِيبَة بنت مرّة بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن شُعَيْب، قَالَه الزبير، وَقَالَ ابْن مَاكُولَا وَمن قَالَ فِيهِ ابْن أبي حَبِيبَة، فقد غلط وَمعمر هَذَا يروي عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار، قَالَ تَذَاكر أَصْحَاب(3/253)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عمر بن الْخطاب الْغسْل من الْجَنَابَة، فَقَالَ بَعضهم: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل، وَقَالَ بَعضهم: المَاء من المَاء. فَقَالَ عمر: قد اختلفتم وَأَنْتُم أهل بدر الأخيار، فَكيف بِالنَّاسِ بعدكم؟ فَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِن أردْت أَن تعلم ذَلِك فارسل إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسألهن عَن ذَلِك: فَأرْسل إِلَى عَائِشَة فَقَالَت: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل. فَقَالَ عمر عِنْد ذَلِك لَا أسمع أحدا يَقُول: المَاء من المَاء، إلاَّ جعلته نكالاً قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا عمر قد حمل النَّاس على هَذَا بِحَضْرَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ مُنكر وَادّعى ابْن الْقصار أَن الْخلاف ارْتَفع بَين التَّابِعين، وَفِيه نظر، لِأَن الْخطابِيّ قَالَ: قَالَ بِهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَسمى بَعضهم: وَمن التَّابِعين الْأَعْمَش، وَتَبعهُ القَاضِي عِيَاض: وَلكنه قَالَ: لم يقل بِهِ أحد من بعد أَصْحَابه غَيره، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ قد ثَبت ذَلِك عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: المَاء من المَاء) وَكَانَ أَبُو سَلمَة يفعل ذَلِك، وَعند هِشَام ابْن عُرْوَة عَن عبد الرَّزَّاق وَعِنْده أَيْضا عَن أبي جريح عَن عَطاء أَنه قَالَ: لَا تطيب نَفسِي حَتَّى اغْتسل من أجل اخْتِلَاف النَّاس لآخذ بالعروة الوثقى.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
6 - (كتاب الحيضِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْحيض. وَلما فرغ مِمَّا ورد فِي بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة من الإحداث أصلا وخلفاً، شرع فِي بَيَان مَا ورد فِي بَيَان الْحيض الَّذِي هُوَ من الأنجاس، وَقدم مَا ورد فِيهِ على مَا ورد فِي النّفاس لِكَثْرَة وُقُوع الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُقُوع النّفاس.
وَالْحيض فِي اللُّغَة السيلان، يُقَال حَاضَت السمرَة، وَهِي شَجَرَة يسيل مِنْهَا شَيْء كَالدَّمِ، وَيُقَال: الْحيض لُغَة الدَّم الْخَارِج يُقَال: حَاضَت الأرانب، إِذا خرج مِنْهَا الدَّم وَفِي (الْعباب) التحييض التسييل، يُقَال حَاضَت الْمَرْأَة تحيض حيضا ومحاضاً ومحيضاً. وَعَن اللحياني: حاض وجاض وحاص، بالمهملتين، وحاد كلهَا بِمَعْنى: وَالْمَرْأَة حَائِض، وَهِي اللُّغَة الفصيحة الفاشية بِغَيْر تَاء، وَاخْتلف النُّحَاة فِي ذَلِك، فَقَالَ الْخَلِيل: لما لم يكن جَارِيا على الْفِعْل كَانَ بِمَنْزِلَة الْمَنْسُوب بِمَعْنى حائضي، أَي: ذَات حيض، كدراع ونابل وتامر وَلابْن، وَكَذَا طَالِق وطامت وقاعد للآيسة أَي: ذَات طَلَاق وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أَن ذَلِك صفة شَيْء مُذَكّر أَي شَيْء أَو أنسان أَو شخص حَائِض. وَمذهب الْكُوفِيّين أَنه اسْتغنى عَن عَلامَة التَّأْنِيث لِأَنَّهُ مَخْصُوص بالمؤنث، وَنقض: بجمل باذل، وناقة بازل، وضامر فيهمَا.
وَإِمَّا مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع فَهُوَ: دم ينفضه رحم امْرَأَة سليمَة عَن دَاء وَصغر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْحيض دم يرخيه رحم الْمَرْأَة بعد بُلُوغهَا فِي أَوْقَات مُعْتَادَة من قَعْر الرَّحِم وَقَالَ الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير بِهِ الْمَرْأَة بَالِغَة بابتداء خُرُوجه، وَقيل: هُوَ دم ممتد خَارج عَن مَوضِع مَخْصُوص، وَهُوَ القيل، والاستحاضة، جَرَيَان الدَّم فِي غير أَوَانه، وَقَالَ أَصْحَابنَا: الِاسْتِحَاضَة مَا ترَاهُ الْمَرْأَة فِي أقل من ثَلَاثَة أَيَّام أَو على أَكثر من عشرَة أَيَّام.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعَتَزِلُوا النِّساءَ فِي المَحِيضِ إِلَى} قَوْله: {وَيُحِبُ المُتَطَهِّرِينَ} (سُورَة الْبَقَرَة: 222)
قَول الله بِالْجَرِّ، عطفا على قَوْله: الْحيض الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ، كتاب، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة فيهم لم يؤاكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت فَسَأَلَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة: 222) الْآيَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (افعلوا كل شَيْء إلاَّ النِّكَاح) وَقَالَ الواحدي: السَّائِل هُوَ أَبُو الدحداح، وَفِي مُسلم أَن أسيد بن حضير وَعباد بن بشر قَالَا بعد ذَلِك، أَفلا نجامعهن فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث، وَهَذَا بَيَان للأذى الْمَذْكُور فِي الْآيَة وَقَالَ الطَّبَرِيّ: سمي الْحيض أَذَى لنتنه وقذره ونجاسته وَقَالَ الْخطابِيّ: الْأَذَى الْمَكْرُوه الَّذِي لَيْسَ بشديد كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لن يضروكم إلاَّ أذَىً} (سُورَة آل عمرَان: 111) فَالْمَعْنى أَن الْمَحِيض أَذَى يعتزل من الْمَرْأَة بِوَضْعِهِ، وَلَكِن لَا يتَعَدَّى ذَلِك إِلَى بَقِيَّة بدنهَا. قَالُوا: وَالْمرَاد من الْمَحِيض الأول الدَّم، وَأما الثَّانِي فقد اخْتلف فِيهِ أهوَ نفس الدَّم أَو زمن الْحيض،(3/254)
أَو الْفرج؟ وَالْأول هُوَ الْأَصَح. فَإِن قلت: أورد هَذِه الْآيَة هَاهُنَا وَلم يبين مِنْهَا شَيْئا فَمَا كَانَت فَائِدَة ذكرهَا هَاهُنَا. قلت: أقل فَائِدَة التَّنْبِيه إِلَى نَجَاسَة الْحيض، وَالْإِشَارَة أَيْضا إِلَى وجوب الاعتزال عَنْهُن فِي حَالَة الْحيض، وَغير ذَلِك.
1 - (بابُ كَيْفَ كانَ بَدْءَ الحَيْضِ)
أَي: هَذَا بَاب، فارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَيجوز فِيهِ التَّنْوِين بِالْقطعِ عَمَّا بعده، وَتَركه للإضافة إِلَى مَا بعده وَالْبَاب أَصله: البوب، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَيجمع على أَبْوَاب وابوية، وَالْمرَاد من الْبَاب هُنَا النَّوْع. كَمَا فِي قَوْلهم: من فتح بَابا من الْعلم أَي: نوعا وَكلمَة، كَيفَ اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل فِي قَوْلهم: على كَيفَ تبيع الأحمرين؟ فَإِن قلت: مَا مَحل: كَيفَ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: يجوز أَن تكون حَالا، كَمَا فِي قَوْلك كَيفَ جَاءَ زيد، أَي: على أَي حَالَة جَاءَ زيد؟ وَالتَّقْدِير هَاهُنَا على أَي حَالَة كَانَ ابْتِدَاء الْحيض؟ وَلَفظ كَانَ من الْأَفْعَال النَّاقِصَة تدل على الزَّمَان الْمَاضِي من غير تعرض لزواله فِي الْحَال أَو لَا زَوَاله وَبِهَذَا يفْتَرق عَن: صَار، فَإِن مَعْنَاهُ الِانْتِقَال من حَال إِلَى حَال، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: صَار الله، وَلَا يُقَال إِلَّا كَانَ كَانَ الله. قَوْله: (بَدْء الْحيض) من بَدَأَ يبدؤ بدوأ أَي: ظهر، والبدأ بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره على فعل، بِسُكُون الْعين من بدأت الشَّيْء بدأت: ابتدأت بِهِ.
وقَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا شَيْءٌ كتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ، والآن يذكرهُ مَوْصُولا لَا عقيب هَذَا، وسيذكره أَيْضا فِي الْبَاب السَّادِس فِي جملَة حَدِيث، وَقَالَ بَعضهم: وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء، يُشِير إِلَى حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور عَقِيبه. قلت: هَذَا الْكَلَام غير صَحِيح، بل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء، يُشِير بِهِ إِلَى الْحيض فَكَذَلِك لفظ: شَيْء فِي الحَدِيث الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبَاب السَّادِس، وَلكنه بِلَفْظ: (فَإِن ذَلِك شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم) وَفِي الحَدِيث الَّذِي عَقِيبه: (إِن هَذَا أَمر كتبه الله على بَنَات آدم) وعَلى كل تَقْدِير الْإِشَارَة إِلَى الْحيض، وَقد استدركه هَذَا الْقَائِل فِي آخر كَلَامه بقوله: وَالْإِشَارَة بقوله هَذَا إِلَى الْحيض.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كانِ أَوَّلُ مَا أُرْسلَ الحَيْضُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
هَذَا قَول عبد الله بن معسود وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنْهُمَا وَلَفظه (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي بني إِسْرَائِيل يصلونَ جَمِيعًا، وَكَانَت الْمَرْأَة تتشرف للرجل فَألْقى الله عَلَيْهِنَّ الْحيض ومنعهن الْمَسَاجِد) فَإِن قلت: الْحيض أرسل على بَنَات بني إِسْرَائِيل على هَذَا القَوْل: وَلم يُرْسل على بنيه، فَكيف قَالَ: على بني إِسْرَائِيل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يسْتَعْمل بَنو إِسْرَائِيل، وَيُرَاد بِهِ أَوْلَاده، كَمَا يُرَاد من بني آدم أَوْلَاده. أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة. قلت: هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة يمشي، وَمن حَيْثُ الْعرف لَا يذكر الإبن وَيُرَاد بِهِ الْوَلَد، حَتَّى لَو أوصى بِثلث مَاله لِابْنِ زيد، وَله ابْن وَبنت لَا تدخل الْبِنْت فِيهِ، وَدخُول الْبَنَات فِي بني آدم بطرِيق التّبعِيَّة. وَقَوله: أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة، لَيْسَ لَهُ وَجه أصلا لِأَن الْقَبِيلَة تجمع الْكل فَيدْخل فِيهِ الرِّجَال أَيْضا. وَقد علم أَن طَبَقَات الْعَرَب سِتّ، فالقبائل تجمع الْكل وَيُمكن أَن يُقَال إِن الْمُضَاف فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره، على بَنَات بني إِسْرَائِيل، يشْهد بذلك قَوْله: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (كتبه الله على بَنَات بني آدم) وَقد ذكر التَّوْفِيق بَينهمَا عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: مَا مَحل قَوْله: على بني إِسْرَائِيل من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب لِأَنَّهَا جملَة وَقعت خَبرا لَكَانَ قَوْله أَو ل مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْمه، وَكلمَة مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره، كَانَ أول إرْسَال الْحيض على بني إِسْرَائِيل.
قالَ أبُو عبْدِ اللَّهِ وَحَدِيثُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرُ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى دَرَجَة التَّوْفِيق بَين الْخَبَرَيْنِ، وَهُوَ أَن كَلَام الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر قُوَّة وقبولاً من كَلَام غَيره من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ الْكرْمَانِي:، ويروي: (أكبر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَمَعْنَاهُ: على هَذَا، وَحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وسلمأعظم وَأجل وآكد ثبوتاً وَفسّر الْكرْمَانِي الْأَكْثَر، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَأي: أشمل، لِأَنَّهُ يتَنَاوَل بَنَات إِسْرَائِيل وغيرهن، وَقَالَ بَعضهم: أَكثر أَي: أشمل لِأَنَّهُ عَام فِي جَمِيع بَنَات بني آدم، فَيتَنَاوَل الْإسْرَائِيلِيات وَمن قبلهن. قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الشُّمُول فِي بَنَات إِسْرَائِيل وَمن بعدهن؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ لَيْسَ بَينهمَا مُخَالفَة، فَإِن نسَاء(3/255)
بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم، وَقَالَ بَعضهم: فعلى هَذَا فَقَوله: بَنَات آدم أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. قلت: مَا أبعد كَلَام الدَّاودِيّ فِي التَّوْفِيق بَينهمَا. نعم، نَحن مَا ننكر أَن نسَاء من بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم، وَلَكِن الْكَلَام فِي لفظ الأولية فيهمَا وَلَا تَنْتفِي الْمُخَالفَة إِلَّا بالتوفيق بَين لَفْظِي الأولية، وَأبْعد من هَذَا قَول هَذَا الْقَائِل: عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فَكيف يجوز تَخْصِيص عُمُوم كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَام غَيره؟ ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن أَن يجمع بَينهمَا بِأَن الَّذِي أرسل على نسَاء بني إِسْرَائِيل طول مكثه بِهن عُقُوبَة لَهُنَّ لَا ابْتِدَاء وجوده. قلت: هَذَا كَلَام من لَا يَذُوق الْمَعْنى، وَكَيف يَقُول: لَا ابْتِدَاء وجوده؟ وَالْخَبَر فِيهِ أول مَا أرسل، وَبَينه وَبَين كَلَامه مُنَافَاة، وَأَيْضًا من أَيْن ورد أَن الْحيض طَال مكثه فِي نسَاء بني إِسْرَائِيل؟ وَمن نقل هَذَا؟ وَقد روى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أَن ابْتِدَاء الْحيض كَانَ على حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن أهبطت من الْجنَّة وَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر. وَقد روى الطَّبَرِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره أَن قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت} (سُورَة هود: 71) أَي: حَاضَت، والقصة مُتَقَدّمَة على بني إِسْرَائِيل بِلَا ريب، لِأَن إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَلَقَد حضر لي جَوَاب فِي التَّوْفِيق من الْأَنْوَار الإلهية بعونه ولطفه، وَهُوَ أَنه، يُمكن أنالله تَعَالَى قطع نِسَائِهِم، لِأَن من حكم الله تَعَالَى أَنه جعل الْحيض مسبباً لوجو، النَّسْل، أَلا ترى أَن الْمَرْأَة إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لَا تحمل عَادَة؟ أَعَادَهُ عَلَيْهِنَّ كَانَ ذَلِك أول الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُدَّة الِانْقِطَاع، فَأطلق الأولية عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا من الْأُمُور النسبية فَافْهَم.
294 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ المَدِينِي حدّثنا سُفْيَانُ قالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنْنَ القَاسِمِ قالَ سَمِعْتُ القَاسِمَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إلاَّ الحَجْ فَلَمَّا كُنَّا بِسِرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أَبْكِي فَقَالَ مالَكَ أنُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إنَّ هَذَا إِمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتَ آدَمَ فَافْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ وضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ نِسَائِهِ بالْبَقَر. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا أَمر كتبه الله على بَنَات آدم) . وعَلى رَأس هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت بَاب الْأَمر بالنفساء إِذا نفس، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات هَذِه التَّرْجَمَة سَاقِطَة، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْأَمر الْمُتَعَلّق بالنفساء قَالَ الْكرْمَانِي: الْبَحْث فِي الْحيض، فَمَا وَجه تعلقه بِهِ. قلت: المُرَاد بالنفساء الْحَائِض. قلت: النُّفَسَاء مُفْرد، وَجمعه نِفَاس. وَقَالَ الْجَوْهَرِي لَيْسَ فِي الْكَلَام من فعلاء يجمع على فعال غير نفسَاء وعشراء، وَهِي الْحَامِل من الْبَهَائِم، ثمَّ قلت: وَيجمع أَيْضا على نفساوات بِضَم النُّون، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) بِالْفَتْح أَيْضا، وَيجمع أَيْضا على نفس، بِضَم النُّون وَالْفَاء، قَالَ: وَيُقَال فِي الْوَاحِد نَفسِي مثل كبرى، وبفتح النُّون أَيْضا، وَامْرَأَتَانِ نفساوان، وَنسَاء نِفَاس، وَالنّفاس أَيْضا مصدر سمي بِهِ الدَّم كَمَا يُسمى بِالْحيضِ مَأْخُوذ من تنفس الرَّحِم بِخُرُوج النَّفس الَّذِي الدَّم وَفِي المعزب النفا مصدر نفست الْمَرْأَة بِضَم النُّون وَفتحهَا إِذا ولدت فَهِيَ نفسَاء قَوْله: إِذا نفس، بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النُّفَسَاء، وتذكيره بِاعْتِبَار الشَّخْص أَو لعدم الإلتباس كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب فَإِن قلت: الْبَاء فِي النُّفَسَاء مَا هِيَ؟ قلت: زَائِدَة لِأَن النُّفَسَاء مأمورة لَا مَأْمُور بهَا، أويكون التَّقْدِير الْأَمر الملتبس بالنفساء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال قَالَ ابْن الْأَثِير: مَنْسُوب إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا أحد مَا اسْتعْمل بِالنّسَبِ فِيهِ خَارِجا عَن الْقيَاس، فَإِن قِيَاسه الْمدنِي، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مدنِي وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، للْفرق. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة، رَضِي(3/256)
الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر تعدده وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب عَن سُفْيَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الله والْحَارث بن مِسْكين، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن يحيى بن آدم وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (لَا نرى إلاَّ الْحَج) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَلَا نرى، بِضَم النُّون، بِمَعْنى: لَا نظن وَقَوله: إلاَّ الْحَج، يَعْنِي: إلاَّ قصد الْحَج، لأَنهم كَانُوا يظنون امْتنَاع الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، فَأخْبرت عَن اعتقادها، أَو عَن الْغَالِب عَن حَال النَّاس، أَو عَن حَال الشَّارِع أما هِيَ فقد قَالَت: إِنَّهَا لم تحرم إلاَّ بِالْعُمْرَةِ. قَوْله: (فَلَمَّا كنت) وَفِي بعض النّسخ: (فَلَمَّا كُنَّا) قَوْله: (بسرف) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء فِي آخِره فَاء وَهُوَ اسْم مَوضِع قريب من مَكَّة بَينهمَا نَحْو من عشرَة أَمْيَال، وَقيل: عشرَة، وَقيل: تِسْعَة، وَقيل: سَبْعَة، وَقيل: سِتَّة، وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث. قَوْله: (حِضْت) بِكَسْر الْحَاء، لِأَنَّهُ من حاض يحيض، كبعت من بَاعَ يَبِيع، بِأَصْلِهِ حيضت، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ، حِضْت، بِالْفَتْح ثمَّ أبدلت الفتحة كسرة لتدل على الْيَاء المحذوفة. قَوْله: (وَأَنا أبْكِي) جملَة إسمية وَقعت حَالا بِالْوَاو. قَوْله: (أنفست؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، ونفست، قَالَ النَّوَوِيّ: بِضَم الْفَاء وَفتحهَا فِي الْحيض وَالنّفاس، لَكِن الضَّم فِي الْولادَة وَالْفَتْح فِي الْحيض أَكثر. وَحكى صَاحب (الْأَفْعَال) الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَفِي (شرح مُسلم) الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَن نفست، بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء مَعْنَاهُ: حِضْت، وَأما فِي الْولادَة فَيُقَال: نفست، بِضَم النُّون، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: نفست، بِضَم النُّون وَفتحهَا فِي الْولادَة وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير. قَوْله: (إِن هَذَا أَمر) إِشَارَة إِلَى الْحيض، فَالْأَمْر بِمَعْنى الشَّأْن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: أَمر، وَفِي التَّرْجَمَة، شَيْء، فَهُوَ إِمَّا من بَاب نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَن اللَّفْظَيْنِ ثابتان. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى الترديد، إِذْ اللفظان ثابتان. قَوْله: (فاقضى) خطاب لعَائِشَة، فَلذَلِك لم تسْقط الْيَاء، وَمَعْنَاهُ، فأدي لِأَن الْقَضَاء يَأْتِي بِمَعْنى الْأَدَاء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} (سُورَة الْجُمُعَة: 10) أَي: إِذا أدّيت صَلَاة الْجُمُعَة. قَوْله: (مَا يقْضِي الْحَاج) قَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد من الْحَاج الْحسن، فَيشْمَل الْجمع، هُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {سامر اتهجرون} (سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 67) قلت: لَا ضَرُورَة إِلَى هَذَا الْكَلَام، بل هُوَ اسْم فَاعل، وَأَصله، حاجج، وَرُبمَا يَأْتِي فِي ضَرُورَة الشّعْر هَكَذَا قَالَ الراجز:
بِكُل شيخ عَامر أَو حاجج
وَفِي (الصِّحَاح) تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه حجا فَأَنا حَاج، وَيجمع على: حجج مثل: بازل وبزل. قَوْله: (غير ألاَّ تطوفي) بِنصب غير، وإلاَّ بِالتَّشْدِيدِ أَصله أَن لَا يجوز، أَن تكون: أَن مُخَفّفَة، من المثقلة، وَفِيه ضمير الشَّأْن، وَلَا تطوفي، مجزوم وَالْمعْنَى لَا تطوفي مَا دمت حَائِضًا لفقدان شَرط صِحَة الطّواف، وَهُوَ الطَّهَارَة. قَوْله: (بالبقر) ويروي: (بالبقر) وَالْفرق بَينهمَا: كتمرة وتمر، وعَلى تَقْدِير عدم التَّاء يحْتَمل التَّضْحِيَة بِأَكْثَرَ من بقرة وَاحِدَة.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الْمَرْأَة إِذا حَاضَت بعد الْإِحْرَام يَنْبَغِي لَهَا أَن تَأتي بِأَفْعَال الْحَج كلهَا غير أَنَّهَا لَا تَطوف بِالْبَيْتِ، فَإِذا طافت قبل أَن تتطهر فعلَيْهَا بدلة، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء وَالْجنب عَلَيْهِمَا بَدَنَة بِالطّوافِ قبل التطهر عَن النّفاس والجنابة، وَأما الْمُحدث فَإِن طَاف طواف الْقدوم فَعَلَيهِ صَدَقَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يعْتد بِهِ، وَالطَّهَارَة من شَرطه عِنْده، وَكَذَا الحكم فِي كل طواف هُوَ تطوع، وَلَو طَاف طواف الزِّيَارَة مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة، وَإِن كَانَ جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة، وَكَذَا الْحَائِض وَالنُّفَسَاء. وَمِنْهَا: جَوَاز الْبكاء والحزن لأجل حُصُول مَانع لِلْعِبَادَةِ وَمِنْهَا جَوَاز التَّضْحِيَة ببقرة وَاحِدَة لجَمِيع نِسَائِهِ وَمِنْهَا جَوَاز تضحية الرجل لامْرَأَته. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استأذنهن فِي ذَلِك، فَإِن تضحية الْإِنْسَان عَن غَيره لَا يجوز إلاَّ بِإِذْنِهِ قلت: هَذَا فِي الْوَاجِب، وَأما فِي التَّطَوُّع فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِذْن، فاستدل مَالك بِهِ على أَن التَّضْحِيَة بالبقر أفضل من الْبَدنَة، وَلَا دلَالَة فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ، مِنْهُم الشَّافِعِي ذَهَبُوا إِلَى أَن التَّضْحِيَة بالبدنة أفضل من الْبَقَرَة لتقديم الْبَدنَة على الْبَقَرَة فِي حَدِيث سَاعَة الْجُمُعَة.
وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ هَاهُنَا حَدِيث طَوِيل فِيهِ أَحْكَام كَثِيرَة وخلافات بَين الْعلمَاء، وموضعها كتاب الْحَج.(3/257)
2 - (بابُ غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِها وَتَرْجِيلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا، وَحكم ترجيل رَأسه، والترجيل مجرور عطف على غسل، وَهُوَ بِالْجِيم: تَسْرِيح شعر الرَّأْس. وَقَالَ ابْن السّكيت، شعر رجل، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، إِذا لم يكن شَدِيد الجعودة وَلَا سبطاً، تَقول مِنْهُ: رجل شعره ترجيلاً.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم مُتَعَلق بالحائض.
295 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ حدّثنا مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا حائِضٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ترجيل رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما أَمر الْغسْل فَلَا مُطَابقَة لَهُ، وَقَالَ بَعضهم: الْحق بِهِ الْغسْل قِيَاسا أَو إِشَارَة إِلَى الطَّرِيق الْآتِيَة فِي بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض، فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذَلِك، والوجهان اللَّذَان ذكرهمَا هَذَا الْقَائِل لَا وَجه لَهما أصلا. أما الأول: فَلِأَن وضع التراجم من الْأَبْوَاب هَل هُوَ حكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حَتَّى يُقَاس حكم مِنْهَا على حكم آخر. وَأما الثَّانِي: فَهَل وَجه الْوَضع تَرْجَمَة فِي بَاب، وَالْإِشَارَة إِلَى المترجم الَّذِي وضع لَهَا فِي الْبَاب الثَّالِث.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا فِي بَاب الْوَحْي على هَذَا التَّرْتِيب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله فَإِنَّهُ تنيسي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن عبد الله بن يُوسُف، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَفِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك. قَوْله: (كنت أرجل رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فِيهِ الْإِضْمَار تَقْدِيره: كنت أرجل شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن الترجيل للشعر لَا للرأس، وَيجوز أَن يكون من بَاب إِطْلَاق الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (وَأَنا حَائِض) جملَة أسمية وَقعت حَالا.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز ترجيل الْحَائِض شعر رَأس زَوجهَا، وَاعْلَم أَنه لم يخْتَلف أحد فِي غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا وترجيله إلاَّ مَا نقل عَن ابْن عَبَّاس أَنه دخل على مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. فَقَالَت: (أَي بني مَالِي أَرَاك شعث الرَّأْس، فَقَالَ: إِن أم عمار ترجلني وَهِي الْآن حَائِض. فَقَالَت: أَي بني لَيست الْحَيْضَة بِالْيَدِ، كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضع رَأسه فِي حجر إحدانا وَهِي حَائِض) ذكره ابْن أبي شيبَة. فَقَالَ: حدّثنا ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا منبوذ عَن أَبِيه بِهِ. وَمِمَّا يُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة بِرِضَاهَا وَهُوَ إِجْمَاع.
296 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قالَ أخْبَرَنَا هِشَامُ بنُ يُوسِفَ أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قالَ أخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ أنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِي الحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي المَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ فَقالَ عُرْوَةُ كُلُّ ذِلِكَ عَلَى هَيْنٌ وكُلُّ ذَلِكَ تَخْدُمُنِي وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذِلِكَ بَأْسٌ أَخْبَرْتَنِي عائِشَةُ أنَّهَا كانَتْ ترَجِّلُ تَعْني رَأَسَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِيَ حائِضٌ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَئِذٍ مُجَاوِرُ فِي المَسْجِدِ يُدْنَى لَهَا رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ حائِضٌ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كمطابقة الحَدِيث السَّابِق.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الرَّازِيّ أَبُو إِسْحَاق الْفراء، يعرف بالصغير، وَكَانَ أَحْمد يُنكر على من يَقُول لَهُ الصَّغِير، وَقَالَ: هُوَ كَبِير فِي الْعلم وَالْجَلالَة. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء من أَبنَاء الْفرس، وَهُوَ أكبر اليمانيين وأحفظهم وأتقنهم، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: ابْن جريح، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء واسْمه عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريح الْمَكِّيّ القريشي الْمدنِي، أَصله رومي، وَهُوَ أحد الْعلمَاء الْمَشْهُورين، وَهُوَ أول من صنف فِي الْإِسْلَام فِي قَول: وَكَانَت لَهُ كنيتان أَبُو الْوَلِيد وَأَبُو خَالِد، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَة، وَهُوَ جَاوز السّبْعين. الرَّابِع: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.(3/258)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع غير أَن فِي قَوْله: قَالَ أَخْبرنِي، رُوِيَ: الثَّالِث: أخبرنَا الأول أَكثر. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: لَطِيفَة حَسَنَة وَهِي أَن ابْن جريح يروي عَن هِشَام، وَهِشَام يروي عَن ابْن جريج فالأعلى ابْن عُرْوَة، والأدنى ابْن يُوسُف. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي وصنعاني ومكي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (أَنه سُئِلَ) أَي: عُرْوَة سُئِلَ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أتخدمني الْحَائِض؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (أَو تَدْنُو؟) أَي: أَو تقرب؟ قَوْله: (وَهِي جنب) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَلَفظ جنب، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث وَالْوَاحد وَالْجمع، وَهِي اللُّغَة الفصيحة قَوْله: (كل ذَلِك) إِشَارَة إِلَى الْخدمَة، والدنو اللَّذَان يدلان عَلَيْهِمَا لفظ أتخدمني وتدنو؟ وَجَاءَت الْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك للمثنى قَالَ الله تَعَالَى: {عوان بَين ذَلِك} (سُورَة الْبَقَرَة: 68) قَوْله: (هَين) أَي: سهل، وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف: كميت وميت، وَأَصله: هيون إجتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فقلبت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (وكل ذَلِك) أَي: الْحَائِض وَالْجنب، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور لفظا، وَوجه التَّثْنِيَة قد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَلَيْسَ على أحد فِي ذَلِك بَأْس) أَي: حرج، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول: وَلَيْسَ عَليّ فِي ذَلِك بَأْس، لكنه قصد بذلك التَّعْمِيم مُبَالغَة فِيهِ، وَدخل هُوَ فِيهِ بِالْقَصْدِ الأول. قَوْله: (ترجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَهِي حَائِض) جملَة حَالية، وَإِنَّمَا لم يقل: حائضة، لعدم الالتباس، وَأما قَوْلهم: جَاءَ الحاملة والمرضعة، فِي الِاسْتِعْمَال، فلإرادة التباسهما بِتِلْكَ الصّفة بِالْفِعْلِ، فَإِذا أُرِيد التباسهما بِالْقُوَّةِ. يكون بِلَا تَاء، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترونها تذهل كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت} (سُورَة الْحَج: 2) فَإِن قلت: لم قيل مُرْضِعَة دون مرضع؟ قلت: الْمُرضعَة الَّتِي هِيَ فِي حَال الْإِرْضَاع تلقم ثديها الصَّبِي، والمرضع الَّتِي من شَأْنهَا أَن ترْضع وَإِن لم تباشر الْإِرْضَاع فِي حَال وصفهَا بِهِ. قَوْله: (حِينَئِذٍ) أَي: حِين الترجيل. قَوْله: (مجاور) أَي: معتكف. قَوْله: (بدني) بِضَم الْيَاء أَي: يقرب لَهَا، أَي: لعَائِشَة رَأسه، وَالْحَال أَنَّهَا فِي حُجْرَتهَا، وَكَانَت حُجْرَتهَا ملاصقة لِلْمَسْجِدِ، والحجرة، بِضَم الْحَاء الْبَيْت. قَوْله: (فترجله) أَي: ترجل عَائِشَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: ترجل شعر رَأسه، وَالْحَال أَنَّهَا حَائِض.
والْحَدِيث دلّ على جَوَاز خدمَة الْحَائِض فَقَط، وَأما دلَالَته على دنو الْجنب فبالقياس عَلَيْهَا، وَالْجَامِع إشتراكهما فِي الْحَدث الْأَكْبَر، وَهُوَ من بَاب الْقيَاس الْجَلِيّ، لِأَن الحكم بالفرع أولى، لِأَن الاستقذار من الْحَائِض أَكثر.
وَمِمَّا يستنبط من الحَدِيث أَن الْمُعْتَكف إِذا خرج رَأسه أَو يَده أَو رِجَاله من الْمَسْجِد لم يبطل اعْتِكَافه، وَأَن من حلف لَا يدْخل دالااً أَو لَا يخرج مِنْهَا فَأدْخل بعضه أَو أخرج بعضه لَا يخنث. وَفِيه: جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة فِي الْغسْل وَنَحْوه بِرِضَاهَا، وَأما بِغَيْر رِضَاهَا فَلَا يجوز، لِأَن عَلَيْهَا تَمْكِين الزَّوْج من نَفسهَا وملازمة بَيته فَقَط، وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ حجَّة على طَهَارَة الْحَائِض وَجَوَاز مباشرتها. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمُبَاشرَة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} (سُورَة الْبَقَرَة: 187) لم يرد بهَا كل مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم الْمس، وَإِنَّمَا أَرَادَ بهَا الْجِمَاع أَو مَا دونه من الدَّوَاعِي للذة. وَفِيه: ترجيل الشّعْر للرِّجَال وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الزِّينَة. وَفِيه: أَن الْحَائِض لَا تدخل الْمَسْجِد تَنْزِيها لَهُ وتعظيماً، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، وَحكى ابْن سَلمَة أَنَّهَا تدخل هِيَ وَالْجنب، وَفِي رِوَايَة: يدْخل الْجنب وَلَا تدخل الْحَائِض. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: حجَّة على الشَّافِعِي فِي أَن الْمُبَاشرَة الْخَفِيفَة مثل مَا فِي هَذَا الحَدِيث لَا تنقض الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ فِيهِ حجَّة على الشَّافِعِي، إِذْ هُوَ لَا يَقُول بِأَن مس الشّعْر نَاقض للْوُضُوء، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الِاعْتِكَاف لَا يشْتَرط فِيهِ الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه عقب ذَلِك الْفِعْل بِالصَّلَاةِ، وعَلى تَقْدِير ذَاك فمس الشّعْر لَا ينْقض الْوضُوء. قلت: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَيْضا أَنه تَوَضَّأ عقيب ذَلِك، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
3 - (بابُ قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حائِضٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قِرَاءَة الرجل فِي حجر امْرَأَته، وَالْحَال أَنَّهَا حَائِض، وَالْحجر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا، وَسُكُون الْجِيم وَالْجمع حجور، وَمحل: فِي حجر امْرَأَته، نصب على الْحَال تَقْدِيره قِرَاءَة الرجل حَال كَونه مُتكئا على حجر امْرَأَته،(3/259)
وَكلمَة: فِي، تَأتي بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جزوع النّخل} (سُورَة طه: 71) أَي: عَلَيْهَا وَيجوز أَن يقدر، وَاضِعا رَأسه على حجر امْرَأَته ومستنداً إِلَيْهِ.
ثمَّ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهَا على حكم مُتَعَلق بالحائض، وَهُوَ ظَاهر.
وكانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وهَيَ حائضٌ إلَى أبي رَزِينٍ فَتَأْتِيهِ بالمُصْحَفٍ فَتُمُسِكُهُ بَعِلاَقَتِهِ
الْكَلَام فِي هَذَا على أَنْوَاع.
الأول: فِي وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة فَقَالَ: صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) لما ذكر البُخَارِيّ حمل الْحَائِض العلاقة الَّتِي فِيهَا الْمُصحف، نطرها بِمن يحفظ الْقُرْآن فَهُوَ حامله، لِأَنَّهُ فِي جَوْفه، كَمَا رُوِيَ عَن سعيد ابْن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير، هُوَ فِي جَوْفه ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ورقة وَهُوَ جنب قَالَ: فِي جوفي أَكثر من هَذَا وَنزل ثِيَاب الْحَائِض بِمَنْزِلَة العلاقة، وَقِرَاءَة الرجل بِمَنْزِلَة الْمُصحف، لكَونه فِي جَوْفه. قلت: هَذَا فِي غَايَة الْبعد، لِأَن بَين قِرَاءَة الرجل فِي حجر امْرَأَته، وَبَين حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته بون عَظِيم من الْجِهَة الَّتِي ذكرت، لِأَن قَوْله: نظرها، إِمَّا تَشْبِيه وَإِمَّا قِيَاس، فَإِن أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيه، وَهُوَ تَشْبِيه محسوس بمعقول، فَلَا وَجه للتشبيه، وَإِن أَرَادَ بِهِ الْقيَاس فشروطه غير مَوْجُودَة فِيهِ، وَيُمكن أَن يُقَال: وَجه التطابق بَينهمَا هُوَ جَوَاز الحكم فِي كل مِنْهُمَا، فَكَمَا تجوز قِرَاءَة الرجل فِي حجر الْحَائِض. فَكَذَلِك يجوز حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته، وَفِي كل مِنْهُمَا دخل للحائض، وَفِيه وَجه التطابق. ثمَّ لَو قيل: مَا قيل فِي ذَلِك فَلَا يَخْلُو عَن تعسف.
النَّوْع الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد صَحِيح، فَقَالَ: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة، كَانَ أَبُو وَائِل. فَذكره.
النَّوْع الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ: فَقَوله: (يُرْسل خادمه) الْخَادِم اسْم لمن يخْدم غَيره، وَيُطلق على الْغُلَام وَالْجَارِيَة، فَلذَلِك قَالَ: وَهِي حَائِض، فأنث الضَّمِير. قَوْله: (بعلاقته) بِكَسْر الْعين: مَا يتَعَلَّق بِهِ الْمُصحف، وَكَذَلِكَ علاقَة السَّيْف وَنَحْو ذَلِك. وَأَبُو وَائِل: اسْمه شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره، روى عَن كثيرين من الصَّحَابَة، وَقَالَ يحيى بن معِين ثِقَة لَا يسْأَل عَن مثله، قَالَ الْوَاقِدِيّ مَاتَ فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَأَبُو رزين، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي الْمُعْجَمَة اسْمه مَسْعُود بن مَالك الْأَسدي مولى أبي وَائِل وَأَبُو الْكُوفِي التَّابِعِيّ، روى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
النَّوْع الرَّابِع فِي استنباط الحكم مِنْهُ. وَهُوَ جَوَاز حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته، وَكَذَلِكَ الْجنب، وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك عبد الله بن عمر بن الْخطاب وَعَطَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمُجاهد وَطَاوُس وَأَبُو وَائِل رزين وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَقَالَ ابْن بطال: رخص فِي حمله الحكم وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن جُبَير وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأهل الظَّاهِر، وَمنع الحكم مَسّه بباطن الْكَفّ خَاصَّة، وَقَالَ ابْن حزم، وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالسُّجُود فِيهِ وَمَسّ الْمُصحف وَذكر الله تَعَالَى جَائِز، كل ذَلِك وضوء وَبلا وضوء وللجنب وَالْحَائِض، وَهُوَ قَول ربيعَة وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن جُبَير وَابْن عَبَّاس وَدَاوُد وَجَمِيع أَصْحَابنَا، وَأما مس الْمُصحف فَإِن الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا من لم يجز للْجنب مَسّه، فآنه لَا يَصح مِنْهَا شَيْء لِأَنَّهَا إِمَّا مُرْسلَة وَإِمَّا صحيفَة لَا يسْتَند بِهِ، وَأما عَن ضَعِيف، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان حَدِيث هِرقل الَّذِي فِيهِ و {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا: {أشهدوا بِأَنا مُسلمُونَ} (سُورَة آل عمرَان: 64) فَهَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث كتابا فِيهِ قُرْآن للنصاري، وَقد أَيقَن أَنهم يمسونه، فَإِن ذكرُوا حَدِيث ابْن عمر، (نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو) قُلْنَا: هَذَا حق يلْزم اتِّبَاعه وَلَيْسَ فِيهِ لَا يمس الْمُصحف جنب وَلَا كَافِر، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن لَا ينَال أهل الْحَرْب الْقُرْآن فَقَط، فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا بعث إِلَى هِرقل بِآيَة وَاحِدَة، قيل: لَهُم: وَلم يمْنَع من غَيرهَا وَأَنْتُم أهل قِيَاس، فَإِن لم تقيسوا على الْآيَة مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا فَلَا تقيسوا على هَذِه الْآيَة غَيرهَا فَإِن ذكرُوا قَوْله جلّ وَعلا: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} (سُورَة الْوَاقِعَة: 79) قُلْنَا: لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أمرا وَإِنَّمَا هُوَ خير، والرب تَعَالَى لَا يَقُول إلاَّ حَقًا وَلَا يجوز أَن يصرف لفظ الْخَبَر إِلَى معنى الْأَمر إلاَّ بِنَصّ جلي أَو إِجْمَاع مُتَيَقن، فَلَمَّا رَأينَا الْمُصحف يمسهُ الطَّاهِر وَغير الطَّاهِر علمنَا أَنه لم يعن الْمُصحف، وَإِنَّمَا عَنى كتابا آخر عِنْده كَمَا جَاءَ عَن سعيد بن جُبَير فِي هَذِه الْآيَة هم الْمَلَائِكَة الَّذين فِي السَّمَاء، وَكَانَ عَلْقَمَة إِذا أَرَادَ أَن يتَّخذ مُصحفا أَمر نَصْرَانِيّا فينسخه لَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا بَأْس أَن يحمل الْجنب الْمُصحف بعلاقته، وَغير المتوضىء عِنْده كَذَلِك، وأبى ذَلِك مَالك إلاَّ إِن كَانَ فِي خرج أَو تَابُوت فَلَا بَأْس أَن يحملهُ(3/260)
الْجنب واليهودي وَالنَّصْرَانِيّ، قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَهَذِه تفاريق لَا دَلِيل على صِحَّتهَا. انْتهى كَلَامه.
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَه. فَقَوله بِأَن الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا من لم يجز للْجنب مَسّه إِلَخ، لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَكثر الْآثَار فِي ذَلِك صِحَاح. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) بِسَنَد صَحِيح مُتَّصِل عَن أنس: (خرج عمر بن الْخطاب مُتَقَلِّدًا السَّيْف، فَدخل على أُخْته وَزوجهَا خباب وهم يقرؤون سُورَة طه، فَقَالَ: أعطوني الْكتاب الَّذِي عنْدكُمْ فاقرؤوه، فَقَالَت لَهُ أُخْته: إِنَّك رِجْس {وَلَا يمسهُ إلاَّ الْمُطهرُونَ} (سُورَة الْوَاقِعَة: 79) فَقُمْ فاغتسل أَو تَوَضَّأ، فَقَامَ وَتَوَضَّأ ثمَّ أَخذ الْكتاب بِيَدِهِ) وَالْعجب من أبي عمر بن عبد الْبر إِذْ ذكره فِي سيرا ابْن إِسْحَاق وَقَالَ: هُوَ معضل، وَتَبعهُ على ذَلِك أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي: وَهَذَا أعجب مِنْهُ، وَقَالَ السُّهيْلي: هُوَ من أَحَادِيث السّير. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث سَالم يحدث عَن أَبِيه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمس الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَلما ذكره الجوزقاني فِي كِتَابه، قَالَ: هَذَا حَدِيث مَشْهُور حسن. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن كتابا فِيهِ، لَا يمس الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَرَوَاهُ فِي (الغرائب) من حَدِيث إِسْحَاق إلطباع عَن مَالك مُسْندًا وَمن الطَّرِيق الأولى خرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَابْن عبد الْبر وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) .
وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِمَنْع قِرَاءَة الْقُرْآن للْجنب وَالْحَائِض. مِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن رَوَاحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. [حم (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ أَحَدنَا الْقُرْآن وَهُوَ جنب) [/ حم. قَالَ أَبُو عمر: روينَاهُ من وُجُوه صِحَاح. وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن سَلمَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء إلاَّ الْجَنَابَة) صَححهُ جمَاعَة مِنْهُمَا بن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَأَبُو عَليّ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَغوِيّ فِي (شرح السّنة) وَفِي (سُؤَالَات الْمَيْمُونِيّ) قَالَ شُعْبَة: لَيْسَ أحد يحدث بِحَدِيث أَجود من ذَا، وَفِي (كَامِل) ابْن عدي عَنهُ، لم يرو عَمْرو وَأحسن من هَذَا وَكَانَ شُعْبَة يَقُول: هَذَا ثلث رَأس مَالِي، وخرجه ابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) زَاد ابْن حبَان، قد يتَوَهَّم غير المتحر فِي الحَدِيث أَن حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَ يذكر الله تَعَالَى على أحيائه، بِعَارِض هَذَا، وليبس كَذَلِك، لِأَنَّهَا أَرَادَت الذّكر الَّذِي هُوَ غير الْقُرْآن، إِذْ الْقُرْآن يجوز أَن يُسمى ذكرا وَكَانَ لَا يقْرَأ وَهُوَ جنب، ويقرؤه فِي سَائِر الْأَحْوَال. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب وَلَا النُّفَسَاء الْقُرْآن شَيْئا) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ سَنَده صَحِيح وَمِنْهَا حَدِيث أبي مُوسَى قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عَليّ لَا تقْرَأ الْقُرْآن وَأَنت جنب) ، وَعَن الْأسود أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ وَإِبْرَاهِيم لَا يقْرَأ الْجنب، وَعَن الشّعبِيّ وَأبي وَائِل مثله بِزِيَادَة، وَالْحَائِض.
وَالْجَوَاب: عَن الْكتاب إِلَى هِرقل فَنحْن نقُول بِهِ لمصْلحَة الإبلاغ والإنذار، وَأَنه لم يقْصد بِهِ التِّلَاوَة.
وَأما الْجَواب عَن الْآيَة بِأَن المُرَاد بالمطهرين الْمَلَائِكَة، كَمَا قَالَه قَتَادَة وَالربيع بِهِ أنس وَأنس بن مَالك وَمُجاهد بن جُبَير وَغَيرهم وَنَقله السُّهيْلي عَن مَالك وأكدوا هَذَا بقوله: (المطهرين) وَلم يقل: المتطهرين إِن تَخْصِيص الْمَلَائِكَة من بَين سَائِر المتطهرين على خلاف الأَصْل، وَكلهمْ مطهرون، والمس والإطلاع عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لبَعْضهِم دون الجمبع.
4 - (حَدثنَا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن سمع زهيرا عَن مَنْصُور بن صَفِيَّة أَن أمه حدثته أَن عَائِشَة حدثتها أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يتكيء فِي حجري وَأَنا حَائِض ثمَّ يقْرَأ الْقُرْآن) قَالَ صَاحب التَّوْضِيح وَجه مُنَاسبَة إِدْخَال حَدِيث عَائِشَة فِيهِ أَن ثِيَابهَا بِمَنْزِلَة العلاقة والشارع بِمَنْزِلَة الْمُصحف لِأَنَّهُ فِي جَوْفه وحامله إِذْ غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الدّلَالَة على جَوَاز حمل الْحَائِض الْمُصحف وقراءتها الْقُرْآن فالمؤمن الْحَافِظ لَهُ أكبر أوعيته قلت لَيْسَ فِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى الْحمل وَفِيه الاتكاء والاتكاء غير الْحمل وَكَون الرجل فِي حجر الْحَائِض لَا يدل على جَوَاز الْحمل وغرض البُخَارِيّ الدّلَالَة على جَوَاز الْقِرَاءَة بِقرب مَوضِع النَّجَاسَة لَا على جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وَبِهَذَا رد الْكرْمَانِي على ابْن بطال فِي قَوْله وغرض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَن يدل على جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وقراءتها الْقُرْآن قلت رده عَلَيْهِ إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِي قَوْله وقراءتها الْقُرْآن لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْحَائِض الْقُرْآن وَالَّذِي فِيهِ يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْقُرْآن فِي حجر الْحَائِض وعَلى جَوَاز حمل الْمُصحف لَهَا بعلاقته فأورد حَدِيثا وأثرا(3/261)
فَالْحَدِيث يدل على الأول والأثر يدل على الثَّانِي وَلكنه غير مُطَابق للتَّرْجَمَة وكل مَا كَانَ من هَذَا الْقَبِيل فِيهِ تعسف وَلَا يقرب من الْمُوَافقَة إِلَّا بِالْجَرِّ الثقيل (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أَبُو نعيم. الثَّانِي زُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن خديج الْجعْفِيّ. الثَّالِث مَنْصُور بن صَفِيَّة بنت شيبَة وَأَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن الحَجبي الْعَبدَرِي الْمَكِّيّ كَانَ يحجب الْبَيْت وَهُوَ شيخ كَبِير وَإِنَّمَا نسب مَنْصُور إِلَى أمه لِأَنَّهُ اشْتهر بهَا وَلِأَنَّهُ روى عَنْهَا. الرَّابِع صَفِيَّة بنت شيبَة. الْخَامِس عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه السماع فِي مَوضِع وَاحِد والعنعنة كَذَلِك وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن قبيصَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن حجر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأخرجه ابْن ماجة عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أربعتهم عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ وَغَيره) قَوْله " يتكيء فِي حجري " قَالَ الْقُرْطُبِيّ كَذَا صَوَابه وَوَقع فِي رِوَايَة العذري " حُجْرَتي " بتاء مثناة من فَوق وَهُوَ وهم " قَوْله " يتكيء " بِالْهَمْزَةِ من بَاب الافتعال أَصله يوتكيء قلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء وثلاثيه وكأ وَهِي جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر كَانَ قَوْله " وَأَنا حَائِض " جملَة اسمية وَقعت حَالا قَالَ الْكرْمَانِي أما من فَاعل يتكيء وَأما من الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ يَاء الْمُتَكَلّم قلت من فَاعل يتكيء لَا وَجه لَهُ على مَا لَا يخفى وَمَا هِيَ إِلَّا من يَاء الْمُتَكَلّم فِي حجري وَلَا يمْنَع وُقُوع الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ شدَّة الِاتِّصَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَكلمَة فِي فِي قَوْله " فِي حجري " بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي على جُذُوع النّخل فَإِن قلت مَا فَائِدَة الْعُدُول عَنهُ قلت لبَيَان التَّمَكُّن فِيهِ كتمكن المظروف فِي الظّرْف قَوْله " فَيقْرَأ الْقُرْآن " وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد " كَانَ يقْرَأ الْقُرْآن وَرَأسه فِي حجري وَأَنا حَائِض " فعلى هَذَا المُرَاد بالاتكاء مَوضِع رَأسه فِي حجرها. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي هَذَا القَوْل إِشَارَة إِلَى أَن الْحَائِض لَا يقْرَأ الْقُرْآن لِأَن قرَاءَتهَا لَو كَانَت جَائِزَة لما توهم امْتنَاع الْقِرَاءَة فِي حجرها حَتَّى احْتِيجَ إِلَى التَّنْصِيص عَلَيْهَا. وَفِيه جَوَاز ملامسة الْحَائِض لِأَنَّهَا طَاهِرَة. وَفِيه جَوَاز الْقِرَاءَة بِقرب مَحل النَّجَاسَة قَالَه النَّوَوِيّ قلت فِيهِ نظر لِأَن الْحَائِض طَاهِرَة والنجاسة هُوَ الدَّم وَهُوَ غير طَاهِر فِي كل وَقت من أَوْقَات الْحيض فعلى هَذَا لَا يكره قِرَاءَة الْقُرْآن بحذاء بَيت الْخَلَاء وَمَعَ هَذَا يَنْبَغِي أَن يكره تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ لِأَن مَا قرب إِلَى الشَّيْء يَأْخُذ حكمه. وَفِيه جَوَاز استناد الْمَرِيض فِي صلَاته إِلَى الْحَائِض إِذا كَانَت ثِيَابهَا طَاهِرَة قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَفِيه نظر.
4 - (بابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمى النّفاس حيضا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب من سمى الْحيض للنفاساً، لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب (فَقَالَ: أنفست , أَي: أحضت؟) أطلق على الْحيض النّفاس، وَقَالَ ابْن بطال: لم يجد البُخَارِيّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا فِي النّفاس، وَحكم دَمهَا فِي الْمدَّة الْمُخْتَلفَة، وسمى الْحيض نفاساً فِي هَذَا الحَدِيث، فهم مِنْهُ أَن حكم دم النُّفَسَاء حكم دم الْحيض فِي ترك الصَّلَاة، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْحيض نفاساً وَجب أَن يكون النّفاس حيضا لاشْتِرَاكهمَا فِي التَّسْمِيَة من جِهَة اللُّغَة لِأَن الدَّم هُوَ النَّفس، وَلزِمَ الحكم لما لم ينص عَلَيْهِ مِمَّا نَص، وَحكم النّفاس ترك الصَّلَاة مَا دَامَ مَوْجُودا وَقَالَ الْخطابِيّ: ترْجم أَبُو عبد الله بقوله: (من سمى النّفاس حيضا) وَالَّذِي ظَنّه من ذَلِك وهم، وأصل هَذِه الْكَلِمَة مَأْخُوذ من النَّفس وَهُوَ الدَّم إلاَّ أَنهم فرقوا فَقَالُوا: نفست، بِفَتْح النُّون، إِذا حَاضَت، وبضم النُّون إِذا ولدت، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ الَّذِي ظَنّه وهما لِأَنَّهُ إِذا ثَبت هَذَا الْفرق، وَالرِّوَايَة الَّتِي هِيَ بِالضَّمِّ صَحِيحَة، صَحَّ أَن يُقَال حِينَئِذٍ سمي النّفاس حيضا وَأَيْضًا يحْتَمل أَن الْفرق لم يثبت عِنْده لُغَة، بل وضعت نفست، مَفْتُوح النُّون ومضمومها عندن للنفاس، بِمَعْنى الْولادَة، كَمَا قَالَ بَعضهم بِعَدَمِ الْفرق أَيْضا بِأَن اللَّفْظَيْنِ للْحيض والولادة كليهمَا.
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: حَاصله كَيفَ يُطَابق التَّرْجَمَة الحَدِيث وَفِيه تَسْمِيَة الْحيض نفاساً لَا تَسْمِيَة النّفاس حيضا؟ قلت: للتّنْبِيه على أَن حكم النّفاس وَالْحيض فِي مُنَافَاة الصَّلَاة وَنَحْوهَا(3/262)
وَاحِد، وألجأه إِلَى ذَلِك أَنه لم يجد حَدِيثا على شَرطه فِي حكم النّفاس، فاستنبط من هَذَا الحَدِيث أَن حكمهَا وَاحِد. قلت: هَذَا الْكَلَام فِي الْحَقِيقَة مَضْمُون كَلَام ابْن بطال، وَكَلَامه يشْعر بالمساواة بَين مفهومي الْحيض وَالنّفاس، وَلَيْسَ كَذَلِك، لجَوَاز أَن يكون بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه كالإنسان وَالْحَيَوَان، وَقَول الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن الْفرق لم يثبت عِنْده لُغَة، إِلَى آخِره، غير سديد، لِأَن هَذَا لَا يُقَال عَن أحد إلاَّ مِمَّن يكون من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْبُخَارِيّ من أَئِمَّة الحَدِيث، وَالصَّوَاب الَّذِي يُقَال هَاهُنَا على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذِه التَّرْجَمَة لَا فَائِدَة فِي ذكرهَا لِأَنَّهُ لَا ينبي عَلَيْهَا مزِيد فَائِدَة. وَالثَّانِي: لَو سلمنَا أَن لَهَا فَائِدَة فوجهها أَن يُقَال: لما لم يثبت الْفرق عِنْده بَين مفهومي الْحيض وَالنّفاس، يجوز ذكر أَحدهمَا وَإِرَادَة الآخر، فَفِي الحَدِيث ذكر النّفاس وَأُرِيد الْحيض، فَكَذَلِك ذكر المُصَنّف النّفاس وَأَرَادَ الْحيض، وعَلى هَذَا معنى قَوْله: بَاب من سمي، بَاب من ذكر النّفاس حيضا يَعْنِي: ذكر النّفاس وَأَرَادَ بِهِ الْحيض، فَكَذَلِك الْمَذْكُور فِي الحَدِيث نِفَاس، وَالْمرَاد حيض وَذَلِكَ أَنه لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا: أنفست، أجابت بنعم، وَكَانَت حَائِضًا، فقد جعلت النّفاس حيضا، فطابق الحَدِيث مَا ترْجم بِهِ.
298 - حدّثنا الْمَكِي بْنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا عَنْ هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى ابْنِ أبي كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَة أُمْ سَلْمَةَ حَدَّثَتْهُ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْها قالتْ بَيْنَا أَنا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجِعَةً فِي خَمِيصَةٍ إذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فأخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضَتِي قَالَ أنُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعانِي فاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ..
وَجه الْمُطَابقَة قد ذكرنَا مستقصى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مكي بن إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم بن بشير التَّمِيمِي، أَبُو السكن الْبَلْخِي، رَضِي الله عَنهُ. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي، رَضِي الله عَنهُ. الثَّالِث: يحيى بن كثير، بالثاء الْمُثَلَّثَة، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: زَيْنَب بنت أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، السَّادِس: أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْمُفْرد فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين وَفِيه: أَبُو سَلمَة وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَيْسَت كنيتان بِاعْتِبَار شخص وَاحِد، بل سَلمَة الأول هُوَ ولد ابْن عبد ان الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسَلَمَة الثَّانِي ولد ابْن عبد الْأسد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْغَرَض أَن أَبَا سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَيْسَ أَبَا زنيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن يحيى روى عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله عَنهُ بالعنعنة، وَفِي رِوَايَة مُسلم روى عَنهُ بِالتَّحْدِيثِ قَالَ: حَدثنِي أَبُو سَلمَة، أخرجهَا من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن صحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وبصري ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُسَدّد، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن سعد بن حَفْص عَنهُ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَضِي الله عَنهُ، فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (بَينا) أَصله بَين أشعبت فَتْحة النُّون بِالْألف، وَبينا وبينما ظرفان زمَان بِمَعْنى المفاجأة، ومضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والأفصح فِي جوابها، أَن لَا يكون فِيهِ، إِذْ وَإِذا، وَهَا هُنَا جَاءَ الْجَواب، باذ، وَهُوَ قَوْله: (إِذْ حِضْت) وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ. قَوْله: (مُضْطَجِعَة) أَصله: مضجعة، لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، فقلبت التَّاء طاء، وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فعلى الخبرية وَأما النصب فعلى الْحَال قبُوله: (فِي خميصة) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وَهِي كسَاء، مربع لَهُ علمَان، وَقيل: الخمائض ثِيَاب من خزثخان سود وحمر، وَلها أَعْلَام ثخان أَيْضا، قَالَه ابْن سَيّده، وَفِي (الصِّحَاح) كسَاء أسود مربع وَإِن لم يكن معلما فَلَيْسَ بخمصيه، وَفِي (الغربيين) قَالَ الْأَصْمَعِي: الخمائص ثِيَاب خَز أَو صوف، معلمة، وَهِي سود، كَانَت من لِبَاس النَّاس، وَقَالَ ابْن سَيّده: والخميلة والخملة، القطيفة، وَقَالَ السكرِي: الخميل القطيفة ذَات الخمل، والخمل هدب القطيفة وَنَحْوهَا مِمَّا ينسج، ويفضل لَهُ فضول، وَفِي (الصِّحَاح) هِيَ الطنفسة، وَزعم النَّوَوِيّ، رَحمَه الله أَن أهل اللُّغَة قَالُوا:(3/263)
هُوَ كل ثوب لَهُ خمل من أَي لون كَانَ، وَقيل: هُوَ الْأسود من الثِّيَاب. قَوْلهَا: (فانسللت) أَي: ذهبت فِي خُفْيَة لاحْتِمَال وُصُول شَيْء من الدَّم إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لِأَنَّهَا تقذرت نَفسهَا وَلم ترتضها لمضاجعة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وخافت أَن ينزل الْوَحْي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فانسلت لِئَلَّا تشغله حركتها عَمَّا هُوَ فِيهِ من الْوَحْي أَو غَيره. قَوْله: (أنفست) بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: رَحمَه الله، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي اللُّغَة بِمَعْنى: حِضْت، فَأَما فِي الْولادَة، فنفست، بِضَم النُّون وَكسر الْفَاء، وَقيل: بِضَم النُّون وَفتحهَا، وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير، وَفِي (الواعي) نفست: بِضَم النُّون، حَاضَت وَفِي (نَوَادِر اللحياني) وَمن خطّ أبي مُوسَى الْحَافِظ: نفست الْمَرْأَة تنفس، بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي والمستقبل، أذا حَاضَت وَفِي (أدب الْكتاب) عَن ثَعْلَب، النُّفَسَاء الوالدة وَالْحَامِل وَالْحَائِض، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَالْجمع من كل ذَلِك، نفساوات ونفاس ونفاس وَنَفس وَنَفس وَنَفس وَنَفس ونفاس قَوْله: (ثِيَاب حيضتي) بِكَسْر الْحَاء، وَهِي حَال الْحيض هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل يَحْتَلِم، فتح الْحَاء هُنَا أَيْضا، فَإِن الْحَيْضَة، بِالْفَتْح، هِيَ الْحيض. قلت: لَا يُقَال هُنَا بِالِاحْتِمَالِ، فَإِن كلاًّ مِنْهُمَا لُغَة ثَبت عَن الْعَرَب، وَهِي أَن الْحَيْضَة: بِالْكَسْرِ، الِاسْم من الْحيض، وَالْحَال الَّتِي تلزمها الْحَائِض من التجنب والتحيض، كالجلسة والقعدة من الْجُلُوس وَالْقعُود، فَأَما الْحَيْضَة بِالْفَتْح، فالمرة الْوَاحِدَة من دفع الْحيض أَو ثَوْبه وَأَنت تفرق بَينهمَا بِمَا تَقْتَضِيه قرينَة الْحَال من مساق الحَدِيث، وَجَاء فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: لَيْتَني كنت حَيْضَة ملقاة، هِيَ بِالْكَسْرِ خرقَة الْحيض، وَجزم الْخطابِيّ هُنَا بِرِوَايَة الْكسر، ورجحها النَّوَوِيّ، وَرجح الْقُرْطُبِيّ رِوَايَة الْفَتْح لوروده فِي بعض طرقه بِلَفْظ: حيض بِغَيْر تَاء.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز النّوم مَعَ الْحَائِض فِي ثِيَابهَا والاضطجاع مَعهَا فِي لِحَاف وَاحِد. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمَرْأَة ثيابًا للْحيض غير ثِيَابهَا الْمُعْتَادَة. وَمِنْهَا: أَن عرقها طَاهِر. فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة: 222) قلت: مَعْنَاهُ فاعتزلوا وطئهن. وَمِنْهَا: التَّنْبِيه على أَن حكم الْحيض وَالنّفاس وَاحِد فِي منع وجوب الصَّلَاة وَعدم جَوَاز الصَّوْم وَدخُول الْمَسْجِد وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَنَحْو ذَلِك. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ ينص البُخَارِيّ على حكم النّفاس وَحده؟ قلت: الْمُهلب: لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا على شَرطه فِي حكم النّفاس.
واستنبط من الحَدِيث أَن حكمهمَا وَاحِد. قلت: النُّصُوص فِيهَا كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث سُهَيْل عَن مسَّة الإزدية عَن أم سَلمَة، وَحسنه الْبَيْهَقِيّ والخطابي، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: حَدِيث مَسّه أحْسنهَا. وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (أَن أم سَلمَة سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم تجْلِس الْمَرْأَة، إِذا ولدت؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك) وَعند ابْن مَاجَه، من حَدِيث سَلام بن سليم عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ: (وَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنفساء أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَحَدِيث عُثْمَان عَن أبي الْعَاصِ مثله، وَضَعفه ابْن عدي. وَقَالَ الْحَاكِم: إِن سلم هَذَا الْإِسْنَاد من أبي بِلَال فَإِنَّهُ مُرْسل صَحِيح، فَإِن الْحسن لم يسمع من عُثْمَان، وَحَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه أَحْمد بن حَنْبَل فِي كتاب الْحيض، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ ضعفه ابْن عدي، وَحَدِيث عَائِذ بن عَمْرو ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَحَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ضعفه ابْن حزم، وَحَدِيث الْعَلَاء بن كثير عَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن عدي بِالْإِرْسَال فِيمَا بَين مَكْحُول وَبَينهمَا. وَأما مَوْقُوف ابْن عَبَّاس فسنده صَحِيح فِي مُسْند الدَّارمِيّ، وخرجه أَيْضا ابْن الْجَارُود فِي (المنتفى) وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لأبي عَليّ الطوسي، أجمع أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ على أَن النُّفَسَاء تدع الصَّلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي، فَإِذا رَأَتْ الدَّم بعد الْأَرْبَعين فَإِن أَكثر أهل الْعلم قَالُوا: لَا تدع الصَّلَاة بعد الْأَرْبَعين، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، ويروى عَن الْحسن، تدع الصَّلَاة خمسين يَوْمًا، وَعَن عَطاء سِتِّينَ يَوْمًا.(3/264)
5 - (بابُ مُبَاشَرَةِ الحَائِضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُبَاشرَة مَعَ زَوجته الْحَائِض وَأَرَادَ بِالْمُبَاشرَةِ هُنَا مماسة الخلدين لَا الْجِمَاع، فَإِن جماع الْحَائِض حرَام على مَا نذكرهُ مفصلا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة جدا، وَهُوَ وجود الْمُبَاشرَة فِي كل مِنْهُمَا.
299 - حدّثنا قَبِيصَةُ قالَ حدّثنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا والنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ كَلانَا جُنُبٌ.
حدّثنا وَكانَ يَأْمُرُنِي فَاتزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنا حائِضُ. حدّثنا وَكانَ يُخْرُجُ رَأْسَهُ إلَيَّ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَأْغْتَسِلُهُ وَأَنَا حائِضٌ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (فيباشرني) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَفِي آخِره تَاء ابْن عقبَة أَبُو عَامر الْكُوفِي، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وخَالِد الْأسود بن يزِيد كلهم تقدمُوا فِي بَاب عَلامَة الْمُنَافِق.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم إِلَى عَائِشَة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. فَإِن قلت: إِبْرَاهِيم، هَل أدْرك أحدا من الصَّحَابَة، أَو سمع من أحد مِنْهُم؟ قلت: ذكر الْعجلِيّ: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لم يحدث عَن أحد من الصَّحَابَة، وَقد أدْرك مِنْهُم جمَاعَة، وَقد رأى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَيُقَال: رأى أَبَا جُحَيْفَة وَزيد بن أَرقم وَابْن أبي أوفى وَلم يسمع مِنْهُم، وَعَن ابْن حبَان بِأَنَّهُ سمع الْمُغيرَة وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي آخر الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن جرير عَن مَنْصُور بِهِ أخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْلهَا: (أَنا وَالنَّبِيّ) النَّبِي بِالرَّفْع وَالنّصب وَأما الرّفْع فبالعطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: كنت، وَأما النصب فعلى أَن: الْوَاو، بِمَعْنى المصاحبة. وَقَوْلها: (أَنا) ذكر لِأَن فِي عطف الظَّاهِر على الضَّمِير الْمَرْفُوع المستكن بِدُونِ التَّأْكِيد خلافًا، كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه. قَوْلهَا: (كِلَانَا جنب) وَقع حَالا، وَإِنَّمَا لم تقل: كِلَانَا جنبان، لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ اللُّغَة الفصيحة وَقد ذكرنَا أَن الْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع فِي اللُّغَة الفصحى، وَإِن كَانَ يُقَال: جنبان وجنبون. قَوْلهَا: (وَكَانَ يَأْمُرنِي) أَي: وَكَانَ النَّبِي ت يَأْمُرنِي بالاتزال قَوْلهَا: (فاتزر) بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَأَصله ائتزر، بالهمزتين أولاهما مَفْتُوحَة، وَالثَّانيَِة سَاكِنة، لِأَن أَصله من أزر، فَنقل إِلَى بَاب، افتعل، فَصَارَ، اتزر يتزر، وَكَذَا اسْتعْمل من غير إدغام فِي حَدِيث آخر، وَهُوَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُبَاشر بعض نِسَائِهِ وَهِي مؤتزرة فِي حَالَة الْحيض) . وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: وَهِي متزرة، وَهُوَ خطأ، لِأَن الْهمزَة لَا تُدْغَم فِي التَّاء. قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يقْرَأ: فآتزر بِالْمدِّ، لِأَن الهمزتين إِذا اجتمعتا وَكَانَت الأولى متحركة وَالثَّانيَِة سَاكِنة أبدلت الثَّانِيَة حرف عِلّة من جنس حَرَكَة الأولى، فتبدل ألفا بعد الفتحة، فَكَذَلِك هَاهُنَا، لِأَن أَصله أتزر، بهمزتين الأولى متحركة وَالثَّانيَِة سَاكِنة، فأبدلت الثَّانِيَة ألفا فَصَارَت: آتزر بِالْمدِّ. وَقَالَ ابْن هِشَام: وعوام الْمُحدثين يحرفونه فيقرؤونه بِأَلف وتاء مُشَدّدَة، وَلَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ افتعل من الْإِزَار، ففاؤه همزَة فساكنة بعد همزَة المضارعة الْمَفْتُوحَة، وَكَذَا الزَّمَخْشَرِيّ أنكر الْإِدْغَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَا يجوز الْإِدْغَام فِيهِ عِنْد التصريف، قَالَ صَاحب (الْمفصل) قَول من قَالَ: اتزر خطأ. قلت: قَول عَائِشَة، وَهِي من فصحاء الْعَرَب، حجَّة فِي جَوَازه، فالمخطىء، قلت: إِنَّمَا يَصح مَا ادَّعَاهُ إِذا ثَبت عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت بِالْإِدْغَامِ، فَلم لَا يجوز أَن يكون(3/265)
هَذَا خطأ مثل مَا قَالَ مُعظم أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، وَيكون الْخَطَأ من بعض الروَاة أَو من عوام الْمُحدثين لَا من عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْلهَا: (وَأَنا حَائِض) فِي الْمَوْضِعَيْنِ جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْلهَا: (وَهُوَ معتكف) الِاعْتِكَاف فِي اللُّغَة مُجَرّد اللّّبْث، وَفِي الشَّرِيعَة: لبث فِي الْمَسْجِد مَعَ الصَّوْم، وَالِاعْتِكَاف من بَاب الافتعال من: عكف يعكف عكوفاً إِذا أَقَامَ، وعكفه عكفاً إِذا حبس.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز اغتسال الرجل مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَمِنْهَا: جَوَاز مُبَاشرَة الْحَائِض وَهِي: الْمُلَامسَة، من لمس بشرة الرجل بشرة الْمَرْأَة، وَقد ترد الْمُبَاشرَة بِمَعْنى الْجِمَاع، وَالْمرَاد هَهُنَا الْمَعْنى الأول بِالْإِجْمَاع.
ثمَّ اعْلَم أَن مُبَاشرَة الْحَائِض على أَقسَام: أَحدهَا: حرَام بِالْإِجْمَاع، وَلَو اعْتقد حلّه يكفر، وَهُوَ أَن يُبَاشِرهَا فِي الْفرج عَامِدًا، فَإِن فعله غير مستحل يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَلَا يعود إِلَيْهِ، وَهل يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة أَو لَا؟ فِيهِ خلاف، فَذهب جمَاعَة إِلَى وجوب الْكَفَّارَة، مِنْهُم: قَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَقَالَ فِي الْجَدِيد: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَلَا يُنكر أَن يكون فِيهِ كَفَّارَة لِأَنَّهُ وَطْء مَحْظُور كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَان. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء، لَا شَيْء عَلَيْهِ سوى الاسْتِغْفَار، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا أَيْضا. وَقَالَ الثَّوْريّ: وَلَو فعله غير مُعْتَقد حلّه، فَإِن كَانَ نَاسِيا أَو جَاهِلا بِوُجُود الْحيض أَو جَاهِلا تَحْرِيمه أَو مكْرها فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة، وَإِن كَانَ عَالما بِالْحيضِ وبالتحريم مُخْتَارًا عَامِدًا فقد ارْتكب مَعْصِيّة نَص الشَّافِعِي على أَنَّهَا كَبِيرَة، وَيجب عَلَيْهِ التَّوْبَة وَفِي وجوب الْكَفَّارَة قَولَانِ: أصَحهمَا، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ. ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة، فَقيل: عتق رَقَبَة، وَقيل: دِينَار وَنصف دِينَار على اخْتِلَاف بَينهم، هَل الدِّينَار فِي أول الدَّم وَنصفه فِي آخِره؟ أَو الدِّينَار فِي زمن الدَّم وَنصفه بعد انْقِطَاعه؟ فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي حَائِض، قَالَ: (يتَصَدَّق بِدِينَار أَو بِنصْف دِينَار) وَرَوَاهُ بَقِيَّة الْأَرْبَعَة: قلت: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَأعله بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَن جمَاعَة رَوَوْهُ عَن شُعْبَة، مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس، وَأَن شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه، وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ مُرْسلا. وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ معضلاً، وَهُوَ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يزِيد بن أبي مَالك عَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أمرت أَن يتَصَدَّق بخمسي دِينَار) ، والمعضل نوع خَاص من الْمُنْقَطع، فَكل معضل مُنْقَطع، وَلَيْسَ كل مُنْقَطع معضلاً، وَقوم يسمونه مُرْسلا، وَمِنْهَا: أَن فِي مَتنه اضطراباً، لِأَنَّهُ رُوِيَ: بِدِينَار، أَو نصف دِينَار على الشَّك، وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بدينارد فَإِن لم يجد فبنصف دِينَار، وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار، وَرُوِيَ: إِن كَانَ دَمًا أَحْمَر فدينار، وَإِن كَانَ أصفر فَنصف دِينَار، وَرُوِيَ: إِن كَانَ الدَّم عبيطاً فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ صفرَة فَنصف دِينَار. قلت: هَذَا الحَدِيث صَححهُ الْحَاكِم وَابْن الْقطَّان، وَذكر الْحَلَال عَن أبي دَاوُد أَن أَحْمد قَالَ: مَا أحسن حَدِيث عبد الحميد، وَهُوَ أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب بن نفَيْل الْقرشِي الْهَاشِمِي الْعَدوي، عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز على الْكُوفَة، رأى عبد الله بن عَبَّاس وَسَأَلَهُ، وروى عَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل لِأَحْمَد: تذْهب إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، إِنَّمَا هُوَ كَفَّارَة، ثمَّ إِن شُعْبَة إِن كَانَ رَجَعَ عَن رَفعه فَإِن غَيره رَوَاهُ مَرْفُوعا، وَهُوَ عَمْرو بن قيس الْملَائي وَهُوَ ثِقَة، وَمن طَرِيقه أخرجه النَّسَائِيّ، وَكَذَا رَوَاهُ قَتَادَة مَرْفُوعا وأسقطا فِي روايتهما عبد الحميد، وَمُقْتَضى الْقَوَاعِد أَن رِوَايَة الرّفْع أشبه بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ زِيَادَة ثِقَة، وَأما مَا لاوي فِيهِ من خمسي دِينَارا، أَو عتق نسمَة، وَغير ذَلِك، فَمَا مِنْهَا شَيْء يعول عَلَيْهِ، ثمَّ إِن الَّذين ذَهَبُوا إِلَى عدم وجوب الصَّدَقَة، أجابوا أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يتَصَدَّق) ، مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب، إِن شَاءَ تصدق وإلاَّ لَا وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: عَلَيْهِ مَا على من وَاقع أَهله فِي رَمَضَان.
النَّوْع الثَّانِي من الْمُبَاشرَة: فِيمَا فَوق السُّرَّة وَتَحْت الرّكْبَة بالذكرة أَو بالقبلة أَو المعانقة أَو اللَّمْس أَو غَيره ذَلِك، فَهَذَا حَلَال بِالْإِجْمَاع، إلاَّ مَا حُكيَ عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي وَغَيره من أَنه لَا يُبَاشر شَيْئا مِنْهَا، فَهُوَ شَاذ مُنكر مَرْدُود بالأحاديث الصَّحِيحَة الْمَذْكُورَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيرهمَا فِي مُبَاشرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوق الْإِزَار.
النَّوْع الثَّالِث: الْمُبَاشرَة فِيمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة فِي غير الْقبل والدبر، فَعِنْدَ أبي حنيفَة حرَام، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، وَهُوَ الْوَجْه الصَّحِيح للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول مَالك: وَقَول أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم: سعيد بن الْمسيب وَشُرَيْح وَطَاوُس وَعَطَاء وَسليمَان بن يسَار وَقَتَادَة. وَعند مُحَمَّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة يتَجَنَّب شعار الدَّم(3/266)
فَقَط، وَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ عِكْرِمَة وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَأصبغ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو ثورة وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد، وَهَذَا أقوى دَلِيلا لحَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (اصنعوا كل شَيْء إلاَّ النِّكَاح) اقْتِصَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُبَاشَرَته على مَا فَوق الْإِزَار مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب، وَقَول مُحَمَّد هُوَ الْمَنْقُول عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر الْقُرْطُبِيّ عَن مُجَاهِد: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتجنبون النِّسَاء فِي الْحيض، ويأتونهن فِي أدبارهن فِي مدَّته. وَالنَّصَارَى كَانُوا بجامعونهن فِي فروجهن، وَالْيَهُود وَالْمَجُوس كَانُوا يبالغون فِي هجرانهن وتجنبهن فيعتزلونهن بعد انْقِطَاع الدَّم وارتفاعه سَبْعَة أَيَّام، ويزعمون أَن ذَلِك فِي كِتَابهمْ.
وَمِنْهَا: جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَات. وَمِنْهَا: فِيهِ طَهَارَة عرق الْحَائِض. وَمِنْهَا: أَن إِخْرَاج الرَّأْس من الْمَسْجِد لَا يبطل الِاعْتِكَاف.
302 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ قالَ أَخْبَرنا عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ قالَ أَخْبَرَنا أبُو إسْحاقَ هُوَ الشُيْبَانِي عَنُ عَبْدِ الرِّحْمنَ بْنِ الأسْوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كانتْ إحْدَانَا إذَا كانَتْ حائِضاً فأرَادَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَها أنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرُ حَيْضَتِها ثُمَّ يُبَاشِرُها قالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَما كَانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْلِكُ إرْبَهُ. (انْظُر الحَدِيث 300 وطرفه) .
مطابقتة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد الله الْكُوفِي فِي الخزاز، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة والزايين المعجمتين أولاهما مُشَدّدَة، قَالَ البُخَارِيّ: جَاءَنَا نعيه سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء أَبُو الْحسن الْقرشِي الْكُوفِي، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ سُلَيْمَان بن فَيْرُوز، من مشاهير التَّابِعين، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، من خِيَار التَّابِعين وَالْعُلَمَاء العاملين، مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين. الْخَامِس: أَبوهُ الْأسود بن يزِيد، وَقد مر غير مرّة. السَّادِس: عاشة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: خَلِيل، بِدُونِ الْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة أبي ذكر وكريمة، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: الْخَلِيل، بِالْألف وَاللَّام. فَإِن قلت: هُوَ علم فَلَا تدخله أَدَاة التَّعْرِيف. قلت: إِذا قصد بِهِ لمح الصّفة يجوز كَمَا فِي: الْعَبَّاس والْحَارث وَنَحْوهمَا وَفِيه: التحديث، أَشَارَ إِلَى أَنه تَعْرِيف لَهُ من تِلْقَاء نَفسه، وَلَيْسَ من كَلَام شَيْخه. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم إِلَى عَائِشَة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابَة.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطهاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن حجر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ، وَعَن أبي سَلمَة يحيى بن خلف.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْلهَا: (كَانَت إحدانا) أَرَادَت: إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ إحدانا) بِدُونِ التَّاء، وَحكى سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه أَنه قَالَ بعض الْعَرَب، قَالَ امْرَأَة قَوْله: (أَن يُبَاشِرهَا) من الْمُبَاشرَة الَّتِي هِيَ أَن يمس الْجلد الْجلد، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الْجِمَاع، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى. قَوْله: (أَن تتزر) قد ذكرنَا أَن اللُّغَة الفصحى بأتزر بِالْهَمْزَةِ بِلَا إدغام. قَوْله: (فِي فَور حَيْضَتهَا) بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْوَاو، وَفِي آخِره رَاء، وأرادت بِهِ مُعظم حَيْضَتهَا وَوقت كثرتها، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فورة الْحر شدته، وفار الْقدر فَوْرًا إِذا حاشت، وحيضتها بِفَتْح الْحَاء لَا غير. قَوْله: (إربه) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَقيل: المُرَاد عضوه الَّذِي يستمنع بِهِ، وَقيل: حَاجته، وَفِي كتاب (الْمُنْتَهى) فِيهِ لُغَات إرب وإربة وأراب ومأربة ومأربة ومأربة، عَن أبي سَلمَة، وَفِي الحَدِيث: وَلكنه (أملككم لإربه) قَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الْحَاجة، أَي: أضبطكم لشهوته، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أَي: لجزمه، وَضبط نَفسه وَقد أرب يأرب إرباً إِذا احْتَاجَ. يُقَال آإن فلَانا لأرب بفلانة إِذا كَانَ ذاهم بهَا، وَيشْهد لقَوْل ابْن الْأَعرَابِي مَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: (أملككم لنَفسِهِ) وَفِي (الْمُحكم) و (الْجَامِع) والمأرب، وَهِي الإراب والأرب، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَأكْثر الروَاة يَقُولُونَ: لإربه، والإرب الْعُضْو، وَإِنَّمَا هُوَ الأرب(3/267)
مَفْتُوحَة الرَّاء، وَهِي الْوَطْء وحاجة النَّفس، وَقد يكون الإرب، الْحَاجة أَيْضا، وَالْأول أميز، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحب (الواعي) وَأما ابْن سَيّده وَابْن عديس فِي كتاب (الباهر) فَقَالَا الإرب بِكَسْر الْهَمْز جمع إربه، وَهِي الْحَاجة، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: أَخطَأ من رَوَاهُ بِكَسْر الْهمزَة. قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا. وَفِي (مجمع الغرائب) لعبد الغافر هُوَ فِي الْكَلَام مَعْرُوف الإرب والإربة بِمَعْنى الْحَاجة، فَإِن كَانَ الأول مَحْفُوظًا، يَعْنِي فِي حَدِيث عَائِشَة فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات، الإرب والأرب والإربة، والإرب يكون بِمَعْنى الْعُضْو فَيحْتَمل أَنَّهَا أَرَادَ كَانَ، أملككم لعضوه، لِأَنَّهَا ذكرت التَّقْبِيل فِي الصَّوْم وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: أرب فِي الشَّيْء رغب فِيهِ، وَالْحَاصِل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أملك النَّاس لأَمره، فَلَا يخْشَى عَلَيْهِ مَا يخْشَى على غيرهممن يحوم حول الْحمى، وَكَانَ يُبَاشر فَوق الْإِزَار تشريعاً لغيره.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز مُبَاشرَة الْحَائِض فِيمَا فَوق الْإِزَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي وَمِنْهَا: أَن الْحَائِض لَا بُد لَهَا من الاتزار فِي أَيَّام حَيْضهَا، إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر عَائِشَة بذلك، وَذَلِكَ لتمتنع الْمَرْأَة بِهِ عَن الْجِمَاع، وروى أَبُو دَاوُد عَن مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يُبَاشر الْمَرْأَة من نِسَائِهِ وَهِي حَائِض إِذا كَانَ عَلَيْهَا إِزَار إِلَى اتصاف الْفَخْذ أَو الرُّكْبَتَيْنِ تحتجز بِهِ) أَي: بالإزار عَن الْجِمَاع فِي رِوَايَة محتجزه بِهِ، أَي: حَال كَون الْمَرْأَة ممتنعة بِهِ عَن الْجِمَاع، وَأَصله من حجزه يحجزه حجزاً أَي: مَنعه من بَاب: نصر ينصر، وَمِنْه الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ الْحَائِل بَينهمَا. وَمِنْهَا: أَن هَذِه الْمُبَاشرَة إِنَّمَا تجوز لَهُ إِذا كَانَ يضْبط نَفسه ويمنعها من الْوُقُوع فِي الْجِمَاع، وَإِن كَانَ لَا يملك ذَلِك فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك، لِأَن من رعى حول الْحمى يُوشك أَن يَقع فِيهِ، وَعَلِيهِ بعض الشَّافِعِيَّة، وَاسْتَحْسنهُ النَّوَوِيّ. وَمِنْهَا: أَن التَّقْيِيد بقولِهَا: فِي فَور حَيْضَتهَا، يدل على الْفرق بَين ابْتِدَاء الْحيض وَمَا بعده، وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) بِإِسْنَاد حسن عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يتفي سُورَة الدَّم ثَلَاثًا ثمَّ يُبَاشِرهَا بعد ذَلِك) وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على الْمُبَاشرَة مُطلقًا، لِأَنَّهَا تجمع بَينهَا على اخْتِلَاف الْحَالَتَيْنِ، وَالله تَعَالَى أعلم.
تابعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الشيْبَانِيِّ
أَي تَابع عَليّ بن مسْهر خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، وَقد وَصلهَا أَبُو الْقَاسِم التنوخي من طَرِيق وهب بن بَقِيَّة عَنهُ. قَوْله: (وَجَرِير) عطف على: خَالِد، أَي: وَتَابعه أَيْضا جرير بن عبد الحميد فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن، وَقد وصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَقَالَ: حَدثنَا جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا فِي فوح حيضتنا أَن نتزر ثمَّ يباشرنا، وَأَيكُمْ كَانَ يملك إربه؟ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يملك إربه) رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) أَيْضا قَوْله: (فِي فوح حيضتنا) فوح الْحيض، بِالْفَاءِ والحاء الْمُهْملَة، معظمة وأوله، مثله، فوعة الدَّم، يُقَال: فاع وفاح بِمَعْنى وَاحِد، وفوعة الطّيب أول مَا يفوح مِنْهُ، ويروي بالغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ لُغَة فِيهِ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم: (فِي فَور حيضتنا) كَمَا ذَكرْنَاهُ.
303 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ قالَ حدّثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ قالَ حدّثنا الشَّيْبَانِيُّ قالَ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ ابنْ شَدَّادٍ قالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تقولُ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَها فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حائِضٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الْمَعْرُوف بعارم. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن شَدَّاد، بتَشْديد الدَّال ابْن الْهَاد اللَّيْثِيّ. الْخَامِس: مَيْمُونَة، أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي، وكوفي ومدني.(3/268)
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن خَالِد بن عبد الله عَن الشَّيْبَانِيّ بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن مُسَدّد، وَمُحَمّد بن الْعَلَاء، كِلَاهُمَا عَن حَفْص بن غياث عَن الشَّيْبَانِيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أم حَبِيبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: [حم (كَانَت إحدانا فِي فورها أول مَا تحيض تشد عَلَيْهَا إزاراً إِلَى أَنْصَاف فخذيها ثمَّ تضطجع مَعَه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) [/ حم وَأخرج أَبُو يعلى الْموصِلِي، من حَدِيث عَمْرو رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَهُ مَا فَوق الْإِزَار وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ) وَفِي لفظ: [حم (لَا يطلعن إِلَى مَا تَحْتَهُ حَتَّى يطهرن) [/ حم وَأخرج أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ من الْحَائِض شَيْئا ألْقى على فرجهَا ثوبا) [/ حم وَأخرج ابْن أبي دَاوُد بِسَنَد جيد عَن أم سَلمَة: [حم (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُبَاشِرهَا وعَلى قبلهَا ثوب) [/ حم تَعْنِي: وَهِي حَائِض، وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث معَاذ وَعبد الله بن سعد: (مَا يحل للرجل من امْرَأَته وَهِي حَائِض؟ قَالَ: مَا فَوق الْإِزَار) وَفِي حَدِيث معَاذ: (وَالتَّعَفُّف عَن ذَلِك أجمل) ، وَأخرج عبد الله بن وهب بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث كريب، قَالَ: سَمِعت أم الْمُؤمنِينَ تَقول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضطجع معي وَأَنا حَائِض، وبيني وَبَينه ثوب) وَأخرج الدَّارمِيّ فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل، قَالَ: (قَالَت أم الْمُؤمنِينَ: كنت أتزر وَأَنا حَائِض وَأدْخل مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي لِحَافه) وَإِسْنَاده صَحِيح، وَفِي (الْمُوَطَّأ) عَن زيد بن أسلم: (سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يحل لي من امْرَأَتي وَهِي حَائِض؟ قَالَ لِتشد عَلَيْهَا إزَارهَا ثمَّ شَأْنك بِأَعْلَاهَا) قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم أحدا روى هَذَا الحَدِيث مُسْندًا بِهَذَا اللَّفْظ.
ورَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الشَّيْبَانِي
يَعْنِي: روى هَذَا الحَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، كَذَا قَالَ بَعضهم، سُفْيَان هُوَ: الثَّوْريّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي سَوَاء كَانَ هُوَ الثَّوْريّ أَو ابْن عُيَيْنَة فَهُوَ على شَرط البُخَارِيّ فَلَا بَأْس فِي إبهامه وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَكَانَ البُخَارِيّ يُرِيد بمتابعة سُفْيَان هُنَا الْمَعْنى لَا اللَّفْظ، وَذَلِكَ أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ سمع عبد الله بن شَدَّاد عَن مَيْمُونَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرط على بعض أَزوَاجه مِنْهُ وَهِي حَائِض) وَقد رَوَاهُ عَن الشَّيْبَانِيّ أَيْضا بِهَذَا الْإِسْنَاد خَالِد بن عبد الله عِنْد مُسلم وَجَرِير بن عبد الحميد عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا بِإِسْنَاد مَيْمُونَة حَفْص بن غياث عِنْد أبي دَاوُد، رَحمَه الله، وَأَبُو مُعَاوِيَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وأسباط بن مُحَمَّد عَن أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ رَوَاهُ، وَلم يقل تَابعه؟ قلت: الرِّوَايَة أَعم مِنْهَا، فَلَعَلَّهُ لم يروها مُتَابعَة.
6 - (بابُ تَرْكِ الحَائِضِ الصَّوْمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ترك الْحَائِض الصَّوْم فِي أَيَّام حَيْضَتهَا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْحيض. فَإِن قلت: الْحَائِض تتْرك الصَّلَاة أَيْضا فَمَا وَجه ذكر الصَّوْم فِي تَركهَا دون الصَّلَاة، مَعَ أَنَّهُمَا مذكوران فِي حَدِيث الْبَاب؟ قلت: تَركهَا الصَّلَاة لعدم وجود شَرطهَا وَهِي الطَّهَارَة، فَكَانَت ملجأة إِلَى ذَلِك بِخِلَاف الصَّوْم فَإِن الطَّهَارَة لَيست بِشَرْط فَكَانَ تَركهَا إِيَّاه من بَاب التَّعَبُّد وَأَيْضًا فَإِن تَركهَا للصَّلَاة لَا إِلَى خلف بِخِلَاف الصَّوْم، فخصص الصَّوْم بِالذكر دون الصَّلَاة إشعاراً لما ذكرنَا.
304 - حدّثنا سَعِيدُ بْنُ أبي مَرْيَمَ قالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قالَ أخبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابنُ أسْلَمَ عَنْ عِياضٍ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي قالَ خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى عَلَى النِّساء تَصَدَّقْنَ فَانِّى أُرِيتُكُنَّ أَكْثَر أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَيِمَ يَا رسولَ اللَّهِ قالَ تُكْبِرْنَ اللَّعْنَ وَتكْفُرْنَ العَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ ناقِصاتِ عَقْلٍ وَدينٍ أذْهَبَ لِلُبِ الرَّجْلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْداكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رسولَ اللَّهِ قالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى قالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِها أَلَيْسَ إِذا(3/269)
حاضَتْ لَمْ تصَلِّ وَلَمْ تَصُمَّ قُلَّنَ بَلَى قالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِها. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلم تصم) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم وَهُوَ سعيد بن الحكم ابْن مُحَمَّد بن سَالم الْمَعْرُوف بِابْن أبي مَرْيَم الجُمَحِي، أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ، مر ذكره فِي بَاب من سمع شَيْئا فِي كتاب الْعلم. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر وَهُوَ ابْن أبي كثير، بِفَتْح الْكَاف وبالتاء الْمُثَلَّثَة الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: زيد بن أسلم، بِلَفْظ الْمَاضِي، أَبُو أُسَامَة الْمدنِي، مر فِي بَاب كفران العشير. الرَّابِع: عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة بن عبد الله وَهُوَ ابْن أبي سرح العامري، لِأَبِيهِ صُحْبَة. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: واسْمه سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد: وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا ابْن أبي مَرْيَم فَإِنَّهُ مصري.
ذكر تعدده وَضعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ مقطعاً فِي الصَّوْم وَالطَّهَارَة وَفِي الزَّكَاة، وَأخرجه فِي الْعِيدَيْنِ بِطُولِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حسن الْحلْوانِي وَمُحَمّد بن إِسْحَاق الصَّاغَانِي، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن دَاوُد بن قيس عَنهُ بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة، ثَلَاثَتهمْ عَن دَاوُد بن قيس نَحوه.
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: خرج إِمَّا من بَيته أَو من مَسْجده. قَوْله: (فِي أضحى) أَي: فِي يَوْم أضحى، قَالَ الْخطابِيّ: الْأُضْحِية شَاة تذبح يَوْم الْأَضْحَى، وفيهَا أَربع لُغَات: أضْحِية، بِضَم الْهمزَة وبكسرها، وضحية وأضحاة، وَالْجمع: أضحى، وَبهَا سمي يَوْم الْأَضْحَى، والأضحى يذكر وَيُؤَنث، وَقيل: سميت بذلك لِأَنَّهَا تفعل فِي الْأَضْحَى وَهُوَ ارْتِفَاع النَّهَار. قَوْله: (أَو فطر) أَي: أَو يَوْم فطر، وَهُوَ يَوْم عيد الْفطر، وَالشَّكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من أبي سعيد. قلت: لَا يتَعَيَّن ذَلِك. قَوْله: (إِلَى الْمصلى) هُوَ مَوضِع صَلَاة الْعِيد فِي الْجَبانَة. قَوْله: (فَقَالَ: يَا معشر النِّسَاء) ، المعشر: الْجَمَاعَة متخالطين كَانُوا أَو غير ذَلِك، قَالَ الْأَزْهَرِي: أَخْبرنِي الْمُنْذر عَن أَحْمد بن يحيى، قَالَ: المعشر والنفر وَالْقَوْم والرهط، هَؤُلَاءِ معناهم: الْجمع لَا وَاحِد لَهُم من لَفظهمْ للرِّجَال دون النِّسَاء، وَعَن اللَّيْث: المعشر كل جمَاعَة أَمرهم وَاحِد، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر، وَقَول أَحْمد بن يحيى مَرْدُود بِالْحَدِيثِ، وَيجمع على معاشر. قَوْله: (اللَّعْن) فِي اللُّغَة الطَّرْد والإيعاد من الْخَيْر، واللعنة وَالِاسْم، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ يتلفظن باللعنة كثيرا. قَوْله: (ويكفرن) من الْكفْر وَهُوَ السّتْر، وكفران النِّعْمَة وكفرها سترهَا بترك أَدَاء شكرها، وَالْمرَاد يجحدن نعْمَة الزَّوْج ويستقللن مَا كَانَ مِنْهُ. قَوْله: (العشير) هُوَ: الزَّوْج سمي بذلك لمعاشرته إِيَّاهَا. وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: عشيرك الَّذِي يعاشرك أَيْدِيكُم وأمركما وَاحِد، لَا يكادون يَقُولُونَ فِي جمعه عشراء وَلَكنهُمْ، معاشروك وعشيرون. وَقَالَ بَعضهم: هم عشراؤك. وَقَالَ الْفراء: يجمع العشير على عشراء، مثل: جليس وجلساء، وَإِن الْعَرَب لتكرهه كَرَاهَة أَن يشاكل قَوْلهم، نَاقَة عشراء، والعشير: الخليط، والعشير: الصّديق وَالزَّوْج وَابْن الْعم. قَوْله: (عقل) الْعقل فِي اللُّغَة ضد، الْحمق، وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ مصدر: عقل الْإِنْسَان يعقل، وَعَن ابْن دُرَيْد، اشتق من عقال النَّاقة، لِأَنَّهُ يعقل صَاحبه عَن الْجَهْل، أَي: يحْبسهُ وَلِهَذَا قيل: عقل الدَّوَاء بَطْنه، أَي أمْسكهُ، وَفِي (الْعين) عقلت بعد الصِّبَا، أَي: عرفت بعد الْخَطَأ الَّذِي كنت فِيهِ، واللغة الْغَالِبَة، عقل، وَقَالُوا: عقل يعقل مثل حكم يحكم الَّذِي يحبس نَفسه ويردها عَن هَواهَا، أخذا من قَوْلهم: أعتقل لِسَانه إِذا حبس، وَمنع من الْكَلَام. وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ سِيبَوَيْهٍ، قَالُوا: الْعقل، كَمَا قَالُوا: الظّرْف، أدخلوه فِي بَاب عجز، لِأَنَّهُ مثله، وَالْعقل من المصادر الْمَجْمُوعَة من غير أَن تخْتَلف أَنْوَاعهَا. وَقَالَ أَبُو عَليّ: الْعقل والحجى، وَالنَّهْي، كلهَا مُتَقَارِبَة الْمعَانِي، وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْقَبِيح وَقصر النَّفس وحبسها على الْحسن، وَقَالُوا: عَاقل وعقلاء وَهُوَ: الْحلم واللب وَالْحجر والعظم والمحت والمرجح والجول وَالْخَوْف والذهن والهرمان والحصاة، وَفِي (الْمُحكم) وَجمعه عقول. وَقَالَ الْقَزاز: مَسْكَنه عِنْد قوم فِي الدِّمَاغ، وَعند آخَرين فِي الْقلب الأول قَول أبي(3/270)
حنيفَة، وَالثَّانِي قَول الشَّافِعِي. وَقيل: مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره فِي الْقلب. قلت: وَعَن هَذَا قَالُوا: الْعقل جَوْهَر خلقه الله فِي الدِّمَاغ وَجعل نوره فِي الْقلب، تدْرك بِهِ المغيبات بالوسائط والمحسوسات بِالْمُشَاهَدَةِ، وَعند الْمُتَكَلِّمين، الْعقل الْعلم، وَقيل: بعض الْعُلُوم هِيَ الضرورية، وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا حقائق المعلومات، وَفِي كتاب (الْحُدُود) لأبي عَليّ بن سينا، هُوَ اسْم مُشْتَرك لمعان عدَّة: عقل لصِحَّة الْفطْرَة الأولى فِي الناى، وَهُوَ قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين الْأُمُور القبيحة والحسنة، وعقل لما يكتسبه بالتجارب بَين الْأَحْكَام تكون مُقَدّمَة يحصل بهَا الْأَغْرَاض والمصالح، وعقل لِمَعْنى آخر، وَهَذِه هَيْئَة محمودة للْإنْسَان فِي حركاته وَكَلَامه، وَأما الْحُكَمَاء فقد فرقوا بَينه وَبَين الْعلم، وَقَالُوا: الْعقل النظري، وبالفعل والفعال، وتحقيقه فِي كتبهمْ، وَإِنَّمَا سمي: الْعقل، عقلا من قَوْلهم: ظَبْي عَاقل، إِذا امْتنع فِي أَعلَى الْجَبَل، يُسمى هَذَا بِهِ لِأَنَّهُ فِي أَعلَى الْجَسَد بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي أَعلَى الْجَبَل. وَقيل: الْعَاقِل: الْجَامِع لأموره بِرَأْيهِ، مَأْخُوذ من قَوْلهم: عقلت الْفرس إِذا جمعت قوائمه وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم: أَن المُرَاد من الْعقل الدِّيَة، لِأَن دِيَتهَا على النّصْف من دِيَة الرجل. قلت: ظَاهر الحَدِيث يأباه.
بَيَان إعرابه قَوْله: (إِلَى الْمصلى) يتَعَلَّق بقوله: (خرج) . قَوْله: (يتصدقن) مقول القَوْل، وَالْفَاء، فِي: فَانِي، للتَّعْلِيل قَوْله: (أريتكن) بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمعْنَى أَرَانِي الله إياكن أَكثر أهل النَّار، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) أَكثر، بِنصب الرَّاء على أَن أريت، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين. أَو على الْحَال إِذا قُلْنَا أَن أفعل لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، كَمَا صَار إِلَيْهِ الْفَارِسِي وَغَيره وَقيل: إِنَّه بدل من الْكَاف فِي: أريتكن. انْتهى قلت: نقل هَذَا من صَاحب (التَّلْوِيح) وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَوْله: أريتكن مُتَعَدٍّ إِلَى ثَلَاثَة مفاعيل: الأول التَّاء الَّتِي هِيَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. وَالثَّانِي:. قَوْله: (كنَّ) . وَالثَّالِث:. قَوْله: (أَكثر أهل النَّار) فَإِن قلت: فِي أَيْن أريهن أَكثر أهل النَّار؟ قلت: فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بِلَفْظ (أريت النَّار فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء) فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث، قَالَ: لكل رجل زوجتان من الْآدَمِيّين. قلت: لَعَلَّ هَذَا قبل وُقُوع الشَّفَاعَة. قَوْله: (ويم يَا رَسُول الله) قَالَ بَعضهم: الْوَاو، استئنافية. قلت: للْعَطْف على مُقَدّر تَقْدِيره، مَا دنبنا، وَبِمَ، الْبَاء للسبيبة، وَكلمَة استفهامية. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حذفت الفها تَخْفِيفًا. قلت: يجب حذف ألف، مَا الاستفهامية إِذا جرت، وإبقاء الفتحة دَلِيل عَلَيْهَا وَنَحْوهَا، إلاَّمَ، وَعَلاَمَ، وَعلة حذف الْألف، الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر، فَلهَذَا حذفت فِي نَحْو: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} (سُورَة النَّحْل: 35) {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} (سُورَة النازعات: 43) وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى: {عَمَّا يتساءلون} (سُورَة النبإ: 1) فنادر. قَوْله: (تكثرن اللَّعْن) فِي مقَام التَّعْلِيل، وَكَانَ الْمَعْنى: لأنكن تكثرن اللَّعْن، الْإِكْثَار، قَالَ الطَّيِّبِيّ: الْجَواب من الأسلوب الْحَكِيم لِأَن قَوْله: (مَا رَأَيْت) إِلَخ زِيَادَة، فَإِن قَوْله: (تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير) جَوَاب تَامّ، فَكَأَنَّهُ من بَاب الاتتباع، إِذا الذَّم بِالنُّقْصَانِ استتبع للذم بِأَمْر آخر غَرِيب، وَهُوَ كَون الرجل الْكَامِل الحازم منقاداً للنِّسَاء الناقصات عقلاء دينا. قَوْله: (من ناقصات عقل) صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي: مَا رَأَيْت أحدا من ناقصات. قَوْله: (أذهب) أفعل التَّفْضِيل من الإذهاب، هَذَا على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ حَيْثُ جوز بِنَاء أفعل التَّفْضِيل من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَشد إذهاباً.
بَقِيَّة مَا فِيهِ من الْمعَانِي والأسئلة والأجوبة قَوْله: (قُلْنَ وَمَا نُقْصَان ديننَا) ويروي: (فَقُلْنَ) بِالْفَاءِ، وَهَذَا استفسار مِنْهُنَّ عَن وَجه نُقْصَان دينهن وعقلهن، وَفك لِأَنَّهُ خفى عَلَيْهِنَّ ذَلِك حَتَّى استفسرن. وَقَالَ بَعضهم: وَنَفس هَذَا السُّؤَال دَال على النُّقْصَان لِأَنَّهُنَّ سلمن مَا نسب إلَيْهِنَّ من الْأُمُور الثَّلَاثَة: الْإِكْثَار والكفران والإذهاب، ثمَّ استشكلن كونهن ناقصات. قلت: هَذَا استفسار وَلَيْسَ باستشكال، لِأَنَّهُنَّ بعد أَن سلمن هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة، لَا يكون عَلَيْهِنَّ إِشْكَال، وَلَكِن لما خَفِي سَبَب نُقْصَان دينهن وعقلهن سَأَلَهُنَّ عَن ذَلِك بقولهن: مَا نُقْصَان ديننَا وعقلنا، وَالتَّسْلِيم بِهَذِهِ الْأُمُور كَيفَ يدل على النُّقْصَان، وبَيْنَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا خَفِي عَلَيْهِنَّ من ذَلِك بقوله: (أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة) إِلَى آخِره؟ وَهَذَا جَوَاب مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بلطف وإرشاد من غير تعفيف وَلَا لوم، بِحَيْثُ خاطبهن على قدر فهمهن، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يُخَاطب النَّاس على قدر عُقُولهمْ، قَوَّال النَّوَوِيّ: وَأما وَصفه النِّسَاء بِنُقْصَان الدّين لتركهن الصَّلَاة وَالصَّوْم فقد يسْتَشْكل مَعْنَاهُ وَلَيْسَ بمشكل، فَإِن الدّين وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام مُشْتَرك فِي معنى وَاحِد، فَإِن من كثرت عِبَادَته زَاد إيمَانه وَدينه، وَمن نقصت عِبَادَته نقص دينه. قلت: دَعْوَاهُ الِاشْتِرَاك فِي هَذِه الثَّلَاثَة غير مسلمة، لِأَن بَينهَا فرقا لُغَة وَشرعا، وَقَوله: زَاد إيمَانه أَو نقص، لَيْسَ براجع إِلَى الذَّات، بل هُوَ رَاجع إِلَى الصّفة(3/271)
كَمَا تقرر هَذَا فِي مَوْضِعه. قَوْله: (أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل) إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرجل وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} (سُورَة الْبَقَرَة: 282) فَإِن قلت: النُّكْتَة فِي تَعْبِيره بِهَذِهِ الْعبارَة وَلم يقل: أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ مثل شَهَادَة الرجل؟ قلت: لِأَن فِي عِبَارَته تِلْكَ تنصيصاً على النَّقْص صَرِيحًا. بِخِلَاف مَا ذكرت، فَإِنَّهُ يدل عَلَيْهِ ضمنا فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق فَإِن قلت: أَلَيْسَ ذَلِك ذماً لَهُنَّ؟ قلت: لَا وَإِنَّمَا هُوَ على معنى التَّعَجُّب بأنهن مَعَ اتصافهن بِهَذِهِ الْحَالة يفعلن بِالرجلِ الحازم كَذَا وَكَذَا فَإِن قلت: هَذَا الْعُمُوم فِيهِنَّ يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كمل من الرِّجَال كثير، وَلم يكمل من النِّسَاء إلاَّ مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم) وَفِي رِوَايَة أَربع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَأحمد من حَدِيث أنس: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَسبك من نسَاء الْعَالمين بِأَرْبَع: مَرْيَم بنت عمرَان، وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن، وَخَدِيجَة بنت خويلد، وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن الْإِفْرَاد خرج عَن ذَلِك لِأَنَّهُ نَادِر قَلِيل، وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك هُوَ أَن الحكم على الْكل بِشَيْء لَا يسْتَلْزم الحكم على كل فَرد من أَفْرَاده بذلك الشَّيْء وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَنقص الدّين قد يكون على وَجه يَأْثَم بِهِ، كمن ترك الصَّلَاة بِلَا عذر، وَقد يكون على وَجه لَا يَأْثَم لَهُ، كمن ترك الْجُمُعَة بِعُذْر، وَقد يكون على وَجه هُوَ مُكَلّف بِهِ كَتَرْكِ الْحَائِض الصَّلَاة وَالصَّوْم. فَإِن قيل: فَإِذا كَانَت معذورة، فَهَل تثاب على ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض؟ وَإِن كَانَت لَا تقضيها كَمَا يُثَاب الْمَرِيض، وَيكْتب لَهُ فِي مَرضه مثل نوافل الصَّلَوَات الَّتِي كَانَ يَفْعَلهَا فِي صِحَّته. وَالْجَوَاب أَن ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا لَا تثاب، وَالْفرق أَن الْمَرِيض كَانَ يَفْعَلهَا بنية الدَّوَام عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّته لَهَا، وَالْحَائِض لَيست كَذَلِك، بل نِيَّتهَا ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَكَيف لَا وَهِي حرَام عَلَيْهَا؟ قلت: يَنْبَغِي أَن يُثَاب على ترك الْحَرَام. قَوْله: (فَذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من. قَوْله: (أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل) . قَوْله: (فَذَلِك) بِكَسْر الْكَاف، خطابا للواحدة الَّتِي تولت الْخطاب، وَيجوز فتح الْكَاف على أَنه للخطاب الْعَام.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام وهوعلى وُجُوه: الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب خُرُوج الإِمَام مَعَ الْقَوْم إِلَى مصلى الْعِيد فِي الْجَبانَة لأجل صَلَاة الْعِيد، وَلم يزل الصَّدْر الأول كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، ثمَّ تَركه أَكْثَرهم لِكَثْرَة الْجَوَامِع، وَمَعَ هَذَا فَإِن أهل بِلَاد شَتَّى لم يتْركُوا ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ الْحَث على الصَّدَقَة لِأَنَّهَا من أَفعَال الْخيرَات وَالْمِيرَاث فَإِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات، وَلَا سِيمَا فِي مثل يَوْم الْعِيدَيْنِ لِاجْتِمَاع الْأَغْنِيَاء والفقراء، وتحسر الْفُقَرَاء عِنْد رُؤْيَتهمْ الْأَغْنِيَاء وَعَلَيْهِم الثِّيَاب الفاخرة، وَلَا سِيمَا الْأَيْتَام الْفُقَرَاء والأرامل الفقيرات، فَإِن الصَّدَقَة عَلَيْهِم فِي مثل هَذَا الْيَوْم مِمَّا يقل تحسرهم وهمهم، وَإِمَّا تَخْصِيصه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النِّسَاء فِي ذَلِك الْيَوْم، حَيْثُ أمرهن بِالصَّدَقَةِ فلغلبة الْبُخْل عَلَيْهِنَّ، وَقلة معرفتهن بِثَوَاب الصَّدَقَة وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْحسن وَالْفضل فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْآخِرَة. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز خُرُوج النِّسَاء أَيَّام الْعِيد إِلَى الْمصلى للصَّلَاة مَعَ النَّاس. وَقَالَت الْعلمَاء: كَانَ هَذَا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فَلَا تخرج الشَّابَّة ذَات الْهَيْئَة، وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَو رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد، كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل. قلت: هَذَا الْكَلَام من عَائِشَة بِعُذْر من يسير جدا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الْيَوْم فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك، فَلَا يرخص فِي خروجهن مُطلقًا للعيد وَغَيره، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر، على مَا لَا يخفى. وَفِي (التَّوْضِيح) رأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا عَلَيْهِنَّ، يَعْنِي: فِي خروجهن للعيد مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر وَغَيرهم، وَمِنْهُم من منعن ذَلِك، مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو يُوسُف، وَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة مرّة وَمنعه أُخْرَى، وَمنع بَعضهم فِي الشَّابَّة دون غَيرهَا، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي يُوسُف، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: كَانَ الْأَمر بخروجهن أول الْإِسْلَام لتكثير الْمُسلمين فِي أعين الْعَدو. قلت: كَانَ ذَلِك لوُجُود الْأَمْن أَيْضا، وَالْيَوْم قلَّ الأمنُ، والمسلمون كثير، وَمذهب أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْبَاب مَا ذكره صَاحب (الْبَدَائِع) أَجمعُوا على أَنه لَا يرخص للشابة الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة وَشَيْء من الصَّلَوَات، لقَوْله تَعَالَى: {وقرون فِي بُيُوتكُمْ} (سُورَة الْأَحْزَاب: 33) وَلِأَن خروجهن سَبَب للفتنة وَأما الْعَجَائِز فيرخص لَهُنَّ الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ، وَلَا خلاف أَن الْأَفْضَل أَن لَا يخْرجن فِي صَلَاة مَا، فَإِذا خرجن يصلين صَلَاة الْعِيد، فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ، لَا يصلين، بل يكثرن سَواد الْمُسلمين وينتفعن بدعائهم، وَفِي حَدِيث أم عَطِيَّة، قَالَت: [حم (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور وَالْحيض(3/272)
فِي الْعِيد، وَأما الْحيض فيعتزلن الْمصلى ويشهدن الْخَيْر ودعوة الْمُسلمين) [/ حم أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: [حم (لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله) [/ حم أَخْرجَاهُ وَفِي رِوَايَة أبي دواد: (وليخرجن ثقلات غير عطرات) ، الْعَوَاتِق، جمع عاتق، وَهِي الْبِنْت الَّتِي بلغت وَقيل: الَّتِي لم تتَزَوَّج، والخدور جمع: خدر، وَهُوَ السّتْر، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) للنووي: يكره للشابة وَمن تشْتَهي الْحُضُور ولخوف الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ وبهن. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز عظة النِّسَاء على حِدة، وَهَذِه للْإِمَام، فَإِن لم يكن فلنائبه. الْخَامِس: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الإغلاظ فِي النصح بِمَا يكون سَببا لإِزَالَة الصّفة الَّتِي تعاب أَو الذَّنب الَّذِي ينصف بِهِ الْإِنْسَان، السَّادِس: فِيهِ أَن لَا يواجه بذلك الشَّخْص الْمعِين، فَإِن فِي الشُّمُول تَسْلِيَة وتسهيلاً. السَّابِع: فِيهِ أَن الصَّدَقَة تدفع الْعَذَاب وَأَنَّهَا تكفر الذُّنُوب. الثَّامِن: فِيهِ أَن جحد النعم حرَام، وكفران النِّعْمَة مَذْمُوم. التَّاسِع: فِيهِ أَن اسْتِعْمَال الْكَلَام الْقَبِيح: كاللعن والشتم حرَام، وَأَنه من الْمعاصِي: فَإِن داوم عَلَيْهِ صَار كَبِيرَة، وَاسْتدلَّ النَّوَوِيّ على أَن اللَّعْن والشتم من الْكَبَائِر بالتوعد عَلَيْهِمَا بالنَّار. الْعَاشِر: فِيهِ ذمّ الدُّعَاء باللعن لِأَنَّهُ دُعَاء بالإبعاد من رَحْمَة الله تَعَالَى. قَالُوا: إِنَّه مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ على معِين. الْحَادِي عشر: فِيهِ إِطْلَاق الْكفْر على الذُّنُوب الَّتِي لَا تخرج عَن الْملَّة تَغْلِيظًا على فاعلها. الثَّانِي عشرَة: فِيهِ إِطْلَاق الْكفْر على غير الْكفْر بِاللَّه. الثَّالِث عشر: فِيهِ مُرَاجعَة المتعلم وَالتَّابِع الْمَتْبُوع والمعلم فِيمَا قَالَه إِذا لم يظْهر لَهُ مَعْنَاهُ. الرَّابِع عشر: فِيهِ تَنْبِيه على أَن شَهَادَة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل. الْخَامِس عشر: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن النَّقْص من الطَّاعَات نقص من الدّين. قلت: لَا ينقص من نفس الدّين شَيْء وَإِنَّمَا النَّقْص أَو الزِّيَادَة يرجعان إِلَى الْكَمَال. السَّادِس عشر: فِيهِ دلَالَة على أَن ملاك الشَّهَادَة الْعقل. السَّابِعَة عشر: فِيهِ نَص على أَن الْحَائِض يسْقط عَنْهَا فرض الصَّوْم وَالصَّلَاة. الثَّامِن عشر: فِيهِ الشَّفَاعَة للْمَسَاكِين وَغَيرهم أَن يسْأَل لَهُم. التَّاسِع عشر: فِيهِ حجَّة لمن كره السُّؤَال لغيره. الْعشْرُونَ: فِيهِ مَا دلّ على مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الْخلق الْعَظِيم والصفح الْجَمِيل والرأفة وَالرَّحْمَة أمته، عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وأشرف التَّحِيَّات.
7 - (بابُ تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّها إلاَّ الطَّوافَ بالبَيْتِ)
بَاب منون لِأَنَّهُ مَقْطُوع عَمَّا بعده أَي: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان أَن الْمَرْأَة إِذا حَاضَت بعد الإحرامتقضي أَي: تُؤدِّي جَمِيع الْمَنَاسِك كلهَا إلاَّ أَنَّهَا لَا تَطوف بِالْبَيْتِ والمناسك: جمع منسك، بِفَتْح السِّين وَكسرهَا، وَهُوَ التَّعَبُّد وَيَقَع على الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَسميت أُمُور الْحَج كلهَا مَنَاسِك الْحَج، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الْمَنَاسِك، مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من النسيكة وَهُوَ سبيكة الْفضة المصفاة كَأَنَّهُ صفى نَفسه لله تَعَالَى. وَفِي (الْمطَالع) الْمَنَاسِك مَوَاضِع متعبدات الْحَج، والمنسك المذبح أَيْضا، وَقد نسك ينْسك نسكا إِذا ذبح، والنسيكة الذَّبِيحَة، وَجَمعهَا: نسك والنسك أَيْضا الطَّاعَة وَالْعِبَادَة، وكل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى: والنسك: مَا أمرت بِهِ الشَّرِيعَة والورع، وَمَا نهت عَنهُ. والناسك العابد، وَجمعه النساك.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن فِي الأول ترك الْحَائِض الصَّوْم، وَهُوَ فرض، وَفِي هَذَا تَركهَا الطّواف الَّذِي هُوَ ركن، وَهُوَ أَيْضا فرض، وَبَقِيَّة الطّواف كالركعتين بعده أَيْضا لَا تعْمل إلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَهل هِيَ شَرط فِي الطّواف، أم لَا فِيهِ خلاف مَشْهُور.
وقالَ إبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ أنْ تَقْرَأْ الآيَةَ
وَجه تطابق هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة والْآثَار الَّتِي بعده من حَيْثُ أَن الْحيض لَا يُنَافِي كل عبَادَة، بل صحت مَعَه عبادات بدنية من الْأَذْكَار نَحْو: التَّسْبِيح والتحميد والتهليل، وَنَحْو ذَلِك، وَقِرَاءَة مَا دون الْآيَة عِنْد جمَاعَة وَالْآيَة عِنْد إِبْرَاهِيم، ومناسك الْحَج كَذَلِك من جملَة مَا لَا يُنَافِيهِ الْحيض إلاَّ الطّواف، فَإِنَّهُ مُسْتَثْنى من ذَلِك، وَكَذَلِكَ الْآيَة وَمَا قوقها مُسْتَثْنى من ذَلِك فَمن هَذَا الْوَجْه طابق هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة، وَكَذَلِكَ الْآثَار الَّتِي تَأتي، وَحكم الْجنب كَحكم الْحَائِض فِيمَا ذكرنَا، وَإِذا وجد التطابق بِأَدْنَى شَيْء يَكْتَفِي بِهِ، والتطويل فِيهِ يؤول إِلَى التعسف.
قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) هُوَ: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. قَوْله: (لَا بَأْس) أَي: لَا حرج أَن تقْرَأ أَي: الْحَائِض الْآيَة من الْقُرْآن، وَقد وَصله الدَّارمِيّ بِلَفْظ أَرْبَعَة لَا يقرؤون الْقُرْآن: الْجنب وَالْحَائِض وَعند الْخَلَاء وَفِي الْحمام إلاَّ آيَة وَعَن إِبْرَاهِيم فِيهِ أَقْوَال: فِي قَول: يستفتح رَأس الْآيَة وَلَا يُتمهَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَسَعِيد بن جُبَير، لما روى ابْن أبي شيبَة حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن حجاج عَن عَطاء، وَعَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم وَسَعِيد بن جُبَير(3/273)
فِي الْحَائِض وَالْجنب: يستفتحون رَأس الْآيَة وَلَا يتمون آخرهَا. وَفِي قَول: يكره قِرَاءَة الْقُرْآن للْجنب، وروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة بن حَمَّاد أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: يقْرَأ الْجنب الْقُرْآن قَالَ: فَذَكرته لإِبْرَاهِيم فكرهه. وَفِي قَول: يقْرَأ مَا دون الْآيَة وَلَا يقْرَأ آيَة تَامَّة وروى ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: يقْرَأ مَا دون الْآيَة: وَلَا يقْرَأ آيَة تَامَّة وَفِي قَوْله: يقْرَأ الْقُرْآن مَا لم يكن جنبا، وَحدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عمر قَالَ: تقْرَأ الْحَائِض الْقُرْآن.
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسِ بالقِرَاءَةِ لَلْجُنُبِ بَأْساً
هَذَا الْأَثر وَصله ابْن الْمُنْذر بِلَفْظ: أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرَأ ورده وَهُوَ جنب. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا الثَّقَفِيّ عَن خَالِد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يقْرَأ الْجنب الْآيَة والآيتين، وَكَانَ أَحْمد يرخص للْجنب أَن يقْرَأ الْآيَة وَنَحْوهَا، وَبِه قَالَ مَالك: وَقد حكى عَنهُ أَنه قَالَ: تقْرَأ الْحَائِض وَلَا يقْرَأ الْجنب لِأَن الْحَائِض إِذا لم تقْرَأ نسيت الْقُرْآن، لِأَن أَيَّام الْحَائِض تتطاول وَمُدَّة الْجَنَابَة لَا تطول.
وكانَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ أَحْيَائِهِ
هَذَا حَدِيث أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يرْوى على كل أَحْوَاله وَأَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا، وَبِمَا ذكره فِي هَذَا الْبَاب، الِاسْتِدْلَال على جَوَاز قِرَاءَة الْجنب وَالْحَائِض، لِأَن الذّكر أَعم من أَن يكون بِالْقُرْآنِ أَو بِغَيْرِهِ، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد.
وقالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ كُنَّا نُؤْمَرُ أنْ يَخْرُجَ الحَيَّضُ فَيَكُبرنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي أَيَّام التَّكْبِير: أَيَّام مني، وَإِذا غَدا إِلَى عَرَفَة حَدثنَا مُحَمَّد، قَالَ حَدثنَا عمر ابْن حَفْص، قَالَ: حَدثنَا أبي عَن عَاصِم عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كُنَّا نؤمر أَن نخرج يَوْم الْعِيد، حَتَّى تخرج الْبكر من خدرها، وَحَتَّى تخرج الْحيض، فيكنَّ خلف النَّاس فيكبرنَّ بتكبيرهم، ويدعونَ بدعائهم يرجون بركَة ذَلِك الْيَوْم وطهرته) ، وَرَوَاهُ أَيْضا فِي بَاب خُرُوج النِّسَاء الْحيض إِلَى الْمصلى على مَا يَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوجه الِاسْتِدْلَال بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه لَا فرق بَين الذّكر والتلاوة، لِأَن الذّكر أَعم. وَقَالَ بَعضهم: وَيدعونَ، كَذَا الْأَكْثَر الروَاة، وللكشميهني: يدعين، بياء تَحْتَانِيَّة بدل الْوَاو. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره مُخَالف لقواعد التصريف، لِأَن هَذِه الصِّيغَة معتل الْأُم من ذَوَات الْوَاو، ويستوى فِيهَا لفظ جمَاعَة الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي الْخطاب والغيبة جَمِيعًا.
وَفِي التَّقْدِير مُخْتَلف، فوزن الْجمع الْمُذكر: يقعون، وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث يفعلن، وَسَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِي مَوضِع، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
{وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَني أبُو سُفْيَانَ أنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتابِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمان الرَّحِيمِ وَيَا أَهْلَ الكِتابِ تَعَالُوا إِلَى كَلِمَةٍ الآيَةَ} (سُورَة آل عمرَان: 64)
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث أبي سُفْيَان فِي قصَّة هِرقل: وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي بَدْء الْوَحْي وَغَيره، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن عبد الله بن عَبَّاس أخبرهُ (أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب أخبرهُ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش إِلَى أَن قَالَ: ثمَّ دَعَا بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي بعث بِهِ دحْيَة الْكَلْبِيّ إِلَى عَظِيم بصرى، فَدفعهُ إِلَى هِرقل فقرأه، فَإِذا فِيهِ بِسم الله الرحمان الرَّحِيم من مُحَمَّد ابْن عبد الله وَرَسُوله إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم، سَلام على من اتبع الْهدى أما بعد، فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ، فَإِن توليت فَعَلَيْك إِثْم الأريسين. {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَى الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا أشهدوا بِأَنا مُسلمُونَ} .
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وسلمكتب إِلَى الرّوم وهم كفار، وَالْكَافِر جنب، كَأَنَّهُ يَقُول: إِذا جَازَ مس الْكتاب للْجنب مَعَ كَونه مُشْتَمِلًا على آيَتَيْنِ، فَكَذَا يجوز لَهُ قِرَاءَته، وَالْحَاصِل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث للْكفَّار الْقُرْآن مَعَ أَنهم غير ظَاهِرين، فجوز مسهم وقراءتهم لَهُ، فَدلَّ على جَوَاز الْقِرَاءَة للْجنب.(3/274)
وقالَ عَطَاءٌ عَنْ جابرٍ حاضَتْ عائِشَةٌ فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوافِ بالبَيْتِ لَا تُصَلِّى
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي كتاب الْأَحْكَام فِي بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت) حدّثنا الْحسن بن عمر حدّثنا يزِيد عَن حبيب عَن عَطاء عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلبينا بِالْحَجِّ وَقدمنَا مَكَّة إِلَى أَن قَالَ: وَكَانَت عَائِشَة قدمت مَكَّة وَهِي حَائِض، فَأمرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنسك الْمَنَاسِك كلهَا غير أَنَّهَا لَا تَطوف وَلَا تصلي حَتَّى تطهر) الحَدِيث.
قَوْله: (فنسكت) ، بِفَتْح السِّين، وَالْمعْنَى: أَقَامَت بِأُمُور الْحَج كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ وَالصَّلَاة وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) قَوْله: (وَلَا تصلى) يحْتَمل أَن يكون من كَلَام عَطاء، أَو من كَلَام البُخَارِيّ، وَالله أعلم.
وقالَ الحَكَمُ إنِّي لاَ ذْبَحْ وَأَنَّا جُنُبٌ وقالَ اللَّهُ: {وَلَا تأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (سُورَة الْأَنْعَام: 121)
الحكم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف ابْن عتيبة، بِضَم الْعين المهلمة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، الْكُوفِي، وَقد تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَغَوِيّ فِي (الجعديات) من رِوَايَته عَن عَليّ بن الحعد عَن شُعْبَة عَنهُ. قَوْله: (إِنِّي لأذبح) أَي: أَنِّي لأذبح الذَّبِيحَة وَالْحَال أَنِّي جنب، وَلَكِن لَا بُد أَن أذكر الله تَعَالَى يحكم هَذِه الْآيَة وَهِي: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} (سُورَة الْأَنْعَام: 121) وَأَرَادَ بِهَذَا أَن الذّبْح مُسْتَلْزم شرعا لذكر الله بِمُقْتَضى هَذِه الْآيَة، فَدلَّ على أَن الْجنب يجوز لَهُ التِّلَاوَة.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ ذكر فِي هَذَا الْبَاب سِتَّة من الْآثَار إِلَى هُنَا، وَاسْتدلَّ بهَا على جَوَاز قِرَاءَة الْجنب الْقُرْآن، وَفِي كل ذَلِك مناقشة، ورد عَلَيْهِ الْجُمْهُور بِأَحَادِيث وَردت بِمَنْع الْجنب عَن قِرَاءَة الْقُرْآن.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْأَرْبَعَة، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا حَفْص بن عمر، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله ابْن سَلمَة، قَالَ: دخلت على عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنا ورجلان: رجل منا وَرجل من بني إسد، أحسبد فبعثهما عَليّ بعثاً وَقَالَ: إنَّكُمَا علجان فعالجان عَن دينكما، ثمَّ قَامَ فَدخل الْمخْرج، ثمَّ خرج فَدَعَا بِمَاء فَأخذ مِنْهُ حفْنَة فتمسح بهَا ثمَّ جعل يقْرَأ الْقُرْآن، فأنكروا ذَلِك، فَقَالَ: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَجِيء من الْخَلَاء فيقرإ بِنَا الْقُرْآن وَيَأْكُل مَعنا اللَّحْم لَا يحجزه عَن الْقُرْآن شَيْء لَيْسَ الْجَنَابَة) . فَإِن قلت: ذكر الْبَزَّار أَنه لَا يرْوى عَن عَليّ إلاَّ حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن سَلمَة، وَحكى البُخَارِيّ: عَن عَمْرو بن مرّة، كَانَ عبد الله، يَعْنِي ابْن سَلمَة يحدثنا، فتعرق وتنكر، وَكَانَ قد كبر وَلَا يُتَابع فِي حَدِيثه، وَذكر الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: وَإِن لم يكن أهل الحَدِيث يثبتونه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا توقف الثَّانِي فِي ثُبُوت هَذَا الحَدِيث لِأَن مَدَاره على عبد الله بن سَلمَة الْكُوفِي، وَكَانَ قد كبر وَأنكر من حَدِيث وعقله بعض النكرَة، وَإِنَّمَا روى هَذَا الحَدِيث بعد كبر. قَالَه شُعْبَة، وَذكر الْخطابِيّ أَن الإِمَام أَحْمد كَانَ يوهن حَدِيث عَليّ هَذَا، ويضعف أَمر عبد الله بن سَلمَة وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الضُّعَفَاء والمتروكين) وَقَالَ النَّسَائِيّ: يعرف وينكر. قلت: التِّرْمِذِيّ لما أخرجه قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا، وَقَالَ الْحَاكِم فِي عبد الله بن سَلمَة، أَنه غير مطعون فِيهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. قَوْله: لَا يحجزه، بالزاي الْمُعْجَمَة، أَي: لَا يمنعهُ ويروى، بالراء الْمُهْملَة، بِمَعْنَاهُ ويروي: لَا يَحْجُبهُ، بِمَعْنَاهُ أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عرم، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن مُوسَى بن عقبَة عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن) ، وَضعف هَذَا الحَدِيث بِإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رِوَايَته عَن أهل الْحجاز ضَعِيفَة لَا يحْتَج بهَا، قَالَه أَحْمد وَيحيى وَغَيرهمَا من الْحفاظ. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْفضل عَن أَبِيه عَن طَاوُوس عَن جَابر مَرْفُوعا نَحوه، وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَأعله بِمُحَمد بن الْفضل وَأَغْلظ فِي تَضْعِيفه عَن البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن معِين. قلت: وَرُبمَا يعتضدان بِحَدِيث عَليّ الْمَذْكُور، وَلم يَصح عَن البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث، فَلذَلِك ذهب إِلَى جَوَاز قِرَاءَة الْجنب وَالْحَائِض أَيْضا وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا صَحَّ عِنْده وَعند غَيره من حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم الَّذِي ذكر عَن قريب، قَالَ الطَّبَرِيّ فِي (كتاب التَّهْذِيب) الصَّوَاب أَن مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ، الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذكر الله على كل أحيائه وَأَنه كَانَ يقْرَأ مَا لم يكن جنبا أَن قِرَاءَته طَاهِرا اخْتِيَار مِنْهُ لأَفْضَل الْحَالَتَيْنِ(3/275)
وَالْحَالة الْأُخْرَى أَرَادَ تَعْلِيم الْأمة، وَأَن ذَلِك جَائِز لَهُم، غير مَحْظُور عَلَيْهِم ذكر الله وَقِرَاءَة الْقُرْآن.
305 - حدّثنا أبُو نُعَيمؤغ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيرِ بنُ أبي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ نَذْكُرُ إلاَّ الحَجُّ فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طمِثْتِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أَبْكِي فقالَ مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ لَوَدِدْتُ واللَّهِ أنِّي لَمْ أَحُجَّ العامَ قالَ لَعَلَّكِ نُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قالَ فإنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي. .
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي أول كتاب الْحيض عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد، وشرحناه هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.
قَوْله: (سرف) بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء اسْم موع بِالْقربِ من مَكَّة قَوْلهَا: (طمثت) بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا: أَي حِضْت.
8 - (بابُ الاسْتِحَاضَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِحَاضَة، وَهِي جَرَيَان دم الْمَرْأَة من فرجهَا فِي غير أَوَانه، وَيخرج من عرق يُقَال لَهُ: العاذل، بِالْعينِ الْمُهْملَة. والذال الْمُعْجَمَة.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن الْحيض والاستحاضة من أَحْكَام الْمَرْأَة.
306 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ قالَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَطْهُرُ أفَأَدَعُ الصَّلاةَ فقالَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بالحَيْضَةِ فإذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ فَإذَا ذَهَبَ قَدْرُها فاغْسُلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصلِّي. .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ غب حكم الِاسْتِحَاضَة، وَمر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب غسل الدَّم، وَصرح فِيهِ بالاستحاضة، وَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت (يَا رَسُول الله إِنِّي أمْرَأَة استحاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟) الحَدِيث.
رِجَاله قد تقدمُوا مرَارًا. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك، وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير، وحبيش، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب غسل الدَّم، وَنَذْكُر هَاهُنَا غير مَا ذكرنَا هُنَاكَ.
قَوْله: (وَصلى) أَي: بعد الِاغْتِسَال، كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيح بِهِ فِي بَاب إِذا حَاضَت فِي شهر ثَلَاث حيض، وَفِي لفظ: (فدعي الصَّلَاة قدر الإيام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا) وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه من جِهَة مَالك: (دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا، ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي) وَفِي لفظ: (ثمَّ توضىء لكل صَلَاة) وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة: (أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت سبع سِنِين، فاستففت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن هَذِه لَيست بالحيضة، وَلَكِن هَذَا عرف فاغتسلي وَصلي، وَكَانَت تَغْتَسِل فِي مركن فِي حجرَة أُخْتهَا زَيْنَب بنت جحش حَتَّى تعلو حمرَة الدَّم على المَاء) وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة: (أَن سهلة بنت سُهَيْل استحيضت، فَاتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل صَلَاة، فَلَمَّا جهدها ذلكأمرها أَن تجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِغسْل، وَالْمغْرب وَالْعشَاء بِغسْل وتغتسل للصبح) وَعِنْده من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا قَالَت: (أستحيضت امْرَأَة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرت أَن تعجل الْعَصْر وتؤخر الظّهْر وتغتسل لَهما غسلا، وَأَن تُؤخر الْمغرب وتعجل الْعشَاء وتغتسل لَهما غسلا وتغتسل لصَلَاة الصُّبْح) وَعِنْده من حَدِيث عَائِشَة فِي الْمُسْتَحَاضَة: (تَغْتَسِل مرّة وَاحِدَة ثمَّ تتوضأ(3/276)
إِلَى أَيَّام اقرائها) وَفِي لفظ: [حم (فاجتنبي الصَّلَاة، أثر محيضك ثمَّ اغْتَسِلِي وتوضئي، لكل صَلَاة، وَإِن قطر الدَّم على الْحَصِير) [/ حم وَعند أبي عوَانَة الإسفرائني [حم (فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم) [/ حم وَعند التِّرْمِذِيّ مصححاً. [حم (توضئي لكل صَلَاة حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت) [/ حم وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فلندع الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فلتغتسل ولتتوضأ لكل صَلَاة) وَعند الطَّحَاوِيّ مَرْفُوعا: (فاغتسلي لطهرك وتوضئي عِنْد كل صَلَاة) وَعند الدَّارمِيّ: [حم (فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وتوضئي وَصلي) [/ حم قَالَ هِشَام: وَكَانَ أبي يَقُول: تَغْتَسِل غسل الأول، ثمَّ مَا يكون بعد ذَلِك فَإِنَّهَا تطهر وَتصلي، وَعند أَحْمد: [حم (اغْتَسِلِي وتوضئي لكل صَلَاة وَصلي) [/ حم وَقَالَ الشَّافِعِي: ذكر الْوضُوء عندنَا غير مَحْفُوظ، وَلَو كَانَ مَحْفُوظًا لَكَانَ أحب إِلَيْنَا من الْقيَاس وَفِي (التَّمْهِيد) رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن هِشَام مَرْفُوعا كَرِوَايَة يحيى عَن هِشَام سَوَاء، قَالَ فِيهِ: (وتوضئي لكل صَلَاة) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّاد ابْن سَلمَة عَن هِشَام مثله، وَحَمَّاد فِي ثِقَة ثَبت.
وَاعْلَم أَن وَطْء الْمُسْتَحَاضَة جَائِز فِي حَال جَرَيَان الدَّم عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر، وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَبكر الْمُزنِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَكَانَ زَوجهَا يَأْتِيهَا، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: لَا يَأْتِيهَا زَوجهَا، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالْحكم وَسليمَان ابْن يسَار وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَقَالَ أَحْمد لَا يَأْتِيهَا إلاَّ أَن يطول ذَلِك بهَا، وَفِي رِوَايَة: لَا يجوز وَطْؤُهَا إلاَّ أَن يخَاف زَوجهَا الْعَنَت، وَعَن مَنْصُور، تَصُوم وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا وَلَا تمس الْمُصحف وَتصلي مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل.
وَفِي وَجه للشَّافِعِيَّة: لَا تستبيح النَّافِلَة أصلا، وَمذهب الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تصلي بِطَهَارَة وَاحِدَة أَكثر من فَرِيضَة وَاحِدَة مُؤَدَّاة أَو مقضية وَحكي ذَلِك عَن عُرْوَة وَالثَّوْري وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة طَهَارَتهَا مقدرَة فِي الْوَقْت فَتُصَلِّي فِي الْوَقْت بطهارتها الْوَاحِدَة مَا شَاءَت، وَقَالَ مَالك وَرَبِيعَة وَأَبُو دَاوُد: دم الِاسْتِحَاضَة لَا ينْقض الْوضُوء فَإِذا طهرت فلهَا أَن تصلي بطهارتها مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل إلاَّ أَن تحديث بِغَيْر الِاسْتِحَاضَة، وَيصِح وضؤوها لفريضة قبل دُخُول وَقتهَا، خلافًا للشَّافِعِيّ، وَلَا يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لشَيْء من الصَّلَاة وَلَا فِي وَقت من الْأَوْقَات إلاَّ مرّة وَاحِدَة إلاَّ فِي وَقت انْقِطَاع حَيْضهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عُرْوَة وَأبي سَلمَة وَمَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد. وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَابْن الزبير أَنهم قَالُوا: يجب عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل لكل صَلَاة، وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: تَغْتَسِل كل يَوْم غسلا وَاحِدًا وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن، تَغْتَسِل من صَلَاة الظّهْر إِلَى صَلَاة الظّهْر.
فَائِدَة: كَانَ فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة من النِّسَاء مستحاضات، مِنْهُنَّ: أم حَبِيبَة بنت جحش وَسَيَأْتِي حَدِيثهَا وَزَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ وَأَسْمَاء أُخْت مَيْمُونَة لأمها وَفَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، وَحمْنَة بنت جحش، ذكرهَا أَبُو دَاوُد، وسهلة بنت سُهَيْل ذكرهَا أَيْضا، وَكَذَا زَيْنَب بنت جحش وَسَوْدَة بنت زَمعَة ذكرهَا الْعَلَاء بن الْمسيب عَن الحكم عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن، وَزَيْنَب بنت أم سَلمَة ذكرهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه لحَدِيث يحيى بن أبي كثير، وَأَسْمَاء بنت مرشد الحارثية ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ، وبادية بنت غيلَان، ذكرهَا ابْن الْأَثِير. قلت: هِيَ الثقفية الَّتِي قَالَ عَنْهَا: هيت المخنث: تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان، تزَوجهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وأبوها أسلم وَتَحْته عشرَة نسْوَة.
9 - (بابُ غَسْلِ دَمِ المَحِيضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي فِي بَيَان غسل دم الْحيض، وَفِي نُسْخَة دم الْمَحِيض، وَفِي بَعْضهَا دم الْحَائِض، وَقد ذكر فِي كتاب الْوضُوء، بَاب غسل الدَّم وَهُوَ أَعم من هَذِه التَّرْجَمَة.
الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لَا تخفى.
307 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بُنُ يُوسُفَ قالَ أخْبَرنا مالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ عَنُ أسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ أَنَّهَا قالَتْ سَأَلْتِ امْرَأَةٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إحْدَانَا إذَا أصَابَ ثَوْبَها الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ(3/277)
وَسلم إذَا أَصَابَ ثَوْبَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ فَلْتَقْرِصْهُ ثُمَّ لَتَنْضَحْهُ بِمَاءِ ثُمَّ لتُصَلِّى فِيهِ. (انْظُر الحَدِيث 227) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: فالثلاثة الأول هم المذكورون بأعيانهم فس صدر سَنَد الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَمتْن هَذَا الحَدِيث ذكره فِي بَاب غسل الدَّم، فَقَالَ: حَدثنَا بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى عَن هِشَام، قَالَ: حَدَّثتنِي فَاطِمَة عَن أَسمَاء قَالَت: (جاءة امْرَأَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت) الحَدِيث.
وَرِجَال هَذَا الحَدِيث مدنيون مَا خلا عبد الله بن يُوسُف وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعه.
10 - (بابُ الاعْتِكَافِ لِلْمُسْتَحاضَةِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان حكم الْمُسْتَحَاضَة إِذا اعتكفت، وَحكمه أَنه يجوز وَفِي بعض النّسخ بَاب الِاعْتِكَاف للمستحاضة.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، وَقد ذكرنَا أَن الِاعْتِكَاف فِي اللُّغَة هُوَ، اللّّبْث، والعكف هُوَ الْحَبْس، وَفِي الشرعهو: اللّّبْث فِي المسجدمع الصَّوْم وَنِيَّة الِاعْتِكَاف.
309 - حدّثنا إسْحاقُ قالَ حدّثنا خالِدُ بن عبد الله عَن خَالِد عَنْ عِكْرَمَةَ عَنْ عائِشَةَ أنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَكَفَ مَعهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَّ مُسْتَحَاضةُ تَرَى الدَّمَ فرُبَّما وَضعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَها مِنَ الدَّمِ وَزَعَمَ عِكْرَمَةُ أنَّ عائِشَةَ رَأْتْ ماءَ العُصْفُرِ فقالَتْ كأَنَّ هَذَا شَيْء ق كانَتْ فُلانَه تَجدُهُ.(3/278)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن شاهين، بِكَسْر الْهَاء، أَبُو بشر، بِكَسْر التَّاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة الوَاسِطِيّ، جَاوز الْمِائَة. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان أَبُو الْهَيْثَم الْمُتَصَدّق بِوَزْن نَفسه الْفضة ثَلَاث مَرَّات. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الَّذِي يُقَال لَهُ: الْحذاء، بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين واسطي وبصري ومدني. وَهُوَ: عِكْرِمَة، والحذاء هوالبصري، ومدار هَذَا الحَدِيث عَلَيْهِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُسَدّد فِي هَذَا الْبَاب وَأخرجه فِي الصَّوْم، عَن قُتَيْبَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن عِيسَى وقتيبة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة وَأبي الْأَشْعَث الْعجلِيّ وَمُحَمّد بن عبد الله بن ربيع، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن عَفَّان بن مُسلم، خمستهم عَن يزِيد بن زُرَيْع.
ذكر لغاته ومعانيه وَإِعْرَابه قَوْلهَا: (بعض نِسَائِهِ) يرفع: لِأَنَّهُ فَاعل اعْتكف. قَوْلهَا: (وَهِي مُسْتَحَاضَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا وَوجه التَّأْنِيث مَعَ أَن لَفْظَة: هِيَ، ترجع إِلَى لفظ بعض إكتساب الْمُضَاف التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو التَّأْنِيث بِاعْتِبَار مَا صدق عَلَيْهِ لفظ الْبَعْض، وَهُوَ المُرَاد، وَإِنَّمَا لحق تَاء التَّأْنِيث فِي الْمُسْتَحَاضَة، وَإِن كَانَت الْمُسْتَحَاضَة من خَصَائِص النِّسَاء للإشعار بِأَن الِاسْتِحَاضَة حَاصِلَة لَهَا بِالْفِعْلِ. قَوْلهَا: (ترى الدَّم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، صفة لَازِمَة للمستحاضة، وَهُوَ دَلِيل على أَن المُرَاد أَنَّهَا كَانَت فِي حَال الِاسْتِحَاضَة، لَا أَن من شَأْنهَا الِاسْتِحَاضَة، يَعْنِي: أَنَّهَا مُسْتَحَاضَة بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ، وَيجوز أَن تكون التَّاء لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى الإسمية، وَإِنَّمَا لم يجز أَن يُقَال المستحيضة، على بِنَاء الْمَعْلُوم، لِأَن المتبع هُوَ الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ لم يسْتَعْمل إلاَّ مَجْهُولا، كَمَا فِي نَحْو: جنّ من الجُنون. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: استحيضت الْمَرْأَة إستمر بهَا الدَّم بعد أَيَّامهَا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَة. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَا عرفنَا من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَت مُسْتَحَاضَة، قَالَ: وَالظَّاهِر أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أشارت بقولِهَا: من نِسَائِهِ، أَي: من النِّسَاء المتعلقات بِهِ، وَهِي أم حَبِيبَة بنت جحش أُخْت زَيْنَب بنت جحش زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَأَن ابْن الْجَوْزِيّ قد ذهل عَن الرِّوَايَتَيْنِ فِي هَذَا الْبَاب: إِحْدَاهمَا امْرَأَة من أَزوَاجه، وَالْأُخْرَى كَانَ بعض أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اعْتكف وَهِي مُسْتَحَاضَة، على مَا يأتيان عَن قريب، وَأَيْضًا فقد يبعد أَن يعْتَكف مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة من غير زَوْجَاته، وَإِن كَانَ لَهَا بِهِ تعلق، وَذكر ابْن عبد الْبر أَن بَنَات جحش الثَّلَاثَة كن مستحاضات، زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ، وَحمْنَة زوج طَلْحَة، وَأم حَبِيبَة زوج عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهِي الْمَشْهُورَة مِنْهُنَّ، بذلك، وَسَيَأْتِي حَدِيثهَا.
ذكرُوا فِي هَذِه المبهمة، وَهُوَ قَوْلهَا: بعض نِسَائِهِ، ثَلَاثَة أَقْوَال: فَقيل: هِيَ سَوْدَة بنت زَمعَة. وَقيل: رَملَة أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان. قيل: زَيْنَب بنت جحش الأَسدِية أول من مَاتَ من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده، وَأما على مَا زعم ابْن الْجَوْزِيّ من أَن الْمُسْتَحَاضَة لَيست أَزوَاجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد روى: فَكَانَت زَيْنَب بنت أم سَلمَة أستحيضت وَهِي لَهَا تعلق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهَا ربيبته، وَلَكِن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حِكَايَة زَيْنَب على غَيرهَا، وَهُوَ الْأَشْبَه، فَإِن زَيْنَب كَانَت صَغِيرَة فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ دخل على أمهَا فِي السّنة الثَّالِثَة وَزَيْنَب ترْضع. قَوْلهَا: (الطست) أَصله، الطس، بالتضعيف، فأبدلت إِحْدَى السينين تَاء للاستثقال، فَإِذا جمعت أَو صغرت رددت إِلَى أَصْلهَا فَقلت: طساس وطسيس، وَفِي اللُّغَة البلدية بالشين الْمُعْجَمَة، وَيجمع على طشوت. قَوْلهَا: (من الدَّم) كلمة من ابتدائية أَي: لأجل الدَّم، قَالَه الْكرْمَانِي: قلت: من، هُنَا للتَّعْلِيل قَوْلهَا: (وَزعم) فعل مَاض وفاعله، عِكْرِمَة، وَهُوَ بِمَعْنى: قَالَ قَالَ الْكرْمَانِي: أَو لَعَلَّه مَا ثَبت صَرِيح القَوْل من عِكْرِمَة بذلك، بل علم من قَرَائِن، الْأَحْوَال مِنْهُ، فَلهَذَا لم يسندالقول إِلَيْهِ صَرِيحًا وَهَذَا إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا من تَتِمَّة قَول خَالِد الْحذاء فَيكون مُسْندًا أَو هُوَ عطف من جِهَة الْمَعْنى على عِكْرِمَة أَي قَالَ خَالِد قَالَ عِكْرِمَة وَزعم عِكْرِمَة وَقَالَ بَعضهم: وَزعم مَعْطُوف على معنى العنعنة، أَي: حَدثنِي عِكْرِمَة بِكَذَا وَزعم كَذَا، وابعد من زعم أَنه مُعَلّق انْتهى. قلت: هَذَا الْقَائِل يُرِيد بذلك الرَّد على الْكرْمَانِي: فَلَا وَجه لرده، لِأَن وَجه الْكَلَام هُوَ الَّذِي قَالَه: وَتردد هَذَا الِاحْتِمَال لَا يدْفع بقوله: وَزعم، مَعْطُوف على معنى العنعنة، والعطف من أَحْكَام الظَّوَاهِر فِي الأَصْل. قَوْلهَا: (مَاء العصفر) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالفاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، وَهُوَ زهر القرطم، قَوْلهَا: (كَأَن) بتَشْديد النُّون قبلهَا همزَة. قَوْلهَا: (فُلَانَة) الطَّاهِر: أَنَّهَا هِيَ الْمَرْأَة الَّتِي ذكرت قبل، وفلانة غير منصرف كِنَايَة عَن اسْمهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فلَان وفلانة كِنَايَة عَن أَسمَاء الْإِنَاث، وَإِذا(3/279)
كنوا عَن أَعْلَام الْبَهَائِم أدخلُوا اللَّام فَقَالُوا: الفلان والفلانة. قَوْلهَا: تَجدهُ أَي: فِي زمن استحاضتها.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز اعْتِكَاف الْمُسْتَحَاضَة، وَجَوَاز صلَاتهَا لِأَن حَالهَا حَال الطاهرات، وَأَنَّهَا تضع الطست لِئَلَّا يُصِيب ثوبها أَو الْمَسْجِد وَأَن دم الِاسْتِحَاضَة رَقِيق لَيْسَ كَدم الْحيض، وَيلْحق بالمستحاضة مَا فِي مَعْنَاهَا كمن بِهِ سَلس الْبَوْل والمذي والودي، وَمن بِهِ جرح يسيل فِي جَوَاز الِاعْتِكَاف.
310 - حدّثنا قُتَيْبَةُ قالَ حدّثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خالِدٍ عَنْ عِكْرَمَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ اعْتَكَفتْ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ فكانَتْ تَرَى الدَّمَ والصُّفْرَةَ والطَّسْتُ تَحْتِهَا وَهِيَ تُصَلِّي. مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وقتيبة، بِضَم الْقَاف هُوَ ابْن سعيد، وخَالِد، هُوَ الْحذاء قَوْلهَا: (ترى الدَّم والصفرة) كِنَايَة عَن الِاسْتِحَاضَة. قَوْلهَا: (والطست تحتهَا) جملَة حَالية، وَفِي نُسْخَة، بِدُونِ الْوَاو، وَهُوَ جَائِز.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز الْحَدث فِي الْمَسْجِد بِشَرْط عدم التلويث.
11 - (بابٌ هَلْ تُصَلِّى المَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حاضَتْ فِيهِ؟)
بَاب: إِنَّمَا يكون منوناً إِذا كَانَ خير مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا بَاب فِيهِ هَل تصلي الْمَرْأَة فِي ثوبها الَّذِي حَاضَت فِيهِ؟ وَهل، اسْتِفْهَام استفسار، وسؤال، وُجُوبه مَحْذُوف تَقْدِيره يجوز، أَو نَحْو ذَلِك.
وَلَا يخفى وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ، لِأَن هَذِه الْأَبْوَاب كلهَا فِيمَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الْحيض.
312 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ نافِعٍ عَنُ ابْنِ أبي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ قالَتْ عائِشَةُ مَا كانَ لاحْدانا إلاَّ ثَوْأ واحِدٌ تَحيضُ فِيهِ فَإِذا أصابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمِ قالَتْ برِيقِها فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِها.
مُطَابقَة لترجمة الْبَاب من حَيْثُ أما من لم يكن لَهَا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ لَا شكّ أَنَّهَا تصلي فِيهِ، لَكِن بتطهيرها إِيَّاه، دلّ عَلَيْهِ قَوْلهَا: (فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم إِلَخ) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن نَافِع بالنُّون وَالْفَاء، المَخْزُومِي أوثق شيخ بِمَكَّة فِي زَمَانه الثَّالِث: عبد الله بن أبي نجيح، وَاسم أبي نجيح: يسَار ضد الْيَمين، الْمَكِّيّ. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جُبَير، تكَرر ذكره. الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين: وَفِيه: القَوْل. قيل هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع ومضطرب، أما الِانْقِطَاع فَإِن أَبَا حَاتِم وَيحيى من معِين وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَشعْبَة وَأحمد قَالُوا: إِن مُجَاهدًا لم يسمع من عَائِشَة، وَأما الِاضْطِرَاب فلرواية أبي دَاوُد لَهُ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن الْحسن بن مُسلم، بدل ابْن أبي نجيح، ورد عَلَيْهِ بِأَن البُخَارِيّ صرح بِسَمَاعِهِ مِنْهَا فِي غير هَذَا الْإِسْنَاد فِي عدَّة أَحَادِيث، وَكَذَا أثبت سَمَاعه مِنْهَا ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن حبَان مَعَ أَن الْإِثْبَات مقدم على النَّفْي، أما الِاضْطِرَاب الَّذِي ذكره فَهُوَ لَيْسَ باضطراب لِأَنَّهُ مَحْمُول على أَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع سَمعه من شيخين، وَشَيخ البُخَارِيّ أَبُو نعيم أحفظ من شيخ أبي دَاوُد وَمُحَمّد بن كثير، وَقد تَابع أَبَا نعيم، خَالِد بن يحيى وَأَبُو حُذَيْفَة والنعمان بن عبد السَّلَام فرجحت رِوَايَته، والمرجوح لَا يُؤثر فِي الرَّاجِح.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَالَ: سَمِعت الْحسن يَعْنِي أَبَا سليم يذكر عَن مُجَاهِد. قَالَ: قَالَت عَائِشَة: مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد فِيهِ(3/280)
تحيض فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها فمصعته بريقها.
ذكر مَا فِيهِ من الْمَعْنى وَالْحكم قَوْلهَا: (لإحدانا) أَي: من زَوْجَات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ الْكرْمَانِي: (فَإِن قلت:) هَذَا النَّفْي لَا يلْزم أَن يكون عَاما لكلهن لصدقه بِانْتِفَاء الثَّوْب الْوَاحِد مِنْهُنَّ. قلت: هُوَ عَام، إِذْ صدقه بِانْتِفَاء الثَّوْب لكلهن وإلاَّ لَكَانَ لإحداهن الثَّوْب فَيلْزم الْخلف، ثمَّ لفظ الْمُفْرد الْمُضَاف من صِيغ الْعُمُوم على الْأَصَح. قَوْله: (تحيض فِيهِ) جمَاعَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لثوب. قَوْلهَا: (قَالَت بريقها) يَعْنِي: صبَّتْ عَلَيْهِ من رِيقهَا، وَقد ذكرتا أَن القَوْل يسْتَعْمل فِي غير مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام أَو الْمَعْنى: بلته بريقها كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد. قَوْلهَا: (فمصعته بظفرها) يَعْنِي فركته، ومادته مِيم وصاد وَعين مهملتان وَفِي رِوَايَة: (فقصعته) بِالْقَافِ وَالصَّاد وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَمعنى: قصعته دلكته بِهِ وَمعنى قصع القملة، إِذا شدخها بَين حأظفاره وَأما قصع الرّطبَة فَهُوَ بِالْفَاءِ، وَهُوَ أَن يَأْخُذهَا بإصبعه فيغمزها أدنى غمز فَتخرج الرّطبَة خَالِصَة قشرها وَقَالَ ابْن الْأَثِير قصعته أَي: دلكته بظفرها، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ وَأما فِي الْكثير مِنْهُ، فصح عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تغسله. قلت: هم لَا يرَوْنَ بِأَن الْيَسِير من النَّجَاسَات عَفْو، وَلَا يُعْفَى عِنْدهم مِنْهَا عَن شَيْء سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا، وَهَذَا لَا يمشي إلاَّ على مَذْهَب أبي حنيفَة، فَإِن الْيَسِير عِنْده عَفْو، وَهُوَ مَا دون الدِّرْهَم، فَحِينَئِذٍ الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم حَيْثُ اختصوا فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْمَاءِ، لَا يُقَال: إِن هَذَا الحَدِيث معَارض بِحَدِيث أم سَلمَة لِأَن فِيهِ: (فَأخذت ثِيَاب حيضتي) ، وَهُوَ يدل على تعدد الثَّوْب لِإِمْكَان كَون عدم التَّعَدُّد فِيهِ فِي بَدْء الْإِسْلَام، فَإِنَّهُم كَانُوا حِينَئِذٍ فِي شدَّة وَقلة، وَلما فتح الله الْفتُوح واتسعت أَحْوَالهم اتَّخذت النِّسَاء ثيابًا للْحيض سوى ثِيَاب لبساهن، فَأخْبرت أم سَلمَة عَنهُ.
مِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز إِزَالَة النَّجَاسَة بِغَيْر المَاء فَإِن الدَّم نجس وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين وَإِن إِزَالَة النَّجَاسَة لَا يشْتَرط فِيهَا الْعدَد بل المُرَاد الاتقاء.
12 - (بابُ الَطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غَسْلِهَا مِنَ الحَيْضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْحيض، وَفِي بعض النّسخ من الْمَحِيض.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول إِزَالَة الدَّم من الثَّوْب، وَهِي التَّنْظِيف والانقاء، وَفِي هَذَا الْبَاب، التَّطَيُّب، وَهُوَ زِيَادَة التَّنْظِيف.
313 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبُدِ الوَهَّابِ قالَ حدّثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ أوْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمَ عَطِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كُنَّا نُنْهَى أنْ نُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَلَا نَكْتَحِلَ وَلا نَتَطَيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطَّهْرِ إذَا اغْتَسَلَتْ إحْدانَا مِنْ مَحِيضِها فِي نُبْذةٍ مِنْ كُسْتٍ أظْفَارِ وَكُنَّا نُنْهَى عَنُ اتِّباعِ الجَنَائِزِ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقد رخص لناعند الطُّهْر) إِلَى آخِره. وَفِيه من التَّأْكِيد حَتَّى إِنَّه رخص للمحد الَّتِي حرم عَلَيْهَا اسْتِعْمَال الطّيب.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم غير مرّة. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين الْأنْصَارِيّ أم الْهُذيْل. الْخَامِس: أم عَطِيَّة من فاضلات الصَّحَابَة، كَانَت تمرض المرضى وتداوي الْجَرْحى وتغسل الْمَوْتَى، وَاسْمهَا نسيبة بنت الْحَارِث. وَقيل: بنت كَعْب الغاسلة.
بَين لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته الْأَرْبَعَة بصريون. وَفِيه: فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وكريمة. قَالَ: حَدثنَا حما بن زيد عَن أَيُّوب، قَالَ: أَبُو عبد الله أَو هِشَام بن حسان عَن حَفْصَة وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فَكَأَنَّهُ شكّ فِي شيخ حَمَّاد، وَهُوَ أَيُّوب أَو هِشَام، وَلَيْسَ ذَلِك عِنْد بَقِيَّة الروَاة، وَلَا(3/281)
عِنْد أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَقد أورد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الطَّلَاق بِهَذَا الْإِسْنَاد فَلم يذكر ذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب بِهِ وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن أبي نعيم عَن عبد السَّلَام بن حَرْب قَالَ: وَقَالَ الْأنْصَارِيّ: أخرجه مُسلم فِيهِ عَن حسن بن الرّبيع عَن عبد الله بن إِدْرِيس وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير، وَعَن عَمْرو والناقد عَن يزِيد بن هَارُون. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن هَارُون بن عبد الله وَمَالك بن عبد الله المسمعي، كِلَاهُمَا عَن هَارُون بن عبد الله وَعَن عبد الله بن الْجراح عَن عبد الله بن بكر السَّهْمِي وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد عَن خَالِد وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر لغاته قَوْلهَا: (أَن نحد) بِضَم النُّون وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة من الْإِحْدَاد، وَهُوَ الِامْتِنَاع من الزِّينَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: أحدت الْمَرْأَة: أَي امْتنعت من الزِّينَة والخضاب بعد وَفَاة زَوجهَا، وَكَذَلِكَ حدث تحد بِالضَّمِّ، وتحد، بِالْكَسْرِ، حداداً وَهِي حاد، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي إلاَّ أحدت، فَهِيَ محدة، كَذَا فِي (الْمُحكم) وأصل هَذِه الْمَادَّة الْمَنْع، وَمِنْه قيل: البواب حداد لِأَنَّهُ يمْنَع الدُّخُول وَالْخُرُوج، وَأغْرب بَعضهم فحكاه بِالْجِيم نَحْو: جددت الشَّيْء، إِذا قطعت، فَكَأَنَّهَا قد انْقَطَعت عَن الزِّينَة عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ قبل ذَلِك. قَوْله: (ثوب عصب) بِفَتْح الْعين وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَهُوَ من برود الْيمن يصْبغ غزلها ثمَّ تنسج، وَفِي (الْمُحكم) هُوَ ضرب من برود الْيمن يعصب غزلها أَي يجمع ثمَّ يصْبغ ثمَّ ينسج، وَقيل: هِيَ مخططة. وَفِي (الْمُنْتَهى) العصب فِي اللُّغَة إحكام الْقَتْل والطي وَشدَّة الْجمع واللي وكل شَيْء أحكمته فقد عصبته، وَمِنْه أَخذ عصب الْيمن، وَهُوَ: المفتول من برودها، والعصب الْخِيَار، وَفِي (الْمُحكم) وَلَيْسَ من برود الرقم، وَلَا يجمع إِنَّمَا يُقَال: برد عصب وبرود وَعصب، وَرُبمَا اكتفوا بِأَن يَقُولُوا عَلَيْهِ العصب لِأَن الْبرد عرف بذلك زَاد فِي (الْمُخَصّص) لَا يثنى وَلَا يجمع لِأَنَّهُ أضيف إِلَى الْفِعْل، إِنَّمَا الْعلَّة فِيهِ بِالْإِضَافَة إِلَى الْجِنْس وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السَّحَاب كاللطخ، عصب، قَالَ الْقَزاز: وَكَانَ الْمُلُوك يلبسونها، وروى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أَرَادَ أَن ينْهَى عَن عصب الْيمن، وَقَالَ: تثبت أَنه يصْبغ ثمَّ بالبول، ثمَّ قَالَ: نهينَا عَن التعمق، وَفِي حَدِيث ثَوْبَان: اشْتَرِ لفاطمة قلادة من عصب، قَالَ الْخطابِيّ: إِن لم تكن الثِّيَاب اليمانية فَلَا أَدْرِي، وَمَا أرى أَن القلادة تكون مِنْهَا وَقَالَ أَبُو مُوسَى ذكر لي بعض أهل الْيمن أَنه سنّ دَابَّة بحريّة تسمى فرس فِرْعَوْن يتَّخذ مِنْهَا الخرز وَغَيره يكون أَبيض. قَوْله: (فِي نبذة) بِضَم النُّون، وَفتحهَا وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالذال الْمُعْجَمَة، وه الشَّيْء الْيَسِير، وَالْمرَاد بِهِ الْقطعَة، قَالَ ابْن سَيّده: وَالْجمع إنباذ. قَوْله: (كسبت أظفار) كَذَا هُوَ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقَالَ ابْن التِّين: صَوَابه، قسط ظفار، مَنْسُوب إِلَى ظفار، وَهِي سَاحل من سواحل عدن. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ مَدِينَة بِالْيمن، وَالَّذِي فِي مُسلم قسط وأظفار، وَهُوَ الْأَحْسَن فَإِنَّهَا نَوْعَانِ قيل: هُوَ شَيْء من الْعطر أسود الْقطعَة مِنْهُ شَبيهَة بالظفر، وَهُوَ بخور رخص فِيهِ للمغتسلة من الحيث لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة، وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: ظفار، وبفتح أَوله وَفِي آخِره رَاء مَكْسُورَة مَبْنِيّ على الْكسر، وَهُوَ مَدِينَة بِالْيمن، وَبهَا قصر الملكة، وَيُقَال: إِن الْجِنّ بنتهَا وَعَن الصغاني، ظفار فِي الْيمن أَرْبَعَة مَوَاضِع: مدينتان وحصتان أما المدينتان. فإحداهما: ظفار الحقل، كَانَ ينزلها التابعية، وَهِي على مرحلَتَيْنِ من صنعاء وإليها ينْسب الْجزع، وَالْأُخْرَى: ظفار السَّاحِل، قرب مرابط، وإليها ينْسب الْقسْط: يجلب إِلَيْهَا من الْهِنْد، والحصتان: أَحدهمَا: فِي يماني صنعاء، على مرحلَتَيْنِ؟ وَيُسمى: ظفار الواديين. وَالثَّانِي: فِي بِلَاد هَمدَان وَيُسمى: ظفار الطَّاهِر، وَفِي (الْمُحكم) الظفر ضرب من الْعطر أسود مُقَلِّب من أَصله على شكل ظفر الْإِنْسَان يوضع فِي الدخنة، وَالْجمع أظفار وأظافير. وَقَالَ صَاحب (الْعين) لَا وَاحِد لَهُ، وظفّر ثَوْبه. طيبه الظفر، وَفِي (الْجَامِع) الْأَظْفَار شَيْء من الْعطر يشبه الْأَظْفَار يتَّخذ مِنْهَا مَعَ الأخلاط وَلَا يفرد وَاحِدهَا: وَأَن أفرد فَهُوَ أظفارة. وَفِي كتاب (الطّيب) للمفضل بن سَلمَة، الْقسْط والكسط والكشط، ثَلَاث لُغَات قَالَ: وَهُوَ من طيب الأعربا، وَسَماهُ ابْن البيطار فِي كتاب (الْجَامِع) راسناً أَيْضا وَفِي كتاب أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ، قَالَ الْأَزْهَرِي، واحده ظفر، وَقَالَ غَيره الْأَظْفَار، شَيْء من الْعطر وَقَالَ الإِمَام إِسْمَاعِيل: الْأَظْفَار شَيْء يتداوى بِهِ كَأَنَّهُ عود وَكَأَنَّهُ يثقب وَيجْعَل فِي القلادة، وَفِي أثبت الرِّوَايَات: (من جزع ظفار) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (ظفاري) .
ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه قَوْلهَا: (كُنَّا ننهى) ، بِضَم النُّون الأولى على صِيغَة الْمَجْهُول، والناهي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا دلّت عَلَيْهِ(3/282)
رِوَايَة هِشَام الْمُعَلقَة الْمَذْكُورَة فِي آخر الحَدِيث، وَهَذِه الصِّيغَة فِي حكم الْمَرْفُوع، وَكَذَلِكَ، كنار وَكَانُوا، وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ وَقع فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقررهم عَلَيْهِ فَهُوَ مَرْفُوع. معنى: قَوْله: (أَن تحد) كلمة أَن مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: كُنَّا ننهى عَن الْإِحْدَاد. قَوْله: (فَوق ثَلَاث) يَعْنِي بِهِ اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامهَا وَلذَلِك أنث الْعدَد. قَوْله: (إِلَّا على زوج) كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: إلاَّ على زَوجهَا الأول مُوَافق للفظ: تحد غَائِبَة. وَالثَّانِي: بِصِيغَة الْمُتَكَلّم قَالَه الْكرْمَانِي: وَيُقَال: تَوْجِيه الثَّانِي أَن الضَّمِير يعود على الْوَاحِدَة المندرجة فِي قَوْلهَا: (كُنَّا ننهى) أَي: كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ. قَوْله: (وَعشرا) أَي: عشر لَيَال، إِذا وَأُرِيد بِهِ الْأَيَّام لقيل: ثَلَاثَة بِالتَّاءِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي قَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} (سُورَة الْبَقَرَة: 234) لَو قلت فِي مثله: عشرَة، لخرج من كَلَام الْعَرَب، لَا نراهم قطّ يستعملون التَّذْكِير فِيهِ، وَقَالَ الْفرق بَين الْمُذكر والمؤنث فِي الإعداد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر الْمُمَيز أما لَو لم يذكر جَازَ فِيهِ التَّاء وَعَدَمه مُطلقًا فَإِن قلت: وَعشرا مَنْصُوب بِمَاذَا؟ قلت: هُوَ عطف على قَوْله: أَرْبَعَة وَهُوَ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَلَا تكتحل) بِالرَّفْع، ويروي بِالنّصب، فتوجيهه أَن تكون لَا زَائِدَة وتأكيداً فَإِن قلت: لَا، لاتؤكد إلاَّ إِذا تقدم النَّفْي عَلَيْهِ. قلت: تقدم معنى النَّفْي وَهُوَ النَّهْي. قَوْله: (وَقد رخص) أَي: التَّطَيُّب.
ذكر استنباط الْأَحْكَام. الأول: وجوب الْإِحْدَاد على كل من هِيَ ذَات زوج، سَوَاء فِيهِ الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا، وَالصَّغِيرَة والكبيرة، وَالْبكْر وَالثَّيِّب، والحرة وَالْأمة، وَعند أبي حنيفَة: لَا إحداد على الصَّغِيرَة وَلَا على الزَّوْجَة الْأمة، وَأَجْمعُوا أَن لَا إحداد على أم الْوَلَد وَالْأمة إِذا توفّي عَنْهَا سَيِّدهَا، وَلَا على الرَّجْعِيَّة، وَفِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا قَولَانِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالْحكم أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد، وَهُوَ قَول ضَعِيف للشَّافِعِيّ، وَقَالَ عَطاء وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر: بِالْمَنْعِ، وَحكي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة وَلَا على المتوفي عَنْهَا زَوجهَا، وَهُوَ شَاذ وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على وجوب الْإِحْدَاد، إلاَّ الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِب، وَتعلق أَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَمَالك فِي أحد قوليه، وَابْن كنَانَة وَابْن نَافِع وَأَشْهَب بِأَن لَا إحداد على الْكِتَابِيَّة المتوفي عَنْهَا زَوجهَا الْمُسلم بقوله فِي الحَدِيث: (لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد) الحَدِيث، وَقَالَ الشَّافِعِي وَعَامة أَصْحَاب مَالك: عَلَيْهَا الْإِحْدَاد سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا. فَإِن قلت: لم خص الْأَرْبَعَة الْأَشْهر وَالْعشرَة؟ قلت: لِأَن غَالب الْحمل تبين حركته فِي هَذِه الْمدَّة، وأنث الْعشْر، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَيَّام بلياليها، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ مَا حُكيَ عَن يحيى بن أبي كثير، والأزاعي أَنه أَرَادَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر لَيَال، وَإِنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَعند الْجُمْهُور: لَا تحل حَتَّى تدخل اللَّيْلَة الْحَادِي عشر، وَهَذَا خرج على غَالب أَحْوَال المعتدات أَنَّهَا تَعْتَد بِالْأَشْهرِ، أما إِذا كَانَت حَامِلا فعدتها بِالْحملِ ويلزمها الْإِحْدَاد فِي جَمِيع الْمدَّة حَتَّى تضع، سَوَاء قصرت الْمدَّة أم طَالَتْ، فَإِذا وضعت فَلَا إحداد بعده وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يلْزمهَا الْإِحْدَاد بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَإِن لم تضع الْحمل.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم الْكحل سَوَاء احْتَاجَت إِلَيْهِ أم لَا، وَجَاء فِي (الْمُوَطَّأ) وَغَيره عَن أم سَلمَة: إجعليه بِاللَّيْلِ وامسحيه بِالنَّهَارِ. وَوجه الْجمع إِذا لم تحتج إِلَيْهِ لَا يحل لَهَا فعله، وَإِن احْتَاجَت لم يجز بِالنَّهَارِ دون اللَّيْل، وَالْأولَى تَركه لحَدِيث: إِن ابْنَتي اشتكت عينهَا أفنكحلها؟ قَالَ: لَا، وَلِهَذَا إِن سالما وَسليمَان بن يسَار قَالَا: إِذا خشيت على بصرها إِنَّهَا تكتحل وتتداوى بِهِ وَإِن كَانَ مطيباً، وَجوزهُ مَالك فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ تكتحل بِغَيْر مُطيب وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَالْمرَاد بالكحل الْأسود والأصفر، أما الْأَبْيَض كالتوتيا وَنَحْوه فَلَا تَحْرِيم فِيهِ عِنْد أَصْحَابنَا إِذْ لَا زِينَة فِيهِ، وَحرمه بَعضهم على الشعْثَاء حَتَّى تتزين.
الثَّالِث: فِيهِ تَحْرِيم الطّيب، وَهُوَ مَا حرم عَلَيْهَا فِي حَال الْإِحْرَام وَسَوَاء ثوبها وبدنها. وَفِي (التَّوْضِيح) يحرم عَلَيْهَا أَيْضا كل طَعَام فِيهِ طيب.
الرَّابِع: فِيهِ تَحْرِيم لبس الثِّيَاب المعصفرة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء، على أَنه لَا يجوز للحادة لبس الثِّيَاب المعصفرة والمصبغة، إلاَّ مَا صبع بسواد، فَرخص فِيهِ عُرْوَة العصب، وَأَجَازَهُ الزُّهْرِيّ وَأَجَازَ مَالك تخليطه، وَصحح الشَّافِعِيَّة تَحْرِيم البرود مُطلقًا، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لمن أجَازه نعم، أجازوه فِيمَا إِذا كَانَ الصَّبْغ لَا يقْصد بِهِ الزِّينَة، بل يعْمل للمصيبة وَاحْتِمَال الْوَسخ كالأسود، والكحل، بل هُوَ أبلغ فِي الْحداد بل حكى الْمَاوَرْدِيّ وَجها أَنَّهَا يلْزمهَا فِي الْحداد، أَعنِي: الْأسود.
الْخَامِس: فِيهِ الترخيص للحادة إِذا اغْتَسَلت من الْحيض لإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة، وَقَالَ النَّوَوِيّ وَلَيْسَ الْقسْط والظفرة مَقْصُودا للتطييب، وَإِنَّمَا رخص فِيهِ لإِزَالَة الرَّائِحَة، وَقَالَ الْمُهلب: رخص لَهَا(3/283)
فِي التبخرية لدفع رَائِحَة الدَّم عَنْهَا، لما تستقبله من الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: أُبِيح للحائض، محداً أَو غير محد عِنْد غسلهَا من الْحيض أَن تدرأ رَائِحَة الدَّم عَن نَفسهَا بالبخور بالقسد مُسْتَقْبلَة للصَّلَاة ومجالسة الْمَلَائِكَة لِئَلَّا تؤذيهم رَائِحَة الدَّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) الْمَقْصُود بِاسْتِعْمَال الْمسك إِمَّا تطييب الْمحل وَدفع الرَّائِحَة الكريهة، وَإِمَّا كَونه أسْرع إِلَى علوق الْوَلَد، أَن قُلْنَا بِالْأولِ يقوم مقَامه الْقسْط والأظفار، وشبههما. قلت: كَلَامه يدل على أَن الْأَظْفَار، بِالْهَمْز، طيب لَا مَوضِع.
السَّادِس: فِيهِ تَحْرِيم إتباع النِّسَاء الْجَنَائِز، وسنذكره مفصلا فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قالَ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمَّ عَطِيَّةَ عَنِ النَّبيِّ لله
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره وَرَوَاهُ، أَي: روى هِشَام الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مَوْصُول، وَرَوَاهُ فِي كتاب الطَّلَاق مَوْصُولا من حَدِيث هِشَام الْمَذْكُور على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا مقول حَمَّاد، فَيكون مُسْندًا قلت: قَوْله إِمَّا تَعْلِيق فَظَاهر. وَأما قَوْله: وَإِمَّا مقول حَمَّاد فَلَا وَجه لَهُ وَفِي نُسْخَة ذكر البُخَارِيّ حَدِيث هِشَام أَولا وَفِي بَعْضهَا ذكره آخر أَو قَالَ مُسلم فِي (صَحِيحه) حَدثنَا حسن بن الرّبيع حَدثنَا ابْن إِدْرِيس: قَالَ: حَدثنَا هِشَام عَن حَفْصَة بِهِ، وَفَائِدَته بَيَان أَن أم عَطِيَّة أسندته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرِيحًا، وَكَذَا هُوَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالنَّسَائِيّ ابْن مَاجَه من حَدِيث هِشَام مُسْندًا. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر: (توفّي ابْن لأم عَطِيَّة، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث دعت بصفرة فتمسحت بِهِ، وَقَالَت: نهينَا أَن نحد أَكثر من ثَلَاث إلاَّ لزوج) وَعند الطَّبَرَانِيّ: (وأمرنا أَن لَا نلبس فِي الْإِحْدَاد الثِّيَاب المصبغة إلاَّ العصب، وأمرنا أَن لَا نمس طيبا إلاَّ أدناه للطهرة، الكست والأظفار) وَفِي لفظ: (وَلَا نختضب) وَفِي لفظ: (إلاَّ ثوبا مغسولاً) .
13 - (بابُ دَلْكِ المَرْأَةِ نَفْسَها أذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ المَحِيضِ وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب ذَلِك الْمَرْأَة نَفسهَا إِذا تطهرت من الْمَحِيض، أَي: الْحيض. قَوْله: (وَكَيف تَغْتَسِل) عطف على قَوْله: (دلك الْمَرْأَة نَفسهَا) أَي: وَفِي بَيَان كَيفَ تَغْتَسِل الْمَرْأَة. قَوْله: (وَتَأْخُذ) عطف على قَوْله: (تَغْتَسِل) أَي: وَكَيف تَأْخُذ فرْصَة، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَهِي الْقطعَة، يُقَال فرصت الشَّيْء فرصاً أَي: قطعته، وَقَالَ الْجَوْهَرِي هِيَ قِطْعَة قطن أَو خرقَة تمسح بهَا الْمَرْأَة من الْحيض. قَوْله: (ممسكة) بتَشْديد السِّين وَفتح الْكَاف، وَلها مَعْنيانِ: أَحدهمَا: قِطْعَة فِيهَا مسك. وَالْآخر: خرقَة مستعملة بالإمساك عَلَيْهَا، على مَا سنوضح ذَلِك عَن قريب. قَوْله: (فتتبع بهَا) أَي: بِتِلْكَ الفرصة وَفِي بعض النّسخ: (تتبعبدون الْفَاء، وَهُوَ بِلَفْظ الغائبة مضارع الْفِعْل، وَأَصله بالتاآت الثَّلَاث، فحذفت إِحْدَاهَا فَافْهَم.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة فِي كل مِنْهُمَا اسْتِعْمَال الطّيب.
314 - حدّثنا يَحْيَىَ قالَ حدّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَةَ عَنْ أُمَّهُ عَنْ عائِشَةَ أنَّ امرَأَةَ سَأَلَتْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ غُسْلِها مِنَ المَحِيضِ فَأَمَرها كَيْفَ تَغْتَسِلُ قالَ خُذِي فُرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتٍّ طَهَّرِي بِا قالَتْ كَيْفَ تَطَهَّرُ قالَ تَطَهَّرِي بِها قالَتْ كَيْفَ قالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي فاجْتبَذْتُها إلَيَّ فقُلْتُ تَنَبَّعِي بِها أَثَرَ الدَّمَ.
ي: 315، 7357) [/ ح.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إلاَّ فِي الدَّلْك وَكَيْفِيَّة الْغسْل صَرِيحًا، لِأَن التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على الدَّلْك أَولا، وَكَيْفِيَّة الْغسْل وَأخذ الفرصة الممسكة، والتتبع بهَا أثر الدَّم، والْحَدِيث أَيْضا مُشْتَمل على هَذِه الْأَشْيَاء مَا خلا الدَّلْك، وَكَيْفِيَّة الْغسْل، فَإِنَّهُ لَا يدل عَلَيْهَا صَرِيحًا، وَيدل على الدَّلْك بطرِيق الاستلزام، لِأَن تتبع الدَّم يسْتَلْزم الدك، وَهُوَ طَاهِر، وَأما كَيْفيَّة الْغسْل فَالْمُرَاد بهَا الصّفة المختصة لغسل الْمَحِيض، وهوالتطيب لانفس الِاغْتِسَال، وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد بالكيفية نفس الْغسْل فَهِيَ(3/284)
فِي أصل الحَدِيث الَّذِي ذكره وَاكْتفى بِهِ على عَادَته بِذكر تَرْجَمَة، وَيذكر فِيهَا مَا تضمنه بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ إِمَّا لكَون تِلْكَ الطَّرِيق على غير شَرطه، أَو باكتفائه بِالْإِشَارَةِ أَو لغير ذَلِك من الْأَغْرَاض، وَتَمَامه عِنْد مُسلم، فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور الَّتِي أخرجه مِنْهَا البُخَارِيّ فَذكره بعد قَوْله: (كَيفَ تَغْتَسِل، ثمَّ تَأْخُذ) ، ثمَّ رَوَاهُ من طرق أُخْرَى عَن صَفِيَّة عَن عَائِشَة، وفيهَا كَيْفيَّة الِاغْتِسَال وَلَفظه: (فَقَالَ: تَأْخُذ إحداكن ماءها وسدرها فَتطهر فتحسن الطّهُور ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه دلكا شَدِيدا حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا. (أَي: أُصُوله ثمَّ تصب عَلَيْهَا المَاء، ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة) فَذكر الحَدِيث، وَإِنَّمَا لم يخرج البُخَارِيّ هَذَا الطَّرِيق لكَونه من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن صَفِيَّة، وَلَيْسَ هُوَ على شَرطه وَقَالَ البُخَارِيّ عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ لإِبْرَاهِيم هَذَا نَحْو أَرْبَعِينَ حَدِيثا وَقَالَ ابْن مهْدي: قَالَ سُفْيَان: لَا بَأْس بِهِ وَقَالَ أَحْمد لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ يحيى بن سعيد الْقطَّان: لم يكن يُقَوي، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الضُّعَفَاء.
ذكر رِجَاله وهم حمسة: الأول: يحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْبَلْخِي، وَجزم بِهِ ابْن السكن فِي رِوَايَته عَن الْفربرِي، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ هُوَ يحيى بن جَعْفَر. وَقَالَ الغساني: فِي (تَقْيِيد المهمل) قَالَ ابْن السكن: يحيى هُوَ ابْن عُيَيْنَة الْمَذْكُور فِي بَاب الْحيض هُوَ: يحيى ابْن مُوسَى، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ على سَبِيل الْقَاعِدَة الْكُلية، كل مَا كَانَ للْبُخَارِيّ فِي هَذَا الصَّحِيح عَن يحيى غير مَنْسُوب فَهُوَ يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي المعروق ببخت، بِفَتْح الْخَاء المنقوطة وَشدَّة الْمُثَنَّاة من فَوق؛ وَيعرف بالخنثى، وبابن خت أَيْضا، كَانَ من خِيَار الْمُسلمين، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ: وَذكر أَبُو نصر الكلاباذي أَنه يحيى بن جَعْفَر أَي: البيكندي، يروي عَن ابْن عُيَيْنَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ الَّتِي عندنَا هَكَذَا: حَدثنِي يحيى بن البيكندي: حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَوَقع فِي شرح بعض شُيُوخنَا، حَدثنَا يحيى يَعْنِي ابْن مُعَاوِيَة بن أعين، وَلَا أعلم فِي البُخَارِيّ من اسْمه كَذَلِك وَفِي (أَسمَاء رجال الصَّحِيحَيْنِ) يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الحذائي الْبَلْخِي: يُقَال لَهُ: خت، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَالْحج ومواضع، وَذكر ابْن مَاكُولَا فِي بَاب: خت وخب وثب، أما خت بخاء مُعْجمَة وتاء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ من فَوْقهَا. فَهُوَ يحيى بن مُوسَى يعرف بِابْن الْبَلْخِي بِابْن خت الْبَلْخِي. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مَنْصُور بن صَفِيَّة. الرَّابِع: صَفِيَّة بنت شيبَة. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَوَقع فِي (مُسْند الْحميدِي) التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ فِي جَمِيع السَّنَد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن وهيب، وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن عُيَيْنَة عَن فضل بن سُلَيْمَان، وَفِيهِمَا جَمِيعًا عَن يحيى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ مَنْصُور بن صَفِيَّة، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ عَن حبَان بن هِلَال عَن وهيب بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد عَن عَفَّان عَن وهيب بِهِ.
ذكر لغاته قَوْله: (فرْصَة) الْمَشْهُور فِيهِ كسر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء. قَالَ مُسَدّد كَانَ أَبُو عوَانَة يَقُول: فرْصَة، وَكَانَ أَبُو الْأَحْوَص يَقُول: فرْصَة وَقَالَ ابْن سَيّده: فرص الْجلد فرصاً، قِطْعَة، والمفراص الحديدة الَّتِي يقطع بهَا، والفرصة والفرصة والفرصة الأخيرتان عَن كرَاع الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن، وَقَالَ كرَاع، هِيَ: الفرصة: بِالْفَتْح والفرصة، الْقطعَة من الْمسك عَن الْفَارِسِي، حَكَاهُ فِي البصريات، وَقَالَ أبوعلي الهجري فِي كتاب (الأمالي) وَقد فرص يفرص لزيد من حَقه يَعْنِي قطع لَهُ مِنْهُ شَيْئا وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يفرص وأفرص لزيد فريصة من حَقه، بجر الْفَاء لَا اخْتِلَاف فِيهَا، وافترص لي من حَقي فرْصَة، الفرصة الْخِرْقَة الَّتِي تستعملها الْحَائِض لتعرق التبرأة ونقاءها عِنْد الْحيض فِي آخِره وَفِي (غَرِيب) أبي عبيد هِيَ: الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن أَو غير ذَلِك. وَفِي (الباهر) لِابْنِ عديس، والفرص بِالْكَسْرِ وَالصَّاد: جمع الفرصة، وَهِي الْقطعَة من الْمسك، وَأنكر ابْن قُتَيْبَة كَونهَا بِالْفَاءِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ فرْصَة بِالْقَافِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهِي الْقطعَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا هِيَ: فرْصَة، بقاف وصاد مُهْملَة وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ أَي شَيْئا يَسِيرا مثل الفرصة، بِطرف الإصبعين. قَوْله: (من مسك) يَعْنِي دم الغزال الْمَعْرُوف. وَقَالَ بَعضهم: ميمه مَفْتُوحَة، أَي: جلد عَلَيْهِ شعر. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وأنكرها ابْن قُتَيْبَة وَقَالَ: الْمسك لم يكن عِنْدهم من(3/285)
السعَة بِحَيْثُ يمتهنونه فِي هَذَا، وَالْجَلد لَيْسَ فِيهِ مَا يُمَيّز غَيره فَيخْتَص بِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ فرْصَة من شَيْء صوف أَو قطن أَو خرقَة أَو نَحوه، يدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فرْصَة ممسكة بِضَم الْمِيم الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد السِّين مَعَ فتحهَا: أَي قِطْعَة من صوف أَو نَحْوهَا مطيبة بالمسك، وروى بَعضهم: ممسكة، بِضَم الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وسين مُخَفّفَة مَفْتُوحَة، وَقيل: مكسوة أَي: من الْإِمْسَاك وَفِي بعض الرِّوَايَات: (خذي فرْصَة ممسكة فتحملي بهَا) قيل: أَرَادَ الْخلق الَّتِي أَمْسَكت كثيرا. فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن لَا تسْتَعْمل الْجَدِيد من الْقطن وَغَيره للارتقاق بِهِ، وَلِأَن الْخلق أصلح لذَلِك، وَوَقع فِي كتاب عبد الرَّزَّاق يَعْنِي بالفرصة: الْمسك، قَالَ بَعضهم هِيَ: الذريرة، وَفِي الْأَوْسَط للطبراني: (خذي سكيكك) .
ذكر مَعَانِيه قَوْلهَا: (إِن امْرَأَة) زَاد فِي رِوَايَة وهيب: (من الْأَنْصَار) وسماها مُسلم فِي رِوَايَة الْأَحْوَص عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر أَسمَاء بنت شكل، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْكَاف وَفِي آخِره لَام، وَلم يسم أَبَاهَا فِي رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة عَن إِبْرَاهِيم. وَقَالَ الْخَطِيب: أَسمَاء بنت يزِيد، وَجزم بِهِ الْأَنْصَارِيَّة الَّتِي يُقَال لَهَا خطيبة النِّسَاء وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّنْقِيح) والدمياطي وَزَاد أَن وَقع فِي مُسلم تَصْحِيف، وَيحْتَمل أَن يكون شكل، لقيا لَا إسماً، وَالْمَشْهُور فِي المسانيد والمجامع فِي هَذَا الحَدِيث أَسمَاء بنت شكل، كَمَا فِي مُسلم، وَأَسْمَاء بِغَيْر نسب كَمَا فِي أبي دَاوُد، وَكَذَا فِي (مستخرج) أبي نعيم من الطَّرِيق الَّتِي أخرجه مِنْهَا الْخَطِيب، وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) الْوَجْهَيْنِ من غير تَرْجِيح، وَتبع رِوَايَة مُسلم جماعات مِنْهُم ابْن طَاهِر وَأَبُو مُوسَى فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة، وَصوب بعض الْمُتَأَخِّرين مَا قَالَه الْخَطِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَنْصَار من اسْمه، شكل، وَفِي (التَّوْضِيح) بنت يزِيد، وَلم ينْفَرد مُسلم بذلك،، فقد أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجه) كَمَا ذكره مُسلم سَوَاء، قَوْلهَا: (من الْمَحِيض) وَفِي رِوَايَة: (من الْحيض) وَكِلَاهُمَا مصدران قَوْلهَا: (قَالَ: خذي) هُوَ بَيَان لأمرها وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يكون بَيَانا للاغتسال وَهُوَ إِيصَال المَاء إِلَى جَمِيع الْبشرَة لَا أَخذ الفرصة؟ قلت: السُّؤَال لم يكن عَن نفس الِاغْتِسَال، لِأَن ذَلِك مَعْلُوما لكل أحد، بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك مُخْتَصًّا بِغسْل الْحيض فَلذَلِك أجَاب بِهِ، أَو هُوَ جملَة حَالية لَا بَيَانِيَّة انْتهى. قلت: هَذَا الْجَواب غير كَاف لِأَنَّهَا سَأَلت عَن غسلهَا من الْمَحِيض، وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ سؤالاً عَن مَاهِيَّة الِاغْتِسَال، فَلذَلِك قَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه إِيَّاهَا: فَأمرهَا كَيفَ تَغْتَسِل، يَعْنِي قَالَ لَهَا: اغْتَسِلِي كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا بِمَعْنَاهُ ثمَّ قَول: (خذي فرْصَة من مسك) لَيْسَ بِبَيَان للاغتسال الْمَعْهُود، وَقَوله لِأَن ذَلِك مَعْلُوم لكل أحد. فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن لَا يكون مَعْلُوما لَهَا على مَا يَنْبَغِي، أَو كَانَ فِي اعتقادها أَن الْغسْل عَن الْمَحِيض خلاف الْغسْل عَن الْجَنَابَة، فَلذَلِك قَالَت عَائِشَة: سَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن غسلهَا من الْمَحِيض، وَالْأَوْجه عِنْدِي أَن الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ مُخْتَصر عَن أصل هَذَا الحَدِيث، وَفِيه بَيَان كَيْفيَّة الْغسْل وَغَيره على مَا رَوَاهُ مُسلم: أَن أَسمَاء سَأَلت عَن غسل الْمَحِيض. فَقَالَ: تَأْخُذ إحداكن ماءها وسدرها فَتطهر فتحسن الطّهُور، ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه دلكا شَدِيدا حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا، ثمَّ تصب عَلَيْهَا المَاء، ثمَّ تَأْخُذ فرْصَة ممسكة فَتطهر بهَا، فَقَالَت أَسمَاء: وَكَيف أتطهر بهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله تطهرين بهَا. فَقَالَت عَائِشَة، كَأَنَّهَا تحفى ذَلِك: تتبعين بهَا أثر الدَّم، وَسَأَلته غسل الْجَنَابَة فَقَالَ: تَأْخُذ مَاء، فَتطهر فتحسن الطّهُور، أَو تبلغ الطّهُور ثمَّ تصب على رَأسهَا فتدلكه حَتَّى تبلغ شؤون رَأسهَا ثمَّ تفيض عَلَيْهَا المَاء. فَقَالَت عَائِشَة: نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار لم يكن يمنعهن الْحيَاء أَن يتفقهن فِي الدّين. قَوْلهَا: (فتطهري بهَا) قَالَ: فِي الرِّوَايَة الَّتِي بعْدهَا: (فتوضئي ثَلَاثًا) . قَوْله: (سُبْحَانَ الله) وَزَاد فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة، (ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استحيا فَأَعْرض بِوَجْهِهِ) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَلَمَّا رَأَيْته يستحي علمتها) وَزَاد الدَّارمِيّ: (وَهُوَ يسمع وَلَا يُنكر) ، وَقد ذكرنَا: أَن: سُبْحَانَ الله، فِي مثل هَذَا الْموضع يُرَاد بهَا التَّعَجُّب، وَمعنى التَّعَجُّب هُنَا: كَيفَ يحفى مثل هَذَا الظَّاهِر الَّذِي لَا يحْتَاج الْإِنْسَان فِي فهمه إِلَى فكر؟ قَوْله: (فجذبتها) وَفِي بعض الرِّوَايَة: (فاجتبذنها) وَفِي رِوَايَة: (فاجتذبتها) يُقَال: جذبت واجتذبت واجتبذ، وَهُوَ مقول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (تتبعي) أَمر من التتبع، وَهُوَ المُرَاد من تطهري. قَوْله: (أثر الدَّم) مقول: تتبعي، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِهِ عِنْد الْعلمَاء، الْفرج، وَقَالَ المحاميل: يسْتَحبّ لَهَا أَن تطيب كل مَوضِع أَصَابَهُ الدَّم من بدنهَا، قَالَ، وَلم أره لغيره، وَيُؤَيّد مَا قَالَه الْمحَامِلِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، (تتبعي بهَا مَوَاضِع الدَّم) .(3/286)
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: اسْتِحْبَاب التَّطَيُّب للمغتسلة من الْحيض وَالنّفاس على جَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَهَا الدَّم من بدها قَالَ المحالي: لِأَنَّهُ أسْرع إِلَى الْعلُوق وأدفع للرائحة الكريهة، وَاخْتلف فِي وَقت اسْتِعْمَالهَا لذَلِك: فَقَالَ بَعضهم: بعد الْغسْل، وَقَالَ آخرونه قبله. وَفِيه: أَنه لَا عَار على من سَأَلَ عَن أَمر دينه. وَفِيه: اسْتِحْبَاب تطييب فرج الْمَرْأَة يَأْخُذ قِطْعَة من صوف وَنَحْوهَا، وَتجْعَل عَلَيْهَا مسكاً أَو نَحوه وَتدْخلهَا فِي فرجهَا بعد الْغسْل، وَالنُّفَسَاء مثلهَا. وَفِيه: التَّسْبِيح عِنْد التَّعَجُّب. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْكِنَايَات بِمَا يتَعَلَّق بالعورات. وَفِيه: سُؤال الْمَرْأَة الْعَالم عَن أحوالها الَّتِي تحتشم مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة فِي نسَاء الْأَنْصَار: (لم يمنعهن الحاير أَن يتفقهن فِي الدّين) وَفِيه الِاكْتِفَاء بالتعريض وَالْإِشَارَة فِي الْأُمُور المستهجنة. وَفِيه: تَكْرِير الْجَواب لإفهام السَّائِل. وَفِيه: تَفْسِير كَلَام الْعَالم بِحَضْرَتِهِ لمن خَفِي عَلَيْهِ إِذا عرف أَن ذَلِك يُعجبهُ. وَفِيه: أَن السَّائِل إِذا لم يفهم فهمه بعض من فِي مجْلِس الْعَالم والعالم يسمع، وَأَن ذَلِك سَماع من الْعَالم يجوز أَن يَقُول فِيهِ: حَدثنِي وَأَخْبرنِي. وَفِيه: الْأَخْذ عَن الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل وحضرته. وَفِيه: صِحَة الْعرض على الْمُحدث إِذا أقره، وَلَو لم يقل عَقِيبه نعم. وَفِيه: أَنه لَا يشْتَرط فهم السَّامع لجَمِيع مَا يسمعهُ. وَفِيه: الرِّفْق بالمتعلم وَإِقَامَة الغذر لمن لَا يفهم. وَفِيه: أَن الْمَرْء مَطْلُوب بستر عيوبه. وَفِيه: دلَالَة على حسن خلقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
14 - (بابُ غُسْلِ المَحِيضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْغسْل من الْحيض، وَغسل الْمَرْأَة من الْحيض كغسلها من الْجَنَابَة سَوَاء، غير أَنَّهَا تزيد على ذَلِك اسْتِعْمَال الطّيب، وَهَذَا الْبَاب فِي الْحَقِيقَة لَا فَائِدَة فِي ذكره، لِأَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَن ذَلِك عَن يحيى عَن ابْن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور، وَهَذَا عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن وهيب بن خَالِد عَن مَنْصُور.
315 - حدّثنا مُسْلِمٌ قالَ حدّثنا وُهَيْبٌ حدّثنا مَنْصُورٌ عَنْ أُمَّهِ عَنْ عائِشَةَ أنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قالَتْ ل لنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيْفَ اغْتَسِلُ مِنَ المَحيضِ قالَ خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةٌ فَتَوَضَئِي ثَلَاثًا ثُمَّ أنَّ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَحْيَا فاعْرِضَ بِوَجْهِهِ أَو قالَ تَوَضَئِي بِهَا فَاخَذْتُهَا فَجَذِبْتَها فأخْبَرْتُها بِمَا يُرِيدُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(انْظُر الحَدِيث 314 وطرفه) [/ ح.
قيل: التَّرْجَمَة لغسل الْمَحِيض، والْحَدِيث لم يدل عَلَيْهَا فَلَا مُطَابقَة. قلت: إِن كَانَ لفظ الْغسْل فِي التَّرْجَمَة بِفَتْح الْغَيْن، والمحيض اسْم مَكَان، فَالْمَعْنى ظَاهر، وَإِن كَانَ بِضَم الْغَيْن والمحيض مصدر فالإضافة بِمَعْنى اللَّام الاختصاصية، فَلهَذَا ذكر خَاصَّة هَذَا الْغسْل وَمَا بِهِ يمتاز عَن سَائِر الِاغْتِسَال.
الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ قد مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (وتوضئي ثَلَاثًا) وَفِي بَعْضهَا: فتوضئي. قَوْله: (ثَلَاثًا) يتَعَلَّق: يُقَال، أَي: يُقَال ثَلَاث مَرَّات لَا تتوضئي، وَيحْتَمل تعلقه بقالت أَيْضا بِدَلِيل الحَدِيث الْمُتَقَدّم. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من عَائِشَة، وَالْفرق بَين الرِّوَايَتَيْنِ زِيَادَة لَفظه بهَا يَعْنِي: تطهري بالفرصة، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر بِالْوَاو من غير شكّ. قَوْله: (مِمَّا يُرِيد) أَي: يتتبع أثر الدَّم وَإِزَالَة الرَّائِحَة الكريهة من الْفرج.
15 - (بابُ امْتِشاطِ المَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِها مِنَ المَحِيضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان امتشاط الْمَرْأَة، وَهُوَ تَسْرِيح رَأسهَا عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض أَي: الْحيض.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي كل مِنْهُمَا مَا يشْعر بِزِيَادَة التَّنْظِيف والنقاء، وَلَا يحفى ذَلِك على المتأمل.
316 - حدّثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ قالَ حدّثنا ابْنُ شِهابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَن عائِشَةَ قالَتْ أهْلْلتُ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقِ الهَدْيَ فَزَعَمَتْ أنَّها حاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ فقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ هاذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ وَإنَّما كُنْتُ تَمَتَّعْتُ فَقَالَ لَها رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي(3/287)
وأَمْسِكِي عَنْ عَمْرتِكِ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمانِ لَيْلَةَ الحَصبةِ فَأَعْمَرَنِي مِنَ التَّنْعيمِ مَكانَ عَمْرَتِي الَّتي نَسَكْتُ.
قَالَ الدَّاودِيّ وَمن تبعه لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على التَّرْجَمَة لِأَن أمرهَا بالامتشاط كَانَ للإهلال وَهِي حَائِض، لَا عِنْد غسلهَا أجَاب الْكرْمَانِي عَن هَذَا بِأَن الْإِحْرَام بِالْحَجِّ يدل على غسل الْإِحْرَام لِأَنَّهُ سنة، وَلما سنّ الامتشاط عِنْد غسله فَعِنْدَ غسل الْحيض بِالطَّرِيقِ الأولى، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ التَّنْظِيف، وَذَلِكَ عِنْد إِرَادَة إِزَالَة أثر الْحيض الَّذِي هُوَ نَجَاسَة غَلِيظَة أهم أَو لأنَّه إِذا سنّ فِي النَّفْل فَفِي الْفَرْض أولى، وَقيل: إِن الإهلال بِالْحَجِّ يَقْتَضِي الِاغْتِسَال صَرِيحًا فِي هَذِه الْقِصَّة، فِيمَا أخرجه مُسلم من طَرِيق ابْن الزبير عَن جَابر وَلَفظه: (فاغتسلي ثمَّ أَهلِي بِالْحَجِّ) وَقيل: جرت عَادَة البُخَارِيّ فِي كثير من التراجم أَنه يُشِير إِلَى مَا تضمنه بعض طرق الحَدِيث، وَإِن لم يكن مَنْصُوصا فِيمَا سَاقه كَمَا ذكرنَا فِي بَاب الْمَرْأَة نَفسهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل النبوذكي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْمدنِي نزيل بَغْدَاد. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدنيين. وَفِيه: أَن إِبْرَاهِيم يروي عَن الزُّهْرِيّ بِلَا وَاسِطَة، وَرُوِيَ عَنهُ فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان بِوَاسِطَة، روى عَن صَالح عَن الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعَانِيه قَوْلهَا: (أَهلَلْت) أَي: أَحرمت وَرفعت الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، قَوْلهَا: (فِيمَن تمتّع) فِيهِ الْتِفَات من الْمُتَكَلّم إِلَى الْغَائِب لِأَن أَصله أَن يُقَال: تمتعت، وَلَكِن ذكر بِاعْتِبَار لفظ من قَوْلهَا: (الْهدى) بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الدَّال وبكسرها مَعَ تَشْدِيد الْبَاء، وَهُوَ اسْم لما يهدى إِلَى مَكَّة من الْأَنْعَام قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (وَلم يسق الْهدى) كالتأكيد لبَيَان التَّمَتُّع، إِذْ الْمُتَمَتّع لَا يكون مَعَه الْهَدْي. قلت: الْمُتَمَتّع على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يَسُوق الْهَدْي مَعَه، وَالْآخر: لَا يَسُوق. وحكمهما مُخْتَلف كَمَا ذكر فِي فروع الْفِقْه قَوْلهَا: (فَزَعَمت) إِنَّمَا لم يقل، فَقَالَت: لِأَنَّهَا لم تَتَكَلَّم بِهِ صَرِيحًا إِذْ هُوَ مِمَّا يستحي فِي تصريحه، قَوْله: وَقَالَت: عطف على حَاضَت، ويروي، قَالَت، بِغَيْر عطف قَوْلهَا: (تمتعت بِعُمْرَة) تَصْرِيح بِمَا علم ضمنا إِذا التَّمَتُّع هُوَ أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحجر من على مَسَافَة الْقصر من الْحرم، ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ فِي سنة تِلْكَ الْعمرَة بِلَا عود إِلَى مِيقَات، وَبعد فَفِي هَذَا الْكَلَام مُقَدّر، تَقْدِيره، تمتعت بِعُمْرَة، وَأَنا حَائِض. قَوْله: (انْقَضى) بِضَم الْقَاف، وَفِي بعض الرِّوَايَات انفضى، بِالْفَاءِ، والمضاف مَحْذُوف أَي: شعر رَأسك، قَوْلهَا: (فَفعلت) أَي: فعلت النَّقْض والامتشاط والإمساك، وَهَاهُنَا، أَيْضا مُقَدّر، وَهُوَ فِي قَوْلهَا: (فَلَمَّا قضيت الْحَج) أَي: بعد إحرامي بِهِ، وقضيت، أَي: أدّيت قَوْلهَا: (أَمر عبد الرَّحْمَن) أَي امْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن بن ابي بكر قَوْلهَا (لَيْلَة الحصبة) ، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ ثمَّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي نزلُوا فِيهَا فِي المحصب، وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي نزلوه بعد النَّفر من منى خَارج مَكَّة، وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي بعد أَيَّام التَّشْرِيق سميت بذلك لأَنهم نفروا من منى، فنزلوا فِي المحصب وَبَاتُوا بِهِ، والحصبة والحصباء والأبطح والبطحاء والمحصب وَخيف بني كنَانَة يُرَاد بهَا مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ بَين مَكَّة وَمنى، قَوْلهَا: (فأعمرني) ويروي (فاعتمرني) قَوْلهَا: (من التَّنْعِيم) ، وَهُوَ تفعيل من النِّعْمَة، وَهُوَ مَوضِع على فَرسَخ من مَكَّة على طَرِيق الْمَدِينَة، وَفِيه مَسْجِد عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْلهَا: (الَّتِي نسكت) من النّسك، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَمَعْنَاهُ: أَحرمت بهَا، أَو قصدت النّسك بهَا، وَفِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي: (سكت) من السُّكُوت أَي: عمرتي الَّتِي تركت أَعمالهَا، وَسكت عَنْهَا وروى القايسي: (شكت) بالشين الْمُعْجَمَة. أَي: شكت الْعمرَة، من الْحيض وَإِطْلَاق الشكاية عَلَيْهَا كِنَايَة عَن إخلالها وَعدم بَقَاء استقلالها، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِيهِ رَاجعا، إِلَى عَائِشَة، وَكَانَ حَقه التَّكَلُّم، وَذكره بِلَفْظ الْغَيْبَة التفاتاً.
ذكر استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَحرمت بِعُمْرَة أَولا، وَهُوَ صَرِيح حَدِيثهَا الْآتِي فِي الْبَاب الَّذِي بعده، لَكِن قَوْلهَا فِي الحَدِيث الَّذِي مضى: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله(3/288)
عَلَيْهِ وَسلم لَا نذْكر إِلَّا الْحَج " وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَن عَائِشَة فِي مَا أَحرمت بِهِ اخْتِلَافا كثيرا كَمَا ذكره القَاضِي عِيَاض فَفِي رِوَايَة عُرْوَة " فأهلنا بِعُمْرَة " وَفِي رِوَايَة أُخْرَى " وَلم أهل إِلَّا بِعُمْرَة " وَفِي رِوَايَة " لَا نذْكر إِلَّا الْحَج " وَفِي أُخْرَى " لَا نرى إِلَّا الْحَج " وَفِي رِوَايَة الْقَاسِم عَنْهَا " لبينا بِالْحَجِّ " وَفِي أُخْرَى " مهلين بِالْحَجِّ " وَاخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَمنهمْ من رجح رِوَايَات الْحَج وَغلظ رِوَايَات الْعمرَة وَإِلَيْهِ ذهب إِسْمَاعِيل القَاضِي وَمِنْهُم من جمع لثقة رواتها لِأَنَّهَا أَحرمت أَولا بِالْحَجِّ وَلم تسق الْهَدْي فَلَمَّا أَمر الشَّارِع من لم يسق الْهَدْي بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة إِن شَاءَ فسخت هِيَ فِيمَن فسخ وَجَعَلته عمْرَة وأهلت بهَا ثمَّ إِنَّهَا لم تحل مِنْهَا حَتَّى حَاضَت فَتعذر عَلَيْهَا إِتْمَامهَا والتحلل مِنْهَا فَأمرهَا أَن تحرم بِالْحَجِّ فأحرمت فَصَارَت قارنة ووقفت وَهِي حَائِض ثمَّ طهرت يَوْم النَّحْر فأفاضت وَذكر ابْن حزم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيرهمْ بسرف بَين فَسخه إِلَى الْعمرَة والتمادي عَلَيْهِ وَأَنه بِمَكَّة أوجب عَلَيْهِم التَّحَلُّل إِلَّا من صَحَّ مَعَه الْهَدْي وَالصَّحِيح أَنَّهَا حَاضَت بسرف أَو قريب مِنْهَا فَلَمَّا قدم مَكَّة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْعَلُوهَا عمْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر الِاضْطِرَاب عَن عَائِشَة فِي حَدِيثهَا فِي الْحَج عَظِيم وَقد أَكثر الْعلمَاء فِي تَوْجِيه الرِّوَايَات فِيهِ وَدفع بَعضهم بَعْضهَا فِيهِ بِبَعْض وَلم يستطيعوا الْجمع بَينهَا ورام قوم الْجمع فِي بعض مَعَانِيهَا. روى مُحَمَّد بن عبيد عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ أَلا تعجب من اخْتِلَاف عُرْوَة وَالقَاسِم قَالَ الْقَاسِم أهلت عَائِشَة بِالْحَجِّ وَقَالَ عُرْوَة أهلت بِالْعُمْرَةِ وَذكر الْحَارِث بن مِسْكين عَن يُوسُف بن عَمْرو عَن ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ لَيْسَ الْعَمَل فِي رفض الْعمرَة لِأَن الْعَمَل عَلَيْهِ عِنْده فِي أَشْيَاء كَثِيرَة. مِنْهَا أَنه جَائِز للْإنْسَان أَن يهل بِعُمْرَة. وَمِنْهَا أَن الْقَارِن يطوف وَاحِدًا أَو غير ذَلِك وَقَالَ ابْن حزم فِي الْمحلى حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة مُنكر وَخطأ عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَحْمد بن حَنْبَل فَذكر حَدِيث مَالك عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة " خرجنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام حجَّة الْوَدَاع " الحَدِيث فَقَالَ أَحْمد أشعر فِي هَذَا الحَدِيث من الْعجب خطأ قَالَ الْأَثْرَم فَقلت لَهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة بِخِلَافِهِ قَالَ نعم وَهِشَام بن عُرْوَة وَفِي التَّمْهِيد دفع الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية حَدِيث عُرْوَة هَذَا وَقَالُوا هُوَ غلط لم يُتَابع عُرْوَة على ذَلِك أحد من أَصْحَاب عَائِشَة وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن اسحق قد اجْتمع هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْقَاسِم وَالْأسود وَعمرَة على أَن أم الْمُؤمنِينَ كَانَت مُحرمَة بِحجَّة لَا بِعُمْرَة فَعلمنَا بذلك أَن الرِّوَايَة عَن عُرْوَة غلط الثَّانِي أَن ظَاهر قَوْلهَا يَا رَسُول الله هَذِه لَيْلَة عَرَفَة إِلَى آخِره يدل على أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أمرهَا برفض عمرتها وَأَن تخرج مِنْهَا قبل تَمامهَا وَفِي التَّوْضِيح وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ فِي الْمَرْأَة تحيض قبل الطّواف وتخشى فَوَات الْحَج أَنَّهَا ترفض الْعمرَة وَقَالَ الْجُمْهُور أَنَّهَا تردف الْحَج وَتَكون قارنة وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر وَحمله بعض الْمَالِكِيَّة على أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهَا بالإرداف لَا بِنَقْض الْعمرَة وَاعْتَذَرُوا عَن هَذِه الْأَلْفَاظ بتأويلات. أَحدهَا أَنَّهَا كَانَت مضطرة إِلَى ذَلِك فَرخص لَهَا كَمَا رخص لكعب بن عجْرَة فِي الْحلق للأذى ثَانِيهَا أَنه خص بهَا. ثَالِثهَا أَن المُرَاد بِالنَّقْضِ والامتشاط تَسْرِيح الشّعْر لغسل الإهلال بِالْحَجِّ ولعلها كَانَت لبدت رَأسهَا وَلَا يتأنى إِيصَال المَاء إِلَى الْبشرَة مَعَ التلبيد إِلَّا بِحل الظفر والتسريح وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي نقض الْمَرْأَة شعرهَا عِنْد الِاغْتِسَال فَأمر بِهِ ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَوَافَقَهُمَا طَاوُوس فِي الْحيض دون الْجَنَابَة وَلَا يتَبَيَّن بَينهمَا فرق وَلم توجبه عَلَيْهَا فِيهَا عَائِشَة وَأم سَلمَة وَابْن عمر وَجَابِر وَبِه قَالَ مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْفُقَهَاء وَالْعبْرَة بالوصول فَإِن لم يصل فتنقض. الثَّالِث أَن قَول عَائِشَة تمتعت بِعُمْرَة يدل على أَنَّهَا كَانَت معتمرة أَولا. قَالَ النَّوَوِيّ فَإِن قلت أصح الرِّوَايَات عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت لَا نرى إِلَّا الْحَج وَلَا نذْكر إِلَّا الْحَج وَخَرجْنَا مهلين بِالْحَجِّ فَكيف الْجمع بَينهَا وَبَين مَا قَالَت تمتعت بِعُمْرَة قلت الْحَاصِل أَنَّهَا أَحرمت بِالْحَجِّ ثمَّ فسخته إِلَى الْعمرَة حِين أَمر النَّاس بِالْفَسْخِ فَلَمَّا حَاضَت وَتعذر عَلَيْهَا إتْمَام الْعمرَة أمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فأحرمت بِهِ فَصَارَت مدخلة الْحَج على الْعمرَة وقارنة لما ثَبت من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يكفك طوافك لحجك وعمرتك " وَمعنى امسكي من عمرتك لَيْسَ إبِْطَال لَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخُرُوج مِنْهَا بعد الْإِحْرَام بنية الْخُرُوج وَإِنَّمَا تخرج مِنْهَا بالتحلل بعد فراغها بل مَعْنَاهُ إمضي الْعَمَل فيهمَا وإتمام أفعالها وأعرضي عَنْهَا وَلَا يلْزم من نقض الرَّأْس والامتشاط إبِْطَال الْعمرَة لِأَنَّهَا جائزان عندنَا فِي الْإِحْرَام بِحَيْثُ لَا ينتف شعر الْكن يكره الامتشاط إِلَّا لعذر وتأولوا فعلهَا على أَنَّهَا كَانَت معذورة بِأَن كَانَ برأسها أَذَى وَقيل لَيْسَ المُرَاد -(3/289)
بالامتشاط حَقِيقَته، بل تَسْرِيح الشّعْر بالأصابع للْغسْل لإحرامها بِالْحَجِّ، لَا سِيمَا إِن كَانَت لبدت رَأسهَا فَلَا يَصح غسلهَا إِلَّا بإيصال المَاء إِلَى جَمِيع شعرهَا، وَيلْزم مِنْهُ نقضه، فَإِن قلت: اذا كَانَت قارنة فَلم امرها بِالْعُمْرَةِ بعد الْفَرَاغ من الْحَج (قلت) مَعْنَاهُ أَرَادَت أَن يكون لَهَا عمْرَة مُنْفَرِدَة عَن الْحَج كَمَا حصل لسَائِر أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وغيرهن من الصَّحَابَة الَّذِي فسخوا الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَأَتمُّوا الْعمرَة ثمَّ أَحْرمُوا بِالْحَجِّ، فَحصل لَهُم عمْرَة مُنْفَرِدَة وَحج مُنْفَرد فَلم يحصل لَهَا إلاَّ عمْرَة مندرجة فِي حجَّة الْقُرْآن فاعتمرت بعد ذَلِك مَكَان عمرتها الَّتِي كَانَت أَرَادَت أَولا حُصُولهَا مُنْفَرِدَة غير مندرجة، ومنعها الْحيض عَنهُ، وَإِنَّمَا فعلت كَذَلِك حرصاً على كَثْرَة الْعِبَادَات انْتهى. قلت: الْمَشْهُور الثَّابِت أَن عَائِشَة كَانَت مُنْفَرِدَة بِالْحَجِّ وَأَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أمرهَا برفض الْعمرَة، وَقَوْلها فِي الحَدِيث وأرجع بِحجَّة وَاحِدَة، دَلِيل وَاضح على ذَلِك، وَقَوْلها: ترجع صواحبي بِحَجّ وَعمرَة، وأرجع أَنا بِالْحَجِّ، صَرِيح فِي رفض الْعمرَة، إِذْ لَو دخل الْحَج على الْعمرَة لكَانَتْ هِيَ وَغَيرهَا سَوَاء، وَلما احْتَاجَت إِلَى عمْرَة أُخْرَى بعد الْعمرَة وَالْحج الَّذِي فعلتهما وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عمرتها الْأَخِيرَة: (هَذِه مَكَان عمرتك) صَرِيح فِي أَنَّهَا خرجت من عمرتها الأولى ورفضتها إِذْ لَا تكون الثَّانِيَة مَكَان الأولى، وَالْأولَى مُنْفَرِدَة وَفِي بعض الرِّوَايَات هَذِه قَضَاء من عمرتك. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) يَعْنِي قَوْله: ودعي الْعمرَة أمسكي عَن أفعالها، وأدخلي عَلَيْهَا الْحَج قلت: هَذَا خلاف حَقِيقَة قَوْله: دعِي الْعمرَة: بل حَقِيقَته أَنه أمرهَا برفض الْعمرَة بِالْحَجِّ، وَقَوْلها: انقضي رَأسك وامتشطي، يدل على ذَلِك، وَيدْفَع تَأْوِيل الْبَيْهَقِيّ بالإمساك عَن أَفعَال الْعمرَة، إِذا الْمحرم لَيْسَ لَهُ أَن يعفل ذَلِك. فَإِن قلت: قَالَ الشَّافِعِي: لَا يعرف فِي الشَّرْع رفض الْعمرَة بِالْحيضِ. قلت: قَالَ الْقَدُورِيّ فِي (التَّجْرِيد) مَا رفضتها بِالْحيضِ، لَكِن تَعَذَّرَتْ أفعالها، وَكَانَت ترفضها بِالْوُقُوفِ، فَأَمرهمْ بتعجيل الرَّفْض.
16 - (بابُ نَقْضِ المَرْأَةِ شَعْرَهَا عِنْدَ غُسَلِ المَحِيضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نقض الْمَرْأَة شعر رَأسهَا، عِنْد غسل الْمَحِيض أَي: الْحيض، وَجَوَابه مُقَدّر أَي: هَل يجب أم لَا؟ وَظَاهر الحَدِيث الْوُجُوب، وَقد ذكرنَا الِاخْتِلَاف فِي الْبَاب السَّابِق.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن النَّقْض والامتشاط من جنس وَاحِد وَحكم وَاحِد.
317 - حدّثنا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حدّثنا أبُو أسامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ خَرَجْنَا مُوافينَ لِهلالِ ذِي الحِجَّةِ فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أحَبَّ أنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلُ فإنِّى لَوْلاَ أنِّي أهْدَيْتُ لاَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بُعُمْرَةٍ وَأَهْلُ بَعْضُهُمْ بِخحَجٍ وَكُنْتُ أَنَّا مِمَّنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ فأَدْرَكَنِي يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَنا حائِضٌ فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ دَعِي عُمْرَتَكِ وانْقُضَي رَأْسَكِ وامْتَشِطِي وَأْهِلِّى بِحَجٍ فَفَعَلْتُ حَتَّى كانَ لَيْلَةُ الخَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي أخِي عَبُدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرً فَخَرَجَتْ إلىَ التَنْعِيمِ فَأَهَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي قالَ هِشامٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ وَلا صَوْمٌ وَلا صَدَقَةٌ.
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: عبيد بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْهَبَّاري، بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء الْمُهْملَة. الْكُوفِي، وَيُقَال اسْمه عبيد الله مَاتَ سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة الْهَاشِمِي الْكُوفِي، مر فِي بَاب فضل من علم. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قَوْلهَا: (موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة) أَي: مكملين ذِي الْقعدَة مُسْتَقْبلين لهلاله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَي مقارنين لاستهلاله، وَكَانَ خُرُوجهمْ قبله لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وَيُقَال موافين أَي: مشرفين يُقَال: أوفى على كَذَا أَي:(3/290)
أشرف، وَلَا يلْزم الدُّخُول فِيهِ، وَقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة لأَرْبَع أَو خمس من ذِي الْحجَّة، أَقَامَ فِي طَرِيقه إِلَى مَكَّة تِسْعَة أَيَّام أَو عشرَة أَيَّام قَوْله: (فليهل) ، بتَشْديد اللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، (فليهلل) ، يفك الْإِدْغَام أَي: فليحرم بهَا. قَوْله: (أهديت) أَي: سقت الْهَدْي، وَإِنَّمَا كَانَ وجود الْهَدْي عِلّة لانْتِفَاء الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ، لِأَن صَاحب الْهَدْي لَا يجوز لَهُ التَّحَلُّل حَتَّى ينحره، وَلَا ينحره إلاَّ يَوْم النَّحْر، والمتمتع يتَحَلَّل قبل يَوْم النَّحْر، فهما متنافيان. قَوْله: (فَأهل بَعضهم بِعُمْرَة) أَي: صَارُوا متمتعين، وَبَعْضهمْ محج أَي: صَارُوا مفردين. قَوْله: (دعِي عمرتك) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: أفعالها لأنفسها، قلت: قد ذكرنَا فِي الْبَاب السَّابِق أَنه أمرهَا بِالتّرْكِ حَقِيقَة، وَذكرنَا وجهة. قَوْله: (لَيْلَة الحصبة) كَلَام إضافي مَرْفُوع وَكَانَ تَامَّة أَن التَّمَتُّع أفضل من الْإِفْرَاد فَمَاذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي دلعه؟ قلت: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَه من أجل من فسخ الْحجر إِلَى الْعمرَة وَالَّذِي هُوَ خَاص بهم فِي تِلْكَ السّنة خَاصَّة لمُخَالفَة الْجَاهِلِيَّة من حَيْثُ حرمُوا الْعمرَة فِي أشهر الْحجر، وَلم يرد بذلك، التَّمَتُّع الَّذِي فِيهِ الْخلاف وَقَالَ هَذَا تطيباً لقلوب أَصْحَابه، وَكَانَت نُفُوسهم لَا تسمح بِفَسْخ الْحَج إِلَيْهَا لإرادتهم مُوَافَقَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعْنَاهُ، مَا يَمْنعنِي من موافقتكم مِمَّا أَمرتكُم بِهِ إلاَّ سوقي الْهَدْي، ولولاه لوافقتكم قلت: الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة أَن الْإِفْرَاد أفضل من التَّمَتُّع كمذهب الشَّافِعِي، وَلَكِن الْمَذْهَب التَّمَتُّع أفضل من الْإِفْرَاد لِأَن فِيهِ جمعا بَين عبادتي الْعمرَة وَالْحج فِي سفر وَاحِد، فَأشبه القِرَان. قَوْله: (قَالَ هِشَام) أَي: ابْن عُرْوَة، هَذَا يحْتَمل التَّعْلِيق، وَيحْتَمل أَن يكون عطفا من جِهَة الْمَعْنى على لفظ هِشَام، ثمَّ قَول هِشَام: يحْتَمل أَن يكون مُعَلّقا، وَيحْتَمل أَن يكون مُتَّصِلا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَالظَّاهِر الأول.
ثمَّ اعْلَم أَن ظَاهر قَول هِشَام مُشكل، فَإِنَّهَا إِن كَانَت قارنة فعلَيْهَا هدي الْقُرْآن عِنْد كَافَّة الْعلمَاء، إلاَّ دَاوُد وَإِن كَانَت متمتعة فَكَذَلِك، لَكِنَّهَا كَانَت فاسخة كَمَا سلف، وَلم تكن قارنة وَلَا متمتعة، وَإِنَّمَا أَحرمت بِالْحَجِّ ثمَّ نَوَت فَسخه فِي عمْرَة، فَلَمَّا حَاضَت وَلم يتم لَهَا ذَلِك رجعت إِلَى حَجهَا فَلَمَّا أكملته اعْتَمَرت عمْرَة مستبدأة، نبه عَلَيْهِ القَاضِي، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ قَوْلهَا: وَكنت مِمَّن أهل بِعُمْرَة، وَقَوْلها: وَلم أهل إلاَّ بِعُمْرَة، وَيُجَاب بِأَن هُنَا مآلما لم يبلغهُ ذَلِك أخبر بنفيه، وَلَا يلْزم من ذَلِك نَفْيه من نفس الْأَمر، وَيحْتَمل أَن يكون لم يَأْمر بِهِ، بل نوى أَنه يقولم بِهِ عَنْهَا، بل روى جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أهْدى عَن عَائِشَة بقرة وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِيهِ دَلِيل على أَنَّهَا كَانَت فِي حجر مُفْرد لَا تمتّع وَلَا قرَان، لِأَن الْعلمَاء مجمعون على وجوب الدَّم فيهمَا.
سميرة كتاب الْحيض من صفحة 291
الفايل الثَّالِث
17
- (بابٌ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرَ مُخَلَّقَةٍ}
(الْحَج: 5)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول فِي إعرابه: الْأَحْسَن أَن يكون: بَاب، منونا، وَيكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا أَرَادَ أَن يقْضِي الله خلقه، قَالَ الْملك: مخلقة، وَإِن لم يرد قَالَ: غير مخلقة) . وَرُوِيَ عَن عَلْقَمَة: (إِذا وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم قَالَ لَهُ الْملك: مخلقة أوغير مخلقة؟ فَإِن قَالَ: غير مخلقة مجت الرَّحِم دَمًا، وَإِن قَالَ: مخلقة. قَالَ أذكر أم أُنْثَى؟) وَيحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ أَرَادَ الْآيَة الْكَرِيمَة، فأورد الحَدِيث لِأَن فِيهِ ذكر المضغة، والمضغة مخلقة وَغير مخلقة وَقَالَ بَعضهم: روينَاهُ بِالْإِضَافَة أَي: بَاب تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {مخلقة وَغير مخلقة} (الْحَج: 5) قلت لَيْت شعري أَنه روى هَذَا عَن البُخَارِيّ نَفسه أم عَن الْفربرِي وَكَيف يَقُول بَاب تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {مخلقة وَغير مخلقة} وَلَيْسَ فِي متن حَدِيث الْبَاب: مخلقة وَغير مخلقة، وَإِنَّمَا فِيهِ ذكر المضغة، وَهِي مخلقة وَغير مخلقة. لما ذكرنَا.
النَّوْع الثَّانِي: إِن غَرَض البُخَارِيّ من وضع هَذَا الْبَاب هُنَا الْإِشَارَة إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض، لِأَن اشْتِمَال الرَّحِم على الْوَلَد يمْنَع خُرُوج دم الْحيض. وَيُقَال: إِنَّه يصير غذَاء للجنين، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض الْكُوفِيُّونَ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد بن حَنْبَل وَأَبُو نور وَابْن الْمُنْذر وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو عبيد وَعَطَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَجَابِر بن زيد وَالشعْبِيّ وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْحكم وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه، وَهُوَ قَوْله الْقَدِيم، وَقَالَ فِي الْجَدِيد: إِنَّهَا تحيض، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ، وَحكي عَن بعض الْمَالِكِيَّة: إِن كَانَ فِي آخر الْحمل فَلَيْسَ بحيض، وَذكر الدَّاودِيّ أَن الِاحْتِيَاط أَن تَصُوم وَتصلي ثمَّ تقضي الصَّوْم وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ بِإِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْحيض تَقْوِيَة(3/291)
مَذْهَب من يَقُول: إِن الْحَامِل لَا تحيض. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على أَنَّهَا لَا تحيض نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون مَا يخرج من الْحَامِل من السقط الَّذِي لم يصور أَن لَا يكون الدَّم الَّذِي ترَاهُ الْمَرْأَة الَّتِي يسْتَمر حملهَا لَيْسَ بحيض، وَمَا ادَّعَاهُ الْمُخَالف من أَنه رشح من الْوَلَد أَو من فضلَة غذائه أَو من دم فَاسد لعِلَّة فمحتاج إِلَى الدَّلِيل، لِأَن هَذَا دم بِصِفَات دم الْحيض، وَفِي زمن إِمْكَانه فَلهُ حكم دم الْحيض. فَمن ادّعى خِلَافه فَعَلَيهِ الْبَيَان.
قلت: إِنَّمَا ادعيت الْخلاف وَعلي الْبَيَان: أما أَولا فَنَقُول: لنا فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث وأخبار. مِنْهَا: حَدِيث سَالم عَن أَبِيه وَهُوَ: (إِن ابْن عمر طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَسَأَلَ عمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مره فَلْيُرَاجِعهَا ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر، ثمَّ إِن شَاءَ أمْسكهَا وَإِن شَاءَ طَلقهَا قبل أَن يمس، فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء) مُتَّفق عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس: (لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تستبرأ بِحَيْضَة) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَمِنْهَا: حَدِيث رويفع بن ثَابت، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (لَا يحل لأحد أَن يسْقِي بمائه زرع غَيره، وَلَا يَقع على أمة حَتَّى تحيض أَو يتَبَيَّن حملهَا) [/ حم. رَوَاهُ أَحْمد، فَجعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجود الْحيض علما على بَرَاءَة الرَّحِم من الْحَبل فِي الْحَدِيثين، وَلَو جَازَ اجْتِمَاعهمَا لم يكن دَلِيلا على انتفائه، وَلَو كَانَ بعد الِاسْتِبْرَاء بِحَيْضَة احْتِمَال الْحمل لم يحل وَطْؤُهَا للِاحْتِيَاط فِي أَمر الإبضاع. وَأما الاخبار فَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: (إِن الله تَعَالَى رفع الْحيض عَن الحبلى وَجعل الدَّم رزقا للْوَلَد مِمَّا تفيض الْأَرْحَام) ، رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين. وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: [حم (إِن الله رفع الْحيض عَن الحبلى وَجعل الدَّم رزقا للْوَلَد) [/ حم، رَوَاهُ ابْن شاهين أَيْضا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْأَثْرَم، وَالدَّارَقُطْنِيّ بإسنادهما عَن عَائِشَة فِي: [حم (الْحَامِل ترى الدَّم، فَقَالَت: الحبلى لَا تحيض وتغتسل وَتصلي) [/ حم، وَقَوْلها: تَغْتَسِل، اسْتِحْبَاب لكَونهَا مُسْتَحَاضَة، وَلَا يعرف عَن غَيرهم خِلَافه. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاسْتدلَّ ابْن التِّين على أَنه: لَيْسَ بِدَم حيض، بِأَن الْملك مُوكل برحم الْحَامِل، وَالْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ قذر. وَأجِيب: بِأَن لَا يلْزم من كَون الْملك موكلاً بِهِ أَن يكون حَالا فِيهِ، ثمَّ هُوَ مُشْتَرك الْإِلْزَام لِأَن الدَّم كُله قذر. قلت: وَلَا يلْزم أَيْضا أَن لَا يكون حَالا فِيهِ، وَالدَّم فِي معدته لَا يُوصف بِالنَّجَاسَةِ، وَإِلَّا يلْزم أَن لَا يُوجد أحد طَاهِرا خَالِيا عَن النَّجَاسَة.
النَّوْع الثَّالِث فِي معنى المخلقة: وَعَن قَتَادَة: {مخلقة وَغير مخلقة} (الْحَج: 5) أَي: تَامَّة وَغير تَامَّة، وَعَن الشّعبِيّ: النُّطْفَة والعلقة والمضغة إِذا أكسيت فِي الْخلق الرَّابِع كَانَت مخلقة، وَإِذا قذفتها قبل ذَلِك كَانَت غير مخلقة. وَعَن أبي الْعَالِيَة: المخلقة المصورة، وَغير المخلقة، السقط. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مُضْغَة مخلقة أَي تَامَّة الْخلق، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مخلقة أَي مسواة ملساء من النُّقْصَان وَالْعَيْب، يُقَال: خلق السِّوَاك إِذا سواهُ وملسه، وَغير مخلقة أَي غير مسواة.
النَّوْع الرَّابِع فِي وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن الْبَاب الَّذِي قبله يشْتَمل على أُمُور من أَحْكَام الْحيض، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا يشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْحيض، وَهُوَ أَن الْحَامِل إِذا رَأَتْ دَمًا هَل يكون حيضا أم لَا؟ وَقد ذكرنَا أَن غَرَض البُخَارِيّ من وضع هَذَا الْبَاب هُوَ الْإِشَارَة إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض، وَنَذْكُر كَيْفيَّة ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
23 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن عبيد الله بن أبي بكر عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِن الله عز وَجل وكل بالرحم ملكا يَقُول يَا رب نُطْفَة يَا رب علقَة يَا رب مُضْغَة فَإِذا أَرَادَ أَن يقْضِي خلقه قَالَ أذكر أم أُنْثَى أشقي أم سعيد فَمَا الرزق وَمَا الْأَجَل فَيكْتب فِي بطن أمه) وَجه تطابق هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يُفَسر المخلقة وَغير المخلقة فَإِن قَوْله فَإِذا أَرَادَ أَن يقْضِي خلقه هُوَ المخلقة وبالضرورة يعلم مِنْهُ أَنه إِذا لم يرد خلقه يكون غير مخلقة وَقد بَين ذَلِك حَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " إِذا وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم بعث الله ملكا فَقَالَ يَا رب مخلقة أَو غير مخلقة فَإِن قَالَ غير مخلقة مجها الرَّحِم دَمًا وَإِن قَالَ مخلقة قَالَ يَا رب فَمَا صفة هَذِه النُّطْفَة فَيُقَال لَهُ انْطلق إِلَى(3/292)
أم الْكتاب فَإنَّك تَجِد قصَّة هَذِه النُّطْفَة فَينْطَلق فيجد قصَّتهَا فِي أم الْكتاب " وَهُوَ مَوْقُوف لفظا مَرْفُوع حكما لِأَن الْإِخْبَار عَن شَيْء لَا يُدْرِكهُ الْعقل مَحْمُول على السماع (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد الثَّانِي حَمَّاد بن زيد الْبَصْرِيّ الثَّالِث عبيد الله بِلَفْظ الصَّغِير ابْن أبي بكر بن أنس بن مَالك أَبُو مُعَاوِيَة الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع أنس بن مَالك وَهُوَ جده يروي عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون وَفِيه الرِّوَايَة عَن الْجد (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي خلق بني آدم عَن أبي النُّعْمَان وَفِي الْقدر عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي كَامِل الجحدري الْكل عَن حَمَّاد بن زيد (ذكر لغاته) قَوْله " نُطْفَة " بِضَم النُّون قَالَ الْجَوْهَرِي النُّطْفَة المَاء الصافي قل أَو كثر وَالْجمع النطاف ونطفان المَاء سيلانه وَقد نطف ينطف وينطف من بَاب نصر ينصر وَضرب يضْرب وَلَيْلَة نطوف تمطر إِلَى الصَّباح وَيُقَال جمع النُّطْفَة نطف أَيْضا وكل شَيْء خَفِي نُطْفَة ونطافة حَتَّى أَنهم يسمون الشَّيْء الْخَفي بذلك وَأَصله للْمَاء الْقَلِيل يبْقى فِي الغدير أَو السقاء أَو غَيره من الْآنِية وَيُقَال لَهُ مَا دَامَ نُطْفَة صراة ذكره ابْن سَيّده فِي الْمُخَصّص قَوْله " علقَة " بِفَتْح اللَّام قَالَ الْأَزْهَرِي فِي التَّهْذِيب الْعلقَة الدَّم الجامد الغليظ وَمِنْه قيل لهَذِهِ الدَّابَّة الَّتِي تكون فِي المَاء علقَة لِأَنَّهَا حَمْرَاء كَالدَّمِ وكل دم غليظ علق وَفِي الموعب العلق الدَّم مَا كَانَ وَقيل هُوَ الجامد قبل أَن ييبس وَقيل هُوَ مَا اشتدت حمرته والقطعة مِنْهُ علقَة وَفِي المغيث هُوَ مَا انْعَقَد وَقيل الْيَابِس كَأَن بعضه علق بِبَعْض تعقدا ويبسا قَوْله " مُضْغَة " قَالَ الْجَوْهَرِي المضغة قِطْعَة لحم وَفِي الغريبين وَجَمعهَا مضغ وَيُقَال مضيغة وَتجمع على مضائغ وَيُقَال المضغة اللحمة الصَّغِيرَة قدر مَا يمضغ وَفِي الْمُحكم قَالَ عمر بن الْخطابِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّا لَا نتغافل المضغ بَيْننَا أَرَادَ الْجِرَاحَات وسماها مضغا على التَّشْبِيه بمضغة الْإِنْسَان فِي حلقه يذهب بذلك إِلَى تصغيرها وتقليلها (ذكر مَعْنَاهُ ونكاته) قَوْله " وكل " بِالتَّشْدِيدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم} وَظَاهر قَوْله " أَن الله وكل بالرحم ملكا " يدل على أَن بَعثه إِلَيْهِ عِنْد وُقُوع النُّطْفَة فِي الرَّحِم وَلَكِن فِيهِ اخْتِلَاف الرِّوَايَات فَفِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " أَن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل الْملك فينفخ فِيهِ الرّوح وَيكْتب رزقه وأجله وَعَمله وشقي أَو سعيد " وَظَاهره إرْسَال الْملك بعد الْأَرْبَعين الثَّالِثَة وَفِي رِوَايَة " يدْخل الْملك على النُّطْفَة بَعْدَمَا تَسْتَقِر فِي الرَّحِم بِأَرْبَعِينَ أَو خَمْسَة وَأَرْبَعين لَيْلَة فَيَقُول يَا رب شقي أَو سعيد " وَعند مُسلم " إِذا مر بالنطفة اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ أَو ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ أَو خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ " وَفِي أُخْرَى " إِذا مر بالنطفة ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بعث الله إِلَيْهَا ملكا فصورها وَخلق سَمعهَا وبصرها وجلدها " وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة بن أسيد " أَن النُّطْفَة تقع فِي الرَّحِم أَرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ يتسور عَلَيْهَا الْملك " وَفِي أُخْرَى " أَن ملكا وكل بالرحم إِذا أَرَادَ الله أَن يخلق شَيْئا يَأْذَن لَهُ لبضع وَأَرْبَعين لَيْلَة " وَجمع الْعلمَاء بَين ذَلِك بِأَن الْمَلَائِكَة لَازِمَة ومراعية بِحَال النُّطْفَة فِي أَوْقَاتهَا وَأَنه يَقُول يَا رب هَذِه نُطْفَة هَذِه علقَة هَذِه مُضْغَة فِي أَوْقَاتهَا وكل وَقت يَقُول فِيهِ مَا صَارَت إِلَيْهِ بِأَمْر الله تَعَالَى وَهُوَ أعلم. ولكلام الْملك وتصرفه أَوْقَات. أَحدهَا حِين يكون نُطْفَة ثمَّ ينقلها علقَة وَهُوَ أول علم الْملك أَنه ولد إِذْ لَيْسَ كل نُطْفَة تصير ولدا وَذَلِكَ عقيب الْأَرْبَعين الأولى وَحِينَئِذٍ يكْتب رزقه وأجله وشقي أَو سعيد ثمَّ للْملك فِيهِ تصرف آخر وَهُوَ تَصْوِيره وَخلق سَمعه وبصره وَكَونه ذكرا أَو أُنْثَى وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي الْأَرْبَعين الثَّانِيَة وَهِي مُدَّة المضغة وَقبل انْقِضَاء هَذِه الْأَرْبَعين وَقبل نفخ الرّوح لِأَن النفخ لَا يكون إِلَّا بعد تَمام صورته وَالرِّوَايَة السالفة " إِذا مر بالنطفة ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة " لَيست على ظَاهره قَالَه عِيَاض وَغَيره بل المُرَاد بتصويرها وَخلق سَمعهَا إِلَى آخِره أَنه يكْتب ذَلِك ثمَّ يَفْعَله فِي وَقت آخر لِأَن التَّصْوِير عقيب الْأَرْبَعين الأولى غير مَوْجُود فِي الْعَادة وَإِنَّمَا يَقع فِي الْأَرْبَعين الثَّانِيَة وَهِي مُدَّة المضغة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة} الْآيَة ثمَّ يكون للْملك فِيهِ تصرف آخر وَهُوَ وَقت نفخ الرّوح عقيب الْأَرْبَعين الثَّالِثَة حَتَّى يكمل لَهُ أَرْبَعَة أشهر. وَاتفقَ الْعلمَاء أَن نفخ الرّوح لَا يكون إِلَّا بعد أَرْبَعَة أشهر ودخوله فِي الْخَامِسَة وَقَالَ الرَّاغِب وَذكر الْأَطِبَّاء أَن الْوَلَد إِذا كَانَ ذكرا يَتَحَرَّك بعد ثَلَاثَة أشهر وَإِذا كَانَ أُنْثَى بعد أَرْبَعَة أشهر (فَإِن قلت) وَقع فِي رِوَايَة(3/293)
البُخَارِيّ " أَن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ ثمَّ يكون علقَة مثله ثمَّ يكون مُضْغَة مثله ثمَّ يبْعَث الله فِيهِ الْملك فَيُؤذن بِأَرْبَع كَلِمَات فَيكْتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح " فَأتى فِيهِ بِكَلِمَة ثمَّ الَّتِي هِيَ تَقْتَضِي التَّرَاخِي فِي الْكتب إِلَى مَا بعد الْأَرْبَعين الثَّالِثَة وَالْأَحَادِيث الْبَاقِيَة تَقْتَضِي الْكتب عقيب الْأَرْبَعين الأولى (قلت) أُجِيب بِأَن قَوْله " ثمَّ يبْعَث إِلَيْهِ الْملك فَيُؤذن بِأَرْبَع كَلِمَات فَيكْتب " مَعْطُوف على قَوْله " يجمع فِي بطن أمه " ومتعلقا بِهِ لَا بِمَا قبله وَهُوَ قَوْله " ثمَّ يكون مُضْغَة مثله " وَيكون قَوْله " ثمَّ يكون علقَة مثله ثمَّ يكون مُضْغَة مثله " مُعْتَرضًا بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِز مَوْجُود فِي الْقُرْآن والْحَدِيث الصَّحِيح وَكَلَام الْعَرَب وَقَالَ عِيَاض وَالْمرَاد بإرسال الْملك فِي هَذِه الْأَشْيَاء أمره بهَا وَالتَّصَرُّف فِيهَا بِهَذِهِ الْأَفْعَال وَإِلَّا فقد صرح فِي الحَدِيث بِأَنَّهُ وكل بالرحم ملكا وَأَنه يَقُول يَا رب نُطْفَة يَا رب علقَة وَقَوله فِي حَدِيث أنس " وَإِذا أَرَادَ الله أَن يقْضِي خلقا قَالَ يَا رب أذكر أم أُنْثَى " لَا يُخَالف مَا قدمْنَاهُ وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يَقُول ذَلِك بعد المضغة بل هُوَ ابْتِدَاء كَلَام وإخبار عَن حَالَة أُخْرَى فَأخْبر أَولا بِحَال الْملك مَعَ النُّطْفَة ثمَّ أخبر أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ خلق النُّطْفَة علقَة كَانَ كَذَا وَكَذَا ثمَّ المُرَاد بِجَمِيعِ مَا ذكر من الرزق وَالْأَجَل والشقاء والسعادة وَالْعقل والذكورة وَالْأُنُوثَة يظْهر ذَلِك للْملك فَيُؤْمَر بإنفاذه وكتابته وَإِلَّا فقضاء الله تَعَالَى وَعلمه وإرادته سَابِقَة على ذَلِك قَوْله فِي حَدِيث أنس " فَيكْتب " بَيَانه فِي حَدِيث يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة حَدثنَا دَاوُد عَن عَامر عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ " أَن النُّطْفَة إِذا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِم أَخذهَا الْملك بكفه قَالَ أَي رب أذكر أم أُنْثَى مَا الْأَمر بِأَيّ أَرض تَمُوت فَيُقَال لَهُ انْطلق إِلَى أم الْكتاب فَإنَّك تَجِد قصَّة هَذِه النُّطْفَة فَينْطَلق فيجد صفتهَا فِي أم الْكتاب " قَوْله " وَمَا الْأَجَل " ويروى " فَمَا الرزق وَالْأَجَل " قَوْله " فَيكْتب ويروى " قَالَ فَيكْتب " (بَيَان إعرابه) قَوْله " ملكا " مَنْصُوب بقوله " وكل " قَوْله " يَقُول " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْملك فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة الْملك وَقَوله " يَا رب " بِحَذْف يَاء الْمُتَكَلّم وَفِي مثله يجوز يَا رَبِّي وَيَا رب وَيَا رَبًّا وَيَا رباه بِالْهَاءِ وَقفا قَوْله " نُطْفَة " يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب أما النصب فَهُوَ رِوَايَة الْقَابِسِيّ وَوَجهه أَن يكون مَنْصُوبًا بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره جعلت الْمَنِيّ نُطْفَة فِي الرَّحِم أَو خلقت نُطْفَة وَأما وَجه الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي يَا رب هَذِه نُطْفَة " فَإِن قلت " كَيفَ يكون الشَّيْء الْوَاحِد نُطْفَة علقَة مُضْغَة " قلت " هَذِه الْأَخْبَار الثَّلَاثَة تصدر من الْملك فِي أَوْقَات مُتعَدِّدَة لَا فِي وَقت وَاحِد وَلَا يُقَال لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة الْخَبَر وَلَا لَازمه لِأَن الله علام الغيوب لأَنا نقُول هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الْكَلَام جَارِيا على ظَاهره أما إِذا عدل عَن الظَّاهِر فَلَا يلْزم الْمَحْذُور الْمَذْكُور وَهَهُنَا المُرَاد التمَاس إتْمَام خلقه وَالدُّعَاء بإفاضة الصُّورَة الْكَامِلَة عَلَيْهِ أَو الاستعلام عَن ذَلِك وَنَحْوهمَا وَمثل هَذَا كثير وَوَقع فِي الْقُرْآن أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن أم مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام {رَبِّي إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى} فَإِنَّهُ يكون للاعتذار وَإِظْهَار التأسف قَوْله " فَإِذا أَرَادَ أَن يقْضِي " أَي فَإِذا أَرَادَ الله أَن يقْضِي أَي أَن يتم خلقه أَي خلق مَا فِي الرَّحِم من النُّطْفَة الَّتِي صَارَت علقَة ثمَّ صَارَت مُضْغَة وَيَجِيء الْقَضَاء بِمَعْنى الْفَرَاغ أَيْضا قَوْله " قَالَ " أَي الْملك قَوْله " أذكر أم أُنْثَى " أَي أذكر هُوَ أم أُنْثَى وَقَوله " ذكر " مُبْتَدأ أَو خبر فَإِذا قُلْنَا خبر يكون لَفْظَة هُوَ المؤخرة مُبْتَدأ وَلَا يُقَال النكرَة لَا تقع مُبْتَدأ لِأَن فِيهِ المسوغ لوُقُوعه مُبْتَدأ وَهِي كَونهَا قد تخصصت بِثُبُوت أَحدهمَا إِذْ السُّؤَال فِيهِ عَن التَّعْيِين فصح الِابْتِدَاء بِهِ وَهُوَ من جملَة المخصصات لوُقُوع الْمُبْتَدَأ نكرَة ويروي " أذكرا " بِالنّصب فوجهه إِن صحت الرِّوَايَة أَي أَتُرِيدُ أَو أتخلق ذكرا قَوْله " شقي أم سعيد " الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي أذكر أم أُنْثَى وَمعنى شقي عَاص لله تَعَالَى وَسَعِيد أَي مُطِيع لَهُ قَالَ الْكرْمَانِي " فَإِن قلت " أم الْمُتَّصِلَة ملزومة لهمزة الِاسْتِفْهَام فَأَيْنَ هِيَ " قلت " مقدرَة ووجودها فِي قرينها يدل عَلَيْهِ كَمَا هُوَ قَول الشَّاعِر
(بِسبع رمين الْجَمْر أم بثمان ... )
أَي أبسبع قَوْله " فَمَا الرزق " الرزق فِي كَلَام الْعَرَب الْحَظ قَالَ الله تَعَالَى {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} أَي حظكم من هَذَا الْأَمر والحظ هُوَ نصيب الرجل وَمَا هُوَ خَاص لَهُ دون غَيره وَقيل الرزق كل شَيْء يُؤْكَل أَو يسْتَعْمل وَهَذَا بَاطِل لِأَن الله تَعَالَى أمرنَا بِأَن ننفق مِمَّا رزقنا فَقَالَ {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} فَلَو كَانَ الرزق هُوَ الَّذِي يُؤْكَل لما أمكن إِنْفَاقه وَقيل الرزق هُوَ مَا يملك وَهُوَ أَيْضا بَاطِل لِأَن الْإِنْسَان قد يَقُول اللَّهُمَّ ارزقني ولدا صَالحا وَزَوْجَة صَالِحَة وَهُوَ لَا يملك الْوَلَد(3/294)
وَالزَّوْجَة. وَأما فِي عرف الشَّرْع فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ الرزق هُوَ تَمْكِين الْحَيَوَان من الِانْتِفَاع بالشَّيْء والحظر على غَيره أَن يمنعهُ من الِانْتِفَاع بِهِ وَلما فسرت الْمُعْتَزلَة الرزق بِهَذَا لَا جرم قَالُوا الْحَرَام لَا يكون رزقا وَقَالَ أهل السّنة الْحَرَام رزق لِأَنَّهُ فِي أصل اللُّغَة الْحَظ والنصيب كَمَا ذكرنَا فَمن انْتفع بالحرام فَذَلِك الْحَرَام صَار حظا لَهُ ونصيبا فَوَجَبَ أَن يكون رزقا لَهُ وَأَيْضًا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَقد يعِيش الرجل طول عمره لَا يَأْكُل إِلَّا من السّرقَة فَوَجَبَ أَن نقُول طول عمره لم يَأْكُل من رزقه شَيْئا قَوْله " وَمَا الْأَجَل " ويروى " وَالْأَجَل " بِدُونِ كلمة مَا وَالْأَجَل هُوَ الزَّمَان الَّذِي علم الله أَن الشَّخْص يَمُوت فِيهِ أَو مُدَّة حَيَاته لِأَنَّهُ يُطلق على غَايَة الْمدَّة وعَلى الْمدَّة قَوْله " فَيكْتب " على صِيغَة الْمَعْلُوم قيل الضَّمِير الَّذِي هُوَ فَاعله هُوَ الله تَعَالَى وَقيل يرجع إِلَى الْملك ويروى على صِيغَة الْمَجْهُول وَهَذِه الْكِتَابَة يجوز أَن تكون حَقِيقَة لِأَنَّهُ أَمر مُمكن وَالله على كل شَيْء قدير وَيجوز أَن تكون مجَازًا عَن التَّقْدِير قَوْله " فِي بطن أمه " ظرف لقَوْله " يكْتب " وَهُوَ الْمَكْتُوب فِيهِ والشخص هُوَ الْمَكْتُوب عَلَيْهِ كَمَا تَقول كتبت فِي الدَّار فَإِن فِي الدَّار ظرف لِقَوْلِك كتبت والمكتوب عَلَيْهِ خَارج عَن ذَلِك وَالتَّقْدِير أزلي وَهُوَ أَمر عَقْلِي مَحْض وَيُسمى قَضَاء وَالْحَاصِل فِي الْبَطن تعلقه بِالْمحل الْمَوْجُود وَيُسمى قدرا والمكتوب هُوَ الْأُمُور الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْفَوَائِد وَغَيرهَا من الْأَحْكَام) اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث جَامع لجَمِيع أَحْوَال الشَّخْص إِذْ فِيهِ من الْأَحْكَام بَيَان حَال المبدأ وَهُوَ ذَاته ذكرا وَأُنْثَى وَحَال الْمعَاد وَهُوَ السَّعَادَة والشقاوة وَمَا بَينهمَا وَهُوَ الْأَجَل وَمَا يتَصَرَّف فِيهِ وَهُوَ الرزق. وَقد جَاءَ أَيْضا " فرغ الله من أَربع من الْخلق والخلق وَالْأَجَل والرزق " والخلق بِفَتْح الْخَاء إِشَارَة إِلَى الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَبِضَمِّهَا السَّعَادَة وضدها وَقَالَ الْمُهلب أَن الله تَعَالَى علم أَحْوَال الْخلق قبل أَن يخلقهم وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَأجْمع الْعلمَاء أَن الْأمة تكون أم ولد بِمَا أسقطته من ولد تَامّ الْخلق. وَاخْتلفُوا فِيمَن لم يتم خلقه من المضغة والعلقة فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَمَالك تكون بالمضغة أم ولد مخلقة كَانَت أَو غير مخلقة وتنقضي بهَا الْعدة وَعَن ابْن الْقَاسِم تكون أم ولد بِالدَّمِ الْمُجْتَمع وَعَن أَشهب لَا تكون أم ولد وَتَكون بالمضغة والعلقة وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا إِن كَانَ قد تبين فِي المضغة شَيْء من الْخلق أصْبع أَو عين أَو غير ذَلِك فَهِيَ أم ولد وعَلى مثله هَذَا انْقِضَاء الْعدة. ثمَّ المُرَاد بِجَمِيعِ مَا ذكر من الرزق وَالْأَجَل والسعادة والشقاوة وَالْعَمَل والذكورة وَالْأُنُوثَة أَنه يظْهر ذَلِك للْملك وَيُؤمر بإنفاذه وكتابته وَإِلَّا فقضاء الله وَعلمه وإرادته سَابق على ذَلِك قَالَ القَاضِي عِيَاض وَلم يخْتَلف أَن نفخ الرّوح فِيهِ يكون بعد مائَة وَعشْرين يَوْمًا وَذَلِكَ تَمام أَرْبَعَة أشهر ودخوله فِي الْخَامِس وَهَذَا مَوْجُود بِالْمُشَاهَدَةِ وَعَلِيهِ يعول فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأَحْكَام من الِاسْتِلْحَاق وَوُجُوب النَّفَقَات وَذَلِكَ للثقة بحركة الْجَنِين فِي الْجوف وَقيل أَن الْحِكْمَة فِي عدتهَا عَن الْوَفَاة بأَرْبعَة أشهر وَالدُّخُول فِي الْخَامِس تحقق بَرَاءَة الرَّحِم ببلوغ هَذِه الْمدَّة إِذا لم يظْهر حمل وَنفخ الْملك فِي الصُّورَة سَبَب لخلق الله عِنْده فِيهَا الرّوح والحياة لِأَن النفخ الْمُتَعَارف إِنَّمَا هُوَ إِخْرَاج ريح من النافخ فيصل بالمنفوخ فِيهِ فَإِن قدر حُدُوث شَيْء عِنْد ذَلِك النفخ بإحداث الله تَعَالَى لَا بالنفخ وَغَايَة النفخ أَن يكون سَببا عَادَة لَا مُوجبا عقلا وَكَذَلِكَ القَوْل فِي سَائِر الْأَسْبَاب الْمُعْتَادَة
18 - (بابُ كَيفَ تُهِلُّ الحائِضُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة إهلال الْحَائِض بِالْحَجِّ أَو الْعمرَة، وَالْمرَاد من الْكَيْفِيَّة: الْحَال من الصِّحَّة والبطلان وَالْجَوَاز وَغير الْجَوَاز، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب صِحَة إهلال الْحَائِض بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ، أَو: بَاب جَوَازهَا. وَالْمَقْصُود من الصِّحَّة أَعم من أَن تكون فِي الِابْتِدَاء أَو فِي الدَّوَام.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ أَرَادَ من وضع الْبَاب السَّابِق الْإِشَارَة إِلَى أَن الْحَامِل لَا تحيض، وَهُوَ حكم من أَحْكَام الْحيض. وَفِي هَذَا الْبَاب أَيْضا حكم من أَحْكَام الْحيض، وَفِيه نوع من تعسف، وَفِي بعض النّسخ هَذَا الْبَاب قد ذكر قبل الْبَاب السَّابِق.(3/295)
319 - ح دَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيثُ عنْ عُقَيْلٍ عنْ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّةِ الوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا منْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيُحْلِلْ ومنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَي فَلاَ يَحِلُّ حتَّى يَحلَّ بِنَحْرِ هَدْيه ومَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فلْيُتِمَّ حَجَّهُ قالَتْ فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حائِضا حتَّى كانَ يَوْمُ عَرَفَة ولَمْ أُهْلِلْ إلاَّ بِعُمْرَةٍ فأَمَرَنِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وأمْتَشِطَ وأُهِلَّ بِحَجٍّ وَأَتْرُكَ العُمْرَةَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حتَّى قَضَيْتُ حَجِّي فَبَعَثَ معِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ أَبي بَكْرٍ وأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي منَ التنْعِيم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (وَأهل بِحَجّ) فَإِن فِيهِ إهلال الْحَائِض بِالْحَجِّ، لِأَن عَائِشَة كَانَت حائضة حِين أهلت بِالْحَجِّ. وعَلى قَول من قَالَ: إِنَّهَا كَانَت قارنة، كَانَت الْمُطَابقَة أظهر لِأَنَّهَا أَحرمت بِالْحَجِّ وَهِي حَائِض، وَكَانَت معتمرة فَلهَذَا قَالَت: (أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أترك الْعمرَة) ، وَترك الشَّيْء لَا يكون إِلَّا بعد وجوده.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: يحيى ابْن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف: بن خَالِد بن عقيل، بِفَتْح الْعين: الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير ابْن الْعَوام. السَّادِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأيلي ومدني.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك، وَيَأْتِي بِزِيَادَة فِي الْحَج إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْلهَا: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا، وَكَانَت حجَّة الْوَدَاع فِي سنة عشر من الْهِجْرَة. قَوْلهَا: (وَمنا من أهل بِحجَّة) بِفَتْح، الْحَاء وَكسرهَا، وَهُوَ بِالتَّاءِ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَرِوَايَة غَيره: (بِحَجّ) . قَوْلهَا: (فقدمنا) بِكَسْر الدَّال. قَوْلهَا: (وَلم يهد) بِضَم الْيَاء: من الإهداء، وَهُوَ جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فليحلل) ، بِكَسْر اللَّام من الثلاثي، وَفِي مثل هَذِه الْمَادَّة يجوز الْإِدْغَام وفكه. قَوْله: (حَتَّى يحل نحر هَدْيه) ، يَعْنِي يَوْم الْعِيد، ويروى: (حَتَّى يحل بنحر هَدْيه) ، بِزِيَادَة: الْبَاء، لَا يُقَال: إِنَّه متمتع، فَلَا بُد لَهُ من تحلله عَن الْعمرَة، ثمَّ إِحْرَامه بِالْحَجِّ قبل الْوُقُوف لأَنا نقُول: لَا يلْزم أَن يكون مُتَمَتِّعا لجَوَاز أَن يدْخل الْحَج فِي الْعمرَة فَيصير قَارنا فَلَا يتَحَلَّل. قَوْله: (وَمن أهل بِحجَّة) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي. وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (بِحَجّ) ، بِدُونِ التَّاء، وَمَعْنَاهُ: أهلَّ بِحجَّة وَنوى الْإِفْرَاد، سَوَاء كَانَ مَعَه هدي أَو لَا. وَلِهَذَا لم يُقيد: بلم يهد، وَلَا: بأهدى. قَوْلهَا: (حَتَّى كَانَ يَوْم عَرَفَة) بِرَفْع: يَوْم، و: كَانَ، تَامَّة. قَوْله: (وأترك الْعمرَة) ، صَرِيح بِفَسْخ الْعمرَة، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِيَّة. قَوْلهَا: (حَتَّى قضيت حجتي) . ويروى: (حجي) . قَوْلهَا: (فَأمرنِي) ، بفاء الْعَطف، ويروى: (أَمرنِي) ، بِدُونِ الْفَاء. قَوْلهَا: (من التَّنْعِيم) يتَعَلَّق بقوله: (ان اعْتَمر) .
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ أَن الْحَائِض تهل بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة وَتبقى على إحرامها، وَتفعل مَا يفعل الْحَاج كُله غير الطّواف، فَإِذا طهرت اغْتَسَلت وطافت وأكملت حَجهَا، وَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنقض شعرهَا وتمتشط وَهِي حَائِض لَيْسَ للْوُجُوب، وَإِنَّمَا ذَلِك لإهلالها بِالْحَجِّ، لِأَن من سنة الْحَائِض وَالنُّفَسَاء أَن يغتسلا لَهُ، وَالله تَعَالَى أعلم.
19 - (بابُ إقْبالِ المَحِيضِ وإدْبارِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إقبال الْحيض وإدباره. وَقَالَ ابْن بطال: إقبال الْحيض هُوَ الدفعة من الدَّم، وإدباره أقبال الطُّهْر. وَعند
أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: عَلامَة إدبار الْحيض وانقطاعه الزَّمَان وَالْعَادَة، فَإِذا أخلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ وجود حكم الْحيض فِي كل مِنْهُمَا.(3/296)
وكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عائشَةَ بالدُّرْجَةِ فِيها الكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةَ فَتَقُولُ لَا تعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصةَ البَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء) ، فَإِنَّهَا عَلامَة إدبار الْحيض، وَهَذَا الْأَثر ذكره مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) فَقَالَ: عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة، عَن أمه مولاة عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (كَانَ النِّسَاء يبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَة بالدرجة فِيهَا الكرسف فِيهَا الصُّفْرَة من دم الْحيض يسألنها عَن الصَّلَاة فَتَقول لَهُنَّ: لَا تعجلن حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء، تُرِيدُ الطُّهْر من الْحَيْضَة) . وَقَالَ ابْن حزم: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوي من رِوَايَتهَا، وَاسم: أم عَلْقَمَة، مرْجَانَة سَمَّاهَا ابْن حبَان فِي (كتاب الثِّقَات) . وَقَالَ الْعجلِيّ: مَدَنِيَّة تابعية ثِقَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره البُخَارِيّ هُنَا مُعَلّقا مَجْزُومًا، وَبِه تعلق النَّوَوِيّ فَقَالَ: هَذَا تَعْلِيق صَحِيح لِأَن البُخَارِيّ ذكره بِصِيغَة الْجَزْم، وَمَا علم أَن هَذِه الْعبارَة قد لَا تصح كَمَا سبق بَيَانه فِي كثير من التَّعْلِيق المجزوم بِهِ عِنْد البُخَارِيّ، وَلَو نظر كتاب (الْمُوَطَّأ) لمَالِك بن أنس لوجده قد قَالَ: عَن علقمةِ إِلَى آخِره، وَلَو وجده ابْن حزم لما قَالَ: خولفت أم عَلْقَمَة بِمَا هُوَ أقوى من رِوَايَاتهَا. قلت: حَاصِل كَلَامه أَنه يرد على النَّوَوِيّ فِي دَعْوَاهُ الْجَزْم بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْحصار: هَذَا حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ من غير تَقْيِيد.
قَوْله: (وَكن نسَاء) ، بِصِيغَة الْجمع للمؤنث، وَفِيه ضمير يرجع إِلَى النِّسَاء، وَيُسمى مثل هَذَا الضَّمِير بالضمير الْمُبْهم، وَجوز ذَلِك بِشَرْط أَن يكون مشعرا بِمَا بعده، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يُقَال: إِنَّه إِضْمَار قبل الذّكر. قَوْله: (نسَاء) ، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ بدل من الضَّمِير الَّذِي فِي: ركن، وَهَذَا على لُغَة: أكلوني البراغيث. وَفَائِدَة ذكره بعد أَن علم من لفظ كن إِشَارَة إِلَى التنويع، والتنوين فِيهِ يدل عَلَيْهِ. وَالْمرَاد أَن ذَلِك كَانَ من بَعضهنَّ لَا من كُلهنَّ. وَقَالَ بَعضهم: والتنكير فِي النِّسَاء للتنويع. قلت: إِن لم يكن هَذَا مُصحفا من النَّاسِخ فَهُوَ غلط لِأَنَّهُ ماثم كسر فِي النِّسَاء، وَإِنَّمَا فِيهِ الرّفْع كَمَا ذكرنَا، أَو النصب على الِاخْتِصَاص، لَا يُقَال: إِنَّه نكرَة وَشرط النصب على الِاخْتِصَاص أَن يكون معرفَة، لأَنا نقُول: جَاءَ نكرَة كَمَا جَاءَ معرفَة. وَقَالَ الْهُذلِيّ:
(ويأوي إِلَى نسْوَة عطلوشعثا مراضيع مثل السعالي.)
قَوْله: (بالدرجة) ، بِضَم الدَّال وَسُكُون الرَّاء. قَالَه ابْن قرقول. وَقيل بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء، وَعند الْبَاجِيّ بِفَتْح الدَّال وَالرَّاء. قَالَ ابْن قرقول: وَهِي بعيدَة عَن الصَّوَاب. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كتاب (الْمُنْتَهى) : والدرج، بالتسكين: خفش النِّسَاء، والدرجة شَيْء يدرج فَيدْخل فِي حَيا النَّاقة، ثمَّ تشمه فتظنه وَلَدهَا فتراه، وَكَذَا ذكره الْقَزاز، وَصَاحب (الصِّحَاح) وَابْن سَيّده زَاد: والدرجة أَيْضا خرقَة يوضع فِيهَا دَوَاء ثمَّ يدْخل فِي حَيا النَّاقة، وَذَلِكَ إِذا اشتكت مِنْهُ. وَفِي (الباهر) : الدرجَة بِالْكَسْرِ، والإدراج جمع: الدرج، وَهُوَ سفط صَغِير. والدرجة مِثَال رطبَة. وَفِي (الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد: الدرج سفط صَغِير تجْعَل فِيهِ الْمَرْأَة طيبها وَمَا أشبهه. وَقَالَ ابْن قرقول: وَمن قَالَ بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء فَهُوَ عِنْده جمع درج، وَهُوَ سفط صَغِير نَحْو خرج وخرجة، وَنَحْو ترس وترسة. قَوْله: (الكرسف) بِضَم الْكَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَضم السِّين الْمُهْملَة، وَفِي آخِره فَاء: وَهُوَ الْقطن، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي كتاب (النَّبَات) : وَزعم بعض الروَاة أَنه يُقَال لَهُ: الكرسف، على الْقلب، وَيجمع الكرفس على كراسف. وَفِي (الْمُحكم) : إِنَّمَا اختير الْقطن لبياضه، وَلِأَنَّهُ ينشف الرُّطُوبَة فَيظْهر فِيهِ من آثَار الدَّم مَا لَا يظْهر من غَيره. قَوْله: (فَتَقول) أَي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْلهَا: (لَا تعجلن) بِسُكُون اللَّام نهي لجمع مؤنث مُخَاطبَة، وَيَأْتِي كَذَلِك للْجمع الْمُؤَنَّث الغائبة، وَيجوز هَهُنَا الْوَجْهَانِ. وَكَذَا: (فِي تَرين) فَافْهَم. قَوْلهَا: (حَتَّى تَرين) صِيغَة جمع الْمُؤَنَّث المخاطبة، وَأَصلهَا: ترأين، على وزن: تفعلن، لِأَنَّهَا من: رأى يرأى رُؤْيَة بِالْعينِ، وَتقول للْمَرْأَة: أَنْت تَرين، وللجماعة: أنتن تَرين، لِأَن الْفِعْل للواحدة وَالْجَمَاعَة سَوَاء فِي المواجهة فِي خبر الْمَرْأَة من بَنَات الْيَاء، إلاَّ أَن النُّون الَّتِي فِي الْوَاحِدَة عَلامَة الرّفْع، وَالَّتِي فِي الْجمع نون الْجمع. فَإِن قلت: إِذا كَانَ أصل: تَرين ترأين، كَيفَ فعل بِهِ حَتَّى صَار: تَرين؟ قلت: نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى الرَّاء، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها فِي الأَصْل وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ: تَرين، على وزن: تفلن، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ عين الْفِعْل وَهُوَ الْهمزَة فَقَط، وَوزن الْوَاحِدَة: تفين، لِأَن الْمَحْذُوف مِنْهُ عين الْفِعْل ولامه. قَوْلهَا: (الْقِصَّة الْبَيْضَاء) ، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِي تَفْسِيرهَا أَقْوَال. قَالَ ابْن سَيّده: الْقِصَّة والقص والجص، وَقيل: الْحِجَارَة من الجص. وَقَالَ(3/297)
الْجَوْهَرِي: هِيَ لُغَة حجازية، يُقَال: قصَص دَاره أَي: جصصها. وَيُقَال: الْقِصَّة القطنة والخرقة الْبَيْضَاء الَّتِي تحتشى بهَا الْمَرْأَة عِنْد الْحيض. وَقَالَ الْقَزاز: الْقِصَّة الجص، هَكَذَا قرأته بِفَتْح الْقَاف وحكيت بِالْكَسْرِ. وَفِي (الغريبين) و (الْمغرب) و (الْجَامِع) : الْقِصَّة شَيْء كالخيط الْأَبْيَض يخرج بعد انْقِطَاع الدَّم كُله. وَفِي (الْمُحِيط) من كتب أَصْحَابنَا: الْقِصَّة الطين الَّذِي يغسل بِهِ الرَّأْس. وَهُوَ أَبيض يضْرب إِلَى الصُّفْرَة. وَجَاء فِي الحَدِيث: (الْحَائِض لَا تَغْتَسِل حَتَّى تري الْقِصَّة الْبَيْضَاء) . إِي: حَتَّى تخرج الْقطن الَّتِي تحتشي بهَا كَأَنَّهَا جصة لَا تخالطها صفرَة. قلت: أُرِيد بهَا التَّشْبِيه بالجصة فِي الْبيَاض والصفاء، وأنث لِأَنَّهُ ذهب الى الْمُطَابقَة، كَمَا حكى سِيبَوَيْهٍ من قَوْلهم: لبنة وعسلة. وَقَالَ ابْن قرقول: قد فسر مَالك الْقِصَّة بقوله: تُرِيدُ بذلك الطُّهْر، أَي: تُرِيدُ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بقولِهَا: (حَتَّى تَرين الْقِصَّة الْبَيْضَاء) : الطُّهْر من الْحَيْضَة. وَفسّر الْخطابِيّ بقوله: تُرِيدُ الْبيَاض التَّام. وَقَالَ ابْن وهب فِي تَفْسِيره: رَأَتْ الْقطن الْأَبْيَض كَأَنَّهُ هُوَ، وَقَالَ مَالك: سَأَلت النِّسَاء عَن الْقِصَّة الْبَيْضَاء، فَإِذا ذَلِك أَمر مَعْلُوم عِنْد النِّسَاء يرينه عِنْد الطُّهْر. وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن اسحاق عَن عبد الله بن أبي بكر عَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد، وَكَانَت فِي حجر عمْرَة. قَالَت: أرْسلت امْرَأَة من قُرَيْش إِلَى عمْرَة كرسفة قطن فِيهَا. أَظُنهُ أَرَادَ الصُّفْرَة تسألها إِذا لم تَرَ من الْحَيْضَة إلاَّ هَذَا طهرت؟ قَالَ: فَقَالَت: لَا حَتَّى ترى الْبيَاض خَالِصا. وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك، فَإِن رَأَتْ صفرَة فِي زمن الْحيض ابْتِدَاء فَهُوَ حيض عِنْدهم. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا حَتَّى يتقدمها دم.
وَبَلَغَ ابْنَةَ زَيدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ نِساءً يَدْعُونَ بالمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ مَا كانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن نظر النِّسَاء إِلَى الطُّهْر لأجل أَن يعلمن إدبار الْحيض.
وَأخرجه مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عمته عَن ابْنة زيد بن ثَابت أَنه: بلغنَا ... فَذكره، وعمة ابْن أبي بكر اسْمهَا عمْرَة بنت حزم، وَوَقع ذكر بنت زيد بن ثَابت هَهُنَا هَكَذَا مُبْهما، وَوَقع فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَقَالَ الْحَافِظ الدمياطي: لزيد بن ثَابت من الْبَنَات: أم إِسْحَاق وحسنة وَعمرَة وَأم كُلْثُوم وَأم حسن وَأم مُحَمَّد وَقَرِيبَة وَأم سعد. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَيُشبه أَن تكون هَذِه المبهمة أم سعد، ذكرهَا ابْن عبد الْبر فِي الصحابيات، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر لوَاحِدَة مِنْهُنَّ يَعْنِي من بَنَات زيد رِوَايَة إلاَّ لأم كُلْثُوم، وَكَانَت زوج سَالم بن عبد الله بن عمر، فَكَأَنَّهَا هِيَ المبهمة هُنَا. وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنَّهَا أم سعد. قَالَ لِأَن ابْن عبد الْبر ذكرهَا فِي الصَّحَابَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَيْسَ فِي ذكره لَهَا دَلِيل على الْمُدعى، لِأَنَّهُ لم يقل: إِنَّهَا صَاحِبَة هَذِه الْقِصَّة، بل لم يَأْتِ لَهَا ذكر عِنْده وَلَا عِنْد غَيره إلاَّ من طَرِيق عَنْبَسَة بن عبد الرَّحْمَن، وَقد كذبوه، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يضطرب فِيهَا، فَتَارَة يَقُول: بنت زيد، وَتارَة يَقُول: امْرَأَة زيد. وَلم يذكر أحد من أهل الْمعرفَة بِالنّسَبِ فِي أَوْلَاد زيد من يُقَال لَهَا أم سعد. انْتهى. قلت: ذكره الذَّهَبِيّ، فَقَالَ: أم سعد بنت زيد بن ثَابت. وَقيل: امْرَأَته، وَأَيْضًا عدم رُؤْيَة هَذَا الْقَائِل رِوَايَة الْوَاحِدَة من بَنَات زيد إلاَّ لأم كُلْثُوم لَا يُنَافِي رِوَايَة غَيرهَا من بَنَاته، لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَأْنه أَن يُحِيط بِجَمِيعِ الرِّوَايَات. وَقَوله: زعم بعض الشُّرَّاح، أَرَادَ بِهِ صَاحب (التَّوْضِيح) ، فليت شعري مَا الْفرق بَين زعم هَذَا وزعمه هُوَ حَيْثُ قَالَ: فَكَأَنَّهَا هِيَ المبهمة، أَي: أم كُلْثُوم هِيَ المبهمة فِي هَذَا الْأَثر؟ على أَن صَاحب (التَّوْضِيح) مَا جزم بِمَا قَالَه، بل قَالَ: وَيُشبه أَن تكون هَذِه المبهمة أم سعد.
قَوْله: (إِن نسَاء) هَكَذَا وَقع فِي غَالب النّسخ بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَفِي بَعْضهَا: (إِن النِّسَاء) ، بِالْألف وَاللَّام، حَتَّى قَالَ الْكرْمَانِي: إِن اللَّام، للْعهد عَن نسَاء الصَّحَابَة، وَبِدُون اللَّام أَعم وأشمل. قَوْله: (يدعونَ) بِلَفْظ الْجمع الْمُؤَنَّث، ويشترك فِي هَذِه الْمَادَّة الْجمع الْمُذكر والمؤنث، وَفِي التَّقْدِير مُخْتَلف، فوزن الْجمع الْمُذكر: يفعون، وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث: يفعلن، وَمعنى: يدعونَ بالمصابيح؛ يطلبنها لينظرن بهَا إِلَى مَا فِي الكراسيف حَتَّى يَقِفن على مَا يدل على الطُّهْر. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يدعين، قَالَه بَعضهم: قلت: فِي نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ نظر لَا يخفى، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: قَالَ صَاحب (الْقَامُوس) : دعيت لُغَة فِي دَعَوْت. قلت: أَرَادَ بِهَذَا تَقْوِيَة صِحَة مَا رَوَاهُ عَن الْكشميهني، وَلَا يفِيدهُ هَذَا، لِأَن صَاحب (الْقَامُوس) تكلم فِيهِ. قَوْله: (إِلَى الطُّهْر) أَي: إِلَى مَا يدل على الطُّهْر من القطنة. قَوْله: (وعابت عَلَيْهِنَّ) ، أَي: عابت بنت زيد بن ثَابت على النِّسَاء الْمَذْكُورَة، وَإِنَّمَا عابت عَلَيْهِنَّ لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي الْحَرج وَهُوَ مَذْمُوم، وَكَيف لَا وجوف اللَّيْل لَيْسَ إلاَّ وَقت الاسْتِرَاحَة؟ وَقيل: لكَون ذَلِك كَانَ فِي غير وَقت الصَّلَاة، وَهُوَ جَوف اللَّيْل. قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ وَقت الْعشَاء. قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم يدل شَيْء أَنه(3/298)
كَانَ وَقت الْعشَاء، لِأَن طلب المصابيح لأمر غَالب لَا يكون إلاَّ فِي شدَّة الظلمَة، وَشدَّة الظلمَة لَا تكون إلاَّ فِي جَوف اللَّيْل. وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عباد بن إِسْحَاق عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عمْرَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تنْهى النِّسَاء أَن ينظرن إِلَى أَنْفسهنَّ لَيْلًا فِي الْحيض، وَتقول: (إِنَّهَا قد تكون الصُّفْرَة والكدرة) . وَعَن مَالك: لَا يُعجبنِي ذَلِك، وَلم يكن للنَّاس مصابيح. وروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ: أَنَّهُنَّ كن لَا يقمن بِاللَّيْلِ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) يشبه أَن يكون مَا بلغ ابْنة زيد عَن النِّسَاء كَانَ فِي أَيَّام الصَّوْم لينظرن الطُّهْر لنِيَّة الصَّوْم، لِأَن الصَّلَاة لَا تحْتَاج لذَلِك، لِأَن وُجُوبهَا عَلَيْهِنَّ إِنَّمَا يكون بعد طُلُوع الْفجْر.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْحَائِض تطهر قبل الْفجْر وَلَا تغسل حَتَّى يطلع الْفجْر. فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَت أَيَّامهَا أقل من عشرَة صَامت وقضت، وَإِن كَانَت عشرَة صَامت وَلم تقض. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هِيَ بِمَنْزِلَة الْجنب تَغْتَسِل وتصوم، ويجزيها صَوْم ذَلِك الْيَوْم، وَعَن عبد الْملك بن ماجشون: يَوْمهَا ذَلِك يَوْم فطر. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: تصومه وتقضيه.
وَفِي (الْقَوَاعِد) لِابْنِ رشد: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي عَلامَة الطُّهْر، فَرَأى قوم أَن علامته الْقِصَّة أَو الجفوف. قَالَ ابْن حبيب: وَسَوَاء كَانَت الْمَرْأَة من عَادَتهَا انها تطهر بِهَذِهِ، وَفرق قوم فَقَالُوا: إِن كَانَت مِمَّن لَا يَرَاهَا فطهرها الجفوف. وَقَالَ ابْن حبيب: الْحيض أَوله دم ثمَّ يصير صفرَة ثمَّ تربة ثمَّ كدرة ثمَّ يكون ريقا كالقصة ثمَّ يَنْقَطِع، فَإِذا انْقَطع قبل هَذِه الْمنَازل وجف أصلا فَذَلِك إِبْرَاء للرحم. وَفِي (المُصَنّف) عَن عَطاء: الطُّهْر الْأَبْيَض الجفوف الَّذِي لَيْسَ مَعَه صفرَة وَلَا مَاء، وَعَن أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ: سُئِلت عَن الصُّفْرَة الْيَسِيرَة، قَالَت: اعتزلن الصَّلَاة مَا رأين ذَلِك حَتَّى لَا تَرين إلاَّ لَبَنًا خَالِصا.
320 - ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ أبِي حُبَيْشٍ كانَتْ تُسْتَحَاضُ فسألَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بالحَيْضَةِ فَإذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ وإذَا أدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: (فَإِذا أَقبلت، وَإِذا أَدْبَرت) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب غسل الدَّم وَفِي بَاب الِاسْتِحَاضَة، وسُفْيَان فِي هَذَا الْإِسْنَاد هُوَ ابْن عُيَيْنَة، لِأَن عبد الله بن مُحَمَّد وَهُوَ المسندي لم يسمع من سُفْيَان الثَّوْريّ، وَلَفظ الحَدِيث فِي بَاب غسل الدَّم: (فَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي) من غير إِيجَاب الْغسْل، وَقَالَ عُرْوَة: ثمَّ توضئي لكل صَلَاة لإِيجَاب الْوضُوء، وَهنا قَالَ: (فاغتسلي وَصلي) لإِيجَاب الْغسْل، لِأَن أَحْوَال المستحاضات مُخْتَلفَة، فيوزع عَلَيْهَا. أَو نقُول: إِيجَاب الْغسْل والتوضىء لَا يُنَافِي عدم التَّعَرُّض لَهما، وَإِنَّمَا يُنَافِي التَّعَرُّض لعدمهما. وَقَوله: (فاغتسلي وَصلي) لَا يَقْتَضِي تكْرَار الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، بل يَكْفِي غسل وَاحِد، وَلَا يرد عَلَيْهِ حَدِيث أم حَبِيبَة: كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة، على مَا يَأْتِي فِي بَاب عرق الِاسْتِحَاضَة، لِأَنَّهَا لَعَلَّهَا كَانَت من المستحاضات الَّتِي يجب عَلَيْهَا الْغسْل لكل صَلَاة. وَقَالَ [قعالشافعي [/ قع، رَحمَه الله تَعَالَى: إِنَّمَا أمرهَا أَن تَغْتَسِل وَتصلي، وَلَيْسَ فِي أَنه أمرهَا أَن تَغْتَسِل لكل صَلَاة قَالَ: وَلَا أَشك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَن غسلهَا كَانَ تَطَوّعا غير مَا أمرت بِهِ. وَذَلِكَ وَاسع.
20 - (بابٌ لاَ تَقْضِي الحائِضُ الصَّلاةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ الْحَائِض لَا تقضي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا تقضي الصَّلَاة، وَلم يقل: تدع الصَّلَاة، كَمَا فِي حَدِيث جَابر وَأبي سعيد، لِأَن عدم الْقَضَاء أَعم وأشمل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول ترك الصَّلَاة عِنْد إقبال الْحيض، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ كَذَلِك.
وقالَ جابرٌ وَأبُو سَعِيدٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَدَعُ الصَّلاَةَ
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ترك الصَّلَاة يسْتَلْزم عدم الْقَضَاء، وَلِأَن الشَّارِع أَمر بِالتّرْكِ، ومتروك الشَّرْع لَا يجب فعله فَلَا يجب قَضَاؤُهُ إِذا ترك. أما التَّعْلِيق عَن جَابر فقد أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَحْكَام من طَرِيق حبيب عَن جَابر فِي قصَّة حيض عَائِشَة فِي الْحَج، وَفِيه: (غير أَنَّهَا لَا تَطوف وَلَا تصلي) . وَمعنى قَوْله: (وَلَا تصلي) تدع الصَّلَاة، وَرَوَاهُ مُسلم نَحوه(3/299)
من طَرِيق أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأما التَّعْلِيق عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَأخْرجهُ فِي بَاب ترك الْحَائِض الصَّوْم، وَفِيه: (إِذا حَاضَت لم تصم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فَإِن قلت: عقد الْبَاب فِي الْقَضَاء لَا فِي التّرْك! قلت: التّرْك مُطلق أَدَاء وَقَضَاء. قلت: عقد الْبَاب فِي عدم الْقَضَاء، وَعدم الْقَضَاء ترك، وَالتّرْك أَعم. وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَن هَذَا كَلَام صادر من غير تَأمل، لِأَن التّرْك وَعدم الْقَضَاء بِمَعْنى وَاحِد فِي الْحَقِيقَة، وَكَلَامه يشْعر بالتغاير بَينهمَا، فَإِذا سلمنَا ذَلِك كَانَ يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَن يُشِير إِلَيْهِمَا فِي التَّرْجَمَة، وَحَيْثُ لم يشر إِلَى ذَلِك فِيهَا، علمنَا أَن مَا بَينهمَا مُغَايرَة، فَلذَلِك اقْتصر فِي التَّرْجَمَة على أَحدهمَا.
26 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا همام قَالَ حَدثنَا قَتَادَة قَالَ حَدَّثتنِي معَاذَة أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة أتجزي إحدانا صلَاتهَا إِذا طهرت فَقَالَت أحرورية أَنْت كُنَّا نحيض مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَأْمُرنَا بِهِ أَو قَالَت فَلَا نفعله) مُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَلَا يَأْمُرنَا بِهِ " أَي بِقَضَاء الصَّلَاة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي الثَّانِي همام بِالتَّشْدِيدِ بن يحيى بن دِينَار الْعَدوي قَالَ أَحْمد همام ثَبت فِي كل الْمَشَايِخ مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة الثَّالِث قَتَادَة الأكمه الْمُفَسّر الرَّابِع معَاذَة بِضَم الْمِيم وبالعين الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة بنت عبد الله العدوية الثِّقَة الْحجَّة الزاهدة روى لَهَا الْجَمَاعَة وَكَانَت تحيي اللَّيْل مَاتَت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ الْخَامِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه تَصْرِيح لسَمَاع قَتَادَة عَنهُ معَاذَة وَهُوَ رد على مَا ذكره شُعْبَة وَأحمد أَنه لم يسمع مِنْهَا وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون. (ذكر من أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث أخرجه السِّتَّة مُسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر وَعَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق وَأَبُو دَاوُد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن الْحسن بن عَمْرو وَالتِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد وَالنَّسَائِيّ عَن عمر بن زُرَارَة وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة كلهم أَخْرجُوهُ فِي الطَّهَارَة وَالنَّسَائِيّ أخرجه فِي الصَّوْم عَن عَليّ بن مسْهر. (ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ) قَوْلهَا " إِن امْرَأَة " هَاهُنَا مُبْهمَة أبهما همام وَبَين فِي رِوَايَته عَن قَتَادَة أَنَّهَا هِيَ معَاذَة الراوية وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيقه وَكَذَا مُسلم من طَرِيق عَاصِم وَغَيره عَن معَاذَة قَالَت " سَأَلت عَائِشَة مَا بَال الْحَائِض تقضي الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة فَقَالَت أحرورية أَنْت قلت لست بحرورية وَلَكِن أسأَل كَانَ يصيبنا ذَلِك فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة " وَفِي لفظ آخر " قد كَانَت إحدانا تحيض على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا نؤمر بِقَضَاء " وَفِي لفظ آخر " قد كُنَّا نسَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحضن وَلَا يؤمرن أَن يجزين " قَالَ مُحَمَّد بن جَعْفَر يَعْنِي يقضين قَوْلهَا " أتجزي إحدانا " بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الزَّاي غير مَهْمُوز وَحكى بَعضهم الْهمزَة وَمَعْنَاهُ أتقضي وَبِه فسروا قَوْله تَعَالَى {لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} وَلَا يُقَال هَذَا الشَّيْء يَجْزِي عَن كَذَا أَي يقوم مقَامه قَوْلهَا " صلَاتهَا " بِالنّصب على المفعولية ويروى " أتجزي " على صِيغَة الْمَجْهُول وعَلى هَذَا صلَاتهَا بِالرَّفْع لِأَنَّهُ مفعول قَامَ مقَام الْفَاعِل وَمَعْنَاهُ أتكفي الْمَرْأَة الصَّلَاة الْحَاضِرَة وَهِي طَاهِرَة وَلَا تحْتَاج إِلَى قَضَاء عَن الْفَائِتَة. قَوْلهَا " أحرورية أَنْت " من الْجُمْلَة من الْمُبْتَدَأ وَهُوَ أَنْت وَالْخَبَر وَهُوَ أحرورية دخلت عَلَيْهَا همزَة الِاسْتِفْهَام الإنكارية وَفَائِدَة تقدم الْخَبَر للدلالة على الْحصْر أَي أحرورية أَنْت لَا غير وَهِي نِسْبَة إِلَى حروراء قَرْيَة بِقرب الْكُوفَة وَكَانَ أول اجْتِمَاع الْخَوَارِج فِيهَا وَقَالَ الْهَرَوِيّ تعاقدوا فِي هَذِه الْقرْيَة فنسبوا إِلَيْهَا فَمَعْنَى كَلَام عَائِشَة هَذَا أخارجية أَنْت لِأَن طَائِفَة من الْخَوَارِج يوجبون على الْحَائِض قَضَاء الصَّلَاة الْفَائِتَة فِي زمن الْحيض وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع وكبار فرق الحروية سِتَّة الْأزَارِقَة والصفرية والنجدات والعجاردة والأباضية والثعالبة وَالْبَاقُونَ فروع وهم الَّذين خَرجُوا على عَليّ رَضِي الله عَنهُ ويجمعهم القَوْل بالتبري من عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا ويقدمون ذَلِك على كل طَاعَة وَلَا يصححون المناكحات إِلَّا على ذَلِك وَكَانَ خُرُوجهمْ على عهد عَليّ رَضِي الله عَنهُ لما حكم أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَمْرو بن(3/300)
الْعَاصِ وأنكروا على عَليّ فِي ذَلِك وَقَالُوا شَككت فِي أَمر الله وحكمت عَدوك وطالت خصومتهم ثمَّ أَصْبحُوا يَوْمًا وَقد خَرجُوا وهم ثَمَانِيَة آلَاف وأميرهم ابْن الكوا عبد الله فَبعث إِلَيْهِم على عبد الله بن عَبَّاس فناظرهم فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ وَبَقِي سِتَّة آلَاف فَخرج إِلَيْهِم عَليّ فَقَاتلهُمْ وَكَانَ يشددون فِي الدّين وَمِنْه قَضَاء الصَّلَاة على الْحَائِض قَالُوا إِذا لم يسْقط فِي كتاب الله تَعَالَى عَنْهَا على أَصْلهَا وَقد قُلْنَا إِن حروراء اسْم قَرْيَة وَهِي ممدودة وَقَالَ بَعضهم بِالْقصرِ أَيْضا حَكَاهُ أَبُو عبيد وَزعم أَبُو الْقَاسِم الغوراني أَن حروراء هَذِه مَوضِع بِالشَّام وَفِيه نظر لِأَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّمَا كَانَ بِالْكُوفَةِ وقتاله لَهُم إِنَّمَا كَانَ هُنَاكَ وَلم يَأْتِي أَنه قَاتلهم بِالشَّام لِأَن الشَّام لم يكن فِي طَاعَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وعَلى ذَلِك أطبق المؤرخون وَقَالَ الْمبرد النِّسْبَة إِلَى حروراء حروراو وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ فِي آخِره ألف التَّأْنِيث الممدودة وَلكنه نسب إِلَى الْبَلَد بِحَذْف الزَّوَائِد فَقيل الحروري قَوْلهَا " مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي مَعَ وجوده وَالْمعْنَى فِي عَهده وَالْغَرَض مِنْهُ بَيَان أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مطلعا على حالهن من الْحيض وتركهن الصَّلَاة فِي أَيَّامه وَمَا كَانَ يَأْمُرهُنَّ بِالْقضَاءِ وَلَو كَانَ وَاجِبا لأمرهن بِهِ وَقَوْلها " فَلَا يَأْمُرنَا بِهِ " أَي بل كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرنَا بِقَضَاء الصَّوْم قَوْلهَا " أَو قَالَت لَا نفعله " أَي الْقَضَاء وَلَفْظَة أَو للشَّكّ قَالَ الْكرْمَانِي وَالظَّاهِر أَنه من معَاذَة وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من وَجه آخر فَلم نَكُنْ نقضي وَلم نؤمر بِهِ (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ أَن الْحَائِض لَا تقضي الصَّلَاة وَلَا خلاف فِي ذَلِك بَين الْأمة إِلَّا لطائفة من الْخَوَارِج قَالَ معمر قَالَ الزُّهْرِيّ تقضي الْحَائِض الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة قلت عَمَّن قَالَ أجمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي كل شَيْء تَجِد الْإِسْنَاد الْقوي أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْحَائِض وَالنُّفَسَاء لَا يجب عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَلَا الصَّوْم فِي الْحَال وعَلى أَنه لَا يجب عَلَيْهِمَا قَضَاء الصَّلَاة وعَلى أَنه عَلَيْهِمَا قَضَاء الصَّوْم وَالْفرق بَينهمَا أَن الصَّلَاة كَثِيرَة متكررة فشق قَضَاؤُهَا بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب فِي السّنة مرّة وَاحِدَة وَمن السّلف من كَانَ يَأْمر بالحائض بِأَن تتوضأ عِنْد وَقت الصَّلَاة وتذكر الله تَعَالَى تسْتَقْبل الْقبْلَة ذاكرة لله جالسة رُوِيَ ذَلِك عَن عقبَة بن عَامر وَمَكْحُول وَقَالَ كَانَ ذَلِك من هدي نسَاء الْمُسلمين فِي حيضهن وَقَالَ عبد الرَّزَّاق بَلغنِي أَن الْحَائِض كَانَت تُؤمر بذلك عِنْد وَقت كل صَلَاة وَقَالَ عَطاء لم يبلغنِي ذَلِك وَإنَّهُ لحسن وَقَالَ أَبُو عمر هُوَ أَمر مَتْرُوك عِنْد جمَاعَة الْفُقَهَاء بل يكرهونه قَالَ أَبُو قلَابَة سَأَلنَا عَن ذَلِك فَلم نجد لَهُ أصلا وَقَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز مَا نعرفه وَإِنَّا لنكرهه وَفِي منية الْمُفْتِي للحنفية يسْتَحبّ لَهَا عِنْد وَقت كل صَلَاة أَن تتوضأ وتجلس فِي مَسْجِد بَيتهَا تسبح وتهلل مِقْدَار أَدَاء الصَّلَاة لَو كَانَت طَاهِرَة حَتَّى لَا تبطل عَادَتهَا وَفِي الدِّرَايَة يكْتب لَهَا ثَوَاب أحسن صَلَاة كَانَت تصلى فَإِن قلت هَل الْحَائِض مُخَاطبَة بِالصَّوْمِ أَولا (قلت) لَا وَإِنَّمَا يجب عَلَيْهَا الْقَضَاء بِأَمْر جَدِيد وَقيل مُخَاطبَة بِهِ مأمورة بِتَرْكِهِ كَمَا يُخَاطب الْمُحدث بِالصَّلَاةِ وَإنَّهُ لَا يَصح مِنْهُ فِي زمن الْحَدث وَهَذَا غير صَحِيح وَكَيف يكون الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهَا ومحرما عَلَيْهَا بِسَبَب لَا قدرَة لَهَا على إِزَالَته بِخِلَاف الْمُحدث فَإِنَّهُ قَادر على الْإِزَالَة وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
21 - (بابُ النَّوْمَ مَعَ الحَائِضِ وهْيَ فِي ثِيَابِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النّوم مَعَ زَوجته الْحَائِض، وَالْحَال أَنَّهَا فِي ثِيَابهَا الَّتِي معدة لحيضها، وَهُوَ جَائِز لدلَالَة حَدِيث الْبَاب عَلَيْهِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على حكم مُخْتَصّ بالحائض.
322 - ح دَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ قالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى عَنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قالَتْ حِضْتُ وأنَا معَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الخَمِيلَةِ فانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فأخذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَلبِسْتُهَا فقالَ لِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ قالَتْ وَحَدَّثَتْنِي أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُقَبِّلُها وَهْوَ صَائِم وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا والنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ.(3/301)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الحكم الأول، لِأَن الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام، وَقد مر هَذَا الحكم، وَهُوَ الْجُزْء الأول مِنْهُ، فِي بَاب من سمى النّفاس حيضا، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من رجال الْإِسْنَاد ولطائفه وتعدد مَوْضِعه ومعانيه وَأَحْكَامه، فَنَذْكُر هُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ.
ورجالهههنا: سعد بن حَفْص عَن شَيبَان النَّحْوِيّ عَن يحيى وَهُوَ ابْن أبي كثير، وَهُنَاكَ مكي بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام عَن يحيى بن أبي كثير، والخميلة: القطيفة، والخميلة الثَّانِيَة هِيَ الخميلة الأولى لِأَن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت معرفَة يكون الثَّانِي عين الأول. قَوْله: (قَالَت) أَي: زَيْنَب، وَظَاهره التَّعْلِيق، لَكِن السِّيَاق مشْعر بِأَنَّهُ دَاخل تَحت الْإِسْنَاد الْمَذْكُور. وَقَوْلها: (حَدَّثتنِي) عطف على مُقَدّر هُوَ مقول القَوْل. قَوْلهَا: (وَكنت) ، عطف على مُقَدّر تَقْدِيره: وَقَالَت: كنت أَغْتَسِل، وَإِظْهَار الضَّمِير بعده لصِحَّة الْعَطف عَلَيْهِ، وَهُوَ لفظ النَّبِي، وَيجوز فِيهِ النصب على الْمَعِيَّة. قَوْلهَا: (من إِنَاء وَاحِد من الْجَنَابَة) كلمة: من، فيهمَا يتعلقان بقوله: (اغْتسل) ، وَلَا يمْتَنع هَذَا لِأَن الِابْتِدَاء فِي الأول: من عين، وَفِي الثَّانِي: من معنى. وَإِنَّمَا يمْتَنع إِذا كَانَ الِابْتِدَاء من شَيْئَيْنِ هما من جنس وَاحِد: كزمانين، نَحْو: رَأَيْته من شهر من سنة، أَو مكانين نَحْو: خرجت من الْبَصْرَة من الْكُوفَة. فإفهم.
22 - (بابُ مَنْ اتخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اتخذ من النِّسَاء ثيابًا معدة للْحيض سوى ثِيَابهَا الَّتِي تلبسها وَهِي طَاهِرَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بَاب من أعد، من الإعداد.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الحَدِيث الْمَذْكُور فيهمَا وَاحِد.
323 - ح دَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قالَ حدَّثنا هِشامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عنْ أمِّ سَلَمَةَ قالَتْ بَيْنَا أنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ حضْتُ فانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثيَابَ حِيضَتِي فقالَ أَنُفِسْتِ فقُلْتُ نعَمْ فَدَعَانِي فاضْطَجَعْتُ مَعَه فِي الخَمِيلةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومعاذ بن فضَالة الزهْرَانِي الْبَصْرِيّ أَبُو زيد، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير. قَوْلهَا: (فَقلت) ، ويروى: (قلت) بِدُونِ الْفَاء. وَقَالَ ابْن بطال: إِن قيل هَذَا الحَدِيث يُعَارض قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ) . قيل: لَا تعَارض، فَإِن حَدِيث عَائِشَة فِي بَدْء الْإِسْلَام لقِيَام الشدَّة والقلة إِذن قبل فتح الْفتُوح من الْغَنَائِم، فَلَمَّا فتح عَلَيْهِم اتسعت وَاتخذ النِّسَاء ثيابًا للْحيض سوى ثيابهن فِي اللبَاس، فَأخْبرت أم سَلمَة عَن ذَلِك الْوَقْت.
23 - (بابُ شُهُودِ الحَائِضِ الْعِيدَيْنِ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم حُضُور الْحَائِض فِي يَوْم الْعِيدَيْنِ. قَوْله: (ودعوة الْمُسلمين) ، بِالنّصب عطف على الْعِيدَيْنِ وَهِي الاسْتِسْقَاء، نَص عَلَيْهِ الْكرْمَانِي، وَهِي أَعم مِنْهُ على مَا لَا يخفى قَوْله: (ويعتزلن) أَي: حَال كونهن يعتزلن الْمصلى، وَهُوَ مَكَان الصَّلَاة، وَإِنَّمَا جمعه لِأَن الْحَائِض اسْم جنس، فبالنظر إِلَى مَعْنَاهُ يجوز الْجمع، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: واعتزالهن.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ حكم من أَحْكَام الْحَائِض، كَمَا أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق كَذَلِك.
324 - ح دَّثنا مُحَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلاَمٍ قالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ عنْ أيُّوبَ عنْ حَفْصةَ قالتْ كنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنا أنْ يَخْرُجْنَ فِي العِيدَيْنِ فَقَامَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عنْ أُخْتِهَا وكانَ زوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وكانَتْ أخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أنْ لاَ تَخْرُجَ قالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أمُّ عَطِيَّةَ سَألْتُهَا أسَمِعْتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالتْ بِأبِي نَعَمْ وَكَانَتْ(3/302)
لاَ تَذْكُرُهُ إلاَّ قالتْ بِأبِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ تَخْرُجُ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أوْ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ والْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى قالتْ حَفْصَةُ فَقُلْتُ الْحُيَّضُ فقالتْ ألَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام البيكندي، كَذَا وَقع: مُحَمَّد بن سَلام فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: حَدثنَا مُحَمَّد، بِغَيْر ذكر أَبِيه. الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين، أم الْهُذيْل الْأَنْصَارِيَّة البصرية، أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين، روى لَهَا الْجَمَاعَة. الْخَامِس: امْرَأَة فِي قَوْله: (فَقدمت امْرَأَة) وَلم يعلم اسْمهَا. السَّادِس: أُخْتهَا، قيل: هِيَ أُخْت أم عَطِيَّة، وَقيل: غَيرهَا. وَنَصّ الْقُرْطُبِيّ أَنَّهَا أم عَطِيَّة. السَّابِع: زوج أُخْتهَا وَلم يعلم اسْمهَا. الثَّامِن: أم عَطِيَّة. وَاخْتلف فِي اسْمهَا فَقيل: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: بنت الْحَارِث. وَقيل: بنت كَعْب، وَقيل، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين كَذَا ذكره الْخَطِيب، وَزعم الْقشيرِي أَنَّهَا بنُون وشين مُعْجمَة. وَفِي (التَّنْقِيح) لِابْنِ الْجَوْزِيّ: لسينة، بلام مَضْمُومَة وسين مَفْتُوحَة وياء سَاكِنة وَنون مَفْتُوحَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل وَالسُّؤَال وَالسَّمَاع. وَفِيه: إِن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث، وَعَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي عَن حَمَّاد بن زيد، وَفِي الْحَج عَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل ابْن علية، أربعتهم عَن أَيُّوب بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْعِيدَيْنِ عَن عَمْرو النَّاقِد عَن عِيسَى بن يُونُس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن النُّفَيْلِي عَن زُهَيْر بِهِ، وَأخرجه أَيْضا مُحَمَّد بن عبيد عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ، وَعَن مُوسَى بن سَلمَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم عَن مَنْصُور بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهَا عَن أبي بكر بن عَليّ عَن شُرَيْح بن يُونُس عَن هشيم بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهَا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان عَن أَيُّوب بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ: قَوْلهَا: (كُنَّا نمْنَع عواتقنا) ، جمع: عاتق، أَي: شَابة أول مَا أدْركْت فخدرت فِي بَيت أَهلهَا وَلم تفارق أَهلهَا إِلَى زوج. وَفِي (الموعب) : قَالَ أَبُو زيد: العاتق من النِّسَاء الَّتِي بَين الَّتِي قد أدْركْت وَبَين الَّتِي عنست. والعاتق الَّتِي لم تتَزَوَّج. وَعَن الْأَصْمَعِي: هِيَ من الْجَوَارِي فَوق المعصر. وَعَن أبي حَاتِم هِيَ الَّتِي لم تبن عَن أَهلهَا. وَعَن ثَابت هِيَ الْبكر الَّتِي لم تبن إِلَى الزَّوْج. وَعَن ثَعْلَب: سميت عاتقا لِأَنَّهَا عتقت عَن خدمَة أَبَوَيْهَا وَلم يملكهَا زوج بعد. وَفِي (الْمُخَصّص) : الَّتِي اشتكت الْبلُوغ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هِيَ الْجَارِيَة الَّتِي قد أدْركْت وَبَلغت وَلم تتَزَوَّج. وَقيل: الَّتِي بلغت أَن تدرع وعتقت من الصباء والاستعانة بهَا فِي مهنة أَهلهَا. قَوْلهَا: (فَقدمت امْرَأَة) لم يسم اسْمهَا. قَوْلهَا: (قصر بني خلف) هُوَ مَكَان بِالْبَصْرَةِ مَنْسُوب إِلَى طَلْحَة ابْن عبد الله بن خلف الْخُزَاعِيّ الْمَعْرُوف بطلحة الطلحات، كَذَا قَالَه بَعضهم. قلت: لَيْسَ مَنْسُوبا إِلَى طَلْحَة، بل هُوَ مَنْسُوب إِلَى خلف جد طَلْحَة الْمَذْكُور. وَكَذَا جَاءَ مُبينًا فِي رِوَايَة. قَوْلهَا: (ثِنْتَيْ عشرَة غَزْوَة) هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَرِوَايَة غَيره (ثِنْتَيْ عشرَة) فَقَط، وَعشرَة بِسُكُون الشين، وَتَمِيم تكسرها. قَوْلهَا: (وَكَانَت) أَي: قَالَت الْمَرْأَة المحدثة: كَانَت أُخْتِي، وَلَا بُد من تَقْدِير: قَالَت، حَتَّى يَصح الْمَعْنى، وَتَقْدِير القَوْل فِي الْكَلَام غير عَزِيز. قَوْلهَا: (مَعَه) أَي مَعَ زَوجهَا، أَو مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْلهَا: (فِي سِتّ) أَي فِي سِتّ غزوات، وروى الطَّبَرَانِيّ أَنَّهَا غزت مَعَه سبعا. قَوْلهَا: (قَالَت) أَي: الْأُخْت لَا الْمَرْأَة، وَإِنَّمَا قَالَت: (كُنَّا) بِلَفْظ الْجمع لبَيَان فَائِدَة حُضُور النِّسَاء الْغَزَوَات على سَبِيل الْعُمُوم. قَوْلهَا: (كلمى) جمع: كليم، وَهُوَ على الْقيَاس، لِأَنَّهُ فعيل بِمَعْنى مفعول، والمرضى مَحْمُول عَلَيْهِ، والكلمى: الْجَرْحى. وَقَالَ ابْن سَيّده: جمع كليم وكلوم وَكَلَام وَكَلمه ويكلمه ويكلمه من بَاب: نصر ينصر وَضرب يضْرب. وَكلما، بِالْفَتْح مصدره، وَكَلمه: جرحه. وَرجل مكلوم وكليم وَفِي (الصِّحَاح) : التكليم: التجريح قَوْلهَا: (بَأْس) : أَي حرج وإثم. قَوْلهَا: (جِلْبَاب) ، وَهُوَ خمار وَاسع كالملحفة تغطي بِهِ الْمَرْأَة رَأسهَا وصدرها. وتجلببت الْمَرْأَة وجلببها غَيرهَا، وَلم يدغم لِأَنَّهُ مُلْحق. وَفِي (الْمُحكم) : الجلباب الْقَمِيص، وَقيل: هُوَ ثوب وَاسع دون الملحفة(3/303)
تلبسه الْمَرْأَة. وَقيل: مَا يُغطي بِهِ الثِّيَاب من فَوق كالملحفة. وَقيل: هُوَ الْخمار. وَفِي (الصِّحَاح) : الجلباب الملحفة، والمصدر: الجلببة، وَلم تُدْغَم لِأَنَّهَا مُلْحقَة بدحرجة. وَفِي (الغريبين) : الجلباب الْإِزَار. وَقيل: هُوَ الملاة الَّتِي تشْتَمل بهَا. وَقَالَ عِيَاض: هُوَ أقصر من الْخمار وَأعْرض، وَهِي المقنعة. وَقيل: دون الرِّدَاء تغطي بِهِ الْمَرْأَة ظهرهَا وصدرها. قَوْله: (لتلبسها) أَي: تعيرها من ثِيَابهَا مَا لَا تحْتَاج المعيرة إِلَيْهِ. وَقيل: تشركها مَعهَا فِي لبس الثَّوْب الَّذِي عَلَيْهَا، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن يكون الثَّوْب وَاسِعًا حَتَّى يسع فِيهِ اثْنَان، وَفِيه نظر، على مَا يَجِيء فِي بَاب إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي الْعِيد. وَقيل: هَذَا مُبَالغَة مَعْنَاهُ: ليخرجن وَلَو كَانَت ثِنْتَانِ فِي ثوب. قَوْله: (وليشهدن الْخَيْر) أَي: وليحضرن مجَالِس الْخَيْر كسماع الحَدِيث وعيادة الْمَرِيض. قَوْله: (ودعوة الْمُسلمين) ، كالاجتماع لصَلَاة الاسْتِسْقَاء. وَفِي رِوَايَة: (ودعوة الْمُؤمنِينَ) ، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (وَذَوَات الْخُدُور) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالدَّال: جمع خدر، بِكَسْر الْخَاء وَسُكُون الدَّال: وَهُوَ ستر يكون فِي نَاحيَة الْبَيْت تقعد الْبكر وَرَاءه. وَقَالَ ابْن سَيّده: الخدر ستر يمد لِلْجَارِيَةِ فِي نَاحيَة الْبَيْت، ثمَّ صَار كل مَا واراك من بَيت وَنَحْوه خدرا، وَالْجمع: خدور وأخدار، وأخادير جمع الْجمع. والخدر: خشبات تنصب فَوق قتب الْبَعِير مستورة بِثَوْب، وَهُوَ دج مخدور ومخدر: ذُو خدر، وَقد أخدر الْجَارِيَة وخدرها وتخدرت واختدرت. وَفِي (الْمُخَصّص) : الخدر ثوب يمد فِي عرض الخباء فَتكون فِيهِ الْجَارِيَة. وَفِي (المغيث) عَن الْأَصْمَعِي: الخدر نَاحيَة الْبَيْت يقطع للستر فَتكون فِيهِ الْجَارِيَة الْبكر. وَقيل: هُوَ الهودج. وَقَالَ ابْن قرقول: سَرِير عَلَيْهِ ستر، وَقيل: الخدر الْبَيْت. قَوْلهَا: (وَالْحيض) بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء جمع: حَائِض. قَوْلهَا: (وَكَذَا) أَي: نَحْو الْمزْدَلِفَة، وَكَذَا: أَي نَحْو صَلَاة الاسْتِسْقَاء.
ذكر إعرابه: قَوْلهَا: (عواتقنا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول نمْنَع، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر: كُنَّا، قَوْلهَا: (أَن يخْرجن) ، أَي: من أَن يخْرجن، وَأَن مَصْدَرِيَّة. أَي: من خروجهن. قَوْلهَا: (أَعلَى إحدانا) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْلهَا: (أَن لَا تخرج) أَي: لِأَن لَا تخرج. وَأَن مَصْدَرِيَّة. أَي: لعدم خُرُوجهَا إِلَى الْمصلى للعيد. قَوْلهَا: (لتلبسها) بجزم السِّين. (وصاحبتها) بِالرَّفْع فَاعله. ويروى: (فتلبسها) ، بِضَم السِّين. قَوْلهَا: (ودعوة الْمُسلمين) كَلَام إضافي مَنْصُوب عطفا على: الْخَيْر. قَوْلهَا: (سَأَلتهَا) أَي قَالَت حَفْصَة: سَأَلت أم عَطِيَّة. قَوْلهَا: (أسمعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْهمزَة للاستفهام، وَتَقْدِيره: هَل سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول، الْمَذْكُور، وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف، وَقد قُلْنَا فِي أول الْكتاب: إِن النُّحَاة اخْتلفُوا فِي: سَمِعت، هَل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين على قَوْلَيْنِ: فالمانعون يجْعَلُونَ الثَّانِي حَالا. قَوْلهَا: (بِأبي) قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ أَربع نسخ الْمَشْهُور هَذَا، وبيبي، بقلب الْهمزَة يَاء. وبأبا، بِالْألف بدل الْيَاء. وبيبا، بقلب الْهمزَة يَاء. قلت: الْبَاء: فِي (بِأبي) مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: أَنْت مفدى بِأبي، فَيكون الْمَحْذُوف إسما وَمَا بعده فِي مَحل الرّفْع على الخبرية، وَيجوز أَن يكون الْمَحْذُوف فعلا تَقْدِيره: فديتك بِأبي، وَيكون مَا بعده فِي مَحل النصب، وَهَذَا الْحَذف لطلب التَّخْفِيف لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَعلم الْمُخَاطب بِهِ، واللغتان الأوليان فصيحتان، وأصل بأبا: بِأبي هُوَ، وَيُقَال: بأبأت الصَّبِي، إِذا قلت لَهُ بِأبي أَنْت وَأمي. فَلَمَّا سكنت الْيَاء قلبت ألفا. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (بِأبي هُوَ وَأمي) قَوْلهَا: (وَكَانَت لَا تذكرة) أَي: لاتذكرة أم عَطِيَّة الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا قَالَت: (بِأبي، أَي: رَسُول الله مفدى بِأبي. أَو: أَنْت مفدي بِأبي. وَيحْتَمل أَن يكون قسما أَي: أقسم بِأبي، لَكِن الْوَجْه الأول أقرب إِلَى السِّيَاق وَأظْهر وَأولى. قَوْلهَا: (سمعته يَقُول) لَيْسَ من تَتِمَّة الْمُسْتَثْنى، إِذْ الْحصْر هُوَ فِي قَوْله: بِأبي، فَقَط بِقَرِينَة مَا تقدم من قَوْلهَا: بِأبي نعم. قَوْله: (وَذَوَات الْخُدُور) فِيهِ ثَلَاث رِوَايَات: الأولى بواو الْعَطف، وَالثَّانيَِة: بِلَا وَاو، وَتَكون صفة للعواتق، وَالثَّالِثَة: ذَات الْخُدُور بإفراد: ذَات. قَوْله: (وَالْحيض) ، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء عطف على الْعَوَاتِق. قَوْله: (ويعتزلن الْحيض) بِلَفْظ الْجمع على لُغَة: أكلوني البراغيث، ويروى: يعتزل الْحيض بِالْإِفْرَادِ. قَوْلهَا: (فَقلت آلحيض؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، كَأَنَّهَا تتعجب من إخبارها بِشُهُود الْحَائِض. فَإِن قلت: وليشهدن عطف على مَاذَا؟ قلت: على قَوْله: تخرج الْعَوَاتِق. فَإِن قلت: كَيفَ يعْطف الْأَمر على الْخَبَر؟ قلت: الْخَبَر من الشَّارِع فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَحْمُول على الطّلب، فَمَعْنَاه: ليخرج الْعَوَاتِق وليشهدن. قَوْلهَا: (أَلَيْسَ يشهدن؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. ويروى: (أَلَيْسَ تشهد) أَي: الْحيض وألس، بِدُونِ الْيَاء، وَفِيه ضمير الشان. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أليست تشهد؟) بِالتَّاءِ فِي: لَيْسَ، وَهُوَ على الأَصْل. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (ألسن يشهدن؟) بنُون الْجمع فِي: لسن. قَوْله: (عَرَفَة) ، فِيهِ الْمُضَاف مَحْذُوف أَي: يَوْم عَرَفَة فِي عَرَفَات.(3/304)
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الْحَائِض لَا تهجر ذكر الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: مَا قَالَه [قعالخطابي [/ قع: أَنَّهُنَّ يشهدن مَوَاطِن الْخَيْر ومجالس الْعلم خلا أَنَّهُنَّ لَا يدخلن الْمَسَاجِد. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ جَوَاز خُرُوج النِّسَاء الطاهرات وَالْحيض إِلَى الْعِيدَيْنِ، وشهود الْجَمَاعَات، وتعتزل الْحيض الْمصلى، وَليكن مِمَّن يَدْعُو أَو يُؤمن رَجَاء بركَة المشهد الْكَرِيم. قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: يسْتَحبّ إِخْرَاج النِّسَاء فِي الْعِيدَيْنِ غير ذَوَات الهيئات والمستحسنات، وَأَجَابُوا عَن هَذَا الحَدِيث بِأَن الْمفْسدَة فِي ذَلِك الزَّمن كَانَت مَأْمُونَة بِخِلَاف الْيَوْم، وَقد صَحَّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: (لَو رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل) . وَقَالَ [قععياض [/ قع: وَقد اخْتلف السّلف فِي خروجهن، فَرَأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا، مِنْهُم: أَبُو بكر وَعلي وَابْن عمر فِي آخَرين، رَضِي الله عَنْهُم، ومنعهن جمَاعَة، مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَأَبُو يُوسُف؛ وَأَجَازَهُ [قعأبو حنيفَة [/ قع
مرّة وَمنعه مرّة، وَفِي التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك: أكره الْيَوْم خروجهن فِي الْعِيدَيْنِ، فَإِن أَبَت الْمَرْأَة إِلَّا أَن تخرج فلتخرج فِي أطمارها بِغَيْر زِينَة، فَإِن أَبى ذَلِك فَللزَّوْج أَن يمْنَعهَا. ويروى عَن الثَّوْريّ أَنه كره الْيَوْم خروجهن قلت: الْيَوْم الْفَتْوَى على الْمَنْع مُطلقًا، وَلَا سِيمَا فِي الديار المصرية. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم استدلوا بِهَذَا على وجوب صَلَاة الْعِيدَيْنِ؛ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يسْتَدلّ بذلك على الْوُجُوب لِأَن هَذَا إِنَّمَا توجه لمن لَيْسَ بمكلف بِالصَّلَاةِ بالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود التدرب على الصَّلَاة والمشاركة فِي الْخَيْر وَإِظْهَار جمال الْإِسْلَام. وَقَالَ الْقشيرِي: لِأَن أهل الْإِسْلَام كَانُوا إِذْ ذَاك قليلين. وَمِنْهَا: جَوَاز اسْتِعَارَة الثِّيَاب لِلْخُرُوجِ إِلَى الطَّاعَات، وَجَوَاز اشْتِمَال الْمَرْأَتَيْنِ فِي ثوب وَاحِد لضَرُورَة الْخُرُوج إِلَى طَاعَة الله تَعَالَى. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ غَزْو النِّسَاء ومداواتهن للجرحى، وَإِن كَانُوا غير ذَوي محارم مِنْهُنَّ وَمِنْهَا: قبُول خبر الْمَرْأَة. وَمِنْهَا: أَن فِي قَوْلهَا: كُنَّا نداوي، جَوَاز نقل الْأَعْمَال الَّتِي كَانَت فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يخبر بِشَيْء من ذَلِك. وَمِنْهَا: جَوَاز النَّقْل عَمَّن لَا يعرف اسْمه من الصَّحَابَة خَاصَّة وَغَيرهم إِذا بيّن مَسْكَنه وَدلّ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: امْتنَاع خُرُوج النِّسَاء بِدُونِ الجلاليب. وَمِنْهَا: جَوَاز تكْرَار: بِأبي، فِي الْكَلَام. وَمِنْهَا: جَوَاز السُّؤَال بعد رِوَايَة الْعدْل عَن غَيره تَقْوِيَة لذَلِك. وَمِنْهَا: جَوَاز شُهُود الْحَائِض عَرَفَة. وَمِنْهَا: اعتزال الْحيض من الْمصلى، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْجُمْهُور: هُوَ منع تَنْزِيه وَسَببه الصيانة والاحتراز عَن مُقَارنَة النِّسَاء للرِّجَال من غير حَاجَة وَلَا صَلَاة، وَإِنَّمَا لم يحرم لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْجِدا. وَقَالَ بَعضهم: يحرم الْمكْث فِي الْمصلى عَلَيْهَا كَمَا يحرم مكثها فِي الْمَسْجِد لِأَنَّهُ مَوضِع للصَّلَاة، فَأشبه الْمَسْجِد. وَالصَّوَاب الأول. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْأَمر بالاعتزال للْوُجُوب، فَهَل الشُّهُود وَالْخُرُوج واجبان أَيْضا؟ قلت: ظَاهر الْأَمر الْوُجُوب، لَكِن علم من مَوضِع آخر أَنه هَهُنَا للنَّدْب. وَقَالَ بَعضهم: أغرب الْكرْمَانِي فَقَالَ: الاعتزال وَاجِب وَالْخُرُوج مَنْدُوب قلت: لم يقل بِوُجُوب الإعتزال وندبية الْخُرُوج من هَذَا الْموضع خَاصَّة حَتَّى يكون مغربا، وَإِنَّمَا صرح بقوله: إِن الْوُجُوب لِلْأَمْرِ بالإعتزال، وَأما ندبية الْخُرُوج فَمن مَوضِع آخر.
24 - (بابٌ إذَا حاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاَثَ حِيَضٍ وَمَا يُصَدَّقُ النِّساءُ فِي الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فِيما يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ لِقَوْلِ الله تَعَالَى وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أرْحَامِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحَائِض إِذا حَاضَت فِي شهر وَاحِد ثَلَاث حيض، بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْيَاء: جمع حَيْضَة. قَوْله: (وَمَا يصدق) أَي: وَفِي بَيَان مَا يصدق النِّسَاء، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الدَّال. قَوْله: (فِي الْحيض) أَي: فِي مُدَّة الْحيض. قَوْله: (وَالْحمل) وَفِي نُسْخَة: (وَالْحَبل) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (فِيمَا يُمكن من الْحيض) يتَعَلَّق بقوله: (وَيصدق) ، أَي: تصدق فِيمَا يُمكن من تكْرَار الْحيض، وَلِهَذَا لم يقل: وَفِيمَا يُمكن من الْحَبل، لِأَنَّهُ لَا معنى للتصديق فِي تكْرَار الْحمل. قَوْله: (لقَوْل الله) تَعْلِيل للتصديق، وَوجه الدّلَالَة عَلَيْهِ أَنَّهَا إِذا لم يحل لَهَا الكتمان وَجب الْإِظْهَار، فَلَو لم تصدق فِيهِ لم يكن للإظهار فَائِدَة. وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: بلغنَا أَن المُرَاد بِمَا خلق الله فِي أرحامهن الْحمل أَو الْحيض، وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن ذَلِك لتنقضي الْعدة،(3/305)
وَلَا يملك الزَّوْج الْعدة إِذا كَانَت لَهُ. وَرُوِيَ أَيْضا بِإِسْنَاد حسن عَن ابْن عمر، قَالَ: لَا يحل لَهَا إِذا كَانَت حَائِضًا أَن تكْتم حَيْضهَا، وَلَا إِن كَانَت حَامِلا أَن تكْتم حملهَا. وَعَن مُجَاهِد: لَا تَقول: إِنِّي حَائِض، وَلَيْسَت بحائض، وَلَا لست بحائض وَهِي حَائِض، وَكَذَا فِي الْحَبل.
وَيُذْكَرُ عنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ إنِ امْرَأةٌ جاءَتْ بِبَيِّنَةٍ منْ بِطَانَةِ أهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ أنَّهَا حاضَتْ ثَلاَثا فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن عليا هَذَا هُوَ ابْن أبي طَالب، وشريحا هُوَ ابْن الْحَارِث بِالْمُثَلثَةِ الْكِنْدِيّ أَبُو أُميَّة الْكُوفِي، وَيُقَال: إِنَّه من أَوْلَاد الْفرس الَّذين كَانُوا بِالْيمن، أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلقه، استقضاه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْكُوفَة وَأقرهُ من بعده إِلَى أَن ترك هُوَ بِنَفسِهِ زمن الْحجَّاج، كَانَ لَهُ مائَة وَعِشْرُونَ سنة، مَاتَ سنة ثَمَانِيَة وَتِسْعين، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة.
الثَّانِي: أَن هَذَا تَعْلِيق بِلَفْظ التمريض، وَوَصله الدَّارمِيّ: أخبرنَا يعلى بن عبيد أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن عَامر هُوَ الشّعبِيّ، قَالَ: (جَاءَت امْرَأَة إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تخاصم زَوجهَا طَلقهَا، فَقَالَت: حِضْت فِي شهر ثَلَاث حيض، فَقَالَ عَليّ لشريح: إقض بَينهمَا. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأَنت هَاهُنَا؟ قَالَ: إقضِ بَينهمَا. قَالَ: إِن جَاءَت من بطانة أَهلهَا مِمَّن يرضى دينه وأمانته يزْعم أَنَّهَا حَاضَت ثَلَاث حيض تطهر عِنْد كل قرء وَتصلي جَازَ لَهَا. وإلاَّ فَلَا. قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قالون) . وَمَعْنَاهُ بِلِسَان الرّوم: أَحْسَنت. وَرَوَاهُ ابْن حزم، وَقَالَ: روينَاهُ عَن هشيم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ: (أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَتَى بِرَجُل طلق امْرَأَته فَحَاضَت ثَلَاث حيض فِي شهر أَو خمس وَثَلَاثِينَ لَيْلَة، فَقَالَ عَليّ لشريح: إقض فِيهَا. فَقَالَ: إِن جَاءَت بِالْبَيِّنَةِ من النِّسَاء الْعُدُول من بطانة أَهلهَا مِمَّن يرضى صدقه وعدله أَنَّهَا رَأَتْ مَا يحرم عَلَيْهَا الصَّلَاة من الطُّهْر الَّذِي هُوَ الطمث، وتغتسل عِنْد كل قرء وَتصلي فِيهِ، فقد انْقَضتْ عدتهَا. وإلاَّ فَهِيَ كَاذِبَة. فَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: قالون) . وَمَعْنَاهُ: أصبت. قَالَ ابْن حزم: هَذَا نَص قَوْلهَا. انْتهى. وَاخْتلف فِي سَماع الشّعبِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسمع مِنْهُ إلاَّ حرفا مَا سمع غَيره. وَقَالَ الْحَازِمِي: لم تثبت أَئِمَّة الحَدِيث سَماع الشّعبِيّ من عَليّ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: مِنْهُم من يدْخل بَينه وَبَينه عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وسنه مُحْتَملَة لإدراك عَليّ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فَكَأَن البُخَارِيّ لمح هَذَا فِي عَليّ لَا فِي شُرَيْح، لِأَنَّهُ مُصَرح فِيهِ بِسَمَاع الشّعبِيّ مِنْهُ، فَينْظر فِي تمريضه الْأَثر عَنهُ، على رَأْي من يَقُول: إِنَّه إِذا ذكر شَيْئا بِغَيْر صِيغَة الْجَزْم لَا يكون صَحِيحا عِنْده، وَكَأَنَّهُ غير جيد، لِأَنَّهُ ذكر فِي الْعَتَمَة. وَيذكر عَن أبي مُوسَى: كُنَّا نتناوب بِصِيغَة التمريض، وَهُوَ سَنَد صَحِيح عِنْده.
النَّوْع الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ: فَقَوله: (إِن جَاءَت) فِي رِوَايَة كَرِيمَة: (ان الْمَرْأَة جَاءَت) بِكَسْر النُّون (بِبَيِّنَة من بطانة أَهلهَا) أَي خواصها. وَقَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل: لَيْسَ المُرَاد أَن تشهد النِّسَاء أَن ذَلِك وَقع، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا نرى أَن يشهدن أَن هَذَا يكون، وَقد كَانَ فِي نسائهن وَفِيه نظر، لِأَن سِيَاق هَذَا الحَدِيث يدْفع هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن الظَّاهِر مِنْهُ أَن المُرَاد أَن يشهدن بِأَن ذَلِك وَقع مِنْهَا، وَكَأن مُرَاد إِسْمَاعِيل رد هَذِه الْقِصَّة إِلَى مُوَافقَة مذْهبه. وَمذهب أبي حنيفَة أَن الْمَرْأَة لَا تصدق فِي انْقِضَاء الْعدة فِي أقل من سِتِّينَ يَوْمًا. وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن، فِيمَا حَكَاهُ ابْن حزم عَنهُ أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا. وَعَن أبي يُوسُف: تصدق فِي تِسْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ ابْن بطال: وَبِه قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَالثَّوْري. وَعَن الشَّافِعِي: تصدق فِي ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَعَن أبي ثَوْر: فِي سَبْعَة وَأَرْبَعين يَوْمًا. وَذكر ابْن أبي زيد عَن سَحْنُون: أقل الْعدة أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
النَّوْع الرَّابِع: فِي أَن هَذَا الْأَثر يُطَابق التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا يصدق النِّسَاء) إِلَى آخِره، لِأَن المُرَاد: مَا يصدق النِّسَاء فِيمَا يُمكن من الْمدَّة، والشهر يُمكن فِيهِ ثَلَاث حيض خُصُوصا على مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ فَإِن أقل الْحيض عِنْد مَالك فِي حق الْعدة ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي ترك الصَّلَاة وَالصَّوْم وَتَحْرِيم الوطىء دفْعَة، وَعند الشَّافِعِي فِي الْأَشْهر إِن أَقَله يَوْم وَلَيْلَة، وَهُوَ قَول أَحْمد: فَإِن قلت عنْدكُمْ أَيهَا الْحَنَفِيَّة أقل الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام، فَلِمَ شرطتم فِي تصديقها بستين يَوْمًا على مَذْهَب أبي حنيفَة؟ قلت: لِأَن أقل الطُّهْر عندنَا خَمْسَة عشر يَوْمًا، فَإِذا أقرَّت بِانْقِضَاء عدتهَا لم تصدق فِي أقل من سِتِّينَ يَوْمًا، لِأَنَّهُ يَجْعَل كَأَنَّهُ طَلقهَا أول الطُّهْر وَهُوَ خَمْسَة عشر، وحيضها خَمْسَة إعتبارا للْعَادَة، فَيحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة أطهار وَثَلَاث حيض.(3/306)
وقالَ عطَاءٌ أقْرَاؤُهَا مَا كانَتْ
أَي: عَطاء بن أبي رَبَاح، والإقراء جمع: قرء، بِضَم الْقَاف وَفتحهَا، مَعْنَاهُ إقراؤها فِي زمن الْعدة مَا كَانَت قبل الْعدة أَي: لَو ادَّعَت فِي زمن الِاعْتِدَاد أَقراء مَعْدُودَة فِي مُدَّة مُعينَة فِي شهر مثلا، فَإِن كَانَت مُعْتَادَة بِمَا ادعتها فَذَاك، وَإِن ادَّعَت فِي الْعدة مَا يُخَالف مَا قبلهَا لم تقبل، وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء.
وبِهِ قالَ إبْرَاهِيمُ
أَي: بِمَا قَالَ عَطاء قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَوَصله عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن أبي مسعر عَن إِبْرَاهِيم نَحوه.
وقالَ عَطاءٌ الْحَيْضُ يَوْمٌ الَى خمْسَ عَشْرَةَ
هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن أقل الْحيض عِنْد عَطاء يَوْم، وَأَكْثَره خَمْسَة عشر، يَعْنِي أقل الْحيض يَوْم وَأَكْثَره خَمْسَة عشر، وَهَذَا الْمُعَلق وَصله الدَّارمِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: (أقْصَى الْحيض خَمْسَة عشر وَأدنى الْحيض يَوْم وَلَيْلَة)) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: حدثناالحسين حَدثنَا إِبْرَاهِيم حَدثنَا النُّفَيْلِي حَدثنَا معقل بن عبد الله عَن عَطاء: (أدنى وَقت الْحيض يَوْم وَأَكْثَره خَمْسَة عشر) . وَحدثنَا ابْن حَمَّاد حَدثنَا الحرمي حَدثنَا ابْن يحيى حَفْص عَن أَشْعَث عَن عَطاء. قَالَ: (أَكثر الْحيض خمس عشرَة) . وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أقل مُدَّة الْحيض وَأَكْثَره، فمذهب أبي حنيفَة: أَقَله ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا نقص عَن ذَلِك فَهُوَ اسْتِحَاضَة، وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام. وَعَن أبي يُوسُف: أَقَله يَوْمَانِ وَالْأَكْثَر من الْيَوْم الثَّالِث، وَاسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بِمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: (الْحيض ثَلَاث وَأَرْبع وَخمْس وست وَسبع وثمان وتسع وَعشر، فَإِن زَاد فَهِيَ مُسْتَحَاضَة) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: لم يروه غير هَارُون بن زِيَاد، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث، وَبِمَا رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: [حم (أقل الْحيض لِلْجَارِيَةِ الْبكر وَالثَّيِّب ثَلَاث، وَأَكْثَره مَا يكون عشرَة أَيَّام، فَإِذا زَاد فَهِيَ مُسْتَحَاضَة) [/ حم. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي سَنَده عبد الْملك مَجْهُول، والْعَلَاء بن الْكثير ضَعِيف الحَدِيث، وَمَكْحُول لم يسمع من أبي أُمَامَة. وَبِمَا رُوِيَ عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقل الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي سَنَده حَمَّاد بن منهال مَجْهُول، وَبِمَا رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: [حم (لَا حيض دون ثَلَاثَة أَيَّام، وَلَا حيض فَوق عشرَة أَيَّام، فَمَا زَاد على ذَلِك فَهِيَ اسْتِحَاضَة، تتوضأ لكل صَلَاة إلاّ أَيَّام إقرائها. وَلَا نِفَاس دون أسبوعين، وَلَا نِفَاس فَوق أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَإِن رَأَتْ النُّفَسَاء الطُّهْر دون الْأَرْبَعين صَامت وصلت وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا إلاّ بعد أَرْبَعِينَ) [/ حم. رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَفِي سَنَده مُحَمَّد بن سعيد عَن البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن معِين: إِنَّه يضع الحَدِيث، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: [حم (أقل الْحيض ثَلَاث وَأَكْثَره عشر، وَأَقل مَا بَين الحيضتين خَمْسَة عشر يَوْمًا) [/ حم. وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الْعِلَل المتناهية) وَفِيه أَبُو دَاوُد النَّخعِيّ واسْمه سُلَيْمَان، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث. وَبِمَا روى أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْحيض ثَلَاثَة أَيَّام وَأَرْبَعَة وَخَمْسَة وَسِتَّة وَسَبْعَة وَثَمَانِية وَتِسْعَة وَعشرَة، فَإِذا جَاوز الْعشْرَة فَهِيَ اسْتِحَاضَة) ، رَوَاهُ ابْن عدي، وَفِيه الْحسن بن دِينَار ضَعِيف. وَبِمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أَكثر الْحيض عشر وَأقله ثَلَاث) ، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) ، وَفِيه حُسَيْن بن علوان، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث. وَأجَاب الْقَدُورِيّ فِي (التَّجْرِيد) أَن ظَاهر الْإِسْلَام يَكْفِي لعدالة الرَّاوِي مَا لم يُوجد فِيهِ قَادِح، وَضعف الرَّاوِي لَا يقْدَح إلاّ أَن يُقَوي وَجه الضعْف. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : إِن الحَدِيث إِذا رُوِيَ من طرق ومفرداتها ضِعَاف يحْتَج بِهِ، على أَنا نقُول: قد شهد لمذهبنا عدَّة أَحَادِيث من الصَّحَابَة بطرق مُخْتَلفَة كَثِيرَة يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِن كَانَ كل وَاحِد ضَعِيفا، لَكِن يحدث عِنْد الِاجْتِمَاع مَا لَا بِحَدَث عِنْد الِانْفِرَاد، على أَن بعض طرقها صَحِيحَة، وَذَلِكَ يَكْفِي للاحتجاج، خُصُوصا فِي المقدرات، وَالْعَمَل بِهِ أولى من الْعَمَل بالبلاغات والحكايات المروية عَن نسَاء مَجْهُولَة، وَمَعَ هَذَا نَحن لَا نكتفي بِمَا ذكرنَا، بل نقُول: مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بالآثار المنقولة عَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، فِي هَذَا الْبَاب، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا للهداية) .(3/307)
وقالَ مُعْتَمِرٌ عَنْ أبِيهِ سَأَلْتُ ابنَ سِيرِينَ عَنِ الْمَرْأةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قَرْئِهَا بِخَمْسَةِ أيَّامٍ قالَ النِّساءُ أعْلَمُ بِذَلِكَ.
مُعْتَمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَكَانَ أعبد أهل زَمَانه، وَأَبُو سُلَيْمَان بن طرحان، قَالَ شُعْبَة: مَا رَأَيْت أصدق من سُلَيْمَان، كَانَ إِذا حدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَغَيَّر لَونه. وَقَالَ: شكه يَقِين، وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْل كُله بِوضُوء عشَاء الْآخِرَة. وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين تقدم، وَوصل هَذَا الْأَثر الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن عِيسَى عَن مُعْتَمر، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله بعد قرئها أَي: طهرهَا لَا حَيْضهَا بِقَرِينَة لفظ الدَّم، وَالْغَرَض مِنْهُ أَن أقل الطُّهْر هَل يحْتَمل أَن يكون خَمْسَة أَيَّام أم لَا؟ . قلت: لَيْسَ الْمَعْنى هَكَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَن ابْن سِيرِين سُئِلَ عَن امْرَأَة كَانَ لَهَا حيض مُعْتَاد، ثمَّ رَأَتْ بعد أَيَّام عَادَتهَا خَمْسَة أَيَّام أَو أقل أَو أَكثر، فَكيف يكون حكم هَذِه الزِّيَادَة؟ فَقَالَ ابْن سِيرِين: هِيَ أعلم بذلك، يَعْنِي التَّمْيِيز بَين الدمين رَاجع إِلَيْهَا، فَيكون المرئي فِي أَيَّام عَادَتهَا حيضا، وَمَا زَاد على ذَلِك اسْتِحَاضَة، فَإِن لم يكن لَهَا علم بالتمييز يكون حَيْضهَا مَا ترَاهُ إِلَى أَكثر مُدَّة الْحيض، وَمَا زَاد عَلَيْهَا يكون اسْتِحَاضَة، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْله: بعد قرئها، أَي: طهرهَا، كَمَا قَالَ الْكرْمَانِي، بل المُرَاد: بعد حَيْضهَا الْمُعْتَاد، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) ، بعد ذكر هَذَا الْأَثر عَن ابْن سِيرِين: وَهَذَا يشْهد لمن يَقُول: الْقُرْء الْحيض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ السفاقسي: وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَعَطَاء وَأحد عشر صحابيا وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود ومعاذ وَقَتَادَة وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَابْن جُبَير وطاووس وَالضَّحَّاك وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي عبيد.
325 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي رَجاءٍ قالَ حَدثنَا أبُو أسَامَةَ قالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ عُرْوَةَ قالَ أَخْبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ أبِي حُبَيْشٍ سألَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالتْ انِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أطْهُرُ أفأدَعِ الصَّلاةَ فَقَالَ لاَ إنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ ولَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأيَّامِ التِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي. .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل ذَلِك إِلَى أمانتها وعادتها، فقد يقل ذَلِك وَيكثر على قدر أَحْوَال النِّسَاء فِي أسنانهن وبلدانهن.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن أبي رَجَاء، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْجِيم وبالمد، واسْمه عبد الله بن أَيُّوب الْهَرَوِيّ، ويكنى أَحْمد بِأبي الْوَلِيد، وَهُوَ حَنَفِيّ النّسَب لَا الْمَذْهَب، مَاتَ بهراة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة الْكُوفِي. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبُو عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين هروي وكوفي ومدني.
وَقد ذكرنَا أَكثر بَقِيَّة الْأَشْيَاء فِي بَاب الِاسْتِحَاضَة وَفِي بَاب غسل الدَّم مستقصىً.
قَوْله: (قَالَت: بَيَان لقولها: (سَأَلت) ، ويروى: (فَقَالَت) ، بِالْفَاءِ التفسيرية. قَوْله: (استحاض) بِضَم الْهمزَة على بِنَاء الْمَجْهُول، كَمَا يُقَال: استحيضت. وَلم يبن هَذَا الْفِعْل للْفَاعِل، وأصل الْكَلِمَة من الْحيض، والزوائد للْمُبَالَغَة. قَوْله: (أفأدع؟) سُؤال عَن اسْتِمْرَار حكم الْحَائِض فِي حَالَة دوَام الدَّم وإزالته، وَهُوَ كَلَام من تقرر عِنْده أَن الْحَائِض مَمْنُوعَة من الصَّلَاة. قَوْله: (إِن ذَلِك عرق) ، أَي: دم عرق، وَهُوَ يُسمى بالعاذل. قَوْله: (وَلَكِن) للاستدراك. فَإِن قيل: لَا بُد أَن يكون بَين كلامين متغايرين. أُجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ: لَا تتركي الصَّلَاة فِي كل الْأَوْقَات، لَكِن اتركيها فِي مِقْدَار الْعَادة. وَلَفظ: قدر الْأَيَّام، مشْعر بِأَنَّهَا كَانَت مُعْتَادَة. قَوْله: (دعِي الصَّلَاة) أَي: اتركي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا، مثلا إِن كَانَت عَادَتهَا من كل شهر عشرَة أَيَّام من أَولهَا، أَو من وَسطهَا، أَو من آخرهَا تتْرك الصَّلَاة عشرَة أَيَّام من هَذَا الشَّهْر، نَظِير ذَلِك فَإِن قلت من أَيْن كَانَت تحفظ فَاطِمَة عدد أَيَّامهَا الَّتِي كَانَت تحيضها أَيَّام الصِّحَّة؟ قلت: لَو لم تكن تحفظ ذَلِك لم يكن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين فِيهَا) من الشَّهْر، فَائِدَة. وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَغَيره، فِي حَدِيث أم سلمةٍ (لتنظر عدَّة اللَّيَالِي وَالْأَيَّام(3/308)
الَّتِي كَانَت تحيض من الشَّهْر قبل أَن يُصِيبهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فلتترك الصَّلَاة قدر ذَلِك من الشَّهْر، فَإِذا خلفت ذَلِك فلتغتسل ثمَّ لتستثفر بِثَوْب ثمَّ لتصلي) . وَجَاء أَيْضا فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كَانَ دم الْحَيْضَة فَإِنَّهُ دم أسود يعرف، فَإِذا كَانَ ذَلِك فأمسكي عَن الصَّلَاة، وَإِذا كَانَ الآخر فتوضئي، وَصلي، فَإِنَّمَا ذَلِك عرق) . فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ الْأَمر فِيمَن لم تحفظ عدد أَيَّامهَا؟ قلت: هَذِه مَسْأَلَة مَشْهُورَة فِي الْفُرُوع، وَهِي أَنَّهَا تحسب من كل شهر عشرَة حَيْضهَا وَيكون الْبَاقِي اسْتِحَاضَة، وَاحْتج الرَّازِيّ لِأَصْحَابِنَا فِي (شرح مُخْتَصر الطَّحَاوِيّ) بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قدر الْأَيَّام الَّتِي تحيضين فِيهَا على تَقْدِير أقل الْحيض وَأَكْثَره، لِأَن أقل مَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَيَّام ثَلَاثَة، وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام، لِأَن مَا دون الثَّلَاثَة لَا تسمى أَيَّامًا، ونقول ثَلَاثَة أَيَّام إِلَى عشرَة أَيَّام، ثمَّ نقُول: أحد عشر يَوْمًا.
25 - (بابُ الصُّفْرَةِ والْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أيَّامِ الْحَيْضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصُّفْرَة والكدرة اللَّتَيْنِ تراهما الْمَرْأَة فِي غير أَيَّام حَيْضهَا، يَعْنِي: لَا يكون حيضا، وألوان الدَّم سِتَّة: السوَاد والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية. أما الْحمرَة فَهُوَ اللَّوْن الْأَصْلِيّ للدم إلاَّ عِنْد غَلَبَة السوَاد يضْرب إِلَى السوَاد، وَعند غَلَبَة الصَّفْرَاء يضْرب إِلَى الصُّفْرَة، ويتبين ذَلِك لمن اقتصده، وَأما الصُّفْرَة فَهِيَ من ألوان الدَّم إِذا راق، وَقيل: هِيَ كصفرة الْبيض أَو كصفرة القز. وَفِي (فتاوي قاضيحان) : الصُّفْرَة تكون كلون القز أَو لون الْبُسْر أَو لون التِّبْن، فالسواد والحمرة والصفرة حيض، وَالْمَنْقُول عَن الشَّافِعِي فِي (مُخْتَصر الْمُزنِيّ) : أَن الصُّفْرَة والكدرة فِي أَيَّام الْحيض حيض. وَاخْتلف أَصْحَابه فِي ذَلِك على وُجُوه مَذْكُورَة فِي كتبهمْ. وَأما الكدرة فَهِيَ حيض عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، سَوَاء رَأَتْ فِي أول أَيَّامهَا أَو فِي آخرهَا، وَهِي لون كلون الصديد يعلوه أصفرار. وَأما الخضرة فقد اخْتلف مَشَايِخنَا فِيهَا، فَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور: إِن رأتها فِي أول الْحيض يكون حيضا. وَإِن رأتها فِي آخر الْحيض واتصل بهَا أَيَّام الْحيض لَا يكون حيضا، وَجُمْهُور الْأَصْحَاب على كَونهَا حيضا كَيفَ مَا كَانَ. وَأما التربية فَهِيَ الَّتِي تكون على لون التُّرَاب، وَهُوَ نوع من الكدرة، فَحكمهَا حكم الكدرة، وَهِي بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَيُقَال: الترابية. وَفِي (قاضيخان) : التربية على لون التربة. وَقيل فِيهَا: تربية على وزن تفعلة، من الرؤبة، وَقيل تريبة على وزن فعيلة، وَقيل: تربية بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف بِغَيْر همزَة.
326 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ كُنَّا لاَ نَعُدُّ الْكُدْرَةَ والصُّفْرَةَ شَيئا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَن الصُّفْرَة والكدرة فِي غير أَيَّام الْحيض لَيْسَ بِشَيْء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قُتَيْبَة وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن أبي علية تقدم فِي بَاب حب رَسُول الله من الْإِيمَان. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين. وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، قد مر ذكرهَا عَن قريب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة من رأى أنس بن مَالك عَن الصحابية. وَفِيه: أَنه مَوْقُوف، كَذَا قَالَه ابْن عَسَاكِر، وَلَكِن قَوْلهَا: كُنَّا، يَعْنِي فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: مَعَ علمه بذلك وَتَقْرِيره إياهن، وَهَذَا فِي حكم الْمَرْفُوع.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن زُرَارَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب بِهِ. وَقَالَ الْمدنِي: رَوَاهُ وهيب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، قَالَ مُحَمَّد بن يحيى: خبر وهيب أولاهما عندنَا. فَإِن قلت: مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ من تَصْحِيح رِوَايَة إِسْمَاعِيل أرجح لمتابعة معمر لَهُ عَن أَيُّوب، لِأَن إِسْمَاعِيل أحفظ لحَدِيث أَيُّوب من غَيره، وَيجوز أَن يكون أَيُّوب قد سَمعه من مُحَمَّد وَمن حَفْصَة كليهمَا.
ذكر استنباط الْأَحْكَام: يستنبط مِنْهُ أَن الكدرة والصفرة لَا تكون حيضا إِذا كَانَت فِي غير أَيَّام الْحيض، وَهُوَ معنى قَوْلهَا: (لَا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا) أَي: شَيْئا معتدا بِهِ. وَإِنَّمَا قيدنَا بقولنَا: إِذا كَانَت فِي غير أَيَّام الْحيض، لِأَن المُرَاد من الحَدِيث هَكَذَا. ويوضحه رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أم عَطِيَّة، وَكَانَت بَايَعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: (كُنَّا لَا نعد الكدرة والصفرة بعد(3/309)
الطُّهْر شَيْئا) . وعَلى هَذَا ترْجم البُخَارِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم. وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: (كُنَّا لَا نعد الصُّفْرَة والكدرة شَيْئا فِي الْحيض) . وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (كُنَّا لَا نرى التربية بعد الطُّهْر شَيْئا، وَهِي الصُّفْرَة والكدرة) . وروى ابْن بطال من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن حَفْصَة: (كُنَّا لَا نرى التربية بعد الْغسْل شَيْئا) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن عَائِشَة: (كُنَّا نعد الكدرة والصفرة حيضا) . فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ . قلت: هَذَا فِي وَقت الْحيض وَذَاكَ فِي غير وقته. قلت: حَدِيث عَائِشَة أخرجه ابْن حزم بِسَنَد واهٍ لأجل أبي بكر النَّهْشَلِي الْكذَّاب، وَوَقع فِي (وسيط الْغَزالِيّ) ذكره لَهُ من حَدِيث زَيْنَب، وَلَا يعرف. وروى الْبَيْهَقِيّ حَدِيث عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (مَا كُنَّا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا، وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ: وَسَنَده ضَعِيف لَا يسوى ذكره، قَالَ: وَقد رُوِيَ مَعْنَاهُ عَن عَائِشَة بِسَنَد أمثل من هَذَا، وَهُوَ أَنَّهَا قَالَت: (إِذا رَأَتْ الْمَرْأَة الدَّم فلتمسك عَن الصَّلَاة حَتَّى ترَاهُ أَبيض كالقصة، فَإِذا رَأَتْ ذَلِك فلتغتسل ولتصلِّ، فَإِذا رَأَتْ بعد ذَلِك صفرَة أَو كدرة فلتتوضأ ولتصلِّ، فَإِذا رَأَتْ مَاء أَحْمَر فلتغتسل ولتصلِّ) . وَقَالَ ابْن بطال: ذهب جُمْهُور الْعلمَاء فِي معنى هَذَا الحَدِيث إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ فِي تَرْجَمته، فَقَالَ أَكْثَرهم: الصُّفْرَة والكدرة حيض فِي أَيَّام الْحيض خَاصَّة، وَبعد أَيَّام الْحيض لَيْسَ بِشَيْء، رُوِيَ هَذَا عَن عَليّ، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَيْسَ قبل الْحيض حيض، وَفِي آخر الْحيض حيض، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر. وَقَالَ مَالك: حيض فِي أَيَّام الْحيض وَغَيرهَا، وأظن أَن حَدِيث أم عَطِيَّة لم يبلغهُ.
26 - (بابُ عِرْق الإسْتِحَاضَة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عرق الِاسْتِحَاضَة، وَهُوَ بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء، وَقد ذكرنَا أَنه يُسمى هَذَا الْعرق العاذل، وَأَرَادَ بِهَذَا أَن دم الِاسْتِحَاضَة من عرق، كَمَا صرح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَفِي رِوَايَة أخرجهَا أَبُو دَاوُد: (إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة) .
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على ذكر حكم الِاسْتِحَاضَة.
327 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قالَ حَدَّثَنا مَعْنٌ قالَ حدَّثني ابنُ أَبي ذِئْبٍ عنِ ابْن شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ أمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ فَسَأَلَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أنْ تَغْتَسِلَ فقالَ هَذَا عرْقٌ فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي المخففة، سبق فِي أول كتاب الْعلم، ونسبته إِلَى حزَام أحد الأجداد المنتسب إِلَيْهِ الثَّانِي: معن بن عِيسَى الْقَزاز، بتَشْديد الزَّاي الأولى، مر فِي بَاب: مَا يَقع من النَّجَاسَات فِي السّمن. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمر فِي بَاب حفظ الْعلم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن بن سعد الْأَنْصَارِيَّة الثِّقَة الْحجَّة العالمة، مَاتَت سنة ثَمَان وَتِسْعين. السَّابِع: عَائِشَة الصديقة، رَضِي الله عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون، وَفِي رِوَايَة ابْن شهَاب: عَن عُرْوَة وَعَن عمْرَة، بواو الْعَطف كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت وَابْن عَسَاكِر: عَن عُرْوَة عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، بِحَذْف الْوَاو، وَالْمَحْفُوظ إِثْبَات الْوَاو، وَأَن ابْن شهَاب رَوَاهُ عَن شيخين: عُرْوَة وَعمرَة كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة. وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره من طرق عَن ابْن أبي ذِئْب. وَكَذَا أخرجه من طَرِيق عَمْرو بن الْحَارِث وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ وَعَن عُرْوَة وَعمرَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق(3/310)
اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة وَحده، وَكَذَا من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد، وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق يُونُس، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة وَحدهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ صَحِيح من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عمْرَة جَمِيعًا.
ذكر من أخرجه غَيره: قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا حَدِيث أخرجه السِّتَّة فِي كتبهمْ. قلت: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن يزِيد بن خَالِد بن موهب، ثَلَاثَتهمْ عَن لَيْث بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة وَعمرَة عَن عَائِشَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عَطاء عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْمسَيبِي عَن أَبِيه عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة اللؤْلُؤِي عَن أبي دَاوُد. وَقَالَ أَبُو الْحسن بن العَبْد وَأَبُو بكر بن داسة وَغير وَاحِد عَن أبي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَن عُرْوَة وَعَن عمْرَة عَن عَائِشَة.
ذكر مَا فِيهِ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ من الْفَوَائِد: قَوْلهَا: (أَن أم حَبِيبَة) هِيَ: بنت جحش أُخْت زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ، وَهِي مَشْهُورَة بكنيتها. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وَالْحَرْبِيّ: اسْمهَا حَبِيبَة، وكنيتها أم حبيب بِغَيْر هَاء، وَرجحه الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة: أم حَبِيبَة، بِإِثْبَات الْهَاء، وَكَانَت زوج عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَمَا ثَبت عِنْد مُسلم من رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث، وَوَقع فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة (أَن زَيْنَب بنت جحش الَّتِي كَانَت تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَت تستحاض) ، الحَدِيث، فَقيل: هُوَ وهم، وَقيل: بل صَوَاب، وَإِن اسْمهَا زَيْنَب وكنيتها أم حَبِيبَة. وَأما كَون اسْم أُخْتهَا أم الْمُؤمنِينَ زَيْنَب فَإِنَّهُ لم يكن اسْمهَا الْأَصْلِيّ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْمهَا برة فَغَيره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَعَلَّهُ سَمَّاهَا باسم اختها لكَون أُخْتهَا غلبت عَلَيْهَا الكنية، فأمن اللّبْس، وَلها أُخْت أُخْرَى اسْمهَا: حمْنَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره نون، وَهِي إِحْدَى المستحاضات، وَفِي كتاب ابْن الْأَثِير: روى ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة أَن أم حَبِيبَة أَو حبيب، وَعند ابْن عبد الْبر: أَكْثَرهم يسقطون الْهَاء، يَقُولُونَ: أم حبيب، وَأهل السّير يَقُولُونَ: الْمُسْتَحَاضَة حمْنَة، وَالصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث أَنَّهُمَا كَانَتَا مستحاضتان جَمِيعًا. وَقيل: إِن زَيْنَب أَيْضا استحيضت، وَلَا يَصح. قَوْله: (سبع سِنِين) هُوَ جمع للسّنة على سَبِيل الشذوذ من وَجْهَيْن: الأول: أَن شَرط جمع السَّلامَة أَن يكون مفرده مذكرا عَاقِلا، وَلَيْسَت كَذَلِك. وَالْآخر: كسر أَوله وَالْقِيَاس فَتحه. قَوْله: (فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل) أَي: بِأَن تَغْتَسِل، وَأَن، مَصْدَرِيَّة. وَالتَّقْدِير: فَأمرهَا بالاغتسال. وَفِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي: [حم (فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل وَتصلي) [/ حم، ثمَّ إِن هَذَا الْأَمر بالاغتسال مُطلق يحْتَمل الْأَمر بالاغتسال لكل صَلَاة، وَيحْتَمل الِاغْتِسَال فِي الْجُمْلَة. وَعَن أبي دَاوُد رِوَايَة تدل على الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، وَهِي: حَدثنَا هناد بن السّري عَن عَبدة عَن ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمرهَا بِالْغسْلِ لكل صَلَاة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رِوَايَة ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ غلط لمخالفتها سَائِر الرِّوَايَات عَن الزُّهْرِيّ، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِن كَانَ هَذَا مُخَالفَة التّرْك فَلَا تنَاقض، وَإِن كَانَ هَذَا مُخَالفَة التَّعَارُض فَلَيْسَ كَذَلِك، إِذْ الْأَكْثَر فِيهِ السُّكُوت عَن أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا بِالْغسْلِ عِنْد كل صَلَاة، وَفِي بَعْضهَا أَنَّهَا فعلته هِيَ. قلت: قد تَابع ابْن إِسْحَاق سُلَيْمَان بن كثير، قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ وَلم أسمعهُ مِنْهُ، عَن سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة: (استحيضت زَيْنَب بنت جحش، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اغْتَسِلِي لكل صَلَاة) وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ عبد الصَّمد عَن سُلَيْمَان بن كثير، قَالَ: (توضئي لكل صَلَاة) ، ثمَّ قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا وهم من عبد الصَّمد، وَالْقَوْل فِيهِ قَول أبي الْوَلِيد، يَعْنِي قَوْله: توضئي لكل صَلَاة، وهم من عبد الصَّمد. قلت: ذكر هَذَا فِي حَدِيث حَمَّاد أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة. وَقَالَ مُسلم فِي (صَحِيحه) : وَفِي حَدِيث حَمَّاد بن زيد حرف تَرَكْنَاهُ، وَهِي: (توضئي لكل صَلَاة) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: وأسقطها مُسلم لِأَنَّهَا مِمَّا انْفَرد بِهِ حَمَّاد. قُلْنَا: لم ينْفَرد بِهِ حَمَّاد عَن هِشَام، بل رَوَاهُ عَنهُ أَبُو عوَانَة، أخرجه الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (الرَّد على الْكَرَابِيسِي) من طَرِيقه بِسَنَد جيد، وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا حَمَّاد بن سَلمَة، أخرجه الدَّارمِيّ من طَرِيقه، وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا أَبُو حنيفَة. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أبي نعيم وَعبد الله بن يزِيد الْمقري عَن أبي حنيفَة عَن هِشَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ من طَرِيق وَكِيع وَعَبدَة وَأبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام، وَقَالَ فِي آخِره: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَة فِي حَدِيثه: (توضئي لكل صَلَاة) ، وَقد جَاءَ الْأَمر أَيْضا بِالْوضُوءِ فِيمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الْمُسْتَحَاضَة إِذا كَانَت مُمَيزَة من حَدِيث مُحَمَّد بن عمر عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى آخِره،(3/311)
على أَن حَمَّاد بن زيد لَو انْفَرد بذلك لَكَانَ كَافِيا لِثِقَتِهِ وَحفظه، لَا سِيمَا فِي هِشَام، وَلَيْسَ هَذَا بمخالفة، بل زِيَادَة ثِقَة وَهِي مَقْبُولَة لَا سِيمَا من مثله. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَقَوله (فَكَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة) قيل: هُوَ من قَول الرَّاوِي وَمَعْنَاهُ: تَغْتَسِل من الدَّم الَّذِي كَانَ يُصِيب الْفرج، إِذْ الْمَشْهُور من مَذْهَب عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت لَا ترى الْغسْل لكل صَلَاة، يدل على صِحَة هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَذَا عرق) ، لِأَن دم الْعرق لَا يُوجب غسلا.
وَقيل: إِن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ بِحَدِيث فَاطِمَة، لِأَن عَائِشَة أفتت بِحَدِيث فَاطِمَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخالفت حَدِيث أم حَبِيبَة، وَلِهَذَا إِن أَبَا مُحَمَّد الأشبيلي قَالَ: حَدِيث فَاطِمَة أصح حَدِيث يرْوى فِي الِاسْتِحَاضَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا أمرهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تَغْتَسِل وَتصلي، وَإِنَّمَا كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة تَطَوّعا. وَكَذَا قَالَ اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَته عِنْد مُسلم: لم يذكر ابْن شهَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهاأن تَغْتَسِل لكل صَلَاة، وَلكنه شَيْء فعلته هِيَ، وَإِلَى هَذَا ذهب الْجُمْهُور، قَالُوا: لَا يجب على الْمُسْتَحَاضَة الْغسْل لكل صَلَاة، لَكِن يجب عَلَيْهَا الْوضُوء إلاّ الْمُتَحَيِّرَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الْخَبَر مُخْتَصر لَيْسَ فِيهِ ذكر حَال هَذِه الْمَرْأَة وَلَا بَيَان أمرهَا، وَكَيْفِيَّة شَأْنهَا، وَلَيْسَ كل مُسْتَحَاضَة يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لكل صَلَاة، وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَن تبتلى وَهِي لَا تميز دَمهَا، أَو كَانَت لَهَا أَيَّام فنسيتها وموضعها ووقتها وعددها، فَإِذا كَانَت كَذَلِك فَإِنَّهَا لَا تدع شَيْئا من الصَّلَاة، وَكَانَ عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل صَلَاة، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون ذَلِك الْوَقْت قد صَادف زمَان انْقِطَاع دَمهَا، فالغسل عَلَيْهَا عِنْد ذَلِك وَاجِب.
27 - (بابُ الْمَرأةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَة)
أَي: هَذَا فِي بَيَان حكم الْمَرْأَة الَّتِي تحيض بعد طواف الافاضة، وَهِي الَّتِي تسمى أَيْضا: طواف الزِّيَارَة، وَهُوَ من أَرْكَان الْحَج، يَعْنِي هَل تنفر وتترك طواف الْوَدَاع؟ فَالْجَوَاب: نعم تتْرك وتنفر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب السَّابِق حكم الْمُسْتَحَاضَة، وَفِي هَذَا الْبَاب حكم الْحَائِض، فالحيض والاستحاضة من وادٍ وَاحِد.
328 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبَرَنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ عَمْرٍ وبن حَزْمٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ عائشةَ زَوْجِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انهَا قالتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا رَسُول الله إنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ قالَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّهَا تَحْبسِنَاألَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ فقالُوا بَلَى قالَ فَاخْرُجِي. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن صَفِيَّة إِنَّمَا حَاضَت بعد طواف الْإِفَاضَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: الإِمَام مَالك بن أنس. الثَّالِث: عبد الله بن أبي بكر الْمدنِي الْأنْصَارِيّ، قَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدِيثه شِفَاء مر فِي بَاب الْوضُوء مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو ابْن حزم، بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، ولي الْقَضَاء والإمرة والموسم زمن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر فِي بَاب كَيفَ يقبض الْعلم. الْخَامِس: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن، وَهِي الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب السَّابِق، وَعمرَة خَالَته الَّتِي تربت فِي حجر عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. السَّادِس: عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف اسناده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَصِيغَة الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون غير عبد الله فَإِنَّهُ مصري ثمَّ تنيسي: وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بعنعنة، وهم مَا بَين مَالك وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين، وَفِيه فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام: قَوْله: (إِن صَفِيَّة) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: بنت حييّ بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وباليائين الأولى مَفْتُوحَة مُخَفّفَة، وَالثَّانيَِة مُشَدّدَة، ابْن أَخطب، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، النَّضْرِية، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة، من بَنَات هَارُون(3/312)
أخي مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، سباها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام فتح خَيْبَر ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، رُوِيَ لَهَا عشرَة أَحَادِيث، للْبُخَارِيّ وَاحِد مِنْهَا، مَاتَت سنة سِتِّينَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة. قَالَه الواقديُّ: وَقَالَ غَيره مَاتَت فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ. قَوْله: (لَعَلَّهَا تحسبنا) أَي: عَن الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة حَتَّى تطهر وَتَطوف بِالْبَيْتِ، وَلَعَلَّ، هَهُنَا لَيست للترجي، بل للاستفهام أَو للتردد أَو للظن وَمَا شاكله. قَوْله: (طافت) أَي طواف الرُّكْن، وَفِي بعض النّسخ: (أفاضت) ، أَي: طافت طواف الْإِفَاضَة، وَهُوَ طواف الرُّكْن، لِأَنَّهُ يُسمى طواف الْإِفَاضَة وَطواف الرُّكْن وَطواف الزِّيَارَة. قَوْله: (وَقَالُوا) ، أَي: النِّسَاء وَمن مَعَهُنَّ من الْمَحَارِم، وَكَذَا قَالَه بَعضهم، وَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن فِيهِ تَغْلِيب الْإِنَاث على الذُّكُور. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي قَالَ: النَّاس، وإلاَّ فَحق السِّيَاق أَن يُقَال: فَقُلْنَ أَو فَقُلْنَا قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: قَالُوا، أَي الْحَاضِرُونَ هُنَاكَ، وَفِيهِمْ الرِّجَال وَالنِّسَاء. قَوْله: (قَالَ فاخرجي) أَي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَخْرِجِي، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالْإِفْرَادِ فِي الْخطاب، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (فاخرجن) ، بِصِيغَة الْجمع للإناث. أما الْوَجْه الأول فَفِيهِ الِالْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب، يَعْنِي قَالَ لصفية مُخَاطبا لَهَا: اخْرُجِي أَو يكون الْخطاب لعَائِشَة لِأَنَّهَا هِيَ القائلة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن صَفِيَّة قد حَاضَت، فَقَالَ لَهَا: اخْرُجِي فَإِنَّهَا توافقك فِي الْخُرُوج، إِذْ لَا يجوز لَهَا تَأَخّر بعْدك، لِأَنَّهَا قد طافت طواف الرُّكْن وَلم يبْق عَلَيْهَا فرض. وَفِيه وَجه آخر وَهُوَ: أَن يقدر فِي الْكَلَام شَيْء تَقْدِيره: قَالَ لعَائِشَة: قولي لَهَا اخْرُجِي. وَأما الْوَجْه الثَّانِي فعلى السِّيَاق. فَإِن قلت مَا الْفَاء فِي قَوْله: فاخرجي؟ قلت: فِيهِ أوجه: الأول: أَن يكون جَوَابا: لأما، مقدرَة، وَالتَّقْدِير: أما أَنْت فاخرجي كَمَا يخرج غَيْرك. وَالثَّانِي: يجوز أَن تكون زَائِدَة. وَالثَّالِث: يجوز أَن تكون عطفا على مُقَدّر تَقْدِيره: إعلمي أَن مَا عَلَيْك التَّأَخُّر، فاخرجي. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح صَحِيح مُسلم) فَفِي الحَدِيث دَلِيل لسُقُوط طواف الْوَدَاع عَن الْحَائِض، وَأَن طواف الْإِفَاضَة ركن لَا بُد مِنْهُ، وَأَنه لَا يسْقط عَن الْحَائِض وَلَا عَن غَيرهَا، وَأَن الْحَائِض تقيم لَهُ حَتَّى تطهر، فَإِن ذهبت إِلَى وطنها قبل طواف الْإِفَاضَة بقيت مُحرمَة. انْتهى. قلت: تبقى مُحرمَة أبدا حَتَّى تَطوف فِي حق الْجِمَاع مَعَ زَوجهَا، وَأما فِي حق غَيره فَتخرج عَن الْإِحْرَام. وَفِيه دَلِيل أَن الْحَائِض لَا تَطوف بِالْبَيْتِ، فَإِن هجمت وطافت وَهِي حَائِض فَفِيهِ تَفْصِيل: فَإِن كَانَت محدثة، وَكَانَ الطّواف طواف الْقدوم، فعلَيْهَا الصَّدَقَة عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي، لَا يعْتد بِهِ، وَإِن كَانَ طواف الرُّكْن فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَت حَائِضًا وَكَانَ الطّواف طواف الْقدوم فعلَيْهَا شَاة، وَإِن كَانَ طواف الرُّكْن فعلَيْهَا بَدَنَة، وَكَذَا حكم الْجنب من الرِّجَال وَالنِّسَاء.
34 - (حَدثنَا مُعلى بن أَسد قَالَ حَدثنَا وهيب عَن عبد الله بن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ رخص للحائض أَن تنفر إِذا حَاضَت وَكَانَ ابْن عمر يَقُول فِي أول أمره إِنَّهَا لَا تنفر ثمَّ سمعته يَقُول تنفر إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص لَهُنَّ) ذكر هذَيْن الأثرين عَن ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم إيضاحا لِمَعْنى الحَدِيث السَّابِق وَمعلى بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام ابْن أَسد مرادف اللَّيْث أَبُو الْهَيْثَم الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. ووهيب تَصْغِير وهب بن خَالِد أثبت شُيُوخ الْبَصرِيين وَعبد الله بن طَاوس مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة قَالَ معمر مَا رَأَيْت ابْن فَقِيه مثل ابْن طَاوس وَأَبوهُ طَاوس بن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي من أَبنَاء الْفرس كَانَ يعد الحَدِيث حرفا حرفا قَالَ عَمْرو بن دِينَار لَا تحسبن أحدا أصدق لهجة مِنْهُ مَاتَ سنة بضع عشرَة وَمِائَة قَوْله " رخص " بِلَفْظ الْمَجْهُول والرخصة حكم يثبت على خلاف الدَّلِيل لعذر (قلت) الرُّخْصَة حكم شرع تيسيرا لنا وَقيل هُوَ الْمَشْرُوع لعذر مَعَ قيام الْمحرم لَوْلَا الْعذر والعذر هُوَ وصف يطْرَأ على الْمُكَلف يُنَاسب التسهيل عَلَيْهِ قَوْله " أَن تنفر " بِكَسْر الْفَاء وَضمّهَا وَالْكَسْر أفْصح وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل رفع لِأَنَّهُ فَاعل نَاب عَن الْمَفْعُول وَالتَّقْدِير رخص لَهَا النفور أَي الرُّجُوع إِلَى وطنها قَوْله " وَكَانَ ابْن عمر يَقُول " هُوَ كَلَام طَاوس وَهُوَ دَاخل تَحت الْإِسْنَاد الْمَذْكُور قَوْله " فِي أول أمره " يَعْنِي قبل وُقُوفه على الحَدِيث الْمَذْكُور قَوْله " لَا تنفر " بِمَعْنى لَا ترجع حَتَّى تَطوف طواف الْوَدَاع قَوْله " ثمَّ سمعته " أَي قَالَ طَاوس ثمَّ سَمِعت ابْن عمر يَقُول تنفر يَعْنِي ترجع بعد أَن(3/313)
طَاف طواف الرُّكْن أَرَادَ أَنه رَجَعَ عَن تِلْكَ الْفَتْوَى الَّتِي كَانَ يفتيها أَولا إِلَى خلَافهَا قَوْله " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من كَلَام ابْن عمر فِي مقَام التَّعْلِيل لرجوعه عَن فتواه الأولى وَذَلِكَ أَنه لما لم يبلغهُ الحَدِيث أفتى بِاجْتِهَادِهِ ثمَّ لما بلغه رَجَعَ عَنهُ أَو كَانَ وقف عَلَيْهِ أَولا ثمَّ نَسيَه ثمَّ لما تذكره رَجَعَ إِلَيْهِ وَإِمَّا أَنه سمع ذَلِك من صَحَابِيّ آخر رَوَاهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرجع إِلَيْهِ قَوْله " رخص لَهُنَّ " أَي للحائض وَإِنَّمَا جمع نظرا إِلَى الْجِنْس
28 - (بابٌ إذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْمُسْتَحَاضَة إِذا رَأَتْ الطُّهْر بِأَن انْقَطع دَمهَا تغسل وَتصلي وَلَو كَانَ ذَلِك الطُّهْر سَاعَة، هَذَا هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَصده البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ذكره الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس على مَا يذكر الْآن، وَقَالَ بَعضهم: أَي تميز لَهَا دم الْعرق من دم الْحيض، فَسمى الِاسْتِحَاضَة طهرا لِأَنَّهُ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى زمن الْحيض، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ انْقِطَاع الدَّم، وَالْأول أوفق للسياق انْتهى. قلت: فِيهِ خدش من وُجُوه: الأول: أَن كَلَامه يدل على أَن دَمهَا مُسْتَمر، وَلَكِن لَهَا أَن تميز بَين دم الْعرق وَدم الْحيض، والترجمة لَيست كَذَلِك، فَإِنَّهُ نَص فِيهَا على الطُّهْر وَحَقِيقَته الِانْقِطَاع عَن الْحيض. وَالثَّانِي: أَنه يَقُول: فَسمى دم الِاسْتِحَاضَة طهرا، وَهَذَا مجَاز، وَلَا دَاعِي لَهُ وَلَا فَائِدَة. وَالثَّالِث: أَنه يَقُول: إِن الاول أوفق للسياق، وَهَذَا عكس مَا قَصده البُخَارِيّ، بل الأوفق للسياق مَا ذَكرْنَاهُ.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَلَوْ سَاعَةً وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا إذَا صَلَّتْ. الصَّلاَةُ أعظَمُ
هَذَا الْأَثر طبق التَّرْجَمَة، وَمُرَاد البُخَارِيّ من التَّرْجَمَة مَضْمُون هَذَا، وَعَن هَذَا قَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ إِذا رَأَتْ الطُّهْر سَاعَة ثمَّ عاودها دم فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن خَالِد عَن أنس بن سِيرِين عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَالْقَائِل الْمَذْكُور آنِفا كَأَنَّهُ اشْتبهَ حَيْثُ قَالَ عقيب هَذَا الْكَلَام: وَهَذَا مُوَافق للاحتمال الْمَذْكُور أَولا. قَوْله: (تَغْتَسِل) مَعْنَاهُ الْمُسْتَحَاضَة إِذا رَأَتْ طهرا تَغْتَسِل وَتصلي وَلَو كَانَ ذَاك الطُّهْر سَاعَة. وَفِي بعض النّسخ: (وَلَو سَاعَة من نَهَار) ، وَمن هَذَا يعلم أَن أقل الطُّهْر سَاعَة عِنْد ابْن عَبَّاس، وَعند جُمْهُور الْفُقَهَاء أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ذكر أَبُو ثَوْر أَن ذَلِك لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِيمَا نعلم، وَفِي (الْمُهَذّب) : لَا أعرف فِيهِ خلافًا. وَقَالَ الْمحَامِلِي: أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا بِالْإِجْمَاع، وَنَحْوه فِي (التَّهْذِيب) . وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: أجمع النَّاس على أَن أقل الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: دَعْوَى الْإِجْمَاع غير صَحِيح، لِأَن الْخلاف فِيهِ مَشْهُور، فَإِن أَحْمد وَإِسْحَاق أنكرا التَّحْدِيد فِي الطُّهْر، فَقَالَ أَحْمد: الطُّهْر بَين الحيضتين على مَا يكون، وَقَالَ إِسْحَاق توقيفهم الطُّهْر بِخَمْسَة عشر غير صَحِيح، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أما أقل الطُّهْر فقد اضْطربَ فِيهِ قَول مَالك وَأَصْحَابه، فروى ابْن الْقَاسِم عَنهُ عشرَة أَيَّام، وروى سَحْنُون عَنهُ ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقَالَ عبد الْملك بن الْمَاجشون: أقل الطُّهْر خَمْسَة أَيَّام، وَرَوَاهُ عَن مَالك رَحمَه الله. قَوْله: (ويأتيها زَوجهَا) أَي: يَأْتِي الْمُسْتَحَاضَة زَوجهَا يَعْنِي: يَطَؤُهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء وَعَامة الْعلمَاء وَمنع من ذَلِك قوم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (الْمُسْتَحَاضَة لَا يَأْتِيهَا زَوجهَا) . وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحكم وَابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: (إِنَّمَا سمعنَا بِالرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاة، وَحجَّة الْجَمَاعَة أَن دم الِاسْتِحَاضَة لَيْسَ بأذى يمْنَع الصَّلَاة وَالصَّوْم، فَوَجَبَ أَن لَا يمْنَع الْوَطْء، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عِكْرِمَة، قَالَ: (كَانَت أم حَبِيبَة تستحاض وَكَانَ زَوجهَا يَغْشَاهَا) . أَي: يُجَامِعهَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَن حمْنَة بنت جحش: (أَنَّهَا كَانَت مُسْتَحَاضَة، وَكَانَ زَوجهَا يُجَامِعهَا) . وَقَالَ الْحَافِظ ركن الدّين: فِي سَماع عِكْرِمَة عَن أم حَبِيبَة وَحمْنَة نظر، وَلَيْسَ فيهمَا مَا يدل على سَمَاعه مِنْهُمَا. قَوْله: (إِذا صلت) ، لَيْسَ لَهُ تعلق بقوله: (ويأتيها زَوجهَا) ، بل هِيَ جملَة مُسْتَقلَّة ابتدائية جزائية، وَفِي جوابها وَجْهَان: الأول: على قَول الْكُوفِيّين: جوابها مَا تقدمها، وَهُوَ قَوْله: (تَغْتَسِل وَتصلي) ، وَالتَّقْدِير على قَوْلهم: الْمُسْتَحَاضَة إِذا صلت يَعْنِي إِذا أَرَادَت الصَّلَاة تَغْتَسِل وَتصلي. الْوَجْه الثَّانِي: على قَول الْبَصرِيين: إِن الْجَواب مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا صلت تَغْتَسِل وَتصلي. قَوْله: (الصَّلَاة أعظم) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، كَأَنَّهَا جَوَاب على سُؤال مُقَدّر بِأَن يُقَال: كَيفَ يَأْتِي الْمُسْتَحَاضَة زَوجهَا؟ فَقَالَ: الصَّلَاة أعظم، أَي: أعظم من الْوَطْء. فَإِذا جَازَ لَهَا الصَّلَاة الَّتِي هِيَ أعظم، فالوطء بطرِيق الأولى. وَقَالَ بَعضهم قَوْله: (الصَّلَاة(3/314)
أعظم) الظَّاهِر أَن هَذَا بحث من البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِهِ بَيَان الْمُلَازمَة أَي: إِذا جَازَت الصَّلَاة فجواز الْوَطْء أولى. قلت: قَوْله: وَأَرَادَ بِهِ بَيَان الْمُلَازمَة أَخذه من الْكرْمَانِي.
331 - ح دَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ قالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ عُرْوةَ عنْ عائِشَةَ قالَتْ قالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أقْبَلتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ وإذَا أدْبَرَتْ فاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وصَلِّي.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى قَوْله: بَاب إِذا رَأَتْ الْمُسْتَحَاضَة الطُّهْر، بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِحَاضَة إِذا رَأَتْ الطُّهْر، كَمَا ذَكرْنَاهُ. والْحَدِيث دلّ على حكمهَا من وجوب الصَّلَاة عَلَيْهَا عِنْد إدبار الْحيض ورؤية الطُّهْر، والْحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش الْمُصَرّح فِيهِ بِأَمْر الْمُسْتَحَاضَة بِالصَّلَاةِ، وَقد تقدم فِي بَاب الْمُسْتَحَاضَة. وَزُهَيْر فِي هَذَا الْإِسْنَاد هُوَ: زُهَيْر بن مُعَاوِيَة. قَوْله: (فدعي) أَي: أتركي.
29 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَبَيَان سنتها. أَي: بَيَان سنة الصَّلَاة عَلَيْهَا. قَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ قصد بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن النُّفَسَاء، وَإِن كَانَت لَا تصلي، إِن لَهَا حكم غَيرهَا من النِّسَاء، أَي: فِي طَهَارَة الْعين لصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا، قَالَ: وَفِيه رد على من زعم أَن ابْن آدم ينجس بِالْمَوْتِ، لِأَن النُّفَسَاء جمعت الْمَوْت وَحمل النَّجَاسَة بِالدَّمِ الملازم لَهَا، فَلَمَّا لم يَضرهَا ذَلِك كَانَ الْمَيِّت الَّذِي لَا يسيل مِنْهُ نَجَاسَة أولى. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: ظن الشَّارِح أَرَادَ بِهِ ابْن بطال أَن مَقْصُود التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على أَن النُّفَسَاء طَاهِرَة الْعين لَا نَجِسَة، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى عَلَيْهَا، وَأوجب لَهَا بِصَلَاتِهِ حكم الطَّهَارَة، فيقاس الْمُؤمن الطَّاهِر مُطلقًا عَلَيْهَا فِي أَنه لَا ينجس، وَذَلِكَ كُله أَجْنَبِي عَن مَقْصُوده. وَالله أعلم. وَإِنَّمَا قصد أَنَّهَا، وَإِن ورد أَنَّهَا من الشُّهَدَاء، فَهِيَ مِمَّن يصلى عَلَيْهَا كَغَيْر الشُّهَدَاء، وَقَالَ ابْن رشيد: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يسْتَدلّ بِلَازِم من لَوَازِم الصَّلَاة، لِأَن الصَّلَاة اقْتَضَت أَن الْمُسْتَقْبل فِيهَا يَنْبَغِي أَن يكون مَحْكُومًا بِطَهَارَتِهِ، فَلَمَّا صلى عَلَيْهَا، أَي إِلَيْهَا، لزم من ذَلِك القَوْل بِطَهَارَة عينهَا. قلت: كل هَذَا لَا يجدي، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالصَّوَاب من القَوْل فِي هَذَا: أَن هَذَا الْبَاب لَا دخل لَهُ فِي كتاب الْحيض، ومورده فِي كتاب الْجَنَائِز، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ لَهُ مُنَاسبَة أصلا بِالْبَابِ الَّذِي قبله، ورعاية الْمُنَاسبَة بَين الْأَبْوَاب مَطْلُوبَة، وَقَول ابْن بطال: إِن حكم النُّفَسَاء مثل حكم غَيرهَا من النِّسَاء فِي طَهَارَة الْعين لصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا مسَلَّم، وَلكنه لَا يلائم حَدِيث الْبَاب، فَإِن حَدِيث الْبَاب فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على النُّفَسَاء، وَقَامَ فِي وَسطهَا، وَلَيْسَ لهَذَا دخل فِي كتاب الْحيض. وَقَول ابْن الْمُنِير، أبعد من هَذَا، لِأَن مَظَنَّة مَا ذكره فِي بَاب الشَّهِيد، وَلَيْسَ لَهُ دخل فِي كتاب الْحيض. وَقَول ابْن رشيد أبعد من الْكل، لِأَنَّهُ ارْتكب أمورا غير موجهة. الأول: أَنه شَرط أَن يكون الْمُسْتَقْبل فِي الصَّلَاة طَاهِرا، فَهَذَا فرض أَو وَاجِب أَو سنة أَو مُسْتَحبّ؟ . وَالثَّانِي: ارْتكب مجَازًا من غير دَاع إِلَى ذَلِك. وَالثَّالِث: ادّعى الْمُلَازمَة، وَهِي غير صَحِيحَة على مَا لَا يخفى على المتأمل.
36 - (حَدثنَا أَحْمد بن أبي سُرَيج قَالَ أخبرنَا شَبابَة قَالَ أخبرنَا شُعْبَة عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن بُرَيْدَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن امْرَأَة مَاتَت فِي بطن فصلى عَلَيْهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ وَسطهَا) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مَعَ وضع التَّرْجَمَة فِي غير موضعهَا كَمَا ذكرنَا. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول أَحْمد ابْن أبي سُرَيج أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ انْفَرد البُخَارِيّ بالرواية عَنهُ وَأَبُو سُرَيج اسْمه الصَّباح وَهُوَ بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبالجيم الثَّانِي شَبابَة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الباءين الموحدتين ابْن سوار بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو بالراء الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي المدايني وَأَصله من خُرَاسَان مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع حُسَيْن الْمعلم بِكَسْر اللَّام الْمكتب مر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يحب لِأَخِيهِ. الْخَامِس عبد الله بن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة(3/315)
وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة ابْن الْحصيب بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة الْأَسْلَمِيّ الْمروزِي التَّابِعِيّ الْمَشْهُور وَقَالَ الغساني قد صحف بَعضهم فَقَالَ هُوَ خصيب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة. السَّادِس سَمُرَة بن جُنْدُب بِضَم الْجِيم وَفتح الدَّال وَضمّهَا ابْن هِلَال الْفَزارِيّ روى لَهُ مائَة حَدِيث وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ مِنْهَا أَرْبَعَة وَكَانَ زِيَاد اسْتَخْلَفَهُ على الْكُوفَة سِتَّة أشهر وعَلى الْبَصْرَة سِتَّة أشهر مَاتَ سنة تسع وَخمسين قَالَ الغساني وَمِنْهُم من يَقُول سَمُرَة بِسُكُون الْمِيم تَخْفِيفًا نَحْو عضد فِي عضد وَهِي لُغَة أهل الْحجاز وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ بضَمهَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين رازي ومدائني وبصري ومروزي (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُسَدّد وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن ابْن الْمثنى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ وَعَن حميد بن مسْعدَة وَعَن سُوَيْد بن نصر وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي أُسَامَة عَن الْحُسَيْن بن ذكْوَان بِهِ (ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ) قَوْله " إِن امْرَأَة " هِيَ أم كَعْب سَمَّاهَا مُسلم فِي رِوَايَة من طَرِيق عبد الْوَارِث عَن حُسَيْن الْمعلم وَذكر أَبُو نعيم فِي الصَّحَابَة أَنَّهَا أنصارية قَوْله " مَاتَت فِي بطن " كلمة فِيهَا هُنَا للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها " وكما فِي قَوْله تَعَالَى {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} وَالْمعْنَى مَاتَت لأجل مرض بطن كالاستسقاء وَنَحْوه وَلَكِن قَالَ ابْن الْأَثِير الْأَظْهر هَهُنَا أَنَّهَا مَاتَت فِي نِفَاس لِأَن البُخَارِيّ ترْجم عَلَيْهِ بقوله بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ التَّيْمِيّ قيل وهم البُخَارِيّ فِي هَذِه التَّرْجَمَة حَيْثُ ظن أَن المُرَاد بقوله " مَاتَت فِي بطن " مَاتَت فِي الْولادَة فَوضع الْبَاب على بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء وَمعنى مَاتَت فِي بطن مَاتَت مبطونة روى ذَلِك مُبينًا من غير هَذَا الْوَجْه ثمَّ قَالَ أَقُول لَيْسَ وهما لِأَنَّهُ قد جَاءَ صَرِيحًا فِي بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء إِذا مَاتَت فِي نفَاسهَا فِي كتاب الْجَنَائِز وَفِي بَاب أَيْن يقوم الإِمَام من الْمَرْأَة عَن سَمُرَة بن جُنْدُب قَالَ " صليت وَرَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على امْرَأَة مَاتَت فِي نفَاسهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسطهَا " فالترجمة صَحِيحَة والموهم واهم انْتهى وَقَالَ بَعضهم قَوْله " مَاتَت فِي بطن " أَي بِسَبَب بطن يَعْنِي الْحمل ثمَّ قَالَ مَا قَالَه التَّيْمِيّ ثمَّ أجَاب عَنهُ بِمَا أجَاب بِهِ الْكرْمَانِي وَنسب الْجَواب إِلَى نَفسه بقوله قلت بل الموهم لَهُ واهم إِلَى آخر مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت لقَائِل أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون من سَمُرَة حديثان أَحدهمَا فِي الَّتِي مَاتَت فِي بطن وَالْآخر فِي الَّتِي مَاتَت فِي نفَاسهَا وَيكون الْوَهم فِي اسْتِعْمَال معنى الحَدِيث الثَّانِي الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيح بالنفاس فِي معنى الحَدِيث الأول الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيح بالبطن قَوْله " فَقَامَ وَسطهَا " يَعْنِي قَامَ محاذيا لوسطها قد ذكرنَا الْفرق بَين الْوسط بِالسُّكُونِ وَبَين الْوسط بِالتَّحْرِيكِ وَجَاء هَهُنَا كِلَاهُمَا وَضَبطه ابْن التِّين بِفَتْح السِّين وَضَبطه غَيره بِالسُّكُونِ وَفِيه رِوَايَة الْكشميهني " فَقَامَ عِنْد وَسطهَا " فَمن اخْتَار الْفَتْح يَقُول أَنه اسْم وَمن اخْتَار السّكُون يَقُول أَنه ظرف وَلَا يُقَال بِالسُّكُونِ إِلَّا فِي متفرق الْأَجْزَاء كالناس وَالدَّوَاب وبالفتح فِيمَا كَانَ مُتَّصِل الْأَجْزَاء كَالدَّارِ (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) وَهُوَ أَن الإِمَام يقوم من الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا قَالَ الْخطابِيّ اخْتلفُوا فِي موقف الإِمَام من الْجِنَازَة فَقَالَ أَحْمد يقوم من الْمَرْأَة بحذاء وَسطهَا وَمن الرجل بحذاء صَدره وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي يقوم مِنْهُمَا بحذاء الصَّدْر وَفِي الْمُغنِي لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي أَن السّنة أَن يقوم الإِمَام فِي صَلَاة الْجِنَازَة عِنْد صدر الرجل وَعند مَنْكِبَيْه وحذاء وسط الْمَرْأَة وروى حَرْب عَن ابْن حَنْبَل كَقَوْل أبي حنيفَة فَقَالَ رَأَيْت أَحْمد صلى على جَنَازَة فَقَامَ عِنْد صدر الْمَرْأَة وَفِي الْمَبْسُوط وَأحسن مَوَاقِف الإِمَام من الْمَيِّت بحذاء الصَّدْر قَالَ فِي جَوَامِع الْفِقْه هُوَ الْمُخْتَار وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يقوم بحذاء وسط الْمَرْأَة وَبِه قَالَ ابْن أبي ليلى وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَفِي الْبَدَائِع وروى الْحسن عَنهُ فِي كتاب الصَّلَاة أَنه يقوم بحذاء وسط الرجل وَعند رَأس الْمَرْأَة قَالَ وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَفِي الْمَبْسُوط الصَّدْر هُوَ الْوسط فَإِن فَوْقه يَدَيْهِ وَرَأسه وَتَحْته بَطْنه وَرجلَيْهِ وَفِي التُّحْفَة والمفيد الْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل وَغَيره أَنه يقوم من الرجل وَالْمَرْأَة(3/316)
حذاء الصَّدْر وَعَن الْحسن بحذاء الْوسط مِنْهُمَا إِلَّا أَنه يكون فِي الْمَرْأَة إِلَى رَأسهَا أقرب وَعَن أبي يُوسُف أَنه يقف بحذاء الْوسط من الْمَرْأَة وحذاء الرَّأْس من الرجل ذكره فِي الْمُفِيد وَهُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة وَفِي ظَاهر الرِّوَايَة قَالَا يقوم مِنْهُمَا بحذاء صدرهما وَقَالَ مَالك يقوم من الرجل عِنْد وَسطه وَمن الْمَرْأَة عِنْد منكبيها إِذْ الْوُقُوف عِنْد أعالي الْمَرْأَة أمثل وَأسلم وَقَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ من الشَّافِعِيَّة يقوم الإِمَام عِنْد صَدره وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَقطع بِهِ السَّرخسِيّ قَالَ الصيدلاني وَهُوَ اخْتِيَار أَئِمَّتنَا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ أَصْحَابنَا البصريون يقوم عِنْد صَدره وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَقَالَ البغداديون عِنْد رَأسه وَقَالُوا لَيْسَ فِي ذَلِك نَص وَمِمَّنْ قَالَه الْمحَامِلِي فِي الْمَجْمُوع والتجريد وَصَاحب الْحَاوِي وَالْقَاضِي حُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ
30 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب إِن قرىء بِالتَّنْوِينِ، وإلاَّ فبالسكون، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، وَلما كَانَ حكم الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب خلاف حكم حَدِيث الْبَاب الَّذِي قبله، فصل بَينهمَا بقوله: بَاب، وَلكنه مَا ترْجم لَهُ، وَهَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره لم يذكر لفظ بَاب، بل أَدخل حَدِيث مَيْمُونَة الْآتِي فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَوجه مُنَاسبَة ذكر حَدِيث مَيْمُونَة فِيهِ هُوَ التَّنْبِيه وَالْإِشَارَة إِلَى أَن عين الْحَائِض وَالنُّفَسَاء طَاهِرَة، لِأَن ثوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصِيب مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، إِذا سجد وَهِي حَائِض، وَلَا يضرّهُ ذَلِك، فَلذَلِك لم يكن يمْتَنع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
333 - حدَّثنا الْحَسَنُ بنُ مُدْرِكٍ قالَ حدَّثنَا يَحْيَى بنُ حَمَّادٍ قالَ أخبرنَا أبُو عَوَانةَ اسْمُهُ الوَضَّاحُ مِنْ كِتَابِهِ قالَ أخبَرنا سُلَيمانُ الشَّيْبَانِيُّ عنْ عَبْدِ الله بنِ شَدَّادٍ قالَ سَمِعْتُ خالَتِي مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهَا كانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لاَ تُصَلِّي وَهْيَ مُفْترِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رسولِ اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَتِهِ إذَا سَجَدَ أصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ..
لم يذكر تَرْجَمَة لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ ذكر قَوْله: بَاب، كَذَا مُجَردا، لِأَنَّهُ بِمَعْنى فصل، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر شَيْء. وَأما على الرِّوَايَة الَّتِي لم يذكر فِيهَا لفظ بَاب فوجهه مَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
ذكر رِجَاله وهم سنة: الأول: الْحسن بن مدرك، بِضَم الْمِيم من الْإِدْرَاك أَبُو عَليّ السدُوسِي الْحَافِظ الطَّحَّان الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: يحيى بن حَمَّاد الشَّيْبَانِيّ، ختن أبي عوَانَة، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: أَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين واسْمه الوضاح، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: سُلَيْمَان بن أبي سِنَان فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد، تقدم ذكره. السَّادِس: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي خَالَة عبد الله بن شَدَّاد، لِأَن أمه سلمى بنت عُمَيْس أُخْت لميمونة لأمها، أَي: أُخْت أَخِيهَا وَفِيه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ قَوْله: أَبُو عوَانَة. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه السماع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة البُخَارِيّ من صغَار شُيُوخه، وَهُوَ الْحسن الْمَذْكُور، وَالْبُخَارِيّ أقدم مِنْهُ سَمَاعا. وروى البُخَارِيّ عَن يحيى بن حَمَّاد أَيْضا شيخ الْحسن الْمَذْكُور، والنكتة فِيهِ أَن هَذَا الحَدِيث قد فَاتَ البُخَارِيّ عَن شَيْخه يحيى، فَرَوَاهُ عَن الْحسن لِأَنَّهُ عَارِف بِحَدِيث يحيى بن حَمَّاد، وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى أَن أَبَا عوَانَة حدث بِهَذَا الحَدِيث، من كِتَابه، تَقْوِيَة لما رُوِيَ عَنهُ، قَالَ أَحْمد: إِذا حدث أَبُو عوَانَة من كِتَابه فَهُوَ أثبت، وَإِذا حدث من غير كِتَابه رُبمَا وهم، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: أَبُو عوَانَة ثِقَة، إِذا حدث من الْكتاب، وَقَالَ ابْن مهْدي: كتاب أبي عوَانَة أثبت من هشيم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد، وَعَن عَمْرو بن زُرَارَة، وَعَن أبي النُّعْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن عون عَن خَالِد بِهِ. وَأخرجه ابْن ماجة عَن ابْن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (أَنَّهَا) ، أَي: أَن مَيْمُونَة. قَوْله: (كَانَت تكون) فِيهِ ثَلَاث أوجه: أَحدهَا: أَن يكون أحد لَفْظِي الْكَوْن زَائِدا كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
وجيران لنا كَانُوا كرام
فَلفظ: كَانُوا، زَائِد، و: كرام، بِالْجَرِّ صفة: لجيران.(3/317)
الثَّانِي: أَن يكون فِي: كَانَت، ضمير الْقِصَّة وَهُوَ اسْمهَا، وخبرها. قَوْله: (تكون حَائِضًا) فِي مَحل النصب. الثَّالِث: أَن يكون لفظ: تكون، بِمَعْنى: تصير، فِي مَحل النصب على أَنَّهَا إسم: كَانَت، وَيكون الضَّمِير فِي كَانَت رَاجعا إِلَى مَيْمُونَة، وَهُوَ اسْمهَا. وَقَوله: (حَائِضًا) يكون خبر تكون الَّتِي بِمَعْنى: تصير. قَوْله: (لَا تصلي) جملَة مُؤَكدَة. (لقَوْله حَائِضًا) وأعرب الْكرْمَانِي: لَا تصلي صفة لحائضا فِي وَجه، وَفِي وَجه أعربه حَالا. وأعرب: لَا تصلي خَبرا لكَانَتْ، وَالتَّحْقِيق مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَهِي مفترشة) جملَة إسمية وَقعت حَالا، يُقَال: افترش الشَّيْء، انبسط، وافترش ذِرَاعَيْهِ، بسطهما على الأَرْض. قَوْله: (بحذاء) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد بِمَعْنى: إزاء. قَوْله: (مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَوضِع سُجُوده فِي بَيته، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْمَسْجِد الْمَعْرُوف الْمَعْهُود. قَوْله: (على خمرته) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: وَهِي سجادة صَغِيرَة تعْمل من سعف النّخل، تنسج بالخيوط، وَسميت بذلك لسترها الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ من حر الأَرْض وبردها، وَإِذا كَانَت كَبِيرَة سميت حَصِيرا. قَوْله: (أصابني بعض ثَوْبه) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. فَإِن قلت: مَا محلهَا من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب على الْحَال، وَقد علمت أَن الْجُمْلَة الفعلية الْمَاضِيَة المثبتة إِذا وَقعت حَالا تكون بِلَا: وَاو، فَافْهَم.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن الْحَائِض لَيست بنجسة لِأَنَّهَا لَو كَانَت نَجِسَة لما وَقع ثَوْبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَيْمُونَة وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء. وَمِنْهَا: أَن الْحَائِض إِذا قربت من الْمُصَلِّي لَا يضر ذَلِك صلَاته. وَمِنْهَا: ترك الْحَائِض الصَّلَاة. وَمِنْهَا: جَوَاز الافتراش بحذاء الْمُصَلِّي. وَمِنْهَا: جَوَاز الصَّلَاة على الشَّيْء الْمُتَّخذ من سعف النّخل، سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو صَغِيرا، بل هَذَا أقرب إِلَى التَّوَاضُع والمسكنة، بِخِلَاف صَلَاة المتكبرين على سجاجيد مثمنة مُخْتَلفَة الألوان والقماش. وَمِنْهُم من ينسج لَهُ سجادة من حَرِير، فَالصَّلَاة عَلَيْهَا مَكْرُوهَة، وَإِن كَانَ دوس الْحَرِير جَائِزا، لِأَن فِيهِ زِيَادَة كبر وطغيان.
كمل بعون الله تَعَالَى واعانته الْجُزْء الثَّالِث من (عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح البُخَارِيّ للامام الْعَيْنِيّ، ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الرَّابِع ومطلعه كتاب التَّيَمُّم وفقنا الله عز وَجل لإكماله فَإِنَّهُ ولي التَّوْفِيق
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(3/318)
7 - (كتاب التَّيَمُّم)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: أَن قبله (بِسم االرحمن الرَّحِيم) فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بعده. وَتَقْدِيم الْبَسْمَلَة على الْكتاب ظَاهر للْحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، وَأما تَأْخِيرهَا عَن الْكتاب فوجهه أَن الْكتب الَّتِي فِيهَا التراجم مثل السُّور، حَتَّى يُقَال سُورَة كَذَا وَسورَة كَذَا، والبسملة تذكر بعْدهَا على رَأس الْأَحَادِيث، كَمَا تذكر على رُؤُوس الْآيَات ويستفتتح بهَا.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْكتاب وَالْكتاب الَّذِي قبله أَن الْمَذْكُور قبله أَحْكَام الْوضُوء بِالْمَاءِ، وَالْمَذْكُور هَهُنَا التَّيَمُّم، وَهُوَ خلف عَن المَاء، فيذكر الأَصْل أَولا ثمَّ يذكر الْخلف عَقِيبه.
الثَّالِث: فِي إعرابه: وَهُوَ مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا كتاب التَّيَمُّم، وَالْإِضَافَة فِيهِ بِمَعْنى: فِي، أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام التَّيَمُّم، وَيجوز نصب الْكتاب بعامل مُقَدّر تَقْدِيره. خُذ، أَو: هاك كتاب التَّيَمُّم.
الرَّابِع: فِي معنى التَّيَمُّم: وَهُوَ مصدر تيَمّم تيمماً من بَاب التفعل، وَأَصله من الْأُم وَهُوَ: الْقَصْد. يَقُول أمَّه يؤمه أما إِذا قَصده. وَذكر أَبُو مُحَمَّد فِي الْكتاب (الواعي) : يُقَال: أم وتأمم ويمم وَتيَمّم بِمَعْنى وَاحِد، وَالتَّيَمُّم أَصله من ذَلِك، لِأَنَّهُ يقْصد التُّرَاب فيتمسح بِهِ. وَفِي (الْجَامِع) عَن الْخَلِيل: التَّيَمُّم يجْرِي مجْرى التوخي تَقول: تيَمّم أطيب مَا عنْدك فأطعمنا مِنْهُ، أَي: توخاه. وَأَجَازَ أَن يكون التَّيَمُّم الْعمد وَالْقَصْد. وَهَذَا الِاسْم كثر حَتَّى صَار اسْما للتمسح بِالتُّرَابِ. قَالَ الْفراء: وَلم أسمع: يممت بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي (التَّهْذِيب) لأبي مَنْصُور: التَّيَمُّم التعمد، وَهُوَ مَا ذكره البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم وَابْن الْمُنْذر عَن سُفْيَان. قلت: التَّيَمُّم فِي اللُّغَة: مُطلق الْقَصْد، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني؟)
وَفِي الشَّرْع: قصد الصَّعِيد الطَّاهِر واستعماله بِصفة مَخْصُوصَة، وَهُوَ مسح الْيَدَيْنِ وَالْوَجْه لاستباحة الصَّلَاة وامتثال الْأَمر.
الْخَامِس: الأَصْل فِيهِ الْكتاب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَالسّنة وَهِي أَحَادِيث الْبَاب وَغَيره، وَالْإِجْمَاع على جَوَازه للمحدث وَفِي الْجَنَابَة أَيْضا، وَخَالف فِيهِ عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود وَالنَّخَعِيّ وَالْأسود كَمَا نَقله ابْن حزم، وَقد ذكرُوا رجوعهم عَن هَذَا.
السَّادِس: أَن التَّيَمُّم فَضِيلَة خصت بهَا هَذِه الْأمة دون غَيرهَا من الْأُمَم.
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمُّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكمْ مِنْهُ} (الْمَائِدَة: 6) .
وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: قَول ا، بِلَا: وَاو، فوجهه أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: {فَلم تَجدوا} (النِّسَاء: 36، الْمَائِدَة: 6) ، وَالْمعْنَى: قَول فِي شَأْن التَّيَمُّم هَذِه الْآيَة، وَفِي رِوَايَة غَيره؟ بواو الْعَطف على كتاب التَّيَمُّم، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان قَول الله تَعَالَى {فَلم تَجدوا} . وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو استئنافية، وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن الِاسْتِئْنَاف جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر وَلَيْسَ لهَذَا مَحل هَهُنَا، فَإِن قَالَ: هَذَا الْقَائِل: مرادي الِاسْتِئْنَاف اللّغَوِيّ. قلت: هَذَا أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن الِاسْتِئْنَاف فِي اللُّغَة الْإِعَادَة وَلَا مَحل لهَذَا الْمَعْنى هَهُنَا. فَافْهَم. قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء) الْقُرْآن هَكَذَا فِي سُورَة النِّسَاء والمائدة، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين على هَذَا وَهُوَ الصَّوَاب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وعبدوس والحموي وَالْمُسْتَمْلِي: (فَإِن لم تَجدوا) ، وَوَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى(4/2)
عَنْهَا، فِي قصَّتهَا الْمَذْكُورَة. قَالَ: فَأنْزل اآية التَّيَمُّم: فَإِن لم {تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن هَذَا وهم من حَمَّاد أَو غَيره، أَو قِرَاءَة شَاذَّة لحماد. قَوْله: (صَعِيدا طيبا) أَي أَرضًا طَاهِرَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول، أَي: مصعود عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ ابْن الْأَعرَابِي، وَكَذَلِكَ قَالَه الْخَلِيل وثعلب. وَفِي (الجمهرة) : وَهُوَ التُّرَاب الَّذِي لَا يخالطه رمل وَلَا سبخ، هَذَا قَول أبي عُبَيْدَة. وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر من وَجه الأَرْض. وَقَالَ الزّجاج فِي (الْمعَانِي) : الصَّعِيد وَجه الأَرْض وَلَا تبالي أَكَانَ فِي الْموضع تُرَاب أم لم يكن، لِأَن الصَّعِيد لَيْسَ اسْما للتراب، إِنَّمَا هُوَ وَجه الأَرْض تُرَابا كَانَ أَو صخراً لَا تُرَاب عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَتُصْبِح صَعِيدا زلقاً} (الْكَهْف: 04) فأعلمك أَن الصَّعِيد يكون زلقا. وَعَن قَتَادَة أَن الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَمعنى: طيبا طَاهِرا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف. وَقيل: الْحَلَال. وَقيل: الطّيب مَا تستطيبه النَّفس، وَأكْثر الْعلمَاء أَن مَعْنَاهُ: طَاهِرا قَوْله: (وَأَيْدِيكُمْ) إِلَى هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر بِدُونِ لَفْظَة: مِنْهُ. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: مِنْهُ، وَهِي تعين آيَة الْمَائِدَة دون آيَة النِّسَاء، لِأَن آيَة النِّسَاء لَيْسَ فِيهَا: مِنْهُ، وَلَفْظَة: مِنْهُ، فِي آيَة الْمَائِدَة.
4331 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ قالَتْ خَرَجنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْضِ أسْفارِهِ حَتَّى إذَا كُنَّا بالْبَيْدَاءِ أوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقامَ رسولُ اللَّهِصلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى الْتماسِهِ وَأقامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فقالُوا ألاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عائشَةُ أقامَتْ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ ورَسُولُ اللَّهِ وَاضِعٌ رَأسَهُ عَلَي فَخِذِي قَدْ نَامَ فقالَ حَبَسْتِ رسولَ الله والناسَ وَلَيْسُوا عَلَى ماءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فقالَتْ عائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أبُو بَكْرٍ وقالَ مَا شاءَ اللَّهُ أنْ يقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خاصِرَتِي فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلاَّ مَكانُ رَسولِ اللَّهِ علَى فَخِذِي فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ حِينَ أصبْحَ عَلَى غَيْرِ ماءٍ فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فتيَمَّمُوا فقالَ أسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكمْ يَا آلَ أبِي بَكْرٍ قالَتْ فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأصَبْنَا العِقْدَ تحْتَهُ. (الحَدِيث 433 أَطْرَافه فِي: 633، 2763، 3773، 3854، 7064، 8064، 4615، 0525، 2885، 4486، 5486) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ أَشَارَ أَولا إِلَى مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم بِالْكتاب، وَهُوَ الْآيَة الْمَذْكُورَة، ثمَّ بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم هُوَ بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار وَكَذَلِكَ. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عبد ابْن يُوسُف، وَفِي فضل أبي بكر، رَضِي اعنه، عَن قُتَيْبَة، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي الْمُحَاربين عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة، أربعتهم عَن مَالك بِهِ.
ذكر لغاته: قَوْله: (بِالْبَيْدَاءِ) قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: الْبَيْدَاء أدنى إِلَى مَكَّة من ذِي الحليفة، ثمَّ قَالَ: هُوَ السَّرف الَّذِي قدّام ذِي الحليفة من طَرِيق مَكَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْبَيْدَاء، بِفَتْح الْمُوَحدَة وبالمد، وَذَات الْجَيْش، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وبإعجام السِّين: موضعان بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة. وَكلمَة: أَو، للشَّكّ من عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. قَوْله: (عقد لي) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْقَاف: وَهُوَ القلادة، وَهُوَ كل مَا يعْقد ويعلق فِي الْعُنُق. وَذكر السفاقسي أَن ثمنه كَانَ يَسِيرا. وَقيل: كَانَ ثمنه اثْنَا عشر درهما. قَوْله: (يطعنني)(4/3)
، بِضَم الْعين، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا هُوَ حسي. وَأما الْمَعْنَوِيّ فَيُقَال: يطعن بِالْفَتْح هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فيهمَا. وَحكي الْفَتْح فيهمَا مَعًا، كَذَا فِي (الْمطَالع) وَحكى صَاحب (الْجَامِع) الضَّم فيهمَا. قَوْله: (فِي خاصرتي) ، وَهِي الشاكلة. قَوْله: (بركتكم) ، الْبركَة: كَثْرَة الْخَيْر. قَوْله: (يَا آل أبي بكر) لفظ: آل، مقحمة وَأَرَادَ بِهِ: أَبَا بكر نَفسه وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أَبَا بكر وَأَهله وَأَتْبَاعه، والآل: يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف بِخِلَاف الْأَهْل. وَلَا يرد {أَدخِلوا آل فِرْعَوْن} (غَافِر: 64) لِأَنَّهُ بِحَسب تصَوره ذكر ذَلِك أَو بطرق التهكم، وَيجوز فِيهِ: يال أبي بكر، بِحَذْف الْهمزَة للتَّخْفِيف.
ذكر مَعَانِيه: قَوْله: (فِي بعض أَسْفَاره) قَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) يُقَال: إِنَّه كَانَ فِي غَزْوَة بني المصطلق، وَجزم بذلك فِي كتاب (الاستذكار) ، وَورد ذَلِك عَن ابْن سعد وَابْن حبَان قبله، وغزوة بني المصطلق هِيَ: غَزْوَة الْمُريْسِيع الَّتِي كَانَ فِيهَا قصَّة الْإِفْك. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي حَدِيث الْإِفْك: (فَانْقَطع عقدٌ لَهَا من جزع ظفار، فحبس النَّاس ابتغاؤه) . وَقَالَ ابْن سعد: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمُريْسِيع يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلتين خلتا من شهر شعْبَان سنة خمس) ، وَرجحه أَبُو عبد افي (الإكليل) وَقَالَ البُخَارِيّ: عَن ابْن إِسْحَاق سنة سِتّ، وَقَالَ عَن مُوسَى بن عقبَة سنة أَربع، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن ابْن حبيب قَالَ: سقط عقدهَا فِي السّنة الرَّابِعَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي غَزْوَة بني المصطلق قصَّة الْإِفْك. قلت: يُعَارض هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَن الْإِفْك قبل التَّيَمُّم، فَقَالَ: حدّثنا الْقَاسِم عَن حَمَّاد. حدّثنا مُحَمَّد بن حميد الرَّازِيّ حدّثنا سَلمَة بن الْفضل وَإِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يحيى بن عباد عَن عبد ابْن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (لما كَانَ من أَمر عقدي مَا كَانَ، وَقَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا، خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة أُخْرَى، فَسقط أَيْضا عقدي حَتَّى حبس النَّاس على التماسه، وطلع الْفجْر، فَلَقِيت من أبي بكر مَا شَاءَ ا، وَقَالَ: يَا بنية فِي كل سفر تكونين عناء وبلاء؟ لَيْسَ مَعَ النَّاس مَاء فَأنْزل االرخصة فِي التَّيَمُّم. فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّك مَا عملت لمباركة) .
قلت: إِسْنَاده جيد حسن، وَادّعى بَعضهم تعدد السّفر بِرِوَايَة الطَّبَرَانِيّ هَذِه، ثمَّ إِن بعض الْمُتَأَخِّرين استبعد سُقُوط العقد فِي الْمُريْسِيع. قَالَ: لِأَن الْمُريْسِيع من نَاحيَة مَكَّة بَين قديد والساحل، وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت من نَاحيَة خَيْبَر، لقولها فِي الحَدِيث: (حَتَّى إِذا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَو بِذَات الْجَيْش) ، وهما بَين الْمَدِينَة وخيبر، كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ، وَيرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي عبيد فِي فصل اللّعان، وَجزم أَيْضا ابْن التِّين أَن الْبَيْدَاء هِيَ ذُو الحليفة، وَقَالَ أَبُو عبيد أَيْضا: إِن ذَات الْجَيْش من الْمَدِينَة على بريد، قَالَ: وَبَينهَا وَبَين العقيق سَبْعَة أَمْيَال، والعقيق من طَرِيق مَكَّة لَا من طَرِيق خَيْبَر. وَيُؤَيّد هَذَا أَيْضا مَا رَوَاهُ الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان: حدّثنا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه فِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: فِيهِ أَن القلادة سَقَطت لَيْلَة الْأَبْوَاء. انْتهى. والأبواء بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن مسْهر فِي هَذَا الحَدِيث، عَن هِشَام قَالَ: وَكَانَ ذَلِك الْمَكَان يَقُول لَهُ: الصلصل: رَوَاهُ جَعْفَر الْفرْيَابِيّ فِي كتاب الطَّهَارَة لَهُ، وَابْن عبد الْبر من طَرِيقه، والصلصل. بصادين مهملتين ولامين أولاهما سَاكِنة. قَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ جبل عِنْد ذِي الحليفة. وَذكره فِي حرف الصَّاد الْمُهْملَة، وَوهم فِيهِ صَاحب (التَّلْوِيح) مغلطاي، فَزعم أَنه بالضاد الْمُعْجَمَة، وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) ابْن الملقن، وَقَالَ صَاحب (الْعباب) : الصلصل مَوضِع على طَرِيق الْمَدِينَة، وصلصل مَاء قريب من الْيَمَامَة لبني العجلان، وصلصل مَاء فِي جَوف هضبة جراء، ودارة صلصل لبني عَمْرو بن كلاب، وَهِي بِأَعْلَى دارها، ذكر ذَلِك كُله فِي الصَّاد الْمُهْملَة. وَقَالَ فِي (الْمُعْجَمَة) : الضلضلة مَوضِع.
قَوْله: (على التماسه) أَي: لأجل طلبه. قَوْله: (وَلَيْسَ مَعَهم مَاء) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَسَقَطت الْجُمْلَة الثَّانِيَة فِي الْموضع الأول فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (مَا صنعت عَائِشَة) أَي: من إِقَامَة رَسُول ا، وَالنَّاس اسندوا الْفِعْل إِلَيْهَا لِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبِهَا. قَوْلهَا: (فعاتبني أَبُو بكر وَقَالَ مَا شَاءَ اأن يَقُول) . وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (فَقَالَ: حبست النَّاس فِي قلادة) أَي: لأَجلهَا. فَإِن قلت: لم تقل عَائِشَة: أبي، بل سمته باسمه. قلت: مقَام الْأُبُوَّة لما كَانَ يَقْتَضِي الحنو والشفقة، وعاتبها أَبُو بكر صَار مغايراً لذَلِك، فَلذَلِك أنزلته بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ، فَلم تقل: أبي. قَوْله: (فَقَامَ رَسُول الله حِين أصبح) وَفِي رِوَايَة: (فَنَامَ حَتَّى أصبح) ، وَالْمعْنَى فيهمَا مُتَقَارب، لِأَن كلاَّ مِنْهُمَا يدل على أَن قِيَامه من نَومه كَانَ عِنْد الصُّبْح. وَيُقَال: لَيْسَ المُرَاد بقوله (حَتَّى أصبح) بَيَان غَايَة النّوم إِلَى الصَّباح، بل بَيَان غَايَة فقد المَاء إِلَى الصَّباح، لِأَنَّهُ قيد قَوْله: (حِين أصبح) بقوله (على غير مَاء) أَي: آل أمره إِلَى الصُّبْح على غير مَاء (قلت) قَوْله: على غير مَاء مُتَعَلق بقام وَأصْبح على طَريقَة بقوله تنَازع العاملين. وَأصْبح، بِمَعْنى: دخل فِي الصَّباح، وَهِي تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر. قَوْله: (فَأنْزل اآية التَّيَمُّم) قَالَ ابْن(4/4)
الْعَرَبِيّ: هَذِه معضلة مَا وجدت لدائها من دَوَاء، لأَنا لَا نعلم أَي الْآيَتَيْنِ عنت عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَقَالَ ابْن بطال: هِيَ أَيَّة النِّسَاء وَآيَة الْمَائِدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هِيَ آيَة النِّسَاء. لِأَن آيَة الْمَائِدَة تسمى: آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي آيَة النِّسَاء ذكر الْوضُوء، وَأورد الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) هَذَا الحَدِيث عِنْد ذكر آيَة النِّسَاء أَيْضا. وَقَالَ السفاقسي، كلَاما طَويلا ملخصه: أَن الْوضُوء كَانَ لَازِما لَهُم، وَآيَة التَّيَمُّم، أما الْمَائِدَة أَو النِّسَاء، وهما مدنيتان، وَلم يكن صَلَاة قبلُ إلاَّ بِوضُوء، فَلَمَّا نزلت آيَة التَّيَمُّم لم يذكر الْوضُوء لكَونه مُتَقَدما متلواً، لِأَن حكم التَّيَمُّم هُوَ الطارىء على الْوضُوء.
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون نزل أَولا أول الْآيَة، وَهُوَ فرض الْوضُوء، ثمَّ نزلت عِنْد هَذِه الْوَاقِعَة آيَة التَّيَمُّم وَهُوَ تَمام الْآيَة وَهُوَ: {وَإِن كُنْتُم مرضى} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَيحْتَمل أَن يكون الْوضُوء كَانَ بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرته عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. قلت: لَو وقف هَؤُلَاءِ على مَا ذكره أَبُو بكر الْحميدِي فِي جمعه فِي حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} (الْمَائِدَة: 6) الْآيَة إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) لما احتاجوا إِلَى هَذَا التخرص، وَكَأن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِذْ تَلا بَقِيَّة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة. قَوْله: (فَتَيَمَّمُوا) صِيغَة الْمَاضِي، أَي: فَتَيَمم النَّاس بعد نزُول الْآيَة وَهِي. قَوْله: (فَلم تَجدوا مَاء) وَالظَّاهِر أَنه صِيغَة الْأَمر على مَا هُوَ لفظ الْقُرْآن ذكره بَيَانا أَو بَدَلا عَن آيَة التَّيَمُّم، أَي: أنزل اتعالى: {فَتَيَمَّمُوا} (الْمَائِدَة: 6 النِّسَاء: 36) .
قَوْله: (فَقَالَ أسيد بن الْحضير) ، بِضَم الْهمزَة: مصغر أَسد، والحضير، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بالنُّون، قَالَ: وَفِي بَعْضهَا: الْحضير، بِالْألف وَاللَّام. وَهُوَ نَحْو: الْحَارِث، من الْأَعْلَام الَّتِي تدْخلهَا لَام التَّعْرِيف جَوَازًا. قلت: إِنَّمَا يدْخلُونَهَا للمح الوصفية، وَأسيد بن حضير بن شمال الأوسي الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي، أَبُو يحيى، أحد النُّقَبَاء لَيْلَة الْعقبَة الثَّانِيَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين، وَحمل عمر، رَضِي اعنه، جنَازَته من حملهَا وَصلى عَلَيْهِ وَدفن بِالبَقِيعِ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عبد ابْن نمير عَن هِشَام: (فَبعث رجلا فَوَجَدَهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (فَبَعَثنَا الْبَعِير فأصبنا العقد) ، وَبَينهمَا تضَاد. قلت: قَالَ الْمُهلب: لَيْسَ بَينهمَا تنَاقض، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْمَبْعُوث هُوَ أسيد بن حضير فَوَجَدَهَا بعد رُجُوعه من طلبَهَا، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي وجدهَا عِنْد إثارة الْبَعِير بعد انصراف المبعوثين إِلَيْهَا، فَلَا يكون بَينهمَا تعَارض. انْتهى. قلت: هما وَاقِعَتَانِ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الرِّوَايَة الأولى: (عقد) ، وَفِي الْأُخْرَى: (قلادة) ، فَلَا تعَارض حينئذٍ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: بعث رجلا، يَعْنِي أَمِيرا على جمَاعَة كعادته، فَعبر بعض الروَاة: بأناس، يَعْنِي أسيداً وَأَصْحَابه. وَبَعْضهمْ: برجلاً، يَعْنِي الْمشَار إِلَيْهِ، أَو يكون قَوْلهَا، فَوَجَدَهُ، تَعْنِي بذلك النَّبِي، لَا الرجل الْمَبْعُوث.
فَإِن قلت: مَا معنى قَول أسيد مَا قَالَه دون غَيره؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ رَأس المبعوثين فِي طلب العقد الَّذِي ضَاعَ. قَوْله: (مَا هِيَ بِأول بركتكم) أَي: لَيْسَ هَذِه الْبركَة أول بركتكم، بل هِيَ مسبوقة بغَيْرهَا من البركات، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أَن قَوْله: (هِيَ) ، يرجع إِلَى الْبركَة وَإِن لم يمض ذكرهَا، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (لقد بَارك اللناس فِيكُم) ، وَفِي تَفْسِير إِسْحَاق البستي من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَنْهَا: (أَن النَّبِي، قَالَ لَهَا: مَا كَانَ أعظم بركَة قلادتك) . وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فوا مَا نزل بك أَمر تكرهينه إلاَّ جعل اللمسلمين خيرا) . وَفِي النِّكَاح من هَذَا الْوَجْه: (إلاَّ جعل الك مِنْهُ مخرجا، وَجعل للْمُسلمين فِيهِ بركَة) ، وَهَذَا يشْعر بِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت بعد قصَّة الْإِفْك، فيقوي قَول من ذهب إِلَى تعدد ضيَاع العقد، وَمِمَّنْ جزم بذلك مُحَمَّد بن حبيب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: (سقط عقد عَائِشَة فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع وَفِي غَزْوَة بني المصطلق) ، وَقد اخْتلف أهل الْمَغَازِي فِي أَي هَاتين الغزوتين كَانَت أول، فَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَت قصَّة التَّيَمُّم فِي غَزْوَة الْفَتْح، ثمَّ تردد فِي ذَلِك، وَقد روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي اعنه، قَالَ: (لما نزلت آيَة التَّيَمُّم لم أدرِ كَيفَ أصنع) . الحَدِيث، فَهَذَا يدل على تأخرها عَن غَزْوَة بني المصطلق. لِأَن إِسْلَام أبي هُرَيْرَة كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة، وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي، إِن شَاءَ اتعالى، أَن البُخَارِيّ يرى أَن غَزْوَة ذَات الرّقاع كَانَت بعد قدوم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وقدومه كَانَ وَقت إِسْلَام أبي هُرَيْرَة. وَمِمَّا يدل على تَأَخّر الْقِصَّة أَيْضا عَن قصَّة الْإِفْك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عباد بن عبد ابْن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا. وَتقدم ذكره عَن قريب.
قَوْله: (فَبَعَثنَا الْبَعِير) أَي: أثرنا الْبَعِير الَّذِي كنت عَلَيْهِ حَالَة(4/5)
السّير. قَوْله: (فأصبنا) أَي: وجدنَا، وَهَذَا يدل على أَن الَّذين توجهوا فِي طلبه أَولا لم يجدوه. فَإِن قلت: وَفِي رِوَايَة عُرْوَة فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: (فَبعث رَسُول ا، رجلا فَوَجَدَهَا) . أَي: القلادة. وللبخاري فِي فضل عَائِشَة من هَذَا الْوَجْه، وَكَذَا لمُسلم: (فَبعث نَاسا من الصَّحَابَة فِي طلبَهَا) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد (فَبعث أسيد بن حضير وناساً مَعَه) . قلت: الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات أَن أسيداً كَانَ رَأس من بعث لذَلِك، كَمَا ذكرنَا، فَلذَلِك سمي فِي بعض الرِّوَايَات دون غَيره، وَكَذَا أسْند الْفِعْل إِلَى وَاحِد مِنْهُم. وَهُوَ المُرَاد بِهِ، وَكَأَنَّهُم لم يَجدوا العقد أَولا، فَلَمَّا رجعُوا وَنزلت آيَة التَّيَمُّم، وَأَرَادُوا الرحيل وآثاروا الْبَعِير وجده أسيد بن حضير، فعلى هَذَا فَقَوله فِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة: فَوَجَدَهَا أَي: بعد جَمِيع مَا تقدم من التفتيش وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون فَاعل: وجدهَا، هُوَ النَّبِي، وَقد بَالغ الدَّاودِيّ فِي توهيم رِوَايَة عُرْوَة، وَنقل عَن إِسْمَاعِيل القَاضِي أَنه حمل الْوَهم فِيهَا على عبد ابْن نمير، وَقد بَان بذلك أَن لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا وهم. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: (سَقَطت قلادة لي) ، وَفِي رِوَايَة عُرْوَة الْآتِيَة عَنْهَا: أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء يَعْنِي أُخْتهَا فَهَلَكت، أَي: ضَاعَت، فَكيف التَّوْفِيق هَهُنَا؟ قلت: إِضَافَة القلادة إِلَى عَائِشَة لكَونهَا فِي يَدهَا وتصرفها، وَإِلَى أَسمَاء لكَونهَا ملكهَا لتصريح عَائِشَة بذلك فِي رِوَايَة عُرْوَة الْمَذْكُورَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: أَن بَعضهم اسْتدلَّ مِنْهُ على جَوَاز الْإِقَامَة فِي الْمَكَان الَّذِي لَا مَاء فِيهِ، وسلوك الطَّرِيق الَّذِي لَا مَاء فِيهَا، وَفِيه نظر، لِأَن الْمَدِينَة كَانَت قريبَة مِنْهُم وهم على قصد دُخُولهَا، وَيحْتَمل أَن النَّبِي لم يعلم بِعَدَمِ المَاء مَعَ الركب، وَإِن كَانَ قد علم بِأَن الْمَكَان لَا مَاء فِيهِ، وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (لَيْسَ مَعَهم مَاء) أَي: للْوُضُوء، وَأما مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ للشُّرْب فَيحْتَمل أَن يكون كَانَ مَعَهم.
الثَّانِي: فِيهِ شكوى الْمَرْأَة إِلَى أَبِيهَا، وَإِن كَانَ لَهَا زوج، وَإِنَّمَا شكوا إِلَى أبي بكر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لكَون النَّبِي كَانَ نَائِما، وَكَانُوا لَا يوقظونه، كَذَا قَالُوا. قلت: يجوز أَن تكون شكواهم إِلَى أبي بكر دون النَّبِي خوفًا على خاطر النَّبِي من تغيره عَلَيْهَا.
الثَّالِث: فِيهِ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى من كَانَ سَببا فِيهِ لقَولهم: أَلا ترى إِلَى مَا صنعت؟ يَعْنِي: عَائِشَة.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز دُخُول الرجل على ابْنَته، وَإِن كَانَ زَوجهَا عِنْدهَا إِذا علم رِضَاهُ بذلك وَلم يكن حَالَة الْمُبَاشرَة.
الْخَامِس: فِيهِ تَأْدِيب الرجل ابْنَته وَلَو كَانَت متزوجة كَبِيرَة خَارِجَة عَن بَيته، ويلتحق بذلك تَأْدِيب من لَهُ تأديبه وَإِن لم يَأْذَن لَهُ الإِمَام.
السَّادِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الصَّبْر لمن ناله مَا يُوجب الْحَرَكَة إِذْ يحصل بِهِ التشويش لنائم، وَكَذَا الْمُصَلِّي أَو قارىء أَو مشتغل بِعلم أَو ذكر.
السَّابِع: فِيهِ الِاسْتِدْلَال على الرُّخْصَة فِي ترك التَّهَجُّد فِي السّفر إِن ثَبت أَن التَّهَجُّد كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ.
الثَّامِن: فِيهِ أَن طلب المَاء لَا يجب إلاَّ بعد دُخُول الْوَقْت، لقَوْله فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث، بعد قَوْله: (وَحَضَرت الصَّلَاة فالتمس المَاء) .
التَّاسِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الْوضُوء كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ قبل نزُول آيَة الْوضُوء، وَلِهَذَا استعظموا نزولهم على غير مَاء، وَوَقع من أبي بكر فِي حق عَائِشَة مَا وَقع، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مَعْلُوم عِنْد جَمِيع أهل الْمَغَازِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصلِّ مُنْذُ فرضت عَلَيْهِ الصَّلَاة إلاَّ بِوضُوء، وَلَا يدْفع ذَلِك إلاَّ جَاهِل أَو معاند. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، مَا الْحِكْمَة فِي نزُول آيَة الْوضُوء مَعَ تقدم الْعَمَل بِهِ. قلت: ليَكُون فَرْضه متلواً بالتنزيل، وَيحْتَمل أَن يكون أول آيَة الْوضُوء نزل قَدِيما فعملوا بِهِ، ثمَّ نزلت بقيتها وَهُوَ ذكر التَّيَمُّم فِي هَذِه الْقِصَّة، فإطلاق آيَة التَّيَمُّم على هَذَا من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض، لَكِن رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم فِي هَذَا الحَدِيث، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله: {تشكرون} (الْمَائِدَة: 6) تدل على أَن الْآيَة نزلت جَمِيعهَا فِي هَذِه الْقِصَّة، وَيُقَال: كَانَ الْوضُوء بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ أَولا. ثمَّ أنزلا مَعًا، فعبرت عَائِشَة بِالتَّيَمُّمِ إِذْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُود. فَإِن قلت: ذكر الْحَافِظ فِي كتاب (الْبُرْهَان) أَن الأسلع الأعرجي الَّذِي كَانَ يرحل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا: إِنِّي جنب وَلَيْسَ عِنْدِي مَاء، فَأنْزل اآية التَّيَمُّم. قلت: هَذَا ضَعِيف، وَلَئِن صَحَّ فَجَوَابه يحْتَمل أَن يكون قَضِيَّة الأسلع وَاقعَة فِي قَضِيَّة سُقُوط العقد، لِأَنَّهُ كَانَ يخْدم النَّبِي، وَكَانَ صَاحب رَاحِلَته، فاتفق لَهُ هَذَا الْأَمر عِنْد وُقُوع قَضِيَّة سُقُوط العقد.
الْعَاشِر: فِيهِ دَلِيل على وجوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم، لِأَن معنى: (تيمموا) اقصدوا، وَهُوَ قَول فُقَهَاء الْأَمْصَار إلاَّ الْأَوْزَاعِيّ وَزفر.
الْحَادِي عشر: فِيهِ دَلِيل على أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الصَّحِيح وَالْمَرِيض والمحدث وَالْجنب، وَلم يخْتَلف فِيهِ عُلَمَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام والمشرق وَالْمغْرب، وَقد كَانَ عمر بن(4/6)
الْخطاب وَابْن مَسْعُود رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، يَقُولَانِ: الْجنب لَا يطهره إلاَّ المَاء، لقَوْله عز وَجل: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (الْمَائِدَة: 6) وَقَوله: {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} (النِّسَاء: 34) وذهبا إِلَى أَن الْجنب لم يدْخل فِي الْمَعْنى المُرَاد بقوله: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَلم يتَعَلَّق بقولهمَا أحد من الْفُقَهَاء للأحاديث الثَّابِتَة الْوَارِدَة فِي تيَمّم الْجنب.
الثَّانِي عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز التَّيَمُّم فِي السّفر، وَهَذَا أَمر مجمع عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِي الْحَضَر، فَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى أَن التَّيَمُّم فِي الْحَضَر وَالسّفر سَوَاء إِذا عدم المَاء أَو تعذر اسْتِعْمَاله لمَرض أَو خوف شَدِيد أَو خوف خُرُوج الْوَقْت، قَالَ أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد؛ وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز للحاضر الصَّحِيح أَن يتَيَمَّم إلاَّ أَن يخَاف التّلف، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزفر: لَا يجوز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر لَا لمَرض وَلَا لخوف خُرُوج الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي أَيْضا. وَاللَّيْث والطبري: إِذا عدم المَاء فِي الْحَضَر مَعَ خوف فَوت الْوَقْت الصَّحِيح والسقيم يتَيَمَّم وَيُصلي وَيُعِيد. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: لَا يتَيَمَّم الْمَرِيض إِذا وجد المَاء وَلَا غير الْمَرِيض. قلت: قَوْله: وَهَذَا كُله قَول أبي حنيفَة، غير صَحِيح، فَإِن عِنْده: لَا يجوز التَّيَمُّم لأجل خوف فَوت الْوَقْت.
الثَّالِث عشر: فِيهِ جَوَاز السّفر بِالنسَاء فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا عِنْد الْأَمْن عَلَيْهِنَّ، فَإِذا كَانَ لوَاحِد نسَاء فَلهُ أَن يُسَافر مَعَ أيتهن شَاءَ، وَيسْتَحب أَن يقرع بَينهُنَّ، فَمن خرجت قرعتها أخرجهَا مَعَه؛ وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: الْقرعَة وَاجِبَة.
الرَّابِع عشر: فِيهِ دَلِيل على حُرْمَة الْأَمْوَال الْحَلَال وَلَا يضيعها، وَإِن قلت: أَلاَ ترى أَن العقد كَانَ ثمنه اثْنَي عشر دهماً؟ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز حفظ الْأَمْوَال وَإِن أدّى إِلَى عدم المَاء فِي الْوَقْت.
السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَارَة، وَجَوَاز السّفر بالعارية عِنْد إِذن صَاحبهَا.
السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز اتِّخَاذ النِّسَاء الْحلِيّ، وَاسْتِعْمَال القلادة تجملاً لِأَزْوَاجِهِنَّ.
الثَّامِن عشر: فِيهِ جَوَاز وضع الرجل رَأسه على فَخذ امْرَأَته.
التَّاسِع عشر: فِيهِ جَوَاز احْتِمَال الْمَشَقَّة لأجل الْمصلحَة، لقَوْل عَائِشَة رَضِي اعنها: (فَلَا يَمْنعنِي من التحرك إلاَّ مَكَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فَخذي) .
الْعشْرُونَ: فِيهِ دَلِيل على فَضِيلَة عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وتكرر الْبركَة مِنْهَا.
533 - ح دثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ قَالَ حدّثنا هُشَيمٌ ح قالَ وحدّثني سَعيدُ بنُ النَّضْرِ قالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أخبرَنا سَيَّارٌ قَالَ حدّثنا يَزِيدُ هُوَ ابنُ صُهَيْبٍ الفَقِيرُ قالَ أخبرنَا جابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((أُعطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْر وجُعلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجداً وَطَهُوراً فَأَيُّما رَجلٍ مِنْ أمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِإَحَدٍ قَبْلِي وَأْعطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عامَّةً) . (الحَدِيث 533 طرفاه فِي: 834، 213) .
مُنَاسبَة إِيرَاد هَذَا الحَدِيث ومطابقته للتَّرْجَمَة الْمُطلقَة فِي قَوْله: (وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: العوقي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْوَاو وبالقاف: الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، مر فِي أول كتاب الْعلم، تفرد بِهِ البُخَارِيّ. الثَّانِي: هشيم، بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو مُعَاوِيَة الوَاسِطِيّ. قَالَ ابْن عون: مكث هشيم يُصَلِّي الْفجْر بِوضُوء عشَاء الْآخِرَة قبل أَن يَمُوت بِعشر سِنِين، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة بِبَغْدَاد. الثَّالِث: سعيد بن النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ بساحل جيحون. الرَّابِع: سيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: ابْن أبي سيار، ورد ان أَبُو الحكم، بِفَتْح الْكَاف: الوَاسِطِيّ، مَاتَ بواسط سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: يزِيد، من الزِّيَادَة: بن صُهَيْب مُصَغرًا مخففاً، الْفَقِير ضد الْغَنِيّ، أَبُو عُثْمَان الْكُوفِي، أحد مَشَايِخ الإِمَام أبي حنيفَة، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقيل لَهُ: الْفَقِير، لِأَنَّهُ كَانَ يشكو فقار ظَهره وَلم يكن فَقِيرا من المَال. وَفِي (الْمُحكم) : رجل فَقير: مكسور(4/7)
فقار ظَهره، وَيُقَال لَهُ: فَقير، بِالتَّشْدِيدِ أَيْضا. السَّادِس: جَابر بن عبد االأنصاري، تقدم فِي كتاب الْوَحْي.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي وبغدادي وكوفي. وَفِيه: صُورَة (ح) إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد يَعْنِي: يروي البُخَارِيّ عَن هشيم بِوَاسِطَة شَيْخه، أَحدهمَا: مُحَمَّد بن سِنَان، وَالْآخر: سعيد بن النَّضر. وَفِيه: أَن سيار، الْمَذْكُور مُتَّفق على توثيقه، وَأخرج لَهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة وَغَيرهم، وَقد أدْرك بعض الصَّحَابَة لَكِن لم يلق أحدا مِنْهُم، فَهُوَ من كبار أَتبَاع التَّابِعين، وَلَهُم شيخ آخر يُقَال لَهُ: سيار، لكنه تَابِعِيّ شَامي، أخرج لَهُ التِّرْمِذِيّ، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَرُوِيَ: يَعْنِي حَدِيث الْبَاب عَن أبي أُمَامَة، وَلم ينْسب فِي الروَاة كَمَا لم ينْسب سيار هَذَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَرُبمَا لم يُمَيّز بَينهمَا من لَا وقُوف لَهُ على هَذَا، فيتوهم أَن فِي الْإِسْنَاد اخْتِلَافا، وَلَيْسَ كَذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة، وَفِي الْخمس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة بِتَمَامِهِ، وَفِي الصَّلَاة بِبَعْضِه عَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ: قَوْله: (أَعْطَيْت خمْسا) أَي: خمس خِصَال، وَعند مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فضلت على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام بست: أَعْطَيْت جَامع الْكَلم، وَختم بِي النَّبِيُّونَ) . الحَدِيث، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث حُذَيْفَة: (فضلنَا على النَّاس بِثَلَاث: جعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة، وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا، وتربتها لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء) . وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ: (وترابها طهُورا) . وَعند النَّسَائِيّ: (وَأُوتِيت هَؤُلَاءِ الْآيَات: آخر سُورَة الْبَقَرَة، من كنز تَحت الْعَرْش لم يُعْط أحد مِنْهُ قبلي، وَلَا يعْطى مِنْهُ أحد بعدِي) . وَعند أبي مُحَمَّد بن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) من حَدِيث أنس رَضِي اتعالى عَنهُ: (جعلت لي كل أَرض طيبَة مَسْجِدا وَطهُورًا) . وَعَن أبي أُمَامَة أَن نَبِي الله قَالَ: (إِن اتعالى قد فضلني على الْأَنْبِيَاء أَو قَالَ: أمتِي على الْأُمَم بِأَرْبَع: جعل الأَرْض كلهَا لي ولأمتي طهُورا ومسجداً، فأينما أدْركْت الرجل من أمتِي الصَّلَاة فَعنده مَسْجده وَعِنْده طهوره، ونصرت بِالرُّعْبِ يسير بَين يَدي مسيرَة شهر يقذف فِي قُلُوب أعدائي) . الحَدِيث. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أبي دَاوُد: (وَأُوتِيت الْكَوْثَر) . وَفِي حَدِيث عَليّ عِنْد أَحْمد: (وَأعْطيت مَفَاتِيح الأَرْض، وَسميت أَحْمد، وَجعل لي التُّرَاب طهُورا، وَجعلت أمتِي خير الْأُمَم) . وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، أَنه قَالَ، ذَلِك عَام غَزْوَة تَبُوك. وَفِي حَدِيث السَّائِب ابْن أُخْت النمر: (فضلت على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام: أرْسلت إِلَى النَّاس كَافَّة، وادخرت شَفَاعَتِي لأمتي، ونصرت بِالرُّعْبِ شهرا أَمَامِي وشهراً خَلْفي، وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا. وأحلِّت لي الْغَنَائِم) . قلت: السَّائِب الْمَذْكُور هُوَ ابْن يزِيد بن سعيد الْمَعْرُوف بِابْن أُخْت نمر، قيل: إِنَّه ليثي كناني، وَقيل: أزدي، وَقيل: كندي، حَلِيف بني أُميَّة، ولد فِي السّنة الثَّانِيَة، وَخرج فِي الصّبيان إِلَى ثنية الْوَدَاع، وتلقى النَّبِي، مقدمه من تَبُوك، وَشهد حجَّة الْوَدَاع، وَذَهَبت بِهِ خَالَته وَهُوَ وجع إِلَى النَّبِي فَدَعَا لَهُ وَمسح بِرَأْسِهِ، وَقَالَ: نظرت إِلَى خَاتم النُّبُوَّة. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) للْحَاكِم: وَأحل لي الْأَخْمَاس.
وَإِذا تَأَمَّلت وجدت هَذِه الْخِصَال اثْنَتَيْ عشرَة خصْلَة، وَيُمكن أَن تُوجد أَكثر من ذَلِك عِنْد إمعان التتبع، وَقد ذكر أَبُو سعيد النَّيْسَابُورِي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) أَن الَّذِي اخْتصَّ بِهِ نَبينَا من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام سِتُّونَ خصْلَة. فَإِن قلت: بَين هَذِه الرِّوَايَات تعَارض، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا الْخمس والست وَالثَّلَاث؛ قلت: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يظنّ أَن هَذَا تعَارض، وَإِنَّمَا هَذَا من توهم أَن ذكر الْأَعْدَاد يدل على الْحصْر وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن من قَالَ: عِنْدِي خَمْسَة دَنَانِير مثلا، لَا يدل هَذَا اللَّفْظ على أَنه لَيْسَ عِنْده غَيرهَا، وَيجوز لَهُ أَن يَقُول مرّة أُخْرَى: عِنْدِي عشرُون، وَمرَّة أُخْرَى ثَلَاثُونَ، فَإِن من عِنْده ثَلَاثُونَ صدق عَلَيْهِ أَن عِنْده عشْرين وَعشرَة. فَلَا تعَارض وَلَا تنَاقض، وَيجوز أَن يكون الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أعلمهُ بِثَلَاث ثمَّ بِخمْس ثمَّ بست. قلت: حَاصِل هَذَا أَن التَّنْصِيص على الشَّيْء بِعَدَد لَا يدل على نفي مَا عداهُ، وَقد علم فِي مَوْضِعه.
قَوْله: (لم يُعْطهنَّ أحد قبلي) قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي: لم يجمع لأحد قبله هَذِه الْخمس، لِأَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعث إِلَى كَافَّة النَّاس، وَأما الْأَرْبَع فَلم يُعْط وَاحِدَة مِنْهُنَّ قبله أحدا، وَأما كَونهَا مَسْجِدا فَلم يَأْتِ أَن غَيره منع مِنْهَا، وَقد كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة، وَزعم بَعضهم أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، بعد خُرُوجه من السَّفِينَة، كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض، لِأَنَّهُ لم يبْق إلاَّ من كَانَ مُؤمنا، وَقد كَانَ(4/8)
مُرْسلا إِلَيْهِم. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن هَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِي رسَالَته لم يكن فِي أصل الْبعْثَة، وَإِنَّمَا وَقع لأجل الْحَادِث الَّذِي حدث، وَهُوَ: انحصار الْخلق فِي الْمَوْجُودين مَعَه بِهَلَاك سَائِر النَّاس، وَعُمُوم رِسَالَة نَبينَا، فِي أصل الْبعْثَة. وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه: كَانَ فِي الزَّمَان الأول، إِذا بعث نَبِي إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من الرُّسُل، فَأَما نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ انْفَرد بالبعثة، فَصَارَ بذلك للْكُلّ من غير أَن يزاحمه أحد.
فَإِن قلت: يَقُول أهل الْموقف لنوح، كَمَا صَحَّ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة: أَنْت أول رَسُول إِلَى أهل الأَرْض، فَدلَّ على أَنه كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض. قلت: لَيْسَ المُرَاد بِهِ عُمُوم بعثته، بل إِثْبَات أولية إرْسَاله، وَلَئِن سلمنَا أَنه يكون مرَادا فَهُوَ مَخْصُوص بتنصيصه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي عدَّة آيَات على أَن إرْسَال نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى قومه، وَلم يذكر أَنه أرسل إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: لَو لم يكن مَبْعُوثًا إِلَى أهل الأَرْض كلهم لما أهلكت كلهم بِالْغَرَقِ إلاَّ أهل السَّفِينَة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} (الْإِسْرَاء: 51) . قلت: قد يجوز أَن يكون غَيره أرسل إِلَيْهِم فِي ابْتِدَاء مُدَّة نوح، وَعلم نوح، بِأَنَّهُم لم يُؤمنُوا، فَدَعَا على من لم يُؤمن من قومه وَغَيرهم. قيل: هَذَا جَوَاب حسن، وَلَكِن لم ينْقل أَنه نبىء فِي زمن غَيره. قلت: يحْتَمل أَنه قد بلغ جَمِيع النَّاس دعاؤه قومه إِلَى التَّوْحِيد فتمادوا على الشّرك فاستحقوا الْعَذَاب، وَإِلَى هَذَا ذهب يحيى بن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره سُورَة هود، قَالَ: وَغير مُمكن أَن نبوته لم تبلغ الْقَرِيب والبعيد لطول مدَّته. وَقَالَ الْقشيرِي: تَوْحِيد اتعالى يجوز أَن يكون عَاما فِي حق بعض الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن كَانَ الْتِزَام فروع شَرعه لَيْسَ عَاما، لِأَن مِنْهُم من قَاتل غير قومه على الشّرك، وَلَو لم يكن التَّوْحِيد لَازِما لَهُم لم يقاتلهم. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لم يكن فِي الأَرْض عِنْد إرْسَال نوح إلاَّ قوم نوح، فبعثته خَاصَّة لكَونهَا إِلَى قومه فَقَط لعدم وجود غَيرهم، لَكِن لَو اتّفق وجود غَيرهم لم يكن مَبْعُوثًا إِلَيْهِم. قلت: وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ تكون بعثته عَامَّة لِقَوْمِهِ لكَوْنهم هم الْمَوْجُودين، وَعِنْدِي جَوَاب آخر، وَهُوَ جيد إِن شَاءَ اتعالى، وَهُوَ أَن الطوفان لم يُرْسل إلاَّ على قومه الَّذين هُوَ فيهم، وَلم يكن عَاما.
قَوْله: (نصرت بِالرُّعْبِ) زَاد أَبُو أُمَامَة: (يقذف فِي قُلُوب أعدائي) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْعين: الْخَوْف. وَقَرَأَ ابْن عَامر وَالْكسَائِيّ بِضَم الْعين وَالْبَاقُونَ بسكونها، يُقَال: رعبت الرجل أرعبته رعْبًا أَي: ملأته خوفًا، وَلَا يُقَال: أرعبته، كَذَا ذكره أَبُو الْمَعَالِي. وَحكي عَن ابْن طَلْحَة: أرعبته ورعبته، فَهُوَ مرعب. وَفِي (الْمُحكم) فو رعيب، ورعبته ترعيباً وترعاباً فرعب. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: رعبته فَأَنا راعب، وَيُقَال: رعب فَهُوَ مرعوب، وَالِاسْم: الرعب بِالضَّمِّ، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: رجل رعب ومرتعب وَقد رعب ورعب. قَوْله: (مسيرَة شهر) . والنكتة فِي جعل الْغَايَة شهرا لِأَنَّهُ لم يكن بَين الْمَدِينَة وَبَين أحد من أعدائه أَكثر من شهر. قَوْله: (وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا) أَي: مَوضِع سُجُود، وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الأَرْض. وَلم يكن اخْتصَّ السُّجُود مِنْهَا بِموضع دون مَوضِع، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الْمَسْجِد هُوَ الْمَسْجِد الْمَعْرُوف الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْقَوْم، فَإِذا كَانَ جَوَازهَا فِي جَمِيعهَا كَانَ الْمَسْجِد الْمَعْهُود كَذَلِك، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: من كَانَ قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا أُبِيح لَهُم الصَّلَاة فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة: كَالْبيع وَالْكَنَائِس، وَقيل: فِي مَوضِع يتيقنون طَهَارَته من الأَرْض، وخصت هَذِه الْأمة بِجَوَاز الصَّلَاة فِي جَمِيع الأَرْض إلاَّ فِي الْمَوَاضِع المستثناة بِالشَّرْعِ، أَو مَوضِع تيقنت نَجَاسَته. فَإِن قلت: كَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة. قلت: ذكر مَسْجِدا وَطهُورًا، وَهَذَا مُخْتَصّ بِالنَّبِيِّ حَيْثُ كَانَ يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي أَي مَوضِع أَدْرَكته الصَّلَاة فِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّم مِنْهُ، وَلم يكن لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَّا الصَّلَاة دون التَّيَمُّم.
قَوْله: (فأيما رجل) . لفظ أَي، مُبْتَدأ مُتَضَمّن لِمَعْنى الشَّرْط، وَلَفْظَة: مَا زيدت لزِيَادَة التَّعْمِيم. وَقَوله: (فَليصل) خبر الْمُبْتَدَأ، وَدخُول: الْفَاء، فِيهِ لكَون الْمُبْتَدَأ متضمناً لِمَعْنى الشَّرْط. وَقيل: مَعْنَاهُ فليتيمم ليصل ليناسب الْأَمريْنِ الْمَسْجِد وَالطهُور. قَوْله: (من أمتِي) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: كَائِن من أمتِي. وَقَوله: (أَدْرَكته الصَّلَاة) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة رجل. قَوْله: (الْغَنَائِم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (الْمَغَانِم) ، والغنائم: جَمِيع غنيمَة، وَهِي مَال حصل من الْكفَّار بِإِيجَاف خيل وركاب، والمغانم: جمع مغنم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْغَنِيمَة والمغنم بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ من تقدم على ضَرْبَيْنِ: مِنْهُم من لم يُؤذن(4/9)
لَهُ فِي الْجِهَاد فَلم يكن لَهُم مَغَانِم، وَمِنْهُم من أذن لَهُ فِيهِ، لَكِن كَانُوا إِذا غنموا شَيْئا لم يحل لَهُم أَن يأكلوه، وَجَاءَت نَار فَأَحْرَقتهُ، وَقيل: المُرَاد أَنه خص بِالتَّصَرُّفِ من الْغَنِيمَة يصرفهَا كَيفَ شَاءَ، وَالْأول أصوب، وَهُوَ أَن من مضى لم يحل لَهُم أصلا. قَوْله: (الشَّفَاعَة) هِيَ سُؤال فعل الْخَيْر وَترك الضَّرَر عَن الْغَيْر لأجل الْغَيْر على سَبِيل الضراعة، وَذكر الْأَزْهَرِي فِي تهذيبه عَن الْمبرد وثعلب أَن الشَّفَاعَة: الدُّعَاء، والشفاعة؛ كَلَام الشَّفِيع للْملك عِنْد حَاجَة يسْأَلهَا لغيره. وَعَن أبي الْهَيْثَم أَنه قَالَ: (من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة) . أَي: من يَزْدَدْ عملا إِلَى عمل، وَفِي (الْجَامِع) : الشَّفَاعَة الطّلب من فعل الشَّفِيع، وشفعت لفُلَان إِذا كَانَ متوسلاً بك فشفعت لَهُ، وَأَنت شَافِع لَهُ وشفيع. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الْأَقْرَب أَن اللَّام، فِيهَا للْعهد، وَالْمرَاد: الشَّفَاعَة الْعُظْمَى فِي إراحة النَّاس من هول الْموقف، وَلَا خلاف فِي وُقُوعهَا. وَقيل: الشَّفَاعَة الَّتِي اخْتصَّ بهَا أَنه لَا يرد فِيمَا يسْأَل، وَقيل: الشَّفَاعَة لخُرُوج من فِي قلبه ذرة من إِيمَان من النَّار. وَقيل: فِي رفع الدَّرَجَات فِي الْجنَّة. وَقيل: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع فِي عدم دُخُولهمْ إِيَّاهَا. وَقيل: إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب. وَهِي أَيْضا مُخْتَصَّة بِهِ. قَوْله: (وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة) أَي: لِقَوْمِهِ ولغيرهم من الْعَرَب والعجم وَالْأسود والأحمر، قَالَ اتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلاَّ كَافَّة للنَّاس} (سبإ: 82) .
ذكر استنباط الْأَحْكَام: الأول: مَا قَالَه ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل أَن الْحجَّة تلْزم بالْخبر كَمَا تلْزم بِالْمُشَاهَدَةِ، وَذَلِكَ أَن المعجزة بَاقِيَة مساعدة للْخَبَر مبينَة لَهُ دافعة لما يخْشَى من آفَات الْأَخْبَار، وَهِي الْقُرْآن الْبَاقِي، وَخص اسبحانه وَتَعَالَى نبيه بِبَقَاء معجزته لبَقَاء دَعوته وَوُجُوب قبُولهَا عل من بلغته إِلَى آخر الزَّمَان.
الثَّانِي: فِيهِ مَا خصّه ابه من الشَّفَاعَة، وَهُوَ أَنه لَا يشفع فِي أحد يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ شفع فِيهِ، كَمَا ورد (قل يسمع، إشفع تشفع) . وَلم يُعْط ذَلِك مَن قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
الثَّالِث: فِي قَوْله: (فأيما رجل أَدْرَكته الصَّلَاة فَليصل) ، يَعْنِي؛ يتَيَمَّم وَيُصلي، دَلِيل على تيَمّم الحضري إِذا عدم المَاء وَخَافَ فَوت الصَّلَاة، وعَلى أَنه لَا يشْتَرط التُّرَاب، إِذْ قد تُدْرِكهُ الصَّلَاة فِي مَوضِع من الأَرْض لَا تُرَاب عَلَيْهَا، بل رمل أَو جص أَو غَيرهمَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ احْتج بِهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة فِي جَوَاز التَّيَمُّم بِجَمِيعِ أَجزَاء الأَرْض. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَار جَائِز، وَعند مَالك يجوز بِالتُّرَابِ والرمل والحشيش وَالشَّجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر. وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ: يجوز بِكُل مَا كَانَ على الأَرْض حَتَّى الشّجر والثلج والجمد، وَنقل النقاش عَن ابْن علية وَابْن كيسَان جَوَازه بالمسك والزعفران، وَعَن إِسْحَاق مَنعه بالسباخ، وَيجوز عندنَا بِالتُّرَابِ والرمل وَالْحجر الأملس المغسول والجص والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا والطين الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض والحائط المطين والمجصص والياقوت والزبرجد والزمرد والبلخش والفيروزج والمرجان وَالْأَرْض الندية والطين الرطب. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَيجوز بالملح الْجبلي، وَفِي قاضيخان: لَا يَصح على الْأَصَح، وَلَا يجوز بالزجاج، وَيجوز بالآجر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَشرط الْكَرْخِي أَن يكون مدقوقاً. وَفِي (الْمُحِيط) ، لَا يجوز بمسبوك الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَيجوز بالمختلط بِالتُّرَابِ إِذا كَانَ التُّرَاب غَالِبا، وبالخزف إِذا كَانَ من طين خَالص. وَفِي المرغيناني: يجوز بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والنحاس وَشبههَا مَا دَامَ على الأَرْض، وَذكر الشَّاشِي فِي (الْحِلْية) : لَا يجوز التَّيَمُّم بِتُرَاب خالطه دَقِيق أَو جص، وَحكى وَجه آخر: أَنه يجوز إِذا كَانَ التُّرَاب غَالِبا. وَلَا يَصح التَّيَمُّم بِتُرَاب يسْتَعْمل فِي التَّيَمُّم، وَعند أبي حنيفَة: يجوز، وَهُوَ وَجه لبَعض أَصْحَابنَا، وَمذهب الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَار، واحتجا بِحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد مُسلم: (وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا) . وَأجِيب: عَن هَذَا بقول الْأصيلِيّ: تفرد أَبُو مَالك بِهَذِهِ اللَّفْظَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، وَلَا يظنّ أَن ذَلِك مُخَصص لَهُ، فَإِن التَّخْصِيص إِخْرَاج مَا تنَاوله الْعُمُوم عَن الحكم، وَلم يخرج هَذَا الْخَبَر شَيْئا، وَإِنَّمَا عين وَاحِدًا مِمَّا تنَاوله الِاسْم الأول مَعَ مُوَافَقَته فِي الحكم، وَصَارَ بِمَثَابَة قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 86) وَقَوله تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} (الْبَقَرَة: 89) فعين بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ الأول مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَعْنى على جِهَة التشريف، وَكَذَلِكَ ذكر التربة فِي حَدِيث حُذَيْفَة. وَيُقَال: الِاسْتِدْلَال بِلَفْظ التربة على خُصُوصِيَّة التَّيَمُّم بِالتُّرَابِ مَمْنُوع، لِأَن تربة كل مَكَان مَا فِيهِ من تُرَاب وَغَيره، وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَنَّهُ ورد فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بِلَفْظ: التُّرَاب، أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَغَيره، وَفِي حَدِيث عَليّ: (جعل التُّرَاب لي طهُورا) أخرجه أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، على أَن تعْيين لفظ التُّرَاب فِي الحَدِيث الْمَذْكُور لكَونه أمكن وأغلب(4/10)
لَا لكَونه مَخْصُوصًا بِهِ، على أَنا نقُول: التَّمَسُّك باسم الصَّعِيد، وَهُوَ وَجه الأَرْض وَلَيْسَ باسم التُّرَاب فَقَط، بل هُوَ وَجه الأَرْض وَلَيْسَ التُّرَاب فَقَط، بل هُوَ وَجه الأَرْض تُرَابا كَانَ أَو صخراً لَا تُرَاب عَلَيْهِ أَو غَيره.
الرَّابِع: فِيهِ أَن اتعالى أَبَاحَ الْغَنَائِم للنَّبِي ولأمته كَمَا ذكرنَا.
2 - (بابُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاء ولاَ تُرَاباً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد الرجل مَاء ليتوضأ بِهِ وَلَا تُرَابا اليتيمم بِهِ، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يُصَلِّي بِلَا وضوء وَلَا تيَمّم أم لَا؟ وَفِيه: مَذَاهِب للْعُلَمَاء على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى.
وَجه الْمُنَاسبَة فِي تَقْدِيم هَذَا الْبَاب على بَقِيَّة الْأَبْوَاب، بعد ذكر كتاب التَّيَمُّم، هُوَ أَنه صدر أَولا بِذكر مَشْرُوعِيَّة التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء، ثمَّ ذكر بعده حكم من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، هَذَا على تَقْدِير كَون هَذَا الْبَاب فِي هَذَا الْموضع، وَفِي بعض النّسخ ذكر بعد قَوْله: كتاب التَّيَمُّم بَاب التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر بعده بَاب: إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، فعلى هَذَا الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِنَّه ذكر أَولا حكم التَّيَمُّم فِي السّفر، ثمَّ ذكر حكمه فِي الْحَضَر، ثمَّ ذكر حكم عادم المَاء وَالتُّرَاب مَعًا، وَهُوَ على التَّرْتِيب كَمَا يَنْبَغِي، وَلم يتَعَرَّض لمثل هَذِه النُّكْتَة أحد من الشُّرَّاح.
6333 - ح دّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى قالَ حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ نُمَيْرٍ قالَ حدّثنا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أنَّهَا اسْتَعَارَتْ منْ أسْماءَ قِلاَدةً فَهَلَكَتْ فَبَعَثَ رسولُ اللَّهِ رَجُلاً فَوَجَدَها فَأدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ ماءٌ فَصَلَّوْا فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رسولِ الله فأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فقالَ أسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْراً فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْراً.
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهر فِي قَوْله: (فأدركتهم الصَّلَاة وَلَيْسَ مَعَهم مَاء) . وَأما وَجه زِيَادَة قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَلَا تُرَابا، فَهُوَ أَنهم لما صلوا بِلَا وضوء وَلم يتيمموا أَيْضا لعدم علمهمْ بِهِ، فكأنهم لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا، إِذْ كَانَ حكمه حكم الْعَدَم عِنْدهم، فصاروا كَأَنَّهُمْ لم يَجدوا مَاء وَلَا تُرَابا. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: (أَقبلنَا مَعَ النَّبِي، من غَزْوَة كَذَا، حَتَّى إِذا كُنَّا بالمعرس، قَرِيبا من الْمَدِينَة، نَعَست من اللَّيْل، وَكَانَت على قلادة تدعى السمط، تبلغ السُّرَّة، فَجعلت أنعس فَخرجت من عنقِي، فَلَمَّا نزلت مَعَ النَّبِي، لصَلَاة الصُّبْح قلت: يَا رَسُول اخرت قلادتي، فَقَالَ للنَّاس: إِن أمكُم قد ضلت قلادتها فابتغوها، فابتغاها النَّاس وَلم يكن مَعَهم مَاء، فاشتغلوا بابتغائها إِلَى أَن حَضرتهمْ الصَّلَاة، ووجدوا القلادة وَلم يقدروا على مَاء، فَمنهمْ من تيَمّم إِلَى الْكَفّ، وَمِنْهُم من تيَمّم إِلَى الْمنْكب، وَبَعْضهمْ تيَمّم على جلدَة، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فأنزلت آيَة التَّيَمُّم) . انْتهى. وَقد قلت: إِنَّهُم لم يتيمموا، وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُم تيمموا. قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ عِنْدهم كلا تيَمّم لعدم نزُول النَّص حينئذٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُمْ صلوا بِغَيْر طهُور، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه: (عَن عَائِشَة أَنَّهَا استعارت قلادة من أَسمَاء، فَسَقَطت من عُنُقهَا فابتغوها فوجدوها، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلوا بِغَيْر طهُور) ، الحَدِيث.
وَقَوله: (بِغَيْر طهُور) ، يتَنَاوَل المَاء وَالتُّرَاب، فَدلَّ هَذَا أَن التَّيَمُّم الَّذِي تيمموا على اخْتِلَاف صفته كَانَ حكمه حكم الْعَدَم، أَلا يرى أَنه لَو كَانَ مُعْتَبرا بِهِ ومعتداً قبل نزُول الْآيَة لما سَأَلَ عمار رَضِي اتعالى عَنهُ، الَّذِي هُوَ أحد من تيَمّم ذَلِك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ، رَسُول ا، عَن صفة التَّيَمُّم، فسؤاله هَذَا إِنَّمَا كَانَ بعد تيَمّمه بذلك التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ. فَإِن قلت: هَذَا التَّيَمُّم الْمُخْتَلف فِيهِ هَل هُوَ عملوه بِاجْتِهَاد ورأي من عِنْدهم أم بِالسنةِ؟ قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِاجْتِهَاد مِنْهُم، فَيرجع هَذَا إِلَى الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا، وَهِي أَن الِاجْتِهَاد فِي عصره هَل يجوز أم لَا؟ فَمنهمْ من جوزه مُطلقًا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَرين، وَمِنْهُم من مَنعه مُطلقًا. وَقَالَت طَائِفَة: يجوز للغائبين عَن الرَّسُول دون الْحَاضِرين، وَمِنْهُم من جوزه إِذا لم يُوجد مَانع.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى، هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات: زَكَرِيَّا بن يحيى، من غير ذكر جده(4/11)
وَلَا نسبه وَلَا بِشَيْء هُوَ مشتهر بِهِ، وَالْحَال أَنه روى عَن اثْنَيْنِ كل مِنْهُمَا يُقَال لَهُ زَكَرِيَّا بن يحيى: أَحدهمَا: زَكَرِيَّا بن يحيى بن صَالح اللؤْلُؤِي الْبَلْخِي الْحَافِظ الْمُتَوفَّى بِبَغْدَاد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَالْآخر: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر الطَّائِي الْكُوفِي، أَبُو السكين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَكِلَاهُمَا يرويان عَن عبد ابْن نمير، فزكريا هَذَا يحتملهما، فَأَيا كَانَ مِنْهُمَا فَهُوَ على شَرطه. قَالَ الْكرْمَانِي: فَلَا يُوجب الِاشْتِبَاه بَينهمَا قدحاً فِي الحَدِيث وَصِحَّته، وميل الغساني والكلاباذي إِلَى الأول. قَالَ الغساني: حدث البُخَارِيّ عَن زَكَرِيَّا الْبَلْخِي فِي التَّيَمُّم وَفِي غَيره، وَعَن زَكَرِيَّا بن سكين فِي الْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الكلاباذي: الْبَلْخِي يروي عَن عبد ابْن نمير فِي التَّيَمُّم. انْتهى. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ زَكَرِيَّا بن يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، وَإِلَى هَذَا مَال الدَّارَقُطْنِيّ لِأَنَّهُ كُوفِي.
الثَّانِي: عبد ابْن نمير، بِضَم النُّون: الْكُوفِي.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة.
الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير.
الْخَامِس: عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر بَقِيَّة مَا فِيهِ من الْمعَانِي وَغَيرهَا: قَوْله: (من أَسمَاء) هِيَ أُخْت عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَهِي الملقبة بِذَات النطاقين، تقدّمت فِي بَاب من أجَاز الْفتيا بِإِشَارَة. فَإِن قلت: قَالَت عَائِشَة فِي الْبَاب السَّابِق: انْقَطع عقد لي، وَيفهم من هَذَا أَنه كَانَ لعَائِشَة، وَهَهُنَا أَنَّهَا استعارته من أَسمَاء. قلت: إِنَّمَا أضافته إِلَى نَفسهَا هُنَاكَ بِاعْتِبَار أَنه كَانَ تَحت يَدهَا وتصرفها. قَوْله: (فَهَلَكت) ، أَي: ضَاعَت. قَوْله: (رجلا) هُوَ أسيد بن حضير. قَوْله: (فَوَجَدَهَا) أَي: أَصَابَهَا، وَلَا مُنَافَاة بَين قَوْلهَا فِيمَا مضى: فأصبنا العقد تَحت الْبَعِير، وَبَين قَوْله: (فَوَجَدَهَا) لِأَن لفظ: أصبْنَا، عَام يَشْمَل عَائِشَة وَالرجل، فَإِذا وجد الرجل بعد رُجُوعه صدق قَوْله: (أصبْنَا) . قَوْله: (فصلوا) أَي بِغَيْر وضوء. وَقد صرح فِي صَحِيح مُسلم بذلك.
قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ دَلِيل على أَن من عدم المَاء وَالتُّرَاب يُصَلِّي على حَاله، وَهَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف، وَهُوَ أَرْبَعَة أَقْوَال: وأصحها: عِنْد أَصْحَابنَا: أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّي وَيُعِيد الصَّلَاة. وَالثَّانِي: أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَلَكِن يسْتَحبّ، وَيجب عَلَيْهِ الْقَضَاء سَوَاء صلى أَو لم يصل. وَالثَّالِث: تحرم عَلَيْهِ الصَّلَاة لكَونه مُحدثا، وَتجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة رَضِي اتعالى عَنهُ. وَالرَّابِع: تجب الصَّلَاة وَلَا تجب الْإِعَادَة، وَهُوَ مَذْهَب الْمُزنِيّ، وَهُوَ أقوى الْأَقْوَال دَلِيلا. ويعضده هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي إِيجَاب إِعَادَة مثل هَذِه الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَنه لَا يُصَلِّي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ، قِيَاسا على الْحَائِض. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن خواز منداد: الصَّحِيح من مَذْهَب مَالك أَن كل من لم يقدر على المَاء، وَلَا على الصَّعِيد حَتَّى خرج الْوَقْت أَنه لَا يُصَلِّي، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ المدنيون عَن مَالك وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ أَبُو عمر: كَيفَ أقدم على أَن أجعَل هَذَا صَحِيحا وعَلى خِلَافه جُمْهُور السّلف وَعَامة الْفُقَهَاء وَجَمَاعَة المالكيين؟ فَكَأَنَّهُ قاسه على مَا رُوِيَ عَن مَالك فِيمَن كتفه الْوَالِي وحبسه فَمَنعه من الصَّلَاة حَتَّى خرج وَقتهَا. أَنه لَا إِعَادَة عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: والأسير المغلول، وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يجد من يناوله المَاء وَلَا يَسْتَطِيع التَّيَمُّم لَا يُصَلِّي، وَإِن خرج الْوَقْت، حَتَّى يجد إِلَى الْوضُوء أَو التَّيَمُّم سَبِيلا. وَعَن الشَّافِعِي رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهمَا: هَكَذَا، وَالْأُخْرَى: يُصَلِّي وَأعَاد إِذا قدر، وَهُوَ الْمَشْهُور عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، فِي الْمَحْبُوس فِي الْمصر إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا نظيفاً: لم يصل، وَإِذا وجده صلى. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري ومطرف: يُصَلِّي وَيُعِيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: إِن وجد الْمَحْبُوس فِي الْمصر تُرَابا نظيفاً صلى وَأعَاد. وَقَالَ زفر: لَا يتَيَمَّم وَلَا يُصَلِّي، وَإِن وجد تُرَابا نظيفاً، بِنَاء على أَن عِنْده لَا تيَمّم فِي الْحَضَر. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو تيَمّم على التُّرَاب النَّظِيف أَو على وَجه الأَرْض لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة إِذا صلى ثمَّ وجد المَاء. وَقَالَ أَبُو عمر: أما الزَّمِن، قَالُوا: إِن لم يقدر على المَاء وَلَا على الصَّعِيد صلى كَمَا هُوَ وَأعَاد إِذا قدر على الطَّهَارَة.
3 - (بابُ التَّيمُّمِ فِي الحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الماءَ وَخافَ فَوْتَ الصَّلاة)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التَّيَمُّم فِي الْحَضَر إِلَى آخِره، ذكر قيدين: أَحدهمَا: فقدان المَاء، وَالْآخر: خَوفه خُرُوج وَقت الصَّلَاة، وَيدخل فِي فقدان المَاء عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ وَإِن كَانَ واجداً نَحْو مَا إِذا وجده فِي بِئْر وَلَيْسَ عِنْده آلَة الاستقاء، أَو كَانَ بَينه وَبَينه سبع أَو عَدو.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول كَانَ فِي عادم المَاء فِي السّفر، وَهَذَا فِي عادم المَاء فِي الْحَضَر، وَجَوَاب:(4/12)
إِذا، مَحْذُوف يدل على مَا تقدمه، تَقْدِيره: إِذا لم يجد المَاء وَخَافَ فَوت وَقت الصَّلَاة يتَيَمَّم.
وَبِهِ قالَ عَطاءٌ.
أَي: وَبِمَا ذكر من أَن فَاقِد المَاء فِي الْحَضَر الْخَائِف فَوت الْوَقْت يتَيَمَّم. قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: وَقَالَ بَعضهم: أَي بِهَذَا الْمَذْهَب. قلت: الْمَعْنى الَّذِي يُسْتَفَاد من التَّرْكِيب مَا ذكرته، وَلَا يرد عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) مَوْصُولا عَن عمر عَن ابْن جريج عَن عَطاء. قَالَ: (إِذا كنت فِي الْحَضَر وَحَضَرت الصَّلَاة وَلَيْسَ عنْدك مَاء فانتظر المَاء، فَإِن خشيت فَوت الصَّلَاة فَتَيَمم وصلِّ) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَبقول عَطاء قَالَ الشَّافِعِي. قلت: مَذْهَبنَا جَوَاز التَّيَمُّم لعادم المَاء فِي الْأَمْصَار، ذكره فِي (الْأَسْرَار) . وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : التَّيَمُّم فِي الْمصر لَا يجوز إلاَّ فِي ثَلَاث. إِحْدَاهَا: إِذا خَافَ فَوت صَلَاة الْجِنَازَة إِن تَوَضَّأ. وَالثَّانيَِة: عِنْد خوف فَوت صَلَاة الْعِيد. وَالثَّالِثَة: عِنْد خوف الْجنب من الْبرد بِسَبَب الِاغْتِسَال. وَقَالَ الإِمَام التُّمُرْتَاشِيّ: من عدم المَاء فِي الْمصر لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم لِأَنَّهُ نَادِر. قلت: الأَصْل جَوَاز التَّيَمُّم لعادم المَاء، سَوَاء كَانَ فِي الْمصر أَو خَارجه لعُمُوم النُّصُوص، وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة؛ الْحَاضِر الصَّحِيح يعْدم المَاء، هَل يتَيَمَّم أَو لَا؟ قَالَت طَائِفَة: يتَيَمَّم، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَعَطَاء وَالْحسن وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَقَالَ قوم من الْعلمَاء: لَا يتَيَمَّم؛ وَعَن أبي حنيفَة يسْتَحبّ لعادم المَاء وَهُوَ يرجوه أَن يُؤَخر الصَّلَاة إِلَى آخر الْوَقْت ليَقَع الآداء بأكمل الطهارتين. وَعَن مُحَمَّد: إِن خَافَ فَوت الْوَقْت يتَيَمَّم. وَفِي (شرح الأقطع) : التَّأْخِير عَن أبي حنيفَة وَيَعْقُوب حتم، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن عَليّ رَضِي اعنه: (إِذا أجنب الرجل فِي السّفر تلوم مَا بَينه وَبَين آخر الْوَقْت، فَإِن لم يجد المَاء تيَمّم ثمَّ صلى) . وَقَالَ ابْن حزم: وَبِه قَالَ سُفْيَان بن سعيد وَأحمد بن حَنْبَل وَعَطَاء. وَقَالَ مَالك: لَا يعجل وَلَا يُؤَخر، وَلَكِن فِي وسط الْوَقْت. وَقَالَ مرّة: إِن أَيقَن بِوُجُود المَاء قبل خُرُوج الْوَقْت أَخّرهُ إِلَى وسط الْوَقْت، وَإِن كَانَ موقناً أَنه لَا يجد المَاء حَتَّى يخرج الْوَقْت فيتيمم فِي أول الْوَقْت وَيُصلي. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ. كل ذَلِك سَوَاء. وَعند مَالك: إِذا وجد الْحَاضِر المَاء فِي الْوَقْت هَل يُعِيد أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ فِي (الْمُدَوَّنَة) وَقيل: إِنَّه يُعِيد أبدا.
وقالَ الحَسَنُ فِي الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْماءُ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُناوِلُهُ يَتيَمَّمُ.
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي اعنه. قَوْله: (المَاء) فِي بعض النّسخ: مَاء، بِلَا لَام. قَوْله: (من يناوله) أَي: يُعْطِيهِ ويساعده على اسْتِعْمَاله. وَجَاز عِنْد الشَّافِعِي: وَإِن وجد من يناوله بِالْمرضِ الَّذِي يخَاف من الْغسْل مَعَه محذوراً، وَلَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء. قَوْله: (يتَيَمَّم) ، وَفِي بَعْضهَا: (تيَمّم) ، على صِيغَة الْمَاضِي، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن الْحسن وَابْن سِيرِين قَالَا: (لَا يتَيَمَّم مَا رجى أَن يقدر على المَاء فِي الْوَقْت) ، وَهَذَا فِي الْمَعْنى مَا ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا.
وَأقْبَلَ ابنُ عُمَرَ منْ أرْضِهِ بِالْجرُفِ فَحَضَرَتِ العَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فَصَلَّى ثُمَّ دَخَلَ المَدِينَةَ والشَّمسُ مرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا التَّعْلِيق فِي موطأ مَالك: (عَن نَافِع أَنه أقبل هُوَ وَعبد امن الجرف حَتَّى إِذا كَانَا بِالْمَدِينَةِ نزل عبد افتيمم صَعِيدا طيبا، فَمسح وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين ثمَّ صلى) ، رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع عَن ابْن ابْن عمر بِلَفْظ: (ثمَّ صلى الْعَصْر ثمَّ دخل الْمَدِينَة وَالشَّمْس مُرْتَفعَة فَلم يعد الصَّلَاة) . قَالَ الشَّافِعِي: والجرف قريب من الْمَدِينَة. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عَمْرو بن مُحَمَّد بن أبي رزين: حدّثنا هِشَام بن حسان عَن عبيد اعن نَافِع عَن عبد ا: (أَن النَّبِي تيَمّم وَهُوَ ينظر إِلَى بيُوت الْمَدِينَة بمَكَان يُقَال لَهُ: مربد النعم) ، ثمَّ قَالَ: تفرد عمر بن مُحَمَّد بِإِسْنَادِهِ هَذَا، وَالْمَحْفُوظ عَن نَافِع عَن ابْن عمر من فعله، وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) قَالَ: حدّثنا ابْن صاعد حدّثنا ابْن زنبور حدّثنا فُضَيْل بن عِيَاض عَن ابْن عجلَان عَن نَافِع أَن ابْن عمر تيَمّم وَصلى وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ميلين من الْمَدِينَة. وَفِي حَدِيث يحيى بن سعيد عَن نَافِع: تيَمّم عبد اعلى ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ميلين من الْمَدِينَة. وَفِي خبر عمر بن زُرَارَة من طَرِيق مُوسَى بن ميسرَة. عَن ابْن عمر مثله.
النَّوْع الثَّانِي: أَن البُخَارِيّ ذكر هَذَا مُعَلّقا مُخْتَصرا وَلم يذكر فِيهِ التَّيَمُّم، مَعَ أَنه لَا يُطَابق تَرْجَمَة الْبَاب إلاَّ بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: لم يظْهر لي سَبَب حذفه قلت: الَّذِي يظْهر لي أَن ترك هَذَا مَا هُوَ من البُخَارِيّ، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ، وَاسْتمرّ الْأَمر عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ وَجه غير هَذَا.(4/13)
الثَّالِث: فِي لغاته. فَقَوله: (بالجرف) بِضَم الْجِيم وَالرَّاء، وَقد تسكن الرَّاء: وَهُوَ مَا تجْرِي فِيهِ السُّيُول وأكلته من الأَرْض، وَهُوَ جمع: جرفة، بِكَسْر الْجِيم وَفتح الرَّاء. وَزعم الزبير: أَن الجرفة على ميل من الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: على فَرسَخ، وَهُنَاكَ كَانَ الْمُسلمُونَ يعسكرون إِذا أَرَادوا الْغَزْو. وَزعم ابْن قر قَول أَنه على ثَلَاثَة أَمْيَال إِلَى جِهَة الشَّام، بِهِ مَال عمر وأموال أهل الْمَدِينَة، وَيعرف ببئر جشم وبئر جمل. قَوْله: (بمربد النعم) . قَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الْمِيم، وَهُوَ فِي اللُّغَة بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُحكم) : المربد محبس الْإِبِل، وَقيل: هِيَ من خَشَبَة أَو عصى تعترض صُدُور الْإِبِل فتمنعها من الْخُرُوج، ومربد الْبَصْرَة من ذَلِك لأَنهم كَانُوا يحبسون فِيهِ الْإِبِل، والمربد: فضاء وَرَاء الْبيُوت ترتفق بِهِ، والمربد: كالحجرة فِي الدَّار، ومربد التَّمْر: جرينه الَّذِي يوضع فِيهِ بعد الْجذاذ لييبس. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هُوَ اسْم كالمسطح، وَإِنَّمَا مثله بِهِ لِأَن المسطح ييبس. وَقَالَ السُّهيْلي: المربد والجرين والمسطح والبيدر والاندر والجرجار: لُغَات بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (النعم) ، بِفَتْح النُّون وَالْعين: وَهُوَ المَال الراعية، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الِاسْم على الْإِبِل.
الرَّابِع فِي حكم الْأَثر الْمَذْكُور: وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَاز التَّيَمُّم للحضري، لِأَن من يُجِيز التَّيَمُّم فِي السّفر يقصره على السّفر الَّذِي تقصر فِيهِ الصَّلَاة. قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة: إِنَّمَا تيَمّم ابْن عمر بالمربد لِأَنَّهُ خَافَ فَوت الْوَقْت. قيل: لَعَلَّه يُرِيد فَوَات الْوَقْت الْمُسْتَحبّ وَهُوَ أَن تصفر الشَّمْس. وَقَوله: (وَالشَّمْس مُرْتَفعَة) يحْتَمل أَن تكون مُرْتَفعَة عَن الْأُفق والصفرة دَخَلتهَا، وَيحْتَمل أَن يكون ظن أَنه لَا يدْخل الْمَدِينَة حَتَّى يخرج الْوَقْت فَتَيَمم على ذَلِك الِاجْتِهَاد. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: من رجا إِدْرَاك المَاء فِي آخر الْوَقْت فَتَيَمم فِي أَوله وَصلى أَجزَأَهُ وَيُعِيد فِي الْوَقْت اسْتِحْبَابا، فَيحْتَمل أَن ابْن عمر كَانَ يرى هَذَا. وَقَالَ سَحْنُون فِي (شرح الْمُوَطَّأ) كَانَ ابْن عمر على وضوء لِأَنَّهُ كَانَ يتَوَضَّأ لكل صَلَاة، فَجعل التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء عوض الْوضُوء، وَقيل: كَانَ ابْن عمر يرى أَن الْوَقْت إِذا دخل حل التَّيَمُّم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يُؤَخر لقَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) .
7334 - ح دّثنا يَحْيى بنُ بُكيْر قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَن جَعْفَرِ بنِ ربِيعةَ عنِ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْراً مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ أقْبَلْتُ أَنا وعَبْدُ اللَّهِ بنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أبِي جُهَيْمِ بنِ الْحَارِثِ بنِ الصِّمَّةِ الأَنصَارِيِّ فقالَ أبُو الجُهيْمِ أقْبَلَ النَّبيُّ منْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عليهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النبيُّ حَتى أقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيه السَّلاَمَ.
13
- 50 وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة هُوَ أَن النَّبِي لما تيَمّم فِي الْحَضَر لرد السَّلَام، وَكَانَ لَهُ أَن يردهُ عَلَيْهِ قبل تيَمّمه، دلّ ذَلِك أَنه إِذا خشِي فَوَات الْوَقْت فِي الصَّلَاة فِي الْحَضَر أَن لَهُ التَّيَمُّم، بل ذَلِك آكِد، لِأَنَّهُ لَا تجوز الصَّلَاة بِغَيْر وضوء وَلَا تيَمّم، وَيجوز السَّلَام بِغَيْرِهِمَا.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد ابْن بكير القريشي المَخْزُومِي، أَبُو زَكَرِيَّا الْمصْرِيّ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد، الإِمَام الْمَشْهُور. الثَّالِث: جَعْفَر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل الْكِنْدِيّ الْمصْرِيّ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: الْأَعْرَج وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز راوية أبي هُرَيْرَة، تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان. الْخَامِس: عُمَيْر مصغر عَمْرو بن عبد االهاشمي، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَمِائَة. السَّادِس: عبد ابْن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: الْمدنِي الْهِلَالِي. السَّابِع: أَبُو جهيم، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: هُوَ عبد ابْن الْحَارِث بن الصمَّة، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم: الصَّحَابِيّ الخزرجي. وللبخاري حديثان عَنهُ، ويروى: أَبُو الْجُهَيْم بِالْألف وَاللَّام، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: أَبُو جهيم. وَيُقَال: أَبُو الْجُهَيْم بن الْحَارِث بن الصمَّة، كَانَ أَبوهُ من كبار الصَّحَابَة، وَأَبُو جهم عبد ابْن جهيم. قَالَ أَبُو نعيم وَابْن مَنْدَه: أَبُو جهيم وَابْن الصمَّة وَاحِد. وَكَذَا قَالَه مُسلم فِي بعض كتبه، وجعلهما ابْن عبد الْبر اثْنَيْنِ. وَعَن ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه قَالَ: وَيُقَال: أَبُو الْجُهَيْم هُوَ الْحَارِث بن الصمَّة، فعلى هَذَا تكون لَفْظَة: ابْن فِي متن الحَدِيث زَائِدَة، لَكِن صحّح أَبُو حَاتِم أَن الْحَارِث اسْم لِأَبِيهِ لَا اسْمه، وَفِي الصَّحَابَة شخص آخر يُقَال لَهُ: أَبُو الجهم، وَهُوَ صَاحب الأنبجانية، وَهُوَ غير هَذَا لِأَنَّهُ قريشي وَهَذَا أَنْصَارِي. قلت: أَبُو الجهم هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَه الذَّهَبِيّ: أَبُو جهم عبد ابْن جهيم.(4/14)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين، وَلَكِن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي جَعْفَر. وَفِيه: أَن نصف الْإِسْنَاد الأول مصريون، وَالنّصف الثَّانِي مدنيون. وَفِيه: عُمَيْر مولى ابْن عَبَّاس، كَذَا هَهُنَا، وَهُوَ مولى أم الْفضل بنت الْحَارِث وَالِدَة ابْن عَبَّاس، وَإِذا كَانَ مولى أم الْفضل فَهُوَ مولى أَوْلَادهَا. وَقد روى ابْن إِسْحَاق هَذَا الحَدِيث وَقَالَ: مولى عبيد ابْن عَبَّاس، وَقد روى مُوسَى بن عقبَة وَابْن لَهِيعَة وَأَبُو الْحُوَيْرِث هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْرَج عَن أبي الْجُهَيْم وَلم يذكرُوا بَينهَا عُمَيْرًا، وَالصَّوَاب إثْبَاته، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح غير هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر عَن أم الْفضل. وَفِيه: رِوَايَة الْأَعْرَج عَنهُ رِوَايَة الأقران. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل. وَفِيه: عبد ابْن يسَار، وَهُوَ أَخُو عَطاء بن يسَار التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، وَوَقع عِنْد مُسلم فِي هَذَا الحَدِيث: عبد ابْن يسَار وَهُوَ وهم، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة، وَلِهَذَا لم يذكرهُ المصنفون فِي رجال الصَّحِيحَيْنِ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة، وَقَالَ: روى اللَّيْث فَذكره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن سعد عَن أَبِيه عَن جده. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب بن اللَّيْث بِهِ، وَمُسلم ذكر هَذَا الحَدِيث منقعطاً وَهُوَ مَوْصُول على شَرطه، وَفِيه عبد الرَّحْمَن بن يسَار، وَهُوَ وهم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِيه أَبُو الجهم مكبراً وَهُوَ أَبُو الْجُهَيْم مُصَغرًا، وروى الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن أبي الْحُوَيْرِث عَن الْأَعْرَج عَن أبي جهيم بن الصمَّة. قَالَ: (مَرَرْت على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عليَّ حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَار فحته بعصاً كَانَت مَعَه، ثمَّ وضع يَده على الْجِدَار فَمسح وَجهه وذراعيه ثمَّ رد عَليّ) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا ورد فِيهِ من الرِّوَايَات: قَوْله: (من نَحْو بِئْر جمل) ، أَي: من جِهَة الْموضع الَّذِي يعرف ببئر جمل، بِالْجِيم وَالْمِيم المفتوحتين. ويروى: (ببئر الْجمل) ، بِالْألف وَاللَّام، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَهُوَ مَوضِع بِقرب الْمَدِينَة فِيهِ مَال من أموالها. قَوْله: (فَلَقِيَهُ رجل) ، هُوَ أَبُو الْجُهَيْم الرَّاوِي، وَقد صرح بِهِ الشَّافِعِي فِي حَدِيثه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَلم يرد) ، يجوز فِي داله الحركات الثَّلَاث: الْكسر، لِأَنَّهُ الأَصْل؛ وَالْفَتْح، لِأَنَّهُ أخف؛ وَالضَّم لإتباع الرَّاء. قَوْله: (حَتَّى أقبل على الْجِدَار) الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد الْخَارِجِي، أَي: جِدَار هُنَاكَ، والجدار كَانَ مُبَاحا فَلم يحْتَج إِلَى الْإِذْن فِي ذَلِك، أَو كَانَ مَمْلُوكا لغيره وَكَانَ رَاضِيا بِهِ. وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (حَتَّى إِذا كَانَ الرجل أَن يتَوَارَى فِي السِّكَّة ضرب بيدَيْهِ على الْحَائِط فَمسح ذِرَاعَيْهِ ثمَّ رد على الرجل السَّلَام، وَقَالَ: إِنَّه لم يَمْنعنِي أَن أرد عَلَيْك إلاَّ أَنِّي كنت على غير طهر) . وَعند أبي دَاوُد، من حَدِيث حَيْوَة عَن ابْن الْهَاد: أَن نَافِعًا حَدثهُ عَن ابْن عمر قَالَ: (أقبل رَسُول الله من الْغَائِط، فَلَقِيَهُ رجل عِنْد بِئْر جمل فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ رَسُول الله حَتَّى أقبل على الْحَائِط فَوضع يَده عَلَيْهِ ثمَّ مسح وَجهه وَيَديه ثمَّ رد على الرجل السَّلَام) . وَعند الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح: (عَن نَافِع عَنهُ أَن رجلا مر على النَّبِي وَهُوَ يَبُول، فَسلم عَلَيْهِ الرجل فَرد عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا جاوزه ناداه عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: (إِنَّمَا حَملَنِي على الرَّد عَلَيْك خشيَة أَن تذْهب فَتَقول: إِنِّي سلمت على النَّبِي فَلم يرد عَليّ، فَذا رَأَيْتنِي على هَذِه الْحَالة فَلَا تسلم عَليّ فَإنَّك إِن تفعل لَا أرد عَلَيْك) . وَعند الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الْبَراء بن عَازِب (أنهُ سلم على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَلم يرد عَلَيْهِ حَتَّى فرغ) ، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة بِسَنَد فِيهِ ضعف، قَالَ: (سلمت على النَّبِي وَهُوَ يَبُول فَلم يرد عَليّ، ثمَّ دخل إِلَى بَيته فَتَوَضَّأ ثمَّ خرج فَقَالَ: (وَعَلَيْك السَّلَام) . وَعند الْحَاكِم من حغيث الْمُهَاجِرين قنقذ، قَالَ: (أتيت النَّبِي، وَهُوَ يتَوَضَّأ فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَليّ، فَلَمَّا فرغ من وضوئِهِ قَالَ: (إِنَّه لم يَمْنعنِي أَن أرد عَلَيْك إلاَّ أَنِّي كنت على غير وضوء) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إلاَّ أَنِّي كرهت أَن أذكر اإلاَّ على طَهَارَة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَلَفظه: (فَلم يرد حَتَّى تَوَضَّأ ثمَّ اعتذر إِلَيْهِ، قَالَ: (إِنِّي كرهت أَن أذكر اإلاَّ على طهر، أَو على طَهَارَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ، وَزَاد: (فَقُمْت مهموماً، فَدَعَا بِوضُوء فَتَوَضَّأ ورد عَليّ، وَقَالَ: (إِنِّي كرهت أَن أذكر اعلى غير وضوءه) وَعند ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (مر رجل على النَّبِي، وَهُوَ يَبُول، فَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ، فَلَمَّا فرغ ضرب بكفيه الأَرْض فَتَيَمم ثمَّ رد عَلَيْهِ السَّلَام) .(4/15)
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا: مَا قَالَ ابْن التِّين، قَالَ بَعضهم: يستنبط مِنْهُ جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر، وَعَلِيهِ بوب البُخَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ التَّيَمُّم للحضر إلاَّ أَنه لَا دَلِيل فِيهِ أَنه رفع بذلك التَّيَمُّم الْحَدث رفعا استباح بِهِ الصَّلَاة، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فعله كَرَاهَة أَن يذكر اعلى غير طَهَارَة، كَذَا رَوَاهُ حَمَّاد فِي (مُصَنفه) وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كره أَن يرد عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ اسْم من أَسمَاء اتعالى، أَو يكون هَذَا فِي أول الْأَمر ثمَّ اسْتَقر الْأَمر على غير ذَلِك. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) حَدِيث الْمَنْع من رد السَّلَام مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء؛ وَقيل: بِحَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا: كَانَ يذكر اعلى كل أحيانه، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث رَوَاهُ جَابر الْجعْفِيّ عَن عبد ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر بن حزم عَن عبد ابْن عَلْقَمَة بن الغفراء عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ النَّبِي إِذا أَرَادَ المَاء نكلمه فَلَا يُكَلِّمنَا ونسلم عَلَيْهِ فَلَا يسلم علينا حَتَّى نزلت آيَة الرُّخْصَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث المُهَاجر بن قنفذ مَعْلُول ومعارض، أما كَونه معلولاً فَلِأَن سعيد بن أبي عرُوبَة كَانَ قد اخْتَلَط فِي آخر عمره، فيراعى فِيهِ سَماع من سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن قَتَادَة بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لم يَمْنعنِي إِلَى آخِره، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَن حميد وَغَيره عَن الْحسن عَن مهَاجر مُنْقَطِعًا، فَصَارَ فِيهِ ثَلَاث علل.
ب 05 2 وَأما كَونه مُعَارضا، فَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث كريب عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة) . الحَدِيث، فَفِي هَذَا مَا يدل على جَوَاز ذكر اسْم اوقراءة الْقُرْآن مَعَ الْحَدث، وَزعم الْحسن أَن حَدِيث مهَاجر غير مَنْسُوخ، وَتمسك بِمُقْتَضَاهُ، فَأوجب الطَّهَارَة للذّكر، وَقيل: يتَأَوَّل الْخَبَر على الِاسْتِحْبَاب، لِأَن ابْن عمر: مِمَّن روى فِي هَذَا الْبَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب روى ذَلِك، والصحابي الرَّاوِي أعلم بِالْمَقْصُودِ. وَمِنْهَا: أَنه اسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَابنَا على جَوَاز التَّيَمُّم على الْحجر، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن حيطان الْمَدِينَة مَبْنِيَّة بحجارة سود. وَقَالَ ابْن بطال، فِي تيَمّم النَّبِي بالجدار رد على الشَّافِعِي فِي اشْتِرَاط التُّرَاب، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، إِذْ لَا تُرَاب على الْجِدَار.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول لَيْسَ فِيهِ رد على الشَّافِعِي إِذْ لَيْسَ مَعْلُوما أَنه لم يعلق بِهِ تُرَاب، وَمَا ذَاك إلاَّ تحكم بَارِد إِذْ الْجِدَار قد يكون عَلَيْهِ التُّرَاب وَقد لَا يكون، بل الْغَالِب وجود الْغُبَار على الْجِدَار، مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه حت الْجِدَار بالعصا ثمَّ تيَمّم، فَيجب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. انْتهى. قلت: الْجِدَار إِذا كَانَ من حجر لَا يحْتَمل التُّرَاب لِأَنَّهُ لَا يثبت عَلَيْهِ، خُصُوصا جدران الْمَدِينَة، لِأَنَّهَا من صَخْرَة سَوْدَاء. وَقَوله؛ مَعَ أَنه ثَبت ... الخ، مَمْنُوع لِأَن حت الْجِدَار بالعصا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف. فَإِن قلت: حسنه الْبَغَوِيّ كَمَا ذكرنَا. قلت: كَيفَ حسنه وَشَيخ الشَّافِعِي وَشَيخ شَيْخه ضعيفان لَا يحْتَج بهما؟ قَالَه مَالك وَغَيره، وَأَيْضًا فَهُوَ مُنْقَطع، لِأَن مَا بَين الْأَعْرَج وَأبي جهيم عُمَيْر كَمَا سبق من عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، وَنَصّ عَلَيْهِ أَيْضا الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَفِيه عِلّة أُخْرَى وَهِي زِيَادَة حك الْجِدَار لم يَأْتِ بهَا أحد غير إِبْرَاهِيم، والْحَدِيث رَوَاهُ جمَاعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيث أحدهم هَذِه الزِّيَادَة، وَالزِّيَادَة إِنَّمَا تقبل من ثِقَة، وَلَو وقف الْكرْمَانِي على مَا ذكرنَا لما قَالَ: مَعَ أَنه قد ثَبت أَنه، حت الْجِدَار بالعصا. وَمِنْهَا: أَنه اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ على جَوَاز التَّيَمُّم للجنازة عِنْد خوف فَوَاتهَا، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، لِأَنَّهُ، تيَمّم لرد السَّلَام فِي الْحَضَر لأجل فَوت الرَّد، وَإِن كَانَ لَيْسَ شرطا، وَمنع مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد ذَلِك وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِم. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على جَوَاز التَّيَمُّم للنوافل كالفرائض؛ وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَأبْعد من خصّه من أَصْحَابنَا بالفرائض. وَمِنْهَا: أَن التَّيَمُّم مسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ، لقَوْله: فَمسح بِوَجْهِهِ وَيَديه. فَإِن قلت: أطلق يَدَيْهِ فَيتَنَاوَل إِلَى الْكَفَّيْنِ وَإِلَى الْمرْفقين وَإِلَى مَا وَرَاء ذَلِك. قلت: المُرَاد مِنْهُ ذِرَاعَيْهِ، ويفسره رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث: فَمسح بِوَجْهِهِ وذراعيه، وَفِيه خلاف بَين الْعلمَاء، وَسَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ اتعالى عَن قريب.
4 - (بَاب المُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْمُتَيَمم: هَل ينْفخ فيهمَا؟ أَي: فِي الْيَدَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: هَل ينفح فِي يَدَيْهِ بَعْدَمَا يضْرب بهما الصَّعِيد للتيمم؟ وَإِنَّمَا أوردهُ بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الاستفسار، لِأَن نفخه، فِي يَدَيْهِ فِي التَّيَمُّم على مَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب يحْتَمل وُجُوهًا ثَلَاثَة: الأول: أَن يكون لشَيْء علق بيدَيْهِ فخشي عَلَيْهِ السَّلَام، أَن يُصِيب(4/16)
وَجهه الْكَرِيم فَنفخ لذَلِك. وَالثَّانِي: أَن يكون قد علق بِيَدِهِ من التُّرَاب مَا يكرههُ، فَلذَلِك نفخ فيهمَا. وَالثَّالِث: أَن يكون لبَيَان التشريع وَهُوَ الظَّاهِر، وَلِهَذَا احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة، وَلم يشْتَرط التصاق التُّرَاب بيد الْمُتَيَمم، فعلى هَذَا، الِاحْتِمَالَات الْمَذْكُورَة الَّتِي ذهب إِلَيْهَا بَعضهم غير سديدة، بل ظَاهر الحَدِيث لبَيَان التشريع، وَالْحكمَة فِيهِ إِزَالَة التلويث عَن الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ، وتبويب البُخَارِيّ أَيْضا بالاستفهام غير سديد.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، وَهُوَ أَن الْمَذْكُور فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب أَحْكَام التَّيَمُّم، والنفخ فِيهِ أَيْضا من أَحْكَامه.
5 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدثنَا الحكم عَن ذَر عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أَبْزَى عَن أَبِيه قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَالَ إِنِّي أجنبت فَلم أصب المَاء فَقَالَ عمار بن يَاسر لعمر بن الْخطاب أما تذكر أَنا كُنَّا فِي سفر أَنا وَأَنت فَأَما أَنْت فَلم تصل وَأما أَنا فتمعكت فَصليت فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا فَضرب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكفيه الأَرْض وَنفخ فيهمَا ثمَّ مسح بهما وَجهه وكفيه) الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة من حَيْثُ ذكر النفخ وَلَكِن لَيْسَ فِي الحَدِيث اسْتِفْهَام فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا أَن تبويبه بالاستفهام لَيْسَ بسديد. (ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة الأول آدم بن أبي إِيَاس وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. الثَّالِث الحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة مر فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. الرَّابِع ذَر بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء ابْن عبد الله الْهَمدَانِي بِسُكُون الْمِيم. الْخَامِس سعيد بن عبد الرَّحْمَن بِكَسْر الْعين. السَّادِس أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالزاي الْمَفْتُوحَة وبالقصر وَهُوَ صَحَابِيّ خزاعي كُوفِي اسْتَعْملهُ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على خُرَاسَان. السَّابِع عمر بن الْخطاب. الثَّامِن عمار بن يَاسر. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل وَفِيه ثَلَاثَة من الصَّحَابَة وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وكوفي. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن كثير وفرقهم وَعَن بنْدَار عَن غنْدر ستتهم عَن شُعْبَة عَن الحكم وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر بن شُمَيْل وَعَن عبد الله بن هَاشم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن عَليّ بن سهل الرَّمْلِيّ وَعَن مُسَدّد وَعَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي حَفْص عَمْرو بن عَليّ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَعَن عَمْرو بن يزِيد وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن تَمِيم وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن بنْدَار عَن غنْدر (ذكر مَا فِيهِ من الرِّوَايَات وَاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ " ثمَّ أدناهما من فِيهِ " وَفِي لفظ قَالَ " عمار كُنَّا فِي سَرِيَّة فأجنبنا وَقَالَ تفل فيهمَا " وَفِي لفظ " فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَكْفِيك الْوَجْه والكفان " وَفِي لفظ قَالَ " عمار فَضرب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ الأَرْض فَمسح وَجهه وكفيه " وَفِي لفظ " قَالَ أَبُو مُوسَى لِابْنِ مَسْعُود إِذا لم تَجِد المَاء لَا تصل " قَالَ عبد الله لَو رخصت لَهُم فِي هَذَا كَانَ إِذا وجد أحدهم الْبرد قَالَ هَكَذَا يَعْنِي تيَمّم وَصلى قَالَ أَبُو مُوسَى فَقلت فَأَيْنَ قَول عمار لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إِنِّي لم أر قنع عمر بقول عمار وَفِي لفظ " كَيفَ تصنع بقول عمار حِين قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَكْفِيك قَالَ ألم تَرَ عمر لم يقنع بذلك مِنْهُ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَدَعْنَا من قَول عمار كَيفَ تصنع بِهَذِهِ الْآيَة فَمَا درى عبد الله مَا يَقُول " وَفِي لفظ " بَعَثَنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَاجَة فأجنبت فَلم أجد المَاء فتمرغت فِي الصَّعِيد كَمَا تمرغ الدَّابَّة فَذكرت ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تصنع هَكَذَا وَضرب بكفه ضَرْبَة على الأَرْض ثمَّ نفضها ثمَّ مسح بهَا ظهر كفيه بِشمَالِهِ أَو ظهر شِمَاله بكفه ثمَّ مسح بهما وَجهه " وَفِي لفظ " مسح وَجهه وكفيه وَاحِدَة " انْتهى(4/17)
وَهُوَ ظَاهر فِي تَقْدِيم الْكَفّ على الْوَجْه وَهُوَ شَاهد لما يرَاهُ أَبُو حنيفَة رأى ذَلِك مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَبقول أبي حنيفَة قَالَ ابْن حزم وَحَكَاهُ عَن الْأَوْزَاعِيّ وَعند مُسلم " ثمَّ تمسح بهما وَجهك وكفيك " وَعند ابْن ماجة من حَدِيث مُحَمَّد بن أبي ليلى القَاضِي عَن الحكم وَسَلَمَة بن كهيل أَنَّهُمَا سَأَلَا عبد الله بن أبي أوفى عَن التَّيَمُّم فَقَالَ أَمر الله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمارا أَن يفعل هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ إِلَى الأَرْض ثمَّ نفضهما وَمسح على وَجهه قَالَ الحكم وَيَديه وَقَالَ سَلمَة ومرفقيه " وَفِي حَدِيث عبيد الله بن عبد الله عَن أَبِيه عَن عمار " فتيممنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب " وَسَنَده صَحِيح وَمن حَدِيث عبيد الله عَن عمار عِنْده وَعند أبي دَاوُد " حِين تيمموا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأمر الْمُسلمين فَضربُوا بأكفهم التُّرَاب وَلم يقبضوا من التُّرَاب شَيْئا فمسحوا وُجُوههم مسحة وَاحِدَة ثمَّ عَادوا فَضربُوا بأكفهم الصَّعِيد مرّة أُخْرَى فمسحوا بِأَيْدِيهِم " قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق قَالَ بِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَذكر ضربتين كَمَا ذكره يُونُس عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ معمر ضربتين وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد صَحِيح مُتَّصِل عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " فَقَامَ الْمُسلمُونَ مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضربُوا بِأَيْدِيهِم إِلَى الأَرْض فمسحوا بهَا وُجُوههم وأيديهم إِلَى المناكب وَمن بطُون أَيْديهم إِلَى الآباط " وَفِي لفظ بِسَنَد صَحِيح " ثمَّ مسح وَجهه وَيَديه إِلَى نصف الذِّرَاع " وَفِي لفظ " إِلَى نصف الساعد وَلم يبلغ الْمرْفقين ضَرْبَة وَاحِدَة " وَفِي رِوَايَة " شكّ سَلمَة بن كهيل قَالَ لَا أَدْرِي فِيهِ إِلَى الْمرْفقين " يَعْنِي أَو إِلَى الْكَفَّيْنِ وَرَوَاهُ شُعْبَة عَنهُ إِلَى الْمرْفقين أَو الذراعين قَالَ شُعْبَة " كَانَ سَلمَة يَقُول إِلَى الْكَفَّيْنِ وَالْوَجْه والذراعين فَقَالَ لَهُ مَنْصُور ذَات يَوْم أنظر مَا تَقول فَإِنَّهُ لَا يذكر الذراعين غَيْرك " وَفِي حَدِيث مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أبان عَن قَتَادَة عَمَّن حَدثهُ عَن الشّعبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِلَى الْمرْفقين " وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط لم يروه عَن أبان بن يزِيد الْعَطَّار إِلَّا عَفَّان وَفِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ الْحَرْبِيّ فَذكر لِأَحْمَد بن حَنْبَل فَعجب مِنْهُ وَقَالَ مَا أحْسنه وَقَالَ ابْن حزم هُوَ حبر سَاقِط وَرَوَاهُ ابْن أبي الذِّئْب عَن الزُّهْرِيّ فَذكر فِيهِ ضربتين رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه وَعند الدَّارَقُطْنِيّ " لما تمرغ عمار رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَسَأَلَهُ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضرب بكفه ضَرْبَة إِلَى الأَرْض ثمَّ نفضها وَقَالَ تمسح بهَا وَجهك وكفيك إِلَى الرسغين " وَقَالَ لم يروه عَن حُسَيْن مَرْفُوعا غير إِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَوَافَقَهُ شُعْبَة وزائدة وَغَيرهمَا وَعند الْأَثْرَم من رِوَايَة عَنهُ " ثمَّ تمسح بِوَجْهِك وكفيك إِلَى الرسغين " وَفِي الْأَوْسَط للطبراني عَن عمار " تمسح وَجهك وكفيك بِالتُّرَابِ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكفين " وَقَالَ لم يروه يَعْنِي عَن سَلمَة بن كهيل عَن سعيد بن أَبْزَى إِلَّا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأَسْلَمِيّ وَفِي المعجم الْكَبِير لَهُ " وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ ظهرا وبطنا " وَفِي لفظ " وَمن بطُون أَيْديهم إِلَى الآباط " وَفِي لفظ " إِلَى المناكب والآباط " وَفِي لفظ " أما كَانَ يَكْفِيك من ذَاك التَّيَمُّم فَإِذا قدرت على المَاء اغْتَسَلت " وَفِي لفظ " عزبت فِي الْإِبِل فأجنبت فَأمرنِي بِالتَّيَمُّمِ وَكنت تمعكت فِي التُّرَاب " وَفِي الكنى للنسائي أَنه قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ " أما تذكر أَنا كُنَّا نتناوب رعية الْإِبِل فأجنبت " وَعند الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ إِلَى الْمرْفقين " (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " جَاءَ رجل " وَفِي رِوَايَة للطبراني " من أهل الْبَادِيَة " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب الْآتِيَة أَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى شهد ذَلِك قَوْله " أَنِّي أجنبت " بِفَتْح الْهمزَة أَي صرت جنبا ويروى جنبت بِضَم الْجِيم وَكسر النُّون قَوْله " فَلم أصب المَاء " بِضَم الْهمزَة من الْإِصَابَة أَي لم أجد قَوْله " أما تذكر " الْهمزَة للاستفهام وَكلمَة مَا للنَّفْي قَوْله " فِي سفر " وَفِي رِوَايَة مُسلم " فِي سَرِيَّة " قَوْله " أَنا كُنَّا فِي سفر " فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول تذكر قَوْله " أَنا وَأَنت " تَفْسِير لضمير الْجمع فِي كُنَّا قَوْله " فَأَما أَنْت " تَفْصِيل لما وَقع من عمار وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة جَوَاب عمر وَكَذَلِكَ روى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ من رِوَايَة سِتَّة أنفس عَن شُعْبَة وَلم يذكر فِيهَا جَوَاب عمر وَذكره مُسلم من طَرِيق يحيى بن سعيد وَالنَّسَائِيّ عَن حجاج بن مُحَمَّد فَقَالَ " لَا تصل " وَزَاد السراج " حَتَّى تَجِد المَاء " وَهَذَا مَذْهَب مَشْهُور عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَجَرت فِيهِ مناظرة بَين أبي مُوسَى وَابْن مَسْعُود على مَا سَيَأْتِي فِي بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة وَقيل أَن ابْن مَسْعُود رَجَعَ عَن ذَلِك (فَإِن قلت) كَيفَ(4/18)
جَازَ لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ترك الصَّلَاة (قلت) مَعْنَاهُ أَنه لم يصل بِالتَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ كَانَ يتَوَقَّع الْوُصُول إِلَى المَاء قبل خُرُوج الْوَقْت أَو أَنه جعل آيَة التَّيَمُّم مُخْتَصَّة بِالْحَدَثِ الْأَصْغَر وَأدّى اجْتِهَاده إِلَى أَن الْجنب لَا يتَيَمَّم قَوْله " فتمعكت " وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة بعد " فتمرغت " بالغين الْمُعْجَمَة أَي تقلبت (ذكر استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يكن يرى للْجنب التَّيَمُّم لقَوْل عمار لَهُ " فَأَما أَنْت فَلم تصل " وَقد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ لم يسق هَذَا الحَدِيث بِتَمَامِهِ وَالْأَئِمَّة السِّتَّة أَخْرجُوهُ مطولا ومختصرا وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى " قَالَ كنت عِنْد عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ إِنَّا نَكُون بِالْمَكَانِ الشَّهْر أَو الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عمر أما أَنا فَلم أكن أُصَلِّي حَتَّى أجد المَاء قَالَ فَقَالَ عمار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما تذكر إِذْ كنت أَنا وَأَنت فِي الْإِبِل فأصابتنا جَنَابَة فَأَما أَنا فتمعكت فأتينا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكرت ذَلِك لَهُ فَقَالَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تَقول هَكَذَا وَضرب بيدَيْهِ إِلَى الأَرْض ثمَّ نفخهما ثمَّ مسح بهما وَجهه وَيَديه إِلَى نصف الذِّرَاع فَقَالَ عمر يَا عمار اتَّقِ الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن شِئْت وَالله لم أذكرهُ أبدا فَقَالَ عمر كلا وَالله لنولينك مَا توليت ". الثَّانِي فِيهِ دَلِيل على صِحَة الْقيَاس لقَوْل عمار " أما أَنا فتمعكت " فَإِنَّهُ اجْتهد فِي صفة التَّيَمُّم ظنا مِنْهُ أَن حَالَة الْجَنَابَة تخَالف حَالَة الْحَدث الْأَصْغَر فقاسه على الْغسْل وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ عِنْده علم من أصل التَّيَمُّم ثمَّ أَنه لما أخبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علمه صفة التَّيَمُّم فَإِنَّهُ للجنابة وَالْحَدَث سَوَاء الثَّالِث فِيهِ صفة التَّيَمُّم وَهِي ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَبِه قَالَ عَطاء وَالشعْبِيّ فِي رِوَايَة وَالْأَوْزَاعِيّ فِي أشهر قوليه وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد واسحق والطبري وَقَالَ أَبُو عمر وَهُوَ أثبت مَا روى فِي ذَلِك عَن عمار وَسَائِر أَحَادِيث عمار مُخْتَلف فِيهَا وَأَجَابُوا عَن هَذَا بِأَن المُرَاد هَهُنَا هُوَ صُورَة الضَّرْب للتعليم وَلَيْسَ المُرَاد جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم وَقد أوجب الله غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين فِي الْوضُوء ثمَّ قَالَ فِي التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} وَالظَّاهِر أَن الْيَد الْمُطلقَة هَهُنَا هِيَ الْمقيدَة فِي الْوضُوء من أول الْآيَة فَلَا يتْرك هَذَا الصَّرِيح إِلَّا بِدلَالَة صَرِيح (فَإِن قلت) مَا تَقول فِي حَدِيثه " تيممنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب والآباط " (قلت) لَيْسَ هُوَ مُخَالفا لحَدِيث الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَفِي هَذَا دلَالَة أَنه انْتهى إِلَى مَا علمه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ ابْن أبي حَازِم لَا يَخْلُو أَن يكون حَدِيث عمار بِأَمْر أَولا فَإِن يكن عَن غير أَمر فقد صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافه وَإِن كَانَ عَن أَمر فَهُوَ مَنْسُوخ وناسخه حَدِيث عمار أَيْضا ثمَّ إِن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة التَّيَمُّم فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم وَاللَّيْث بن سعد إِلَى أَنه ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين غير أَن عِنْد مَالك إِلَى الكوعين فرض وَإِلَى الْمرْفقين اخْتِيَار وَقَالَ الْحسن بن حييّ وَابْن أبي ليلى التَّيَمُّم ضربتان يمسح بِكُل ضَرْبَة مِنْهُمَا وَجهه وذراعيه ومرفقيه وَقَالَ الْخطابِيّ لم يقل ذَلِك أحد من أهل الْعلم غَيرهمَا فِي علمي وَقَالَ الزُّهْرِيّ يبلغ بِالتَّيَمُّمِ الآباط وَفِي شرح الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة قَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء يضْرب أَربع ضربات ضربتان للْوَجْه وضربتان لِلْيَدَيْنِ وَقَالَ ابْن بزيزة وَلَيْسَ لَهُ أصل من السّنة وَقَالَ بعض الْعلمَاء يتَيَمَّم الْجنب إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيره إِلَى الكوعين قَالَ وَهُوَ قَول ضَعِيف وَفِي الْقَوَاعِد لِابْنِ رشد روى عَن مَالك الِاسْتِحْبَاب إِلَى ثَلَاث وَالْفَرْض اثْنَتَانِ وَقَالَ ابْن سِيرِين ثَلَاث ضربات الثَّالِثَة لَهما جَمِيعًا وَفِي رِوَايَة عَنهُ ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للكف وضربة للذراعين انْتهى وَلما كَانَت لعمَّار فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث مُخْتَلفَة مضطربة وَذهب كل وَاحِد من الْمَذْكُورين إِلَى حَدِيث مِنْهَا كَانَ الرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى ظَاهر الْكتاب وَهُوَ يدل على ضربتين ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين قِيَاسا على الْوضُوء اتبَاعا بِمَا روى فِي ذَلِك من أَحَادِيث تدل على الضربتين إِحْدَاهمَا للْوَجْه وَالْأُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين. مِنْهَا حَدِيث الأسلع بن شريك التَّمِيمِي خَادِم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب وَفِيه ضربتان رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ. وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَا رَوَاهُ عَليّ بن طهْمَان مَرْفُوعا وَوَقفه يحيى الْقطَّان وهشيم وَغَيرهمَا وَهُوَ الصَّوَاب وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا من طرق مَوْقُوفا وَمِنْهَا حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن(4/19)
جَابر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث اسحق الْحَرْبِيّ وَقَالَ هَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَيْضا إِسْنَاده صَحِيح وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من يمْنَع صِحَّته وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا ووردت فِي ذَلِك آثَار صَحِيحَة. مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث قَتَادَة عَن الْحسن أَنه قَالَ " ضَرْبَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " وروى عَن إِبْرَاهِيم وطاووس وَسَالم وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب نَحوه وروى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم فِي التَّيَمُّم " قَالَ تضع راحتيك فِي الصَّعِيد فتمسح وَجهك ثمَّ تضعهما الثَّانِيَة فتمسح يَديك وذراعيك إِلَى الْمرْفقين " قَالَ مُحَمَّد وَبِه نَأْخُذ وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه أخبرنَا ابْن مهْدي عَن زَمعَة عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه قَالَ " التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين " حَدثنَا ابْن علية عَن دَاوُد عَن الشّعبِيّ قَالَ " التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وروى فِي ذَلِك أَيْضا عَن أبي أُمَامَة وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا ولكنهما ضعيفان فَحَدِيث أبي أُمَامَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وَفِي إِسْنَاده جَعْفَر بن الزبير قَالَ شُعْبَة وضع أَربع مائَة حَدِيث وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " فِي التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وَفِي إِسْنَاده الْحَرِيش بن حُرَيْث ضعفه أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة. الرَّابِع احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة على جَوَاز التَّيَمُّم من الصَّخْرَة الَّتِي لَا غُبَار عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُعْتَبرا لما نفخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يَدَيْهِ. الْخَامِس فِيهِ أَن النفخ سنة أَو مُسْتَحبّ
5 - (بابٌ التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالكفَّيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، وَمعنى أَحَادِيث هَذَا الْبَاب هُوَ معنى الحَدِيث الَّذِي فِي الْبَاب السَّابِق، غير أَنه رُوِيَ هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة مَرْفُوعا، وَهَهُنَا أخرجه عَن سِتَّة مَشَايِخ كلهم عَن شبعة، ثَلَاثَة مِنْهَا مَوْقُوفَة، وَثَلَاثَة مَرْفُوعَة، كَمَا ستقف عَلَيْهَا، وَهَهُنَا: عَن حجاج عَن شُعْبَة، وحجاح هُوَ ابْن منهال، بِكَسْر الْمِيم. وَقَوله: بَاب، منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: التَّيَمُّم، كَمَا ذكرنَا. وَقَوله؛ التَّيَمُّم للْوَجْه، مُبْتَدأ، وَالْكَفَّيْنِ، عطف على: الْوَجْه، أَي: وللكفين، وَخَبره مَحْذُوف أَي: التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ الْآن، ثمَّ يقدر بعد ذَلِك لَفْظَة: جَوَازًا، يَعْنِي من حَيْثُ الْجَوَاز، أَو يقدر وجوبا، يَعْنِي من حَيْثُ الْوُجُوب. وَالْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة سَوَاء كَانَ وجوبا أَو جَوَازًا. وَقَالَ بَعضهم؛ بَاب التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، أَي: هُوَ الْوَاجِب المجزىء. قلت: تَقْيِيده بِالْوُجُوب لَا يفهم مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعم من ذَلِك، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وأتى بذلك بِصِيغَة الْجَزْم مَعَ شهرة الْخلاف فِيهِ لقُوَّة دَلِيله، فَإِن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي صفة التَّيَمُّم لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، وَمَا عداهما فضعيف أَو مُخْتَلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَالرَّاجِح عدم رَفعه. وَأما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا، وَأما حَدِيث عمار فورد بِذكر الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: وبذكر الْمرْفقين فِي (السّنَن) . انْتهى. قلت: قَوْله: لم يَصح مِنْهَا سوى حَدِيث أبي جهيم وعمار، غير مُسلم، وَكُنَّا قد ذكرنَا أَنه رُوِيَ فِيهِ عَن جَابر مَرْفُوعا: (إِن التَّيَمُّم ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين) ، وَأَن الْحَاكِم قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَأَن الذَّهَبِيّ قَالَ: إِسْنَاده صَحِيح، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من يمْنَع صِحَّته. فَإِن قلت: رَوَاهُ جمَاعَة مَوْقُوفا. قلت: الرّفْع أقوى وَأثبت لِأَنَّهُ أسْند من وَجْهَيْن، وَقَوله: أما حَدِيث أبي جهيم فورد بِذكر الْيَدَيْنِ مُجملا، غير صَحِيح، وَلَا يُطلق عَلَيْهِ حد الْإِجْمَال، بل هُوَ مُطلق يتَنَاوَل إِلَى الْكَفَّيْنِ وَإِلَى الْمرْفقين وَإِلَى مَا وَرَاء ذَلِك، وَلَكِن رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الحَدِيث خصصته وفسرته، بقوله: (فَمسح بِوَجْهِهِ وذراعيه) . فَإِن قلت: هَذَا الْقَائِل لم يرد الْإِجْمَال الاصطلاحي، بل أَرَادَ الْإِجْمَال اللّغَوِيّ. قلت: إِن كَانَ ذَلِك فَحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ أوضحه وكشفه، كَمَا ذكرنَا.
933 - ح دّثنا حَجَّاجٌ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ أَخْبرنِي الْحَكَمُ عنْ ذَرَ عنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ أبِيهِ قالَ عَمَّارٌ بِهَذَا وَضَرَبَ شُعْبَةُ بيَدَيْهِ الأَرْضَ ثُمَّ أدْناهُمَا مِنْ فيهِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.(4/20)
قد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب عَن سِتَّة من الْمَشَايِخ. الأول: مَوْقُوف يرويهِ عَن حجاج بن منهال إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ: حدّثنا حجاج، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الحكم عَن ذَر عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه عَن عمار رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا وَضرب شُعْبَة بكفيه إِلَى الأَرْض وأدناهما من فِيهِ، فَنفخ فيهمَا، ثمَّ مسح وَجهه وكفيه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ذَر عَن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ أسقط لَفْظَة (ابْن) ، وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن لَا رِوَايَة لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: رِوَايَة مُحَمَّد بن خُزَيْمَة الْمَذْكُورَة تبتنى على صِحَة قَول من يَقُول: إِن أَبْزَى وَالِد عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ، وَهُوَ قَول ابْن مَنْدَه، فَإِنَّهُ جعله من الصَّحَابَة، وروى بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن عبيد االرازي عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، (عَن رَسُول الله أَنه: خطب للنَّاس قَائِما، ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يعظونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم) ؟ . الحَدِيث، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (الْمسند) عَن مُحَمَّد بن أبي سهل عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل عَن عَلْقَمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي بِهَذَا، وَقد رده أَبُو نعيم عَلَيْهِ، وَقَالَ: ذكر ابْن مَنْدَه أَن البُخَارِيّ ذكره فِي كتاب الوجدان، وَأخرج لَهُ حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن أَبْزَى عَن النَّبِي، وَلم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى الْخُزَاعِيّ، ذكره البُخَارِيّ فِي الوجدان، وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، ولابنه عبد الرَّحْمَن صُحْبَة وَرِوَايَة. قلت: وَكَذَلِكَ لم يذكر أَبُو عمر: أَبْزَى فِي الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ذكر عبد الرَّحْمَن لِأَنَّهُ لم يَصح عِنْده صُحْبَة أَبْزَى، وَمَعَ هَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي صُحْبَة عبد الرَّحْمَن أَيْضا، فَإِن ابْن حبَان ذكره فِي التَّابِعين، وَقَالَ: أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: لم يحدث ابْن أبي ليلى من التَّابِعين إلاَّ عَن ابْن أَبْزَى، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَهُ صُحْبَة، وَذكره غير وَاحِد فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أدْرك النَّبِي وَصلى خَلفه، روى عَنهُ ابناه عبد اوسعيد.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: حجاج بن منهال. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الحكم بن عتيبة. الرَّابِع: ذَر بن عبد االهمداني. الْخَامِس: سعيد بن عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى. السَّابِع: عمار بن يَاسر رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: (أَخْبرنِي الحكم) وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي وَابْن الْمُنْذر، وَفِي راية غَيرهم عَن الحكم. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: عَن ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عمار بِهَذَا) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى سِيَاق الْمَتْن الَّذِي قبله، من رِوَايَة آدم عَن شُعْبَة: وَهُوَ كَذَلِك، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي رِوَايَة حجاج هَذِه قصَّة عمر رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (وَضرب شُعْبَة) مقول الْحجَّاج. قَوْله: (ثمَّ أدناهما) أَي: قربهما من فِيهِ، وَهِي كِنَايَة عَن النفخ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ خَفِيفا، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب: نقل فيهمَا، قَالَ أهل اللُّغَة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت مستوفاة.
وقالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الْحَكَمِ قالَ سَمِعْتُ ذَرَّاً يَقُولُ عنِ ابنِ عبد الرَّحْمَنِ ابنِ أبْزى اقالَ الْحَكَمُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ منِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبِيهِ قالَ قالَ عَمَّارٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ الماءِ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَنه تَعْلِيق، وَقد وَصله مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّضر من كَلَام البُخَارِيّ: وَالظَّاهِر أَنه علق عَن النَّضر لِأَنَّهُ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ بالعراق، وَكَانَ البُخَارِيّ حينئذٍ ابْن سبع سِنِين ببخاري.
النَّوْع الثَّانِي فِي رِجَاله: وهم تِسْعَة. الأول: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، والبقية ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: القَوْل أَولا والإخبار بِصِيغَة الْجمع ثَانِيًا، والعنعنة ثَالِثا، وَالْقَوْل رَابِعا وخامساً بَينهمَا السماع، والعنعنة سادساً، وَالْقَوْل سابعاً، وَالسَّمَاع ثامناً، والعنعنة تاسعاً، وَالْقَوْل عاشراً. قَوْله: (قَالَ الحكم) : الخ إِشَارَة إِلَى أَن الحكم كَمَا سمع هَذَا الْخَبَر من ذَر، سَمعه أَيْضا من شيخ ذَر وَهُوَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ(4/21)
سَمعه أَولا من ذَر ثمَّ لَقِي سعيداً فَأَخذه عَنهُ، وَلَكِن سَمَاعه من ذَر أثبت لوروده كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات. ثمَّ قَوْله: (وَقَالَ الحكم) : يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام شُعْبَة فَيكون دَاخِلا فِي إِسْنَاده. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: يحْتَمل أَن يكون من كَلَام النَّضر، وَهُوَ الظَّاهِر.
(النَّوْع الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصَّعِيد الطّيب) أَي: الأَرْض الطاهرة، وَقد مر مرّة أَن الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول أَي مصعود عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه الطَّاهِر. وَقيل: الْحَلَال، وَقيل: الطّيب، مَا تستطيبه النَّفس، وَذكر فِي (الْهِدَايَة) فِي اسْتِدْلَال الشَّافِعِي على أَن التَّيَمُّم لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ، بقوله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) أَي: تُرَابا منبتاً، قَالَه ابْن عَبَّاس قلت: فِي شَرحه الَّذِي قَالَه عبد ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أطيب الصَّعِيد حرث الأَرْض، وَالِاسْتِدْلَال للشَّافِعِيّ بِهَذَا غير موجه لِأَنَّهُ غير قَائِل بِاشْتِرَاط الإنبات فِي التُّرَاب الَّذِي يجوز بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الإنبات لَيْسَ بِشَرْط فِي الْأَصَح. قَوْله: (يَكْفِيهِ من المَاء) ، يَعْنِي: يَكْفِي الْمُسلم، أَي: يجْزِيه عِنْد عدم المَاء.
933 - ح دّثنا حَجَّاجٌ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ أَخْبرنِي الْحَكَمُ عنْ ذَرَ عنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ أبِيهِ قالَ عَمَّارٌ بِهَذَا وَضَرَبَ شُعْبَةُ بيَدَيْهِ الأَرْضَ ثُمَّ أدْناهُمَا مِنْ فيهِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.
قد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب عَن سِتَّة من الْمَشَايِخ. الأول: مَوْقُوف يرويهِ عَن حجاج بن منهال إِلَى آخِره، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ: حدّثنا حجاج، قَالَ: حدّثنا شُعْبَة، قَالَ: أَخْبرنِي الحكم عَن ذَر عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه عَن عمار رَضِي اتعالى عَنهُ: (أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك هَكَذَا وَضرب شُعْبَة بكفيه إِلَى الأَرْض وأدناهما من فِيهِ، فَنفخ فيهمَا، ثمَّ مسح وَجهه وكفيه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ذَر عَن ابْن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: أَشَارَ الطَّحَاوِيّ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، لِأَنَّهُ أسقط لَفْظَة (ابْن) ، وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن لَا رِوَايَة لَهُ فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: رِوَايَة مُحَمَّد بن خُزَيْمَة الْمَذْكُورَة تبتنى على صِحَة قَول من يَقُول: إِن أَبْزَى وَالِد عبد الرَّحْمَن صَحَابِيّ، وَهُوَ قَول ابْن مَنْدَه، فَإِنَّهُ جعله من الصَّحَابَة، وروى بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن عبيد االرازي عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى، عَن أَبِيه، (عَن رَسُول الله أَنه: خطب للنَّاس قَائِما، ثمَّ قَالَ: مَا بَال أَقوام لَا يعلمُونَ جيرانهم وَلَا يفقهونهم وَلَا يعظونهم وَلَا يأمرونهم وَلَا ينهونهم) ؟ . الحَدِيث، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (الْمسند) عَن مُحَمَّد بن أبي سهل عَن بكير بن مَعْرُوف عَن مقَاتل عَن عَلْقَمَة بن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزي عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي بِهَذَا، وَقد رده أَبُو نعيم عَلَيْهِ، وَقَالَ: ذكر ابْن مَنْدَه أَن البُخَارِيّ ذكره فِي كتاب الوجدان، وَأخرج لَهُ حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن أَبْزَى عَن النَّبِي، وَلم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَبْزَى، وَالِد عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى الْخُزَاعِيّ، ذكره البُخَارِيّ فِي الوجدان، وَلَا يَصح لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة، ولابنه عبد الرَّحْمَن صُحْبَة وَرِوَايَة. قلت: وَكَذَلِكَ لم يذكر أَبُو عمر: أَبْزَى فِي الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ذكر عبد الرَّحْمَن لِأَنَّهُ لم يَصح عِنْده صُحْبَة أَبْزَى، وَمَعَ هَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي صُحْبَة عبد الرَّحْمَن أَيْضا، فَإِن ابْن حبَان ذكره فِي التَّابِعين، وَقَالَ: أَبُو بكر بن أبي دَاوُد: لم يحدث ابْن أبي ليلى من التَّابِعين إلاَّ عَن ابْن أَبْزَى، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَهُ صُحْبَة، وَذكره غير وَاحِد فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أدْرك النَّبِي وَصلى خَلفه، روى عَنهُ ابناه عبد اوسعيد.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: حجاج بن منهال. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الحكم بن عتيبة. الرَّابِع: ذَر بن عبد االهمداني. الْخَامِس: سعيد بن عبد الرَّحْمَن. السَّادِس: أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى. السَّابِع: عمار بن يَاسر رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: (أَخْبرنِي الحكم) وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي وَابْن الْمُنْذر، وَفِي راية غَيرهم عَن الحكم. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: عَن ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عمار بِهَذَا) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى سِيَاق الْمَتْن الَّذِي قبله، من رِوَايَة آدم عَن شُعْبَة: وَهُوَ كَذَلِك، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي رِوَايَة حجاج هَذِه قصَّة عمر رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (وَضرب شُعْبَة) مقول الْحجَّاج. قَوْله: (ثمَّ أدناهما) أَي: قربهما من فِيهِ، وَهِي كِنَايَة عَن النفخ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ خَفِيفا، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب: نقل فيهمَا، قَالَ أهل اللُّغَة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت مستوفاة.
وقالَ النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الْحَكَمِ قالَ سَمِعْتُ ذَرَّاً يَقُولُ عنِ ابنِ عبد الرَّحْمَنِ ابنِ أبْزى اقالَ الْحَكَمُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ منِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبِيهِ قالَ قالَ عَمَّارٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضوءُ المسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ الماءِ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَنه تَعْلِيق، وَقد وَصله مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر. وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَنهُ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّضر من كَلَام البُخَارِيّ: وَالظَّاهِر أَنه علق عَن النَّضر لِأَنَّهُ مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ بالعراق، وَكَانَ البُخَارِيّ حينئذٍ ابْن سبع سِنِين ببخاري.
النَّوْع الثَّانِي فِي رِجَاله: وهم تِسْعَة. الأول: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، والبقية ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: القَوْل أَولا والإخبار بِصِيغَة الْجمع ثَانِيًا، والعنعنة ثَالِثا، وَالْقَوْل رَابِعا وخامساً بَينهمَا السماع، والعنعنة سادساً، وَالْقَوْل سابعاً، وَالسَّمَاع ثامناً، والعنعنة تاسعاً، وَالْقَوْل عاشراً. قَوْله: (قَالَ الحكم) : الخ إِشَارَة إِلَى أَن الحكم كَمَا سمع هَذَا الْخَبَر من ذَر، سَمعه أَيْضا من شيخ ذَر وَهُوَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ سَمعه أَولا من ذَر ثمَّ لَقِي سعيداً فَأَخذه عَنهُ، وَلَكِن سَمَاعه من ذَر أثبت لوروده كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات. ثمَّ قَوْله: (وَقَالَ الحكم) : يحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام شُعْبَة فَيكون دَاخِلا فِي إِسْنَاده. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: يحْتَمل أَن يكون من كَلَام النَّضر، وَهُوَ الظَّاهِر.
(النَّوْع الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (الصَّعِيد الطّيب) أَي: الأَرْض الطاهرة، وَقد مر مرّة أَن الصَّعِيد وَجه الأَرْض، فعيل بِمَعْنى مفعول أَي مصعود عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: الصَّعِيد: الأَرْض الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَلَا شجر، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: الطّيب النَّظِيف، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه الطَّاهِر. وَقيل: الْحَلَال، وَقيل: الطّيب، مَا تستطيبه النَّفس، وَذكر فِي (الْهِدَايَة) فِي اسْتِدْلَال الشَّافِعِي على أَن التَّيَمُّم لَا يجوز إلاَّ بِالتُّرَابِ، بقوله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) أَي: تُرَابا منبتاً، قَالَه ابْن عَبَّاس قلت: فِي شَرحه الَّذِي قَالَه عبد ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أطيب الصَّعِيد حرث الأَرْض، وَالِاسْتِدْلَال للشَّافِعِيّ بِهَذَا غير موجه لِأَنَّهُ غير قَائِل بِاشْتِرَاط الإنبات فِي التُّرَاب الَّذِي يجوز بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الإنبات لَيْسَ بِشَرْط فِي الْأَصَح. قَوْله: (يَكْفِيهِ من المَاء) ، يَعْنِي: يَكْفِي الْمُسلم، أَي: يجْزِيه عِنْد عدم المَاء.
0437 - ح دّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ ذَرَ عنِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبْزَى عنْ أبِيهِ أنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ وَقالَ لَهُ عَمَّارٌ كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فأجْنَبْنَا وقالَ تَفَلَ فِيهِمَا.
هَذِه رِوَايَته الثَّالِثَة فِي الْخَبَر الْمَذْكُور، وَهِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب يروي عَن شُعْبَة إِلَى آخِره. وأفادت رِوَايَته هَذِه أَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، كَانَ قد أجنب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن اجْتِهَاده خَالف اجْتِهَاد عمار. قَوْله: (شهد) أَي: حضر. قَوْله: (وَقَالَ لَهُ عمار) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فِي سَرِيَّة) بتَخْفِيف الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْقطعَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَربع مائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو، وَجَمعهَا: السَّرَايَا، سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم، من الشَّيْء السّري: النفيس. وَقيل: سموا بذلك لأَنهم يبعثون سرا وخفية، وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ، لِأَن لَام السِّرّ: رَاء، وَهَذِه: يَاء، قَوْله: (فأجنبنا) أَي: صرنا جنبا، وَالْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى وَالْجمع، والمؤنث، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَقَالَ تفل فيهمَا) أَي: فِي الْيَدَيْنِ، وَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَالَ الْجَوْهَرِي: التفل شَبيه بالبزاق، وَهُوَ أقل مِنْهُ، أَوله البزق ثمَّ التفل ثمَّ النفث ثمَّ النفخ، وَالْمَقْصُود أَنه قَالَ مَكَان نفخ فيهمَا: تفل فيهمَا.
1438 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عنْ ذَرَ عنِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبْزَى عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ قالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ تَمَعَّكْتُ فأتَيْتُ النبيَّ فَقال: (يَكْفِيكَ الوَجْهُ والكَفَّيْنِ) .
هَذِه رِوَايَته الرَّابِعَة عَن مُحَمَّد بن كثير عَن شُعْبَة الخ. قَوْله: (تمعكت) أَي: تمرغت، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة. قَوْله: (يَكْفِيك الْوَجْه) ، أَي: يَكْفِيك مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فِي التَّيَمُّم. قَوْله: (وَالْكَفَّيْنِ) ، بِالنّصب رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره: (والكفان) بِالرَّفْع، وَهُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْوَجْه وَهُوَ مَرْفُوع على الفاعلية، وَالْأَحْسَن فِي وَجه النصب أَن تكون: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، أَي: يَكْفِيك الْوَجْه مَعَ الْكَفَّيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، إِذا الأَصْل مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ، فَحذف الْمُضَاف وَبَقِي الْمَجْرُور بِهِ على مَا كَانَ عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: على قَوْله هَذَا يَنْبَغِي أَن يكون الْوَجْه أَيْضا مجروراً كالكفين، وَهَذَا لَهُ وَجه إِن صحت الرِّوَايَة بِهِ، وَقَالَ بَعضهم فِي رِوَايَة أبي ذَر: (يَكْفِيك الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ) ، بِالنّصب فيهمَا على المفعولية إِمَّا بإضمار، أَعنِي: أَو التَّقْدِير يَكْفِيك أَن تمسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام من لَيْسَ لَهُ مس من الْعَرَبيَّة. لِأَن فِي التَّقْدِير:
الأول: يبْقى الْفِعْل بِلَا فَاعل وَهُوَ لَا يجوز، وَفِي الثَّانِي: أَخذ الْفِعْل فَاعله فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير لعدم الدَّاعِي إِلَى ذَلِك، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
ويستنبط مِنْهُ: أَن التَّيَمُّم هُوَ مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لَا غير، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَوَاهُ أَبُو ثَوْر وَغَيره عَن الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأنْكرهُ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره. قَالَ: هُوَ إِنْكَار مَرْدُود لِأَن أَبَا ثَوْر ثِقَة وَقَالَ هَذَا القَوْل وَإِن كَانَ مرجوحاً عِنْد الْأَصْحَاب وَلكنه قوي من حَيْثُ الدَّلِيل، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من هَذَا الحَدِيث(4/22)
بَيَان صُورَة الضَّرْب للتعليم لَا لبَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم. وَقَالَ بَعضهم: ويعقب بِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل على التَّصْرِيح أَن المُرَاد بَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم، لِأَن ذَلِك هُوَ الظَّاهِر من قَوْله: إِنَّمَا يَكْفِيك. انْتهى. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ وَغَيره. إِن حَدِيث عمار لَا يصلح حجَّة فِي كَون التَّيَمُّم إِلَى الْكَفَّيْنِ أَو الكوعين أَو الْمرْفقين أَو الْمَنْكِبَيْنِ أَو الإبطين، كَمَا ذهبت إِلَى كل وَاحِد طَائِفَة من أهل الْعلم، وَذَلِكَ لاضطرابه كَمَا قد رَأَيْت، فَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد ضعف بعض أهل الْعلم حَدِيث عمار فِي التَّيَمُّم للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لما روى عَنهُ حَدِيث المناكب والأباط.
6 - (بابٌ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنَ الْماءِ)
أَي: هَذَا بَاب يبين فِيهِ الصَّعِيد الطّيب إِلَى آخِره، وَبَاب، بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (الصَّعِيد) مُبْتَدأ (وَالطّيب) صفته، وَقَوله: (وضوء الْمُسلم) خَبره. وَقد ذكرنَا عَن قريب معنى: الصَّعِيد الطّيب. قَوْله: (يَكْفِيهِ) أَي: يجْزِيه ويغنيه عَن المَاء عِنْد عَدمه حَقِيقَة أَو حكما، وَمثل هَذِه التَّرْجَمَة روى الْبَزَّار من طَرِيق هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَصَححهُ ابْن الْقطَّان. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب إرْسَاله، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي قلَابَة عَن عَمْرو بن بجدان عَن أبي ذَر: (اجْتمعت غنيمَة عِنْد رَسُول ا) الحَدِيث، وَفِيه، فَقَالَ: (الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَلَو إِلَى عشر سِنِين) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى تَضْعِيف ابْن الْقطَّان لهَذَا الحَدِيث بِعَمْرو بن بجدان لكَون حَاله لَا يعرف، وَيَكْفِي تَصْحِيح التِّرْمِذِيّ إِيَّاه فِي معرفَة حَال عَمْرو بن بجدان، وبجدان، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْجِيم بعْدهَا دَال مُهْملَة وَفِي آخِره نون. قَوْله: (وَلَو إِلَى عشر سِنِين) المُرَاد بهَا الْكَثْرَة لَا الْعشْرَة، وَتَخْصِيص الْعشْرَة لأجل الْكَثْرَة لِأَنَّهَا مُنْتَهى عدد الْآحَاد. وَالْمعْنَى: أَن لَهُ أَن يفعل التَّيَمُّم مرّة بعد أُخْرَى، وَإِن بلغت مُدَّة عدم المَاء إِلَى عشر سِنِين، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: أَن التَّيَمُّم دفْعَة وَاحِدَة يَكْفِيهِ عشر سِنِين.
وقالَ الحَسَنُ يُجْزِئُهُ التَّيَمُمُ مَا لمْ يُحْدِثْ.
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَكْفِيهِ التَّيَمُّم الْوَاحِد مَا لم يحدث، أَي: مُدَّة عدم الْحَدث. قَوْله: (يُجزئهُ) ، بِضَم الْيَاء وبالهمزة فِي آخِره من: الْإِجْزَاء، وَهُوَ لُغَة: الْكِفَايَة، وَاصْطِلَاحا: الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، ويروى: (يجْزِيه) ، بِفَتْح الْيَاء الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جزأت بالشَّيْء اكتفيت بِهِ، وجزى عني هَذَا، أَي: قضى فَهُوَ على التَّقْدِيرَيْنِ لَازم، فَلَعَلَّ التَّقْدِير:(4/23)
يقْضِي عَن المَاء التَّيَمُّم، فَحذف الْجَار وأوصل الْفِعْل، وَالْقَصْد أَن التَّيَمُّم حكمه حكم الْوضُوء فِي جَوَاز أَدَاء الْفَرَائِض المتعددة بِهِ والنوافل مَا لم يحدث بِأحد الحدثين، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث وَالْحسن بن حييّ وَدَاوُد بن عَليّ، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اتعالى عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَيَمَّم لكل صَلَاة فرض، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَشريك وَاللَّيْث وَأبي ثَوْر، وَذكره الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس من طرق ضَعِيفَة، وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن عَمْرو بن الْعَاصِ والْحَارث عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَعند الْحَاكِم مصححاً من حَدِيث أبي ذَر، وَقد طول الْكرْمَانِي فِي الِاحْتِجَاج للشَّافِعِيّ وَمن تبعه فِي هَذَا من طَرِيق الْعقل وَالنَّقْل يُبطلهُ، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر عَن الْحسن مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة: حدّثنا هشيم عَن يُونُس عَن الْحسن. قَالَ: (لَا ينْقض التَّيَمُّم إلاَّ الْحَدث) ، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم وَعَطَاء، وَوَصله أَيْضا عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه: (يجزىء تيَمّم وَاحِد مَا لم يحدث) . وَوَصله أَبُو مَنْصُور أَيْضا، وَلَفظه: (التَّيَمُّم بِمَنْزِلَة الْوضُوء، إِذا تَوَضَّأت فَأَنت على وضوء حَتَّى تحدث) . وَقَالَ ابْن حزم: وروينا عَن حَمَّاد بن سَلمَة، يَعْنِي من (مُصَنفه) عَن يُونُس بن عبيد عَن الْحسن، قَالَ: (يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِتَيَمُّم وَاحِد، مثل الْوضُوء، مَا لم بِحَدَث) .
وَأَمَّ ابنَ عَبَّاسٍ وهْوَ مُتَيَمِّمٌ.
50
- 50 هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن بِي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح.
ثمَّ وَجه مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّيَمُّم وضوء الْمُسلم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تجوز إِمَامَة الْمُتَيَمم للمتوضىء كإمامة المتوضىء، فَدلَّ ذَلِك على أَن التَّيَمُّم طَهَارَة مُطلقَة غير ضَرُورِيَّة، إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لَكَانَ ضَعِيفا، وَلَو كَانَ ضَعِيفا لما أم ابْن عَبَّاس وَهُوَ متيمم بِمن كَانَ متوضئاً، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يجوز، وَبِه قَالَ الْحسن بن حييّ، وَكره مَالك وَعبد ابْن الْحسن ذَلِك، فَإِن فعل أَجزَأَهُ. وَقَالَ ربيعَة: لَا يؤم الْمُتَيَمم من جنابته إلاَّ من هُوَ مثله، وَبِه قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يؤمهم إلاَّ إِذا كَانَ أَمِيرا، كَذَا قَالَه ابْن حزم. وَقَالَ أَبُو طَالب: سَأَلت أَبَا عبد اعن الْجنب يؤم المتوضئين؟ قَالَ: نعم قد أمَّ ابْن عَبَّاس أَصْحَابه وَفِيهِمْ عمار بن يَاسر وَهُوَ جنب، فَتَيَمم، وَعَمْرو بن الْعَاصِ صلى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ جنب، فَأخْبر النَّبِي فَتَبَسَّمَ. قلت: حسان بن عَطِيَّة سمع من عَمْرو بن الْعَاصِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِن يقوى بِحَدِيث ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب مَوْقُوفا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين، وَلَا الْمُقَيد المطلقين) . قلت: هَذَانِ حديثان ضعيفان، ضعفهما الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن حزم وَغَيرهمَا. فَإِن قلت: ذكر أَبُو حَفْص بن شاهين فِي كتاب النَّاسِخ والمنسوخ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب، عَن عمر بن الْخطاب، مَرْفُوعا: (لَا يؤم الْمُتَيَمم المتوضئين) . قلت: لما ذكره ابْن شاهين ذكر بعده حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ، ثمَّ قَالَ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث نَاسِخا للْأولِ، وَهَذَا الحَدِيث أَجود إِسْنَادًا من حَدِيث الزُّهْرِيّ، وَإِن صَحَّ فَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي فِي ذَلِك لضَرُورَة وَقعت مَعَ وجود المَاء. فَإِن قلت: يكون هَذَا رخصه لعَمْرو إِذْ لم يَنْهَهُ وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ. قلت: لَو كَانَ رخصَة لَهُ دون غَيره لم يقل لَهُ؛ أَحْسَنت وَضحك فِي وَجهه، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْمَسْأَلَة وَافق فِيهَا الْكُوفِيُّونَ وَالْجُمْهُور على خلاف ذَلِك. قلت: هَذَا عكس الْقَضِيَّة، بل الْجُمْهُور على الْمُوَافقَة، يقف عَلَيْهِ من يمعن النّظر فِي الْكتب. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتج المُصَنّف لعدم الْوُجُوب بِعُمُوم قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: مَا لم تحدث أَو تَجِد المَاء، وَحمله الْجُمْهُور على أَعم من ذَلِك، أَي: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل. انْتهى. قلت: معنى قَوْله: (فَإِنَّهُ يَكْفِيك) أَي: فِي كل الصَّلَوَات فَرضهَا ونفلها، وَهَذَا هُوَ معنى الأعمية، وَلَيْسَ فِي قَوْله: لفريضة وَاحِدَة وَمَا شِئْت من النَّوَافِل معنى الأعمية، لِأَن معنى الأعمية فِي شَيْء أَن يكون شَامِلًا لجَمِيع أَفْرَاد ذَلِك الشَّيْء، وَلَيْسَ لقَوْله: لفريضة وَاحِدَة، إِفْرَاد. وَأما النَّفْل فَإِنَّهُ تبع للْفَرض، وَالتَّابِع لَيْسَ لَهُ حكم مُسْتَقْبل بل، حكمه حكم الْمَتْبُوع. فَافْهَم.
وقالَ يَحْيَى بنُ سعِيدٍ لاَ بأسَ بالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيمُّمِ بِهَا.
يحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ، ومطابقة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن معنى الطّيب الطَّاهِر والسبخة طَاهِرَة، فَتدخل تَحت الطّيب. وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، فِي شَأْن الْهِجْرَة، أَنه قَالَ: (أَرَأَيْت دَار(4/24)
هجرتكم سبخَة ذَات نخيل) يَعْنِي الْمَدِينَة، قَالَ: وَقد سمى النَّبِي الْمَدِينَة طيبَة فَدلَّ على أَن السبخة دَاخِلَة فِي الطّيب، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَلم يجوز التَّيَمُّم بهَا، والسبخة بِفَتْح حروفها كلهَا، وَاحِدَة السباخ. فَإِذا قلت: أَرض سبخَة، كسرت الْبَاء. وَقَالَ ابْن سَيّده: هِيَ أَرض ذَات ملح ونزو، وَجَمعهَا: سباخ، وَقد سبخت سبخاً فَهِيَ سبخَة، وأسبخت. وَقَالَ غَيره: هِيَ أَرض تعلوها ملوحة لَا تكَاد تنْبت إِلَّا بعض الشّجر. وَفِي (الباهر) لِابْنِ عديس: سبخت، بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لعبد الْملك بن حبيب: السبخة: الأَرْض المالحة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَلَيْسَت الردغة وَلَا الرداغ كَمَا يَقُول من لَا يعرف.
10 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنِي يحيى بن سعيد قَالَ حَدثنَا عَوْف قَالَ حَدثنَا أَبُو رَجَاء عَن عمرَان قَالَ كُنَّا فِي سفر مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّا أسرينا حَتَّى كُنَّا فِي آخر اللَّيْل وقعنا وقْعَة وَلَا وقْعَة أحلى عِنْد الْمُسَافِر مِنْهَا فَمَا أيقظنا إِلَّا حر الشَّمْس وَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ فلَان ثمَّ فلَان ثمَّ فلَان يسميهم أَبُو رَجَاء فنسي عَوْف ثمَّ عمر بن الْخطاب الرَّابِع وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نَام لم نوقظه حَتَّى يكون هُوَ يَسْتَيْقِظ لأَنا لَا نَدْرِي مَا يحدث لَهُ فِي نَومه فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عمر وَرَأى مَا أصَاب النَّاس وَكَانَ رجلا جليدا فَكبر وَرفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ فَمَا زَالَ يكبر وَيرْفَع صَوته بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ لصوته النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شكوا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُم قَالَ لَا ضير أَو لَا يضير ارتحلوا فارتحلوا فَسَار غير بعيد ثمَّ نزل فَدَعَا بِالْوضُوءِ فَتَوَضَّأ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فصلى بِالنَّاسِ فَلَمَّا انْفَتَلَ من صلَاته إِذا هُوَ بِرَجُل معتزل لم يصل مَعَ الْقَوْم قَالَ مَا مَنعك يَا فلَان أَن تصلي مَعَ الْقَوْم قَالَ أصابتني جَنَابَة وَلَا مَاء قَالَ عَلَيْك بالصعيد فَإِنَّهُ يَكْفِيك ثمَّ سَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاشتكى إِلَيْهِ النَّاس من الْعَطش فَنزل فَدَعَا فلَانا كَانَ يُسَمِّيه أَبُو رَجَاء نَسيَه عَوْف ودعا عليا فَقَالَ اذْهَبَا فابتغيا المَاء فَانْطَلقَا فتلقيا امْرَأَة بَين مزادتين أَو سطيحتين من مَاء على بعير لَهَا فَقَالَا لَهَا أَيْن المَاء قَالَت عهدي بِالْمَاءِ أمس هَذِه السَّاعَة ونفرنا خلوفا قَالَا لَهَا انطلقي إِذا قَالَت إِلَى أَيْن قَالَا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء قَالَا هُوَ الَّذِي تعنين فانطلقي فجاآ بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحدثاه الحَدِيث قَالَ فاستنزلوها عَن بَعِيرهَا ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِنَاء ففرغ فِيهِ من أَفْوَاه المزادتين أَو السطيحتين وأوكأ أفواههما وَأطلق العزالي وَنُودِيَ فِي النَّاس اسقوا واستقوا فسقى من شَاءَ واستقى من شَاءَ وَكَانَ آخر ذَاك أَن أعْطى الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة إِنَاء من مَاء قَالَ اذْهَبْ فأفرغه عَلَيْك وَهِي قَائِمَة تنظر إِلَى مَا يفعل بِمَائِهَا وَايْم الله لقد أقلع عَنْهَا وَإنَّهُ ليُخَيل إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشد ملأة مِنْهَا حِين ابْتَدَأَ فِيهَا فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْمَعُوا لَهَا فَجمعُوا لَهَا من بَين عَجْوَة ودقيقة وسويقة حَتَّى جمعُوا لَهَا طَعَاما فجعلوها فِي ثوب وَحملُوهَا على بَعِيرهَا وَوَضَعُوا الثَّوْب بَين يَديهَا قَالَ لَهَا تعلمين مَا رزئنا من مائك شَيْئا وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي أسقانا فَأَتَت أَهلهَا وَقد احْتبست عَنْهُم قَالُوا مَا حَبسك يَا فُلَانَة قَالَت الْعجب لَقِيَنِي رجلَانِ فذهبا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء فَفعل كَذَا وَكَذَا فوَاللَّه إِنَّه لأسحر النَّاس من بَين هَذِه وَهَذِه(4/25)
وَقَالَت باصبعيها الْوُسْطَى والسبابة فرفعتهما إِلَى السَّمَاء تَعْنِي السَّمَاء وَالْأَرْض أَو إِنَّه لرَسُول الله حَقًا فَكَانَ الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك يغيرون على من حولهَا من الْمُشْركين وَلَا يصيبون الصرم الَّذِي هِيَ مِنْهُ فَقَالَت يَوْمًا لقومها مَا أرِي أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم يدعونكم عمدا فَهَل لكم فِي الْإِسْلَام فأطاعوها فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَام) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " عَلَيْك بالصعيد فَإِنَّهُ يَكْفِيك ". (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول مُسَدّد بن مسرهد تقدم الثَّانِي يحيى بن سعيد الْقطَّان قَالَ بنْدَار مَا أَظن أَنه عصى الله تَعَالَى قطّ قد تقدم الثَّالِث عَوْف الْأَعرَابِي يُقَال لَهُ عَوْف الصدوق تقدم فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان الرَّابِع أَبُو رَجَاء بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْجِيم وبالمد العطاردي اسْمه عمرَان بن ملْحَان بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة قَالَ البُخَارِيّ الْأَصَح أَنه ابْن تيم أدْرك زمَان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يره وَأسلم بعد الْفَتْح وأتى عَلَيْهِ مائَة وَعِشْرُونَ سنة مَاتَ فِي سنة بضع وَمِائَة. الْخَامِس عمرَان بن حُصَيْن بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمُهْملَة أَيْضا أسلم عَام خَيْبَر وَرُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مائَة حَدِيث وَثَمَانُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ مِنْهَا اثنى عشر بَعثه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى الْبَصْرَة ليفقههم وَكَانَت الْمَلَائِكَة تسلم عَلَيْهِ وَكَانَ قَاضِيا بِالْبَصْرَةِ وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل وَفِيه حَدثنَا يحيى وَفِي بعض النّسخ حَدثنِي يحيى وَفِيه مُسَدّد بن مسرهد فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره مُسَدّد بِذكرِهِ وَحده وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن أبي الْوَلِيد عَن سلم بن زرير وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ وَعَن اسحق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان " نمنا عَن صَلَاة الْفجْر حَتَّى طلعت الشَّمْس فَأمر الْمُؤَذّن فَأذن ثمَّ صلى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ الْمُؤَذّن فصلى الْفجْر " وَقَالَ صَحِيح على مَا قدمنَا ذكره فِي صِحَة سَماع الْحسن عَن عمرَان وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن عَنهُ " فصلى رَكْعَتي الْفجْر حَتَّى إِذا أمكننا الصَّلَاة صلينَا " وَعند أَحْمد " فَلَمَّا كَانَ آخر اللَّيْل عرس فَلم نستيقظ حَتَّى أيقظنا حر الشَّمْس فَجعل الرجل يقوم دهشا إِلَى طهوره قَالَ فَأَمرهمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يسكنوا ثمَّ ارتحلوا فسرنا حَتَّى إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس تَوَضَّأ ثمَّ أَمر بِلَالًا فَأذن ثمَّ صلى الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر ثمَّ أَقَامَ فصلينا فَقَالُوا يَا رَسُول الله أَلا نعيدها فِي وَقتهَا من الْغَد قَالَ أينهاكم ربكُم تبَارك وَتَعَالَى عَن الرِّبَا ويقبله مِنْكُم " وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا التَّفْرِيط فِي الْيَقَظَة " وَعند ابْن حزم من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم حَدثنَا أَبُو رَجَاء " ثمَّ إِن الْجنب وجد المَاء بعد فَأمره أَن يغْتَسل وَلَا يُعِيد الصَّلَاة " وَعند مُسلم من حَدِيث ابْن شهَاب عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين قفل من غَزْوَة خَيْبَر سَار لَيْلَة حَتَّى إِذا أدْركهُ الْكرَى عرس قَالَ لِبلَال اكلأ لنا اللَّيْل فَلَمَّا تقَارب الْفجْر اسْتندَ بِلَال إِلَى رَاحِلَته فغلبته عَيناهُ فَلم يَسْتَيْقِظ وَلَا أحد من أَصْحَابه حَتَّى ضربتهم الشَّمْس فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوَّلهمْ استيقاظا فَقَالَ أَي بِلَال فَقَالَ بِلَال أَخذ بنفسي الَّذِي أَخذ بِنَفْسِك " وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث أبي قَتَادَة " كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْعَة رَهْط فَمَال عَن الطَّرِيق فَوضع رَأسه ثمَّ قَالَ احْفَظُوا علينا صَلَاتنَا فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالشَّمْس فِي ظَهره وقمنا فزعين " فَذكر حَدِيث الميضأة مطولا " وَإِن النَّاس فقدوا نَبِيّهم فَقَالَ أَبُو بكر وَعمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعدكُم لم يكن ليخلفكم وَقَالَ النَّاس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين أَيْدِيكُم " وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث خَالِد بن سمير عَن عبد الله بن رَبَاح حَدثنَا أَبُو قَتَادَة قَالَ " بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيش الْأُمَرَاء " فَذكره قَالَ أَبُو عمر ابْن عبد الْبر وَقَول خَالِد جَيش الْأُمَرَاء وهم عِنْد الْجَمِيع لِأَن جَيش الْأُمَرَاء كَانَ فِي موتَة وَهِي سَرِيَّة لم يشهدها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ ابْن حزم وَقد خَالف خَالِدا من هُوَ أحفظ مِنْهُ وَعند أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث جَامع بن شَدَّاد سَمِعت عبد الرَّحْمَن ابْن أبي عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود قَالَ " أقبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة لَيْلًا فنزلنا دهاشا من الأَرْض فَقَالَ من يكلأنا فَقَالَ بِلَال أَنا قَالَ إِذا تنام قَالَ لَا فَنَامَ بِلَال حَتَّى طلعت الشَّمْس فَاسْتَيْقَظَ فلَان وَفُلَان فيهم عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ اهضبوا " أَي(4/26)
تكلمُوا " وأمضوا فَاسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الحَدِيث وَذكر أَبُو مُسلم الْكَجِّي فِي كتاب السّنَن عَن عَمْرو بن مَرْزُوق أخبرنَا المَسْعُودِيّ عَن جَامع بِلَفْظ " قَالَ عبد الله لما رَجَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة قَالَ من يحرسنا قَالَ عبد الله فَقلت أَنا قَالَ إِنَّك تنام مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَقَالَ أَنْت فحرست حَتَّى كَانَ فِي وَجه الصُّبْح أدركني مَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنمت " الحَدِيث وَعند الطَّبَرَانِيّ وَأبي دَاوُد بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي " كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَرِيَّة فَتقدم النَّاس فَقَالَ هَل لكم أَن نهجع هجعة فَمن يكلؤ لنا اللَّيْلَة قَالَ ذُو مخبر أَنا فَأعْطَاهُ خطام نَاقَته وَقَالَ لَا تكن لكع قَالَ ذُو مخبر فَانْطَلَقت غير بعيد فأرسلتها مَعَ نَاقَتي ترعيان فغلبني عَيْني فَمَا أيقظني إِلَّا حر الشَّمْس على وَجْهي فَجئْت أدني الْقَوْم فأيقظته وَأَيْقَظَ النَّاس بَعضهم بَعْضًا حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي الْمُوَطَّأ عَن زيد بن أسلم قَالَ " عرس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة بطرِيق مَكَّة شرفها الله ووكل بِلَالًا أَن يوقظهم للصَّلَاة " الحَدِيث وَفِي كتاب عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي سعد بن إِبْرَاهِيم عَن عَطاء بن يسَار أَن التعرس فِي غَزْوَة تَبُوك وَكَذَا ذكره عقبَة بن عَامر قَالَ " خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة تَبُوك فاسترقد لما كَانَ مِنْهَا على لَيْلَة فَاسْتَيْقَظَ حِين كَانَت الشَّمْس قيد رمح فَقَالَ ألم أقل لَك يَا بِلَال " وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب الدَّلَائِل من حَدِيث عبد الله بن مُصعب بن مَنْظُور عَن أَبِيه عَنهُ (ذكر مَعَانِيه ولغاته) قَوْله " كُنَّا فِي سفر مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اخْتلفُوا فِي تعْيين هَذَا السّفر فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه وَقع عِنْد رجوعهم من خَيْبَر وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " أقبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْحُدَيْبِيَة لَيْلًا فَنزل فَقَالَ من يكلؤنا فَقَالَ بِلَال أَنا " وَفِي حَدِيث زيد بن أسلم مُرْسلا أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ " عرس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلًا بطرِيق مَكَّة ووكل بِلَالًا " وَفِي حَدِيث عَطاء بن يسَار مُرْسلا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق أَن ذَلِك كَانَ بطرِيق تَبُوك وَكَذَا فِي حَدِيث عقبَة بن عَامر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة جَيش الْأُمَرَاء وَقد ذكرنَا هَذِه كلهَا عَن قريب قَوْله " إِنَّا أسرينا " وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا سرينا يَعْنِي بِدُونِ الْهمزَة (قلت) يُقَال سرى وَأسرى لُغَتَانِ وَقَالَ الْجَوْهَرِي سريت وأسريت بِمَعْنى إِذا سرت لَيْلًا وَفِي الْمُحكم السرى سير عَامَّة اللَّيْل وَقيل سير اللَّيْل كُله والْحَدِيث يُخَالف هَذَا القَوْل والسرى يذكر وَيُؤَنث وَلم يعرف اللحياني إِلَّا التَّأْنِيث وَقد سرى سرى وسرية وسرية فَهُوَ سَار وَذكر ابْن سَيّده وَقد سرى بِهِ وَأسرى بِهِ وأسراه وَفِي الْجَامِع سرى يسري سريا إِذا سَار لَيْلًا وكل سَائِر لَيْلًا فَهُوَ سَار قَوْله " وقعنا وقْعَة " أَي نمنا نومَة كَأَنَّهُمْ سقطوا عَن الْحَرَكَة قَوْله " وَلَا وقْعَة " كلمة لَا لنفي الْجِنْس ووقعة اسْمه وَقَوله " أحلى " صفة للوقعة وَخبر لَا مَحْذُوف وَيجوز أَن يكون أحلى خَبرا قَوْله " مِنْهَا " أَي من الْوَقْعَة فِي آخر اللَّيْل وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(وَأحلى الْكرَى عِنْد الصَّباح يطيب ... )
قَوْله " وَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ فلَان " اعْلَم أَن كَانَ هَهُنَا يجوز أَن تكون تَامَّة وَأَن تكون نَاقِصَة فَإِن كَانَت نَاقِصَة فَقَوله أول بِالنّصب مقدما خَبَرهَا وَاسْمهَا هُوَ قَوْله فلَان وَإِن كَانَت تَامَّة بِمَعْنى وجد فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر فَقَوله أول يكون اسْمه وَيكون قَوْله فلَان بَدَلا مِنْهُ قَوْله " يسميهم أَبُو رَجَاء " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول أَي يُسمى المستيقظين وَلَيْسَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن قَوْله " اسْتَيْقَظَ " يدل عَلَيْهِ (فَإِن قلت) مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة من الْإِعْرَاب (قلت) الْأَقْرَب أَن تكون حَالا وَهَذِه الْجُمْلَة وَالَّتِي بعْدهَا وَهِي قَوْله " فنسي عَوْف " لَيْسَ من كَلَام عمرَان بن حُصَيْن وَإِنَّمَا هِيَ من كَلَام الرَّاوِي وعَوْف هُوَ عَوْف الْأَعرَابِي الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد وَقَوله " الرَّابِع " مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعمر مَرْفُوع لِأَنَّهُ مَعْطُوف على مَرْفُوع وَهُوَ قَوْله ثمَّ فلَان وَقَالَ بَعضهم وَيجوز نَصبه على خبر كَانَ (قلت) لم يبين هَذَا الْقَائِل أَي كَانَ هَذَا وَالْأَقْرَب أَن يكون مُقَدرا تَقْدِيره ثمَّ كَانَ عمر بن الْخطاب الرَّابِع يَعْنِي من المستيقظين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا هُوَ الرَّابِع وَقد سمى البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة أول من اسْتَيْقَظَ وَلَفظه " فَكَانَ أول من اسْتَيْقَظَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ " فعلى هَذَا فَأَبُو بكر هُوَ أحد المستيقظين من الْأَرْبَعَة أَولا وَالرَّابِع هُوَ عمر بن الْخطاب وَبَقِي اثْنَان من الَّذين عدهم أَبُو رَجَاء ونسيهم عَوْف الْأَعرَابِي وَبَعْضهمْ عين الثَّانِي وَالثَّالِث بِالِاحْتِمَالِ فَقَالَ يشبه أَن يكون الثَّانِي عمرَان رَاوِي الْقِصَّة وَالثَّالِث من شَارك عمرَان فِي رِوَايَة هَذِه الْقِصَّة وَهُوَ ذُو مخبر فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيث عمر بن أُميَّة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ " فَمَا أيقظني إِلَّا حر الشَّمْس " وَهَذَا تصرف بالحدس والتخمين(4/27)
قَوْله " وَكَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نَام لم نوقظه " بنُون الْمُتَكَلّم وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي بعض النّسخ لم يوقظ على صِيغَة الْمَجْهُول الْمُفْرد (فَإِن قلت) هَذَا النّوم فِي هَذِه الْقِصَّة هَل كَانَ مثل نوم غَيره أم لَا (قلت) قد يكون نَومه كنوم الْبشر فِي بعض الْأَوْقَات وَلَكِن لَا يجوز عَلَيْهِ الإضغاث لِأَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم وَحي (فَإِن قلت) مَا تَقول فِي نَومه يَوْم الْوَادي وَقد قَالَ " إِن عَيْني تنامان وَلَا ينَام قلبِي " قلت نعم هَذَا حكم قلبه عِنْد نَومه وَعَيْنَيْهِ فِي غَالب الْأَوْقَات وَقد ينْدر مِنْهُ غير ذَلِك كَمَا ينْدر من غَيره بِخِلَاف عَادَته وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا فِي الحَدِيث نَفسه " إِن الله قبض أَرْوَاحنَا " وَفِي الحَدِيث الآخر " لَو شَاءَ الله لأيقظنا " وَلَكِن أَرَادَ أَن يكون لمن بعدكم وَيكون هَذَا مِنْهُ لأمر يُريدهُ الله تَعَالَى من إِثْبَات حكم وَإِظْهَار شرع وَجَوَاب آخر أَن قلبه لَا يستغرقه النّوم حَتَّى يكون مِنْهُ الْحَدث فِيهِ لما رُوِيَ أَنه كَانَ محروسا وَأَنه كَانَ ينَام حَتَّى ينْفخ وَحَتَّى يسمع غَطِيطه ثمَّ يُصَلِّي وَلَا يتَوَضَّأ (فَإِن قلت) فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي وضوءه عِنْد قِيَامه من النّوم (قلت) النّوم فِيهِ نَومه مَعَ أَهله فَلَا يُمكن الِاحْتِجَاج بِهِ على وضوئِهِ بِمُجَرَّد النّوم إِذا صلى ذَلِك لملامسته الْأَهْل أَو حدث آخر أَلا ترى فِي آخر الحَدِيث " نَام حَتَّى سَمِعت غَطِيطه ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فصلى وَلم يتَوَضَّأ " وَقيل لَا ينَام قلبه من أجل الْوَحْي وَأَنه يُوحى إِلَيْهِ فِي النّوم وَلَيْسَ فِي قصَّة الْوَادي إِلَّا نوم عَيْنَيْهِ عَن رُؤْيَة الشَّمْس وَلَيْسَ هَذَا من فعل الْقلب وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِن الله قبض أَرْوَاحنَا وَلَو شَاءَ لردها إِلَيْنَا " فِي حِين غير هَذَا (فَإِن قلت) فلولا عَادَته من استغراق النّوم لما قَالَ لِبلَال اكلأ لنا الصُّبْح (قلت) كَانَ من شَأْنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التغليس بالصبح ومراعاة أول الْفجْر وَلَا يَصح هَذَا مِمَّن نَامَتْ عينه إِذا هُوَ ظَاهر يدْرك بالجوارح الظَّاهِرَة فَوكل بِلَال بمراعاة أَوله ليعلمه بذلك كَمَا لَو شغل بشغل غير النّوم عَن مراعاته (فَإِن قلت) هَل كَانَ نومهم عَن صَلَاة الصُّبْح مرّة أَو أَكثر (قلت) قد جزم الْأصيلِيّ بِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة ورد عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض بِأَن قصَّة أبي قَتَادَة مُغَايرَة لقصة عمرَان بن حُصَيْن لِأَن فِي قصى أبي قَتَادَة لم يكن أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نَام وَفِي قصَّة عمرَان أَن أول من اسْتَيْقَظَ أَبُو بكر وَلم يَسْتَيْقِظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أيقظه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمن الَّذِي يدل على تعدد الْقِصَّة اخْتِلَاف مواطنها كَمَا ذَكرنَاهَا وَلَقَد تكلّف أَبُو عمر فِي الْجمع بَينهمَا بقوله أَن زمَان رجوعهم كَانَ قَرِيبا من زمَان رجوعهم من الْحُدَيْبِيَة وَأَن طَرِيق مَكَّة يصدق عَلَيْهِمَا وَفِيه تعسف على أَن رِوَايَة عبد الرَّزَّاق بِتَعْيِين غَزْوَة تَبُوك يرد عَلَيْهِ ثمَّ أَن أَبَا عمر زعم أَن نوم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مرّة وَاحِدَة وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ ثَلَاث مَرَّات إِحْدَاهَا رِوَايَة أبي قَتَادَة وَلم يحضرها أَبُو بكر وَعمر الثَّانِيَة حَدِيث عمرَان وحضراها وَالثَّالِثَة حضرها أَبُو بكر وبلال وَقَالَ عِيَاض حَدِيث أبي قَتَادَة غير حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَكَذَلِكَ حَدِيث عمرَان وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ أَنه قد روى أَن ذَلِك كَانَ زمن الْحُدَيْبِيَة وَفِي رِوَايَة بطرِيق مَكَّة وَالْحُدَيْبِيَة كَانَت فِي السّنة السَّادِسَة وَإِسْلَام عمرَان وَأبي هُرَيْرَة الرَّاوِي حَدِيث قفوله من خَيْبَر كَانَ فِي السّنة السَّابِعَة بعد الْحُدَيْبِيَة وهما كَانَا حاضرين الْوَاقِعَة (قلت) فِيهِ نظر لِأَن إِسْلَام عمرَان كَانَ بِمَكَّة ذكره أَبُو مَنْصُور الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَقَالَ ابْن سعد وَأَبُو أَحْمد العسكري وَالطَّبَرَانِيّ فِي آخَرين كَانَ إِسْلَامه قَدِيما قَوْله " مَا يحدث لَهُ " بِضَم الدَّال من الْحُدُوث أَي مَا يحدث لَهُ من الْوَحْي وَكَانُوا يخَافُونَ انْقِطَاعه بالإيقاظ قَوْله " مَا أصَاب النَّاس " أَي من فَوَات صَلَاة الصُّبْح وكونهم على غير مَاء قَوْله " فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عمر " جَوَاب لما مَحْذُوف تَقْدِيره فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ كبر وَقَوله " فَكبر " يدل عَلَيْهِ قَوْله " جليدا " بِفَتْح الْجِيم من جلد الرجل بِالضَّمِّ فَهُوَ جلد وجليد أَي بَين الجلادة بِمَعْنى الْقُوَّة والصلابة وَزَاد مُسلم هُنَا " أجوف " أَي رفيع الصَّوْت يخرج صَوته من جَوْفه قَوْله " فَكبر " أَي عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَإِنَّمَا رفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ لمعنيين أَحدهمَا أَن اسْتِعْمَال التَّكْبِير لسلوك طَرِيق الْأَدَب وَالْجمع بَين المصلحتين وَالْآخر اخْتِصَاص لفظ التَّكْبِير لِأَنَّهُ أصل الدُّعَاء إِلَى الصَّلَاة قَوْله " حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فالنبي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل اسْتَيْقَظَ وَهُوَ لَازم بِمَعْنى تيقظ قَوْله " لصوته " أَي لأجل صَوته ويروى " بِصَوْتِهِ " أَي بِسَبَب صَوته قَوْله " قَالَ لَا ضير " ويروى " فَقَالَ لَا ضير " أَي لَا ضَرَر من ضارة يضوره ويضيره ضورا وضيرا أَي ضره قَالَ الْكسَائي سَمِعت بَعضهم يَقُول لَا ينعني ذَلِك وَلَا يضورني قَوْله " أَو لَا يضير " شكّ من عَوْف الْأَعرَابِي وَقد صرح بذلك الْبَيْهَقِيّ فِي رِوَايَته وَلأبي نعيم فِي مستخرجه لَا يسوء وَلَا يضير وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتأنيس قُلُوبهم لما عرض لَهُم من الأسف على فَوَات الصَّلَاة من وَقتهَا لأَنهم لم يتعمدوا ذَلِك قَوْله " ارتحلوا " بِصِيغَة الْأَمر(4/28)
للْجَمَاعَة المخاطبين من الصَّحَابَة قَوْله " فارتحلوا " بِصِيغَة الْجمع من الْمَاضِي أَي ارتحلوا عقيب أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك ويروى " فارتحل " أَي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَإِن قلت) مَا كَانَ السَّبَب فِي أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالارتحال من ذَلِك الْمَكَان (قلت) بَين ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة " فَإِن هَذَا منزل حضر فِيهِ الشَّيْطَان " وَقيل كَانَ ذَلِك لأجل الْغَفْلَة وَقيل لكَون ذَلِك وَقت الْكَرَاهَة وَفِيه نظر لِأَن فِي حَدِيث الْبَاب " لم يستيقظوا حَتَّى وجدوا حر الشَّمْس " وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد أَن يذهب وَقت الْكَرَاهَة وَقيل الْأَمر بذلك مَنْسُوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " وَفِيه نظر لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة والقصة بعد الْهِجْرَة قَوْله " فَسَار غير بعيد " يدل على أَن الارتحال الْمَذْكُور وَقع على خلاف سيرهم الْمُعْتَاد قَوْله " فَدَعَا بِالْوضُوءِ " بِفَتْح الْوَاو وَقَوله " وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ " المُرَاد من النداء هُوَ التأذين لِأَنَّهُ صرح فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي قَتَادَة التَّصْرِيح بِالتَّأْذِينِ قَوْله " إِذا هُوَ بِرَجُل " لم يعلم اسْمه وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح هُوَ خَلاد بن رَافع بن مَالك الْأنْصَارِيّ أَخُو رِفَاعَة وَفِيه نظر لِأَن ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ هُوَ شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم إِذْ فوقعة الْبَدْر مُقَدّمَة على هَذِه الْقِصَّة فاستحال أَن يكون هُوَ إِيَّاه وَقيل لَهُ رِوَايَة فَإِذا صَحَّ هَذَا يكون قد عَاشَ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) لَا يلْزم من رِوَايَته عيشه بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لاحْتِمَال انقطاعها أَو نقلهَا صَحَابِيّ آخر قَوْله " معتزل " أَي مُنْفَرد عَن النَّاس قَوْله " وَلَا مَاء " قَالَ بَعضهم بِفَتْح الْهمزَة أَي معي (قلت) تَفْسِيره تَفْسِير من لم يمس شَيْئا من علم الْعَرَبيَّة لِأَن كلمة لَا على قَوْله لنفي جنس المَاء فَأَي شَيْء يقدر خَبَرهَا بقوله معي وَعدم المَاء عِنْده لَا يسْتَلْزم عَدمه عِنْد غَيره فَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَقِيم نفي جنس المَاء وَيجوز أَن تكون لَا هَهُنَا بِمَعْنى لَيْسَ فيرتفع المَاء حِينَئِذٍ وَيكون الْمَعْنى لَيْسَ مَاء عِنْدِي قَوْله " عَلَيْك بالصعيد " كلمة عَلَيْك من أَسمَاء الْأَفْعَال وَمَعْنَاهُ الزم وَالْألف وَاللَّام فِي الصَّعِيد للْعهد الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَفِي رِوَايَة سلم بن زرير " فَأمره أَن يتَيَمَّم بالصعيد ": (قلت) سلم بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام وزرير بِفَتْح الزَّاي الْمُعْجَمَة وبراءين مهملتين بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف أَولهمَا مَقْصُورَة قَوْله " يَكْفِيك " أَي لإباحة الصَّلَاة وَالْمعْنَى يَكْفِيك للصَّلَاة مَا لم تحدث قَوْله " فاشتكى النَّاس إِلَيْهِ " أَي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويروى " فاشتكوا النَّاس " من قبيل أكلوني البراغيث قَوْله " فَدَعَا فلَان " هُوَ عمرَان بن الْحصين رَاوِي الحَدِيث وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي رِوَايَة ابْن زرير " ثمَّ عجلني النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ركب بَين يَدَيْهِ فَطلب المَاء " وَهَذِه الرِّوَايَة تدل على أَنه كَانَ هُوَ وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَط لِأَنَّهُمَا خوطبا بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَهُوَ قَوْله " اذْهَبَا فابتغيا المَاء " (فَإِن قلت) فِي رِوَايَة ابْن زرير فِي ركب فَهَذَا يدل على الْجَمَاعَة (قلت) يحْتَمل أَن يكون مَعَهُمَا غَيرهمَا ولكنهما خصا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمَا تعينا مقصودين بِالْإِرْسَال قَوْله " فابتغيا " من الابتغاء وَهُوَ الطّلب يُقَال بغيت الشَّيْء وابتغيته وتبغيته إِذا طلبته وابتغيتك الشَّيْء جعلتك طَالبا لَهُ وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " فابغيا " وَلأَحْمَد " فابغيانا " قَوْله " فتلقيا " ويروى " فلقيا " قَوْله " بَين مزادتين " المزادة بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الزَّاي الراوية وَيجمع على مزاد ومزائد وَسميت مزادة لِأَنَّهَا يُزَاد فِيهَا جلد آخر من غَيرهَا وَلِهَذَا قيل أَنَّهَا أكبر من الْقرْبَة وَتسَمى أَيْضا السطيحة بِفَتْح السِّين وَكسر الطَّاء وَقَالَ ابْن سَيّده السطيحة المزادة الَّتِي بَين الأديمين قوبل أَحدهمَا بِالْآخرِ وَفِي الْجَامِع هِيَ إداوة تتَّخذ من جلدين وَهِي أكبر من الْقرْبَة قَوْله " أَو سطيحتين " شكّ من الرَّاوِي وَقَالَ بَعضهم شكّ من عَوْف (قلت) تَعْيِينه بِهِ من أَيْن وَفِي رِوَايَة مُسلم " فَإِذا نَحن بإمرأة سادلة " أَي مدلية رِجْلَيْهَا بَين مزادتين قَوْله " أمس " هُوَ عِنْد الْحِجَازِيِّينَ مَبْنِيّ على الْكسر ومعرب غير منصرف للعدل والعلمية عِنْد التميميين فعلى هَذَا هُوَ بِضَم السِّين (فَإِن قلت) مَا موقعه من الْإِعْرَاب (قلت) مَرْفُوع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قَوْله " عهدي " قَوْله " هَذِه السَّاعَة " مَنْصُوب بالظرفية وَقَالَ ابْن مَالك أَصله فِي مثل هَذِه السَّاعَة فَحذف الْمُضَاف وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه قَوْله " ونفرنا " وَفِي الْمُحكم النَّفر والنفر والنفير والنفور مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال وَالْجمع أَنْفَار وَفِي الواعي النَّفر مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَالْعرب تَقول هَؤُلَاءِ نفرك أَي رهطك ورجالك الَّذين أَنْت مَعَهم وَهَؤُلَاء عشرَة نفر أَي عشرَة رجال وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا تَقول الْعَرَب جَاءَنَا فِي نفره ونفيره ونفرته كلهَا بِمَعْنى سموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم وَقَالَ الْخطابِيّ لَا وَاحِد قَوْله " خلوف " بِضَم الْخَاء جمع الخالف أَي الْمُسَافِر نَحْو شَاهد وشهود وَيُقَال حَيّ خلوف أَي غيب وَقَالَ ابْن عَرَفَة الْحَيّ خلوف أَي خرج الرِّجَال وَبقيت(4/29)
النِّسَاء وَقَالَ الْخطابِيّ هم الَّذين خَرجُوا للأسفار وخلفوا النِّسَاء والأثقال وارتفاع خلوف على أَنه خبر وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي " خلوفا " بِالنّصب وَقَالَ الْكرْمَانِي أَي كَانَ نفرنا خلوفا وَقَالَ بَعضهم مَنْصُوب على الْحَال السَّادة مسد الْخَبَر (قلت) مَا الْخَبَر هُنَا حَتَّى تسد الْحَال مسده وَالْأَوْجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَنه مَنْصُوب بكان الْمُقدر قَوْله " الصابىء " بِالْهَمْزَةِ وبغيرها فَالْأول من صَبأ إِذا خرج من دين إِلَى دين وَالثَّانِي من صبا يصبو إِذا مَال وسنوسع الْكَلَام فِيهِ عِنْد تَفْسِير البُخَارِيّ فِي آخر هَذَا الحَدِيث قَوْله " تعنين " أَي تريدين من عَنى يَعْنِي إِذا قصد قَوْله " قَالَا هُوَ الَّذِي تعنين " فِيهِ حسن الْأَدَب وَحسن التَّخَلُّص إِذْ لَو قَالَا لَا لفات الْمَقْصُود وَلَو قَالَا نعم لم يحسن ذَلِك لِأَن فِيهِ تَقْرِير ذَلِك قَوْله " فاستنزلوها " من الاستنزال وَهُوَ طلب النُّزُول وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ بِلَفْظ الْجمع لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ عمرَان وَعلي من تبعهما مِمَّن يعينهما ويخدمهما قَوْله " ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيهِ حذف تَقْدِيره فَأتوا بهَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأحضروها بَين يَدَيْهِ ودعا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " ففرغ " من التفريغ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " فأفرغ " من الإفراغ وَزَاد الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ " فَمَضْمض فِي المَاء وَأَعَادَهُ فِي أَفْوَاه المزادتين " وبهذه الزِّيَادَة تظهر الْحِكْمَة فِي ربط الأفواه بعد فتحهَا وَبِهَذَا حصلت الْبركَة لاختلاط رِيقه الْمُبَارك للْمَاء والأفواه جمع فَم لِأَن أَصله فوه فحذفوا الْوَاو لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل التَّنْوِين عِنْد الْأَفْرَاد وعوضوا من الْهَاء ميما (فَإِن قلت) لكل مزادة فَم وَاحِد فَكيف جمع (قلت) هَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} قَوْله " وأوكأ " أَي شدّ وَهُوَ فعل مَاض من الإيكاء وَهُوَ شدّ الوكاء وَهُوَ مَا يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة " وَأطلق العزالي " أَي فتحهَا وَهُوَ جمع العزلاء بِفَتْح الْعين وبالمد وَهُوَ فَم المزادة الْأَسْفَل قَالَ الْجَوْهَرِي العزالي بِكَسْر اللَّام وَإِن شِئْت فتحت مثل الصحارى والصحاري وَيُقَال العزلاء منصب المَاء من الراوية والقربة وَفِي الْجَامِع عزلاء الْقرْبَة مصب يَجْعَل فِي أحد يَديهَا ليستفرغ مِنْهُ مَا فِيهَا وَإِنَّمَا سميت عزالي السَّحَاب تَشْبِيها بهَا وَقَالَ السفاقسي روينَاهُ بِالْفَتْح وَهُوَ أَفْوَاه المزادة السُّفْلى وَقَالَ الدَّاودِيّ العزالي الجوانب الْخَارِجَة لرجلي الزق الَّذِي يُرْسل مِنْهَا المَاء وَقَالَ الدَّاودِيّ لَيْسَ فِي أَكثر الرِّوَايَات أَنهم فتحُوا أَفْوَاه المزادتين أَو السطيحتين وَلَا أَنهم أطْلقُوا العزالي وَإِنَّمَا شَقوا المزادتين وَهُوَ معنى صبوا مِنْهُمَا قَالَ ثمَّ أَعَادَهُ فيهمَا إِن كَانَ هُوَ الْمَحْفُوظ قَوْله " اسقوا واستقوا " كل مِنْهُمَا أَمر فَالْأول من السَّقْي وَالثَّانِي من الاستقاء وَالْفرق بَينهمَا أَن السَّقْي لغيره والاستقاء لنَفسِهِ وَيُقَال أَيْضا سقيته لنَفسِهِ وأسقيته لماشيته قَوْله " وَكَانَ آخر ذَلِك أَن أعْطى " يجوز فِي آخر النصب وَالرَّفْع أما النصب على أَنه خبر كَانَ مقدما على اسْمهَا وَهُوَ أَن أعطي لِأَن أَن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره وَكَانَ إِعْطَاؤُهُ للرجل الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة آخر ذَلِك ويروي ذَاك وَأما الرّفْع فَظَاهر وَهُوَ أَن يكون اسْم كَانَ وَإِن أعْطى خَبره والأمران جائزان وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء وَالْأولَى أولى (قلت) وَجه الْأَوْلَوِيَّة لكَون آخر مُضَافا إِلَى الْمعرفَة فَهُوَ أولى بالاسمية وَعِنْدِي كِلَاهُمَا سَوَاء لِأَن كلا معرفَة قَوْله " الَّذِي أَصَابَته الْجَنَابَة " وَهُوَ الرجل المعتزل الْمَذْكُور قَوْله " فأفرغه " بِقطع الْهمزَة قَوْله " وَهِي قَائِمَة " أَي الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة قَائِمَة تشاهد ذَلِك وَهِي جملَة اسمية وَقعت حَالا على الأَصْل قَوْله " وَايْم الله " بوصل الْهمزَة وَقَالَ الْجَوْهَرِي أَيمن الله اسْم وضع للقسم هَكَذَا بِضَم الْمِيم وَالنُّون وألفه ألف الْوَصْل عِنْد الْأَكْثَرين وَلم يَجِيء فِي الْأَسْمَاء ألف وصل مَفْتُوحَة غَيرهَا وَهُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مَحْذُوف وَالتَّقْدِير أَيمن الله قسمي وَرُبمَا حذفوا مِنْهُ النُّون فَقَالُوا ايم الله وَقَالَ أَبُو عبيد كَانُوا يحلفُونَ وَيَقُولُونَ يَمِين الله لَا أفعل فَجمع الْيَمين على أَيمن ثمَّ كثر فِي كَلَامهم فحذفوا النُّون مِنْهُ وألفه ألف قطع وَهُوَ جمع وَإِنَّمَا طرحت الْهمزَة فِي الْوَصْل لِكَثْرَة استعمالهم إِيَّاهَا (قلت) فِيهَا لُغَات جمع مِنْهَا النَّوَوِيّ فِي تهذيبه سبع عشرَة وَبلغ بهَا غَيره عشْرين قَوْله " أقلع " بِضَم الْهمزَة من الإقلاع يُقَال أقلع عَن الْأَمر إِذا كف عَنهُ قَوْله " أَشد ملأة " بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَسُكُون اللَّام بعْدهَا همزَة مَفْتُوحَة وَفِي رِوَايَة للبيهقي " املأ مِنْهَا " مَعْنَاهُ أَنهم يظنون أَن مَا بَقِي فِيهَا من المَاء أَكثر مِمَّا كَانَ أَولا قَوْله " من بَين عَجْوَة " الْعَجْوَة تمر من أَجود التَّمْر بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْن التِّين الْعَجْوَة نوع من تمر الْمَدِينَة أكبر من الصيحاني وَتسَمى اللينة وَهِي من أَجود تمر الْمَدِينَة قَوْله " ودقيقة وسويقة " بِفَتْح أَولهمَا وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بِضَم الدَّال مُصَغرًا وَقَالَ الْكرْمَانِي دقيقة وسويقة رويا مكبرين ومصغرين قَوْله " حَتَّى جمعُوا لَهَا طَعَاما " وَزَاد أَحْمد فِي رِوَايَته " كثيرا " وَالطَّعَام فِي اللُّغَة مَا يُؤْكَل قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَالَ وَرُبمَا خص الطَّعَام بِالْبرِّ وَفِي حَدِيث أبي سعيد كُنَّا نخرج صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير " وَقَالَ بَعضهم فِيهِ إِطْلَاق(4/30)
لفظ الطَّعَام على غير الْحِنْطَة والذرة خلافًا لمن أَبى ذَلِك (قلت) هَذَا القَوْل مِنْهُ يُخَالف قَول أهل اللُّغَة وَالْمرَاد هَهُنَا من الطَّعَام غير مَا ذكر من الْعَجْوَة وَهُوَ أَعم من أَن يكون حِنْطَة أَو شَعِيرًا أَو كعكا أَو نَحْو ذَلِك قَوْله " فجعلوه فِي ثوب " ويروى " فجعلوها " قَالَ الْكرْمَانِي الضَّمِير فِي جَعَلُوهُ يرجع إِلَى الطَّعَام وَفِي جعلوها إِلَى الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة (قلت) لم يَجْعَل الطَّعَام وَحده فِي الثَّوْب حَتَّى يرجع الضَّمِير إِلَيْهِ وَحده وَالصَّوَاب أَن الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى كل وَاحِد بِاعْتِبَار الْمَذْكُور قَوْله " قَالَ لَهَا " ويروى " قَالُوا لَهَا " وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " قَالَ لَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَوجه رِوَايَة الْأصيلِيّ أَنهم قَالُوا لَهَا ذَلِك بأَمْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَحملُوهَا " أَي المزادة قَوْله " بَين يَديهَا " أَي قدامها قَوْله " تعلمين " بِفَتْح التَّاء وَالْعين وَتَشْديد اللَّام كَذَا ضَبطه بَعضهم ثمَّ قَالَ أَي اعلمي (قلت) لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف وَإِنَّمَا هُوَ مُفْرد مُخَاطب مؤنث من بَاب علم يعلم قَوْله " مَا رزئنا من مائك شَيْئا " بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي أَي مَا نقصنا قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بَعْضهَا بِفَتْحِهَا يَعْنِي بِفَتْح الزَّاي (قلت) الْكسر هُوَ الْأَشْهر يُقَال مَا رزأته مَاله وَمَا رزئته بِالْكَسْرِ مَاله أَي مَا نقصته وارتزأ الشي انتقصه قَوْله " أسقانا " ويروى " سقانا " قَوْله " الْعجب " مَرْفُوع بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره حَبَسَنِي الْعجب وَهُوَ الْأَمر الَّذِي يتعجب مِنْهُ لغرابته وَكَذَلِكَ العجيب والعجاب بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف والعجاب بِالتَّشْدِيدِ أَكثر مِنْهُ وَكَذَلِكَ الأعجوبة وَلَا يجمع عجب وَلَا عَجِيب وَيُقَال جمع عَجِيب عجائب مثل تبيع وتبائع وأعاجيب جمع أعجوبة كأحاديث جمع أحدوثة وَعَجِبت من كَذَا وتعجبت مِنْهُ واستعجبت كلهَا بِمَعْنى وأعجبني هَذَا الشَّيْء لحسنه وَعَجِبت غَيْرِي تعجيبا وَالْعجب بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم اسْم من أعجب فلَان بِنَفسِهِ فَهُوَ معجب بِرَأْيهِ وبنفسه قَوْله " من بَين هَذِه وَهَذِه " تَعْنِي من بَين السَّمَاء وَالْأَرْض قيل كَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول فِي بَين بِلَفْظَة فِي وَأجِيب بِأَن من بَيَانِيَّة مَعَ جَوَاز اسْتِعْمَال حُرُوف الْجَرّ بَعْضهَا مَكَان بعض قَوْله " وَقَالَت بأصبعها " أَي أشارت بأصبعها وَمن إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل وَقد مر نَظِير هَذَا غير مرّة قَوْله " السبابَة " يَعْنِي المسبحة قَوْله " يغيرون " بِضَم الْيَاء من الإغارة بِالْخَيْلِ فِي الْحَرْب قَوْله " الصرم " بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَهُوَ أَبْيَات من النَّاس مجتمعة وَالْجمع إصرام وَقَالَ ابْن سَيّده الصرم الأبيات المجتمعة المنقطعة من النَّاس والصرم أَيْضا الْجَمَاعَة بَين ذَلِك وَالْجمع إصرام وأصاريم وصرمان والأخيرة عَن سِيبَوَيْهٍ قَوْله " فَقَالَت يَوْمًا لقومها مَا أرى أَن هَؤُلَاءِ يدعونكم عمدا " هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " مَا أرى أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم " وَقَالَ ابْن مَالك وَقع فِي بعض النّسخ " مَا أَدْرِي أَن هَؤُلَاءِ " كلمة أرى بِضَم الْهمزَة بِمَعْنى أَظن وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنى أعلم وَمَا مَوْصُولَة قَوْله " يدعونكم " بِفَتْح الدَّال أَي يتركونكم وَالْمعْنَى ظَنِّي أَنهم يتركونكم عمدا لاستئلافكم لَا سَهوا مِنْهُم وغفلة عَنْكُم وَقيل مَا نَافِيَة وَأَن بِمَعْنى لَعَلَّ وَقيل مَا نَافِيَة وَإِن بِالْكَسْرِ وَمَعْنَاهُ لَا أعلم حالكم فِي تخلفكم عَن الْإِسْلَام مَعَ أَنهم يدعونكم عمدا " فَهَل لكم " أَي رَغْبَة (ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ) الأول فِيهِ اسْتِحْبَاب سلوك الْأَدَب مَعَ الأكابر كَمَا فِي فعل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي إيقاظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الثَّانِي فِيهِ إِظْهَار التأسف لفَوَات أَمر من أُمُور الدّين. الثَّالِث فِيهِ لَا حرج على من تفوته صَلَاة لَا بتقصير مِنْهُ لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا ضير ". الرَّابِع فِيهِ أَن من أجنب وَلم يجد مَاء فَإِنَّهُ يَتِيم لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَلَيْكُم بالصعيد ". الْخَامِس فِيهِ أَن الْعَالم إِذا رأى أمرا مُجملا يسْأَل فَاعله عَنهُ ليوضحه فيوضح لَهُ هُوَ وَجه الصَّوَاب. السَّادِس فِيهِ اسْتِحْبَاب الملاطفة والرفق فِي الْإِنْكَار على أحد فِيمَا فعله. السَّابِع فِيهِ التحريض على الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة. الثَّامِن فِيهِ الْإِنْكَار على ترك الشَّخْص الصَّلَاة بِحَضْرَة الْمُصَلِّين بِغَيْر عذر. التَّاسِع فِيهِ أَن قَضَاء الْفَوَائِت وَاجِب وَلَا يسْقط بِالتَّأْخِيرِ وَيَأْثَم بِتَأْخِيرِهِ بِغَيْر عذر. الْعَاشِر فِيهِ أَن من حلت بِهِ فتْنَة فِي بلد فَليخْرجْ مِنْهُ وليهرب من الْفِتْنَة بِدِينِهِ كَمَا فعل الشَّارِع بارتحاله عَن بطن الْوَادي الَّذِي تشاءم بِهِ لأجل الشَّيْطَان. الْحَادِي عشر فِيهِ أَن من ذكر صَلَاة فَائِتَة لَهُ أَن يَأْخُذ من يصلح من وضوء وطهارة وابتغاء بقْعَة تطمئِن نَفسه للصَّلَاة عَلَيْهَا كَمَا فعل الشَّارِع بعد أَن ذكر الْفَائِتَة فارتحل بعد الذّكر ثمَّ تَوَضَّأ وَتَوَضَّأ النَّاس. الثَّانِي عشر فِيهِ اسْتِحْبَاب الْأَذَان للفائتة. الثَّالِث عشر فِيهِ جَوَاز أَدَاء الْفَائِتَة بِالْجَمَاعَة. الرَّابِع عشر فِيهِ طلب المَاء للشُّرْب وَالْوُضُوء. الْخَامِس عشر فِيهِ أَخذ المَاء الْمَمْلُوك لغيره لضَرُورَة الْعَطش بعوض وَفِيه أَن العطشان يقدم على الْجنب عِنْد صرف المَاء إِلَى النَّاس. السَّادِس عشر فِيهِ جَوَاز المعاطاة فِي الهبات والإباحات من غير لفظ من الْجَانِبَيْنِ. السَّابِع عشر فِيهِ تَقْدِيم(4/31)
مصلحَة شرب الْآدَمِيّ وَالْحَيَوَان على غَيره كمصلحة الطَّهَارَة بِالْمَاءِ (فَإِن قلت) قد وَقع فِي رِوَايَة سلم بن زرير " غير أَنا لم نسق بَعِيرًا " (قلت) هَذَا مَحْمُول على أَن الْإِبِل لم تكن محتاجة إِذْ ذَاك إِلَى السَّقْي. الثَّامِن عشر فِيهِ جَوَاز الْخلْوَة بالأجنبية عِنْد أَمن الْفِتْنَة فِي حَالَة الضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة. التَّاسِع عشر فِيهِ جَوَاز اسْتِعْمَال أواني الْمُشْركين مَا لم يتَيَقَّن فِيهَا نَجَاسَة. الْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز أَخذ مَال النَّاس عِنْد الضَّرُورَة بِثمن إِن كَانَ لَهُ ثمن كَذَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم وَفِيه نظر. الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز اجْتِهَاد الصَّحَابَة بِحَضْرَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه خلاف مَشْهُور وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. الثَّانِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز تَأْخِير الْفَائِتَة عَن وَقت ذكرهَا إِذا لم يكن عَن تغافل أَو استهانة وَذَلِكَ من قَوْله " ارتحلوا " بِصِيغَة الْأَمر فَافْهَم. الثَّالِث وَالْعشْرُونَ فِيهِ مُرَاعَاة ذمام الْكَافِر والمحافظة بِهِ كَمَا حفظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْمَرْأَة فِي قَومهَا وبلادها فراعى فِي قَومهَا ذمامها وَإِن كَانَت من صميمهم. الرَّابِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الْحلف من غير الِاسْتِحْلَاف. الْخَامِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الشكوى من الرعايا إِلَى الإِمَام عِنْد حُلُول أَمر شَدِيد. السَّادِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ اسْتِحْبَاب التَّعْرِيس للْمُسَافِر إِذا غَلبه النّوم. السَّابِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة قَضَاء الْفَائِت الْوَاجِب وَأَنه لَا يسْقط بِالتَّأْخِيرِ. الثَّامِن وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ للمحتاج بِرِضا الْمَطْلُوب مِنْهُ وَبِغير رِضَاهُ إِن تعين. التَّاسِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز النّوم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كنوم وَاحِد منا فِي بعض الْأَوْقَات وَقد مر التَّحْقِيق فِيهِ. الثَّلَاثُونَ فِيهِ إِبَاحَة السّفر من غير أَن يعين يَوْمًا أَو شهر فَوَائِد. فِيهِ من دَلَائِل النُّبُوَّة حَيْثُ توضؤوا وَشَرِبُوا وَسقوا واغتسل الْجند مِمَّا سقط من العزالي وَبقيت المزادتان مملوءتان ببركته وعظيم برهانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانُوا أَرْبَعِينَ نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة سلم بن زرير وَإِنَّهُم ملأوا كل قربَة مَعَهم وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَظَاهر هَذِه الرِّوَايَة أَن جملَة من حضر هَذِه الْقِصَّة كَانُوا أَرْبَعِينَ وَلَا نعلم مخرجا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج فِي هَذَا الْعدَد فَلَعَلَّ الركب الَّذين عجلهم بَين يَدَيْهِ لطلب المَاء وَأَنَّهُمْ وجدوا الْمَرْأَة وَأَنَّهُمْ أسقوا لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل النَّاس وَشَرِبُوا ثمَّ شرب النَّاس بعدهمْ. وَفِيه أَن جَمِيع مَا أَخَذُوهُ من المَاء مِمَّا زَاده الله وأوجده وَأَنه لم يخْتَلط فِيهِ شَيْء من مَاء تِلْكَ الْمَرْأَة فِي الْحَقِيقَة وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر مختلطا وَهَذَا أبدع وَأغْرب فِي المعجزة. وَفِيه دلَالَة أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أجلد الْمُسلمين وأصلبهم فِي أَمر الله تَعَالَى. (وَفِيه أسئلة) الأول أَن الِاسْتِيلَاء على الْكفَّار بِمُجَرَّدِهِ يُبِيح رق نِسَائِهِم وصبيانهم وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد دخلت الْمَرْأَة فِي الرّقّ باستيلائهم عَلَيْهَا وَكَيف وَقع إِطْلَاقهَا وتزويدها وَأجِيب بِأَنَّهَا أطلقت لمصْلحَة الاستئلاف الَّذِي جر دُخُول قَومهَا أَجْمَعِينَ فِي الْإِسْلَام وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَ لَهَا أَمَان قبل ذَلِك أَو كَانَت من قوم لَهُم عهد. الثَّانِي كَيفَ جوزوا التَّصَرُّف حِينَئِذٍ فِي مَالهَا وَأجِيب بِالنّظرِ إِلَى كفرها أَو لضَرُورَة الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ والضروريات تبيح الْمَحْظُورَات. الثَّالِث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن التشاؤم وَهَهُنَا ارتحل عَن الْوَادي الَّذِي تشاءم بِهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يعلم حَال ذَلِك الْوَادي وَلم يكن غَيره يعلم بِهِ فَيكون خَاصّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخذ بعض الْعلمَاء بِظَاهِر مَا وَقع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من رحيله من ذَلِك الْوَادي أَن من انتبه من نوم عَن صَلَاة فَائت فِي سفر فَإِنَّهُ يتَحَوَّل عَن مَوْضِعه وَإِن كَانَ بواد فَليخْرجْ عَنهُ وَقيل إِنَّمَا يلْزم بذلك الْوَادي بِعَيْنِه وَقيل هُوَ خَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا ذكرنَا (قَالَ أَبُو عبد الله صَبأ خرج من دين إِلَى غَيره. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة الصابئين فرقة من أهل الْكتاب يقرؤن الزبُور) . هَذَا إِلَى آخِره رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَأَرَادَ بإيراد هَذِه الإشاوة إِلَى الْفرق بَين الصابىء المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث والصابىء الْمَنْسُوب إِلَى الطَّائِفَة الَّذين بَينهم أَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي أما الصابىء الَّذِي هُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث فِي قَول الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة الَّذِي يُقَال لَهُ الصابىء فَهُوَ من صبا إِلَى الشَّيْء يصبو إِذا مَال وَهُوَ غير مَهْمُوز وَكَانَت الْعَرَب تسمي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصابىء لِأَنَّهُ خرج من دين قُرَيْش إِلَى دين الْإِسْلَام ويسمون من يدْخل فِي دين الْإِسْلَام مصبو لأَنهم كَانُوا لَا يهمزون ويسمون الْمُسلمين الصباة بِغَيْر همزَة جمع صاب غير مَهْمُوز كقاض وقضاة وغاز وغزاة وَقد يُقَال(4/32)
صبا الرجل إِذا عشق وَهوى وَقد يُقَال صابىء بِالْهَمْز من صبا يصبو بِغَيْر همز وَأَن الصابئون الَّذين ذكرهم أَبُو الْعَالِيَة فأصله من صَبأ يصبأ صَبأ وصبوأ إِذا خرج عَن دين إِلَى آخر وَهَذِه الطَّائِفَة يسمون الصابئين وَاخْتلف فِي تَفْسِيره فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة هم فرقة من أهل الْكتاب يقرؤن الزبُور وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الرّبيع بن أنس عَنهُ وَعَن مُجَاهِد لَيْسُوا بيهود وَلَا نَصَارَى وَلَا دين لَهُم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم وَلَا تنْكح نِسَاؤُهُم وَكَذَا روى عَن الْحسن وَابْن نجيح وَقَالَ ابْن زيد الصابئون أهل دين من الْأَدْيَان كَانُوا بالجزيرة جَزِيرَة الْموصل يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَلَيْسَ لَهُم عمل وَلَا كتاب وَلَا نَبِي وَلم يُؤمنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الْحسن قَالَ أخبر زِيَاد أَن الصابئين يصلونَ إِلَى الْقبْلَة وَيصلونَ الْخمس قَالَ فَأَرَادَ أَن يضع عَلَيْهِم الْجِزْيَة فَأخْبر بعد أَنهم يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة وَعَن قَتَادَة وَأبي جَعْفَر الرَّازِيّ هم قوم يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة وَيصلونَ إِلَى الْقبْلَة ويقرؤن الزبُور وَفِي الْكتاب الزَّاهِر لِابْنِ الْأَنْبَارِي هم قوم من النَّصَارَى قَوْلهم أَلين من قَول النَّصَارَى قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} فَيُقَال الَّذين آمنُوا هم المُنَافِقُونَ أظهرُوا الْإِيمَان وأضمروا الْكفْر وَالَّذين هادوا الْيَهُود المغيرون المبدلون وَالنَّصَارَى المقيمون على الْكفْر بِمَا يصفونَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْمحَال والصابئون الْكفَّار أَيْضا المفارقون للحق وَيُقَال الَّذين آمنُوا الْمُؤْمِنُونَ حَقًا وَالَّذين هادوا الَّذين تَابُوا وَلم يُغيرُوا أَو النَّصَارَى نصار عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام والصابئون الخارجون من الْبَاطِل إِلَى الْحق من آمن بِاللَّه مَعْنَاهُ من دَامَ مِنْهُم على الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى فَلهُ أجره وَفِي كتاب الرشاطي الصابي نسبه إِلَى صابي بن متوشلخ بن خنوخ بن برد بن مهليل بن فتين بن ياش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه الْمُنْتَهى هم جنس من أهل الْكتاب يَزْعمُونَ أَنهم من ولد صاب بن إِدْرِيس النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقيل نسبتهم إِلَى الصابىء بن ماري وَكَانَ فِي عصر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي منظومته
(الصابئيات كالكتابيات ... فِي حكم حل العقد والذكاة)
وَشَرحه أَن أَبَا حنيفَة يَقُول إِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ نَبيا وَلَهُم كتاب فَتحل مناكحة نِسَائِهِم وتؤكل ذَبَائِحهم وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد هم يَعْتَقِدُونَ الْكَوَاكِب فَلَا تحل مناكحة نِسَائِهِم وَلَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم
7 - (بَاب إِذَا خافَ الجُنُبُ على نَفْسِهِ المَرَضَ أَوَ المَوْتَ أوْ خَافَ الْعَطَشَ تيمَّم)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا خَافَ الْجنب: الخ. وَقد ذكر فِيهِ حكم ثَلَاث مسَائِل.
الأولى: إِذا خَافَ الْجنب على نَفسه الْمَرَض يُبَاح لَهُ التَّيَمُّم مَعَ وجود المَاء، وَهل يلْحق بِهِ خوف الزِّيَادَة؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء وَالشَّافِعِيّ، وَالأَصَح عِنْده: نعم، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري، وَعَن مَالك رِوَايَة بِالْمَنْعِ، وَقَالَ عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ فِي رِوَايَة: لَا يستباح التَّيَمُّم بِالْمرضِ أصلا وَكَرِهَهُ طَاوس، وَإِنَّمَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء، وَأما مَعَ وجوده فَلَا، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، ذكره فِي (التَّوْضِيح) . وَفِي (شرح الْوَجِيز) : أما مرض يخَاف مِنْهُ زِيَادَة الْعلَّة وبطء الْبُرْء، فقد ذكرُوا فِيهِ ثَلَاث طرق، أظهرها أَن فِي جَوَاز التَّيَمُّم لَهُ قَولَانِ: أَحدهمَا الْمَنْع، وَهُوَ قَول أَحْمد، وأظهرهما الْجَوَاز وَهُوَ قَول الْإِصْطَخْرِي وَعَامة أَصْحَابه، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة. وَفِي (الْحِلْية) : وَهُوَ الْأَصَح. وَإِن كَانَ مرض لَا يلْحقهُ بِاسْتِعْمَال المَاء ضَرَر كالصداع والحمى لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم، وَقَالَ دَاوُد: يجوز، ويحكى ذَلِك عَن مَالك، وَعنهُ أَنه لَا يجوز. وَلَو خَافَ من اسْتِعْمَال المَاء شَيْئا فِي الْمحل، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس؛ لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم على مَذْهَب الشَّافِعِي، وَقَالَ غَيره إِن كَانَ الشين كأثر الجدري والجراحة لَيْسَ لَهُم التَّيَمُّم، وَإِن كَانَ يشوه من خلقه ويسود من وَجهه كثيرا فِيهِ قَولَانِ. وَالثَّانِي من الطّرق أَنه: لَا يجوز قطعا، وَالثَّالِث: أَنه يجوز قطعا.
الثَّانِيَة: إِذا خَافَ الْجنب على نَفسه الْمَوْت يجوز لَهُ التَّيَمُّم بِلَا خلاف، وَفِي قاضيخان: الْجنب الصَّحِيح فِي الْمصر إِذا خَافَ الْهَلَاك للبرد جَازَ لَهُ التَّيَمُّم، وَأما الْمُسَافِر، إِذا خَافَ الْهَلَاك من الِاغْتِسَال جَازَ لَهُ التَّيَمُّم بالِاتِّفَاقِ، وَأما الْمُحدث فِي الْمصر فَاخْتَلَفُوا فِيهِ على قَول أبي حنيفَة، فجوزه شيخ الْإِسْلَام، وَلم يجوزه الْحلْوانِي.
الثَّالِثَة: أَنه إِذا خَافَ على نَفسه الْعَطش يجوز لَهُ التَّيَمُّم، وَكَذَا عندنَا إِذا خَافَ على رَفِيقه أَو على حَيَوَان مَعَه نَحْو دَابَّته وكلبه وسنوره وطيره. وَفِي (شرح الْوَجِيز) : لَو خَافَ على نَفسه أَو مَاله من سبع أَو سَارِق فَلهُ التَّيَمُّم، وَلَو احْتَاجَ إِلَى المَاء لعطش فِي الْحَال أَو توقعه فِي الْمَآل، أَو لعطش رَفِيقه أَو لعطش حَيَوَان مُحْتَرم جَازَ لَهُ التَّيَمُّم. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة؛ أَو كَانَ المَاء عِنْد جمع فساق فخافت الْمَرْأَة على نَفسهَا الزِّنَا جَازَ لَهَا التَّيَمُّم.
قَوْله: (أَو خَافَ الْعَطش) ، غير مقتصر على الْجنب الَّذِي يخَاف الْعَطش، بل الْجنب والمحدث(4/33)
فِيهِ سَوَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله وَالَّذِي بعده ظَاهر، لِأَن هَذِه الْأَبْوَاب كلهَا فِي حكم التَّيَمُّم.
وَيُذْكَرُ أنَّ عَمرَو بنَ الْعاصِ أجْنَبَ فِي لَيْلةٍ بارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلاَ {وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النِّسَاء: 92) فَذُكِرَ للنَّبيّ فَلَمْ يُعَنِّفْهُ.
عَمْرو بن الْعَاصِ القريشي السَّهْمِي أَبُو عبد ا، قدم على النَّبِي فِي سنة ثَمَان قبل الْفَتْح مُسلما، وَهُوَ من زهاد قُرَيْش، ولاه النَّبِي على عمان وَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى قبض النَّبِي، رُوِيَ لَهُ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، مَاتَ بِمصْر عَاملا عَلَيْهَا سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين على الْمَشْهُور يَوْم الْفطر، صلى عَلَيْهِ ابْنه عبد ا، ثمَّ صلى الْعِيد بِالنَّاسِ. قَوْله: (وَيذكر) ، تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض، وَوَصله أَبُو دَاوُد وَقَالَ: حدّثنا ابْن الْمثنى، قَالَ: حدّثنا وهب بن جرير، قَالَ: حدّثنا أبي، قَالَ: سَمِعت يحيى بن أَيُّوب يحدث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عمرَان بن أبي أنس عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير عَن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: (احْتَلَمت فِي لَيْلَة بَارِدَة فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل، فَأَشْفَقت إِن اغْتَسَلت أَن أهلك، فَتَيَمَّمت ثمَّ صليت بِأَصْحَابِي الصُّبْح، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ: يَا عَمْرو صليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب؟ فَأَخْبَرته بِالَّذِي مَنَعَنِي من الِاغْتِسَال، وَقلت: إِنِّي سَمِعت اتعالى يَقُول: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن اكان بكم رحِيما} (النِّسَاء: 92) فَضَحِك نَبِي اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يقل شَيْئا) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا. قَوْله: (فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل) ، وَهِي وَرَاء وَادي الْقرى، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَيَّام. وَقيل: سميت بهَا لِأَنَّهَا بِأَرْض جذام يُقَال لَهُ السلسل، وَكَانَت فِي جمادي الأولى سنة ثَمَان من الْهِجْرَة. قَوْله: (فَأَشْفَقت) أَي: خفت. قَوْله: (فَلم يعنفه) أَي: لم يعنفه النَّبِي، يَعْنِي لم يُنكر عَلَيْهِ، كَذَا لم يعنفه بالضمير فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَلم يعنف) ، بِدُونِ الضَّمِير حذف للْعلم بِهِ، وَعدم تعنيفه إِيَّاه دَلِيل الْجَوَاز والتقرير، وَبِه علم عدم إِعَادَة الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا بِالتَّيَمُّمِ فِي هَذِه الْحَالة، وَهُوَ حجَّة على من يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ، وَدلّ أَيْضا على جَوَاز التَّيَمُّم لمن يتَوَقَّع من اسْتِعْمَال المَاء الْهَلَاك، سَوَاء كَانَ للبرد أَو لغيره، وَسَوَاء كَانَ فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر، وَسَوَاء كَانَ جنبا أَو مُحدثا. وَفِيه دلَالَة على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي عصره.
54311 - ح دّثنا بِشْرُ بنُ خالِدٍ قالَ حَدَّثَنَا محَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَة عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أبي وَائِلٍ قَالَ قالَ أبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ لاَ يُصَلِّي. قالَ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِي هَذَا كانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ البَرْدَ قالَ هَكَذَا يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى قالَ قُلْتُ فَأيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ قالَ إِنِّي لَمْ أرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَولِ عَمَّارٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَعْنِي تيَمّم وَصلى) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة. الأول: بشر بن خَالِد العسكري، أَبُو مُحَمَّد الْفَرَائِضِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ الملقب بغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال على الْأَشْهر. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: سُلَيْمَان الْمَشْهُور بالأعمش. الْخَامِس: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ؛ عبد ابْن قيس. السَّابِع: عبد ابْن مَسْعُود، وَالْكل تقدمُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصفة الْجمع مرَّتَيْنِ. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَقَوله: هُوَ غنْدر، لَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ. قَوْله: (عَن شُعْبَة) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (حدّثنا شُعْبَة) . وَفِيه: أَن قَوْله؛ هُوَ غنْدر، من عِنْد البُخَارِيّ وَلَيْسَ هُوَ من لفظ شَيْخه، وَفِيه: إِن الْأَعْمَش ذكر باسمه وشهرته بلقبه، وَقلت: رِوَايَة يذكر فِيهَا كَذَا سُلَيْمَان مُجَردا. وَفِيه: محاورة صحابيين جليلين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا لم يجد المَاء) هَذَا على سَبِيل الِاسْتِفْهَام، وَالسُّؤَال من أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن عبد ابْن مَسْعُود يَعْنِي: إِذا لم يجد الْجنب المَاء لَا يُصَلِّي. وَقَوله: (لم يجد) ، بِصِيغَة الْغَائِب، وَكَذَلِكَ: (لَا يُصَلِّي) بِصِيغَة الْغَائِب، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة. وَفِي رِوَايَة غَيرهَا بِصِيغَة الْخطاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَبُو مُوسَى يُخَاطب عبد ا، وَكَذَا فِي رِوَايَة الاسماعيلي مَا يدل على هَذَا، وَلَفظه: (فَقَالَ عبد ا: نعم إِذا لم أجد المَاء شهرا لَا أُصَلِّي) . قَوْله: (لَو رخصت) ، أَي: قَالَ عبد الأبي مُوسَى: لَو رخصت لَهُم فِي هَذَا، أَي: فِي جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب إِذا وجد أحدهم الْبرد، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (إِذا وجد أحدكُم الْبرد) . قَوْله: (قَالَ هَكَذَا) ، فِيهِ(4/34)
إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، ثمَّ فسره بقوله: يَعْنِي تيَمّم وَصلى، وَهُوَ مقول قَول أبي مُوسَى. قَوْله: (قَالَ: قلت) أَي: قَالَ أَبُو مُوسَى: قلت لعبد ا: فَأَيْنَ قَول عمار بن يَاسر لعمر بن الْخطاب؟ وَهُوَ قَوْله: (كُنَّا فِي سفر فأجنبت فتمعكت فِي التُّرَاب فَذكرت لرَسُول الله فَقَالَ: يَكْفِيك الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ) ؟ قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ ابْن مَسْعُود: إِنِّي لم أرَ عمر بن الْخطاب قنع بقول عمار بن يَاسر، وَإِنَّمَا لم يقنع عمر بقوله لِأَنَّهُ كَانَ حَاضرا مَعَه فِي تِلْكَ السفرة، وَلم يتَذَكَّر الْقِصَّة، فارتاب فِي ذَلِك وَلم يقنع بقوله، وَهَذَا وَقع هَكَذَا مُخْتَصرا فِي رِوَايَة شُعْبَة وَيَأْتِي الْآن فِي رِوَايَة عمر بن حَفْص، ثمَّ فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة أتم وأكمل.
64321 - ح دّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ قالَ حَدَّثَنَا أبي قالَ حدّثنا الأَعْمَشُ قالَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بنَ سَلَمَةَ قالَ كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَأبي مُوسَى فَقَالَ لَهُ أبُو مُوسَى أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إذَا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ المَاءَ فَقَالَ أبُو مُوسَى فَكَيْفَ تصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِين قالَ لهُ النَّبيُّ كانَ يَكْفِيكَ قالَ ألَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَدَعْنَا مِنْ قَوْلِ عَمَّارٍ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ فَمَا درَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ فَقَالَ إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ المَاءُ انْ يَدَعَهُ وَيَتَيَمَّمَ فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ فَإِنَّما كَرِهَ عَبْد اللَّهِ لِهَذَا قالَ نَعَمْ.
وَهَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت: حدّثنا الْأَعْمَش، وَفِيه فَائِدَة تَصْرِيح سَماع الْأَعْمَش من شَقِيق. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (يَا با عبد الرَّحْمَن) أَصله: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، فحذفت الْهمزَة فِيهِ تَخْفِيفًا، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن: كنية عبد ابْن مَسْعُود. قَوْله: (إِذا أجنب) أَي: الرجل: (فَلم يجد المَاء) ، ويروى: (إِذا أجنبت فَلم تَجِد) . بتاء الْخطاب فيهمَا. قَوْله: (كَيفَ يصنع؟) بياء الْغَيْبَة، أَي: كَيفَ يصنع الرجل؟ وعَلى رِوَايَة الْخطابِيّ: (كَيفَ تصنع؟) بتاء الْخطاب أَيْضا، وَالرِّوَايَة بالغيبة أشهر وأوجه بِدَلِيل قَوْله: (فَقَالَ عبد الا يُصَلِّي) أَي: لَا يُصَلِّي الرجل الَّذِي لَا يجد المَاء حَتَّى يجد، أَي: إِلَى أَن يجد المَاء. قَوْله: (كَانَ يَكْفِيك) أَي: مسح الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ. قَوْله: (فَدَعْنَا من قَول عمار) أَي: أتركنا، وَكلمَة: دع، أَمر من: يدع، وأمات الْعَرَب ماضيه، وَالْمعْنَى: إقطع نظرك عَن قَول عمار، فَمَا تَقول فِيمَا ورد فِي الْقُرْآن؟ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَهُوَ معنى قَوْله: (كَيفَ تصنع بِهَذِهِ الْآيَة) وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الْآيَة. قَوْله: (فَمَا درى عبد اما يَقُول) أَي: فَلم يعرف عبد اما يَقُول فِي تَوْجِيه الْآيَة على وفْق فتواه، وَلَعَلَّ الْمجْلس مَا كَانَ يَقْتَضِي تَطْوِيل المناظرة، وإلاَّ فَكَانَ لعبد اأن يَقُول: المُرَاد من الْمُلَامسَة فِي الْآيَة تلاقي البشرتين فِيمَا دون الْجِمَاع، وَجعل التَّيَمُّم بَدَلا من الْوضُوء فَقَط، فَلَا يدل على جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب. قَوْله: (فِي هَذَا) ، أَي: فِي التَّيَمُّم للْجنب. قَوْله: (لَأَوْشَكَ) أَي: قرب وأسرع، وَهَذَا رد على من زعم أَنه لَا يَجِيء من بَاب: يُوشك أوشك مَاضِيا، وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ مضارعاً. قَوْله: (إِذا برد) بِفَتْح الْبَاء وَالرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي. بِضَم الرَّاء، وَالْمَشْهُور الْفَتْح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُلَازمَة بَين الرُّخْصَة فِي تيَمّم الْجنب وَتيَمّم المتبرد، حَتَّى صَحَّ أَن يُقَال: لَو رخصنا لَهُم فِي ذَلِك لَكَانَ إِذا وجد أحدهم الْبرد تيَمّم؟ قلت: الْجِهَة الجامعة بَينهمَا اشتراكهما فِي عدم الْقُدْرَة على اسْتِعْمَال المَاء، لِأَن عدم الْقُدْرَة إِمَّا بفقد المَاء، وَإِمَّا بتعذر الِاسْتِعْمَال. قَوْله: (فَقلت) أَي: قَالَ الْأَعْمَش: قلت لشقيق. قَوْله: (لهَذَا) أَي: لأجل هَذَا الْمَعْنى، وَهُوَ احْتِمَال أَن يتَيَمَّم المتبرد، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْوَاو، لَا تدخل بَين القَوْل ومقوله، فَلم قَالَ: وَإِنَّمَا كره قلت: هُوَ عطف على سَائِر مقولاته الْمقدرَة أَي قلت؛ كَذَا وَكَذَا أَيْضا. انْتهى. قلت: كَأَنَّهُ اعْتمد على نُسْخَة فِيهَا، وَإِنَّمَا بواو الْعَطف، والنسخ الْمَشْهُورَة: فَإِنَّمَا بِالْفَاءِ.
ذكر مَا فِيهِ من الْفَوَائِد: الأولى: فِيهِ جَوَاز الماظرة، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه مناظرة، وَالظَّاهِر مِنْهُمَا يَأْتِي على إهمال حكم الْآيَة، وَأي عذر لمن ترك الْعَمَل بِمَا فِي هَذِه الْآيَة من أجل أَن بعض النَّاس عساه أَن يستعملها على وَجههَا، وَفِي غير جِنْسهَا. وَمَا الْوَجْه فِيمَا ذهب إِلَيْهِ عبد امن إبِْطَال هَذِه الرُّخْصَة مَعَ مَا فِيهِ من إِسْقَاط الصَّلَاة عَمَّن هُوَ مُخَاطب بهَا ومأمور بإقامتها؟ وَأجِيب: عَن هَذَا بِأَن(4/35)
عبد الم يذهب بِهَذَا الْمَذْهَب الَّذِي ظَنّه هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا كَانَ يتَأَوَّل الْمُلَامسَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة على غير معنى الْجِمَاع، إِذْ لَو أَرَادَ الْجِمَاع لَكَانَ فِيهِ مُخَالفَة الْآيَة صَرِيحًا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يجوز من مثله فِي علمه وفهمه وفقهه.
الثَّانِيَة: فِيهِ أَن رَأْي عمر وَعبد ارضي اعنهما، انْتِقَاض الطَّهَارَة بملامسة البشرتين، وَإِن الْجنب لَا يتَيَمَّم لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (الْمَائِدَة: 6) . الثَّالِثَة: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ جَوَاز التَّيَمُّم للخائف من الْبرد. قلت: يجوز التَّيَمُّم للْجنب الْمُقِيم إِذا خَافَ الْبرد عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لصاحبيه. الرَّابِعَة: فِيهِ جَوَاز الِانْتِقَال فِي المحاجة من دَلِيل إِلَى دَلِيل آخر بِمَا فِيهِ الْخلاف إِلَى مَا عَلَيْهِ الِاتِّفَاق، وَذَلِكَ جَائِز للمتناظرين عِنْد تَعْجِيل الْقطع. وإلإفحام للخصم كَمَا فِي مُحَاجَّة إِبْرَاهِيم ونمرود عَلَيْهِ اللَّعْنَة، أَلا ترى أَن إِبْرَاهِيم لما قَالَ: {رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت} (الْبَقَرَة: 852) وَقَالَ نمْرُود: {أَنا أحيي وأميت} (الْبَقَرَة: 852) لم يحْتَج إِلَى أَن يوقفه على كَيْفيَّة إحيائه وإماتته؟ بل انْتقل إِلَى قَوْله: {فَإِن ايأتي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} (الْبَقَرَة: 852) فأفحم نمْرُود عِنْد ذَلِك.
8 - (بابُ التَيَمُّمِ ضَرْبَةً)
أَي: هَذَا بَاب يُقَال فِيهِ: التَّيَمُّم ضَرْبَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة بِالنّصب، وَفِي بَعْضهَا بِالرَّفْع قلت: لم يبين وَجه ذَلِك. قلت: رِوَايَة الْكشميهني: بَاب، بِلَا تَنْوِين بل بِالْإِضَافَة إِلَى التَّيَمُّم، وضربة مَنْصُوب على الْحَال، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة التَّيَمُّم حَال كَونه ضَرْبَة وَاحِدَة، وَقد ذكرنَا أَن فِي صفة التَّيَمُّم أقوالاً، وَأَن رِوَايَة؛ ضَرْبَة وَاحِدَة، من رِوَايَة: ضربتين، عِنْد البُخَارِيّ، فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ، وَرِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب، منون على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَقَوله؛ (التَّيَمُّم ضَرْبَة) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر، وَالتَّيَمُّم، مُبْتَدأ.
74331 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بن سَلاَمٍ قالَ أخْبَرَنَا أبُو مُعاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قالَ كُنْتُ جالِساً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقَالَ لَهُ أبُو مُوسَى لوْ أنَّ رَجُلاً أجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ المَاءَ شَهْراً أمَا كانَ يَتَيمَّمُ وَيُصَلِّي فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي سُورَةِ المَائِدَةِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ المَاءُ أنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ قُلْتُ وَإنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا قالَ نَعَمَ فقالَ أبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ بَعَثَنِي رسولُ الله فِي حاجَةٍ فأجْنَبْتُ فَلمْ أجِدِ المَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنبيِّ فقَالَ إِنَّما كانَ يَكفْيكَ أنْ تَصْنَعَ هَكَذَا فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأرْضِ ثُم نَفَضَها ثُم مَسَحَ بِهِما ظَهْرَ كفِّهِ بِشِمِالِهِ أوْ ظَهْرَ شِمِالِهِ بِكَفِّهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهِما وَجْههُ فقالَ عَبْدُ اللَّهِ أفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ رَضِي اعنهما.
هَذِه طَريقَة أُخْرَى، وَهِي أتم من الطريقتين المذكورتين، عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام بتَخْفِيف اللَّام البيكندي عَن أبي مُعَاوِيَة الضَّرِير مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة، وَهُوَ أَبُو وَائِل الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق فِي الطَّرِيقَة الأولى، وَهِي رِوَايَة بشر بن خَالِد. قَوْله: (أجنب) أَي: إِذا صَار جنبا. قَوْله: (أما كَانَ يتَيَمَّم؟) والهمزة فِيهِ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَيفَ تصنع بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ عبد ا: لَا يتَيَمَّم وَإِن لم يجد المَاء شهرا) وَنَحْوه لأبي دَاوُد. (قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكيف تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَة) ؟ ثمَّ الْهمزَة فِيهِ أما مقحمة وَإِمَّا للتقرير، و: مَا، نَافِيَة على أَصْلهَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلين وَقع جَوَابا: للو، إِمَّا على تَقْدِير الإقحام، فَإِن وجوده كَعَدَمِهِ، وَأما على تَقْدِير التَّقْرِير، فَإِنَّهُ لم يبْق على معنى الِاسْتِفْهَام الَّذِي هُوَ الْمَانِع من وُقُوعه جَزَاء للشّرط، وَالْقَوْل مُقَدّر قبل لَو. وَحَاصِله يَقُولُونَ: لَو أجنب رجل مَا تيَمّم، كَيفَ تَصْنَعُونَ؟ وعَلى التَّقْدِير الثَّالِث: وَقع جَوَابا: بِتَقْدِير القَوْل أَي: لَو أجنب رجل يُقَال فِي حَقه: إِمَّا يتَيَمَّم، وَيحْتَمل أَن يكون جَوَاب: لَو، هُوَ: فَكيف تَصْنَعُونَ؟ .
قَوْله: (فِي سُورَة الْمَائِدَة) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَكيف تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَة فِي سُورَة الْمَائِدَة؟) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لفظ: الْآي، وَقَوله: (فَلم تَجدوا) ، هُوَ بَيَان للمراد من الْآيَة،(4/36)
وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَصْلِيّ: (فَإِن لم تَجدوا) ، وَهُوَ مُغَاير للتلاوة. وَقيل: إِنَّه كَانَ كَذَلِك فِي رِوَايَة أبي ذَر ثمَّ أصلحها على وفْق الْآيَة، وَإِنَّمَا عين سُورَة الْمَائِدَة لكَونهَا أظهر فِي مَشْرُوعِيَّة تيَمّم الْجنب من آيَة النِّسَاء، لتقدم حكم الْوضُوء فِي الْمَائِدَة، وَقَالَ الْخطابِيّ وَغَيره: فِيهِ دَلِيل على عبد اكان يرى أَن المُرَاد بالملامسة الْجِمَاع، فَلهَذَا لم يدْفع دَلِيل أبي مُوسَى وإلاَّ لَكَانَ يَقُول لَهُ: المُرَاد من الْمُلَامسَة التقاء البشرتين فِيمَا دون الْجِمَاع، وَجعل التَّيَمُّم بَدَلا من الْوضُوء لَا يسْتَلْزم أَن يكون بَدَلا من الْغسْل. قلت: لَو أَرَادَ بالملامسة الْجِمَاع لَكَانَ مُخَالفَة لِلْآيَةِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا تأولها على معنى غير الْجِمَاع، كَمَا ذكرنَا عَن قريب. قَوْله: (أَن يتيمموا الصَّعِيد) أَي: أَن يقصدوه، ويروى: (أَن يتيمموا بالصعيد) . قَوْله: (قلت) ، هُوَ مقول شَقِيق، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْقَائِل ذَلِك هُوَ الْأَعْمَش، وَالْمقول لَهُ هُوَ شَقِيق، كَمَا صرح بذلك فِي رِوَايَة عمر بن حَفْص الَّتِي مَضَت قبل هَذِه. قَوْله: (هَذَا) أَي: تيَمّم الْجنب. قَوْله: (لذا) أَي: لأجل تيَمّم صَاحب الْبرد. قَوْله: (كَمَا تمرغ الدَّابَّة) ، بِالتَّشْدِيدِ وَضم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَأَصله: تتمرغ بالتائين فحذفت إِحْدَاهمَا للتَّخْفِيف، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) أَصله: تتلظى. قَوْله: (بكفه ضَرْبَة) ويروى: (بكفيه) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: اعْلَم أَن هَذِه الْكَيْفِيَّة مشكلة من جِهَات: أَولا: مِمَّا ثَبت من الطَّرِيق الآخر أَنه ضربتان، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَصَح الْمَنْصُوص ضربتان: وَثَانِيا: من جِهَة الِاكْتِفَاء بمسح ظهر كف وَاحِدَة، وبالاتفاق مسح كلا ظَهْري الْكَفَّيْنِ. وَاجِب، وَلم يجوز أحد الاجتزاء بِأَحَدِهِمَا. وثالثاً: من حَيْثُ إِن الْكَفّ إِذا اسْتعْمل ترابه فِي ظهر الشمَال كَيفَ مسح بِهِ الْوَجْه وَهُوَ صَار مُسْتَعْملا. ورابعاً: من جِهَة أَنه لم يمسح الذارعين. وخامساً: من عدم مُرَاعَاة التَّرْتِيب وَتَقْدِيم الْكَفّ على الْوَجْه انْتهى.
قلت: هَذِه خَمْسَة إشكالات أوردهَا. ثمَّ تكلّف فِي الْجَواب عَنْهَا، ثمَّ قَالَ فِي آخِره: هَذَا غَايَة وسعنا فِي تَقْرِيره وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا خيرا مِنْهُ. أَقُول: وبا التَّوْفِيق: ملخص جَوَابه عَن الأول بِالْمَنْعِ بِأَنا لَا نسلم أَن هَذَا التَّيَمُّم كَانَ بضربة وَاحِدَة. قلت: مَنعه مَمْنُوع لِأَنَّهُ كَانَ بضربة وَاحِدَة، لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بِأَن: الضَّرْبَة الْوَاحِدَة كَافِيَة، فَيحمل هَذَا على الْجَوَاز، وَمَا ورد من الزِّيَادَة عَلَيْهَا على الْكَمَال. وَقَوله: وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَصَح الْمَنْصُوص ضربتان، اعْتِرَاض على الحَدِيث بِالْمذهبِ، وَهُوَ غير صَحِيح. وَأجَاب عَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا بُد من تَقْدِير: ثمَّ ضرب ضَرْبَة أُخْرَى وَمسح بهَا يَدَيْهِ. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير لِأَن أصل الْفَرْض يقوم بضربة وَاحِدَة، كَمَا فِي الْوضُوء، على أَن مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء الِاكْتِفَاء بضربة وَاحِدَة، كَذَا ذكره ابْن الْمُنْذر، وَاخْتَارَهُ هُوَ أَيْضا، وَالْبُخَارِيّ أَيْضا، فَلذَلِك بوب عَلَيْهِ. وَأجَاب عَن الثَّالِث: بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، وَالْجَوَاب السديد مُلَخصا: أَن التُّرَاب لَا يَأْخُذ حكم الِاسْتِعْمَال، وَهَذَا الحكم فِي المَاء دون التُّرَاب. وَأجَاب عَن الرَّابِع: بِمَنْع إِيجَاب مسح الذراعين، وأكد ذَلِك بقوله: وَلِهَذَا قَالُوا مسح الْكَفَّيْنِ أصح فِي الرِّوَايَة، وَمسح الذارعين أشبه بالأصول. قلت: فعلى هَذَا، الْإِشْكَال الرَّابِع غير وَارِد من الأول. وَأجَاب عَن الْخَامِس: بِمَنْع إِيجَاب التَّرْتِيب كَمَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة. قلت: هَذِه استعانة بِرَأْي من هُوَ يُخَالف رَأْيه.
قَوْله: (ثمَّ مسح بهَا ظهر كَفه) ، ويروى: (مسح بهما) . قَوْله: (أَو ظهر شِمَاله بكفه) ، كَذَا هُوَ بِالشَّكِّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات إلاَّ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة، كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَفظه، فَقَالَ: (إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تصنع هَكَذَا، وَضرب بيدَيْهِ على الأَرْض فنفضهما ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ على يَمِينه وبيمينه على شِمَاله على الْكَفَّيْنِ ثمَّ مسح وَجهه) . انْتهى. وَهَذَا يحرر رِوَايَة غَيره، لِأَن الحَدِيث وَاحِد، وَاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ باخْتلَاف الرِّوَايَة، وَفِيه دَلِيل صَرِيح على أَن التَّيَمُّم ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ جَمِيعًا، وَلَكِن الْعَامَّة أجابوا عَن هَذَا: إِن هَذَا الضَّرْب الْمَذْكُور كَانَ للتعليم وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ بَيَان جَمِيع مَا يحصل بِهِ التَّيَمُّم، لِأَن اتعالى أوجب غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين فِي الْوضُوء فِي أول الْآيَة، ثمَّ قَالَ فِي التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) وَالظَّاهِر أَن الْيَد الْمُطلقَة هُنَا هِيَ المقي دة فِي الْوضُوء. فَافْهَم.
قَوْله: (فَقَالَ عبد ا) ، ويروى: قَالَ عبد ابدون: الْفَاء. قَوْله: (ألم تَرَ عمر؟) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: (أفلم تَرَ؟) بِزِيَادَة الْفَاء، فِيهِ. قَوْله: (لم يقنع بقول عمار) ، وَوجه عدم قناعته بقول عمار هُوَ أَنه كَانَ مَعَه فِي تِلْكَ الفضية، وَلم يتَذَكَّر عمر ذَلِك أصلا، وَلِهَذَا قَالَ لعمَّار، فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى: (اتَّقِ ايا عمار فِيمَا ترويه وَتثبت فِيهِ فلعلك نسيت أَو اشْتبهَ عَلَيْك، فَإِنِّي كنت مَعَك وَلَا أَتَذكر شَيْئا من هَذَا) ، وَمعنى قَول عمار؛ إِنِّي رَأَيْت الْمصلحَة فِي الْإِمْسَاك عَن التحديث بِهِ راجحة على التحديث وافقتك وَأَمْسَكت، فَإِنِّي قد بلّغته وَلم يبْق عَليّ حرج؛ فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: إِنَّا نوليك(4/37)
مَا توليت. أَي: لَا يلْزم من كوني لَا أتذكره أَن لَا يكون حَقًا فِي نفس الْأَمر، فَلَيْسَ لي مَنعك من التحديث بِهِ.
وَزَادَ يَعْلَى عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شقيقٍ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأبِي مُوسَى فَقَالَ أبُو مُوسَى ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ إِنَّ رَسولَ اللَّهِ بَعَثَنِي أَنا وَأنت فَأَجْنَبْتُ فَتمَعَّكْتُ بالصَّعِيدِ فَأَتيْنا رسولَ اللَّهِ فأَخْبَرْنَاهُ فقَال إِنَّما كانَ يَكْفيكَ هَكَذَا وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً؟ .
يعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام: ابْن عبيد أَبُو يُوسُف الطنافسي الْحَنَفِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة تسع وَمِائَتَيْنِ. قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا إِمَّا دَاخل تَحت إِسْنَاد مُحَمَّد بن سَلام، وَإِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ مَعَ احْتِمَال سَماع البُخَارِيّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أدْرك عصره. قلت: هَذَا تَعْلِيق وَصله أَحْمد فِي (مُسْنده) وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن زَيْدَانَ: حدّثنا أَحْمد بن حَازِم حدّثنا يعلى حدّثنا الْأَعْمَش فَذكره. قَوْله: (إِن رَسُول ا) ، ويروى: (إِن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَوْله: (بَعَثَنِي أَنا وَأَنت) . قيل: كَانَ الْقيَاس بَعَثَنِي إيَّايَ وَإِيَّاك، لِأَن: أَنا، ضمير مَرْفُوع فَكيف وَقع تَأْكِيدًا للضمير الْمَنْصُوب؟ والمعطوف فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِأَن الضمائر يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض، وتجري بَينهمَا المناوبة. قَوْله: (هَكَذَا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (هَذَا) . قَوْله: (وَاحِدَة) يَعْنِي ضَرْبَة وَاحِدَة، وَهَذَا التَّقْدِير هُوَ الْمُنَاسب لغَرَض البُخَارِيّ لِأَنَّهُ ترْجم الْبَاب بقوله: بَاب التَّيَمُّم ضَرْبَة، وَيحْتَمل أَن يقدر مسحة وَاحِدَة وَهُوَ الظَّاهِر من اللَّفْظ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَيكون التَّيَمُّم بالضربتين. قلت: لَا يدل شَيْء هَهُنَا على ذَلِك، ثمَّ سَأَلَ، فَإِذا حَملته على الضَّرْبَة وَاسْتعْمل فِي الْوَجْه فَكيف مسح بِهِ الْكَفَّيْنِ؟ وَأجَاب: بِأَن السُّؤَال سَاقِط على مَذْهَب من قَالَ: التُّرَاب لَا يصير مُسْتَعْملا، وَأما على مَذْهَبنَا فوجهه أَنه يمسح الْوَجْه بكف وَاحِدَة، ثمَّ ينفض بعض الْغُبَار فِي الْكَفّ الْغَيْر المستعملة إِلَى الْأُخْرَى، أَو يدلك إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى ثمَّ يمسح الْيَدَيْنِ بهما. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره وَجعله مذهبا لَا يفهم من هَذَا الحَدِيث.
9 - (بابٌ)
وَقع هَكَذَا بَاب مُجَردا عَن التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَيْسَ بموجود أصلا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، فعلى رِوَايَته يكون الحَدِيث الَّذِي فِيهِ دَاخِلا فِي التَّرْجَمَة الْمَاضِيَة، فعلى قَول الْأَكْثَرين يكون: بَاب، بِمَنْزِلَة؛ فصل، وَلَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب يكون بِالْعقدِ والتركيب.
84341 - ححدّثنا عَبْدانُ قالَ أخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قالَ أخْبَرَنا عَوْفٌ عَنْ أبِي رَجاءٍ قالَ حدّثنا عِمْرَانُ بنُ حَصَيْنغ الخُزاعِيُّ أنَّ رسولَ اللَّهِ رَأى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ فِي القَوْمِ فَقَالَ يَا فُلاَنُ مَا مَنَعَكَ أَن تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ فَقَالَ يَا رَسولَ اللَّهِ أصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلا ماءَ قالَ عَلَيْكَ بالصعيدِ فَإِنَّهُ يَكْفيكَ.
عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة. وَعبد اهو ابْن الْمُبَارك، وعَوْف هُوَ ابْن الْأَعرَابِي، وَأَبُو رَجَاء العطاردي واسْمه عمرَان بن ملْحَان وَالْكل تقدمُوا.
وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من الحَدِيث الطَّوِيل الَّذِي مضى فِي: بَاب الصَّعِيد الطّيب. فَإِن قلت: هَذَا لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِكَوْن الضَّرْب فِي التَّيَمُّم مرّة وَاحِدَة. قلت: إِن كَانَ لفظ: بَاب، مَوْجُودا على رَأس الحَدِيث فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب لِأَنَّهُ حينئذٍ لَا اخْتِصَاص لَهُ بذلك، بل للْإِشَارَة إِلَى أَن الصَّعِيد كافٍ للْجنب وَغَيره، وَإِن كَانَ غير مَوْجُود فَجَوَابه أَنه أطلق وَلم يُقيد بضربة وَلَا ضربتين، وَأقله يكون مرّة وَاحِدَة، فَيدْخل فِي التَّرْجَمَة. فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق.(4/38)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
8 - (كِتَابُ الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الصَّلَاة، وارتفع: كتاب، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف كَمَا قدرناه، وَيجوز أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَي: كتاب الصَّلَاة هَذَا، وَيجوز أَن ينْتَصب على تَقْدِير خُذ كتاب الصَّلَاة، وَقد مضى تَفْسِير الْكتاب مرّة. وَلما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة الَّتِي مِنْهَا شُرُوط الصَّلَاة، شرع فِي بَيَان الصَّلَاة الَّتِي هِيَ الْمَشْرُوطَة. فَلذَلِك أَخّرهَا عَن الطهارات، لِأَن شَرط الشَّيْء يسْبقهُ، وَحكمه يعقبه، ثمَّ معنى الصَّلَاة فِي اللُّغَة الْغَالِبَة الدُّعَاء. قَالَ تَعَالَى: {وصل عَلَيْهِم} (:) أَي: ادْع لَهُم. وَفِي الحَدِيث، فِي إِجَابَة الدعْوَة: (وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل) أَي: فَليدع لَهُم بِالْخَيرِ وَالْبركَة. وَقيل: هِيَ مُشْتَقَّة من: صليت الْعود على النَّار: إِذا قومته. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن لَام، الْكَلِمَة فِي: الصَّلَاة: وَاو، بِدَلِيل الصَّلَوَات، وَفِي: صليت: فَكيف يَصح الِاشْتِقَاق مَعَ اخْتِلَاف الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة؟
قلت: دَعْوَاهُ بِالْبُطْلَانِ غير صَحِيحَة، لِأَن اشْتِرَاط اتِّفَاق الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة فِي الِاشْتِقَاق الصَّغِير دون الْكَبِير والأكبر، فَإِن قلت: لَو كَانَت واوية كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: صلوت، وَلم يقل ذَلِك. قلت: هَذَا لَا يَنْفِي أَن تكون واوية لأَنهم يقلبون: الْوَاو يَاء إِذا وَقعت رَابِعَة. وَقيل؛ الصَّلَاة مُشْتَقَّة من: الصلوين، تَثْنِيَة: الصلا، وَهُوَ مَا عَن يَمِين الذَّنب وشماله، قَالَه الْجَوْهَرِي. قلت: هما العظمان الناتئان عِنْد العجيزة، وَذَلِكَ لِأَن الْمُصَلِّي يُحَرك صلويه فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود. وَقيل: مُشْتَقَّة من الْمصلى، وَهُوَ الْفرس الثَّانِي من خيل السباق، لِأَن رَأسه تلِي صلوي السَّابِق. وَقيل: أَصْلهَا من التَّعْظِيم، وَسميت الْعِبَادَة الْمَخْصُوصَة: صَلَاة، لما فِيهَا من تَعْظِيم الرب. وَقيل: من الرَّحْمَة، وَقيل: من التَّقَرُّب، من قَوْلهم: شَاة مصلية، وَهِي الَّتِي قربت إِلَى النَّار. وَقيل: من اللُّزُوم، قَالَ الزّجاج: يُقَال: صلى واصطلى: إِذا لزم. وَقيل: هِيَ الإقبال على الشَّيْء. وَأنكر غير وَاحِد بعض هَذِه الاشتقاقات لاخْتِلَاف لَام الْكَلِمَة فِي بعض هَذِه الْأَقْوَال، فَلَا يَصح الِاشْتِقَاق مَعَ اخْتِلَاف الْحُرُوف. قلت: قد أجبنا الْآن عَن ذَلِك. وَأما مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ: فَهِيَ عبارَة عَن الْأَركان الْمَعْهُودَة وَالْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة.
وَقد ذكر بَعضهم وَجه الْمُنَاسبَة بَين أَبْوَاب كتاب الصَّلَاة، وَهِي تزيد على عشْرين نوعا فِي هَذَا الْموضع، ثمَّ قَالَ: آخر مَا ظهر من مُنَاسبَة تَرْتِيب كتاب الصَّلَاة فِي هَذَا الْجَامِع الصَّحِيح، وَلم يتَعَرَّض أحد من الشُّرَّاح لذَلِك. قلت: نَحن نذْكر وَجه الْمُنَاسبَة بَين كل بَابَيْنِ من هَذِه الْأَبْوَاب بِمَا يفوق ذَلِك على ماذكره، يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة، وَذكرهَا فِي موضعهَا أنسب وأوقع فِي الذِّهْن وَأقرب إِلَى الصَّوَاب، وبا التَّوْفِيق.
1 - (بابُ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلواتُ فِي الإسْراءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الصَّلَاة فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَالْمُسْتَمْلِي: (كَيفَ فرضت الصَّلَوَات) ، بِالْجمعِ، وَاخْتلفُوا فِي الْمِعْرَاج والإسراء هَل كَانَا فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَو فِي لَيْلَتَيْنِ؟ وَهل كَانَا جَمِيعًا فِي الْيَقَظَة أَو فِي الْمَنَام؟ أَو أَحدهمَا فِي الْيَقَظَة وَالْآخر فِي الْمَنَام؟ فَقيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ مرَّتَيْنِ: مرّة بِرُوحِهِ مناماً، وَمرَّة بِرُوحِهِ وبدنه يقظة. وَمِنْهُم من يَدعِي تعدد الْإِسْرَاء فِي الْيَقَظَة أَيْضا، حَتَّى قَالَ: إِنَّه أَربع إسراآت، وَزعم بَعضهم أَن بَعْضهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ووفق أَبُو شامة فِي رِوَايَات حَدِيث الْإِسْرَاء بِالْجمعِ بالتعدد، فَجعل ثَلَاث إسراآت مرّة من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَقَط على الْبراق، وَمرَّة من مَكَّة إِلَى السَّمَوَات على الْبراق أَيْضا. وَمرَّة من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِلَى السَّمَوَات. وَجُمْهُور السّلف وَالْخلف على الْإِسْرَاء كَانَ بِبدنِهِ وروحه. وَأما من مَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فبنص الْقُرْآن، وَكَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة عشرَة من النُّبُوَّة؛ وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ أه أسرِي بِهِ قبل خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة بِسنة، وَعَن السّديّ قبل مهاجرته بِسِتَّة عشر شهرا، فعلى قَوْله يكون الْإِسْرَاء فِي شهر ذِي الْقعدَة، وعَلى قَول الزُّهْرِيّ: يكون فِي ربيع الأول. وَقيل: كَانَ الْإِسْرَاء لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب، وَقد اخْتَارَهُ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ بن سرو الْمَقْدِسِي فِي سيرته، وَمِنْهُم من يزْعم أَنه كَانَ فِي أول لَيْلَة جُمُعَة من شهر رَجَب، وَهِي لَيْلَة الرغائب الَّتِي أحدثت فِيهَا الصَّلَاة الْمَشْهُورَة، وَلَا أصل لَهَا، ثمَّ قيل: كَانَ قبل موت أبي طَالب. وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَنه كَانَ بعد مَوته فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة للنبوة،(4/39)
ثمَّ قيل: كَانَ فِي لَيْلَة السبت لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من رَمَضَان فِي السّنة الثَّالِثَة عشرَة للنبوة. وَقيل: كَانَ فِي ربيع الأول. وَقيل: كَانَ فِي رَجَب، وَا أعلم.
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبَاب بعد قَوْله: كتاب الصَّلَاة؟ وَمَا وَجه تتويج الْأَبْوَاب الْآتِيَة بِهَذَا الْبَاب؟ قلت: لِأَن هَذَا الْكتاب يشْتَمل على أُمُور الصَّلَاة وَأَحْوَالهَا. وَمن جُمْلَتهَا معرفَة كَيْفيَّة فرضيتها، لِأَنَّهَا هِيَ الأَصْل وَالْبَاقِي عَارض عَلَيْهِ، فَمَا بِالذَّاتِ مقدم على مَا بِالصِّفَاتِ.
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ حدّثني: أبُو سُفْيانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ فَقَالَ يَأْمُرُنا يَعْنِي النبيَّ بالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ والعَفَاف.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول أَن ابْن عَبَّاس هُوَ عبد احبر هَذِه الْأمة وترجمان الْقُرْآن، وَأَبُو سُفْيَان اسْمه صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي الْمَكِّيّ، وَهُوَ وَالِد مُعَاوِيَة وَإِخْوَته، أسلم لَيْلَة الْفَتْح وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة، وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بن عَفَّان. وهرقل، بِكَسْر الْهَاء وَفتح الرَّاء على الْمَشْهُور، وَحكى جمَاعَة إسكان الرَّاء وَكسر الْقَاف: كخندف، مِنْهُم الْجَوْهَرِي، وَهُوَ اسْم عجمي تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب على أَنه غير منصرف للعلمية والعجمة، ملك إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة، وَفِي ملكه مَاتَ النَّبِي، ولقبه: قَيْصر، كَمَا إِن من ملك الْفرس يُقَال لَهُ: كسْرَى، وَالتّرْك يُقَال لَهُ: خاقَان.
الثَّانِي: أَن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وقطعه من حَدِيث طَوِيل ذكره فِي أول الْكتاب مُسْندًا، أَو قَالَ: حدّثنا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد ابْن عبد ابْن عتبَة بن مَسْعُود أَن عبد ابْن عَبَّاس أخبرهُ أَن أَبَا سُفْيَان أخبرهُ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش إِلَى أَن قَالَ: (وَسَأَلْتُك بِمَا يَأْمُركُمْ فَذكرت أَنه يَأْمُركُمْ أَن تعبدوا اولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وينهاكم عَن عبَادَة الْأَوْثَان، ويأمركم بِالصَّلَاةِ والصدق والعفاف) الحَدِيث.
الثَّالِث فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (النَّبِي) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: يَعْنِي، وبالرفع فَاعل لقَوْله: (يَأْمُرنَا) ، وَالْبَاء فِي: بِالصَّلَاةِ، يتَعَلَّق بقوله: (يَأْمُرنَا) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَََقَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير، وَالْبُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَرْبَعَة عشر موضعا، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يُخرجهُ ابْن مَاجَه. وَالصَّلَاة: هِيَ الْعِبَادَة المفتتحة بِالتَّكْبِيرِ المختتمة بِالتَّسْلِيمِ. والصدق: هُوَ القَوْل المطابق للْوَاقِع. والعفاف: الانكفاف عَن الْمُحرمَات وخوارم المروءات.
الرَّابِع فِي وَجه مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة: قَالَ بَعضهم: مناسبته لهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الصَّلَاة فرضت بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة، لِأَن أَبَا سُفْيَان لم يلق النَّبِي بعد الْهِجْرَة إِلَى الْوَقْت الَّذِي اجْتمع فِيهِ بهرقل لِقَاء يتهيأ لَهُ مَعَه أَن يكون آمراً لَهُ بطرِيق الْحَقِيقَة، والإسراء كَانَ قبل الْهِجْرَة بِلَا خلاف، فظهرت الْمُنَاسبَة. انْتهى. قلت: التَّرْجَمَة فِي كَيْفيَّة الْفَرْضِيَّة بِمَعْنى: كَيفَ فرضت؟ لَا فِي بَيَان وَقت الْفَرْض، فَكيف تظهر الْمُنَاسبَة حَتَّى يَقُول هَذَا الْقَائِل: فظهرت الْمُنَاسبَة، وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عبد ابْن عَبَّاس مطولا مَا يشْعر بكيفية فَرضِيَّة الصَّلَاة؟ بل يذكر ذَلِك فِي حَدِيث الْإِسْرَاء الْآتِي، وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه لذكر هَذَا هَهُنَا وَجه، وَهُوَ أَن معرفَة كَيْفيَّة الشَّيْء تستدعي معرفَة ذَاته قبلهَا، فَأَشَارَ بِهَذَا أَولا إِلَى ذَات الصَّلَاة من حَيْثُ الْفَرْضِيَّة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة فرضيتها بِذكر حَدِيث الْإِسْرَاء، فَصَارَ ذكر قَول ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور تَوْطِئَة وتمهيداً لبَيَان كيفيتها، فَدخل فِيهَا، فَبِهَذَا الْوَجْه دخل تَحت التَّرْجَمَة، وَهَذَا مِمَّا سنح بِهِ خاطري من الْأَنْوَار الإلهية، وَلم يسبقني بِهَذَا أحد من الشُّرَّاح.
94351 - حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شهابٍ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قالَ كانَ أبُو ذَرٍ يُحَدِّثُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ قالَ: (فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأنا بِمَكَةَ فنزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُم غَسَلَهُ بِماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذهَبٍ مُمْتلِىءٍ حِكْمَةً وَإيماناً فأفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أطْبقَهُ ثُمَّ أخذَ بِيَدِي فَعَرَج بِي إِلَى السَّماءِ الدُّنيْا فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيا قالَ جبريلُ لخازِنِ السَّماءِ افْتَحْ قالَ مَنْ هَذا قالَ جبريلُ قالَ هلْ مَعَك أحَدٌ قالَ نَعَمْ(4/40)
مَعِي مُحمَّدٌ فقالَ أَأُرْسِلَ إِلَيهِ قالَ نَعمْ فَلمَّا فَتَحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا فإِذَا رَجلٌ قاعِدٌ عَلى يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ وَعلى يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ إِذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسارِه بَكَى فقالَ مَرْحَباً بالنَبيِّ الصَّالِحِ وَالإِبْنِ الصَّالِحِ قُلْتُ لِجِبرِيلَ مَنْ هَذا قالَ هَذا آدَمُ وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمِالِهِ نَسَمُ بَنيهِ فأهْلُ اليَمينِ مِنْهُمْ أهْلُ الجَنَّة وَالأَسْوِدَةُ الَّتي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ فإِذا نَظَرَ عَنْ يَمِينهِ ضَحِكَ وَإذا نَظَرَ قِبَل شِمَالِهِ بَكَى حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّماءِ الثَّانِيةِ فقالَ لخَازِنِهَا افْتَحْ فقالَ لَهُ خازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ) قَالَ أنَسٌ فَذَكَرَ أَنَّهُ وجَدَ فِي السَّمَواتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ ومُوسى وعِيسَى وإبْرَاهِيمَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ولمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أنَّهُ ذَكَرَ أنَّهُ وجَدَ آدمَ فِي السَّماءِ الدُّنْيَا وَإبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ قالَ أنَسٌ فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بالنَّبِيِّ بإِدْرِيسَ قالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والأخِ الصَالِحِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذا إدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْتُ بُموسَى فقالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ قُلْتُ مَنْ هَذَا قالَ هَذَا مُوسَى ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فقالَ مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبيِّ الصَّالِحِ قُلْتُ مَنْ هَذَا قالَ هذَا عِيسى ثُمَّ مَرَرْتُ بإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والإِبِنِ الصَّالِحِ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ هَذَا إِبْرَاهِيمُ قالَ ابنُ شِهَابٍ فأخْبَرَنِي ابنُ حَزْم أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ وأبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ كانَا يَقُولاَنِ قالَ النَبيُّ: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَّىً أسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ) . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وأنَسُ بنُ مالِكٍ قَالَ النبيُّ فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى امَّتي خَمْسِينَ صَلاَةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فقالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً قَالَ فارْجِعْ إِلَيّ رَبِّكَ فإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطيقُ ذَلِكع فَراجَعَنِي فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا فَقَالَ رَاجِعْ رَبِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ هِيَ خَمْسٌ وَهْيَ خَمْسُونَ لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَىَّ فَرَجَعْتُ إِلى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ منْ رَبيِّ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى وغَشيَهَا ألْوَان لاَ أدْرِي مَا هِي ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَائِلُ اللُّؤْلؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ) . (الحَدِيث 943 طرفاه فِي: 6361، 2433) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء، تكَرر ذكره، وَاللَّيْث بن سعد، وَيُونُس بن يزِيد، وَمُحَمّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَأنس بن مَالك وَأَبُو ذَر، بتَشْديد الرَّاء، واسْمه: جُنْدُب بن جُنَادَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني. وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج مُخْتَصرا عَن عَبْدَانِ عَن عبد اعن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس عَن أبي ذَر، وَأخرجه أَيْضا فِي بدءِ الْخلق عَن هدبة بن خَالِد عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن مَالك بن صعصعة، وَأخرجه فِي الْأَنْبِيَاء أَيْضا عَن عَبْدَانِ عَن عبد اعن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: قَالَ أنس: وَعَن أَحْمد(4/41)
بن صَالح عَن عَنْبَسَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: قَالَ أنس: عَن أبي ذَر، وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب قَوْله: {وكلم اموسى تكليماً} (النِّسَاء: 461) فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن عبد الْعَزِيز بن عبد اعن سُلَيْمَان عَن شريك بن عبد اعن أنس بن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب، وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن أبي عدي، وَعنهُ عَن معَاذ بن هِشَام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَقد روى هَذَا الحَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة، لَكِن طرقه فِي الصَّحِيحَيْنِ دَائِرَة عَن أنس مَعَ اخْتِلَاف أَصْحَابه عَنهُ، فَرَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن أبي ذَر كَمَا فِي هَذَا الْبَاب، وَرَوَاهُ قَتَادَة عَنهُ عَن مَالك بن صعصعة، وَرَوَاهُ شريك بن أبي نمر وثابت الْبنانِيّ عَنهُ عَن النَّبِي بِلَا وَاسِطَة، وَفِي سِيَاق كل مِنْهُم مَا لَيْسَ عِنْد الآخر. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من طرق كَثِيرَة عَن أنس.
ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: (فرج عَن سقف بَيْتِي) ، بِضَم الْفَاء وَكسر الرَّاء وبالجيم أَي: فتح فِيهِ فتح، وَرُوِيَ: (فشق) ، فَإِن قلت: كَانَ الْبَيْت لأم هانىء، فَكيف قَالَ: بَيْتِي، بإضافته إِلَى نَفسه؟ قلت: إضافه إِلَيْهِ بِأَدْنَى مُلَابسَة، وَهَذَا كثير فِي كَلَام الْعَرَب، كَمَا يَقُول أحد حاملي الْخَشَبَة للْآخر: خُذ طرفك. فَإِن قلت: رُوِيَ أَيْضا أَنه كَانَ فِي الْحطيم، فَكيف الْجمع بَينهمَا؟ قلت: أما على كَون العروج مرَّتَيْنِ فَظَاهر، وَأما على كَونه مرّة وَاحِدَة فَلَعَلَّهُ، بعد غسل صَدره دخل بَيت أم هانىء وَمِنْه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء، وَالْحكمَة فِي دُخُول الْمَلَائِكَة من وسط السّقف وَلم يدخلُوا من الْبَاب، كَون ذَلِك أوقع صدقا فِي الْقلب فِيمَا جاؤا بِهِ. قَوْله: (فَفرج صَدْرِي) ، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء وَالْجِيم، وَهُوَ فعل ماضٍ، أَي: شقَّه، ويروى: (شرح صدر) ، وَمِنْه: شرح اصدره. فَإِن قلت: ذكر فِي سير ابْن إِسْحَاق: شقّ صَدره وَهُوَ مسترضع فِي بني سعد عِنْد حليمة، وَرجحه عِيَاض. قلت: أجَاب السُّهيْلي بِأَن ذَلِك وَقع مرَّتَيْنِ، وَالْحكمَة فِي الشق الأول نزع الْعلقَة الَّتِي قيل لَهُ، عِنْد نَزعهَا: (هَذَا حَظّ الشَّيْطَان مِنْك) . وَفِي الثَّانِي: ليَكُون مستعداً للتلقي لما حصل لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة. وَقد روى الطَّيَالِسِيّ والْحَارث فِي (مسنديهما) من حَدِيث عَائِشَة: أَن الشق وَقع مرّة أُخْرَى عِنْد مَجِيء جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَيْهِ بِالْوَحْي فِي غَار حراء، وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم، (وَالْأَحَادِيث الْجِيَاد) للضياء مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد: أَن صَدره شقّ وعمره عشر سِنِين. قَوْله: (ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) الْغسْل: طهُور، وَالطهُور: شطر الْإِيمَان، وزمزم، غير منصرف: اسْم للبئر الَّتِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. قَوْله: (بطست) بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، وَقَالَ ابْن سَيّده؛ الطس والطسة والطسة، مَعْرُوف، وَجمع: الطس أطساس وطسوس وطسيس، وَجمع: الطسة والطسة طساس، وَلَا يمْنَع أَن يجمع الطسة على طسيس، بل ذَلِك قِيَاسه، والطَسّاس بَائِع الطسوس، والطِساسة حرفته، وَعَن أبي عُبَيْدَة: الطست فَارسي. قلت: هُوَ فِي الفارسية بالشين الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الْفراء: طي تَقول: طست، وَغَيرهم يَقُول: طس، وَهَذَا يرد مَا حَكَاهُ ابْن دحْيَة، قَالَ الْفراء: يُقَال: الطسة، أَكثر فِي كَلَام الْعَرَب، والطس، وَلم يسمع من الْعَرَب: الطست، وَفِي كتاب (التَّذْكِير والتأنيث) لِابْنِ الْأَنْبَارِي، يُقَال: الطست، بِفَتْح الطَّاء وَكسرهَا، قَالَه أَبُو زيد، وَقَالَ ابْن قرقول: طس، بِالْفَتْح وَالْكَسْر وَالْفَتْح أفْصح، وَهِي مُؤَنّثَة، وَخص الطست بذلك دون بَقِيَّة الْأَوَانِي لِأَنَّهُ آلَة الْغسْل عرفا. قَوْله: (من ذهب) لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهم اسْتِعْمَال آنِية الذَّهَب لنا، فَإِن ذَلِك فعل الْمَلَائِكَة واستعمالهم وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون حكمهم حكمنَا، أَو لِأَن ذَلِك كَانَ أول الْأَمر قبل اسْتِعْمَال الْأَوَانِي من النَّقْدَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ على أصل الْإِبَاحَة، وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ من ذهب لِأَنَّهُ أَعلَى أواني الْجنَّة، وَهُوَ وَرَأس الْأَثْمَان، وَله خَواص مِنْهَا: أَنه لَا تَأْكُله النَّار فِي حَال التَّعْلِيق، وَلَا تَأْكُله الأَرْض، وَلَا تغيره، وَهُوَ أنقى كل شَيْء وأصفاه، وَيُقَال فِي الْمثل: أنقى من الذَّهَب، وَهُوَ بَيت الْفَرح وَالسُّرُور. وَقَالَ الشَّاعِر:
(صفراء لَا تنزل الأحزان ساحتها ... لَو مَسهَا حجر مسته سراء)
وَهُوَ أثقل الْأَشْيَاء فَيجْعَل فِي الزئبق الَّذِي هُوَ أثقل الْأَشْيَاء فيرسب، وَهُوَ مُوَافق لثقل الْوَحْي، وَهُوَ عَزِيز، وَبِه يتم الْملك. قَوْله: (ممتلىء حِكْمَة وإيماناً) الْحِكْمَة: اسْم من حكم بِضَم عين الْفِعْل أَي: صَار حكيماً، وَصَاحب الْحِكْمَة. المتقن للأمور، وَأما: حكم، بِفَتْح عين الْفِعْل، فَمَعْنَاه: قضى، ومصدره: حكم بِالضَّمِّ، وَالْحكم أَيْضا: الْحِكْمَة بِمَعْنى: الْعلم، والحكيم: الْعَالم، وَزعم النَّوَوِيّ: أَن الحمكة فِيهَا أَقْوَال مضطربة، صفي لنا مِنْهَا أَن الْحِكْمَة عبارَة عَن الْعلم المتصف بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَملَة على الْمعرفَة با تَعَالَى، المصحوب(4/42)
بنفاذ البصيرة وتهذيب النَّفس وَتَحْقِيق الْحق وَالْعَمَل بِهِ والصد عَن اتِّبَاع الْهوى وَالْبَاطِل، فالحكيم من حَاز ذَلِك كُله. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل كلمة وعظتك أَو زجرتك أَو دعتك إِلَى مكرمَة أَو نهتك عَن قَبِيح فَهِيَ حِكْمَة. وَقيل: الْحِكْمَة الْمَانِعَة من الْجَهْل. وَقيل: هِيَ النُّبُوَّة. وَقيل: الْفَهم عَن اتعالى. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْقُرْآن كفى بِهِ حِكْمَة لِأَن الْأمة صَارَت عُلَمَاء بعد الْجَهْل. وَفِي (التَّوْضِيح) ، وَفِي هَذَا الحَدِيث دلَالَة صَرِيحَة أَن شرح صَدره كَانَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَفعل بِهِ ذَلِك لزِيَادَة الطُّمَأْنِينَة لما يرى من عظم الملكوت، أَو لِأَنَّهُ يُصَلِّي بِالْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِم وَالسَّلَام.
قَوْله: (فأفرغه فِي صَدْرِي) أَي: أفرغ كل وَاحِد من الْحِكْمَة وَالْإِيمَان اللَّذين كَانَا فِي الطست فِي صَدْرِي. قَوْله: (ثمَّ أطبقه) أَي؛ ثمَّ أطبق صَدره، يُقَال: أطبقت الشَّيْء إِذا غطيته وَجَعَلته مطبقاً. وَفِي (التَّوْضِيح) : لما فعل بِهِ ذَلِك ختم عَلَيْهِ كَمَا يخْتم على الْوِعَاء المملوء، فَجمع اله أَجزَاء النُّبُوَّة وختمها، فَهُوَ خَاتم النَّبِيين، وَختم عَلَيْهِ فَلم يجد عدوه سَبِيلا إِلَيْهِ من أجل ذَلِك، لِأَن الشَّيْء الْمَخْتُوم محروس، وَقد جَاءَ أَنه استخرج مِنْهُ علقَة، وَقَالَ: هَذَا حَظّ الشَّيْطَان مِنْك، وَذكر عِيَاض أَن مَوضِع الْخَاتم إِنَّمَا هُوَ شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ، ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ: هَذِه غَفلَة، لِأَن الشق إِنَّمَا كَانَ وَلم يبلغ بِالسِّنِّ حَتَّى نفذ إِلَى ظَهره، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَالْبَزَّار وَغَيرهمَا من حَدِيث عُرْوَة عَن أبي ذَر، وَلم يسمع مِنْهُ فِي حَدِيث الْملكَيْنِ، قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: اغسل بَطْنه غسل الْإِنَاء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثمَّ خاط بَطْني وَجعل الْخَاتم بَين كَتِفي كَمَا هُوَ الْآن، وَهَذَا دَال مَعَ حَدِيث البُخَارِيّ، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَأَنه فِي الصَّدْر دون الظّهْر، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَاتم فِي ظَهره ليدل على ختم النُّبُوَّة بِهِ، وَأَنه لَا نَبِي بعده، وَكَانَ تَحت نغض كتفه لِأَن ذَلِك الْموضع مِنْهُ يوسوس الشَّيْطَان. قَوْله: (فعرج بِي) يَعْنِي: صعد، والعروج: الصعُود. يُقَال: عرج يعرج عروجاً من بَاب: نصر ينصر، وَقَالَ ابْن سَيّده: عرج فِي الشَّيْء وَعَلِيهِ يعرج وعرج يعرج عروجاً: رقي، وعرج الشَّيْء فَهُوَ عريج: ارْتَفع وَعلا، والمعراج شبه سلم مفعال من العروج، كَأَنَّهُ آلَة لَهُ. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْمِعْرَاج شبه سلم تعرج عَلَيْهِ الْأَرْوَاح. وَقيل: هُوَ حَيْثُ تصعد أَعمال بني آدم. قَوْله: (إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا) وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) مَرْفُوعا: (بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) . وَذكر فِي كتاب (العظمة) لأبي سعيد أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَعرَابِي: عَن عبد ا، قَالَ: (مَا بَين السَّمَاء إِلَى الأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، وَبَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء الَّتِي تَلِيهَا مثل ذَلِك، وَمَا بَين السَّمَاء السَّابِعَة إِلَى الْكُرْسِيّ كَذَلِك، وَالْمَاء على الْكُرْسِيّ، وَالْعرش على ذَلِك المَاء) . وَفِي كتاب (الْعَرْش) لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة، بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْعَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (هَل تَدْرُونَ كم بَين السَّمَاء وَالْأَرْض؟ قُلْنَا؛ اورسوله أعلم. قَالَ: بَينهمَا خَمْسمِائَة عَام، وكثف كل سَمَاء خَمْسمِائَة سنة، وَفَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) . وَرُوِيَ أَيْضا عَن أبي ذَر مَرْفُوعا مثله. قَوْله: (افْتَحْ) أَي: إفتح الْبَاب، وَهَذَا يدل على أَن الْبَاب كَانَ مغلقاً، وَالْحكمَة فِيهِ أَن السَّمَاء لم تفتح إلاَّ لأَجله، بِخِلَاف مَا لَو وجده مَفْتُوحًا، وَهَذَا يدل أَيْضا على أَن عروجه، كَانَ بجسده، إِذْ لَو لم يكن بجسده لما استفتح الْبَاب.
قَوْله: (قَالَ من هَذَا؟) أَي: قَالَ الخازن: من هَذَا الَّذِي يقرع الْبَاب؟ قَالَ: جِبْرِيل، وَفِيه إِثْبَات الاسْتِئْذَان، وَأَن يَقُول: فلَان، وَلَا يَقُول: أَنا، كَمَا نهي عَنهُ فِي حَدِيث جَابر. قَوْله: (أَسْوِدَة) جمع سَواد، كالأزمنة جمع زمَان، والسواد الشَّخْص، وَقيل: الْجَمَاعَات، وَسَوَاد النَّاس: عوامهم، وكل عدد كثير، وَيُقَال: هِيَ الْأَشْخَاص من كل شَيْء. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ شخص كل شَيْء من مَتَاع أَو غَيره، وَالْجمع: أَسْوِدَة، وأساودة جمع الْجمع. قَوْله: (مرْحَبًا) مَعْنَاهُ أصبت رحباً وسهلاً، فاستأنس وَلَا تستوحش. قَوْله؛ (بِالنَّبِيِّ الصَّالح) ، وَهُوَ الْقَائِم بِحُقُوق اوحقوق الْعباد، وَكلهمْ قَالُوا لَهُ: بِالنَّبِيِّ الصَّالح، لشُمُوله سَائِر الْخلال المحمودة الممدوحة من الصدْق وَالْأَمَانَة والعفاف وَالْفضل، وَلم يقل لَهُ أحد: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّادِق، وَلَا: بِالنَّبِيِّ الْأمين، لما ذكرنَا أَن الصّلاح شَامِل لسَائِر أَنْوَاع الْخَيْر. قَوْله: (نسم بنيه) النسم؛ بِفَتْح النُّون وَالسِّين، والنسمة: نفس الرّوح، و: مَا بهَا نسمَة أَي: نفس، وَالْجمع: نسم، قَالَه ابْن سَيّده. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ النَّفس، وَالْمرَاد أَرْوَاح بني آدم، وَقَالَ ابْن التِّين: ورويناه: نسيم بني آدم، وَالْأول أشبه. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: فِيهِ دلَالَة أَن نسم أهل النَّار فِي السَّمَاء ثمَّ قَالَ: قد جَاءَ أَن أَرْوَاح الْكفَّار فِي سِجِّين، وَأَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ منعمة فِي الْجنَّة، فَكيف تكون مجتمعة فِي السَّمَاء؟ وَأجَاب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنَّهَا تعرض على آدم أوقاتاً فصادف وَقت عرضهَا مُرُور النَّبِي. فَإِن قلت: لَا تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لأرواح الْكفَّار(4/43)
كَمَا هُوَ نَص الْقُرْآن. قلت: يحْتَمل أَن الْجنَّة كَانَت فِي جِهَة يَمِين آدم وَالنَّار فِي جِهَة شِمَاله، وَكَانَ يكْشف لَهُ عَنْهُمَا، وَيحْتَمل أَن يُقَال: إِن النسم المرئية هِيَ لم تدخل الأجساد بعد، وَهِي مخلوقة قبل الأجساد ومستقرها عَن يَمِين آدم وشماله، وَقد أعلمهُ ابما يصيرون إِلَيْهِ، فَلذَلِك كَانَ يستبشر إِذا نظر إِلَى من عَن يَمِينه، ويحزن إِذا نظر إِلَى من عَن يسَاره. قَوْله: (قَالَ أنس: فَذكر) ، ويروى: (فَقَالَ أنس: فَذكر) ، أَي أَبُو ذَر.
قَوْله: (أَنه) أَي: أَن النَّبِي. قَوْله: (وَلم يثبت) من الْإِثْبَات أَي: لم يعين أَبُو ذَر لكل نَبِي سَمَاء معينا غير مَا ذكر أَنه وجد آدم فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة، وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) : من حَدِيث أنس عَن مَالك بن صعصة أَنه وجد فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم كَمَا سلف فِي حَدِيث أبي ذَر، وَفِي الثَّانِيَة يحيى وَعِيسَى، وَفِي الثَّالِثَة يُوسُف، وَفِي الرَّابِعَة إِدْرِيس، وَفِي الْخَامِسَة، هَارُون وَفِي السَّادِسَة مُوسَى، وَفِي السَّابِعَة إِبْرَاهِيم، وَهُوَ مُخَالف لرِوَايَة أنس عَن أبي ذَر أَنه وجد إِبْرَاهِيم فِي السَّادِسَة، وَكَذَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم. وَأجِيب: بِأَن الْإِسْرَاء إِن كَانَ مرَّتَيْنِ فَيكون رأى إِبْرَاهِيم فِي إِحْدَاهمَا فِي إِحْدَى السمائين، وَيكون استقراره بهَا ووطنه، وَفِي الثَّانِيَة فِي سَمَاء غير وَطنه، وَإِن كَانَ مرّة فَيكون أَولا رَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة، ثمَّ ارْتقى مَعَه إِلَى السَّابِعَة، وَيُقَال: إِن الْمِعْرَاج إِذا كَانَ مرّة فالأرجح رِوَايَة الْجَمَاعَة بقوله فِيهَا أَنه رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، وَهُوَ فِي السَّابِعَة بِلَا خلاف، وَقَول هَذَا الْقَائِل: بِلَا خلاف، غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ خلافًا، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَالربيع أَنه فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي اعنه، أَنه عِنْد شَجَرَة طُوبَى فِي السَّادِسَة، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك أَنه فِي السَّابِعَة.
فَإِن قلت: كَيفَ يجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال وفيهَا مُنَافَاة قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن ارفعه لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، ثمَّ إِلَى السَّابِعَة تَعْظِيمًا للنَّبِي حَتَّى يرَاهُ فِي أَمَاكِن، ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) الْبَيْت الْمَعْمُور حذاء الْعَرْش بحيال الْكَعْبَة يُقَال لَهُ: الضراح، حرمته فِي السَّمَاء كَحُرْمَةِ الْكَعْبَة فِي الأَرْض، يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألفا من الْمَلَائِكَة يطوفون بِهِ وَيصلونَ فِيهِ ثمَّ لَا يعودون إِلَيْهِ أبدا، وخادمه ملك يُقَال لَهُ: رزين. وَقيل: كَانَ فِي الْجنَّة فَحمل إِلَى الأَرْض لأجل آدم، ثمَّ رفع إِلَى السَّمَاء أَيَّام الطوفان. قلت: الضراح، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. وَقَالَ الصغاني: وَيُقَال لَهُ: الضريح أَيْضا.
قَوْله: (قَالَ أنس) ، ظَاهره أَن هَذِه الْقطعَة لم يسْمعهَا أنس من أبي ذَر. قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. قَوْله: (ابْن حزم) هُوَ أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الْأنْصَارِيّ النجاري الْمدنِي، وَأَبوهُ مُحَمَّد، ولد فِي عهد رَسُول ا، وَأمر أَبَاهُ أَن يَكْتُبهُ بِأبي عبد الْملك، وَكَانَ فَقِيها فَاضلا، قتل يَوْم الْحرَّة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين سنة، وَهُوَ تَابِعِيّ، وَذكر ابْن الْأَثِير فِي الصَّحَابَة وَلم يسمع الزُّهْرِيّ مِنْهُ لتقدم مَوته. قَوْله: (وَأَبا حَبَّة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَقَالَ الْقَابِسِيّ: بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وغلطوه فِي ذَلِك. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ بالنُّون، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: عَامر، وَقيل: عمر، وَقيل: ثَابت، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَالك. قَالُوا: فِي هَذَا الْإِسْنَاد وهم لِأَن المُرَاد بِابْن حزم أما أَبُو بكر، فَهُوَ لم يدْرك أَبَا حَبَّة، وَأما مُحَمَّد فَهُوَ لم يُدْرِكهُ الزُّهْرِيّ. وَأجِيب: بِأَن حزم روى مُرْسلا حَيْثُ نقل بِكَلِمَة: ان، عَنْهُمَا، وَلم يقل نَحْو: سَمِعت وَأَخْبرنِي، فَلَا وهم فِيهِ، وَهَكَذَا أَيْضا فِي (صَحِيح مُسلم) . قَوْله: (حَتَّى ظَهرت) أَي: عَلَوْت وَارْتَفَعت، وَمِنْه قَوْله:
(وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا لم تظهر)
قَوْله: (لمستوىً) بِفَتْح الْوَاو، وَقَالَ الْخطابِيّ: المُرَاد بِهِ المصعد، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: أتيت أَبَا ربيعَة الْأَعرَابِي وَهُوَ على السَّطْح، فَقَالَ: استوي: اصْعَدْ. وَقيل: هُوَ الْمَكَان المستوي. قَوْله: (صريف الأقلام) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وَهُوَ تصويتها حَال الْكِتَابَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ صَوت مَا تكتبه الْمَلَائِكَة من أقضية اتعالى ووحيه، وَمَا ينسخونه من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، أَو مَا شَاءَ اتعالى من ذَلِك أَن يكْتب وَيرْفَع لما أَرَادَهُ امن أمره وتدبيره فِي خلقه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يعلم الْغَيْب إلاَّ هُوَ الْغَنِيّ عَن الاستذكار بتدوين الْكتب والاستثبات بالصحف، أحَاط بِكُل شَيْء علما، وأحصى كل شَيْء عددا. قَوْله: (قَالَ ابْن حزم) ، أَي: عَن شَيْخه، وَأنس بن مَالك أَي: عَن أبي ذَر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه من جملَة مقول ابْن شهَاب، وَيحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَلَيْسَ بَين أنس وَبَين رَسُول الله ذكر أبي ذَر، وَلَا بَين ابْن حزم وَرَسُول الله ذكر ابْن عَبَّاس وَأبي حَبَّة فَهُوَ إِمَّا من قبيل الْمُرْسل، وَإِمَّا أَنه ترك الْوَاسِطَة اعْتِمَادًا على مَا تقدم آنِفا، مَعَ أَن الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ أَنه إِذا قَالَ: قَالَ رَسُول ا، يكون بِدُونِ الْوَاسِطَة، فَلَعَلَّ أنسا سمع هَذَا الْبَعْض من الحَدِيث من رَسُول ا، وَالْبَاقِي سَمعه من أبي ذَر؟ .
قَوْله: (فَفرض اعلى أمتِي خمسين صَلَاة) وَفِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس عِنْد مُسلم؛ (فَفرض اعلي خمسين صَلَاة كل يَوْم وَلَيْلَة) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة عِنْد(4/44)
البُخَارِيّ، فَيحْتَمل أَن يُقَال: فِي كل من رِوَايَة الْبَاب وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى اخْتِصَار، أَو يُقَال: ذكر الْفَرْض عَلَيْهِ يسْتَلْزم الْفَرْض على الْأمة، وَبِالْعَكْسِ، إلاَّ مَا يسْتَثْنى من خَصَائِصه. قَوْله: (فَارْجِع إِلَى رَبك) ، أَي: الْموضع الَّذِي نَاجَيْت رَبك أَولا. قَوْله: (فراجعت) ، هَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فراجعني) ، وَالْمعْنَى وَاحِد. قَوْله: (فَوضع شطرها) ، وَفِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة؛ (فَوضع عني عشرا) ، وَمثله لِشَرِيك، وَفِي رِوَايَة ثَابت: (فحط عني خمْسا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشّطْر: النّصْف، فَفِي الْمُرَاجَعَة الأولى وُضع خمس وَعِشْرُونَ، وَفِي الثَّانِيَة ثَلَاثَة عشر، يَعْنِي بتكميل المتكرر، إِذْ لَا معنى لوضع بعض صَلَاة، وَفِي الثَّالِثَة: سَبْعَة. قلت: هَذَا كَلَام لَا يتَّجه، وَهُوَ يُخَالف ظَاهر عبارَة حَدِيث الْبَاب، لِأَن الْمُرَاجَعَة الْمَذْكُورَة فِيهِ ثَلَاثَة مَرَّات، وَلم يحصل الْوَضع إلاَّ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين، وَفِي الْمرة الثَّالِثَة، قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ، فَلم يحصل الْوَضع هَهُنَا، وَيلْزم من كَلَامه أَن تكون الْمُرَاجَعَة أَربع مَرَّات. فِي الأولى الشّطْر، وَفِي الثَّانِيَة ثَلَاثَة عشر، وَفِي الثَّالِثَة سَبْعَة، وَفِي الرَّابِعَة قَالَ: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) ، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك. قَالَ ابْن الْمُنِير: ذكر الشّطْر أَعم من كَونه وضع دفْعَة وَاحِدَة، وَقَالَ بَعضهم: قلت: وَكَذَا الْعشْر فِي دفعتين، والشطر فِي خمس دفعات. انْتهى. قلت: على هَذَا يكون سبع دفعات، فِي الْمُرَاجَعَة الأولى دفعتان وهما عشرُون كل دفْعَة عشرَة، وَفِي الثَّانِيَة تكون خمسه دفعات كل دفْعَة خمس فَتَصِير خَمْسَة وَعشْرين، وَلَكِن هَل كل دفْعَة فِي مُرَاجعَة فَتَصِير سبع مراجعات؟ أَو دفعتان فِي الْمُرَاجَعَة الأولى وَخمْس دفعات فِي الثَّانِيَة؟ فَلِكُل مِنْهُمَا وَجه بِالِاحْتِمَالِ، وَلَكِن ظواهر الرِّوَايَات لَا تساعد شَيْئا من ذَلِك إلاَّ بالتأويل، وَهُوَ أَن يكون المُرَاد من الشّطْر الْبَعْض، وَقد جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب ذَلِك، وَقد جَاءَ بِمَعْنى الْجِهَة أَيْضا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441) أَي: جِهَته، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون المُرَاد من الشّطْر فِي الْمُرَاجَعَة الأولى الْعشْر مرَّتَيْنِ، وَفِي الثَّانِيَة الْخمس خمس مَرَّات، فَتكون الْجُمْلَة خمْسا وَأَرْبَعين. إِلَى أَن قَالَ: (هن خمس) ، يَعْنِي خمس صلوَات فِي الْعَمَل، (وَهِي خَمْسُونَ) فِي الثَّوَاب، لِأَن لكل حَسَنَة عشر أَمْثَالهَا، كَمَا فِي النَّص. وَكَانَ الْفَرْض فِي الأول خمسين ثمَّ إِن اتعالى رحم عباده وَجعله بِخمْس تَخْفِيفًا لنا وَرَحْمَة علينا، ثمَّ هَل هَذَا نسخ أم لَا؟ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْفَرْض أَولا هُوَ الْخمسين، كَيفَ جَازَ وُقُوع التَّرَدُّد والمراجعة بَين النَّبِي وَبَين مُوسَى كليم اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: كَانَا يعرفان أَن الأول غير وَاجِب قطعا، وَلَو كَانَ وَاجِبا قطعا لما كَانَ يقبل التَّخْفِيف، وَلَا كَانَ النبيان العظيمان يفْعَلَانِ ذَلِك.
قَوْله: (هِيَ خمس وَهن خَمْسُونَ) ، وَفِي رِوَايَة: (هن خمس وَهِي خَمْسُونَ) ، يَعْنِي خمس من جِهَة الْعدَد فِي الْفِعْل، وَخَمْسُونَ بِاعْتِبَار الثَّوَاب، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (لَا يُبدل القَوْل لدي) أَي: قَالَ تَعَالَى: لَا يُبدل القَوْل لدي. قَوْله: (ارْجع إِلَى رَبك) ، ويروى: (رَاجع رَبك) . قَوْله: (قلت) ويروى (فَقلت) . قَوْله: (استحييت من رَبِّي) وَجه استحيائه من ربه أَنه لَو سَأَلَ الرّفْع بعد الْخمس لَكَانَ كَأَنَّهُ قد سَأَلَ رفع الْخمس بِعَينهَا، فَلذَلِك استحيي من أَن يُرَاجع بعد ذَلِك، وَلَا سِيمَا سمع من ربه: لَا يُبدل القَوْل لدي بعد قَوْله: (هن خمس وَهن خَمْسُونَ) وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون سَبَب الاستحياء أَن الْعشْرَة آخر جمع الْقلَّة، وَأول جمع الْكَثْرَة، فخشي أَن يدْخل فِي الإلحاح فِي السُّؤَال. قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب فِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب، وَأما فِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة وَشريك (فَوضع عني عشرا) فَفِيهِ إلحاح، لِأَن السُّؤَال قد تكَرر، وَكَيف، والإلحاح فِي الطّلب من اتعالى مَطْلُوب؟ .
قَوْله: (إِلَى السِّدْرَة الْمُنْتَهى) السدر: شجر النبق، واحدته: سِدْرَة، وَجَمعهَا سدر وسدور، الْأَخِيرَة نادرة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة عَن أبي زِيَاد: السدر، من العضاه، وَهُوَ لونان، فَمِنْهُ عبري وَمِنْه ضال، فَأَما العبري فَمَا لَا شوك فِيهِ إلاَّ مَا لَا يضير، وَأما الضال فَهُوَ ذُو شوك، وللسدر ورقة عريضة مُدَوَّرَة، وَرُبمَا كَانَت السِّدْرَة مَحل الإقلال، وورق الضال صغَار. قَالَ وأجود نبق يعلم بِأَرْض الْعَرَب نبق بهجر فِي بقْعَة وَاحِدَة تحمى للسُّلْطَان، وَهُوَ أَشد نبق يعلم حلاوة، وأطيبه رَائِحَة، يفوح فَم آكله وَثيَاب لابسه كَمَا يفوح الْعطر. وَفِي (نَوَادِر) الهجري: السدر يطْبخ ويصبغ بِهِ، وَفِي كتاب النَّوَوِيّ: تجمع السدر على؛ سدرات، بِإِسْكَان الدَّال، وَيُقَال بِفَتْحِهَا، وَيُقَال بِكَسْرِهَا مَعَ كسر السِّين فِيهَا. قَوْله: (الْمُنْتَهى) يَعْنِي الْمُنْتَهى فَوق السَّمَاء السَّابِعَة، وَقَالَ الْخَلِيل: فِي السَّابِعَة قد أظلت السَّمَوَات وَالْجنَّة، وَفِي رِوَايَة: (هُوَ فِي السَّمَاء السَّادِسَة) وَالْأول أَكثر، وَيحمل على تَقْدِير الصِّحَّة أَن يكون أَصْلهَا فِي السَّادِسَة ومعظمها فِي السَّابِعَة، وَزعم عِيَاض أَن أَصْلهَا فِي الأَرْض لخُرُوج النّيل والفرات من أَصْلهَا. انْتهى، وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِم، بل مَعْنَاهُ: أَن الْأَنْهَار تخرج من أَصْلهَا ثمَّ تسير حَيْثُ أَرَادَ اتعالى(4/45)
حَتَّى تخرج من الأَرْض وتسير فِيهَا وَرُوِيَ أَن من أَصْلهَا تخرج أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان وهما: السلسبيل والكوثر، ونهران ظاهران، وهما: النّيل والفرات، وَعَن ابْن عَبَّاس: هِيَ عَن يَمِين الْعَرْش. وَقَالَ ابْن قرقول: إِنَّهَا أَسْفَل الْعَرْش لَا يجاوزها ملك وَلَا نَبِي، وَفِي الْأَثر إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يعرج من الأَرْض وَمَا ينزل من السَّمَاء، فيفيض مِنْهَا. وَقيل: يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم كل ملك مقرب وَنَبِي مُرْسل. وَقَالَ كَعْب: وَمَا خلفهَا غيب لَا يُعلمهُ إلاَّ ا. وَقيل يَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء. وَقيل: إِن روح الْمُؤمن يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهَا فَتُصَلِّي عَلَيْهِ هُنَاكَ الْمَلَائِكَة المقربون. قَالَه ابْن سَلام فِي تَفْسِيره، قيل: قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (ثمَّ أدخلت الْجنَّة) يدل على أَن السِّدْرَة لَيست فِي الْجنَّة، وَقَالَ ابْن دحْيَة: ثمَّ فِي هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع لَيست للترتييب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} (الْبَلَد: 71) إِنَّمَا هِيَ مثل: الْوَاو، للْجمع والإشتراك، فَهِيَ بذلك خَارِجَة عَن أَصْلهَا.
قَوْله: (حبائل اللُّؤْلُؤ) كَذَا وَقع لجَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع، بِالْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة، ثمَّ لَام. وَذكر جمَاعَة مِنْهُم أَنه تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ: جنابذ، بِالْجِيم وَالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة ثمَّ ذال مُعْجمَة، كَمَا وَقع عِنْد المُصَنّف فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَمن رِوَايَة ابْن الْمُبَارك وَغَيره عَن يُونُس، وَكَذَا عِنْد غَيره من الْأَئِمَّة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِن صحت رِوَايَة: حبائل، فَيكون أَرَادَ بِهِ مَوَاضِع مُرْتَفعَة كحبال الرمل، كَأَنَّهُ جمع: حبالة، وحبالة جمع: حَبل، على غير قِيَاس، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن الزُّهْرِيّ: (دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا جنابذ من اللُّؤْلُؤ) . وَقَالَ ابْن قرقول: كَذَا لجميعهم فِي البُخَارِيّ حبائل، وَمن ذهب إِلَى صِحَة الرِّوَايَة، قَالَ: إِن الحبائل القلائد والعقود، أَو يكون من حبال الرمل أَي: فِيهَا اللُّؤْلُؤ كحبال الرمل، وَهُوَ جمع حَبل، وَهُوَ الرمل المستطيل، أَو من الحبلة وَهُوَ ضرب من الْحلِيّ مَعْرُوف. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَهَذَا كُله تخيل ضَعِيف، بل هُوَ بِلَا شكّ تَصْحِيف من الْكَاتِب، والحبائل إِنَّمَا تكون جمع: حبالة، أَو حبلة. و: الجنابذ، جمع: جنبذ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وبالموحدة المضمومة وبالذال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا ارْتَفع من الشَّيْء واستدار كالقبة، والعامة تَقول بِفَتْح الْبَاء، وَالْأَظْهَر أَنه فَارسي معرف. قلت: هُوَ فِي لِسَان الْعَجم: كنبذ، بِضَم الْكَاف الصماء وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي الْقبَّة.
ذكر إعرابه وَمَا يتَعَلَّق بِالْبَيَانِ: قَوْله: (وَأَنا بِمَكَّة) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (ممتلىء حِكْمَة وإيماناً) ممتلىء: بِالْجَرِّ، صفة: طست، وتذكيره بِاعْتِبَار الْإِنَاء، لِأَن الطست مُؤَنّثَة. وَكلمَة؛ من فِي: من ذهب، بَيَانِيَّة و: (حِكْمَة وإيماناً) منصوبان على التَّمْيِيز، وَجعل الْإِيمَان وَالْحكمَة فى الْإِنَاء وإفراغهما مَعَ أَنَّهُمَا مَعْنيانِ، وَهَذِه صفة الْأَجْسَام من أحسن المجازات، أَو أَنه من بَاب التَّمْثِيل، أَو؛ تمثل لَهُ الْمعَانِي كَمَا تمثل لَهُ أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء الدارجة بالصور الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، وَمعنى الْمجَاز فِيهِ كَأَنَّهُ جعل فِي الطست شَيْء يحصل بِهِ كَمَال الْإِيمَان وَالْحكمَة وزيادتهما، فَسمى ذَلِك الشَّيْء حِكْمَة وإيماناً لكَونه سَببا لَهما. قَوْله: (فعرج بِي إِلَى السَّمَاء) ويروى: (فعرج بِهِ) ، بضمير الْغَائِب، وَهُوَ من بَاب التَّجْرِيد، فَكَأَن النَّبِي جرد من نَفسه شخصا فَأَشَارَ إِلَيْهِ. وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن الرَّاوِي نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى لَا بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ الْتِفَات. قلت: هُوَ تَجْرِيد كَمَا قُلْنَا. قَوْله: (أأرسل إِلَيْهِ؟) بهمزتين: أولاهما: للاستفهام وَهِي مَفْتُوحَة وَالثَّانيَِة: همزَة التَّعَدِّي، وَهِي مَضْمُومَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَوَ أرسل إِلَيْهِ) ؟ بواو مَفْتُوحَة بَين الهمزتين، وَهَذَا السُّؤَال من الْملك الَّذِي هُوَ خَازِن السَّمَاء يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا الاستعجاب بِمَا أنعم اعليه من هَذَا التَّعْظِيم والإجلال حَتَّى أصعد إِلَى السَّمَوَات، وَالثَّانِي: الاستبشار بعروجه إِذا كَانَ من الْبَين عِنْدهم أَن أحدا من الْبشر لَا يرقى إِلَى أَسبَاب السَّمَاء من غير أَن يَأْذَن اله، وَيَأْمُر مَلَائكَته بإصعاده. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون خَفِي عَلَيْهِ أصل إرْسَاله لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ. قلت: كَيفَ يخفى عَلَيْهِ ذَلِك لاشتغاله بِعِبَادَتِهِ، وَقد قَالَ أَولا: من هَذَا؟ حِين قَالَ جِبْرِيل: إفتح. وَقَالَ أَيْضا: هَل مَعَك أحد؟ قَالَ جِبْرِيل: نعم معي مُحَمَّد؟ وَأَيْنَ الخفاء بعد ذَلِك؟ وَأَيْنَ الِاشْتِغَال بِالْعبَادَة فِي هَذَا الْوَقْت وَهُوَ وَقت المحاورة وَالسُّؤَال؟ وَأمر نبوته كَانَ مَشْهُورا فِي الملكوت لِأَنَّهَا لَا تخفى على خزان السَّمَوَات وحراسها، فصح أَن لَا يكون السُّؤَال عَن أصل الرسَالَة، وَإِنَّمَا كَانَ سؤالاً عَن أَنه أرسل إِلَيْهِ للعروج. والإسراء، فحينئذٍ احْتمل سُؤَالهمْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين.
فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة شريك: (أَو قد بعث؟) وَهَذَا يُؤَيّد مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل. قلت: معنى: أرسل وَبعث سَوَاء، على أَن الْمَعْنى هَهُنَا أَيْضا: أَو قد بعث إِلَى هَذَا الْمَكَان؟ وَذَلِكَ استعجاب مِنْهُ واستعظام لأَمره. قَوْله: (علونا السَّمَاء الدُّنْيَا) ، ضمير الْجمع فِيهِ يدل على أَنَّهُمَا كَانَ مَعَهُمَا مَلَائِكَة آخَرُونَ، فكأنهما كلما عد يَا سَمَاء تشيعهما الْمَلَائِكَة إِلَى أَن يصلا إِلَى سَمَاء أُخْرَى؛ وَالدُّنْيَا،(4/46)
صفة السَّمَاء فِي مَحل النصب، بِمَعْنى أَنه: لَا يظْهر النصب. قَوْله: (مرْحَبًا) مَنْصُوب بِأَنَّهُ مفعول مُطلق، أَي: أصبت سَعَة لَا ضيقا، وَالنّصب فِيهِ كَمَا فِي قَوْلهم: أَهلا وسهلاً. قَوْله: (فَإِذا رجل قَاعد) . ويروى: إِذا، بِدُونِ؛ الْفَاء، كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، وتختص بالجمل الإسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش، وظرف مَكَان عِنْد الْمبرد، وظرف زمَان عِنْد الزّجاج.
قَوْله: (قبل شِمَاله) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب بقوله؛ نظر، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، بِمَعْنى الْجِهَة. قَوْله: (بِإِدْرِيس) الْبَاء، فِيهِ، وَفِي قَوْله: (بِالنَّبِيِّ) يتعلقان كِلَاهُمَا بقوله: مر فَالْأولى للمصاحبة، وَالثَّانيَِة للإلصاق ويندفع بِهَذَا سُؤال من يَقُول: لَا يجوز تعلق حرفين من جنس وَاحِد بمتعلق وَاحِد لِأَنَّهُمَا ليسَا من جنس وَاحِد. قَوْله: (ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، هَذَا قَول النَّبِي، وَفِيه حذف تَقْدِيره؛ قَالَ النَّبِي: ثمَّ مَرَرْت بمُوسَى، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: فَلَمَّا مر جِبْرِيل، فَمَا وَجه قَوْله بعد هَذَا: (ثمَّ مَرَرْت) ؟ فَالَّذِي قدرناه هُوَ وَجهه، وَفِيه وَجه آخر، وَهُوَ أَن يكون الأول نقلا بِالْمَعْنَى، وَالثَّانِي يكون نقلا بِاللَّفْظِ بِعَيْنِه. قَوْله: (حَتَّى ظَهرت لمستوىً) اللَّام: فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي: عَلَوْت لأجل استعلاء مستوى، أَو لأجل رُؤْيَته، أَو يكون بِمَعْنى: إِلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أوحى لَهَا} (الزلزلة: 5) أَي: إِلَيْهَا، وَيجوز أَن يكون مُتَعَلقا بِالْمَصْدَرِ أَي: ظَهرت ظُهُور المتسوى. قلت: إِذا كَانَ: اللَّام، بِمَعْنى: إِلَى، يكون الْمَعْنى: إِنِّي أَقمت مقَاما بلغت فِيهِ من رفْعَة الْمحل إِلَى حَيْثُ اطَّلَعت على الكوائن، وَظهر لي مَا يُرَاد من أَمر اتعالى وتدبيره فِي خلقه، وَهَذَا هُوَ الْمُنْتَهى الَّذِي لَا يقدر أحد عَلَيْهِ. وَيُقَال: لَام، الْغَرَض و: إِلَى، الْغَايَة يَلْتَقِيَانِ فِي الْمَعْنى. قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {كل يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى} (:) فَإِن قلت: يجْرِي لأجل مُسَمّى، وَيجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى، هُوَ من تعاقب الحرفية. قلت: كلا، وَلنْ يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة إلاَّ بليد الطَّبْع ضيق العطن، وَلَكِن الْمَعْنيين، أَعنِي: الِانْتِهَاء والاختصاص، كل وَاحِد مِنْهُمَا ملائم لصِحَّة الْغَرَض، لِأَن قَوْلك: يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى مَعْنَاهُ: يبلغهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ، وقولك: يجْرِي لأجل مُسَمّى، يُرِيد: يجْرِي لإدراك أجل مُسَمّى. قَوْله: (هن خمس) الضَّمِير فِيهِ مُبْهَم يفسره الْخَبَر، كَقَوْلِه:
(هِيَ النَّفس مَا حملتها تتحمل)
قَوْله: (فَإِذا فِيهَا) . كلمة: إِذا هَهُنَا وَإِلَى فِي قَوْله: (وَإِذا ترابها) للمفاجأة.
ذكر استنباط الْأَحْكَام والفوائد: مِنْهَا: أَن الَّذِي يفهم من تَرْتِيب البُخَارِيّ هَهُنَا أَن الْإِسْرَاء والمعراج وَاحِد، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: كَيفَ فرضت الصَّلَاة فِي الْإِسْرَاء، ثمَّ أورد الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء) ، وَظَاهر إِيرَاده فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقْتَضِي أَن الْإِسْرَاء غير الْمِعْرَاج، فَإِنَّهُ ترْجم للإسراء تَرْجَمَة، وَأخرج فِيهَا حَدِيثا، ثمَّ ترْجم للمعراج تَرْجَمَة وَأخرج فِيهَا حَدِيثا. وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (فَنزل جِبْرِيل) ، وَقَوله: (فعرج بِي إِلَى السَّمَاء) يدلان على رِسَالَة النَّبِي وعَلى خصوصيته بِأُمُور لم يُعْطهَا غَيره. وَمِنْهَا: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هُوَ الَّذِي كَانَ ينزل على النَّبِي من عِنْد اوبأمره. وَمِنْهَا: أَن بَعضهم اسْتدلَّ بقوله: (ثمَّ أَخذ بيَدي) على أَن الْمِعْرَاج وَقع غير مرّة، لكَون، الْإِسْرَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس لم يذكر هَهُنَا. وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يُقَال: هُوَ من بَاب اخْتِصَار الرَّاوِي. قلت: هَذَا غير مقنع، لِأَن الرَّاوِي لَا يختصر مَا سَمعه عمدا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إِثْبَات الاسْتِئْذَان وَبَيَان الْأَدَب فِيمَا إِذا اسْتَأْذن أحد بدق الْبَاب وَنَحْوه، فَإِذا قيل لَهُ: من أَنْت؟ يَقُول: زيد، مثلا. وَلَا يَقُول: أَنا، إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ لبَقَاء الْإِبْهَام، كَذَا قَالُوا: قلت: وَلَا يقْتَصر على قَوْله: زيد، مثلا، لِأَن الْمُسَمّى: بزيد، قد يكون كثيرا فيشتبه عَلَيْهِ، بل يذكر الشَّيْء الَّذِي هُوَ مَشْهُور بَين النَّاس بِهِ. وَمِنْهَا: أَن رَسُول الرجل يَقُول مقَام آذنه، لِأَن الخازن لم يتَوَقَّف على الْفَتْح لَهُ على الْوَحْي إِلَيْهِ بذلك، بل عمل بِلَازِم الْإِرْسَال إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنه علم مِنْهُ أَن للسماء أبواباً حَقِيقَة وحفظة موكلين بهَا. وَمِنْهَا: أَنه علم أَن رَسُول الله من نسل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: (وَالِابْن الصَّالح) ، بِخِلَاف غَيره من الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِيهِ، فَإِنَّهُم قَالُوا: الْأَخ الصَّالح. وَمِنْهَا: جَوَاز مدح الْإِنْسَان فِي وَجهه إِذا أَمن عَلَيْهِ الْإِعْجَاب وَغَيره من أَسبَاب الْفِتَن. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ شَفَقَة الْوَالِد على وَلَده وسروره بِحسن حَاله. وَمِنْهَا: مَا قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِن فِيهِ عدم وجوب صَلَاة الْوتر حَيْثُ عين الْخمس. قُلْنَا؛ نَحن أَيْضا نقُول: لم يجب الْوتر فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبه بعد ذَلِك بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِن ازادكم صَلَاة) . الحَدِيث، فَلذَلِك انحطت دَرَجَته عَن الْفَرْض، لِأَن ثُبُوت الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ وَمِنْهَا أَن فِي ظَاهره أَن أَرْوَاح بني آدمر من أهل الْجنَّة وَالنَّار فِي دَرَجَته عَن الْفَرْض لِأَن ثُبُوت الْفَرْض الْخمس بِدَلِيل قَطْعِيّ. وَمِنْهَا: أَن الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان. قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء. وَمِنْهَا: أَنه قد اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز تحلية الْمُصحف. وَغَيره بِالذَّهَب، وَهَذَا اسْتِدْلَال بعيد، لِأَن ذَلِك كَانَ فعل الْمَلَائِكَة واستعمالهم،(4/47)
وَلَيْسَ بِلَازِم أَن يكون حكمهم كحكمنا، وَيحْتَاج أَيْضا إِلَى ثُبُوت كَونهم مكلفين بِمَا كلفنا بِهِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ هَذَا على أصل الْإِبَاحَة وَتَحْرِيم اسْتِعْمَال النَّقْدَيْنِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: أَن قوما استدلوا بِالنَّقْضِ على أَنه يجوز نسخ الْعِبَادَة قبل الْعَمَل بهَا، وَأنكر أَبُو جَعْفَر النّحاس هَذَا القَوْل من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: الْبناء على أَصله ومذهبه فِي أَن الْعِبَادَة لَا يجوز نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا، لِأَن ذَلِك عِنْده من البداء، والبداء على اسبحانه وَتَعَالَى محَال. الثَّانِي: أَن الْعِبَادَة، وَإِن جَازَ نسخهَا قبل الْعَمَل بهَا عِنْد من يرَاهُ، فَلَيْسَ يجوز عِنْد أحد نسخهَا قبل هبوطها إِلَى الأَرْض ووصولها إِلَى المخاطبين. قَالَ: وَإِنَّمَا ادّعى النّسخ فِيهَا القاشاني ليصحح بذلك مذْهبه فِي أَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر. قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَهَذَا إِنَّمَا هِيَ شَفَاعَة شفعها رَسُول الله لأمته، ومراجعة رَاجعهَا ربه ليخفف عَن أمته، وَلَا يُسمى نسخا. وَقَالَ السُّهيْلي: قَول أبي جَعْفَر: وَذَلِكَ بداء، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن حَقِيقَة البداء أَن يَبْدُو للْآمِر رَأْي يتَبَيَّن الصَّوَاب فِيهِ بعد أَن لم يكن تبينه، وَهَذَا محَال فِي حق اتعالى، وَالَّذِي يظْهر أَنه نسخ مَا وَجب على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من أَدَائِهَا، وَرفع عَنهُ اسْتِمْرَار الْعَزْم واعتقاد الْوُجُوب، وَهَذَا نسخ على الْحَقِيقَة، نسخ عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ من التَّبْلِيغ، فقد كَانَ فِي كل مرّة عَازِمًا على تَبْلِيغ مَا أَمر بِهِ ومراجعته، وشفاعته لَا تَنْفِي النّسخ، فَإِن النّسخ قد يكون عَن سَبَب مَعْلُوم، فشفاعته كَانَ سَببا للنسخ لَا مبطلة لحقيقته، وَلَكِن الْمَنْسُوخ مَا ذَكرْنَاهُ من حكم التَّبْلِيغ الْوَاجِب عَلَيْهِ قبل النّسخ، وَحكم الصَّلَوَات فِي خاصته، وَأما أمته فَلم ينْسَخ عَنْهُم حكم إِذْ لَا يتَصَوَّر نسخ الحكم قبل وُصُوله إِلَى الْمَأْمُور.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون هَذَا خَبرا لَا تعبداً، فَإِذا كَانَ خَبرا لَا يدْخلهُ النّسخ، وَمعنى الْخَبَر أَنه أخبرهُ ربه أَن على أمته خمسين صَلَاة، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ خَمْسُونَ، فتأولها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أَنَّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ، فبينها لَهُ ربه تَعَالَى عِنْد مُرَاجعَته أَنَّهَا فِي الثَّوَاب لَا فِي الْعَمَل. وَمِنْهَا: وجوب الصَّلَوَات الْخمس، وَالْبَاب مَعْقُود لهَذَا، وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن فرض الصَّلَاة كَانَ لَيْلَة الْإِسْرَاء. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: ثمَّ إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَتَى فهمز بعقبه فِي نَاحيَة الْوَادي فانفجرت عين مَاء مزن، فَتَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَمُحَمّد عَلَيْهِ السَّلَام، ينظر، فَرجع رَسُول الله فَأخذ بيد خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، ثمَّ أَتَى بهَا الْعين فَتَوَضَّأ كَمَا تَوَضَّأ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ صلى هُوَ وَخَدِيجَة رَكْعَتَيْنِ كَمَا صلى جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ نَافِع بن جُبَير: أصبح النَّبِي، لَيْلَة الْإِسْرَاء فَنزل جِبْرِيل حِين زاغت الشَّمْس فصلى بِهِ وَقَالَ جمَاعَة: لم تكن صَلَاة مَفْرُوضَة قبلهَا، إلاَّ مَا كَانَ أَمر بِهِ من قيام اللَّيْل من غير تَحْدِيد رَكْعَات وَوقت حُضُور، وَكَانَ يقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه. وَمِنْهَا: أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء. وَمِنْهَا: أَن أَعمال نَبِي آدم الصَّالِحَة تسر آدم وأعمالهم السَّيئَة تسوءه. وَمِنْهَا: أَنه يجب أَن يرحب بِكُل أحد من النَّاس فِي حِين لِقَائِه بإكرام النَّازِل، وَأَن يلاقيه بِأَحْسَن صِفَاته، وأعمها بجميل الثَّنَاء عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن أوَامِر اتعالى تكْتب بأقلام شَتَّى، وَأَن الْعلم يَنْبَغِي أَن يكْتب بأقلام كَثِيرَة، تِلْكَ سنة افي سمواته، فَكيف فِي أرضه؟ وَمِنْهَا: أَن مَا قَضَاهُ وأحكمه من آثَار مَعْلُومَة وآجال مَكْتُوبَة وَشبه ذَلِك مِمَّا لَا يُبدل لَدَيْهِ، وَأما مَا نسخه رفقا لِعِبَادِهِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ {يمحو اما يَشَاء وَيثبت} (الرَّعْد: 93) .
الأسئلة والأجوبة فَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه اعتناء مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، الَّذين رَآهُمْ النَّبِي لَيْلَة الْإِسْرَاء؟ وَأجِيب: لما ورد أَنه قَالَ: يَا رب اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد، لما رأى من كرامتهم، على رَبهم، فَكَانَ اعتناؤه بأمرهم وإشفاقه عَلَيْهِم كَمَا يعتني بالقوم من هُوَ مِنْهُم. وَقَالَ الدَّاودِيّ؛ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من مُوسَى لِأَنَّهُ أول من سبق إِلَيْهِ حِين فرضت الصَّلَاة، فَجعل افي قلب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ذَلِك ليتم مَا سبق من علم اتعالى.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى نقص الصَّلَاة عشرا بعد عشر؟ وَأجِيب: لَيْسَ كل الْخلق يحضر قلبه فِي الصَّلَاة من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَقد جَاءَ أَنه يكْتب لَهُ مَا حضر قلبه مِنْهَا، وَأَنه يُصَلِّي فَيكْتب لَهُ نصفهَا وربعها حَتَّى انْتهى إِلَى عشرهَا، ووقف، فَهِيَ خمس فِي حق من يكْتب لَهُ عشرهَا، وَعشر فِي حق من يكْتب لَهُ أَكثر من ذَلِك، وَخَمْسُونَ فِي حق من كملت صلَاته بِمَا يلْزمه من تَمام خشوعها وَكَمَال سجودها وركوعها.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن النَّبِي كَيفَ رأى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَوَات ومقرهم فِي الأَرْض؟ وَأجِيب: بِأَن اتعالى شكل أَرْوَاحهم على هَيْئَة صور أَجْسَادهم. ذكره ابْن عقيل، وَكَذَا ذكره ابْن التِّين، وَقَالَ: وَإِنَّمَا تعود الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد يَوْم الْبَعْث إلاَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ حَيّ لم يمت، وَهُوَ ينزل إِلَى الأَرْض. قلت: الْأَنْبِيَاء أَحيَاء، فقد رَآهُمْ النَّبِي حَقِيقَة، وَقد مر على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره، وَرَآهُ فِي السَّمَاء السَّادِسَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه عين من الْأَنْبِيَاء آدم(4/48)
وَإِدْرِيس وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب، وَفِي غَيره ذكر أَيْضا: يحيى ويوسف وَهَارُون، وهم ثَمَانِيَة؟ وَأجِيب. أما آدم فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة بعداوة إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، لَهُ وتحيله، فَكَذَلِك نَبينَا خرج من مَكَّة بأذى قومه لَهُ وَلمن أسلم مَعَه، وَأَيْضًا، فَإِن اتعالى أَرَادَ أَن يعرض على نبيه نسم بنيه من أهل الْيَمين وَأهل الشمَال، ليعلم بذلك أهل الْجنَّة وَأهل النَّار. وَأَيْضًا فَإِن آدم أَبُو الْبشر وَأول الْأَنْبِيَاء الْمُرْسلين، وكنيته أَبُو الْبشر أَيْضا. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وروى ابْن عَسَاكِر من حَدِيث عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ مَرْفُوعا: (أهل الْجنَّة لَيْسَ لَهُم كنى إلاَّ آدم فَإِنَّهُ يكنى: أَبَا مُحَمَّد) . وَمن حَدِيث كَعْب الْأَحْبَار: (لَيْسَ لأحد من أهل الْجنَّة لحية إلاَّ آدم، فَإِن لَهُ لحية سَوْدَاء إِلَى سرته) . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ لحية فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا كَانَت اللحى بعد آدم، ثمَّ قيل: إِن اسْم آدم سرياني، وَقيل: مُشْتَقّ، فَقيل: أفعل من الأدمة. وَقيل: من لفظ الْأَدِيم، لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: سمي آدم لبياضه. وَذكر مُحَمَّد بن عَليّ: أَن الآدم من الظباء الطَّوِيل القوائم. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن اخلق آدم على صورته، طوله سِتُّونَ ذِرَاعا، فَكل من يدْخل الْجنَّة على صورته وَطوله، وَولد لَهُ أَرْبَعُونَ ولدا فِي عشْرين بَطنا، وَعمر ألف سنة، وَلما أهبطه من الْجنَّة هَبَط (بسر نديب) من الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ؛ (نوذ) وَلما حَضرته الْوَفَاة اشْتهى قطف عِنَب، فَانْطَلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: أَيْن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: إِن أَبَانَا اشْتهى قطفاً. قَالُوا: ارْجعُوا فقد كفيتموه، فَرَجَعُوا فوجدوه قد قبض، فغسلوه وحنطوه وكفنوه وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة خَلفه وَبَنوهُ خَلفهم، ودفنوه. وَقَالُوا: هَذِه سنتكم فِي مَوْتَاكُم) . وَدفن فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز، فِي أبي قبيس، فاستخرجه نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الطوفان وَأَخذه وَجعله فِي تَابُوت مَعَه فِي السَّفِينَة، فَلَمَّا نضب المَاء رده نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى مَكَانَهُ.
وَأما إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ أول من كتب بالقلم وانتشر مِنْهُ بعده فِي أهل الدُّنْيَا، فَكَذَلِك نَبينَا، كتب إِلَى الْآفَاق، وَسمي بِذَاكَ لدرسه الصُّحُف الثَّلَاثِينَ الَّتِي أنزلت عَلَيْهِ، فَقيل: إِنَّه خنوخ، وَيُقَال: أَخْنُوخ، وَيُقَال: اخنخ، وَيُقَال: اهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شِيث بن آدم. وَقَالَ الْحَرَّانِي: اسْم أمه: برة، وخنوخ سرياني، وَتَفْسِيره بالعربي: إِدْرِيس، قَالَ وهب: هُوَ جد نوح، وَقد قيل: إِنَّه إلْيَاس، وَإنَّهُ لَيْسَ بجد نوح وَلَا هُوَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب، وَنَقله السُّهيْلي عَن ابْن الْعَرَبِيّ، وَاسْتشْهدَ بِحَدِيث الْإِسْرَاء حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (مرْحَبًا بالأخ الصَّالح) ، وَلَو كَانَ فِي عَمُود هَذَا النّسَب لقَالَ لَهُ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم: (وَالِابْن الصَّالح) ، وَذكر بَعضهم أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا فِي بني إِسْرَائِيل، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا اعْتِرَاض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه قَالَ تلطفاً وتأدباً، وَهُوَ أَخ، وَإِن كَانَ ابْنا وَالْأَبْنَاء أخوة، والمؤمنون أخوة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: أَكثر الطّرق على أَنه خاطبه بالأخ. قَالَ: وَقَالَ لي ابْن أبي الْفضل: صحت لي طَرِيق أَنه خاطبه فِيهَا بالإبن الصَّالح. وَقَالَ الْمَازرِيّ: ذكر المؤرخون أَن إِدْرِيس جد نوح، فَإِن قَامَ دَلِيل على أَن إِدْرِيس أرسل، لم يَصح قَول النسابين: إِنَّه جد نوح، لإخبار نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (ائْتُوا نوحًا فَإِنَّهُ أول رَسُول بَعثه اإلى أهل الأَرْض) ، وَإِن لم يقم دَلِيل جازم، قَالَ: وَصَحَّ أَن إِدْرِيس كَانَ نَبيا وَلم يُرْسل، قَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث أبي ذَر الطَّوِيل يدل على أَن آدم وَإِدْرِيس رسولان. قلت: حَدِيث أبي ذَر أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : رفع إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة، وَرَآهُ فِيهَا، وَرفع وَهُوَ ابْن ثَلَاث مائَة وَخمْس وَسِتِّينَ سنة.
وَأما إِبْرَاهِيم، فَإِن نَبينَا، رَآهُ مُسْندًا ظَهره إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، فَكَذَلِك حَال نَبينَا، كَانَ فِي حجه الْبَيْت واختتام عمره بذلك، كَانَ نَظِير لِقَائِه إِبْرَاهِيم فِي آخر السَّمَوَات، وَمعنى إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، وكنيته أَبُو الضيفان. قيل: إِنَّه ولد بغوطة دمشق ببرزة فِي جبل قاسيون، وَالصَّحِيح أَنه ولد بكوثا من إقليم بابل من الْعرَاق، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح عدَّة قُرُون، وَقيل: ولد على رَأس ألف سنة من خلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذكر الطَّبَرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا نطق بالعبرانية حِين عبر النَّهر فَارًّا من نمْرُود، عَلَيْهِ اللَّعْنَة. وَقَالَ نمْرُود للَّذين أرسلهم وَرَاءه فِي طلبه: إِذا وجدْتُم فَتى يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة فَردُّوهُ، فَلَمَّا أدركوه استنطقوه، فحول السانه عبرانياً، وَذَلِكَ حِين عبر النَّهر، فسميت العبرانية بذلك. قلت: المُرَاد من هَذَا النَّهر هُوَ الْفُرَات، وَبلغ إِبْرَاهِيم مِائَتي سنة. وَقيل: تنتقص خَمْسَة وَعشْرين. وَدفن بالبلدة الْمَعْرُوفَة بالخليل.
وَأما مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن أمره آل إِلَى قهر الْجَبَابِرَة وإخراجهم من أَرضهم،(4/49)
فَكَذَلِك نَبينَا حَاله مثل ذَلِك، حَيْثُ فتح مَكَّة وقهر المتجبرين الْمُسْتَهْزِئِينَ من قُرَيْش. ومُوسَى: هُوَ عمرَان بن قاهث بن يصهر بن لاوي بن يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَأما عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن الْيَهُود راموا قَتله، فرفعه اإليه، فَكَذَلِك نَبينَا، فَإِن الْيَهُود أَرَادوا قَتله حِين سموا لَهُ الشَّاة، فَنَجَّاهُ اتعالى من ذَلِك. وَاسم عِيسَى عبراني، وَقيل سرياني.
وَأما يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن نَبينَا رَآهُ مَعَ عِيسَى فِي السَّمَاء، وَإنَّهُ رأى من الْيَهُود مَا لَا يُوصف حَتَّى ذبحوه، فَكَذَلِك نَبينَا رأى من قُرَيْش مَا لَا يُوصف، وَلَكِن اتعالى نجاه مِنْهُم.
وَأما يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ عَفا عَن إخْوَته حَيْثُ قَالَ: {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم} (يُوسُف: 29) الْآيَة، فَكَذَلِك نَبينَا عَفا عَن قُرَيْش يَوْم فتح مَكَّة.
وَأما هَارُون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ محبباً إِلَى بني إِسْرَائِيل، حَتَّى إِن قومه كَانُوا يؤثرونه على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَذَلِك كَانَ نَبينَا ثمَّ صَار محبباً عِنْد سَائِر الْخلق.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله فِي الحَدِيث: لم يثبت كَيفَ مَنَازِلهمْ، يُخَالِفهُ كلمة؛ ثمَّ الَّتِي للتَّرْتِيب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِمَّا أَن أنسا لم يرو هَذَا عَن أبي ذَر، وَإِمَّا أَن يُقَال: لَا يلْزم مِنْهُ تعْيين مَنَازِلهمْ لبَقَاء الْإِبْهَام فِيهِ، لِأَن بَين آدم وَإِبْرَاهِيم ثَلَاثَة من الْأَنْبِيَاء وَأَرْبَعَة من السَّمَوَات أَو خَمْسَة، إِذْ جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: قَوْله تَعَالَى: {مَا يُبدل القَوْل لدي} (ق: 92) لم لَا يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا ينقص عَن الْخمس وَلَا يُبدل الْخمس إِلَى أقل من ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يُنَاسب لفظ: (استحييت من رَبِّي) ، فَإِن قيل: ألم يُبدل القَوْل لَدَيْهِ حَيْثُ جعل الْخمسين خمْسا؟ أُجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ لَا يُبدل الإخبارات، مثل أَن ثَوَاب الْخمس خَمْسُونَ لَا التكليفات، أَو لَا يُبدل الْقَضَاء المبرم لَا الْقَضَاء الْمُعَلق الَّذِي يمحو اما يَشَاء مِنْهُ وَيثبت مِنْهُ، أَو مَعْنَاهُ: لَا يُبدل القَوْل بعد ذَلِك.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ لَيْلًا بِالنَّصِّ، فَمَا الْحِكْمَة فِي كَونه لَيْلًا؟ وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه وَقت الْخلْوَة والاختصاص ومجالسة الْمُلُوك، وَهُوَ أشرف من مجالستهم نَهَارا، وَهُوَ وَقت مُنَاجَاة الْأَحِبَّة. الثَّانِي: أَن اتعالى أكْرم جمَاعَة من أنبيائه بأنواع الكرامات لَيْلًا، قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكباً} (الْأَنْعَام: 67) وَفِي قصَّة لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، {فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل} (هود: 18، وَالْحجر: 56) وَفِي قصَّة يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {سَوف اسْتغْفر لكم رَبِّي} (يُوسُف: 89) وَكَانَ آخر دُعَائِهِ وَقت السحر من لَيْلَة الْجُمُعَة، وَقرب مُوسَى نجياً لَيْلًا، وَذَلِكَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} (طه: 01، والقصص: 92) وَقَالَ: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} (الْأَعْرَاف: 241) . وَقَالَ لَهُ لما أمره بِخُرُوجِهِ من مصر ببني إِسْرَائِيل: {فَأسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون} (الدُّخان: 32) . وَأكْرم نَبينَا أَيْضا لَيْلًا بِأُمُور مِنْهَا: انْشِقَاق الْقَمَر، وإيمان الْجِنّ بِهِ، وَرَأى الصَّحَابَة آثَار نيرانهم كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) وَخرج إِلَى الْغَار لَيْلًا. الثَّالِث: أَن اتعالى قدم ذكر اللَّيْل على النَّهَار فِي غير مَا آيَة فَقَالَ: {وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ} (الْإِسْرَاء: 21) وَقَالَ: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} (يس: 04) وَلَيْلَة النَّحْر تغني عَن الْوُقُوف نَهَارا. الرَّابِع: أَن اللَّيْل أصل، وَلِهَذَا كَانَ أول الشُّهُور، وسواده يجمع ضوء الْبَصَر وَيحد كليل النّظر ويستلذ فِيهِ بالسمر ويجتلى فِيهِ وَجه الْقَمَر. الْخَامِس: أَنه لَا ليل إلاَّ وَمَعَهُ نَهَار، وَقد يكون نَهَار بِلَا ليل، وَهُوَ: يَوْم الْقِيَامَة الَّذِي مِقْدَاره خمسين ألف سنة. السَّادِس: أَن اللَّيْل مَحل استجابة الدُّعَاء والغفران وَالعطَاء. فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث: (خير يَوْم طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْم عَرَفَة، أَو يَوْم الْجُمُعَة) قلت: قَالُوا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَيَّام. قلت: لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر، وَقد دخل فِي هَذِه اللَّيْلَة أَرْبَعَة آلَاف جُمُعَة بِالْحِسَابِ الْجملِي، فَتَأمل هَذَا الْفضل الْخَفي. السَّابِع: أَن أَكثر أَسْفَاره كَانَ لَيْلًا، وَقَالَ: (عَلَيْكُم بالدلجة فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) . وَالثَّامِن: لينفي عَنهُ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْبُنُوَّة لما رفع نَهَارا تَعَالَى اعن ذَلِك. التَّاسِع: لِأَن اللَّيْل وَقت الِاجْتِهَاد لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ قَامَ حَتَّى تورمت قدماه. وَكَانَ قيام اللَّيْل فِي حَقه وَاجِبا وَقَالَ فِي حَقه: {يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إلاّ قَلِيلا} (المزمل: 1 2) فَلَمَّا كَانَت عِبَادَته لَيْلًا أَكثر أكْرم بالإسراء فِيهِ، وَأمره بقوله: {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ} (الْإِسْرَاء: 97) . الْعَاشِر: ليَكُون أجر الْمُصدق بِهِ أَكثر، ليدْخل فِيمَن آمن بِالْغَيْبِ دون من عاينه نَهَارا.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن صَدره غسل بِمَاء زَمْزَم، وَقَلبه بالثلج؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ غسل بالثلج أَولا ليثلج الْيَقِين إِلَى قلبه، وَهَذِه لدُخُول الحضرة القدسية، وَقيل: فعل بِهِ ذَلِك فِي حَال صغره ليصير قلبه مثل قُلُوب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الانشراح. وَالثَّانيَِة: ليصير حَاله مثل حَال الْمَلَائِكَة.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي الْإِسْرَاء؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ للمناجاة، وَلِهَذَا كَانَ من غير مواعدة، وَهَذَا أوقع وَأعظم، وَكَانَ التكليم(4/50)
فِي مُوسَى عَن مواعدة وموافاة، فَأَيْنَ ذَلِك من هَذَا؟ وشتان مَا بَين المقامين وَبَين من كلم على الطّور، وَبَين من دعِي إِلَى أعالي الْبَيْت الْمَعْمُور، وَبَين من سخرت لَهُ الرّيح مسيرَة شهر، وَبَين من ارْتقى من الْفرش إِلَى الْعَرْش فِي سَاعَة زمانية.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عرج بِهِ على دَابَّة يُقَال لَهَا الْبراق، وَثَبت ذَلِك بالتواتر، وَمَا الْحِكْمَة فِي ذَلِك، وَكَانَ اقادراً على رَفعه فِي طرفَة عين بِلَا براق؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك للتأنيس بالمعتاد، وَالْقلب إِلَى ذَلِك أميل، وعرج بِهِ لكرامة الرَّاكِب على غَيره، وَلذَلِك لم ينزل عَنهُ على مَا جَاءَ فِي حَدِيث حُذَيْفَة؛ مَا زَالَ على ظهر الْبراق حَتَّى رَجَعَ، وَإِنَّمَا لم يذكر فِي الرُّجُوع للْعلم بِهِ لقَرِينَة الصعُود. وَسمي: براقاً لسرعته تَشْبِيها ببرق السَّحَاب، وَكَانَت بغلته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْضَاء، أَي: شهباء، فَكَذَلِك كَانَ الْبراق، وَفِيه أسئلة. الأول: كَون الْبراق على شكل الْبَغْل دون الْخَيل مَعَ أَن الْخَيل أفضل وَأحسن. وَالْجَوَاب: كَانَ الرّكُوب فِي السّلم والأمن لَا فِي الْخَوْف وَالْحَرب، ولإسراعه عَادَة، ولتحقيق ثباته وَصَبره، فَلذَلِك كَانَ، ركب بغلته فِي الْحَرْب فِي قصَّة حنين لتحقيق ثباته فِي مَوَاطِن الْحَرْب، وَأما ركُوب الْمَلَائِكَة الْخَيل فَلِأَنَّهُ الْمَعْهُود بِالْخَيْلِ فِي الحروب، وَمَا لطف من البغال واستدار أحسن من الْخَيل فِي الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا. الثَّانِي: استصعاب الْبراق لماذا كَانَ؟ وَالْجَوَاب: كَانَ تيهاً وزهواً لركوبه، وَقَول جِبْرِيل: أبمحمد تستصعب تَحْقِيق الْحَال وَقد ارفضَّ عرقاً من تيه الْجمال؟ وَقد قيل: إِنَّه رَكبه الْأَنْبِيَاء قبله أَيْضا. وَقيل: إِن جِبْرِيل ركب مَعَه. الثَّالِث: تشمس الْبراق حِين قدومه إِلَيْهِ للرُّكُوب، قَالَه قَتَادَة. الْجَواب: إِن تشمسه ونفرته كَانَ لبعد عَهده من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَطول الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ: قَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام لمُحَمد، حِين تشمس بِهِ الْبراق: لَعَلَّك يَا مُحَمَّد مسست الصَّفْرَاء الْيَوْم، يَعْنِي الذَّهَب؟ فَأخْبر النَّبِي أَنه مامسها إلاَّ أَنه مر بهَا. فَقَالَ: تَبًّا لمن يعبدك من دون اتعالى، وَمَا شمس إلاَّ لذَلِك ذكره السُّهيْلي. وَسمعت من بعض أستاذي الْكِبَار، أَنه: إِنَّمَا شمس ليعد لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالركوب عَلَيْهِ أَولا يَوْم الْقِيَامَة، فَلَمَّا وعد لَهُ قر.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى قَوْله: (وغشيها ألوان لَا أَدْرِي مَا هِيَ) ؟ . أُجِيب: بِأَن هَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} (النَّجْم: 61) فِي أَن الْإِبْهَام للتفخيم والتهويل، وَإِن كَانَ مَعْلُوما. وَقيل: فرَاش من ذهب، وَقيل: لَعَلَّه مثل مَا يغشى من الْأَنْوَار الَّتِي تنبعث مِنْهَا وتتساقط على موقعها بالفراش، وَجعلهَا من الذَّهَب لصفائها وإضاءتها فِي نَفسهَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ تصور الصعُود إِلَى السَّمَوَات وَمَا فَوْقهَا، والجسم الإنساني كثيف قبل هَذَا؟ أُجِيب: بِأَن الْأَرْوَاح أَرْبَعَة أَقسَام. الأول: الْأَرْوَاح الكدرة بِالصِّفَاتِ البشرية، وَهِي أَرْوَاح الْعَوام، غلبت عَلَيْهَا القوى الحيوانية فَلَا تقبل العروج أصلا. وَالثَّانِي: الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال الْقُوَّة النظرية للبدن باكتساب الْعُلُوم، وَهَذِه أَرْوَاح الْعلمَاء. وَالثَّالِث: الْأَرْوَاح الَّتِي لَهَا كَمَال الْقُوَّة الْمُدبرَة للبدن باكتساب الْأَخْلَاق الحميدة، وَهَذِه أَرْوَاح المرتاضين، إِذْ كسروا قوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. وَالرَّابِع: الْأَرْوَاح الَّتِي حصل لَهَا كَمَال القوتين، فَهَذِهِ غَايَة الْأَرْوَاح البشرية، وَهِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَالصديقين، فَكلما ازدادت قُوَّة أَرْوَاحهم ازْدَادَ ارْتِفَاع أبدانهم من الأَرْض، وَلِهَذَا لما كَانَ الْأَنْبِيَاء، صلوَات اعليهم وَسَلَامه، قويت فيهم هَذِه الْأَرْوَاح، عرج بهم إِلَى السَّمَاء وأكملهم قُوَّة نَبينَا، فعرج بِهِ إِلَى قاب قوسين أَو أدنى.
05361 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبْرنا مالِكٌ عَنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ أمِّ المُؤْمِنينَ قالَتْ فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الحَضَرِ والسَّفَر فأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الحَضَرِ. (الحَدِيث 053 طرفاه فِي: 0901، 5393) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، وَعبد ابْن يُوسُف التنيسِي، وَمَالك بن أنس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني، وَهَذَا من مَرَاسِيل عَائِشَة لِأَنَّهَا لم تدْرك الْقِصَّة، وَيحْتَمل أَن تكون أخذت ذَلِك من النَّبِي أَو من صَحَابِيّ آخر، وعَلى كل حَال فَهُوَ حجَّة لِأَن هَذَا مِمَّا لَا مجَال للرأي فِيهِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن(4/51)
أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: (فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ ثمَّ هَاجر النَّبِي فَفرضت أَرْبعا) . وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، أربعتهم عَن مَالك عَن صَالح بن كيسَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَمَا يستنبط مِنْهُ. قَوْله: (فرض ا) أَي: قدر ا، وَالْفَرْض فِي اللُّغَة التَّقْدِير، هَكَذَا فسره أَبُو عمر. قَوْلهَا: (الصَّلَاة) أَي: الصَّلَاة الرّبَاعِيّة، وَذَلِكَ لِأَن الثَّلَاثَة وتر صَلَاة النَّهَار، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث ابْن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنِي صَالح بن كيسَان عَن عُرْوَة: إِلَى آخِره، وَفِيه: (إلاَّ الْمغرب فَإِنَّهَا كَانَت ثَلَاثًا) : وَذكر الدَّاودِيّ أَن الصَّلَوَات زيدت فِيهَا رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وزيدت فِي الْمغرب رَكْعَة. وَفِي سنَن الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عَامر عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة قَالَت: (إِن أول مَا فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قدم النَّبِي الْمَدِينَة وَاطْمَأَنَّ زَاد رَكْعَتَيْنِ، غير الْمغرب، لِأَنَّهَا وتر صَلَاة الْغَدَاة. قَالَ: وَكَانَ إِذا سَافر صلى الصَّلَاة الأولى) . قَوْلهَا: (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) بالتكرار ليُفِيد عُمُوم التَّثْنِيَة لكل صَلَاة، لِأَن قَاعِدَة كَلَام الْعَرَب أَن تكْرَار الِاسْم المُرَاد تَقْسِيم الشَّيْء عَلَيْهِ، ولولاه لَكَانَ فِيهِ إِيهَام أَن الْفَرِيضَة فِي السّفر والحضر مَا كَانَت إلاَّ فَرد رَكْعَتَيْنِ فَقَط. وانتصب: (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) على الحالية، والتكرار فِي الْحَقِيقَة عبارَة عَن كلمة وَاحِدَة نَحْو: مثنى، ونظيرها قَوْلك: هَذَا مزاي، قَائِم مقَام الحلو والحامض. قَوْلهَا: (وَزيد فِي صَلَاة الْحَضَر) ، يَعْنِي: زيدت فِيهَا حَتَّى تكملت خمْسا، فَتكون الزِّيَادَة فِي عدد الصَّلَوَات، وَيكون قَوْلهَا: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، أَي: قبل الْإِسْرَاء، لِأَن الصَّلَاة قبل الْإِسْرَاء كَانَت صَلَاة قبل غرُوب الشَّمْس، وَصَلَاة قبل طُلُوعهَا. وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَسبح بالْعَشي والأبكار} (آل عمرَان: 14) قَالَه أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ وَيحيى بن سَلام، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن يكون معنى: (فرضت الصَّلَاة) ، أَي لَيْلَة الْإِسْرَاء حِين فرضت الصَّلَاة الْخمس فرضت رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ زيد فِي صَلَاة الْحَضَر بعد ذَلِك، فَتكون الزِّيَادَة فِي عدد الرَّكْعَات، وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَن بعض رُوَاة هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة، وَمِمَّنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحسن وَالشعْبِيّ أَن الزِّيَادَة فِي الْحَضَر كَانَت بعد الْهِجْرَة بعام، أَو نَحوه. وَقد ذكر البُخَارِيّ من رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: (فرضت الصَّلَاة) الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقَالَ بَعضهم؛ فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ، يَعْنِي: إِن اخْتَار الْمُسَافِر أَن يكون فَرْضه رَكْعَتَيْنِ فَلهُ ذَلِك، وَإِن اخْتَار أَن يكون أَرْبعا فَلهُ ذَلِك. وَقيل: يحْتَمل أَن تُرِيدُ بقولِهَا: فرضت الصَّلَاة، أَي: قدرت، ثمَّ تركت صَلَاة السّفر على هيئتها فِي الْمِقْدَار لَا فِي الْإِيجَاب.
وَالْفَرْض فِي اللُّغَة: التَّقْدِير، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يَعْنِي فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ لمن أَرَادَ الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر رَكْعَتَانِ على سَبِيل التحتيم، وأقرت صَلَاة السّفر على جَوَاز الِاقْتِصَار، وَاحْتج أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، أَعنِي: قَول عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، المكذور فِي هَذَا الْبَاب، على أَن الْقصر فِي السّفر عَزِيمَة لَا رخصَة، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (فرض االصلاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) بِلَفْظ: (افْترض رَسُول ا، رَكْعَتَيْنِ فِي السّفر كَمَا افْترض فِي الْحَضَر أَرْبعا) . وَبِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: (صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْفطر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ، تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم مُحَمَّد) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَلم يقدحه بِشَيْء. فَإِن قلت: قَالَ النَّسَائِيّ: فِيهِ انْقِطَاع لِأَن ابْن أبي ليلى لم يسمعهُ من عمر. قلت: حكم مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه بِسَمَاع ابْن أبي ليلى من عمر، وَصرح فِي بعض طرقه فَقَالَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب. فَذكره وَيُؤَيّد ذَلِك مَا أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده: عَن الْحُسَيْن بن وَاقد عَن الْأَعْمَش. عَن حبيب بن أبي ثَابت أَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى حَدثهُ، قَالَ: خرجت مَعَ عمر بن الْخطاب. فَذكره.
وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد: الْقصر رخصَة. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أخرجه أَبُو دادو بِإِسْنَادِهِ عَن يعلى بن أُميَّة قَالَ: قلت: لعمر بن الْخطاب: عجبت من اقْتِصَار النَّاس الصَّلَاة الْيَوْم، وَإِنَّمَا قَالَ اتعالى: {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} (النِّسَاء: 101) فقد ذهب ذَلِك الْيَوْم. فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَذكرت ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: (صَدَقَة تصدق ابها عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان. وَبِمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن عمر بن سعيد عَن(4/52)
عَطاء بن أبي رَبَاح عَن عَائِشَة رَضِي اعنها أَن النَّبِي: (كَانَ يقصر فِي الصَّلَاة وَيتم وَيفْطر ويصوم) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن طَلْحَة بن عَمْرو ودلهم بن صَالح والمغيرة بن زِيَاد، وثلاثتهم ضعفاء عَن عَطاء عَن عَائِشَة. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن عَائِشَة مَوْقُوف.
وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الأول أَنه حجَّة لنا لِأَنَّهُ أَمر بِالْقبُولِ، فَلَا يبْقى خِيَار الرَّد شرعا، إِذْ الْأَمر للْوُجُوب. فَإِن قلت: الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ يكون مُخْتَارًا فِي قبُول الصَّدَقَة كَمَا فِي الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ من الْعباد. قلت: معنى قَوْله: (تصدق ابها عَلَيْكُم) حكم عَلَيْكُم، لِأَن التَّصَدُّق من افيما لَا يحْتَمل التَّمْلِيك يكون عبارَة عَن الْإِسْقَاط كالعفو من ا. وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الثَّانِي: أَنه معَارض بِحَدِيث آخر أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن حَفْص بن عَاصِم عَن ابْن عمر قَالَ: (صَحِبت رَسُول الله فِي السّفر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه ا، وصحبت أَبَا بكر فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى، وصحبت عُثْمَان فَلم يزدْ على رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبضه اتعالى) ، وَقد قَالَ اتعالى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول اأسوة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) وَإِلَيْهِ ذهب عُلَمَاء أَكثر السّلف وفقهاء الْأَمْصَار، أَي: إِلَى أَن الْقصر وَاجِب، وَهُوَ قَول عمر وَعلي وَابْن عمر وَجَابِر وَابْن عَبَّاس، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان: يُعِيد من صلى فِي السّفر أَرْبعا. وَعَن مَالك: يُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت. وَقَالَ أَحْمد: السّنة رَكْعَتَانِ. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: أَنا أحب الْعَافِيَة من هَذِه الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالْأولَى أَن يقصر الْمُسَافِر الصَّلَاة لأَنهم أَجمعُوا على جَوَازهَا إِذا قصر، وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا أتم، وَالْإِجْمَاع مقدم على الِاخْتِلَاف، وَسقط بِهَذَا كُله مَا قَالَه بَعضهم: وَيدل على أَنه أَي الْقصر رخصَة أَيْضا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (صَدَقَة تصدق ابها عَلَيْكُم) . وَقَالَ أَيْضا؛ احْتج مخالفهم أَي: مُخَالف الْحَنَفِيَّة بقوله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) . لِأَن الْقصر إِنَّمَا يكون من شَيْء أطول مِنْهُ.
قلت: الْجَواب عَنهُ أَن المُرَاد من الْقصر الْمَذْكُور فِيهَا هُوَ الْقصر فِي الْأَوْصَاف من ترك الْقيام إِلَى الْقعُود، أَو ترك الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الْإِيمَاء لخوف الْعَدو بِدَلِيل أَنه علق ذَلِك بالخوف، إِذْ قصر الأَصْل غير مُتَعَلق بالخوف بِالْإِجْمَاع، بل مُتَعَلق بِالسَّفرِ، وَعِنْدنَا قصر الْأَوْصَاف مُبَاح لَا وَاجِب، مَعَ أَن رفع الْجنَاح فِي النَّص لدفع توهم النُّقْصَان فِي صلَاتهم بِسَبَب دوامهم على الْإِتْمَام فِي الْحَضَر، وَذَلِكَ مَظَنَّة توهم النُّقْصَان، فَرفع ذَلِك عَنْهُم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا، والزموا الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم فِيمَا إِذا عَارض رَأْي الصَّحَابِيّ رِوَايَته، فَالْعِبْرَة بِمَا رُوِيَ بِأَنَّهُ ثَبت عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تتمّ فِي السّفر. قلت: قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة على أَصْلهَا، وَلَا يلْزم من إتْمَام عَائِشَة فِي السّفر النَّقْض على الْقَاعِدَة، لِأَن عَائِشَة كَانَت ترى الْقصر جَائِزا والإتمام جَائِزا، فَأخذت بِأحد الجائزين، وَإِنَّمَا يرد على قاعدتنا مَا ذكره أَن لَو كَانَت عَائِشَة تمنع الْإِتْمَام، وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي إتْمَام عُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره الْمُحَقِّقُونَ فِي تأويلهما. وَقيل: لِأَن عُثْمَان إِمَام الْمُؤمنِينَ وَعَائِشَة أمّهم فكأنهما كَانَا فِي منازلهما، وأبطل بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ أولى بذلك مِنْهُمَا. وَقيل: لِأَن عُثْمَان تأهل بِمَكَّة وأبطل بِأَنَّهُ سَافر بأزواجه وَقصر، وَقيل: فعل ذَلِك من أجل الْأَعْرَاب الَّذين حَضَرُوا مَعَه لِئَلَّا يظنون أَن فرض الصَّلَاة رَكْعَتَانِ أبدا سفرا وحضراً، وأبطل بِأَن هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا كَانَ مَوْجُودا فِي زمن النَّبِي، بل اشْتهر أَمر الصَّلَاة فِي زمن عُثْمَان أَكثر مِمَّا كَانَ، وَقيل: لِأَن عُثْمَان نوى الْإِقَامَة بِمَكَّة بعد الْحَج، وأبطل بِأَن الْإِقَامَة بِمَكَّة حرَام على المُهَاجر فَوق ثَلَاث، وَقيل: كَانَ لعُثْمَان أَرض بمنى، وأبطل بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِتْمَام وَالْإِقَامَة.
2 - (بابُ وُجُوبِ الصَّلاَةِ فِي الثِّيَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الصَّلَاة فِي الثِّيَاب، وَالْمرَاد: ستر الْعَوْرَة. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد بن رشد فِي (الْقَوَاعِد) : اتّفق الْعلمَاء على أَن ستر الْعَوْرَة فرض بِإِطْلَاق، وَاخْتلفُوا: هَل شَرط من شُرُوط صِحَة الصَّلَاة أم لَا؟ وَظَاهر مَذْهَب مَالك أَنَّهَا من سنَن الصَّلَاة، مستدلاً بِحَدِيث عَمْرو بن سَلمَة لما تقلصت بردته، فَقَالَت امْرَأَة: غطوا عَنَّا أست قارئكم، وَعند بَعضهم: شَرط عِنْد الذّكر دون النسْيَان، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث: أَن ذَلِك شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة. فَرضهَا ونفلها، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الثِّيَاب، بِلَفْظ الْجمع نَحْو قَوْلهم: فلَان يركب الْخُيُول ويلبس البرود.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِنَّه ذكر فِي الْبَاب السَّابِق فَرضِيَّة الصَّلَاة، وَذكر فِي هَذَا أَن ذَلِك الْفَرْض لَا يقوم إلاَّ بستر الْعَوْرَة، لِأَنَّهُ فرض مثلهَا. فَإِن قلت: للصَّلَاة شُرُوط غير هَذَا فَمَا وَجه تَخْصِيصه بالتقديم على غَيره؟ قلت: لِأَنَّهُ ألزم من غَيره، وَفِي تَركه بشاعة عَظِيمَة بِخِلَاف غَيره من الشُّرُوط.(4/53)
وقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الْأَعْرَاف: 13) .
هَذَا عطف على قَول: وجوب الصَّلَاة، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان معنى قَول اتعالى، أَرَادَ بالزينة: مَا يوراي الْعَوْرَة، وبالمسجد: الصَّلَاة، فَفِي الأول إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل. وَفِي الثَّانِي إِطْلَاق اسْم الْمحل على الْحَال لوُجُود الِاتِّصَال الذاتي بَين الْحَال وَالْمحل، وَهَذَا لِأَن أَخذ الزِّينَة نَفسهَا وَهِي عرض محَال، فَأُرِيد محلهَا وَهُوَ الثَّوْب مجَازًا، وَكَانُوا يطوفون عُرَاة وَيَقُولُونَ: لَا نعْبد افي ثِيَاب أَذْنَبْنَا فِيهَا، فَنزلت. لَا يُقَال: نزُول الْآيَة فِي الطّواف، فَكيف يثبت الحكم فِي الصَّلَاة؟ لأَنا نقُول: الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب، وَهَذَا اللَّفْظ عَام لِأَنَّهُ قَالَ: عِنْد كل مَسْجِد، وَلم يقل: عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام. فَيعْمل بِعُمُومِهِ، وَيُقَال: {خُذُوا زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) من قبيل إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب، لِأَن الثَّوْب سَبَب الزِّينَة، وَمحل الزِّينَة الشَّخْص، وَقيل: الزِّينَة مَا يتزين بِهِ من ثوب وَغَيره، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يبدين زينتهن} (النُّور: 13) والستر لَا يجب لعين الْمَسْجِد بِدَلِيل جَوَاز الطّواف عُريَانا، فَعلم من هَذَا أَن ستره للصَّلَاة لَا لأجل النَّاس حَتَّى لَو صلى وَحده وَلم يستر عَوْرَته لم تجز صلَاته، وَإِن لم يكن عِنْده أحد. وَقَالَ بَعضهم، بعد قَوْله، وَقَول اعز وَجل: {خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} (الْأَعْرَاف: 13) يُشِير بذلك إِلَى تَفْسِير طَاوس فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) قَالَ: الثِّيَاب. قلت: هَذَا تخمين وحسبان، وَلَيْسَ عَلَيْهِ برهَان، وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن المُرَاد مِنْهُ ستر الْعَوْرَة، وَعَن مُجَاهِد: وار عورتك وَلَو بعباءة، وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا: (لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل، وَلَا الْمَرْأَة إِلَى عَورَة الْمَرْأَة) . وَعَن الْمسور، قَالَ لَهُ النَّبِي: (ارْجع إِلَى ثَوْبك فَخذه وَلَا تَمْشُوا عُرَاة) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) ، عَن عَائِشَة يرفعهُ: (لَا يقبل اصلاة امْرَأَة قد حَاضَت إِلَّا بخمار) . وَقَالَ ابْن بطال: أجمع أهل التَّأْوِيل على أَن نُزُولهَا فِي الَّذين كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَالَ ابْن رشد: من حمله على النّدب قَالَ: المُرَاد بذلك الزِّينَة الظَّاهِرَة من الرِّدَاء وَغَيره من الملابس الَّتِي هِيَ زِينَة، مستدلاً بِمَا فِي الحَدِيث أَنه كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم كيهئة الصّبيان، وَمن حمله على الْوُجُوب اسْتدلَّ بِحَدِيث مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: (كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة فَتَقول: من يعيرني تطوافاً؟ وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله))
فَنزلت {خُذُوا زينتكم} (الْأَعْرَاف: 13) .
وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَة بنِ الأَكْوَعِ أنَّ النبيَّ قَالَ: (يَزُرُّهُ ولَوْ بِشَوْكَةٍ) .
هَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد: حدّثنا القعْنبِي حدّثنا عبد الْعَزِيز يَعْنِي ابْن مُحَمَّد عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ: (قلت: يَا رَسُول اإني رجل أصيد أفأصلي فِي الْقَمِيص الْوَاحِد؟ قَالَ: نعم، وَإِزَاره وَلَو بشوكة) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا قَوْله: (أفأصلي) ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، فَلذَلِك قَالَ فِي جَوَابه: نعم، أَي: صل. قَوْله: (وَلَو بشوكة) الْبَاء فِيهِ تتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: وَلَو أَن تزره بشوكة، وَهَذِه اللَّفْظَة فِيمَا ذكره البُخَارِيّ بِالْإِدْغَامِ على صِيغَة الْمُضَارع، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد بالفك على صِيغَة الْأَمر، من زريزر، من بَاب نصر ينصر، وَيجوز فِي الْأَمر الحركات الثَّلَاث فِي الرَّاء، وَيجوز الفك أَيْضا فَهِيَ أَرْبَعَة أَحْوَال، كَمَا فِي مد الْأَمر، وَيجوز فِي مضارعه الضَّم وَالْفَتْح والفك. وَقَالَ ابْن سَيّده: الزر الَّذِي يوضع فِي الْقَمِيص، وَالْجمع أزرار وزرور، وأزر الْقَمِيص جعل لَهُ زراً وأزره شدّ عَلَيْهِ أزراره. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: زر الْقَمِيص إِذا كَانَ محلولاً فشده، وزر الرجل شدّ زره، وَأورد البُخَارِيّ هَذَا للدلالة على وجوب ستر الْعَوْرَة، وللإشارة إِلَى أَن المُرَاد بِأخذ الزِّينَة فِي الْآيَة السَّابِقَة لبس الثِّيَاب لَا تزيينها وتحسينها، إِنَّمَا أَمر بالزر ليأمن من الْوُقُوع عَن بدنه، وَمن وُقُوع نظره على عَوْرَته من زيقه حَالَة الرُّكُوع، وَمن هَذَا أَخذ مُحَمَّد بن شُجَاع من أَصْحَابنَا أَن من نظر إِلَى عَوْرَته من زيقه تفْسد صلَاته، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ.
أَي: وَفِي إِسْنَاد الحَدِيث الْمَذْكُور نظر، وَجه النّظر من مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، وَزعم ابْن الْقطَّان أَنه مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْحَارِث التَّيْمِيّ، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث، فَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَرَادَهُ. فَلذَلِك قَالَ: فِي إِسْنَاده نظر، وَذكره مُعَلّقا بِصِيغَة التمريض، وَلَكِن أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن نصر بن عَليّ عَن عبد الْعَزِيز عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: سَمِعت سَلمَة، وَفِي رِوَايَة: (وَلَيْسَ على إلاَّ قَمِيص وَاحِد، أوجبه وَاحِدَة، فأزره؟ قَالَ: نعم وَلَو بشوكة) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) : عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم حدّثنا ابْن أبي عمر حدّثنا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن ربيعَة عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع،(4/54)
(قلت: يَا رَسُول اإني أكون فِي الصَّيْد، وَلَيْسَ عليَّ إلاَّ قَمِيص وَاحِد قَالَ: فأزرره وَلَو بشوكة) . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) قَالَ: وَهَذَا حَدِيث مدنِي صَحِيح، فَظهر بِهَذِهِ الرِّوَايَة أَن مُوسَى هَهُنَا غير مُوسَى ذَاك الَّذِي ظَنّه ابْن الْقطَّان، وَفِيه ضعف أَيْضا، لكنه دون ذَاك وروى الطَّحَاوِيّ: حدّثنا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حدّثنا ابْن قُتَيْبَة، قَالَ: أخبرنَا الداراوردي عَن مُوسَى بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَهَذَا اخْتِلَاف آخر. وَقَالَ بَعضهم: من صحّح هَذَا الحَدِيث فقد اعْتمد على رِوَايَة الدَّرَاورْدِي. قلت: يجوز أَن يكون وَجه ذَلِك اعْتِمَادًا على رِوَايَة مُوسَى بن إِبْرَاهِيم المَخْزُومِي، لَا على رِوَايَة مُوسَى بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، والمخزومي هُوَ مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد ابْن أبي ربيعَة بن عبد ابْن عمر بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه فِي تَصْحِيح من صَححهُ، وَيشْهد لما قُلْنَا رِوَايَة ابْن حبَان، وَلَا يبعد أَن يكون كل وَاحِد من المَخْزُومِي والتيمي روى هَذَا الحَدِيث عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَحمل عَنْهُمَا الدَّرَاورْدِي وَرَوَاهُ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: ذكر مُحَمَّد فِيهِ شَاذ. قلت: حكمه بشذوذه إِن كَانَ من جِهَة انْفِرَاد الطَّحَاوِيّ بِهِ فَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الشاذ من ثِقَة مَقْبُول.
ومَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذىً.
قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من تَتِمَّة التَّرْجَمَة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا مِنْهُ دَال على الِاكْتِفَاء بِالظَّنِّ فِيمَا يُصَلِّي فِيهِ لَا الْقطع، وَقَالَ بَعضهم، يُشِير، إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من طَرِيق مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: (أَنه سَأَلَ اخته أم حَبِيبَة: هَل كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي فِي الثَّوْب الَّذِي يُجَامع فِيهِ؟ قَالَت: نعم إِذا لم ير فِيهِ أَذَى) . قلت: لما قَالَه الْكرْمَانِي وَجه لِأَنَّهُ اقتبس هَذَا من الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ إِدْخَاله فِي تَرْجَمَة الْبَاب، وَهَذَا كَمَا رَأَيْته قد أَخذ من ثَلَاثَة أَحَادِيث وأدخلها فِي تَرْجَمَة الْبَاب. الأول: حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَقد مر. وَالثَّانِي: حَدِيث أم حَبِيبَة، أخرجه أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: حدّثنا عِيسَى بن حَمَّاد الْمصْرِيّ، قَالَ: حدّثنا اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن سُوَيْد بن قيس عَن مُعَاوِيَة بن خديج عَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: (أَنه سَأَلَ أُخْته أم حَبِيبَة، زوج النَّبِي، هَل كَانَ رَسُول ا، يُصَلِّي فِي الثَّوْب الَّذِي يُجَامِعهَا فِيهِ؟ فَقَالَت: نعم إِذا لم ير فِيهِ أَذَى) . وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. وَالثَّالِث: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي اتعالى عَنهُ، على مَا نذكرهُ عَن قريب. قَوْله: (مَا لم ير فِيهِ أَذَى) ، سقط لَفْظَة: فِيهِ، من رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَفِي رِوَايَة: (إِذا لم ير فِيهِ دَمًا) والأذى: النَّجَاسَة.
وَأَمَرَ النبيُّ أَنْ لاَ يَطُوفَ بالبَيْتِ عرْيانٌ.
وَفِي بعض النّسخ: وَأمر النَّبِي، هَذَا أَيْضا اقتباس من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي الْبَاب الثَّامِن بعد هَذَا الْبَاب، قَالَ: (بَعَثَنِي أَبُو بكر فِي تِلْكَ الْحجَّة فِي مؤذنين يَوْم النَّحْر نؤذن بمنى: أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) . وَاسْتدلَّ بِهِ على اشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة لِأَنَّهُ إِذا كَانَ شرطا فِي الطّواف الَّذِي هُوَ يشبه الصَّلَاة، فاشتراطه فِي الصَّلَاة أولى وأجدر. وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح بِالْأَمر. قلت: قد ذكرت لَك أَن هَذَا اقتباس، والاقتباس هَهُنَا اللّغَوِيّ لَا الاصطلاحي، لِأَن الاصطلاحي هُوَ أَن يضمن الْكَلَام شَيْئا من الْقُرْآن أَو الحَدِيث، لَا على أَنه مِنْهُ، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد هَهُنَا أَخذ شَيْء من الحَدِيث وَالِاسْتِدْلَال بِهِ على حكم، كَمَا كَانَ يسْتَدلّ بِهِ من الحَدِيث الْمَأْخُوذ مِنْهُ، فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور يدل على اشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ يتَضَمَّن أَمر أبي بكر، وَأمر أبي بكر بذلك من أَمر النَّبِي. وَأخذ البُخَارِيّ من ذَلِك المتضمن صُورَة أَمر، فَقَالَ: وَأمر رَسُول الله أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَاقْتصر من الحَدِيث على هَذَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطَابق تَرْجَمَة الْبَاب. فَافْهَم. فَإِنَّهُ دَقِيق لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد من الشُّرَّاح. قَوْله: (أَن لَا يطوف) بِالنّصب لِأَنَّهُ فِي الحَدِيث الْمَأْخُوذ مِنْهُ عطف على الْمَنْصُوب. وَهُوَ قَوْله: (أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك) .
15371 - ح دّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا يَزِيدُ بنُ إبْراهيمَ عنْ مُحَمدٍ عَن أُمِّ عَطِيَّة(4/55)
قالَتْ أُمِرْنا أنْ نُخْرِجَ الحُيَّضَ يَوْمَ العِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الخُدُورِ فَيَشْهْدْنَ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ عَنْ مُصَلاَّهُنَّ قالَتِ امْرَأَةٌ يَا رسولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ قَالَ (لتُلْبِسْها صَاحِبَتُها مِنْ جِلْبَابِها) . (انْظُر الحَدِيث 423) .
مطبابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) لِأَنَّهُ أكد باللبس حَتَّى بالعارية لِلْخُرُوجِ إِلَى صَلَاة الْعِيدَيْنِ، فَإِذا كَانَ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْعِيد هَكَذَا، فلأجل الْفَرْض يكون بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الطَّهَارَة فِي بَاب شُهُود الْحَائِض الْعِيدَيْنِ بأتم من هَذَا، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ متسوفىً. وَيزِيد بن إِبْرَاهِيم هُوَ: التسترِي أَبُو سعيد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم بصريون. قَوْله: (أمرنَا) بِضَم الْهمزَة، وَلمُسلم من طَرِيق هِشَام عَن حَفْصَة: (عَن أم عَطِيَّة قَالَت: أمرنَا رَسُول ا) . قَوْله: (الْحيض) بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء، جمع حَائِض. قَوْله: (يَوْم الْعِيدَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (يَوْم الْعِيد) بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (عَن مصلاهن) ، أَي: عَن مصلى النِّسَاء اللَّاتِي لسن بحيض، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي؛ (عَن مصلاهم) ، بالتذكير على التغليب، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني؛ (عَن الْمصلى) بِالْإِفْرَادِ، وَهُوَ، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: مَوضِع الصَّلَاة. قَوْله: (قَالَت امْرَأَة) هَذِه الْمَرْأَة هِيَ أم عَطِيَّة، وَكنت بِهِ عَن نَفسهَا، وَفِي رِوَايَة: (قلت: يَا رَسُول اإحدانا) . قَوْله: (إحدانا) مُبْتَدأ، أَي: بَعْضنَا، وَخَبره. قَوْله: (لَيْسَ لَهَا جِلْبَاب) ، وَهُوَ بِكَسْر الْجِيم: الملحفة. قَوْله: (لتلبسها) ، بِالْجَزْمِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَجاءٍ حدّثنا عِمْرانُ حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ حَدَّثتنَا أُمُّ عَطِيَّةَ سَمِعْتُ النبيَّ بهَذَا.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ: حدّثنا عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَن عبد ابْن رَجَاء، فَذكره. وَفَائِدَته: تَصْرِيح مُحَمَّد بن سِيرِين بتحديث أم عَطِيَّة لَهُ، وَبَطل بِهَذَا زعم بَعضهم من أَن مُحَمَّدًا إِنَّمَا سَمعه من أُخْته حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، لِأَنَّهُ تقدم قبل رِوَايَته لَهُ عَن حَفْصَة أُخْته عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الدَّاودِيّ الصَّحِيح رِوَايَة ابْن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة وَعبد ابْن رَجَاء بِالْمدِّ هُوَ الغداني، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة وَبعد الْألف نون: نِسْبَة إِلَى غُدَانَة، وَهُوَ أَشْرَس بن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، هَكَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات: عبد ابْن رَجَاء، بِدُونِ النِّسْبَة، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ: الغداني، وَقد وهم من قَالَ: إِنَّه عبد ابْن رَجَاء الْمَكِّيّ وَعمْرَان الْمَذْكُور هُوَ الْقطَّان، وَا أعلم.
3 - (بابُ عَقْدِ الإِزَارِ عَلَى القَفَا فِي الصَّلاةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان، عقد الْمُصَلِّي إزَاره على قَفاهُ، وَالْحَال أَنه دَاخل فِي الصَّلَاة، والقفا: مَقْصُور، مُؤخر الْعُنُق يذكر وَيُؤَنث، وَالْجمع قفي، مثل؛ عصي جمع عَصا. وَقد جَاءَ أقفية، على غير قِيَاس.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله وَبَين الْأَبْوَاب الْخَمْسَة عشر الَّتِي بعده ظَاهر، لِأَن الْكل فِي أَحْكَام الثِّيَاب، غير أَنه تخَلّل فِيهَا خَمْسَة أَبْوَاب ذكرهَا وَهِي غير مُتَعَلقَة بِأَحْكَام الثِّيَاب. وَهِي: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ. وَبَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر والسطوح والخشب. وَبَاب: الصَّلَاة على الْحَصِير. وَبَاب: الصَّلَاة على الْخمْرَة. وَبَاب: الصَّلَاة على الْفراش.
أما مُنَاسبَة بَاب الْفَخْذ بِالْبَابِ الَّذِي قبله، هُوَ أَن الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ الصَّلَاة فِي ثوب ملتحفاً بِهِ لستر الْعَوْرَة، وَالْمَذْكُور فِي الَّذِي بعده حكم الْفَخْذ، وَهُوَ أَنه عَورَة، فَإِذا كَانَ عَورَة يجب ستره، والستر إِنَّمَا يكون بالثياب فتحققت الْمُنَاسبَة بَينهمَا من هَذَا الْوَجْه. وَأما مُنَاسبَة بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر بِالْبَابِ الَّذِي قبله هِيَ: أَن الثَّوْب فِيهِ مستعل على الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ، فالمناسبة من حَيْثُ الاستعلاء متحققة، وَإِن كَانَ الاستعلاء فِي نَفسه مُخْتَلفا. وَأما: الْمُنَاسبَة بَين الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة، وَهِي: بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، وَبَاب الصَّلَاة على الْخمْرَة والفراش، فظاهرة جدا.
وَبَقِي وَجه: تخَلّل بَاب إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي امْرَأَته إِذا سجد، وَوجه ذَلِك أَن السَّجْدَة فِيهِ كَانَت على الْخمْرَة، وَفِي الْبَاب الَّذِي قبله كَانَ على الْمِنْبَر(4/56)
أَو السطوح، وكل مِنْهُمَا مَسْجِد بِفَتْح الْمِيم فالمناسبة من هَذِه الْجِهَة مَوْجُودَة. على أَنا نقُول: إِن هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا إقناعية ولسيت ببرهانية، والاستئناس فِي مثل هَذَا بِأَدْنَى شَيْء كافٍ.
وَقَالَ أبُو حازِمٍ عَنْ سَهْلٍ صَلَّوْا مَعَ النبيِّ عاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ.
هَذَا تَعْلِيق أخرجه المُصَنّف مُسْندًا فِي الْبَاب الثَّالِث، وَهُوَ بَاب إِذا كَانَ الثَّوْب ضيقا: عَن مُسَدّد حدّثنا يحيى عَن سُفْيَان، قَالَ: حدّثنا أَبُو حَازِم عَن سهل. ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِنَّمَا ذكر بعض هَذَا الحَدِيث هَهُنَا مُعَلّقا، مَعَ أَنه ذكره بِتَمَامِهِ فِي الْبَاب الثَّالِث، لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَذكر هَذِه التَّرْجَمَة لتأكيد ستر الْعَوْرَة، لِأَنَّهُ إِذا عقد إزَاره فِي قَفاهُ وَركع لم تبد عَوْرَته. وَقَالَ ابْن بطال: عقد الْإِزَار على الْقَفَا إِذا لم يكن مَعَ الْإِزَار سَرَاوِيل، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج الزَّاهِد الْمدنِي، وَسَهل هُوَ ابْن سعد السَّاعِدِيّ أَبُو الْعَبَّاس الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَكَانَ اسْمه حزنا فَسَماهُ رَسُول الله سهلاً، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة فِي الْمَدِينَة. قَوْله: (صلوا) ، فعل مَاض: (وعاقدي أزرهم) أَصله: عاقدين أزرهم، فَلَمَّا أضيف سَقَطت مِنْهُ النُّون، وَهِي جملَة حَالية، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عاقدوا أزرهم) ، فعلى هَذَا هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: صلوا وهم عاقدو أزرهم، والأزر، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي: جمع إِزَار. وَفِي (الْمُحكم) الْإِزَار: الملحفة، وَالْجمع أزرة وأزر حجازية، وأزر، تميمية، وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث. قَالَ الدَّاودِيّ: سمي إزاراً لِأَنَّهُ يشد بِهِ الظّهْر. قَالَ تَعَالَى: {فآزره} (:) وَهُوَ المئزر واللحاف والقرام والمقرم، والعواتق جمع العاتق وَهُوَ مَوضِع الرِّدَاء من الْمَنْكِبَيْنِ فيذكر وَيُؤَنث.
25381 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدّثنا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدّثني وَاقِدُ بنُ مُحَمدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ قَالَ صَلَّى جابِرٌ فِي إزَارٍ قَدَ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفاهُ وثِيَابُهُ مَوُضُوعَةٌ عَلَى المِشْجَبِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ تصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِنمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ وَأَيُّنَا كانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْد النبيِّ. (الحَدِيث 253.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، هُوَ: أَحْمد بن عبد ابْن يُونُس بن عبد ابْن قيس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي أَبُو عبد االكوفي، وينسب إِلَى جده، مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي ربيع الأول سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين، وَقد تقدم ذكره فِي بَاب من قَالَ إِن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل. الثَّانِي: هُوَ عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد ابْن عمر بن الْخطاب. الثَّالِث: وَاقد بن مُحَمَّد أَخُو عَاصِم بن مُحَمَّد، وَهُوَ بِكَسْر الْقَاف وبالدال الْمُهْملَة: القريشي الْعَدوي الْعمريّ الْمدنِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، تقدم فِي بَاب صب النَّبِي وضوءه. الْخَامِس: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ، وهما عَاصِم وواقد فَإِنَّهُمَا أَخَوان ابْنا مُحَمَّد بن زيد بن عبد ابْن عمر، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ من طبقَة وَاحِدَة وهما: وَاقد وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر، وَهَذَا الطَّرِيق انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ.
ذكر لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (من قبل قَفاهُ) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، بِمَعْنى: الْجِهَة، كلمة: من، تتَعَلَّق بقوله: (عقده) وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لإزار. وَقَوله: (وثيابه مَوْضُوعَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (المشجب) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْجِيم وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ ثَلَاث عيدَان يعْقد رؤوسها ويفرج بَين قَوَائِمهَا تعلق عَلَيْهَا الثِّيَاب. وَفِي (الْمُحكم) : الشجاب: خشبات موثقة مَنْصُوبَة تُوضَع عَلَيْهَا الثِّيَاب، وَالْجمع: شجب، والمشجب كالشجاب، وَهُوَ الخشبات الثَّلَاث الَّتِي يعلق عَلَيْهَا الرَّاعِي دلوه وسقاه. وَفِي كتاب (الْمُنْتَهى فِي اللُّغَة) يُقَال فلَان مثل المشجب من حَيْثُ أممته وجدته. قلت: المشجب يُقَال لَهُ السيبة فِي لُغَة أهل الْحَضَر، وَهِي بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ قَائِل) ، ويروى: (قَالَ لَهُ) ، بِدُونِ: الْفَاء، وَوَقع فِي مُسلم أَنه: عباد بن الْوَلِيد بن الصَّامِت. قَوْله:(4/57)
(تصلي فِي إِزَار وَاحِد؟) التَّقْدِير: أَتُصَلِّي؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (إِنَّمَا صنعت هَذَا) ، ويروى: (إِنَّمَا صنعت ذَلِك) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فعله من صلَاته وَإِزَاره مَعْقُود على قَفاهُ، وثيابه مَوْضُوعَة على المشجب. قَوْله: (ليراني) أَي: لِأَن يراني. وَقَوله: (أَحمَق) ، بِالرَّفْع فَاعله، وَمَعْنَاهُ: الْجَاهِل، وَهُوَ صفة مشبهة من الْحمق، بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْمِيم، هُوَ قلَّة الْعقل، وَقد حمق الرجل، بِالضَّمِّ، حَمَاقَة فَهُوَ أَحمَق. وحمق أَيْضا بِالْكَسْرِ يحمق حمقاً، مثل: غنم غنما، فَهُوَ حمق، وَامْرَأَة حمقاء، وَقوم ونسوة حمق وحمقى، وأحمقت الرجل إِذا وجدته أَحمَق، وحمقته تحميقاً نسبته إِلَى الْحمق، وحامقته إِذا ساعدته على حمقه واستحمقته أَي: عددته أَحمَق، وتحامق فلَان إِذا تكلّف الحماقة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَحَقِيقَة الْحمق وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه مَعَ الْعلم بقبحه. قَوْله: (مثلك) بِالرَّفْع صفة أَحمَق، وَلَفْظَة: مثل، وَإِن أضيفت إِلَى الْمعرفَة لَا يتعرف لتوغله فِي التنكير إِلَّا إِذا أضيفت بِمَا اشْتهر بالمماثلة، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك، فَلذَلِك وَقعت صفة لنكرة، وَهُوَ قَوْله: (أَحمَق) .
فَإِن قلت: اللَّام فِي قَوْله: (ليراني) للتَّعْلِيل وَالْغَرَض، فَكيف وَجه جعل إراءته الأحمق غَرضا؟ قلت: الْغَرَض بَيَان جَوَاز ذَلِك الْفِعْل فَكَأَنَّهُ قَالَ: صَنعته ليراني الْجَاهِل فينكر عَليّ بجهله فأُظهر لَهُ جَوَازه، وَإِنَّمَا أغْلظ عَلَيْهِ نسبته إِلَى الحماقة لإنكاره على فعله؛ بقوله: (تصلي فِي إِزَار وَاحِد؟) لِأَن همزَة الْإِنْكَار فِيهِ مقدرَة على مَا ذكرنَا. قَوْله: (وأينا) اسْتِفْهَام يُفِيد النَّفْي، ومقصوده بَيَان إِسْنَاد فعله إِلَى مَا تقرر فِي عهد رَسُول ا.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فَمن ذَلِك جَوَاز الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد لمن يقدر على أَكثر مِنْهُ، وَهُوَ قَول جمَاعَة الْفُقَهَاء، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر خلاف ذَلِك، وَكَذَا عَن ابْن مَسْعُود، فروى ابْن أبي شيبَة عَنهُ: (لَا يصليّنَّ فِي ثوب وَإِن كَانَ أوسع مِمَّا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) . وَقَالَ ابْن بطال. إِن ابْن عمر لم يُتَابع على قَوْله. قلت: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود مثل قَول ابْن عمر كَمَا ذكرنَا، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَيْضا أَنه للا يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد إلاَّ إِن لَا يجد غَيره، نعم عَامَّة الْفُقَهَاء على خِلَافه، وَفِيه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة جَابر وَأبي هُرَيْرَة وَعَمْرو بن أبي سَلمَة. وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَمن ذَلِك أَن الْعَالم يَأْخُذ بأيسر الشَّيْء مَعَ قدرته على أَكثر مِنْهُ توسعة على الْعَامَّة ليقتدى بِهِ. وَمن ذَلِك: لَا بَأْس للْعَالم أَن يصف أحدا بالحمق إِذا عَابَ عَلَيْهِ مَا غَابَ عَنهُ علمه من السّنة. وَفِيه: جَوَاز التَّغْلِيظ فِي الْإِنْكَار على الْجَاهِل.
35391 - ح دّثنا مُطَرِّفٌ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الرَّحمْنِ بنُ أبي المَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ قَالَ رَأَيْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ رَأَيْتُ النبيَّ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ. .
هَذِه طَريقَة أُخْرَى لحَدِيث جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ، وفيهَا الرّفْع إِلَى النَّبِي وَأَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد وَقعت من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا ذكرهَا لِأَنَّهَا أوقع فِي النَّفس وأصرح فِي الرّفْع من الطَّرِيقَة الأولى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ دلَالَة هَذَا الحَدِيث على التَّرْجَمَة؟ قلت: أما أَنه مخروم من الحَدِيث السَّابِق، وَإِمَّا أَنه يدل عَلَيْهِ بِحَسب الْغَالِب، إِذْ لَوْلَا عقده على الْقَفَا لما ستر الْعَوْرَة غَالِبا، وَأنكر بَعضهم على الْكرْمَانِي فِي هَذَا السُّؤَال وَجَوَابه، وَقَالَ: وَلَو تَأمل لَفظه وسياقه بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب لعرف اندفاع احتماليه، فَإِنَّهُ طرف من الحَدِيث الْمَذْكُور هُنَاكَ لَا من السَّابِق، وَلَا ضَرُورَة لما ادَّعَاهُ من الْغَلَبَة، فَإِن لَفظه: (وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثوب ملتحفاً بِهِ) ، وَهِي قصَّة أُخْرَى كَانَ الثَّوْب فِيهَا وَاسِعًا، فالتحف بِهِ. وَكَانَ فِي الأول ضيقا فعقده. قلت: لَا هُوَ مخروم من الحَدِيث السَّابِق، وَلَا هُوَ طرف من الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب الثَّامِن، بل كل وَاحِد حَدِيث مُسْتَقل بِذَاتِهِ. ومطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء وَكسر الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره فَاء: ابْن عبد ابْن سُلَيْمَان الْأَصَم أَبُو مُصعب الْمدنِي مولى أم الْمُؤمنِينَ وَهُوَ صَاحب مَالك، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَعبد الرَّحْمَن: هُوَ ابْن زيد بن أبي الموَالِي، بِفَتْح الْمِيم على وزن: الْجَوَارِي، وَفِي بعض النّسخ: الموال، بِدُونِ الْيَاء.
4 -(4/58)
(بابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ مُلْتَحِفاً بهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة من يُصَلِّي فِي الثَّوْب الْوَاحِد حَال كَونه ملتحفاً بِهِ. الالتحاف، لُغَة: التغطي، وكل شَيْء تغطيت بِهِ فقد التحفت بِهِ، وَقَالَ اللَّيْث: اللحف تغطيتك الشَّيْء باللحاف، وَقَالَ غَيره: لحفت الرجل ألحفه لحفاً: إِذا طرحت عَلَيْهِ اللحاف، أَو غطيته بِشَيْء، وتلحفت: اتَّخذت لنَفْسي لحافاً.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ المُلتَحِفُ المُتَوَشِّحُ وَهْوَ المُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عاتِقَيْهِ وَهْوَ الإِشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ.
13
- 50 أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ فِي حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ فِي الالتحاف عَن سَالم بن عمر عَن عبد ابْن عمر، قَالَ: (رأى عمر بن الْخطاب رجلا يُصَلِّي ملتحفاً، فَقَالَ لَهُ عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، حِين سلم: لَا يصلينَّ أحدكُم ملتحفاً، وَلَا تشبهوا باليهود) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن ابْن أبي دَاوُد عَن عبد ابْن صَالح عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بِهِ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر: (أَن عمر بن الْخطاب رأى رجلا يُصَلِّي ملتحفاً، فَقَالَ: لَا تشبهوا باليهود، من لم يجد مِنْكُم إلاَّ ثوبا وَاحِدًا فليتزر بِهِ) . وَكَذَا فِي حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره.
قَوْله: (المتوشح) اسْم فَاعل من بَاب التفعل، من: توشح يتوشح، والتوشح بِالثَّوْبِ: التغشي بِهِ، وَالْأَصْل فِيهِ من الوشاح، وَهُوَ شَيْء ينسج عريضاً من أَدِيم، وَرُبمَا رصع بالجواهر والخرز، وتشده الْمَرْأَة بَين عاتقيها وكشحيها. وَيُقَال فِيهِ: وشاح وإشاح، وَقَالَ ابْن سَيّده: التوشح أَن يتوشح بِالثَّوْبِ ثمَّ يخرج الْأَيْسَر من تَحت يَده الْيُمْنَى، ثمَّ يعْقد طرفيها على صَدره، وَقد وشحه الثَّوْب. قَوْله: (وَهُوَ الْمُخَالف) أَي: المتوشح هُوَ الَّذِي يُخَالف بَين طرفِي الثَّوْب، وأوضح ذَلِك بقوله: (وَهُوَ الاشتمال على مَنْكِبَيْه) ، وَالضَّمِير يرجع إِلَى التوشح الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (المتوشح) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ أقرب} (الْمَائِدَة: 8) والظاهرأن الزُّهْرِيّ لما فسر الملتحف بالمتوشح عِنْد رِوَايَة حَدِيثه فِيهِ، أوضحه البُخَارِيّ بقوله: وَهُوَ الْمُخَالف. إِلَى آخِره.
قَالَ: قالَتْ أُمُّ هَانِىءٍ: التَحَفَ النبيُّ بِثَوبٍ وخالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عاتِقَيْهِ.
13
- 50 هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي هَذَا الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ. (وَخَالف بَين طَرفَيْهِ) ، وَفَائِدَة ذكر هَذَا هِيَ الْإِشَارَة إِلَى أَن أم هانىء فسرت التحاف النَّبِي بِثَوْب بقولِهَا: (وَخَالف بَين طَرفَيْهِ) وَقَالَ ابْن بطال: وَفَائِدَة هَذِه الْمُخَالفَة فِي الثَّوْب أَن لَا ينظر الْمُصَلِّي إِلَى عَورَة نَفسه إِذا ركع. قلت: يجوز أَن تكون الْفَائِدَة أَيْضا أَن لَا يسْقط إِذا ركع وَإِذا سجد.
وَأم هانىء، بالنُّون وبالهمزة: بنت أبي طَالب القريشية الهاشمية، أُخْت عَليّ بن أبي طَالب، اسْمهَا فَاخِتَة، وَقيل: هِنْد وَقد تقدم ذكرهَا.
45302 - حدّثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ موسَى قَالَ حدّثنا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَةَ أنَّ النبيَّ صَلَّى فِي ثَوْبٍ واحدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. (الحَدِيث 453 طرفاه فِي: 553، 653) .
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: (قد خَالف بَين طَرفَيْهِ) هُوَ الالتحاف الَّذِي هُوَ التوشح، والاشتمال على الْمَنْكِبَيْنِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عبيد ا، بتصغير العَبْد: بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي، مَوْلَاهُم الْكُوفِي، قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَقد مر فِي بَاب دعاؤكم إيمَانكُمْ. الثَّانِي: هِشَام بن عُرْوَة. الثَّالِث: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الرَّابِع: عمر بن أبي سَلمَة، بِضَم الْعين، وَاسم أبي سَلمَة: عبد االمخزومي أَبُو حَفْص، ربيب رَسُول ا، ولد بِأَرْض الْحَبَشَة فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَقبض زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان بِالْمَدِينَةِ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ لِأَن هشاماً تَابِعِيّ روى عَن أَبِيه وَهُوَ تَابِعِيّ وروى هُوَ عَن صَحَابِيّ، وَهَذَا سَنَد عَال جدا يشبه سَنَد الثلاثيات، وَلَو كَانَ هِشَام يرويهِ عَن صَحَابِيّ لَكَانَ ثلاثياً حَقِيقَة. لِأَنَّهُ يكون حينئذٍ بَين البُخَارِيّ وَبَين(4/59)
الصَّحَابِيّ اثْنَيْنِ، فَيكون: ثلاثياً، وَهنا بَينه وَبَين الصَّحَابِيّ: ثَلَاثَة، فَيُشبه الثلاثي من جِهَة الْعُلُوّ، وَلَيْسَ بثلاثي حَقِيقَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ من ثَلَاثَة طرق عَن عبيد ابْن مُوسَى، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عبيد ابْن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن يحيى بن يحيى، وَعَن أبي كريب، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَابْن ماجة عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، الْكل عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه بِهِ. وَبَقِيَّة الْكَلَام ظَاهِرَة.
53312 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدّثنا يَحْيَى قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قالَ حدّثني أبي عَنْ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمَة أنَّهُ رَأَى النبيَّ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَدْ ألْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عاتِقَيْهِ.
هَذِه طَريقَة أُخْرَى فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَلكنهَا أنزل دَرَجَة من الطَّرِيقَة الأولى، وَفَائِدَة هَذِه الطَّرِيقَة أَن فِيهَا التَّصْرِيح عَن عمر بن أبي سَلمَة أَنه رأى النَّبِي يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد، وفيهَا زِيَادَة وَهِي قَوْله: (فِي بَيت أم سَلمَة) . وَفَائِدَة هَذِه الزِّيَادَة تعْيين الْمَكَان الَّذِي يُؤَيّد التَّصْرِيح الْمَذْكُور.
وَرِجَاله المذكورون قد مروا غير مرّة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة. وَقد مرت غير مرّة، وَهِي أم عمر بن أبي سَلمَة الْمَذْكُور. هَذِه طَريقَة أُخْرَى فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بالنزول عَن عبيد بِضَم الْعين مُصَغرًا ابْن إِسْمَاعِيل وَيُقَال اسْمه عبد الله وَيعرف بعبيد أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْكُوفِي مَاتَ سنة خمس وَمِائَتَيْنِ يروي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة وَقد تقدم فِي بَاب فضل من علم وَفِي هَذِه الطَّرِيقَة فَائِدَتَانِ ليستا فِي الطريقتين الْأَوليين إِحْدَاهمَا أَن فِيهَا تَصْرِيح هِشَام عَن أَبِيه بِأَن عمر أخبرهُ وَفِي الطريقتين الْأَوليين العنعنة وَالْأُخْرَى فِيهَا ذكر لفظ الاشتمال وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة تَفْسِير قَوْله " قد خَالف بَين طَرفَيْهِ وَألقى طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ " وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق صِحَاح الأولى عَن أبي بكرَة قَالَ حَدثنَا روح بن عبَادَة قَالَ حَدثنَا هِشَام بن حسان وَشعْبَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عمر بن أبي سَلمَة " أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد فِي بَيت أم سَلمَة ". الثَّانِيَة عَن يُونُس عَن ابْن وهب عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه " عَن عمر بن أبي سَلمَة أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد فِي بَيت أم سَلمَة وَاضِعا طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ " الثَّالِثَة عَن ابْن أبي دَاوُد قَالَ حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم وَعبد الله بن صَالح قَالَ حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد عَن أبي أُمَامَة بن سهل عَن عمر بن أبي سَلمَة قَالَ " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد ملتحفا بِهِ " وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد إِلَى آخِره وَلَفظه فِي آخِره " مُخَالفا بَين طَرفَيْهِ على مَنْكِبَيْه ". الرَّابِعَة مثل رِوَايَة أبي دَاوُد عَن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا عبد الله بن صَالح حَدثنِي اللَّيْث قَالَ حَدثنِي يحيى بن سعيد عَن أبي أُمَامَة بن سهل عَن عمر بن أبي سَلمَة قَالَ " رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد ملتحفا بِهِ مُخَالفا بَين طَرفَيْهِ على مَنْكِبَيْه " قَوْله " يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد " جملَة فعلية فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان لقَوْله " رَأَيْت " قَوْله " مُشْتَمِلًا " بِالنّصب على الْحَال من الرَّسُول هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي بِالْجَرِّ أَو الرّفْع فَوجه الْجَرّ للمجاورة وَوجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير وَهُوَ مُشْتَمل بِهِ قَوْله " فِي بَيت أم سَلمَة " أما ظرف لقَوْله يُصَلِّي أما للاشتمال وَأما لَهما وَقَالَ ابْن بطال التوشح نوع من الاشتمال تجوز الصَّلَاة بِهِ وَالْفُقَهَاء مجمعون على جَوَاز الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود(4/60)
خلاف ذَلِك (قلت) ذهب طَاوس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَعبد الله بن وهب من أَصْحَاب مَالك وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى أَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد مَكْرُوهَة إِذا كَانَ قَادِرًا على ثَوْبَيْنِ وَإِن لم يكن قَادِرًا إِلَّا على ثوب وَاحِد يكره أَيْضا أَن يُصَلِّي بِهِ ملتحفا مُشْتَمِلًا بِهِ بل السّنة أَن يأتزر بِهِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ قَالَ حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد قَالَ حَدثنَا زُهَيْر بن عباد قَالَ حَدثنَا حَفْص بن ميسرَة عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذا صلى أحدكُم فليلبس ثوبيه فَإِن الله أَحَق من تزين لَهُ فَإِن لم يكن لَهُ ثَوْبَان فليتزر إِذا صلى وَلَا يشْتَمل أحدكُم فِي صلَاته اشْتِمَال الْيَهُود " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا. وَذهب جُمْهُور أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد تجوز وَالَّذين ذَهَبُوا إِلَى ذَلِك جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأنس بن مَالك وخَالِد بن الْوَلِيد وَجَابِر بن عبد الله وعمار بن يَاسر وَأبي بن كَعْب وَعَائِشَة وَأَسْمَاء وَأم هَانِيء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن التَّابِعين الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَعِكْرِمَة وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَمن الْفُقَهَاء أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بالأحاديث الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ الطَّحَاوِيّ تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث وَتَتَابَعَتْ بِجَوَاز الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متوشحا بِهِ فِي حَال وجود غَيره من الثِّيَاب وَأخرج فِي ذَلِك عَن أحد عشر صحابيا وهم أَبُو هُرَيْرَة وطلق بن عَليّ وَجَابِر بن عبد الله وَعبد الله بن عمر وَعمر بن أبي سَلمَة وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَعبد الله بن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك وَأم هَانِيء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث عمر بن أبي سَلمَة فِي الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد قَالَ وَفِي الْكتاب عَن أبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَأنس وَعَمْرو ابْن أبي أَسد وَأبي سعيد وكيسان وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأم هَانِيء وعمار بن يَاسر وطلق بن عَليّ وَعبادَة بن الصَّامِت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (قلت) وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن حُذَيْفَة وَعبد الله بن أبي أُميَّة وَعبد الله بن أبي أنيس وَعبد الله بن سرجس وَعبد الله بن عبد الله بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَعلي بن أبي طَالب ومعاذ بن جبل وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأبي أُمَامَة وَأبي عبد الرَّحْمَن حاضن عَائِشَة وَأم حَبِيبَة وَأم الْفضل وَرجل لم يسم فَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد البُخَارِيّ وَأبي دَاوُد وَحَدِيث طلق بن عَليّ عِنْد أبي دَاوُد والطَّحَاوِي وَحَدِيث جَابر عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار وَحَدِيث عبد الله بن عمر عِنْد الطَّحَاوِيّ وَحَدِيث عمر بن أبي سَلمَة عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره وَحَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع عِنْد أبي دَاوُد والطَّحَاوِي وَحَدِيث أم هَانِيء عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره وَحَدِيث عبد الله بن عَبَّاس عِنْد الطَّحَاوِيّ وَحَدِيث أبي بن كَعْب عِنْد ابْن أبي شيبَة والطَّحَاوِي وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عِنْد ابْن ماجة والطَّحَاوِي وَحَدِيث أنس بن مَالك عِنْد أَحْمد والطَّحَاوِي وَحَدِيث عَمْرو بن أبي أَسد عِنْد الْبَغَوِيّ فِي مُعْجم الصَّحَابَة وَالْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده وَحَدِيث كيسَان عِنْد ابْن ماجة وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث عمار بن يَاسر عِنْد (1) وَحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أَحْمد وَحَدِيث عبد الله بن أبي أُميَّة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَحَدِيث عبد الله بن أبي أنيس عِنْد الطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَحَدِيث عبد الله بن سرجس عِنْده أَيْضا وَحَدِيث عبد الله بن عبد الله الْمُغيرَة عِنْد أَحْمد وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب عِنْد الطَّبَرَانِيّ. وَحَدِيث معَاذ عِنْده أَيْضا وَحَدِيث مُعَاوِيَة عِنْده أَيْضا وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْده أَيْضا وَحَدِيث عبد الرَّحْمَن حاضن عَائِشَة عِنْده أَيْضا فِي الْأَوْسَط وَحَدِيث أم حَبِيبَة عِنْد أَحْمد وَحَدِيث أم الْفضل عِنْده أَيْضا وَحَدِيث الرجل الَّذِي لم يسم عِنْده أَيْضا فَمن أَرَادَ أَن يقف على متون أَحَادِيثهم بأسانيدها فَعَلَيهِ بشرحنا شرح مَعَاني الْآثَار. وَأما الْجَواب عَمَّا احتجت بِهِ الطَّائِفَة الأولى من حَدِيث عبد الله بن عمر فَهُوَ أَن ابْن عمر روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِبَاحَة الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن أبي بكرَة عَن روح عَن زَمعَة بن صَالح قَالَ سَمِعت ابْن شهَاب يحدث عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل مَا روى البُخَارِيّ عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَظهر من هَذَا أَن حَدِيثه ذَاك فِي اسْتِعْمَال الْأَفْضَل فَبِهَذَا يرْتَفع الْخلاف بَين روايتيه وَكَذَلِكَ كل مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب من منع الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد فَهُوَ مَحْمُول على الْأَفْضَل لَا على عدم الْجَوَاز وَقيل هُوَ مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم(4/61)
75332 - ح دّثنا إسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ حدّثني مالِكُ بنُ أنسٍ عَنْ أبي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هانِىءٍ بِنْتِ أبي طالِبٍ أخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هانِىءٍ بِنْتَ أبي طالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رسولِ الله عامَ الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فقالَ مَنْ هَذِهِ فَقُلْتُ أَنا أُمُّ هَانِيءٍ بِنْتُ أبي طالِبٍ فقالَ مَرْحَباً بأُمِّ هَانِىءٍ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسُلِهِ قامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ واحِدٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ زَعَمَ ابنُ أُمِّي أنَّهُ قاتِلٌ رَجُلاٌ قَدْ أجَرْتُهُ فُلاَنَ بنَ هُبَيْرَةَ فَقال رسولُ الله قَدْ أجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ يَا أُمِّ هَانِىءٍ قالَتْ أُمُّ هَانِيءٍ وذَاَكَ ضُحًى. (انْظُر الحَدِيث 02 وطرفيه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر بن عبيد ابْن معمر القريشي التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة، وَأَبُو مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: اسْمه يزِيد.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون. وَفِيه: أَن أَبَا مرّة مولى أم هانىء، وَذكر فِي بَاب الْعلم مولى عقيل، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر مولى أم هَانِيء، وَنسب إِلَى وَلَاء عقيل مجَازًا لإكثاره الْمُلَازمَة لعقيل.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة وَفِي الْأَدَب عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة، وَفِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رمح، عَن أبي كريب، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن حجاج بن الشَّاعِر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ، وَفِي السّير عَن أبي الْوَلِيد الدِّمَشْقِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن مهْدي عَن مَالك، وَفِي السّير عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن رمح.
ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه قَوْله: (عَام الْفَتْح) أَي: فتح مَكَّة. قَوْله: (يغْتَسل) جملَة حَالية. وَقَوله: (وَفَاطِمَة تستره) ، جملَة إسمية حَالية أَيْضا. قَوْله: (فَقلت أَنا) . ويروى: (قلت) . بِدُونِ: الْفَاء. قَوْله: (مرْحَبًا) ، مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: لقِيت رحبا وسعة. قَوْله: (ثَمَانِي رَكْعَات) بِكَسْر النُّون وَفتح الْيَاء، قَالَ الْكرْمَانِي: ثَمَان رَكْعَات، بِفَتْح النُّون. قلت: حينئذٍ يكون مَنْصُوبًا بقوله: فصلى، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ فِي الأَصْل مَنْسُوب إِلَى الثّمن، لِأَنَّهُ الْجُزْء الَّذِي صير السَّبْعَة ثَمَانِيَة فَهُوَ ثمنهَا، ثمَّ إِنَّهُم فتحُوا أَوله لأَنهم يغيرون فِي النّسَب، وحذفوا مِنْهُ إِحْدَى يائي النِّسْبَة وعوضوا مِنْهَا الْألف، كَمَا فعلوا فِي الْمَنْسُوب إِلَى الْيمن، فثبتت ياؤه عِنْد الْإِضَافَة كَمَا ثبتَتْ يَاء القَاضِي تَقول: ثَمَانِي نسْوَة، وَتسقط مَعَ التَّنْوِين عِنْد الرّفْع والجر، وتثتب عِنْد النصب لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجمع. قَوْله: (ملتحفاً) ، نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: صلى. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (زعم) ، مَعْنَاهُ هُنَا: قَالَ أَو ادّعى.
قَوْله: (ابْن أُمِّي) وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (ابْن أبي) ، وَلَا تفَاوت فِي الْمَقْصُود لِأَنَّهَا أُخْت عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، من الْأَب وَالأُم، وَلَكِن الْوَجْه فِي رِوَايَة: (ابْن أُمِّي) تَأْكِيد الْحُرْمَة والقرابة والمشاركة فِي الْبَطن، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، حِكَايَة عَن هَارُون لمُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام: {قَالَ يَا ابْن أُمِّي لَا تَأْخُذ بلحيتي} (طه: 49) . قَوْله: (إِنَّه قَاتل) لفظ قَاتل اسْم فَاعل لَا ماضٍ من بَاب المفاعلة، وَالْمعْنَى أَنه عازم لقَتله، لِأَنَّهُ لم يكن قَاتلا حَقِيقَة فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَكِن لما عزم على التَّلَبُّس بِالْفِعْلِ أطلقت عَلَيْهِ الْقَاتِل. قَوْله: (رجلا) مَنْصُوب بقوله: قَاتل. قَوْله: (قد أجرته) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لرجل، وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة بِدُونِ الْمَدّ، وَلَا يجوز فِيهِ الْمَدّ لِأَنَّهُ إِمَّا من الْجور فَتكون الْهمزَة فِيهِ للسلب. والإزالة يَعْنِي لسلب الْفَاعِل على الْمَفْعُول أصل الْفِعْل، نَحْو: أشكيته، أَي: أزلت شكايته. وَإِمَّا من الْجوَار بِمَعْنى: الْمُجَاورَة.
قَوْله: (فلَان بن هُبَيْرَة) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَأما النصب فعلى أَنه بدل من: رجلا، أَو من الضَّمِير الْمَنْصُوب(4/62)
فِي أجرته. وهبيرة، بِضَم الْهَاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء: ابْن أبي وهب بن عمر بن عَائِد بن عمرَان المَخْزُومِي زوج أم هانىء بنت أبي طَالب، شَقِيقَة عَليّ بن أبي طَالب، كرم اوجهه، وَهِي أسلمت عَام الْفَتْح، وَكَانَ لهبيرة أَوْلَاد مِنْهَا وهم: عمر، وَبِه كَانَ يكنى، وهانيء ويوسف وجعدة، وَقد ذكرنَا أَن اسْم أم هانىء: فَاخِتَة، وكنيت بهانىء أحد أَوْلَادهَا الْمَذْكُورين. ثمَّ قَوْلهَا؛ فلَان ابْن هُبَيْرَة، فِيهِ اخْتِلَاف كثير من جِهَة الرِّوَايَة وَمن جِهَة التَّفْسِير، فَفِي (التَّمْهِيد) من حَدِيث مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد بن أبي سعد عَن أبي مرّة: (عَن أم هانىء قَالَت: أَتَانِي يَوْم الْفَتْح حموان لي فاجرتهما، فجَاء عَليّ يُرِيد قَتلهمَا فَأتيت النَّبِي وَهُوَ فِي قبَّة بِالْأَبْطح بِأَعْلَى مَكَّة) . الحَدِيث، وَفِيه: (أجرنا من أجرت وأمَّنَّا من أمنت) . وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) (إِنِّي أجرت حموي) .
وَفِي رِوَايَة: (حموي ابْن هُبَيْرَة) . وَفِي رِوَايَة: (حموي ابْني هُبَيْرَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: فِي حَدِيث أبي النَّضر مَا يدل على أَن الَّذِي أجرته كَانَ وَاحِدًا، وَفِي هَذَا اثْنَيْنِ: وَأما من جِهَة التَّفْسِير فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج: الرّجلَانِ هما: جعدة بن هُبَيْرَة، وَرجل آخر، وَكَانَا من الشرذمة الَّذين قَاتلُوا خَالِدا، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلم يقبلُوا الْأمان وَلَا ألقوا السِّلَاح، فأجارتهما أم هَانِيء، وَكَانَا من أحمائها، وروى الْأَزْرَقِيّ بِسَنَد فِيهِ الْوَاقِدِيّ فِي حَدِيث أم هَانِيء هَذَا: أَنَّهُمَا الْحَارِث بن هَاشم، وَابْن هُبَيْرَة بن أبي وهب، وَجزم ابْن هِشَام فِي (تَهْذِيب السِّيرَة) بِأَن اللَّذين أجرتهما أم هانىء هما: الْحَارِث بن هِشَام وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة المخزوميان. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة أَو ربيبها، كَمَا أَن الْإِبْهَام فِيهِ مُحْتَمل أَن يكون من أم هَانِيء، وَأَن يكون الرَّاوِي نسي اسْمه فَذكره بِلَفْظ: فلَان، قَالَ الزبير بن بكار: فلَان بن هُبَيْرَة هُوَ: الْحَارِث بن هِشَام المَخْزُومِي، وَقَالَ بَعضهم؛ الَّذِي يظْهر لي أَن فِي رِوَايَة الْبَاب حذفا، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فلَان بن عَم هُبَيْرَة، فَسقط لفظ: عَم، أَو كَانَ فِيهِ: فلَان قريب هُبَيْرَة، فَتغير لفظ: قريب، بِلَفْظ: ابْن، وكل من الْحَارِث بن هِشَام، وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة، وَعبد ابْن أبي ربيعَة يَصح وَصفه بِأَنَّهُ: ابْن عَم هُبَيْرَة. وقريبه، لكَون الْجَمِيع من بني المخزوم.
قلت: الأصوب وَالْأَقْرَب أَن يَقُول فِي تَوْجِيه رِوَايَة أبي النَّضر. فلَان بن هُبَيْرَة، أَن يكون المُرَاد من فلَان هُوَ: ابْن هُبَيْرَة من غير أم هَانِيء: فنسي الرَّاوِي اسْمه وَذكره بِلَفْظ: فلَان، وَيدل على صِحَة هَذَا رِوَايَة ابْن عجلَان فِي (التَّمْهِيد) وَرِوَايَات الطَّبَرَانِيّ، فَإِنَّهَا تدل على أَن الَّذِي أجرته أم هَانِيء هُوَ حموها. فَإِن قلت: الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي النَّضر وَاحِد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَات اثْنَان. قلت: لَا يضر ذَلِك لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي اقْتصر على ذكر وَاحِد مِنْهُمَا نِسْيَانا، كَمَا أبهم اسْمه نِسْيَانا، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن كَانَ ابْن هُبَيْرَة مِنْهَا فَهُوَ جعدة، وَجوز أَبُو عمر أَن يكون من غَيرهَا وَهُوَ الأصوب لما ذكرنَا. فَإِن قلت: قَالَ بَعضهم: نقل أَبُو عمر، من أهل النّسَب أَنهم لم يذكرُوا لهبيرة ولدا من غَيرهَا. قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهم ذَلِك أَن لَا يكون لَهُ ابْن من غَيرهَا. فَإِن قلت: قَالَ هَذَا الْقَائِل: جعدة مَعْدُود فِيمَن لَهُ رِوَايَة وَلم يَصح لَهُ صُحْبَة، وَقد ذكره من حَيْثُ الرِّوَايَة فِي التَّابِعين: البُخَارِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا، فَكيف يتهيأ لمن هَذِه سَبيله فِي صغر السن أَن يكون عَام الْفَتْح مُقَاتِلًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْأمان؟ ثمَّ لَو كَانَ ولد أم هانىء لم يهم، عَليّ رَضِي اعنه، بقتْله لِأَنَّهَا كَانَت قد أسلمت وهرب زَوجهَا وَترك وَلَدهَا عِنْدهَا؟ قلت: كَونه تابعياً أَو صحابياً على مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف لَا يُنَافِي مَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل ذَلِك، وَقَوله: فَكيف يتهيأ إِلَى آخِره؟ مُجَرّد دَعْوَى فَيحْتَاج إِلَى برهَان، فَظهر مِمَّا ذكرنَا أَن قَول الْكرْمَانِي: أَرَادَت أم هانىء ابْنهَا من هُبَيْرَة أَو ربيبها أقرب إِلَى الصَّوَاب وأوجه.
وَقَول بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي ... الخ بعيد من ذَلِك، وَتصرف من عِنْده بِغَيْر وَجه لِأَن فِيهِ ارْتِكَاب الْحَذف وَالْمجَاز وَالتَّقْدِير بِشَيْء بعيد غير مُنَاسِب، ومخالف لما ذكره هَؤُلَاءِ المذكورون آنِفا، وَهَذَا كُله خلاف الأَصْل، وَمِمَّا يمجه من لَهُ يَد فِي التَّصَرُّف فِي الْكَلَام.
قَوْله: (وَذَلِكَ ضحى) ويروى: (وَذَاكَ ضحى) ، وَهُوَ إِشَارَة لما ذكرته من قَوْلهَا: (فصلى ثَمَانِي رَكْعَات) أَي: كَانَ ذَلِك وَقت ضحى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة أَحْمد فِي هَذَا الحَدِيث، وَذَلِكَ يو فتح مَكَّة ضحى، وَيجوز أَيْضا يُقَال: وَذَلِكَ صَلَاة ضحى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة أبي حَفْص بن شاهين أَن أم هانىء قَالَت: يَا رَسُول ا؟ مَا هَذِه الصَّلَاة؟ قَالَ: (الضُّحَى) ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: (ثمَّ صلى الضُّحَى ثَمَانِي رَكْعَات) ، وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْأَصَح، وَهَذَا أَيْضا يمْنَع التحرض فِي ذَلِك بِأَن قَالَ بَعضهم هِيَ: صَلَاة الْفَتْح، وَبَعْضهمْ: صَلَاة الْإِشْرَاق، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ صلى ثَمَانِي رَكْعَات سبْحَة الضُّحَى) .(4/63)
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا: جَوَاز تستر الرِّجَال بِالنسَاء. وَمِنْهَا: جَوَاز السَّلَام من وَرَاء حجاب. وَمِنْهَا: عدم الِاكْتِفَاء بِلَفْظ: أَنا، فِي الْجَواب، بل يُوضح غَايَة التَّوْضِيح كَمَا فِي ذكر الكنية وَالنّسب هَهُنَا. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب الترحيب بالزائر وَذكر كنيته. وَمِنْهَا: أَنه يدل على صَلَاة الضُّحَى وَأَنَّهَا ثَمَانِي رَكْعَات. وَمِنْهَا: جَوَاز أَمَان رجل حر أَو امْرَأَة حرَّة لكَافِر وَاحِد أَو جمَاعَة، وَلم يجز بعد ذَلِك قِتَالهمْ إلاَّ أَن يكون فِي ذَلِك مفْسدَة، وَلَا يجوز أَمَان ذمِّي لِأَنَّهُ مُتَّهم بهم، وَلَا أَسِير وَلَا تَاجر يدْخل عَلَيْهِم، وَلَا أَمَان عبد عِنْد أبي حنيفَة إلاَّ أَن يَأْذَن لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَال. وَقَالَ مُحَمَّد: يجوز، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ. مثل قَول أبي حنيفَة، وَلَو أَمن الصَّبِي وَهُوَ لَا يعقل لَا يَصح، كَالْمَجْنُونِ. وَإِن كَانَ يعقل وَهُوَ مَحْجُور عَن الْقِتَال فعلى الْخلاف، وَإِن كَانَ مَأْذُونا لَهُ فِي الْقِتَال فَالْأَصَحّ أَنه يَصح بالِاتِّفَاقِ.
24 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولكلكم ثَوْبَان) مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن السُّؤَال فِيهِ عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد وَالْجَوَاب فِي الْحَقِيقَة أَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد جَائِزَة على مَا تقرر عَن قريب (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة وَمَالك هُوَ ابْن أنس وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى قَالَ قَرَأت على مَالك عَن ابْن شهَاب إِلَى آخِره نَحوه وَقَالَ حَدثنِي حَرْمَلَة بن يحيى قَالَ أخبرنَا ابْن وهب قَالَ أَخْبرنِي يُونُس وحَدثني عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث قَالَ حَدثنِي أبي عَن جدي قَالَ حَدثنِي عقيل بن خَالِد كِلَاهُمَا عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَن مَالك وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَهِشَام بن عمار كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سِتَّة طرق وَأحمد والدارمي وَالْبَيْهَقِيّ وروى ابْن حبَان هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن شهَاب لَكِن قَالَ فِي الْجَواب " ليتوشح بِهِ ثمَّ ليصل فِيهِ " وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد حَدثنَا ملازم بن عَمْرو الْحَنَفِيّ حَدثنَا عبد الله بن بدر عَن قيس بن طلق عَن أَبِيه قَالَ " قدمنَا على نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فجَاء رجل فَقَالَ يَا نَبِي الله مَا ترى فِي الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد قَالَ فَأطلق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إزَاره وطارق لَهُ رِدَاء فَاشْتَمَلَ بهما ثمَّ قَامَ فصلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا أَن قضى الصَّلَاة قَالَ أوكلكم يجد ثَوْبَيْنِ " وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَفِي رِوَايَته طابق قَوْله " طَارق " من قَوْلهم طَارق الرجل بَين الثَّوْبَيْنِ إِذا ظَاهر بَينهمَا أَي لبس أَحدهمَا على الآخر وَكَذَلِكَ معنى طابق وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث طلق بن عَليّ هَذَا من طَرِيقين أَحدهمَا نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة سَوَاء. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن سَائِلًا " وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ " قَامَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله أونصلي فِي ثوب وَاحِد قَالَ نعم فَقَالَ أوكلكم يجد ثَوْبَيْنِ " وَفِي رِوَايَة أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ " سُئِلَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد فَقَالَ أولكلكم ثَوْبَان " وعَلى كل تَقْدِير السَّائِل مَجْهُول قَوْله " أولكلكم ثَوْبَان " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام (وَقَالَ الْكرْمَانِي) (فَإِن قلت) مَا الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِالْوَاو (قلت) مُقَدّر أَي أَأَنْت سَائل عَن مثل هَذَا الظَّاهِر وَمَعْنَاهُ لَا سُؤال عَن أَمْثَاله وَلَا ثَوْبَيْنِ لكلكم إِذْ الِاسْتِفْهَام مُفِيد لِمَعْنى النَّفْي بِقَرِينَة الْمقَام وَهَذَا التَّقْدِير على سَبِيل التَّمْثِيل (قلت) اللَّفْظ وَإِن كَانَ لفظ الِاسْتِفْهَام وَلَكِن الْمَعْنى بالإخبار عَمَّا كَانَ يُعلمهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حَالهم فِي الْعَدَم وضيق الثِّيَاب يَقُول فَإِذا كُنْتُم بِهَذِهِ الصّفة وَلَيْسَ لكل وَاحِد مِنْكُم ثَوْبَان وَالصَّلَاة وَاجِبَة عَلَيْكُم فاعلموا أَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد جَائِزَة وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولكلكم ثَوْبَان أَو يجد ثَوْبَيْنِ صيغته صِيغَة الِاسْتِفْهَام وَمَعْنَاهُ التَّقْرِير والإخبار عَن مَعْهُود حَالهم وَفِي ضمنه دَلِيل على الرُّخْصَة وتنبيه على أَن الثَّوْب أفضل وَأتم وَهُوَ الْمَفْهُوم مِنْهُ عِنْد أَكثر الْعلمَاء (قلت) ذهب الطَّحَاوِيّ والباجي أَيْضا إِلَى أَن مَفْهُومه التَّسْوِيَة بَين(4/64)
الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد مَعَ وجود غَيره وَعَدَمه فِي الْإِجْزَاء وَقَالَ الْخطابِيّ لَفظه استخبار وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَن الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من ضيق الثِّيَاب والتقتير لما عِنْدهم وَقد وَقعت فِي ضمنه الْفَتْوَى من طَرِيق الفحوى كَأَنَّهُ استزادهم فِي هَذَا علما وفقها يَقُول إِذا كَانَ ستر الْعَوْرَة وَاجِبا على كل وَاحِد مِنْكُم وَكَانَت الصَّلَاة لَازِمَة لَهُ وَلَيْسَ لكل وَاحِد مِنْكُم ثَوْبَان فَكيف لم تعلمُوا أَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد جَائِزَة وَقَالَ الطَّحَاوِيّ لَو كَانَت الصَّلَاة مَكْرُوهَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد لكرهت لمن لَا يكون لَهُ إِلَّا ثوب وَاحِد لِأَن حكم الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد لمن يجد ثَوْبَيْنِ كَهُوَ فِي الصَّلَاة لمن لَا يجد غَيره. وَقَالَ بَعضهم وَهَذِه الْمُلَازمَة فِي مقَام الْمَنْع للْفرق بَين الْقَادِر وَغَيره وَالسُّؤَال إِنَّمَا كَانَ عَن الْجَوَاز وَعَدَمه لَا عَن الْكَرَاهَة (قلت) أَخذ هَذَا الْقَائِل صدر الْكَلَام من كَلَام الطَّحَاوِيّ ثمَّ غمز فِيهِ وَلَو أَخذ جَمِيع كَلَامه لما كَانَ يجد إِلَى مَا قَالَه سَبِيلا
5 - (بابٌ إذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عاتِقَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ إِذا صلى الرجل إِلَى آخِره أَي: فليجعل بعضه على عَاتِقيهِ، وَفِي بعض النّسخ على عَاتِقه بِالْإِفْرَادِ، وَفِي بَعْضهَا فليجعل على عَاتِقه شَيْئا. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَمن الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى أصل الْعُنُق عاتقان. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ مُذَكّر وَقد أنث، وَقد قَالَ أَبُو حَاتِم: وَلَيْسَ يثبت، وَزَعَمُوا أَن هَذَا الْبَيْت مَصْنُوع، وَهُوَ:
(لَا صلح بيني فاعلموه وَلَا ... بَيْنكُم مَا حملت عَاتِقي)
وَالْجمع: عتق وعواتق، وَزَاد فِي (الْمُحكم) : وَعتق، وَعَن اللحياني: هُوَ مُذَكّر لَا غَيره، وَفِي (الموعب) : صفح الْعُنُق من مَوضِع الرِّدَاء من الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا يُقَال لَهُ: العاتق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: روى من لَا أَثِق بِهِ التَّأْنِيث، وَسَأَلت بعض الفصحاء فَأنْكر التَّأْنِيث، وَقد أَنْشدني من لَا أَثِق بِهِ بَيْتا لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا عَن ثِقَة. (لَا صلح بيني)
إِلَى آخِره. وَقَالَ ابْن التياني: قَالَ أَبُو عبيد: قَالَ الْأَحْمَر: العاتق يذكر وَيُؤَنث، وأنشدنا. (لَا صلح بيني) . الخ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي عَن الْفراء مثله، وَفِي (الْجَامِع) : هُوَ مُذَكّر وَبَعض الْعَرَب يؤنث، وَأنْكرهُ بَعضهم، وَقَالَ: هَذَا لَا يعرف، وَأما يَعْقُوب بن السّكيت فَذكره مذكراً ومؤنثاً من غير تردد، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو نصر الْجَوْهَرِي، وَقد أنْشد ابْن عُصْفُور فِي ذكر الْأَعْضَاء الَّتِي تذكر وتؤنث:
(وهاك من الْأَعْضَاء مَا قد عددته ... يؤنث أَحْيَانًا وحينا يذكر)
(لِسَان الْفَتى والعنق والإبط والقفا ... وعاتقه والمتن والضرس يذكر)
(وَعِنْدِي ذِرَاع والكراع مَعَ المعا ... وَعجز الْفَتى ثمَّ القريض المحبر)
(كَذَا كل نحوي حكى فِي كِتَابه ... سوى سِيبَوَيْهٍ وَهُوَ فيهم مكبر)
(يرى أَن تَأْنِيث الذِّرَاع هُوَ الَّذِي ... أَتَى وَهُوَ للتذكير فِي ذَاك مُنكر)
وَقَالَ صَاحب (دستور اللُّغَة) : بديع الزَّمَان: بَاب الْأَسْمَاء الخالية من عَلَامَات التَّأْنِيث، والأسماء الَّتِي اشْترك فِيهَا التَّذْكِير والتأنيث، وَهِي حُدُود مِائَتي اسْم ونيف، وعلامة الْمُشْتَرك يجمعها قَوْله نظماً:
(عين يَمِين عضد كف شكا ... ل أذن سنّ مَعًا رِجْل يَد)
(قتب ذِرَاع أصْبع نَاب عجو ... زعجز سَاق كرَاع كبد)
(وَحش جَراد رجلهَا أروى سعي ... ر زندها ذكاء طاغوت يَد)
(ذود طباع خنصر روح شبا ... خيل اتان وصف أُنْثَى الْمُفْرد)
وَذكر بعد هَذَا أحد عشر بَيْتا على قافية الْبَاء الْمُوَحدَة، وَسَبْعَة أَبْيَات أُخْرَى على قافية اللَّام.
95352 - ح دّثنا أبُو عاصِمٍ عَنْ مالِكٍ عَنْ أبي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحمْنِ الأَعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ النبيُّ لاَ يُصَلِّي أحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عاتِقَيْهِ شَيْءٌ. (الحَدِيث 953 طرفه فِي: 063) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله: قد تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو عَاصِم هُوَ: الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم: الْبَصْرِيّ الْمَشْهُور بالنبيل، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: وَهُوَ عبد ابْن ذكْوَان. قَوْله: (لَا يُصَلِّي) بِإِثْبَات الْيَاء لِأَنَّهُ نفي، لِأَن لَا نَافِيَة، وَلَا النافية لَا تسْقط(4/65)
شَيْئا، وَلَكِن مَعْنَاهُ النَّهْي، وَنَصّ ابْن الْأَثِير على إِثْبَات الْيَاء فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) بِلَفْظ: (لَا يصل) بِغَيْر: يَاء، على أَن كلمة: لَا، ناهية. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور، قَالَ: حدّثنا سُفْيَان، قَالَ: حدّثنا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء) بِزِيَادَة: نون التوكيد فِي: (لَا يُصَلِّي) ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: (نهى رَسُول ا) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ: حدّثنا مُسَدّد حدّثنا سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (لَا يُصَلِّي أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على مَنْكِبه مِنْهُ شَيْء) وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من أَربع طرق، وَذَلِكَ بعد أَن قَالَ: تَوَاتَرَتْ الْآثَار عَن النَّبِي بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الْوَاحِد متوشحاً بِهِ فِي حَال وجود غَيره، ثمَّ قَالَ: فقد يجوز أَن يكن ذَلِك على مَا اتَّسع من الثِّيَاب خَاصَّة لَا على مَا ضَاقَ مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون على كل الثِّيَاب مَا ضَاقَ مِنْهُ وَمَا اتَّسع، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَإِذا عبد الرَّحْمَن بن عمر الدِّمَشْقِي قد حدّثنا، قَالَ: حدّثنا أَبُو نعيم، قَالَ: حدّثنا فطر بن خَليفَة عَن شُرَحْبِيل بن سعد، قَالَ: (حدّثنا جَابر أَن رَسُول الله كَانَ يَقُول: إِذا اتَّسع الثَّوْب فتعطف بِهِ على عاتقك، وَإِذا ضَاقَ فاتزر بِهِ ثمَّ صل) . فَثَبت بِهَذَا الحَدِيث أَن الاشتمال هُوَ الْمَقْصُود، وَأَنه هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يفعل فِي الثِّيَاب الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا، فَإِذا لم يقدر عَلَيْهِ لضيق الثَّوْب اتزر بِهِ.
واحتجنا أَن نَنْظُر فِي حكم الثَّوْب الْوَاسِع الَّذِي يَسْتَطِيع أَن يتزر بِهِ ويشتمل، هَل يشْتَمل بِهِ أَو يتزر؟ فَكيف يفعل؟ فَإِذا يُونُس قد حدّثنا قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، قَالَ: (لَا يُصَلِّي أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء) فَنهى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي حَدِيث أبي الزِّنَاد عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزراً بِهِ. وَقد جَاءَ عَنهُ أَيْضا: (أَنه نهى أَن يُصَلِّي الرجل فِي السَّرَاوِيل وَحده لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره) . حدّثنا عِيسَى بن إِبْرَاهِيم الغافقي، قَالَ: حدّثنا عبد ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي زيد بن الْحباب عَن أبي الْمُنِيب عَن عبد ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه عَن رَسُول الله بذلك، فَهَذَا مثل ذَلِك، وَهَذَا عندنَا على الْوُجُود مَعَه غَيره، وَإِن كَانَ لَا يجد غَيره فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَا لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الصَّغِير متزراً بِهِ، فَهَذَا تَصْحِيح مَعَاني هَذِه الْآثَار المروية عَن رَسُول الله فِي هَذَا الْبَاب.
قَوْله: (لَيْسَ على عَاتِقه شَيْء) جملَة حَالية بِدُونِ الْوَاو، وَيجوز فِي مثل هَذَا: الْوَاو، تَركه. (قَالَ الْكرْمَانِي) هَذَا النَّهْي للتَّحْرِيم أم لَا؟ قلت: ظَاهر النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم، لَكِن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على جوز تَركه، إِذْ الْمَقْصُود ستر الْعَوْرَة، فَبِأَي وَجه حصل جَازَ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْإِجْمَاع مَا انْعَقَد على جَوَاز تَركه، وَهَذَا أَحْمد لَا يجوز صَلَاة من قدر على ذَلِك وَتَركه، وَنقل ابْن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن عَليّ عدم الْجَوَاز، وَنقل بَعضهم وجوب ذَلِك عَن نَص الشَّافِعِي، رَحمَه ا، وَاخْتَارَهُ، مَعَ أَن الْمَعْرُوف فِي كتب الشَّافِعِيَّة خِلَافه. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا نهي اسْتِحْبَاب وَلَيْسَ على سَبِيل الْإِيجَاب، فقد ثَبت أَنه صلى فِي ثوب كَانَ بعض طَرفَيْهِ على بعض نِسَائِهِ، وَهِي نَائِمَة، وَمَعْلُوم أَن الطّرف الَّذِي هُوَ لابسه من الثَّوْب غير متسع لِأَن يتزر بِهِ، ويفضل مِنْهُ مَا يكون لعاتقه، إِذْ لَو كَانَ لَا بُد أَن يبْقى من الطّرف الآخر مِنْهُ الْقدر الَّذِي يَسْتُرهَا، وَفِي حَدِيث جَابر الَّذِي يَتْلُو هَذَا الحَدِيث أَيْضا جَوَاز الصَّلَاة من غير شَيْء على العاتق.
06362 - ح دّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرَمَة قَالَ سَمِعْتُهُ أوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله يَقُولُ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ واحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 953) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُخَالفَة بَين طرفِي الثَّوْب لَا يَتَيَسَّر إِلَّا بِجعْل شَيْء من الثَّوْب على العاتق. وَقَالَ بَعضهم: فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: فليخالف بَين طَرفَيْهِ على عَاتِقيهِ، وَهُوَ عِنْد أَحْمد من طَرِيق معمر عَن يحيى، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم من طَرِيق حُسَيْن عَن شَيبَان، ثمَّ ادّعى أَن هَذَا أولى فِي مُطَابقَة التَّرْجَمَة، لِأَن فِيهِ التَّصْرِيح بالمراد، فالمصنف أَشَارَ إِلَيْهِ كعادته. قلت: دَعْوَى الْأَوْلَوِيَّة غير صَحِيحَة، لِأَن الدّلَالَة على المُرَاد من الطَّرِيق الَّذِي للْمُصَنف من نفس الْكَلَام المسوق أولى من الْكَلَام الْأَجْنَبِيّ عَنهُ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، بِضَم الدَّال. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير، ضد قَلِيل. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس:(4/66)
أَبُو هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: الشَّك من يحيى بَين السماع وَالسُّؤَال حَيْثُ قَالَ أَولا: سمعته، أَي سَمِعت عِكْرِمَة، ثمَّ قَالَ: أَو كنت سَأَلته يَعْنِي: سَمِعت مِنْهُ إِمَّا بسؤالي أَو بِغَيْر سُؤَالِي، لَا أحفظ كَيْفيَّة الْحَال. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن مكي بن عَبْدَانِ عَن حمدَان السّلمِيّ عَن أبي نعيم بِلَفْظ: سمعته أَو كتب بِهِ إِلَيّ، وَالشَّكّ هُنَا بَين السماع وَالْكِتَابَة. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا أعلم أحدا ذكر فِيهِ سَماع يحيى عَن عِكْرِمَة. وَرَوَاهُ هِشَام وحسين الْمعلم وَمعمر وَزيد بن سِنَان، كل قَالَ: عَن عِكْرِمَة لم يذكر خَبرا وَلَا سَمَاعا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث يحيى عَن عِكْرِمَة عَن أبي هُرَيْرَة بالعنعنة من غير شكّ، وَلَفظه: (إِذا صلى أحدكُم فِي ثوب فليخالف بطرفيه على عَاتِقيهِ) . وَفِيه: الشَّهَادَة وَالسَّمَاع من أبي هُرَيْرَة حَيْثُ قَالَ: أشهد أَنِّي سمت رَسُول ا، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى حفظه وإتقانه واستحضاره.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فِي ثوب وَاحِد) ، لفظ: وَاحِد، فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (فِي ثوب) ، بِدُونِ ذكر لفظ: وَاحِد. قَوْله: (فليخالف بَين طَرفَيْهِ) ، أَي: بَين طرفِي الثَّوْب، والمخالفة بطرفيه على عَاتِقيهِ هُوَ التوشح وَهُوَ الاشتمال على مَنْكِبَيْه، وَإِنَّمَا أَمر بذلك لستر أعالي الْبدن وَمَوْضِع الزِّينَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَفَائِدَة الْمُخَالفَة فِي الثَّوْب أَن لَا ينظر الْمُصَلِّي إِلَى عَورَة نَفسه إِذا ركع قلت: فَائِدَة أُخْرَى وَهِي أَن لَا يسْقط إِذا ركع، وَهَذَا الْأَمر للنَّدْب عِنْد الْجُمْهُور، حَتَّى لَو صلى وَلَيْسَ على عَاتِقه شَيْء صحت صلَاته. وَيُقَال: إِذا لم يُخَالف بَين طَرفَيْهِ رُبمَا يحْتَاج إِلَى إِمْسَاكه بِيَدِهِ فيشتغل بذلك وتفوته سنة وضع الْيَد الْيُمْنَى على الْيُسْرَى، وَاحْتج أَحْمد بِظَاهِر الحَدِيث، وَشرط الْوَضع على عَاتِقه عِنْد الْقُدْرَة، وَعنهُ أَنه: تصح صلَاته وَلكنه يَأْثَم بِتَرْكِهِ.
6 - (بابٌ إذَا كانَ الثَّوْبُ ضَيِّقاً)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ كَيفَ يفعل الْمُصَلِّي إِذا كَانَ الثَّوْب ضيقا، والضيق، بِفَتْح الضَّاد وَتَشْديد الْيَاء، وَجَاز فِيهِ تَخْفيف الْيَاء: وَهُوَ صفة مشبهة، وَاسم الْفَاعِل من هَذِه الْمَادَّة: ضائق، على وزن: فَاعل، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الصّفة المشبهة تدل على الثُّبُوت، وَاسم الْفَاعِل يدل على الْحُدُوث.
27 - (حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن سُلَيْمَان عَن سعيد بن الْحَارِث قَالَ سَأَلنَا جَابر بن عبد الله عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد فَقَالَ خرجت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض أَسْفَاره فَجئْت لَيْلَة لبَعض أَمْرِي فَوَجَدته يُصَلِّي وَعلي ثوب وَاحِد فاشتملت بِهِ وَصليت إِلَى جَانِبه فَلَمَّا انْصَرف قَالَ مَا السّري يَا جَابر فَأَخْبَرته بحاجتي فَلَمَّا فرغت قَالَ مَا هَذَا الاشتمال الَّذِي رَأَيْت قلت كَانَ ثوبا يَعْنِي ضَاقَ قَالَ فَإِن كَانَ وَاسِعًا فالتحف بِهِ وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَإِن كَانَ وَاسِعًا " إِلَى آخِره. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول يحيى بن صَالح أَبُو زَكَرِيَّا الوحاظي بِضَم الْوَاو وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وبالظاء الْمُعْجَمَة الْحِمصِي الْحَافِظ الْفَقِيه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة تقدم فِي أول كتاب الْعلم. الثَّالِث سعيد بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة. الرَّابِع جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه السُّؤَال وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. (ذكر من أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ من طَرِيق سعيد بن الْحَارِث وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عبَادَة عَن جَابر مطولا وَفِيه " إِذا كَانَ وَاسِعًا فَخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا فاشدده على حقوك " وَأخرجه أَبُو دَاوُد كَذَلِك قَوْله " على حقوك " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا الْإِزَار وَالْأَصْل فِيهِ معقد الْإِزَار ثمَّ سمى بِهِ الْإِزَار للمجاورة وَجمعه أَحَق وأحقاء(4/67)
(ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " فِي بعض أَسْفَاره " عينه مُسلم فِي رِوَايَته " غَزْوَة بواط " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد الْألف طاء مُهْملَة قَالَ الصغاني بواط جبال جُهَيْنَة من نَاحيَة ذِي خشب وَبَين بواط وَالْمَدينَة ثَلَاثَة برد أَو أَكثر وَقَالَ ابْن اسحق جَمِيع مَا غزا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة سبع وَعِشْرُونَ غَزْوَة. ودان وَهِي غَزْوَة الْأَبْوَاء وغزوة بواط من نَاحيَة رضوى ثمَّ عد الْجَمِيع قَوْله " فَجئْت " أَي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " لبَعض أَمْرِي " أَي لأجل بعض حوائجي وَالْأَمر هُوَ وَاحِد الْأُمُور لَا وَاحِد الْأَوَامِر قَوْله " يُصَلِّي " فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لوجدت قَوْله " وعَلى ثوب وَاحِد " جملَة إسمية فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله " وَصليت إِلَى جَانِبه " كلمة إِلَى فِي الأَصْل للانتهاء فَالْمَعْنى صليت منتهيا إِلَى جَانِبه وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى فِي لِأَن حُرُوف الْجَرّ يقوم بَعْضهَا مقَام بعض وَيجوز أَن يُقَال فِيهِ تضمين معنى الانضمام أَي صليت مُنْضَمًّا إِلَى جَانِبه قَوْله " فَلَمَّا انْصَرف " أَي من الصَّلَاة واستقبال الْقبْلَة قَوْله " فَقَالَ مَا السرى " بِضَم السِّين مَقْصُورا وَهُوَ السّير بِاللَّيْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَام عَن سَبَب سراه بِاللَّيْلِ وَالسُّؤَال لَيْسَ عَن نفس السرى بل عَن سَببه قَوْله " مَا هَذَا الاشتمال " كَأَنَّهُ اسْتِفْهَام إِنْكَار وَسبب الْإِنْكَار أَن الثَّوْب كَانَ ضيقا وَأَنه خَالف بَين طَرفَيْهِ وتواقص أَي انحنى عَلَيْهِ حَتَّى لَا يسْقط فَكَأَنَّهُ عِنْد الْمُخَالفَة بَين طرفِي الثَّوْب لم يصر ساترا إِذا انحنى ليستتر فَأعلمهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَن مَحل ذَلِك فِيمَا إِذا كَانَ الثَّوْب وَاسِعًا وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَإِنَّهُ يجْزِيه أَن يتزر بِهِ لِأَن الْمَقْصُود هُوَ ستر الْعَوْرَة وَهُوَ يحصل بالاتزار وَلَا يحْتَاج إِلَى الانحناء المغاير للاعتدال الْمَأْمُور بِهِ قَوْله " كَانَ ثوبا " أَي كَانَ الْمُشْتَمل بِهِ ثوبا فَيكون انتصاب ثوبا على أَنه خبر كَانَ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة " كَانَ ثوب " بِالرَّفْع وَوَجهه أَن تكون كَانَ تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " كَانَ ثوبا ضيقا " قَوْله " فاتزر بِهِ " أَمر وَقَالَ الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة المقلوبة تَاء فِي التَّاء وَقَول التصريفيين اتزر خطأ هُوَ الْخَطَأ (قلت) تَحْقِيق هَذِه الْمَادَّة أَن أصل الْفِعْل أزر على ثَلَاثَة أحرف فَلَمَّا نقل إِلَى بَاب الافتعال صَار امتزر على وزن افتعل بهمزتين أولاهما مَكْسُورَة وَهِي همزَة الافتعال وَالْأُخْرَى سَاكِنة وَهِي همزَة الْفِعْل ثمَّ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن تقلب الْهمزَة يَاء آخر الْحُرُوف فَيُقَال أيتزر وَالْآخر أَن تقلب تَاء مثناة من فَوق وتدغم التَّاء فِي التَّاء وَهُوَ معنى قَول الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة المقلوبة تَاء فِي التَّاء وَلَفظ الحَدِيث على الْوَجْه الأول. (ذكر استنباط الحكم مِنْهُ) قَالَ الْخطابِيّ الاشتمال الَّذِي أنكرهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ اشْتِمَال الصماء وَهُوَ أَن يُجَلل نَفسه بِثَوْبِهِ وَلَا يرفع شَيْئا من جوانبه وَلَا يُمكنهُ إِخْرَاج يَدَيْهِ إِلَّا من أَسْفَله فيخاف أَن تبدو عَوْرَته عِنْد ذَلِك وَقَالَ ابْن بطال حَدِيث جَابر هَذَا تَفْسِير حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَهُوَ " لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء " فِي أَنه أَرَادَ الثَّوْب الْوَاسِع الَّذِي يُمكن أَن يشتمله وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَلم يُمكنهُ أَن يشْتَمل بِهِ فليتز بِهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قيل الحَدِيث السَّابِق فِيهِ نهي عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزرا بِهِ وَظَاهره يُعَارض " وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ " وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن النَّهْي عَنهُ للواجد لغيره وَأما من لم يجد غَيره فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهِ كَمَا لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الضّيق متزرا. وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز طلب الْحَوَائِج بِاللَّيْلِ من السُّلْطَان لخلأ مَوْضِعه وَجَوَاز مَجِيء الرجل إِلَى غَيره بِاللَّيْلِ لِحَاجَتِهِ. وَمن ذَلِك أَن الثَّوْب إِذا كَانَ وَاسِعًا يُخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا يتزر بِهِ.
28 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سُفْيَان قَالَ حَدثنِي أَبُو حَازِم عَن سهل قَالَ كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم كَهَيئَةِ الصّبيان) ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي أول بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ وَقَالَ أَبُو حَازِم عَن سهل " صلوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاقدي أزرهم على عواتقهم " وَأخرجه هَهُنَا مُسْندًا عَن مُسَدّد بن مسرهد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى آخِره وَأخرجه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن كثير وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بِهِ وَلَفظ أبي دَاوُد عَن سهل بن سعد قَالَ " رَأَيْت الرِّجَال عاقدي(4/68)
أزرهم فِي أَعْنَاقهم من ضيق الأزر خلف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة كأمثال الصّبيان فَقَالَ قَائِل يَا معشر النِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يرفع الرِّجَال ". (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " عَن سُفْيَان " قد ذكرنَا أَنه الثَّوْريّ وَقَالَ الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يكون سُفْيَان بن عُيَيْنَة لِأَنَّهُمَا يرويان عَن أبي حَازِم (قلت) نَص الْمزي فِي الْأَطْرَاف أَنه سُفْيَان الثَّوْريّ قَوْله " كَانَ رجال " قَالَ الْكرْمَانِي التنكير فِيهِ للتنويع أَو للتَّبْعِيض أَي بعض الرِّجَال وَلَو عرفه لأفاد الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ خلاف الْمَقْصُود وَتَبعهُ بَعضهم فِي شَرحه فَقَالَ التنكير فِيهِ للتنويع وَهُوَ يَقْتَضِي أَن بَعضهم كَانَ بِخِلَاف ذَلِك وَهُوَ كَذَلِك (قلت) مَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الْمَذْكُورَة يرد مَا ذكرَاهُ لِأَن فِي رِوَايَته رَأَيْت الرِّجَال بالتعريف قَوْله " يصلونَ " خبر كَانَ قَوْله " عاقدي أزرهم " أَصله عاقدين أزرهم فَلَمَّا أضيف سَقَطت النُّون وَهِي حَال وَيجوز أَن يكون انتصابه على أَنه خبر كَانَ وَيكون قَوْله " يصلونَ " فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله " كَهَيئَةِ الصّبيان " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " كأمثال الصّبيان " كَمَا ذكرنَا وَالْمعْنَى قريب. وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن الثَّوْب إِذا كَانَ يُمكن الالتحاف بِهِ كَانَ أولى من الاتزار بِهِ لِأَنَّهُ أبلغ فِي السّتْر
(وَيُقَال للنِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَال جُلُوسًا) قَالَ الْكرْمَانِي أَي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " فَقَالَ قَائِل يَا معشر النِّسَاء " كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَهَذَا الْقَائِل أَعم من أَن يكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو غَيره وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْكشميهني " وَيُقَال للنِّسَاء " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ " فَقيل للنِّسَاء " وروى أَبُو دَاوُد ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من كَانَ مِنْكُن تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا ترفع رَأسهَا حَتَّى يرفع الرِّجَال رُؤْسهمْ كَرَاهِيَة أَن تَرين عورات الرِّجَال " وَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيح بِأَن الْقَائِل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " لَا ترفعن " أَي من السُّجُود قَوْله " جُلُوسًا " أما جمع جَالس كالركوع جمع رَاكِع وَأما مصدر بِمَعْنى جالسين وعَلى كل حَال انتصابه على الْحَال وَإِنَّمَا نهى عَن رفع رُؤْسهنَّ قبل جُلُوس الرِّجَال خشيَة أَن يلمحن شَيْئا من عورات الرِّجَال عِنْد الرّفْع مِنْهُ
7 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْجُبَّة الشامية، والجبة، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. هِيَ الَّتِي تلبس، وَجَمعهَا جباب، والشامية. نِسْبَة إِلَى الشَّام، وَهُوَ الإقليم الْمَعْرُوف دَار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. وَيجوز فِيهِ الْألف والهمزة الساكنة، وَالْمرَاد بالجبة الشامية هِيَ: الَّتِي تنسجها الْكفَّار، وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ الشامية مُرَاعَاة للفظ الحَدِيث. وَكَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك، وَالشَّام إِذْ ذَاك كَانَت بِلَاد كفر، وَلم تفتح بعد، وَإِنَّمَا أولنا بِهَذَا لِأَن الْبَاب مَعْقُود لجَوَاز الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الَّتِي تنسجها الْكفَّار مَا لم تتَحَقَّق نجاستها. وقالَ الحَسَنُ فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا المجُوسُ لَمْ يَرَ بِهَا بَأَساً.
الْحسن: هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوَصله نعيم بن حَمَّاد، وَعَن مُعْتَمر عَن هِشَام عَنهُ. وَلَفظه: (لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الَّذِي ينسجه الْمَجُوس قبل أَن يغسل) . وروى أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن فِي كتاب (الصَّلَاة) تأليفه: عَن الرّبيع، (عَن الْحسن: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي رِدَاء الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ) . قَوْله: (الْمَجُوس) جمع الْمَجُوسِيّ، وَهُوَ معرفَة سَوَاء كَانَ محلى بِالْألف وَاللَّام أم لَا، وَالْأَكْثَر على أَنه يجْرِي مجْرى الْقَبِيلَة لَا مجْرى الْحَيّ فِي بَاب الصّرْف، وَفِي بعض النّسخ: ينسجها الْمَجُوسِيّ، بِالْيَاءِ، وَالْجُمْلَة صفة للثياب، والمسافة بَين النكرَة والمعرفة بلام الْجِنْس قَصِيرَة، فَلذَلِك وصفت الْمعرفَة بالنكرة. كَمَا وصف اللَّئِيم بقوله: يسبني فِي قَول الشَّاعِر:
(وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني)
وَفِي بعض النّسخ: (فِي ثِيَاب ينسجها الْمَجُوس) بتنكير الثِّيَاب، وعَلى هَذِه النُّسْخَة لَا يحْتَاج إِلَى مَا ذكرنَا، وينسج من بَاب: ضرب يضْرب، وَمن بَاب: نصر ينصر، وَقَالَ ابْن التِّين: قرأناه بِكَسْر السِّين. قَوْله: (لم ير) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي: لم ير الْحسن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (لم ير) بِلَفْظ الْمَجْهُول، أَي: الْقَوْم، فعلى الأول يكون من بَاب التَّجْرِيد، كَأَنَّهُ جرد عَن نَفسه شخصا فأسند إِلَيْهِ.(4/69)
وقالَ مَعْمَرٌ رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِن ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالبَوْلِ.
معمر، بِفَتْح الْمِيم: هُوَ ابْن الراشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَوَصله عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَنهُ. قَوْله: (بالبول) إِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ جنس الْبَوْل فَهُوَ مَحْمُول على أَنه كَانَ يغسلهُ قبل لبسه، وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ الْبَوْل الْمَعْهُود، وَهُوَ بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه فَهُوَ طَاهِر عِنْد الزُّهْرِيّ.
وَصَلَّى عَلِيٌّ فِي ثَوْب غَيْرَ مَقْصُورٍ.
50
- 50 عَليّ: هُوَ ابْن أبي طَالب، وَأَرَادَ: بِغَيْر مَقْصُور الخام. وَالْمرَاد أَنه كَانَ جَدِيدا لم يغسل. وَقَالَ ابْن التِّين: غير مَقْصُور، أَي: غير مدقوق. يُقَال: قصرت الثَّوْب إِذا دققته، وَمِنْه الْقصار. قلت: الْقصر لَيْسَ مُجَرّد الدق، والدق لَا يكون إلاَّ بعد الْغسْل الَّذِي يُبَالغ فِيهِ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي لم يلبس بعد، وروى ابْن سعد من طَرِيق عَطاء بن مُحَمَّد. قَالَ: (رَأَيْت عليا رَضِي اتعالى عَنهُ، صلى وَعَلِيهِ قَمِيص كرابيس غير مغسول) . وَعلم من هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة جَوَاز لبس الثِّيَاب الَّتِي ينسجها الْكفَّار، وَجَوَاز لبس الثِّيَاب الَّتِي تصبغ بالبول بعد الْغسْل، وَجَوَاز لبس الثِّيَاب الخام قبل الْغسْل. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الصَّلَاة فِي ثِيَاب الْكفَّار، فَأجَاز الشَّافِعِي والكوفيون لباسها، وَإِن لم تغسل حَتَّى تتبين فِيهَا النَّجَاسَة. وَقَالَ مَالك: يسْتَحبّ أَن لَا يُصَلِّي على الثِّيَاب إِلَّا من حر أَو برد أَو نَجَاسَة بالموضع، وَقَالَ مَالك أَيْضا: تكره الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الَّتِي ينسجها الْمُشْركُونَ، وَفِيمَا لبسوه، فَإِن فعل يُعِيد فِي الْوَقْت. وَقَالَ إِسْحَاق جَمِيع ثِيَابهمْ طَاهِرَة.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة أثر الزُّهْرِيّ وَعلي للتَّرْجَمَة؟ قلت: لما ذكر أثر الْحسن المطابق للتَّرْجَمَة ذكر الأثرين الآخرين اسْتِطْرَادًا.
36392 - ح دّثنا يَحْيَى قالَ حدّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عنْ مُغِيَرَةَ ابنِ شُعْبَةَ قالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ فِي سَفَرٍ فقالَ يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإِدَاوَةَ فَأَخَذْتُها فَانْطَلَقَ رسولُ الله حَتى تَوَارَى عَنِّي فَقَضَى حاجَتهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ منْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أسْفلِهَا فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثُمَّ صَلَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: يحيى بن مُوسَى أَبُو زَكَرِيَّا الْبَلْخِي، يعرف بخت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق. وَقَالَ الغساني فِي (التَّقْيِيد) : قَالَ البُخَارِيّ فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْجُبَّة الشامية وَفِي الْجَنَائِز وَفِي تَفْسِير سُورَة الدُّخان: حدّثنا يحيى حدّثنا أَبُو مُعَاوِيَة، فنسب ابْن السكن الَّذِي فِي الْجَنَائِز بِأَنَّهُ يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي، وأهمل الْمَوْضِعَيْنِ الآخرين، وَلم أجدهما منسوبين لأحد من شُيُوخنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَنا وجدته فِي بعض النّسخ مَنْسُوبا إِلَى جَعْفَر ابْن أبي زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي، وَيحْتَمل أَن يكن يحيى بن معِين: لِأَنَّهُ روى عَن أبي مُعَاوِيَة، وَالْبُخَارِيّ يروي عَنهُ. الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بالمعجمتين. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: مُسلم بن صبيح، بِضَم الصَّاد: أَبُو الضُّحَى الْعَطَّار، وَتردد الْكرْمَانِي فِي هَذَا، فَقَالَ: مُسلم بن عمرَان البطين، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، أَو مُسلم بن صبيح، وَكَذَا تردد فِي أبي مُعَاوِيَة. وَقَالَ مُحَمَّد بن خازم: وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ أَبُو مُعَاوِيَة شَيبَان النَّحْوِيّ، ثمَّ قَالَ: وأمثال هَذِه الترددات لَا تقدح فِي صِحَة الحَدِيث وَلَا فِي إِسْنَاده، لِأَن أياً كَانَ مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ، بِدَلِيل أَنه قد روى فِي (الْجَامِع) عَن كل مِنْهُم. وَقَالَ بَعضهم: لم يرو يحيى عَن شَيبَان. قلت: هَذَا نفي لَا يُعَارض الْإِثْبَات. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي، سمي بِهِ لِأَنَّهُ سرق فِي صغره. السَّادِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وكوفي.
تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي(4/70)
اللبَاس عَن قيس بن حَفْص، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَعَن إِسْحَاق بن نصر عَن أبي أُسَامَة مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة. وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن خشرم، كِلَاهُمَا عَن عِيسَى بن يُونُس أربعتهم عَن الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن خشرم بِهِ، وَفِي الزِّينَة عَن أَحْمد بن حَرْب عَن أبي مُعَاوِيَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن هِشَام بن عمار عَن عِيسَى بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (الْإِدَاوَة) بِكَسْر الْهمزَة: المطهرة. قَوْله: (حَتَّى توارى) أَي: غَابَ وخفي. قَوْله: (فضاقت) ، أَي: الْجُبَّة.
وَفِيه جَوَاز أَمر الرئيس غَيره بِالْخدمَةِ، والتستر عَن أعين النَّاس عِنْد قَضَاء الْحَاجة، والإعانة على الْوضُوء، وَالْمسح على الْخُف. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
8 - (بابُ كرَاهِيَةِ التعرِّي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِها)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: بَاب كَرَاهِيَة التعري فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة التعري فِي نفس الصَّلَاة وَغَيرهَا أَي: غير الصَّلَاة.
46303 - ح دّثنا مَطَرُ بنُ الْفَضْلِ قالَ حدّثنا رَوْحٌ قالَ حدّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ قالَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ اللَّهِ كانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إزَارُهُ فقالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ يَا ابنَ أخي لَوْ حَلَلْتَ إزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ قالَ فَحَلَّهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَسَقَطَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ فَمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْياناً. (الحَدِيث 463 طرفاه فِي: 2851، 9283) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ عُمُوم قَوْله: (فَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك عُريَانا) ، لِأَن ذَلِك يتَنَاوَل مَا بعد النُّبُوَّة كَمَا يتَنَاوَل مَا قبلهَا، ثمَّ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل حَالَة الصَّلَاة وَغَيرهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مطر بن الْفضل الْمروزِي. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو: ابْن عبَادَة التنيسِي، مر فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان. الثَّالِث: زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار الجُمَحِي، تقدم فِي بَاب كتاب الْعلم. الْخَامِس: جَابر بن عبد ا.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد والمضارع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومروزي ومكي، وَهَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، فَإِن جَابِرا لم يحضر الْقَضِيَّة. وَهِي حجَّة، خلافًا لطائفة قد شذوا فِيهِ، فَفِي نفس الْأَمر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون سمع ذَلِك من رَسُول الله بعد ذَلِك، أَو من بعض من حضر ذَلِك من الصَّحَابَة، وَالْأَقْرَب أَنه سَمعه من الْعَبَّاس، لِأَنَّهُ حدث بِهِ عَنهُ أَيْضا، وسياقه أتم. أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَفِيه؛ (فَقَامَ وَأخذ إزَاره، وَقَالَ: نهيت أَن أَمْشِي عُريَانا) .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بُنيان الْكَعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن روح بن عبَادَة عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ ينْقل مَعَهم) أَي: مَعَ قُرَيْش. قَوْله: (للكعبة) أَي: لبِنَاء الْكَعْبَة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لما بنت قُرَيْش الْكَعْبَة لم يبلغ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْحلم. وَقَالَ ابْن بطال وَابْن التِّين: كَانَ عمره خمس عشرَة سنة. وَقَالَ هِشَام: بَين بِنَاء الْكَعْبَة والمبعث خمس سِنِين. وَقيل: إِن بِنَاء الْكَعْبَة كَانَ فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ من مولده، وَذكر الْبَيْهَقِيّ بناءا لكعبة قبل تزَوجه خَدِيجَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَالْمَشْهُور أَن بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة بعد تزوج خَدِيجَة بِعشر سِنِين، فَيكون عمره إِذْ ذَاك خَمْسَة وَثَلَاثِينَ سنة. وَهُوَ الَّذِي نَص عَلَيْهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: كَانَ بِنَاء الْكَعْبَة قبل المبعث بِخمْس عشرَة سنة، وَهَكَذَا قَالَه مُجَاهِد وَغَيره، وَفِي (سيرة ابْن إِسْحَاق) أَنه كَانَ يحدث عَمَّا كَانَ ايحفظه فِي صغره أَنه قَالَ: (لقد رَأَيْتنِي فِي غلْمَان قُرَيْش بِنَقْل الْحِجَارَة لبَعض مَا تلعب بِهِ الغلمان، كلنا قد تعرى وَأخذ إزَاره وَجعل على(4/71)
رقبته يحمل عَلَيْهَا الْحِجَارَة، فَإِنِّي لأقبل مَعَهم كَذَلِك وَأدبر إِذْ لكمني لَا كم، مَا أرَاهُ إلاَّ لكمة وجيعة، ثمَّ قَالَ شدّ عَلَيْك إزارك. فَأَخَذته فشددته عَليّ ثمَّ جعلت أحمل الْحِجَارَة على رقبتي وإزاري عَليّ من بَين أَصْحَابِي) . وَقَالَ السُّهيْلي: وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق هَذَا إِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على أَن هَذَا الْأَمر كَانَ مرَّتَيْنِ، فِي حَال صغره. وَعند بُنيان الْكَعْبَة. قَوْله: (وَعَلِيهِ إِزَار) ويروى: (عَلَيْهِ إزَاره) ، بالضمير، وَهَذِه الْجُمْلَة حَال بِالْوَاو، وَفِي بعض النّسخ بِلَا وَاو. قَوْله: (عَمه) مَرْفُوع لِأَنَّهُ عطف بَيَان. قَوْله: (لَو حللت) ، جَوَاب: لَو، مَحْذُوف إِن كَانَت شَرْطِيَّة، وَتَقْدِير: لَو حللت إزارك لَكَانَ أسهل عَلَيْك، وَيجوز أَن تكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب حينئذٍ. قَوْله: (فَجعلت) أَي الْإِزَار، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَجَعَلته) ، بالضمير. وَجَاء فِي رِوَايَة غير (الصَّحِيحَيْنِ) : (إِن الْملك نزل عَلَيْهِ فَشد إزَاره) . قَوْله: (قَالَ: فَحله) ، يحْتَمل أَن يكون مقول جَابر أَو مقول من حَدثهُ. قَوْله: (فَسقط) أَي: رَسُول الله مغشياً عَلَيْهِ، أَي مغمى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لانكشاف عَوْرَته. قَوْله: (فَمَا رُؤِيَ) ، بِضَم الرَّاء بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة وَيجوز كسر الرَّاء بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ همزَة مَفْتُوحَة. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَلم يتعرَّ بعد ذَلِك) ، قَوْله: (عُريَانا) نصب على أَنه مفعول ثَان لرؤي.
ذكر مَا فِيهِ من الْفَوَائِد مِنْهَا: أَن النَّبِي كَانَ فِي صغره محمياً عَن القبائح، وأخلاق الْجَاهِلِيَّة، منزهاً عَن الرذائل والمعايب قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا. وَمِنْهَا: أَنه كَانَ جبله اتعالى على أحسن الْأَخْلَاق وَالْحيَاء الْكَامِل حَتَّى كَانَ أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها، فَلذَلِك غشي عَلَيْهِ، وَمَا رُؤِيَ بعد ذَلِك عُريَانا. وَمِنْهَا: أَنه لَا يجوز التعري للمرء بِحَيْثُ تبدو عَوْرَته لعين النَّاظر إِلَيْهَا، وَالْمَشْي عُريَانا بِحَيْثُ لَا يَأْمَن أعين الْآدَمِيّين إلاَّ مَا رخص فِيهِ من رُؤْيَة الحلائل لِأَزْوَاجِهِنَّ عُرَاة. قَالُوا: وَقد دلّ حَدِيث الْعَبَّاس الْمَذْكُور أَنه لَا يجوز التعري فِي الْخلْوَة، وَلَا لأعين النَّاس. وَقيل: إِنَّمَا مخرج القَوْل مِنْهُ للْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، فَحَيْثُ كَانَت قُرَيْش رجالها ونساؤها تنقل مَعَه الْحِجَارَة، فَقَالَ: نهيت أَن أَمْشِي عُريَانا فِي مثل هَذِه الْحَالة، لَو كَانَ ذَلِك نهيا عَن التعري فِي كل مَكَان لَكَانَ قد نَهَاهُ عَنهُ فِي غسل الْجَنَابَة فِي الْموضع الَّذِي قد أَمن أَن يرَاهُ فِيهِ أحد، وَلكنه نَهَاهُ عَن التعري بِحَيْثُ يرَاهُ فِيهِ أحد، وَالْقعُود بِحَيْثُ يرَاهُ من لَا يحل لَهُ أَن يرى عَوْرَته فِي معنى الْمَشْي عُريَانا، وَلذَلِك نهى الشَّارِع عَن دُخُول الْحمام بِغَيْر إِزَار فَإِن قلت: روى الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (لَو أَسْتَطِيع أَن أواري عورتي من شعاري لواريتها) . وَقَالَ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ: (إِذا كشف الرجل عَوْرَته أعرض عَنهُ الْملك) . وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (إِنِّي لأغتسل فِي الْبَيْت المظلم فَمَا أقيم صلبي حَيَاء من رَبِّي) . قلت: كل ذَلِك مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب لاستعمال السّتْر، لَا على الْحُرْمَة، وَفِي (التَّوْضِيح) : إِذا أَوجَبْنَا السّتْر فِي الْخلْوَة فَهَل يجوز أَن ينزل فِي مَاء النَّهر وَالْعين بِغَيْر مئزر؟ وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا، للنَّهْي عَنهُ، وَالثَّانِي: نعم، لِأَن المَاء يقوم مقَام المئزر فِي ستر الْعَوْرَة، وَا أعلم.
9 - (بَاب الصَّلاَةِ فِي القَمِيصِ والسَّرَاوِيلِ والتُّبَّانِ والقَبَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْقَمِيص إِلَى آخِره. الْقَمِيص مَعْرُوف، وَجمعه: قمصان وأقمصة، وقمصه تقميصاً وتقمصة أَي؛ لبسه: والسراويل أعجمي عرّب، نقل سِيبَوَيْهٍ عَن يُونُس، وَزعم ابْن سَيّده أَنه فَارسي مُعرب يذكر وَيُؤَنث، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي فِيهَا إِلَّا التَّأْنِيث، وَالْجمع سراويلات، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَا تكسر لِأَنَّهُ لَو كسر لم يرجع إلاَّ إِلَى لفظ الْوَاحِد فَترك. وَيُقَال. هُوَ جمع سروالة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: السَّرَاوِيل، مؤنث لَا يذكرهَا أحد علمناه، وَبَعض الْعَرَب يظنّ السَّرَاوِيل جمَاعَة، وَسمعت من الْأَعْرَاب من يَقُول: الشروال بالشين الْمُعْجَمَة. قلت: وَلما استعملته الْعَرَب بدلُوا الشين سيناً ثمَّ جَمَعُوهُ على سَرَاوِيل، وَقد يُقَال فِيهِ: سراوين، بالنُّون مَوضِع اللَّام، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: سَرَاوِيل وسروال وسرويل، ثَلَاث لُغَات. والتبان، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ فِي (الْمُحكم) : التبَّان يشبه السَّرَاوِيل يذكر. وَفِي (الصِّحَاح) : التبَّان سَرَاوِيل صَغِير مِقْدَار شبر يستر الْعَوْرَة الْمُغَلَّظَة، فقد يكون للملاحين. قلت: وَهُوَ عِنْد الْعَجم من جلد بِلَا رجلَيْنِ يلْبسهُ المصارعون. والقبا، بِفَتْح الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة المخففة. قَالَ الْكرْمَانِي: مَمْدُود، وَتَبعهُ على ذَلِك بَعضهم. قلت: لم يذكر غَيره، بل الظَّاهِر أَنه مَقْصُور. وَفِي كتاب الجواليقي: قَالَ بَعضهم: هُوَ فَارسي مُعرب، وَقيل: عَرَبِيّ واشتقاقه من: القبو، وَهُوَ الضَّم وَالْجمع(4/72)
وَقَالَ أَبُو عَليّ: سمي قبَاء لتقبضه، وقبوت الشَّيْء: جمعته، وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ اليلمق، فَارسي مُعرب، والقردماني. وَقَالَ السيرافي: قبَاء محشو، وَقَالَ فِي (الْجَامِع) : سمي قبَاء لِأَنَّهُ يضم لابسه. وَفِي (الصِّحَاح) : تقبيت إِذا لبست قبَاء، وَفِي (الْمُحكم) : قبا الشَّيْء قبواً جمعه بأصابعه، والقبوة انضمام مَا بَين الشفتين، والقباء من الثِّيَاب مُشْتَقّ من ذَلِك لانضمام أَطْرَافه، وَالْجمع: أقبية، وَفِي (مجمع الغرائب) للفارسي، عَن كَعْب: أول من لبس القباء سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَانَ إِذا أَدخل رَأسه فِي الثِّيَاب لنصت الشَّيَاطِين، يَعْنِي: فصلت أنوفها. وَزعم أَبُو مُوسَى فِي (المغيث) بِالسِّين: لنست.
563 - ح دّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ قامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ فَسَأَلَهُ عنِ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ فَقَالَ أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ سأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقالَ إذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثيابَهُ صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ فِي إزَارٍ وَقَباءٍ فِي سَراوِيلَ وَرِدَاءٍ فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ فِي سَرَاوِيلَ وَقَباءٍ فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ قالَ وَأحْسِبُهُ قالَ فِي تُبَّانٍ وَرِداءٍ. (انْظُر الحَدِيث 853) .
مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي ذكر الصَّلَاة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة، وصدرُ هَذَا الحَدِيث، أَعنِي الْمَرْفُوع مِنْهُ، قد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي آخر بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد ملتحفاً بِهِ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد، فَقَالَ رَسُول ا: أَو لكلكم ثَوْبَان؟) . وَهَهُنَا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب الخ.
وَأَيوب: هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وَقد تقدمُوا غير مرّة.
قَوْله: (أَو لكلكم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وواو الْعَطف، أَي: لَا يجد كل وَاحِد ثَوْبَيْنِ، فَلهَذَا تصح الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد. قَوْله: (ثمَّ سَأَلَ رجل عمر) أَي: سَأَلَ عَن الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد، وَلم يسم الرجل فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون ابْن مَسْعُود، لِأَنَّهُ اخْتلف هُوَ وَأبي بن كَعْب رَضِي اتعالى عَنْهُمَا؛ فِي ذَلِك. فَقَالَ أبي: الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد، يَعْنِي لَا تكره. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك وَفِي الثِّيَاب قلَّة، فَقَالَ عمر: القَوْل مَا قَالَ أبي، وَلم يأل ابْن مَسْعُود أَي: لم يقصر. قلت: اخْتِلَاف أبي وَابْن مَسْعُود فِي ذَلِك لَا يدل على أَن السَّائِل من عمر هُوَ ابْن مَسْعُود بِعَيْنِه، وَيحْتَمل أَن يكون أبي، وَالِاحْتِمَال مَوْجُود فيهمَا، مَعَ أَنه حدس وتخمين. وَأما اخْتِلَافهمَا فِي ذَلِك فقد أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عمر وَعَن الْحسن قَالَ: اخْتلف أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود فِي الصَّلَاة فِي ثوب وَاحِد، فَقَالَ أبي: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك إِذْ كَانَ النَّاس لَا يَجدونَ ثيابًا. فَأَما إِذا وجدوها فَالصَّلَاة فِي ثَوْبَيْنِ. فَقَامَ عمر على الْمِنْبَر فَقَالَ: الصَّوَاب مَا قَالَ أبي لَا مَا قَالَ ابْن مَسْعُود. قَوْله: (فَقَالَ: إِذا وسع ا) أَي: فَقَالَ عمر فِي جَوَاب الرجل الَّذِي سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد.
قَوْله: (جمع رجل عَلَيْهِ) الخ من بَقِيَّة قَول عمر. وتتمة كَلَامه، وَالضَّمِير فِي: عَلَيْهِ، يرجع إِلَى الرجل: أَي جمع رجل على نَفسه ثِيَابه، وَلَفظه: جمع، وَإِن كَانَت صِيغَة الْمَاضِي وَلَكِن المُرَاد مِنْهَا الْأَمر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (صلى) . فَلذَلِك قَالَ ابْن بطال: يُرِيد ليجمع عَلَيْهِ ثِيَابه وَليصل فِيهَا، ذكره بِلَفْظ الْمَاضِي وَمرَاده الْمُسْتَقْبل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ ايا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس} (الْمَائِدَة: 611) وَالْمعْنَى: يَقُول ا، يدل عَلَيْهِ قَول عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {مَا قلت لَهُم إلاَّ مَا أَمرتنِي بِهِ} (الْمَائِدَة: 711) . قَوْله: (صلى رجل) . أَي: ليصل رجل فِي إِزَار ورداء، وَهَذِه تسع صور. الأولى: هَذِه، وَالْفرق بَين الْإِزَار والرداء بِحَسب الْعرف، لِأَن الْإِزَار لِلنِّصْفِ الْأَسْفَل، وَالرَّدّ لِلنِّصْفِ الْأَعْلَى. الثَّانِيَة: من الصُّور: هِيَ قَوْله: (فِي إِزَار وقميص) أَي: ليصل فِي إِزَار وقميص. الثَّالِثَة: قَوْله: (فِي إِزَار وقباء) ، أَي: ليصل فيهمَا، وَإِنَّمَا قدم هَذِه الثَّلَاثَة لِأَنَّهَا أستر وَأكْثر اسْتِعْمَالا. الرَّابِعَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل ورداء) أَي: ليصل فيهمَا. الْخَامِسَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل وقميص) . السَّادِسَة: قَوْله: (فِي سَرَاوِيل وقباء) . السَّابِعَة: قَوْله: (فِي تبان وقباء) . الثَّامِنَة: قَوْله: (فِي تبان وقميص) . التَّاسِعَة: قَوْله: (فِي تبان ورداء) . وَلم يقْصد بذلك الْعدَد الْحصْر، بل ألحق بذلك مَا يقوم مقَامه.
فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول: أَو كَذَا أَو كَذَا. بِحرف الْعَطف. فَلم ترك حرف الْعَطف؟ قلت: أخرج هَذَا على سَبِيل التعداد فَلَا حَاجَة إِلَى ذكر حرف(4/73)
الْعَطف، كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (تصدق امْرُؤ من ديناره من درهمه من صَاع تمره) . وَيجوز أَن يُقَال: حذف حرف الْعَطف على قَول من يجوز ذَلِك من النُّحَاة، وَالتَّقْدِير حينئذٍ: صلى رجل فِي إِزَار ورداء، أَو فِي إِزَار وقميص، أَو فِي إِزَار وقباء. إِلَى آخِره كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من بَاب الْإِبْدَال. قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا قَالَه ابْن الْمُنِير: إِنَّه كَلَام فِي معنى الشَّرْط، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن جمع رجل عَلَيْهِ ثِيَابه فَحسن، ثمَّ فصل الْجمع بصور على الْبَدَلِيَّة. قَوْله: (قَالَ وَأَحْسبهُ) أَي: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وأحسب عمر قَالَ: فِي ثِيَاب ورداء. فَإِن قلت: كَيفَ يدْخل حرف الْعَطف بَين قَوْله ومقوله؟ قلت: هُوَ عطف على مُقَدّر تَقْدِيره: بَقِي شَيْء من الصُّور الْمَذْكُورَة، وَأَحْسبهُ قَالَ: فِي تبان ورداء.
فَإِن قلت: كَيفَ لم يجْزم بِهِ أَبُو هُرَيْرَة، بل ذكره بالحسبان؟ قلت: لِإِمْكَان أَن عمر أهمل ذَلِك، لِأَن التبَّان لَا يستر الْعَوْرَة كلهَا بِنَاء على أَن الْفَخْذ من الْعَوْرَة، فالستر بِهِ حَاصِل مَعَ القباء وَمَعَ الْقَمِيص، وَأما الرِّدَاء فقد لَا يحصل. وَرَأى أَبُو هُرَيْرَة أَن انحصار الْقِسْمَة يَقْتَضِي ذكر هَذِه الصُّور، وَأَن السّتْر قد يحصل بهَا إِذا كَانَ الرِّدَاء سابغاً. وَقَالَ ابْن بطال: اللَّازِم من الثِّيَاب فِي الصَّلَاة ثوب وَاحِد سَاتِر للعورة، وَقَول عمر رَضِي اتعالى عَنهُ؛ إِذا وسع ا، يدل عَلَيْهِ، وَجمع الثِّيَاب فِيهَا اخْتِيَار واستحسان. وَيُقَال: ذكر صوراً تسعا: ثَلَاثَة مِنْهَا سابغة: الرِّدَاء ثمَّ الْقَمِيص ثمَّ القباء، وَثَلَاثَة نَاقِصَة: الْإِزَار ثمَّ السَّرَاوِيل ثمَّ التبَّان، وأفضلها: الْإِزَار ثمَّ السَّرَاوِيل، وَمِنْهُم من عكس. وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِيمَن صلى فِي سَرَاوِيل وَهُوَ قَادر على الثِّيَاب، فَفِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يُعِيد فِي الْوَقْت وَلَا فِي غَيره. وَعَن ابْن الْقَاسِم مثله، وَعَن أَشهب عَلَيْهِ الْإِعَادَة فِي الْوَقْت، وَعنهُ أَن صلَاته تَامَّة إِن كَانَ ضيقا. وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: (نهى رَسُول ا، أَن يُصَلِّي فِي لِحَاف وَلَا يوشح بِهِ) . وَالْآخر: أَن تصلي فِي سَرَاوِيل لَيْسَ عَلَيْك رِدَاء، وبظاهره أَخذ بعض أَصْحَابنَا. وَقَالَ: تكره الصَّلَاة فِي السَّرَاوِيل وَحدهَا، وَالصَّحِيح أَنه إِذا ستر عَوْرَته لَا تكره الصَّلَاة فِيهِ.
66323 - ح دّثنا عاصِمُ بنُ عَلِيَ قالَ حدّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ قالَ سَألَ رَجُلٌ رسولَ الله فقالَ مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ فقالَ لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ ولاَ السَّرَاويلَ وَلَا البُرنسَ وَلاَ ثَوْباً مَسَّهُ الزَّعْفَرانُ وَلَا وَرْسٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فلْيلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَينِ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز الصَّلَاة بِدُونِ الْقَمِيص والسراويل.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي آخر الْعلم عَن عَاصِم بن عَليّ أَيْضا. وَأخرجه فِي الْعلم، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن آدم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج عَن أَحْمد بن عبد ابْن يُونُس عَنهُ بِهِ، وَسَيَجِيءُ الْبَحْث فِيهِ فِي كتاب الْحَج مُسْتَوفى، إِن شَاءَ اتعالى.
وَعَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم أَبُو الْحُسَيْن الوَاسِطِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بواسط. وَابْن أبي ذِئْب هُوَ: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب. وَالزهْرِيّ هُوَ: مُحَمَّد بن مُسلم.
قَوْله: (فَقَالَ) الْفَاء فِيهِ تفسيرية إِذْ هُوَ نفس: سَأَلَ. قَوْله: (وَلَا ثوبا) رُوِيَ بِالنّصب وَالرَّفْع، وَتقدم بَيَان جَوَازه فِي آخر كتاب الْعلم. قَوْله: (حَتَّى يَكُونَا) بِصُورَة التَّثْنِيَة، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (حَتَّى يكون) ، بِالْإِفْرَادِ على تَقْدِير كل وَاحِد مِنْهُمَا.
وَعَنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ مِثْلَهُ.
50
- 50 - 0 أَي: رُوِيَ عَن نَافِع مولى ابْن عمر عَنهُ عَن النَّبِي مثل حَدِيث سَالم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون عطفا على سَالم، فَيكون مُتَّصِلا. وشنع بَعضهم عَلَيْهِ. وَقَالَ: التجويزات الْعَقْلِيَّة لَا يجوز اسْتِعْمَالهَا فِي الْأُمُور النقلية. قلت: هَذَا تشنيع غير موجه، لِأَن الْكرْمَانِي إِنَّمَا قَالَ: هَذَا تَعْلِيق بِالنّظرِ إِلَى ظَاهر الصُّورَة، وَلم يجْزم بذلك، وَلِهَذَا قَالَ: وَيحْتَمل إِلَى آخِره، ثمَّ إِنَّه قَالَ: عطفا على سَالم، وَقَالَ بَعضهم: وَعَن نَافِع، عطف على قَوْله: عَن الزُّهْرِيّ، قلت: قَصده بذلك إِظْهَار الْمُخَالفَة بِأَيّ وَجه يكون، وإلاَّ فَلَا فَسَاد فِي الْمَعْنى، بل كِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
وَرِوَايَة نَافِع هَذِه أخرجهَا البُخَارِيّ فِي آخر كتاب الْعلم عَن آدم عَن(4/74)
ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم (عَن ابْن عمر عَن النَّبِي أَن رجلا سَأَلَهُ: مَا يلبس الْمحرم؟) الحَدِيث، فَتقدم طَرِيق نَافِع وَعطف عَلَيْهِ طَرِيق الزُّهْرِيّ، وَهَهُنَا عكس ذَاك حَيْثُ قدم طَرِيق الزُّهْرِيّ وَعطف عَلَيْهِ طَرِيق نَافِع.
01 - (بابُ مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ستر الْعَوْرَة، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان الشَّيْء الَّذِي يستر، أَي: الَّذِي يجب ستره، وَكلمَة؛ من، بَيَانِيَّة فِي الْوَجْهَيْنِ، ثمَّ هَذَا أَعم من أَن يكون فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَقيد بَعضهم قَوْله: أَي خَارج الصَّلَاة فَكَأَنَّهُ أَخذ ذَلِك من لفظ الأحتباء الَّذِي فِي حَدِيث الْبَاب، فَإِنَّهُ قيد النَّهْي فِيهِ بقوله: لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص بِخَارِج الصَّلَاة، بل النَّهْي أَعم من أَن يكون فِي الصَّلَاة أَو خَارج الصَّلَاة، ثمَّ قَول هَذَا الْقَائِل: وَالظَّاهِر من تصرف المُصَنّف أَنه يرى أَن الْوَاجِب ستر السوءتين لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الَّذِي، يدل على ذَلِك، أَي: تصرف مِنْهُ هَهُنَا. وَإِن كَانَ مذْهبه ذَلِك، والعورة: سوءة الْإِنْسَان وكل مَا يستحى مِنْهُ.
76333 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدّثنا لَ يْثٌ عنِ ابْن شِهَابٍ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ عنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أنَّهُ قَالَ نَهَى رسولُ الله عنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَأنْ يَحْتَبِيَ الرجلُ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. (الحَدِيث 763 أَطْرَافه فِي: 1991، 4412، 7412، 0285، 2285، 4826) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء) فَإِن النَّهْي فِيهِ أَن يكون الْفرج مكشوفاً، فَهُوَ يدل على أَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب، وَالْبَاب فِي ستر الْعَوْرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأَبُو سعيد اسْمه سعيد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: قَول الصَّحَابِيّ عَن نهي النَّبِي. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وبصري ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد عَن مخلد عَن ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ، وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن سعد بن عفير عَن اللَّيْث، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَأخرجه أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عَبَّاس عَن عبد الْأَعْلَى عَن معمر، وَفِي الاسْتِئْذَان عَن عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث، وَفِي اللبَاس عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن صَالح وَعَن قُتَيْبَة وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي، وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب، وَأخرجه فِي الزِّينَة أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَأخرجه فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَعَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث عَن سُفْيَان بِالنَّهْي عَن البيعتين فِيهِ، وبالنهي عَن اللبستين فِي الزِّينَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِي التِّجَارَات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَسَهل بن أبي سهل الرَّازِيّ كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (عَن اشْتِمَال الصماء) بالصَّاد الْمُهْملَة وَالْمدّ، وَاخْتلف فِي تَفْسِيره، فَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ أَن يُجَلل جسده كُله بالإزار أَو بالكساء، فَيردهُ من قبل يَمِينه على يَده الْيُسْرَى. وعاتقه الْأَيْسَر، ثمَّ يردهُ ثَانِيًا من خَلفه على يَده الْيُمْنَى وعاتقه الْأَيْمن فيغطيهما جَمِيعًا. وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: هُوَ التجلل بِالثَّوْبِ وإرساله من غير أَن يرفع جَانِبه، وَفِي كتاب (اللبَاس) : هُوَ أَن يَجْعَل ثَوْبه على أحد عَاتِقيهِ فيبدو أحد شقيه لَيْسَ عَلَيْهِ ثوب، وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ أَن يشْتَمل بِالثَّوْبِ حَتَّى يُجَلل بِهِ جسده لَا يرفع مِنْهُ جانباً فَلَا يبْقى مَا يخرج مِنْهُ يَده، وَعَن أبي عبيد: إِن الْفُقَهَاء يَقُولُونَ: هُوَ أَن يشْتَمل بِثَوْب وَاحِد لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره ثمَّ يرفعهُ من أحد جانبيه فيضعه على أحد مَنْكِبَيْه فيبدو مِنْهُ فرجه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِذا قلت اشْتَمَل فلَان الصماء كَأَنَّك قلت: اشْتَمَل الشملة الَّتِي تعرف بِهَذَا الِاسْم، لِأَن الصماء ضرب من الاشتمال. انْتهى.
قلت: تَحْقِيق هَذِه الكملة أَن الاشتمال مُضَاف إِلَى الصماء، والصماء فِي الأَصْل صفة، يُقَال: صَخْرَة صماء إِذا لم يكن فِيهَا خرق وَلَا منفذ، وَمعنى النَّهْي عَن اشْتِمَال الصماء نهي عَن اشْتِمَال الثَّوْب كاشتمال الصَّخْرَة الصماء، واشتمالها كَون عدم الْخرق والمنافذ فِيهَا، وتشبيه الاشتمال الْمنْهِي بهَا كَونه يسد المنافذ كلهَا، وَالَّذِي ذكره الْكرْمَانِي لَيْسَ تَفْسِير مَا فِي لفظ الحَدِيث على مَا لَا يخفى. قَوْله:(4/75)
(وَأَن يحتبي الرجل) أَي: وَنهي أَيْضا عَن أَن يحتبي الرجل، وَكلمَة: إِن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير: وَعَن احتباء الرجل فِي ثوب وَاحِد، والاحتباء أَن يقْعد الْإِنْسَان على إليتيه وَينصب سَاقيه ويحتبي عَلَيْهِمَا بِثَوْب أَو نَحوه أَو بِيَدِهِ، وَاسم هَذِه الْقعدَة تسمى: الحبوة، بِضَم الْحَاء وَكسرهَا، وَكَانَ هَذَا الاحتباء عَادَة الْعَرَب فِي أَنْدِيَتهمْ ومجالسهم، وَإِن انْكَشَفَ مَعَه شَيْء من عَوْرَته فَهُوَ حرَام. وَقَالَ الْخطابِيّ: الاحتباء هُوَ أَن يحتبي الرجل بِالثَّوْبِ وَرجلَاهُ متجافيتان عَن بَطْنه، فَيبقى هُنَاكَ، إِذا لم يكن الثَّوْب وَاسِعًا قد أسبل شَيْئا مِنْهُ على فرجه، فُرْجَة تبدو مِنْهَا عَوْرَته. قَالَ: وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ إِذا كَانَ كاشفاً عَن فرجه. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الاحتباء أَن يجمع ظَهره وَرجلَيْهِ بِثَوْب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ وَهُوَ حكمان: الأول: اشْتِمَال الصماء، وَقد نهى عَنهُ رَسُول ا، قَالُوا: على تَفْسِير أهل اللُّغَة: اشْتِمَال الصماء إِنَّمَا يكره لِئَلَّا تعرض لَهُ حَاجَة من دفع بعض الْهَوَام وَنَحْوهَا أَو غير ذَلِك، فيعسر أَو يتَعَذَّر عَلَيْهِ إِخْرَاج يَده، فيلحقه الضَّرَر. وعَلى تَفْسِير الْفُقَهَاء: يحرم الاشتمال الْمَذْكُور إِن انْكَشَفَ بِهِ بعض الْعَوْرَة، وَإِلَّا فَيكْرَه. وَالثَّانِي: النَّهْي عَن الاحتباء الَّذِي فِيهِ كشف الْعَوْرَة، وَهُوَ حرَام مُطلقًا، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا.
86343 - ح دّثنا قَبِيصَةُ بن عُقْبَةَ قالَ حدّثنا سُفْيَانُ عنْ أبي الزّنَادِ عنِ الأَعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ نَهَى النبيُّ عنْ بَيْعَتَيْنِ عَن اللّمَاسِ والنّبَاذِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وأنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحدٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف: بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: أَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون: عبد ابْن ذكْوَان. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل بالحكاية. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وَأَبُو الزِّنَاد راوية الْأَعْرَج، وَعَن البُخَارِيّ أصح الْأَسَانِيد كلهَا: مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَأَصَح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة: أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع: هُنَا عَن قبيصَة، وَفِي الصَّلَاة عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة وَعَن مُحَمَّد عَن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَفِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن الثَّقَفِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد ابْن عمر عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم بِهَذَا الطَّرِيق عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد ابْن نمير وَأبي أُسَامَة، وَعَن مُحَمَّد بن عبد ابْن نمير عَن أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن عبيد ابْن عمر، وَأخرجه أَيْضا فِي الْبيُوع عَن أبي كريب وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي كريب ومحمود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِيهِ من طَرِيق حَفْص بن عَاصِم. وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ مُنْقَطِعًا فِي الصَّلَاة وَفِي التِّجَارَات وَفِي اللبَاس.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن بيعَتَيْنِ) تَثْنِيَة: بيعَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، وَالْفرق بَينهمَا أَن؛ الفعلة، بِالْفَتْح، للمرة وبالكسر للحالة والهيئة. قَوْله: (عَن اللماس) بِكَسْر اللَّام، وَهُوَ مصدر من: لامس، من بَاب: فَاعل. وَقد علم أَن مصدره يَأْتِي على: مفاعلة، مثل: ملامسة. وعَلى: فعال، مثل: لماس. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي (النباذ) ، بِكَسْر النُّون وبالذال الْمُعْجَمَة، يَأْتِي من بَابه: فعال، مثل: نباذ، و: مفاعلة، مثل: منابذة. وَفسّر: اللماس، فِي كتاب البيع بِأَنَّهُ لمس الثَّوْب بِلَا نظر إِلَيْهِ، والنباذ: بِأَن الرجل يطْرَح ثَوْبه بِالْبيعِ قبل أَن يقلبه أَو ينظر إِلَيْهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن لِأَصْحَابِنَا فِي الْمُلَامسَة تأويلات. أَحدهَا: أَن يَأْتِي بِثَوْب مطوي أَو فِي ظلمَة، فيلمسه المستام، فَيَقُول صَاحبه: بعتكه بِكَذَا بِشَرْط أَن يقوم لمسك مقَام نظرك، وَلَا خِيَار لَك إِذا رَأَيْته. الثَّانِي: أَن يجعلا نفس اللَّمْس بيعا، فَيَقُول إِذا لمسته فَهُوَ مَبِيع لَك. الثَّالِث: أَن يَبِيعهُ شَيْئا على أَنه مَتى لمسه انْقَطع خِيَار الْمجْلس.(4/76)
وَفِي الْمُنَابذَة أَيْضا ثَلَاثَة أوجه، أَن يَجْعَل نفس. النبذ بيعا، وَأَن يَقُول: إِذا نَبَذته إِلَيْك انْقَطع الْخِيَار. وَإِن يُرَاد بِهِ نبذ الْحَصَا، وَله أَيْضا تأويلات أَن يَقُول: بِعْتُك من هَذِه الأثواب مَا وَقعت عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أرميها، وَأَن يَقُول: لَك الْخِيَار إِلَى أَن أرمي بِهَذِهِ الْحَصَاة، وَأَن يجعلا نفس الرَّمْي بالحصاة بيعا، فَيَقُول: إِذْ رميت هَذَا الثَّوْب بالحصاة فَهُوَ مَبِيع بِكَذَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمُلَامسَة والمنابذة وإلقاء الْحجر كَانَت بيوعاً فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الرّجلَانِ يتساومان الْمَبِيع، وَإِذا ألْقى المُشْتَرِي عَلَيْهِ حَصَاة، أَو نبذه البَائِع إِلَى المُشْتَرِي، أَو لمسه المُشْتَرِي: لزم البيع، وَقد نهى الشَّارِع عَن ذَلِك. قَوْله: (وَأَن يشْتَمل) عطف على قَوْله: (عَن بيعَتَيْنِ) أَي: وَنهى أَيْضا أَن يشْتَمل. و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي؛ وَعَن اشْتِمَال الصماء، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: (أَن يحتبي) وتفسيرهما قد مر، وَالْمُطلق فِي الاحتباء هُنَا مَحْمُول على الْمُقَيد فِي الحَدِيث الَّذِي قبله.
96353 - ح دّثنا إسْحَاقُ قالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا ابنُ أخِي ابنِ شِهابٍ عنْ عَمِّهِ قَالَ أخبرَني حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ بَعَثَني أبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمنىً أَلاَّ يُحُجَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيانٌ قالَ حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ أرْدَفَ رسولُ اللَّهِ عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَن يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ. قالَ أبُو هُرَيْرَةَ فأذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أهْلِ مِنىً يَوْمَ النَّحْرِ لاَ يَحُج بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ. (الحَدِيث 963 أَطْرَافه فِي: 2261، 7713، 3634، 5564، 6564، 7564) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) . فَإِن منع الطّواف عَارِيا يدل على وجوب ستر الْعَوْرَة، وَقد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا الْجُزْء من هَذَا الحَدِيث فِي بَاب وجوب الصَّلَاة فِي الثِّيَاب.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين إِسْحَاق مُجَردا غير مَنْسُوب، فَلذَلِك تردد فِيهِ الْحفاظ، فَمنهمْ من قَالَ: إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَمِنْهُم من قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه، لِأَن كلاَ مِنْهُمَا يروي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَالنُّسْخَة الَّتِي فِيهَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هِيَ الْأَصَح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: إِسْحَاق، أَي ابْن إِبْرَاهِيم الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه فِي آخر بَاب فضل من علم. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي نُسْخَتي من طَرِيق أبي ذَر: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَتعين أَنه ابْن رَاهَوَيْه، إِذْ لم يرو البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل واسْمه إِبْرَاهِيم شَيْئا قلت: وُقُوع إِسْحَاق مَنْسُوبا فِي نسخته إِنَّمَا علم أَنه ابْن رَاهَوَيْه من جِهَة أبي ذَر لَا من جِهَة نسخته، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا وردده الْحفاظ بَين ابْن مَنْصُور وَبَين ابْن رَاهَوَيْه، فَكيف يُعلل بعد هَذَا بقوله: إِذْ لم يرو البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن أبي إِسْرَائِيل؟ الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد، سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: ابْن أخي بن شهَاب، هُوَ: مُحَمَّد بن عبد اابن أخي الزُّهْرِيّ، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. الرَّابِع: عَمه، وَهُوَ الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حميد، بِضَم الْحَاء؛ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي اتعالى عَنهُ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَرْبَعَة زهريون، وهم: يَعْقُوب إِلَى أبي هُرَيْرَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن أبي الْيَمَان، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَفِي الْحَج عَن يحيى بن بكير، وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن عفير وَعَن عبد ابْن يُوسُف، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن هَارُون بن سعيد، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فِي تِلْكَ الْحجَّة) ، أَي الَّتِي أمَّر رَسُول الله الصّديق على الْحَاج، وَهِي قبل حجَّة الْوَدَاع بِسنة، وَهِي السّنة التَّاسِعَة كَمَا ذكر فِي (الْمَغَازِي) . قَوْله: (فِي مؤذنين) أَي: فِي رَهْط يُؤذنُونَ فِي النَّاس يَوْم النَّحْر، كَأَنَّهُ مقتبس مِمَّا قَالَ اتعالى: {وأذان من اورسوله إِلَى النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر} (التَّوْبَة: 3) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَالْحج الْأَكْبَر: قلت: الْحَج الْأَصْغَر الْعمرَة. قَوْله: (أَلاَّ يحجّ) ، أَصله: أَن لَا يحجّ، فادغمت النُّون فِي: لَا، فَصَارَ: ألاَّ، بِفَتْح الْهمزَة(4/77)
وَتَشْديد اللَّام وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَلا لَا يحجّ) ، بأداة الاستفتاح قبل حرف النَّفْي. وَقَالَ بَعضهم: بِحرف النَّهْي، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ حرف النَّفْي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَل يكون ذَلِك الْعَام دَاخِلا فِي ذَلِك الحكم أم لَا؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد بعد خُرُوج هَذَا الْعَام لَا بعد دُخُوله. يَنْبَغِي أَن يدْخل هَذَا الْعَام أَيْضا بِالنّظرِ إِلَى التَّعْلِيل.
قَوْله: (قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن ثمَّ أرْدف رَسُول ا) هَذَا مُرْسل من قبيل مَرَاسِيل التَّابِعين، لِأَن حميدا لَيْسَ بصحابي حَتَّى يُقَال: إِنَّه شَاهده بِنَفسِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ: قَالَ حميد، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، يحْتَمل أَن يكون كل مِنْهُمَا تَعْلِيقا من البُخَارِيّ، وَأَن يَكُونَا داخلين تَحت الْإِسْنَاد لَكِن ظَاهر أَن مَسْأَلَة الإرداف لم يسندها حميد، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول حميد: ثمَّ أرْدف رَسُول ا ... إِلَى آخِره، يحْتَمل أَن يكون تَلقاهُ من أبي هُرَيْرَة وَأَن يكون الزُّهْرِيّ رَوَاهُ عَنهُ مَوْصُولا عِنْد البُخَارِيّ، قلت: الْوَجْه هُوَ الَّذِي ذكرته، كَمَا نَص عَلَيْهِ الْمزي وَغَيره. قَوْله: (ثمَّ أرْدف رَسُول الله عليا) أَي: ثمَّ أرسل رَسُول الله عَليّ بن طَالب وَرَاء أبي بكر، فَأمره أَن يُؤذن بِبَرَاءَة. قَالَ ابْن عبد الْبر: أَمر رَسُول ا، أَبَا بكر بِالْخرُوجِ إِلَى الْحَج وإقامته للنَّاس، فَخرج أَبُو بكر وَنزل صدر بَرَاءَة بعده، فَقيل: يَا رَسُول الو بعثت بهَا إِلَى أبي بكر يقْرؤهَا على النَّاس فِي الْمَوْسِم؟ فَقَالَ: إِنَّه لَا يُؤَدِّيهَا عني إلاَّ رجل من أهل بَيْتِي، ثمَّ دَعَا عليا فَقَالَ: أخرج بِهَذِهِ الْقِصَّة من صدر بَرَاءَة، وَأذن بهَا فِي النَّاس يَوْم النَّحْر إِذا اجْتَمعُوا فِي منى، فَخرج على نَاقَة رَسُول ا، العضباء، حَتَّى أدْرك أَبَا بكر الصّديق فَقيل: بِذِي الْخَلِيفَة، وَقيل: بالعرج فوصل بِالسحرِ، فَسمع أَبَا بكر رُغَاء نَاقَة رَسُول الله فَإِذا عَليّ، فَقَالَ أَبُو بكر: استعملك رَسُول الله على الْحَج؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن بَعَثَنِي أَن أَقرَأ بَرَاءَة على النَّاس. فَقَالَ أَبُو بكر: أَمِير أَو مَأْمُور؟ فَقَالَ: بل مَأْمُور. وَقَالَ: لَا يذهب بهَا إلاَّ رجل من أهل بَيْتِي) . وَفِي لفظ: (فَرجع أَبُو بكر، فَقَالَ: يَا رَسُول انْزِلْ فِي شَيْء؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جَاءَنِي فَقَالَ: لن يُؤَدِّي عَنْك إلاَّ أَنْت أَو رجل مِنْك) . فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء عَليّ بَرَاءَة؟ قلت: لِأَن بَرَاءَة تضمن نقض الْعَهْد، وَكَانَت سيرة الْعَرَب أَن لَا يحل العقد إلاَّ الَّذِي عقده أَو رجل من أهل بَيته، فَأَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يقطع أَلْسِنَة الْعَرَب بالجحد، وَأرْسل ابْن عَمه الْهَاشِمِي، حَتَّى لَا يبْقى لَهُم مُتَكَلم. وَقيل: إِن فِي سُورَة بَرَاءَة ذكر الصّديق يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار} (التَّوْبَة: 04) فَأَرَادَ أَن غَيره يقْرؤهَا فَإِن قلت: عَليّ كَانَ مَأْمُورا بِالتَّأْذِينِ بِبَرَاءَة، فيكف قَالَ؛ فَأذن مَعْنَاهُ بِأَنَّهُ لَا يحجّ؟ قلت: إِمَّا لِأَن ذَلِك دَاخل فِي سُورَة بَرَاءَة، وَإِمَّا أَن مَعْنَاهُ أَنه أذن فِيهِ أَيْضا مَعْنَاهُ بعد تأذينه بِبَرَاءَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ هُوَ أَنه أبطل مَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة عَلَيْهِ من الطّواف عُرَاة، وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب، وَهُوَ الْمُوَافق لترجمة الْبَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن الطّواف يشْتَرط لَهُ ستر الْعَوْرَة. قلت: إِذا طَاف الْحَج عُريَانا فَلَا يعْتد بِهِ عِنْدهم، وَعِنْدنَا يعْتد، وَلَكِن يكره.
11 - (بابُ الصَّلاَةِ بغَيْرِ رِدَاءٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة بِغَيْر رِدَاء.
07363 - ح دّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ حدّثني ابنُ أبِي المَوالِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المنْكَدِرِ قالَ دخَلْتُ عَلَى جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهْوَ يُصَلّى فِي ثَوبٍ مُلْتحِفاً بِهِ وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُصَلّى ورِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ قالَ نَعَمْ أحْبَبْتُ أنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ رَأيْتُ النبيَّ يُصَلّي هَكَذَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَتقدم فِي حَدِيث جَابر هَذَا فِي بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا، وَهُنَاكَ أخرجه عَن أَحْمد بن يُونُس عَن عَاصِم بن مُحَمَّد عَن وَاقد بن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر. قَالَ: (صلى جَابر فِي إِزَار) الخ، وَأخرجه أَيْضا هُنَاكَ عَن مطرف عَن(4/78)
عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (رَأَيْت جَابِرا يُصَلِّي فِي ثوب) الحَدِيث، وَهَهُنَا أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد االأويسي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الموَالِي، بِفَتْح الْمِيم.
وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة. ولنتكلم هَهُنَا بِمَا لم نتكلم هُنَاكَ.
فَقَوله: (وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة حَالية. قَوْله: (ملتحفاً) بِالنّصب، حَال، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (ملتحف) بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ ملتحف. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي نُسْخَتي عَنْهُمَا بِالْجَرِّ على الْمُجَاورَة. قلت: نسخته لَيست بعمدة حَتَّى يسلم الْجَرّ، ثمَّ يُقَال: للمجاورة. قَوْله: (وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوع) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، أَي: مَوْضُوع على شَيْء، وَهُنَاكَ: مَوْضُوعَة على المشجب. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة. قَوْله: (قُلْنَا: يَا أَبَا عبد ا) أَصله: يَا أَبَا عبد ا، بِالْهَمْزَةِ فحذفت تَخْفِيفًا، وَهُوَ كنية جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ. قَوْله: (أَحْبَبْت أَن يراني الْجُهَّال) ، وَهُنَاكَ: (ليراني أَحمَق مثلك) سَبَب تغليظه القَوْل فِيهِ كَونه فهم من كَلَام السَّائِل إِنْكَاره عَلَيْهِ، وَالْغَرَض فِي محبته لرؤية الْجُهَّال أَن يَقع السُّؤَال وَالْجَوَاب فيستفاد مِنْهُ بَيَان الْجَوَاز. قَوْله: (مثلكُمْ) بِالرَّفْع، صفة: للجهال، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْهَاء، جمع: جَاهِل، وَهُنَاكَ ذكرنَا أَن لفظ: مثل، متوغل فِي النكرَة فَلَا يتعرف، وَإِن أضيف إِلَى الْمعرفَة، فَلذَلِك وَقع صفة للنكرة. وَهُوَ قَوْله: (أَحمَق) ، وَأما هَهُنَا فَإِنَّهُ وَقع صفة للمعرفة، فوجهه أَنه إِذا أضيف إِلَى مَا هُوَ مَشْهُور بالمماثلة يتعرف، وَهَهُنَا كَذَلِك، على أَن التَّعْرِيف فِي: الْجُهَّال، للْجِنْس فَهُوَ فِي حكم النكرَة. و: الْمثل، بعنى: المثيل، على وزن: فعيل، فيستوي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث والمفرد وَالْجمع، فَلذَلِك مَا طابق الْجُهَّال مَعَ أَن التطابق بَين الصّفة والموصوف فِي الْإِفْرَاد وَالْجمع شَرط، أَو تَقول: هُوَ اكْتسب الجمعية من الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو هُوَ جنس يُطلق على الْمُفْرد والمثنى وَالْجمع. قَوْله: (يُصَلِّي كَذَا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (هَكَذَا) .
21 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي الفَخِذِ)
أَي: هَذَا بَاب مَا يذكر فِي حكم الْفَخْذ، يجوز فِي: خاء، الْفَخْذ الْكسر والسكون مَعًا.
وَقد ذكرنَا وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب بَين الْأَبْوَاب الَّتِي فِي حكم الثِّيَاب، وَوجه مناسبته بِمَا قبله.
قالَ أبُو عَبْدُ ا.
هُوَ البُخَارِيّ، وَذكر نَفسه بكنيته وَلَيْسَ هَذَا بموجود فِي غَالب النّسخ.
وَيُرْوَى عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ ومُحَمَّدِ بنِ جَحْشٍ عنِ النبيِّ الفَخِذُ عَوْرَةٌ.
هَذَا تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض ذكره عَن ثَلَاثَة أنفس.
الأول: عَن عبد ابْن عَبَّاس، وَهُوَ عِنْد التِّرْمِذِيّ مَوْصُول، أخرجه عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى عَن يحيى بن آدم عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن أبي يحيى القَتَّات عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: (الْفَخْذ عَورَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَأَبُو يحيى القَتَّات ضَعِيف وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، وَاخْتلف فِي اسْمه على سَبْعَة أَقْوَال: قيل: مُسلم، وَقيل: زَاذَان، وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن دِينَار، وَقيل: يزِيد، وَقيل: زيان، وَقيل: عمرَان، وَقيل: دِينَار وَهُوَ الْمَشْهُور، والقتات، بتفح الْقَاف وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
وَأما حَدِيث جرهد فَأخْرجهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن بن جرهد عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: وَكَانَ جدي من أهل الصّفة، قَالَ: (جلس رَسُول الله عِنْدِي وفخذي مكشوفة، فَقَالَ: خمِّر عَلَيْك أما علمت أَن الْفَخْذ عَورَة) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: روى هَذَا الحَدِيث أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) : ابْن بكير وَابْن وهب ومعن وَعبد ابْن يُوسُف، وَهُوَ عِنْد القعْنبِي خَارج (الْمُوَطَّأ) فِي الزِّيَادَات عَن مَالك، وَلم يذكرهُ ابْن الْقَاسِم فِي (الْمُوَطَّأ) وَلَا ابْن عفير وَلَا أَبُو مُصعب، وَرَوَاهُ عَن مَالك ابْن مهْدي وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَعَمْرو بن مَرْزُوق وَأَبُو قُرَّة وَإِسْحَاق بن عدي ومطرف وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَفِي رِوَايَة ابْن بكير وَابْن طهْمَان ومطرف وَغَيرهم، زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه، من غير ذكره جده، وَعَن ابْن عَسَاكِر: رَوَاهُ عبد ابْن نَافِع عَن مَالك عَن أبي النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن ابْن جرهد عَن أَبِيه عَن جده، وَرَوَاهُ قبيصَة عَن الثَّوْريّ عَن أبي النَّضر عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده جرهد، لم يذكر أَبَاهُ، وَرَوَاهُ ابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة عَن أبي النَّضر عَن زرْعَة بن مُسلم بن جرهد عَن أَبِيه عَن جده. وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي عَاصِم: عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن زرْعَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ(4/79)
عَن ابْن أبي عمر قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد اعن زرْعَة بن مُسلم بن جرهد الْأَسْلَمِيّ عَن جده جرهد قَالَ: (مر النَّبِي، بجرهد فِي الْمَسْجِد وَقد انْكَشَفَ فَخذه، وَقَالَ: إِن الْفَخْذ عَورَة) ، هَذَا حَدِيث حسن مَا أرى إِسْنَاده بِمُتَّصِل. وَقَالَ: حدّثنا الْحسن بن عَليّ، قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا معمر عَن أبي الزِّنَاد، قَالَ: أَخْبرنِي ابْن جرهد عَن أَبِيه: (أَن النَّبِي، مر بِهِ وَهُوَ كاشف عَن فَخذه، فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: غط فخذك فَإِنَّهَا من الْعَوْرَة) . هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه عَن وَاصل من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَقد ذَكرْنَاهُ وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن آل جرهد، وَلما ذكره ابْن الْقطَّان أعله بِالِاضْطِرَابِ وبجهالة حَال الرَّاوِي عَن جرهد، وَلما ذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) من حَدِيث ابْن أبي الزِّنَاد عَن زرْعَة عَن عبد الرَّحْمَن عَن جده قَالَ: وَرَوَاهُ صَدَقَة عَن ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد عَن آل جرهد، وَعَن سَالم أبي النَّضر عَن زرْعَة بن مُسلم بن جرهد عَن جرهد، قَالَ البُخَارِيّ؛ وَلَا يَصح. وَقَالَ ابْن الْحذاء: إِنَّمَا لم يُخرجهُ البُخَارِيّ فِي مُصَنفه لهَذَا الِاخْتِلَاف، و: جرهد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْهَاء، وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. وَفِي (التَّهْذِيب) : جرهد الْأَسْلَمِيّ هُوَ ابْن رزاح بن عدي، وَقيل: غير ذَلِك، لَهُ صُحْبَة، عداده فِي أهل الْمَدِينَة، لَهُ عَن النَّبِي، حَدِيث وَاحِد: (الْفَخْذ عَورَة) وَفِي إِسْنَاد حَدِيثه اخْتِلَاف كثير، يُقَال: إِنَّه مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ أَبُو عمر: جعل ابْن أبي حَاتِم: جرهد بن خويلد غير جرهد بن رزاح، ثمَّ قَالَ: هَذَا وهم، وَهُوَ رجل وَاحِد من أسلم لَا يكَاد يسلم، لَهُ صُحْبَة.
وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن جحش فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن يحيى بن أَيُّوب عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي كثير، مولى مُحَمَّد بن جحش، عَنهُ قَالَ: (كنت أُصَلِّي مَعَ النَّبِي، فَمر على معمر وَهُوَ جَالس عِنْد دَاره بِالسوقِ وفخذاه مكشوفتان فَقَالَ: يَا معمر غط فخذيك فَإِن الفخذين عَورَة) . وَقَالَ ابْن حزم: رِوَايَة أبي كثير مَجْهُولَة، وَذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) وَأَشَارَ إِلَى الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي كثير مولى مُحَمَّد بن جحش عَنهُ، وَمُحَمّد بن جحش هُوَ مُحَمَّد بن عبد ابْن جحش، نسب إِلَى جده، لَهُ ولأبيه عبد اصحبة، وَزَيْنَب بنت جحش أم الْمُؤمنِينَ هِيَ عمته، وَكَانَ مُحَمَّد صَغِيرا فِي عهد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد حفظ عَنهُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ مولده قبل الْهِجْرَة لخمس سِنِين، هَاجر مَعَ أَبِيه إِلَى الْمَدِينَة، لَهُ صُحْبَة. وَا أعلم.
وَأما معمر الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فَهُوَ ابْن عبد ابْن فضلَة الْعَدوي، وَقد أخرج ابْن نَافِع هَذَا الحَدِيث من طَرِيقه أَيْضا.
وقالَ أنَسٌ حَسَرَ النَّبيُّ عنْ فَخِذِهِ.
13
- هَذَا أَيْضا تَعْلِيق، وَلكنه قد وَصله فِي هَذَا الْبَاب كَمَا يَأْتِي قَرِيبا، وحسر، بِفَتْح حروفها المهملات، وَمَعْنَاهُ: كشف، وسنتكلم فِيهِ مستقصًى عَن قريب.
وَحَدِيثُ أنَسٍ أسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أحْوَطُ، حَتَّى نَخْرُجَ مِن اخْتِلاَفِهِمْ.
لما وَقع الْخلاف فِي الْفَخْذ: هَل، هُوَ عَورَة أم لَا؟ فَذهب قوم إِلَى أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أنس، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه عَورَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جرهد، وَبِمَا رُوِيَ مثله فِي هَذَا الْبَاب، كَأَن قَائِلا قَالَ؛ إِن الأَصْل أَنه إِذا رُوِيَ حديثان فِي حكم أَحدهمَا أصح من الآخر فَالْعَمَل يكون بالأصح، فههنا حَدِيث أنس أصح من حَدِيث جرهد وَنَحْوه، فَكيف وَقع الِاخْتِلَاف؟ فَأجَاب البُخَارِيّ عَن هَذَا بقوله: (وَحَدِيث أنس أسْند) إِلَى آخِره تَقْدِيره: أَن يُقَال: نعم، حَدِيث أنس أسْند، يَعْنِي أقوى وَأحسن سنداً من حَدِيث جرهد، إلاَّ أَن الْعَمَل بِحَدِيث جرهد لِأَنَّهُ الْأَحْوَط، يَعْنِي أَكثر احْتِيَاطًا فِي أَمر الدّين، وَأقرب إِلَى التَّقْوَى، لِلْخُرُوجِ عَن الِاخْتِلَاف، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَتَّى نخرج من اخْتلَافهمْ) أَي: من اخْتِلَاف الْعلمَاء، وَهُوَ على صِيغَة جمَاعَة الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع، بِفَتْح النُّون وَضم الرَّاء.
وَلأَجل هَذِه النُّكْتَة لم يقل البُخَارِيّ: بَاب الْفَخْذ عَورَة، وَلَا قَالَ أَيْضا: بَاب الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة، بل قَالَ: بَاب مَا يذكر فِي الْفَخْذ، أما الْقَوْم الَّذين ذَهَبُوا إِلَى أَن الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة فهم: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب وَإِسْمَاعِيل بن علية وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ وَأحمد، فِي رِوَايَة، ويروى ذَلِك أَيْضا عَن الْإِصْطَخْرِي من(4/80)
أَصْحَاب الشَّافِعِي حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَنهُ، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : والعورة الْمَفْرُوض سترهَا عَن النَّاظر وَفِي الصَّلَاة من الرِّجَال الذّكر وحلقة الدبر فَقَط، وَلَيْسَ الْفَخْذ مِنْهُ عَورَة، وَهِي من الْمَرْأَة جَمِيع جَسدهَا حاشا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَقَط، الْحر وَالْعَبْد والحرة وَالْأمة سَوَاء فِي ذَلِك، وَلَا فرق. ثمَّ قَالَ، بعد أَن روى حَدِيث أنس الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ: (إِن رَسُول اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، غزا خَيْبَر) وَفِيه: ( ... ثمَّ حسر الْإِزَار عَن فَخذه حَتَّى إِنِّي أنظر إِلَى بَيَاض فَخذ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . فصح أَن الْفَخْذ من الرجل لَيْسَ بِعَوْرَة، وَلَو كَانَ عَورَة لما كشفها اتعالى من رَسُوله المطهر الْمَعْصُوم من النَّاس فِي حَال النُّبُوَّة والرسالة، وَلَا أَرَاهَا أنس بن مَالك وَلَا غَيره، وَهُوَ تَعَالَى عصمه من كشف الْعَوْرَة فِي حَال الصِّبَا، وَقبل النُّبُوَّة.
وَأما الْآخرُونَ الَّذين هم خالفوهم وَقَالُوا: الْفَخْذ عَورَة، فهم جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، مِنْهُم: أَبُو حنيفَة وَمَالك فِي أصح أَقْوَاله وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي أصح روايتيه وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر بن الْهُذيْل، حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا: إِن الصَّلَاة مَكْشُوف الْعَوْرَة فَاسِدَة. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: الْفَخْذ عَورَة إلاَّ فِي الْحمام، وَقَالَ ابْن بطال: أَجمعُوا على أَن من صلى مَكْشُوف الْعَوْرَة لَا إِعَادَة عَلَيْهِ. قلت: دَعْوَى الْإِجْمَاع غير صَحِيحَة، فَيكون مُرَاده إِجْمَاع أهل مذْهبه.
وَفِي (التَّوْضِيح) : حَاصِل مَا فِي عَورَة الرجل عندنَا خَمْسَة أوجه. أَصَحهَا وَهُوَ الْمَنْصُوص أَنَّهَا: مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة، وهما ليستا بِعَوْرَة، وَهُوَ صَحِيح مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ بِهِ زفر وَمَالك. وَثَانِيها: أَنَّهُمَا عَورَة، كَمَا هُوَ رِوَايَة عَن أبي حنيفَة. وَثَالِثهَا: السُّرَّة من الْعَوْرَة. وَرَابِعهَا: عَكسه. وخامسها: للإصطخري: الْقبل والدبر، وَهُوَ شَاذ. انْتهى. وَفِي (الوبري) : السُّرَّة من الْعَوْرَة عِنْد أبي حنيفَة. وَفِي (الْمُفِيد) : الرّكْبَة مركبة من عظم الْفَخْذ والساق، فَاجْتمع الْحَظْر وَالْإِبَاحَة فغلب الْحَظْر احْتِيَاطًا.
وَأما الْجَواب عَن حَدِيث أنس فَهُوَ أَنه مَحْمُول على غير اخْتِيَار الرَّسُول فِيهِ بِسَبَب ازدحام النَّاس، يدل عَلَيْهِ مس ركبة أنس فَخذه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ويرجح حَدِيث جرهد وَهُوَ أَن تِلْكَ الْأَحَادِيث الْمُعَارضَة لَهُ قضايا مُعينَة فِي أَوْقَات وأحوال مَخْصُوصَة، يتَطَرَّق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال مَا لَا يتَطَرَّق لحَدِيث جرهد، فَإِنَّهُ أعْطى حكما كلياً، فَكَانَ أولى. وَبَيَان ذَلِك أَن تِلْكَ الوقائع تحْتَمل خُصُوصِيَّة النَّبِي بذلك، أَو الْبَقَاء على الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، أَو كَأَن لم يحكم عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت بِشَيْء، ثمَّ بعد ذَلِك حكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَورَة. فَإِن قلت: روى الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ؛ حدّثنا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حدّثنا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو خَالِد عَن عبد ابْن سعيد الْمَدِينِيّ، قَالَ: حَدَّثتنِي حَفْصَة بنت عمر قَالَت: (كَانَ رَسُول الله ذَات يَوْم قد وضع ثَوْبه بَين فَخذيهِ، فجَاء أَبُو بكر فَاسْتَأْذن فَأذن لَهُ النَّبِي على هَيئته، ثمَّ جَاءَ عمر بِمثل هَذِه الصّفة، ثمَّ جَاءَ أنَاس من أَصْحَابه وَالنَّبِيّ على هَيئته، ثمَّ جَاءَ عُثْمَان فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَأذن لَهُ ثمَّ أَخذ رَسُول الله ثَوْبه فجلله، فتحدثوا ثمَّ خَرجُوا. فَقلت: يَا رَسُول اجاء أَبُو بكر وَعمر وَعلي وأناس من أَصْحَابك وَأَنت على هيئتك، فَلَمَّا جَاءَ عُثْمَان جللت بثوبك؟ فَقَالَ: (أَو لَا أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة؟) قَالَت: وَسمعت أبي وَغَيره يحدثُونَ نَحوا من هَذَا. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قلت: أجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ: بِأَن هَذَا الحَدِيث عَن قَاسم بن زَكَرِيَّا على هَذَا الْوَجْه غَرِيب، لِأَن جمَاعَة من أهل الْبَيْت رَوَوْهُ على غير هَذَا الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلَيْسَ فِيهِ. ذكر: كشف الفخذين، فحينئذٍ لَا تثبت بِهِ الْحجَّة. وَقَالَ أَبُو عمر: الحَدِيث الَّذِي رَوَوْهُ عَن حَفْصَة فِيهِ اضْطِرَاب. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: وَالَّذِي رُوِيَ فِي قصَّة عُثْمَان من كشف الفخذين مَشْكُوك فِيهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي كتاب (تَهْذِيب الْآثَار وَالْأَخْبَار) : الَّتِي رويت عَن النَّبِي أَنه دخل عَلَيْهِ أَبُو بكر وَعمر وَهُوَ كاشف فَخذه واهية الْأَسَانِيد لَا يثبت بِمِثْلِهَا حجَّة فِي الدّين، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة بِالْأَمر بتغطية الْفَخْذ وَالنَّهْي عَن كشفها أَخْبَار صِحَاح. وَقَول الطَّحَاوِيّ: لِأَن جمَاعَة من أهل الْبَيْت رَوَوْهُ على غير هَذَا الْوَجْه، حَدِيث عَائِشَة وَعُثْمَان أخرجه مُسلم: حدّثنا عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد، قَالَ: حدّثنا بِي عَن جدي، قَالَ: حدّثنا عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب: (عَن يحيى بن سعيد بن الْعَاصِ أَن سعيد بن الْعَاصِ أخبرهُ إِن عَائِشَة، زوج النَّبِي، وَعُثْمَان رَضِي اتعالى عَنهُ، حَدَّثَاهُ: أَن أَبَا بكر اسْتَأْذن على رَسُول الله وَهُوَ مُضْطَجع على فرَاشه، لابس مرط عَائِشَة، فَأذن لأبي بكر وَهُوَ كَذَلِك، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته ثمَّ انْصَرف، ثمَّ اسْتَأْذن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، فَأذن لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَالة، فَقضى إِلَيْهِ حَاجته ثمَّ انْصَرف. قَالَ عُثْمَان: ثمَّ اسْتَأْذَنت عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لعَائِشَة: إجمعي عَلَيْك ثِيَابك، فَقضيت إِلَيْهِ حَاجَتي ثمَّ انصرفت، فَقَالَت عَائِشَة يَا رَسُول اما لي لم أرك، فزعت لأبي بكر وَعمر كَمَا فزعت لعُثْمَان؟ قَالَ رَسُول ا: (إِن عُثْمَان رجل حييّ، وَإِنِّي خشيت: إِن أَذِنت لَهُ على تِلْكَ الْحَالة أَن لَا(4/81)
يبلغ إِلَيّ فِي حَاجته) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَقَالَ: فَهَذَا أصل هَذَا الحَدِيث، لَيْسَ فِيهِ ذكر كشف الفخذين أصلا فَإِن قلت: قد روى مُسلم أَيْضا فِي (صَحِيحه) وَأَبُو يعلى فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) هَذَا الحَدِيث، وَفِيه ذكر كشف الفخذين. فَقَالَ مُسلم: حدّثنا يحيى بن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَابْن حجر، قَالَ يحيى بن يحيى: أخبرنَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: حدّثنا إِسْمَاعِيل يعنون ابْن جَعْفَر (1) عَن مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة عَن عَطاء وَسليمَان ابْني يسَار وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله مُضْطَجعا فِي بَيته كاشفاً عَن فَخذيهِ أَو سَاقيه، فَاسْتَأْذن أَبُو بكر فَأذن لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال، فَتحدث ثمَّ اسْتَأْذن عمر فَأذن لَهُ وَهُوَ كَذَلِك، فَتحدث ثمَّ اسْتَأْذن عُثْمَان فَجَلَسَ رَسُول اوسوى ثِيَابه. قَالَ مُحَمَّد: وَلَا أَقُول ذَلِك فِي يَوْم وَاحِد فَدخل فَتحدث، فَلَمَّا خرج قَالَت عَائِشَة: دخل أَبُو بكر فَلم تهتش لَهُ، ثمَّ دخل عمر فَلم تهتش لَهُ وَلم تباله، فَلَمَّا دخل عُثْمَان فَجَلَست وسويت ثِيَابك؟ فَقَالَ) ألاَ أستحي من رجل تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة؟ ، قلت: لما أخرجه الْبَيْهَقِيّ قَالَ. لَا حجَّة فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن هَذَا مَشْكُوك فِيهِ لِأَن الرَّاوِي قَالَ: (فَخذيهِ أَو سَاقيه) ، فَدلَّ ذَلِك على مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِن أصل الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ ذكر كشف الفخذين، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب.
وقالَ أَبُو مُوسَى غَطَّى النَّبيُّ رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ.
وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرّكْبَة إِذا كَانَت عَورَة فالفخذ بِالطَّرِيقِ الأولى، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْفرج الَّذِي هُوَ عَورَة إِجْمَاعًا. وَأَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد ابْن قيس، وَهَذَا طرف حَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب عُثْمَان من رِوَايَة عَاصِم الْأَحول: عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ عَنهُ، وَفِيه: (أَن النَّبِي كَانَ قَاعِدا فِي مَكَان فِيهِ مَاء قد انْكَشَفَ عَن ركبته، أَو رُكْبَتَيْهِ، فَلَمَّا دخل عُثْمَان غطاها) . وَزعم الدَّاودِيّ الشَّارِح: أَن هَذِه الرِّوَايَة الْمُعَلقَة عَن أبي مُوسَى وهم، وَأَنَّهَا لَيست من هَذَا الحَدِيث، وَقد أَدخل بعض الروَاة حَدِيثا فِي حَدِيث: (إِنَّمَا أَتَى أَبُو بكر إِلَى رَسُول الله وَهُوَ فِي بَيته منكشف فَخذه، فَلَمَّا اسْتَأْذن عُثْمَان غطى فَخذه، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِن عُثْمَان رجل حييّ، فَإِن وجدني على تِلْكَ الْحَالة لم يبلغ حَاجته) . قلت: الَّذِي ذَكرْنَاهُ من رِوَايَة عَاصِم يرد عَلَيْهِ بَيَان ذَلِك أَنا قد ذكرنَا إِن فِي حَدِيث عَائِشَة: (كاشفاً عَن فَخذيهِ أَو سَاقيه) ، وَعند أَحْمد بِلَفْظ: (كاشفاً عَن فَخذه) ، من غير شكّ، وَعِنْده من حَدِيث حَفْصَة مثله، وَقد ظهر من ذَلِك أَن البُخَارِيّ لم يدْخل حَدِيثا فِي حَدِيث، بل هما قضيتان متغايرتان، فِي إِحْدَاهمَا كشف الرّكْبَة، وَفِي الْأُخْرَى كشف الْفَخْذ، وَفِي رِوَايَة أبي مُوسَى الَّتِي علقها البُخَارِيّ: (كشف الرّكْبَة) ، وَرِوَايَة عَائِشَة، (فِي كشف الْفَخْذ) ، ووافقها حَفْصَة وَلم يذكر البُخَارِيّ روايتهما، وَإِنَّمَا ذكر مُسلم رِوَايَة عَائِشَة كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرّكْبَة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون عَورَة أَو لَا؟ فَإِن كَانَت عَورَة فَلم كشفها قبل دُخُول عُثْمَان؟ وَإِن لم تكن فلِمَ غطاها عَنهُ؟ قلت: الشق الثَّانِي هُوَ الْمُخْتَار، وَأما التغطية فَكَانَت للأدب والاستحياء مِنْهُ. وَقَالَ ابْن بطال. فَإِن قلت: فلِمَ غطى حِين دُخُوله؟ قلت: قد بَين مَعْنَاهُ بقوله: (أَلاَ أستحي مِمَّن تَسْتَحي مِنْهُ مَلَائِكَة السَّمَاء؟) وَإِنَّمَا كَانَ يصف كل وحد من الصَّحَابَة بِمَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ من أخلاقه، وَهُوَ مَشْهُور فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ الْحيَاء الْغَالِب على عُثْمَان اسْتَحى مِنْهُ، وَذكر أَن الْملك يستحي مِنْهُ فَكَانَت المجازاة لَهُ من جنس فعله.
وقالَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ وَفَخِذُهُ عَلى فَخذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أنْ تُرضَّ فَخذِي.
هَذَا أَيْضا تَعْلِيق وطرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء فِي نزُول قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 59) الْآيَة حدّثنا إِسْمَاعِيل بن عبد احدثني إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن ابْن شهَاب حَدثنِي سهل بن سعد السَّاعِدِيّ ... الحَدِيث. وَفِيه: (فَأنْزل اعلى رَسُوله وَفَخذه على فَخذي) إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد ا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي(4/82)
الْجِهَاد عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن عبد ا. قَوْله: (مَا أنزل اعلى رَسُوله) أَي قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 59) . قَوْله: (وَفَخذه على فَخذي) جملَة إسمية حَالية. قَوْله: (أَن ترض) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الرَّاء: على صِيغَة الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على صِيغَة الْمَعْلُوم أَيْضا من الرض، وَهُوَ: الدق. وكل شَيْء كَسرته فقد رضضته، وإيراد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هَهُنَا لَيْسَ لَهُ وَجه، لِأَنَّهُ لَا يدل على أَن الْفَخْذ عَورَة، وَلَا يدل أَيْضا على أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، فَأَي شقّ مَال إِلَيْهِ لَا يدل عَلَيْهِ على أَنه مَال إِلَى أَن الْفَخْذ عَورَة، حَيْثُ قَالَ: وَحَدِيث جرهد أحوط. نعم، لَو كَانَ فِيهِ التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْحَائِل لدل على أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة، إِذْ لَو كَانَ عَورَة فِي هَذِه الْحَالة لما مكن النَّبِي فَخذه على فَخذ زيد، وَقَالَ بَعضهم: وَالظَّاهِر أَن المُصَنّف تمسك بِالْأَصْلِ. قلت: لم يبين مَا مُرَاده من الأَصْل، فعلى كل حَال لَا يدل الحَدِيث على مُرَاده صَرِيحًا.
173 - ح دّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا إِسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ أنَّ رسولَ الله غزَا خَيْبَرَ فَصَلَّيْنَا عِنْدَها صَلاَةَ الغَدَاة بِغَلَسٍ فَرَكِبَ نَبيُّ اللَّهِ وَرَكِبَ أبُو طَلحَةَ وَأنَا رَدِيفُ أبي طَلْحَةَ فأجْرَي نَبِيُّ الله فِي زقاقِ خَيْبَرَ وإنَّ رُكْبَتي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبيِّ اللَّهِ ثُمَّ حَسَرَ الإِزَارَ عنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أنْظُرُ إلَى بَيَاضٍ فَخِذِ نَبِيِّ الله فَلَمَّا دَخَلَ القَرْيَةَ قالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خيْبَرُ إِنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ قالَهَا ثَلاَثاً قَالَ وَخَرَجَ القَوْمُ إلَى أعْمَالِهِمْ فَقَالُوا مُحَمَّدٌ قالَ عَبْدُ العَزِيزِ وَقَالَ بَعْضُ أصْحَابِنا وَالْخَمِيسُ يَعْنِي الْجَيْشَ قَالَ فأصَبْنَاها عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أعْطِني جارِيَةً مِنَ السَّبْي قالَ اذْهَبْ فَخُذْ جَاريَةً فأخَذَ صَفِيَّة بِنْتَ حُيَيَ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ فقالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيَ سَيَّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لاَ تَصْلُحُ إلاَّ لَكَ قالَ ادْعُوهُ بِهَا فَجَاءَ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النبيُّ قالَ خذْ جارِيَةً مِنَ السَّبْي غَيْرَهَا قالَ فَأَعْتَقَهَا النبيُّ وَتَزوَّجَهَا فَقال لَهُ ثابِتٌ يَا أبَا حَمْزَةَ مَا أصْدَقَها قَالَ نَفْسَها أعْتَقَها وَتَزَوَّجَها حَتَّى إذَا كانَ بالطَّرِيقِ جَهَّزَتْها لهُ أُمُّ سُلَيْمٍ فَأَهْدَتْها لَهُ مِنَ اللَّيْلِ فأصْبحَ النبيُّ عَرُوساً فقالَ منْ كانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيء بِهِ وَبَسَطَ نِطَعاً فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ قالَ وَأحْسِبُهُ قد ذَكَرَ السَّوِيقَ قَالَ فَحَاسُوا حَيْساً فكانَتْ وَليمَةَ رَسولِ اللَّهِ. (الحَدِيث 173 أَطْرَافه فِي: 016، 749، 8222، 5322، 9882، 3982، 3492، 4492، 5492، 1992، 5803، 6803، 7633، 7463، 3804، 4804، 7914، 8914، 9914، 0024، 1024، 1124، 2124، 3124، 5805، 9515، 9615، 7835، 5245، 8255، 8695، 5816، 3636، 9636، 3337) .
هَذَا وصل الحَدِيث الَّذِي علقَة فِيمَا قبل قَرِيبا، وَهُوَ قَوْله: (وَقَالَ أنس: حسر النَّبِي عَن فَخذه) فَإِن قلت: مَا كَانَت فَائِدَة هَذَا التَّعْلِيق بِذكر قِطْعَة من هَذَا الحَدِيث الْمُتَّصِل قبل أَن يذكر الحَدِيث بِكَمَالِهِ؟ قلت: يحْتَمل أَنه أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَة إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ أنس من أَن الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة، فَلهَذَا ذكره بعد ذكر مَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس وجرهد وَمُحَمّد بن جحش: أَنه عَورَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ الأعمي. الرَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده:. هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: من هُوَ مَشْهُور باسم أمه وَهُوَ إِسْمَاعِيل ابْن إِبْرَاهِيم بن سهم بن مقسم الْبَصْرِيّ أَبُو بشر الْأَسدي، أَسد خُزَيْمَة مَوْلَاهُم، الْمَعْرُوف بِابْن علية، وَهِي أمه، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. وَفِيه: أَن(4/83)
رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري وأصل الدَّوْرَقِي من الْكُوفَة وَلَيْسَ هُوَ من بلد دورق، وَإِنَّمَا كَانَ يلبس قلنسوة دورقية فنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ حَدِيث: (أعتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا) فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة من حَدِيث ثَابت وَشُعَيْب بن الْحجاب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن ثَابت وَعبد الْعَزِيز، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ فِي حَدِيث خَيْبَر، وَحَدِيث الْبَاب أخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح، وَفِي الْمَغَازِي عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح، وَفِي الْوَلِيمَة عَن زِيَاد بن أَيُّوب، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه: قَوْله: (غزا خَيْبَر) ، يَعْنِي غزا بَلْدَة تسمى خَيْبَر، وخبير بلغَة الْيَهُود: حصن، وَقيل: أول مَا سكن فِيهَا رجل من بني إِسْرَائِيل يُسمى خَيْبَر فسميت بِهِ، وَهِي بلد عترة فِي جِهَة الشمَال والشرق من الْمَدِينَة النَّبَوِيّ على سِتَّة مراحل، وَكَانَ لَهَا نخيل كثير، وَكَانَت فِي صدر الْإِسْلَام دَارا لبني قُرَيْظَة وَالنضير، وَكَانَت غَزْوَة خَيْبَر فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع من الْهِجْرَة، قَالَه ابْن سعد. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: أَقَامَ رَسُول ا، بعد رُجُوعه من الْحُدَيْبِيَة ذَا الْحجَّة وَبَعض الْمحرم، وَخرج فِي بَقِيَّته غازياً إِلَى خَيْبَر، وَلم يبْق من السّنة السَّادِسَة إِلاَّ شهر وَأَيَّام، وَهُوَ غير منصرف العلمية والتأنيث. قَوْله: (بِغَلَس) ، بِفَتْح الْغَيْن وَاللَّام: وَهُوَ ظلمَة آخر اللَّيْل. قَوْله: (فَركب نَبِي ا) أَي: ركب مركوبه، وَعَن أنس بن مَالك، قَالَ: (كَانَ رَسُول ا، يَوْم قُرَيْظَة وَالنضير على حمر، وَيَوْم خَيْبَر عل حمَار مَخْطُوم برسن لِيف وَتَحْته إكاف من لِيف) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ ابْن كثير: وَالَّذِي ثَبت فِي (الصَّحِيح) عِنْد البُخَارِيّ عَن أنس: (أَن رَسُول ا، أجري فِي زقاق خَيْبَر حَتَّى انحسر الْإِزَار عَن فَخذه) . فَالظَّاهِر أَنه كَانَ يومئذٍ على فرس لَا على حمَار، وَلَعَلَّ هَذَا الحَدِيث، إِن كَانَ صَحِيحا، فَهُوَ مَحْمُول على أَنه رَكبه فِي بعض الْأَيَّام وَهُوَ محاصرها. قَوْله: (وَركب أَبُو طَلْحَة) هُوَ: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة والمشاهد كلهَا وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، روى لَهُ البُخَارِيّ مِنْهَا ثَلَاثَة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ أَو أَربع وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ أَو بِالشَّام أَو فِي الْبَحْر، وَكَانَ أنس ربيبه. قَوْله: (وَأَنا رَدِيف أبي طَلْحَة) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَأجرى) ، على وزن أفعل، من الإجراء، وفاعله النَّبِي، وَالْمَفْعُول مَحْذُوف أَي: أجْرى مركوبه. قَوْله: (فِي زقاق خَيْبَر) ، بِضَم الزَّاي وبالقافين: وَهُوَ السِّكَّة، يذكر وَيُؤَنث، وَالْجمع: أَزِقَّة. وزقان، بِضَم الزَّاي وَتَشْديد الْقَاف وبالنون. وَفِي (الصِّحَاح) : قَالَ الْأَخْفَش: أهل الْحجاز يؤنثون الطَّرِيق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وَبَنُو تَمِيم يذكرُونَ هَذَا كُله، وَالْجمع: الزقان. والأزقة، مثل: حوار وحوران وأحورة. قَوْله: (عَن فَخذه) يتَعَلَّق بقوله: (حسر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية: (فانحسر) ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْموضع، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَلَفظه: (فَأجرى نَبِي ا، فِي زقاق خَيْبَر إِذْ خر الْإِزَار) ، وَلَا شكّ أَن الخرور هُنَا بِمَعْنى الْوُقُوع، فَيكون لَازِما، وَكَذَلِكَ الانحسار فِي رِوَايَة مُسلم، وَهَذَا هُوَ الأصوب، لِأَنَّهُ لم يكْشف إزَاره، عَن فَخذه قصدا، وَإِنَّمَا انْكَشَفَ عَن فَخذه لأجل الزحام، أَو كَانَ ذَلِك من قُوَّة إجرائه، وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب أَنه عِنْد البُخَارِيّ بِفتْحَتَيْنِ يَعْنِي؛ أَن حَسَر، على صِيغَة الْفَاعِل، ثمَّ اسْتدلَّ عَلَيْهِ بقول أنس فِي أَوَائِل الْبَاب: (حسر النَّبِي عَن فَخذه) قلت: اللَّائِق بِحَالهِ الْكَرِيمَة أَن لَا ينْسب إِلَيْهِ كشف فَخذه قصدا مَعَ ثُبُوت قَوْله: (الْفَخْذ عَورَة) ، على مَا تقدم، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لَا يلْزم من وُقُوعه كَذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم أَن لَا يَقع عِنْد البُخَارِيّ على خِلَافه.
قلت: منع الْمُلَازمَة مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فَيحْتَمل أَن أنسا لما رأى فَخذ رَسُول الله مكشوفاً ظن أَنه كشفه، فأسند الْفِعْل إِلَيْهِ، وَفِي نفس الْأَمر لم يكن ذَلِك إلاَّ من أجل الزحام أَو من قُوَّة الجري على مَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا، أَي: وَفِي بعض النّسخ أَو فِي بعض الرِّوَايَة: على فَخذه، أَي: الْإِزَار الْكَائِن على فَخذه، فَلَا يتَعَلَّق بحسر، إلاَّ أَن يُقَال: حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام بعض. قلت: إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة يكون مُتَعَلق: على، محذوفاً كَمَا قَالَه، لِأَنَّهُ(4/84)
حينئذٍ لَا يجوز أَن يتَعَلَّق: على، بقوله: (حسر) لفساد الْمَعْنى، وَيجوز أَن تكون: على، بِمَعْنى: من، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا اكتالوا على النَّاس} (المطففين: 2) أَي: من النَّاس، لِأَن: على، تَأتي لتسعة معَان، مِنْهَا أَن تكون بِمَعْنى: من. قَوْله: (حَتَّى أَنِّي أنظر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (حَتَّى أَنِّي لأنظر) ، بِزِيَادَة لَام التَّأْكِيد. قَوْله: (فَلَمَّا دخل الْقرْيَة) أَي: خَيْبَر، وَهَذَا مشْعر بِأَن ذَلِك الزقاق كَانَ خراج الْقرْيَة. قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) أَي: صَارَت خراباً، وَهل ذَلِك على سَبِيل الخبرية؟ فَيكون ذَلِك من بَاب الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ؟ أَو يكون ذَلِك على جِهَة الدُّعَاء عَلَيْهِم؟ أَو على جِهَة التفاؤل لما رَآهُمْ خَرجُوا بِمساحِيهِمْ وَمَكَاتِلهمْ؟ وَذَلِكَ من آلَات الحراث. وَيجوز أَن يكون أَخذ من اسْمهَا، وَقيل: إِن اأعلمه بذلك. قَوْله: (بِسَاحَة قوم) قَالَ الْجَوْهَرِي: ساحة الدَّار ناحيتها، وَالْجمع: ساحات وسوح وساح، أَيْضا مثل: بَدَنَة وبدن، وخشبة وخشب. قلت: على هَذَا أصل: ساحة سوحة، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها، وانفتاح مَا قبلهَا، وأصل الساحة الفضاء بَين الْمنَازل، وَيُطلق على: النَّاحِيَة والجهة وَالْبناء. قَوْله: (وَخرج الْقَوْم إِلَى أَعْمَالهم) . قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: مَوَاضِع أَعْمَالهم. قلت: بل مَعْنَاهُ خرج الْقَوْم لأعمالهم الَّتِي كَانُوا يعملونها، وَكلمَة: إِلَى، تَأتي بِمَعْنى: اللَّام. قَوْله: (فَقَالُوا: مُحَمَّد) أَي: جَاءَ مُحَمَّد، وارتفاعه على أَنه فَاعل لفعل مَحْذُوف، وَيجوز أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا مُحَمَّد. قَوْله: (قَالَ عبد الْعَزِيز) وَهُوَ: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَهُوَ أحد رُوَاة الحَدِيث عَن أنس. قَوْله: (وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه لم يسمع هَذِه اللَّفْظَة من أنس، وَإِنَّمَا سَمعه من بعض أَصْحَابه عَنهُ، وَهَذِه رِوَايَة عَن الْمَجْهُول، إِذْ لم يعين هَذَا الْبَعْض من هُوَ، وَقَالَ بَعضهم، يحْتَمل أَن يكون بعض أَصْحَاب عبد الْعَزِيز مُحَمَّد بن سِيرِين لِأَن البُخَارِيّ أخرج من طَرِيقه أَيْضا، أَو يكون ثَابتا الْبنانِيّ، لِأَن مُسلما أخرجه من طَرِيقه أَيْضا. قلت: يحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا، فعلى كل حَال لَا يخرج عَن الْجَهَالَة، وَالْحَاصِل أَن عبد الْعَزِيز قَالَ: سَمِعت من أنس، قَالُوا: جَاءَ مُحَمَّد. فَقَط، وَقَالَ بعض أَصْحَابه: قَالُوا مُحَمَّد وَالْخَمِيس، ثمَّ فسر عبد الْعَزِيز: الْخَمِيس، بقوله: يَعْنِي الْجَيْش، وَيجوز أَن يكون التَّفْسِير مِمَّن دونه، وعَلى كل حَال هُوَ مدرج.
قَوْله: (وَالْخَمِيس) ، بِفَتْح الْخَاء، وَسمي الْجَيْش خميساً لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقسَام: مُقَدّمَة وساقة وقلب وجناحان، وَيُقَال: ميمنة وميسرة وقلب وجناحان، وَقَالَ ابْن سَيّده: لِأَنَّهُ يُخَمّس مَا وجده، وَقَالَ الْأَزْهَرِي (1) : الْخمس إِنَّمَا ثَبت بِالشَّرْعِ، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة يسمونه بذلك، وَلم يَكُونُوا يعْرفُونَ الْخمس. ثمَّ ارْتِفَاع: الْخَمِيس، بِكَوْنِهِ عطفا على؛ مُحَمَّد، وَيجوز أَن تكون: الْوَاو، فِيهِ بِمَعْنى: مَعَ، على معنى: جَاءَ مُحَمَّد مَعَ الْجَيْش. قَوْله: (عنْوَة) بِفَتْح الْعين وَهُوَ الْقَهْر، يُقَال: أَخَذته عنْوَة أَي: قهرا. وَقيل: أَخَذته عنْوَة، أَي: عَن غير طَاعَة. وَقَالَ ثَعْلَب: أخذت الشَّيْء عنْوَة أَي: قهرا فِي عنف، وأخذته عنْوَة أَي: صلحا فِي رفق. وَقَالَ ابْن التِّين: وَيجوز أَن يكون عَن تَسْلِيم من أَهلهَا وَطَاعَة بِلَا قتال، وَنَقله عَن الْقَزاز فِي (جَامعه) : قلت: فحيئذٍ يكون هَذَا اللَّفْظ من الأضداد. وَقَالَ أَبُو عمر: الصَّحِيح فِي أَرض خَيْبَر كلهَا عنْوَة، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: اخْتلفُوا فِي فتح خَيْبَر كَانَت عنْوَة أَو صلحا؟ أَو جلاء أَهلهَا عَنْهَا بِغَيْر قتال؟ أَو بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة وَبَعضهَا جلاء أَهلهَا عَنْهَا؟ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِهَذَا أَيْضا ينْدَفع التضاد بَين الْآثَار. قَوْله: (فجَاء دحْيَة) ، بِفَتْح الدَّال وَكسرهَا: ابْن خَليفَة بن فَرْوَة الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أجمل النَّاس وَجها، وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَأْتِي رَسُول الله فِي صورته وَتقدم ذكره مُسْتَوفى، فِي قصَّة هِرقل.
قَوْله: (فَقَالَ: اذْهَبْ) ، ويروى: قَالَ، بِدُونِ: الْفَاء. قَوْله: (فَخذ جَارِيَة) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ للرسول إعطاؤها لدحية قبل الْقِسْمَة؟ قلت: صفي الْمغنم لرَسُول ا، فَلهُ أَن يُعْطِيهِ لمن شَاءَ. قلت: هَذَا غير مقنع، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِك قبل أَن يعين الصفي، وَهَهُنَا أجوبة جَيِّدَة. الأول: يجوز أَن يكون أذن لَهُ فِي أَخذ الْجَارِيَة على سَبِيل التَّنْفِيل لَهُ، إِمَّا من أصل الْغَنِيمَة أَو من خمس الْخمس، سَوَاء كَانَ قبل التَّمْيِيز أَو بعده. الثَّانِي: يجوز أَن يكون أذن لَهُ على أَنه يحْسب من الْخمس إِذا ميز. الثَّالِث: يجوز أَن يكون أذن لَهُ ليقوّم عَلَيْهِ بعد ذَلِك ويحسب من سَهْمه. قَوْله: (فَأخذ صَفِيَّة بنت حييّ) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وحيي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا وَفتح الْيَاء الأولى المخففة وَتَشْديد الثَّانِيَة: ابْن أَخطب بن سعية، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن سفلَة بن ثَعْلَبَة، وَهِي من بَنَات هَارُون عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سمؤل. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين. وَقَالَ غَيره: مَاتَت فِي خلَافَة عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ. سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، ودفنت بِالبَقِيعِ، وَكَانَت تَحت كنَانَة بن أبي(4/85)
الْحقيق؛ بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف الأولى: قتل يَوْم خَيْبَر. قَوْله: (فجَاء رجل) ، مَجْهُول لم يعرف. قَوْله: (قُرَيْظَة) ، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالظاء الْمُعْجَمَة. (وَالنضير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خَيْبَر، وَقد دخلُوا فِي الْعَرَب على نسبهم إِلَى هَارُون عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (خُذ جَارِيَة من السَّبي غَيرهَا) أَي: غير صَفِيَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: لما وَهبهَا من دحْيَة فَكيف رَجَعَ عَنْهَا؟ قلت: إِمَّا لِأَنَّهُ لم يتم عقد الْهِبَة بعد وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَبُو الْمُؤمنِينَ، وللوالد أَن يرجع عَن هبة الْوَلَد، وَإِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ. قلت: أجَاب بِثَلَاثَة أجوبة: الأول: فِيهِ نظر لِأَنَّهُ لم يجر عقد هِبته حَتَّى يُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ إعطاؤها إِيَّاه بِوَجْه من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب. الثَّانِي: فِيهِ نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ لَا يمشي مَا ذكره فِي مَذْهَب غَيره. الثَّالِث: ذكر أَنه اشْتَرَاهَا مِنْهُ، أَي: من دحْيَة، وَلم يجر بَينهمَا عقد بيع أَولا، فَكيف اشْتَرَاهَا مِنْهُ بعد ذَلِك؟
فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: أَن النَّبِي، اشْترى صَفِيَّة مِنْهُ بسبعة أرؤس. قلت: إِطْلَاق الشِّرَاء على ذَلِك على سَبِيل الْمجَاز، لِأَنَّهُ لما أَخذهَا مِنْهُ على الْوَجْه الَّذِي نذكرهُ الْآن، وعوضه عَنْهَا بسبعة أرؤس على سَبِيل التكرم وَالْفضل، أطلق الرَّاوِي الشِّرَاء عَلَيْهِ لوُجُود معنى الْمُبَادلَة فِيهِ، وَأما وَجه الْأَخْذ فَهُوَ أَنه لما قيل لَهُ: إِنَّهَا لَا تصلح لَهُ من حَيْثُ إِنَّهَا من بَيت النُّبُوَّة، فَإِنَّهَا من ولد هَارُون أخي مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمن بَيت الرياسة، فَإِنَّهَا من بَيت سيد قُرَيْظَة وَالنضير، مَعَ مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْجمال الْبَاعِث على كَثْرَة النِّكَاح المؤدية إِلَى كَثْرَة النَّسْل، وَإِلَى جمال الْوَلَد لَا للشهوة النفسانية، فَإِنَّهُ مَعْصُوم مِنْهَا.
وَعَن الْمَازرِيّ: يحمل مَا جرى مَعَ دحْيَة على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون رد الْجَارِيَة بِرِضَاهُ، وَأذن لَهُ فِي غَيرهَا. الثَّانِي: أَنه إِنَّمَا أذن لَهُ فِي جَارِيَة من حَشْو السَّبي لَا فِي أَخذ أفضلهن، وَلما رأى أَنه أَخذ أَنْفسهنَّ وأجودهن نسبا وشرفاً وجمالاً استرجعها لِئَلَّا يتَمَيَّز دحْيَة بهَا على بَاقِي الْجَيْش، مَعَ أَن فيهم من هُوَ أفضل مِنْهُ، فَقطع هَذِه الْمَفَاسِد وعوضه عَنْهَا. وَفِي (سير) الْوَاقِدِيّ: أَنه أعطَاهُ أُخْت كنَانَة بن الرّبيع بن أَي الْحقيق، وَكَانَ كنَانَة زوج صَفِيَّة، فَكَأَنَّهُ طيب خاطره لما اسْترْجع مِنْهُ صَفِيَّة بِأَن أعطَاهُ أُخْت زَوجهَا. وَقَالَ القَاضِي: الأولى عِنْدِي أَن صَفِيَّة كَانَت فَيْئا لِأَنَّهَا كَانَت زَوْجَة كنَانَة بن الرّبيع، وَهُوَ وَأَهله من بني الْحقيق كَانُوا صَالحُوا رَسُول ا، وَشرط عَلَيْهِم أَن لَا يكتموا كنزاً، فَإِن كتموه فَلَا ذمَّة لَهُم، وسألهم عَن كنز حَيّ بن أَخطب فَكَتَمُوهُ، فَقَالُوا: أذهبته النَّفَقَات، ثمَّ عثر عَلَيْهِ عِنْدهم، فَانْتقضَ عَهدهم فسباهم، وَصفِيَّة من سَبْيهمْ، فَهِيَ فَيْء لَا يُخَمّس بل يفعل فِيهِ الإِمَام مَا رأى. قلت: هَذَا تَفْرِيع على مذْهبه: أَن الْفَيْء لَا يُخَمّس، وَمذهب غَيره أَنه يُخَمّس. قَوْله: (فاعتقها) أَي: فاعتق النَّبِي صَفِيَّة، وَسَنذكر تَحْقِيقه فِي الْأَحْكَام. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ ثَابت) أَي: قَالَ لأنس رَضِي اتعالى عَنهُ، ثَابت الْبنانِيّ: (يَا با حَمْزَة) . أَصله، يَا أَبَا حَمْزَة، حذفت الْألف تَخْفِيفًا. قَوْله: (وَأَبُو حَمْزَة) كنية أنس. قَوْله: (أم سليم) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة، وَهِي: أم أنس. قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَ بِالطَّرِيقِ) جَاءَ فِي (الصَّحِيح) : (فَخرج بهَا حَتَّى إِذا بلغنَا سد الروحاء) ، و: السد، بِفَتْح السِّين وَضمّهَا، وَهُوَ جبل الروحاء، وَهِي قَرْيَة جَامِعَة من عمل الْفَرْع لمزينة على نَحْو أَرْبَعِينَ ميلًا من الْمَدِينَة أَو نَحْوهَا، و: الروحاء، بِفَتْح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة مَمْدُود. وَفِي رِوَايَة: (أَقَامَ عَلَيْهَا بطرِيق خَيْبَر ثَلَاثَة أَيَّام حِين أعرس بهَا، وَكَانَت فِيمَن ضرب عَلَيْهَا الْحجاب) . وَفِي رِوَايَة: (أَقَامَ بَين خَيْبَر وَالْمَدينَة ثَلَاثَة أَيَّام، فَبنى بصفية) .
قَوْله: (فاهدتها) أَي: أَهْدَت أم سليم صَفِيَّة لرَسُول ا، وَمَعْنَاهُ: زفتها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: فهدتها، لَهُ، وَقيل: هَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الهداء مصدر قَوْلك أهديت أَنا الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا هداء. قَوْله: (عروساً) على وزن، فعول، يَسْتَوِي فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة مَا داما فِي إعراسهما. يُقَال: رجل عروس وَامْرَأَة عروس، وَجمع الرجل: عروس، وَجمع الْمَرْأَة: عرائس. وَفِي الْمثل: كَاد الْعَرُوس أَن يكون ملكا. والعروس. اسْم حصن بِالْيمن، وَقَول الْعَامَّة: الْعَرُوس للْمَرْأَة، والعريس للرجل لَيْسَ لَهُ أصل. قَوْله: (من كَانَ عِنْده شَيْء فليجىء بِهِ) : كَذَا هُوَ فِي البُخَارِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ رِوَايَة، وَفِي بَعْضهَا: (فليجئني بِهِ) ، بنُون الْوِقَايَة. قَوْله: (نطعاً) بِكَسْر النُّون وَفتح الطَّاء، وَعَن أبي عبيد: هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب فِي (الفصيح) وَفِي (الْمُخَصّص) : فِيهِ أَربع لُغَات: نطع، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الطَّاء، ونطع؛ بِفتْحَتَيْنِ، ونطع، بِكَسْر النُّون وَفتح الطَّاء، و: نطع، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الطَّاء. وَجمعه: أنطاع ونطوع، وَزَاد فِي (الْمُحكم) : أنطع. وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فِي (نوادره) : النطع: هُوَ المبناة والستارة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المبناة والمبناة: النطع.
قَوْله: (قَالَ: وَأَحْسبهُ قد ذكر السويق) أَي: قَالَ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب:(4/86)
أَحسب أنسا ذكر السويق أَيْضا، وَجزم عبد الْوَارِث فِي رِوَايَته بِذكر السويق. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي قَالَ: وَجعل الرجل يَجِيء بالسويق، وَيحْتَمل أَن يكون فَاعل: قَالَ، هُوَ البُخَارِيّ. وَيكون مقولاً للفربري، ومفعول: أَحسب، يَعْقُوب، وَالْأول هُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (فحاسوا حَيْسًا) الحيس، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: هُوَ تمر يخلط بِسمن وأقط، يُقَال: حاس الحيس يحيسه أَي: يخلطه. وَقَالَ ابْن سَيّده: الحيس هُوَ الأقط يخلط بالسمن وَالتَّمْر، وحاسه حَيْسًا وحيسة: خلطه. قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِذا تكون كريهة يدعى لَهَا ... وَإِذا يحاس الحيس يدعى جُنْدُب)
قَالَ الْجَوْهَرِي: الحيس: الْخَلْط، وَمِنْه سمي الحيس، وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ الشَّاعِر:
(التَّمْر وَالسمن جَمِيعًا والأقط ... الحيس إلاَّ أَنه لم يخْتَلط)
وَفِي (الغريبين) : هُوَ ثريد من أخلاط. قَالَ الْفَارِسِي فِي (مجمع الغرائب) : اأعلم بِصِحَّتِهِ. قَوْله: (فَكَانَت وَلِيمَة رَسُول ا) اسْم: كَانَت، الضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الَّتِي اتخذ مِنْهَا الحيس. قَوْله: (وَلِيمَة النَّبِي) بِالنّصب: خَبره.
ذكر الْأَحْكَام الَّتِي تستنبط مِنْهُ مِنْهَا: جَوَاز إِطْلَاق صَلَاة الْغَدَاة على صَلَاة الصُّبْح، خلافًا لمن كرهه من بعض الشَّافِعِيَّة. وَمِنْهَا: جَوَاز الإرداف إِذا كَانَت الدَّابَّة مطيقة، وَفِيه غير مَا حَدِيث. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب التَّكْبِير وَالذكر عِنْد الْحَرْب، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة فأثبتوا واذْكُرُوا اكثيراً} (الْأَنْفَال: 54) وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب التَّثْلِيث فِي التَّكْبِير لقَوْله: (قَالَهَا ثَلَاثًا) أَي ثَلَاث مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة، وَقد ذكرنَا الْجَواب عَنهُ. وَمِنْهَا: أَن إِجْرَاء الْفرس يجوز وَلَا يضر بمراتب الْكِبَار، لَا سِيمَا عِنْد الْحَاجة أَو لرياضة الدَّابَّة أَو لتدريب النَّفس على الْقِتَال. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب عتق السَّيِّد أمته وَتَزَوجهَا، وَقد صَحَّ أَن لَهُ أَجْرَيْنِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ اتعالى. وَقَالَ ابْن حزم: اتّفق ثَابت وَقَتَادَة وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس أَنه: عتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وَبِه قَالَ قَتَادَة فِي رِوَايَة، وَأخذ بِظَاهِرِهِ أَحْمد وَالْحسن وَابْن الْمسيب، وَلَا يحل لَهَا مهر غَيره، وتبعهم ابْن حزم فَقَالَ: هُوَ سنة فاضلة وَنِكَاح صَحِيح وصداق صَحِيح، فَإِن طَلقهَا قبل الدُّخُول فَهِيَ حرَّة فَلَا يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء، وَلَو أَبَت أَن تتزوجه بَطل عتقهَا. وَفِي هَذَا خلاف مُتَأَخّر ومتقدم.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حدّثنا أبان وَحَمَّاد بن زيد، قَالَ: حدّثنا شُعَيْب بن الحبحاب عَن أنس بن مَالك: (أَن رَسُول الله أعتق صَفِيَّة وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا) . وَأخرجه مُسلم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى أَن الرجل إِذا أعتق أمته على أَن عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك، فَإِن تزوجت فَلَا مهر لَهَا غير الْعتاق. قلت: أَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم: سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاوساً وَالْحسن بن حييّ وَأحمد وَإِسْحَاق فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا أعتق الرجل أمته على أَن يكون عتقهَا صَدَاقهَا جَازَ ذَلِك، فَإِذا عقد عَلَيْهَا لَا تسْتَحقّ عَلَيْهِ مهْرا غير ذَلِك الْعتاق، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك: سُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو يُوسُف وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَذكر التِّرْمِذِيّ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ عِيَاض: وَقَالَ الشَّافِعِي: هِيَ بِالْخِيَارِ إِذا أعْتقهَا، فَإِن امْتنعت من تزَوجه فَلهُ عَلَيْهَا قيمتهَا إِن لم يُمكن الرُّجُوع فِيهَا، وَهَذِه لَا يُمكن الرُّجُوع فِيهَا، وَإِن تزوجت بِالْقيمَةِ الْوَاجِبَة لَهُ عَلَيْهَا صَحَّ بذلك عِنْده.
وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة، فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: اخْتلف سلف الصَّحَابَة، وَكَانَ ابْن عمر لَا يرَاهُ، وَقد روينَا جَوَازه عَن عَليّ وَأنس وَابْن مَسْعُود، وروينا عَن ابْن سِيرِين أَنه اسْتحبَّ أَن يَجْعَل مَعَ عتقهَا شَيْئا مَا كَانَ، وَصَحَّ كَرَاهَة ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَابِر بن زيد وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَ النَّخعِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يعْتق الرجل جَارِيَته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا، وجعلوه كالراكب بدنته. وَقَالَ اللَّيْث بن سعد وَابْن شبْرمَة وَجَابِر بن زيد وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر وَمَالك: لَيْسَ لأحد غير رَسُول الله أَن يفعل هَذَا فَيتم لَهُ النِّكَاح بِغَيْر صدَاق، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله خَاصَّة، لِأَن اتعالى لما جعل لَهُ أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق كَانَ لَهُ أَن يتَزَوَّج على الْعتاق الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق. ثمَّ إِن فعل هَذَا وَقع الْعتاق، وَلها عَلَيْهِ مهر الْمثل، فَإِن أَبَت أَن تتزوجه تسْعَى لَهُ فِي قيمتهَا عِنْد(4/87)
أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَقَالَ مَالك وَزفر: لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا. وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن: إِن كرهت نِكَاحه غرمت لَهُ قيمتهَا وَمضى النِّكَاح، فَإِن كَانَت معسرة استسعيت فِي ذَلِك. وَقَالَ مَالك وَزفر: إِن كرهت فَهِيَ حرَّة وَلَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا إلاَّ أَن يَقُول: لَا أعتق إلاَّ على هَذَا الشَّرْط، فَإِن كرهت لم تعْتق لِأَنَّهُ من بَاب الشَّرْط والمشروط، ثمَّ إِن الطَّحَاوِيّ اسْتدلَّ على الخصوصية بقوله تَعَالَى: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت} (الْأَحْزَاب: 05) الْآيَة وَجه الِاسْتِدْلَال أَن اتعالى لما أَبَاحَ لنَبيه أَن يتَزَوَّج بِغَيْر صدَاق كَانَ لَهُ أَن يتَزَوَّج على الْعتاق الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق، وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك أَن النَّبِي أَخذ جوَيْرِية بنت الْحَارِث فِي غَزْوَة بني المصطلق فَأعْتقهَا وَتَزَوجهَا. وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن عمر، ثمَّ رُوِيَ عَن عَائِشَة كَيفَ كَانَ عتاقه جوَيْرِية الَّتِي تزَوجهَا عَلَيْهِ وَجعله صَدَاقهَا. قَالَت: لما أصَاب رَسُول الله سَبَايَا بني المصطلق وَقعت جوَيْرِية بنت الْحَارِث فِي سهم ثَابت بن قيس بن شماس، أَو لِابْنِ عَم لَهُ، فكاتبت على نَفسهَا. قَالَت: وَكَانَت امْرَأَة حلوة ملاحة لَا يكَاد يَرَاهَا أحد إلاَّ أخذت بِنَفسِهِ، فَأَتَت رَسُول الله لتستعينه فِي كتَابَتهَا، فوا مَا هِيَ إلاَّ إِن رَأَيْتهَا على بَاب الْحُجْرَة، وَعرفت أَنه سيرى مِنْهَا مثل مَا رَأَيْت، فَقَالَت: يَا رَسُول اأنا جوَيْرِية. بنت الْحَارِث بن أبي ضرار سيد قومه، وَقد أصابني من الْأَمر مَا لم يخف عَلَيْك، فَوَقَعت فِي سهم ثَابت بن قيس بن شماس، أَو ابْن عَم لَهُ، فكاتبته، فَجئْت رَسُول الله أَسْتَعِينهُ على كتابتي. فَقَالَ: فَهَل لَك فِي خير من ذَلِك؟ قَالَت: وَمَا هُوَ يَا رَسُول ا؟ قَالَ أَقْْضِي عَنْك كتابتك وأتزوجك؟ قَالَت: نعم. قَالَ: فقد فعلت.
وَخرج الْخَبَر إِلَى النَّاس أَن رَسُول الله تزوج جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فَقَالُوا: صهر رَسُول ا، فأرسلوا مَا فِي أَيْديهم. قَالَت: فَلَقَد أعتق بتزويجه إِيَّاهَا مائَة من أهل بَيت من بني المصطلق، فَلَا نعلم امْرَأَة كَانَت أعظم بركَة على قَومهَا مِنْهَا. وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد، وَفِيه أَيْضا حكم يخْتَص بِالنَّبِيِّ دون غَيره، وَهُوَ أَن يُؤَدِّي كِتَابَة مُكَاتبَة غَيره لتعتق بذلك، وَيكون عتقه مهرهَا لتَكون زَوجته، فَهَذَا لَا يجوز: لأحد غير النَّبِي، وَهَذَا إِذا كَانَ جَائِزا للنَّبِي فَجعله عتق الَّذِي تولى عتقه هُوَ مهْرا لمن أعْتقهُ أولى وَأَحْرَى أَن يجوز. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ القَاضِي البرني: قَالَ لي يحيى بن أكتم: هَذَا كَانَ للنَّبِي خَاصَّة، وَكَذَا رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَنه حمله على التَّخْصِيص، وَمَوْضِع التَّخْصِيص أَنه أعْتقهَا مُطلقًا ثمَّ تزَوجهَا على غير مهر.
قَوْله: (حلوة) ، بِالضَّمِّ من: الْحَلَاوَة. قَوْله: (ملاحة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، مَعْنَاهُ: شَدِيدَة الملاحة، وَهُوَ من أبنية الْمُبَالغَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَكَانَت امْرَأَة ملاحة، بتَخْفِيف اللَّام، أَي: ذَات ملاحة، وفعال مُبَالغَة فِي فعيل، نَحْو كريم وكرام، وكبير وكبار، وفعال بِالتَّشْدِيدِ أبلغ مِنْهُ، وَقد ناقش ابْن حزم فِي هَذَا الْموضع مناقشة عَظِيمَة، وخلاصة مَا ذكره أَنه قَالَ: دَعْوَى الخصوصية بِالنَّبِيِّ فِي هَذَا الْموضع كذب، وَالْأَحَادِيث الَّتِي ذكرت هَهُنَا غير صَحِيحَة، وَقد ردينا عَلَيْهِ فِي جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَعَلَيهِ بالمراجعة إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن الزفاف فِي اللَّيْل، وَقد جَاءَ أَنه دخل عَلَيْهَا نَهَارا فَفِيهِ جَوَاز الْأَمريْنِ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على مطلوبية الْوَلِيمَة للعرس، وَأَنَّهَا بعد الدُّخُول، وَقَالَ الثَّوْريّ: وَيجوز قبله وَبعده، وَالْمَشْهُور عندنَا أَنَّهَا سنة، وَقيل: وَاجِبَة، وَعِنْدنَا إِجَابَة الدعْوَة سنة سَوَاء كَانَت وَلِيمَة أَو غَيرهَا، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمَالك فِي رِوَايَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِجَابَة وَلِيمَة الْعرس وَاجِبَة، وَغَيرهَا مُسْتَحبَّة، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، والوليمة: عبارَة عَن الطَّعَام الْمُتَّخذ للعرس، مُشْتَقَّة من: الولم، وَهُوَ الْجمع، لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فَتكون الْوَلِيمَة خَاصَّة بِطَعَام الْعرس، لِأَنَّهُ طَعَام الزفاف، والوكيرة: طَعَام الْبناء، والخرس طَعَام الْولادَة، وَمَا تطعمه النُّفَسَاء نَفسهَا خرسة، والإعذار طَعَام الْخِتَان، والنقيعة طَعَام القادم من سَفَره، وكل طَعَام صنع لدَعْوَة مأدبة ومأدبة جَمِيعًا، والدعوة الْخَاصَّة: التقري، والعامة: الجفلى والأجفلى.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إدلال الْكَبِير لأَصْحَابه وَطلب طعامهم. فِي نَحْو هَذَا، ويستجب لأَصْحَاب الزَّوْج وجيرانه مساعدته فِي الْوَلِيمَة بِطَعَام من عِنْدهم. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْوَلِيمَة تحصل بِأَيّ طَعَام كَانَ، وَلَا تتَوَقَّف على شَاة، وَالسّنة تقوم بِغَيْر لحم، وَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
31 - (بابٌ فِي كَمْ تصَلِّي المَرْأةُ مِنَ الثِّيابِ)
بَاب منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا بَاب، وَلَفظ: كم، لَهَا الصدارة سَوَاء كَانَت استفهامية أَو خبرية، وَلم تبطل صدارتها هَهُنَا لِأَن الْجَار وَالْمَجْرُور فِي حكم كلمة وَاحِدَة، ومميز: كم، مَحْذُوف تَقْدِيره: كم ثوبا.(4/88)
وقالَ عِكْرَمَةُ لَوْ وَارَتْ جَسَدَها فِي ثَوْبٍ لأَجَزْتُهُ.
عِكْرِمَة: هَذَا هُوَ مولى ابْن عَبَّاس، أحد فُقَهَاء مَكَّة، هَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق وَلَفظه: (لَو أخذت الْمَرْأَة ثوبا فَتَقَنَّعت بِهِ حَتَّى لَا يرى من جَسدهَا شَيْء أَجْزَأَ عَنْهَا) ، وروى ابْن أبي شيبَة حدّثنا أَبُو أُسَامَة عَن الْجريرِي عَن عِكْرِمَة، قَالَ: (تصلي الْمَرْأَة فِي درع وخمار خصيف) ، وحدّثنا أبان بن صمعة عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الْقَمِيص الْوَاحِد إِذا كَانَ صفيقاً) وَذكر عَن مَيْمُونَة أَنَّهَا صلت فِي درع وخمار، وَمن طَرِيق أُخْرَى صَحِيحَة أَنَّهَا صلت فِي درع وَاحِد فضلا، وَقد وضعت بعض كمها على رَأسهَا، وَمن طَرِيق مَكْحُول عَن عَائِشَة، وَعلي: تصلي فِي درع سابغ وخمار، وَكَذَا رُوِيَ عَن أم سَلمَة من طَرِيق أم مُحَمَّد بن زيد بن مهَاجر بن قنفذ، وَمن حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد: لَا تصلي الْمَرْأَة فِي أقل من أَرْبَعَة أَثوَاب، وَعَن الحكم: فِي درع وخمار وَعَن حَمَّاد درع وَمِلْحَفَة تغطي رَأسهَا. قَوْله: (لَو وارت) أَي: سترت وغطت جَازَ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لأجزأته) ، بِفَتْح لَام التَّأْكِيد وَسُكُون الْجِيم من الْإِجْزَاء.
27383 - ح دّثنا أبُو الْيَمَان قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قالَ أخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ لَقَدْ كانَ رسولُ اللَّهِ يُصَلِّي الفجْرَ فَيشْهَدُ مَعَهُ نِساءٌ مِنَ المُؤْمِناتِ مُتَلَفِّعاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ ثمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ..
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (متلفعات فِي مُرُوطهنَّ) لِأَن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ صلاتهن فِي مروط، والمرط ثوب وَاحِد كَمَا سنفسره عَن قريب.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ بن مُحَمَّد بن مُسلم، وَعُرْوَة بن الزبير وَعَائِشَة رَضِي اعنها، وَالْكل تقدمُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: ان رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد ابْن يُوسُف والقعنبي، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن نصر بن عَليّ وَإِسْحَاق بن مُوسَى، كِلَاهُمَا عَن معن بن عِيسَى، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن ماجة من حَدِيث عُرْوَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لقد كَانَ) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف. قَوْله: (تشهد) أَي: تحضر، وَالنِّسَاء من الْجمع الَّذِي لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَهُوَ جمع امْرَأَة. قَوْله: (ملتفعات) نصب على الْحَال من النِّسَاء من التلفع، بِالْفَاءِ وَالْعين الْمُهْملَة، أَي: ملتحفات، وَرُوِيَ بِالْفَاءِ المكررة بدل الْعين، وَالْأَكْثَر على خِلَافه. قَالَ الْأَصْمَعِي: التلفع بِالثَّوْبِ أَن يشْتَمل بِهِ حَتَّى يُجَلل بِهِ جسده، وَهُوَ اشْتِمَال الصماء عِنْد الْعَرَب، لِأَنَّهُ لم يرفع جانباً مِنْهُ فَيكون فِيهِ فُرْجَة، وَهُوَ عِنْد الْفُقَهَاء مثل الاضطباع، إلاَّ أَنه فِي ثوب وَاحِد وَعَن يَعْقُوب: اللفاع: الثَّوْب تلتفع بِهِ الْمَرْأَة أَي: تلتحف بِهِ فيغيبها، وَعَن كرَاع وَهُوَ الملفع أَيْضا، وَعَن ابْن دُرَيْد: اللفاع الملحفة أَو الكساء، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ الكساء، وَعَن صَاحب (الْعين) : تلفع بِثَوْبِهِ إِذا اضطبع بِهِ، وتلفع الرجل بالشيب كَأَنَّهُ غطى سَواد رَأسه ولحيته. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) : التلفع أَن يلقِي الثَّوْب على رَأسه ثمَّ يلتف بِهِ، لَا يكون الالتفاع إلاَّ بتغطية الرَّأْس، وَقد أَخطَأ من قَالَ الالتفاع مثل الاشتمال. وَأما التلفف فَيكون مَعَ تَغْطِيَة الرَّأْس وكشفه، وَفِي (الْمُحكم) الملفعة مَا يلفع بِهِ من رِدَاء أَو لِحَاف أَو قناع. وَفِي (المغيث) : وَقيل: اللفاع النطع، وَقيل: الكساء الغليظ، وَفِي (الصِّحَاح) لفع رَأسه تلفيعاً أَي: غطاه.
قَوْله: (فِي مُرُوطهنَّ) المروط جمع مرط بِكَسْر الْمِيم، قَالَ الْقَزاز: المرط ملحفة يتزر بهَا. وَالْجمع أمراط ومروط، وَقيل: يكون المرط كسَاء من خَز أَو صوف أَو كتَّان وَفِي (الصِّحَاح) : المرط بِالْكَسْرِ. وَفِي (الْمُحكم) وَقيل: هُوَ الثَّوْب الْأَخْضَر. وَفِي (مجمع الغرائب) أكسية من شعر أسود وَعَن الْخَلِيل، هِيَ أكسية معلمة. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْإِزَار، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: لَا يكون المرط إلاَّ درعاً، وَهُوَ من خَز أَخْضَر، وَلَا يُسمى المرط إِلَّا أَخْضَر، وَلَا يلْبسهُ النِّسَاء. وَقَالَ عبد الْملك فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : هُوَ(4/89)
كسَاء صوف رَقِيق خَفِيف مربع، كن النِّسَاء فِي ذَلِك الزَّمَان يتزرن بِهِ ويلتفعن. قَوْله: (مَا يعرفهن أحد) وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) : يَعْنِي من الْغَلَس، وَعند مُسلم: (مَا يعرفن من الْغَلَس. ثمَّ عدم معرفتهن يحْتَمل أَن يكون لبَقَاء ظلمَة من اللَّيْل، أَو لتغطيهن بالمروط غَايَة التغطي، وَقيل: معنى مَا يعرفهن أحد، يَعْنِي مَا يعرف أعيانهن، وَهَذَا بعيد، وَالْأَوْجه فِيهِ أَن يُقَال: مَا يعرفهن أحد، أَي: أنساء هن أم رجال؟ وَإِنَّمَا يظْهر للرائي الأشباح خَاصَّة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام مِنْهَا: هُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ، وَهُوَ أَن الْمَرْأَة إِذا صلت فِي ثوب وَاحِد بالالتفاع جَازَت صلَاتهَا، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ بِهِ على ذَلِك. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون التفاعهن فِي مُرُوطهنَّ فَوق ثِيَاب أُخْرَى، فَلَا يتم لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ. قلت: الحَدِيث سَاكِت عَن هَذَا بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن الأَصْل عدم الزِّيَادَة، واختياره يُؤْخَذ فِي عَادَته من الْآثَار الَّتِي يترجم بهَا، وَهَذَا الْبَاب مُخْتَلف فِيهِ. قَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي عدد مَا تصلي فِيهِ الْمَرْأَة من الثِّيَاب، فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: تصلي فِي درع وخمار، وَقَالَ عَطاء: فِي ثَلَاثَة درع وَإِزَار وخمار. وَقَالَ ابْن سِيرِين. فِي أَرْبَعَة، الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، وَمِلْحَفَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: عَلَيْهَا أَن تستر جَمِيع بدنهَا إلاَّ وَجههَا وكفيها، سَوَاء سترته بِثَوْب وَاحِد أَو أَكثر، وَلَا أَحسب مَا رُوِيَ من الْمُتَقَدِّمين من الْأَمر: بِثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة، إلاَّ من طَرِيق الِاسْتِحْبَاب. وَزعم أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن كل شَيْء من الْمَرْأَة عَورَة حَتَّى ظفرها، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: قدم الْمَرْأَة عَورَة، فَإِن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فِي الْوَقْت عِنْد مَالك، وَكَذَلِكَ إِذا صلت وشعرها مَكْشُوف. وَعند الشَّافِعِي تعيد أبدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: قدم الْمَرْأَة لَيست بِعَوْرَة فَإِن صلت وقدمها مكشوفة صحت صلَاتهَا. وَلَكِن فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة.
وَمِنْهَا: أَنه احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق أَن الْأَفْضَل فِي صَلَاة الصُّبْح التغليس، وَلنَا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب رويت عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: رَافع بن خديج، روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (أَصْبحُوا بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لأجركم أَو أعظم لِلْأجرِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا. وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا. قَوْله: (أَصْبحُوا بالصبح) أَي: نوروا بِهِ، ويروى: (أَصْبحُوا بِالْفَجْرِ) ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَلَفظه: (أسفروا بِصَلَاة الصُّبْح فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَفِي لفظ لَهُ: (فَكلما أَصْبَحْتُم بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لأجركم) . وَفِي لفظ للطبراني: (فَكلما أسفرتم بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم: مَحْمُود بن لبيد، روى حَدِيثه أَحْمد فِي مُسْنده. نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد، وَلم يذكر فِيهِ رَافع بن خديج، ومحمود بن لبيد صَحَابِيّ مَشْهُور. كَذَا قيل: قلت: قَالَ الْمزي: مَحْمُود بن لبيد بن عصمَة بن رَافع بن امرىء الْقَيْس الأوسي، ثمَّ الأشْهَلِي. ولد على عهد رَسُول ا، وَفِي صحبته خلاف. انْتهى. قلت: ذكره مُسلم فِي التَّابِعين فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة، وَذكر ابْن أبي حَاتِم أَن البُخَارِيّ قَالَ: لَهُ صُحْبَة. قَالَ: وَقَالَ أبي: لَا يعرف لَهُ صُحْبَة. وَقَالَ أَبُو عمر: قَول البُخَارِيّ أولى، فعلى هَذَا يحْتَمل أَنه سمع هَذَا الحَدِيث من رَافع أَولا، فَرَوَاهُ عَنهُ ثمَّ سَمعه من النَّبِي فَرَوَاهُ عَنهُ، إلاَّ أَن فِي طَرِيق أَحْمد عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، وَفِيه ضعف. وَمِنْهُم: بِلَال، روى حَدِيثه الْبَزَّار فِي مُسْنده نَحْو حَدِيث رَافع، وَفِيه: أَيُّوب بن يسَار، وَقَالَ الْبَزَّار: فِيهِ ضعف. وَمِنْهُم: أنس، روى حَدِيثه الْبَزَّار أَيْضا عَنهُ مَرْفُوعا. وَلَفظه: (أسفروا بِصَلَاة الصُّبْح فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم: قَتَادَة ابْن النُّعْمَان، روى حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه من حَدِيث عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة بن النُّعْمَان عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا نَحوه، وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا. وَمِنْهُم: ابْن مَسْعُود، روى حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَنهُ مَرْفُوعا نَحوه. وَمِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة، روى حَدِيثه ابْن حبَان عَنهُ مَرْفُوعا. وَمِنْهُم: رجال من الْأَنْصَار، أخرج حَدِيثهمْ النَّسَائِيّ من حَدِيث مَحْمُود بن لبيد عَن رجال من قومه من الْأَنْصَار، أَن النَّبِي قَالَ: (أسفروا بالصبح فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) . وَمِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي اعنهما، أخرج حَدِيثهمَا الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث حَفْص بن سُلَيْمَان عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة: (لَا تزَال أمتِي على الْفطْرَة مَا أسفروا بِالْفَجْرِ) . وَمِنْهُم: أَبُو الدَّرْدَاء أخرجه أَبُو إِسْحَاق وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبيد من حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: (أسفروا بِالْفَجْرِ تفقهوا) . وَمِنْهُم: حَوَّاء الْأَنْصَارِيَّة، أخرج حَدِيثهَا الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن بجيد الْحَارِثِيّ عَن جدته الْأَنْصَارِيَّة، وَكَانَت من المبايعات، قَالَت: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: (أسفروا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أعظم لِلْأجرِ) ، وَابْن بجيد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْجِيم بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة: ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وجدته(4/90)
حَوَّاء بنت زيد بن السكن أُخْت أَسمَاء بنت زيد بن السكن.
فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكون الْإِسْفَار وَاجِبا لمقْتَضى الْأَوَامِر فِيهِ قلت: الْأَمر إِنَّمَا يدل على الْوُجُوب إِذا كَانَ مُطلقًا مُجَردا عَن الْقَرَائِن الصارفة إِلَى غَيره، وَهَذِه الْأَوَامِر لَيست كَذَلِك فَلَا تدل إلاَّ على الِاسْتِحْبَاب. فَإِن قلت: قد يؤول الِاسْتِحْبَاب فِي هَذِه الْأَحَادِيث بِظُهُور الْفجْر، وَقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق: معنى الْإِسْفَار أَن يصبح الْفجْر، وَلَا يشك فِيهِ، وَلم يرَوا أَن الْإِسْفَار تَأْخِير الصَّلَاة. قلت: هَذَا التَّأْوِيل غير صَحِيح، فَإِن الْغَلَس الَّذِي يَقُولُونَ بِهِ هُوَ اخْتِلَاط ظلام اللَّيْل بِنور النَّهَار، كَمَا ذكره أهل اللُّغَة، وَقبل ظُهُور الْفجْر لَا تصح صَلَاة الصُّبْح، فَثَبت أَن المُرَاد بالإسفار إِنَّمَا هُوَ التَّنْوِير، وَهُوَ التَّأْخِير عَن الْغَلَس وَزَوَال الظلمَة، وَأَيْضًا فَقَوله: (أعظم لِلْأجرِ) يقْضِي حُصُول الْأجر فِي الصَّلَاة بالغلس، فَلَو كَانَ الْإِسْفَار هُوَ وضوح الْفجْر وظهوره لم يكن فِي وَقت الْغَلَس أجر، لِخُرُوجِهِ عَن الْوَقْت، وَأَيْضًا يبطل تأويلهم ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مسانيدهم، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) من حَدِيث رَافع بن خديج، قَالَ: قَالَ رَسُول الله لِبلَال: (يَا بِلَال نوّر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى يبصر الْقَوْم مواقع نبلهم من الْإِسْفَار) . وَحَدِيث آخر يبطل تأويلهم رَوَاهُ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن ثَابت السَّرقسْطِي فِي كِتَابه (غَرِيب الحَدِيث) : حدّثنا مُوسَى بن هَارُون، حدّثنا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى حدّثنا الْمُعْتَمِر سَمِعت بَيَانا أخبرنَا سعيد، قَالَ: سَمِعت أنسا يَقُول: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الصُّبْح حِين يفسح الْبَصَر) . انْتهى. يُقَال: فسح الْبَصَر وَانْفَسَحَ إِذا رأى الشَّيْء عَن بعد، يَعْنِي بِهِ إسفار الصُّبْح. فَإِن قلت: قد قيل: إِن الْأَمر بالإسفار إِنَّمَا جَاءَ فِي اللَّيَالِي المقمرة، لِأَن الصُّبْح لَا يستبين فِيهَا جدا فَأَمرهمْ بِزِيَادَة التبين استظهاراً بِالْيَقِينِ فِي الصَّلَاة. قلت: هَذَا تَخْصِيص بِلَا مُخَصص، وَهُوَ بَاطِل، وَيَردهُ أَيْضا مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: مَا اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على التَّنْوِير بِالْفَجْرِ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) بِسَنَد صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَلَا يَصح أَن يجتمعوا على خلاف مَا كَانَ رَسُول ا. فَإِن قلت: قد قَالَ ابْن حزم: خبر الْأَمر بالإسفار صَحِيح، إلاَّ أَنه لَا حجَّة لكم فِيهِ إِذا أضيف إِلَى الثَّابِت من فعله فِي التغليس، حَتَّى إِنَّه لينصرف وَالنِّسَاء لَا يعرفن. قلت: الثَّابِت من فعله فِي التغليس لَا يدل على الْأَفْضَلِيَّة، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون غَيره أفضل مِنْهُ، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك للتوسعة على أمته، بِخِلَاف الْخَبَر الَّذِي فِيهِ الْأَمر، لِأَن قَوْله: (أعظم لِلْأجرِ) أفعل التَّفْضِيل، فَيَقْتَضِي أَجْرَيْنِ: أَحدهمَا أكمل من الآخر، لِأَن صِيغَة: أفعل، تَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الأَصْل مَعَ رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ، فحينئذٍ يَقْتَضِي هَذَا الْكَلَام حُصُول الْأجر فِي الصَّلَاة بالغلس، وَلَكِن حُصُوله فِي الْإِسْفَار أعظم وأكمل مِنْهُ، فَلَو كَانَ الْإِسْفَار لأجل تقصي طُلُوع الْفجْر لم يكن فِي وَقت الْغَلَس أجر لِخُرُوجِهِ عَن الْوَقْت.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (أَنه صلى الصُّبْح بِغَلَس، ثمَّ صلى مرّة أُخْرَى فأسفر بهَا ثمَّ كَانَت صلَاته بعد ذَلِك بالغلس حَتَّى مَاتَ، لم يعد إِلَى أَن يسفر) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) ، كِلَاهُمَا من حَدِيث أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ. قلت: يرد هَذَا مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (مَا رَأَيْت رَسُول ا، صلى صَلَاة لغير وَقتهَا إِلَّا بِجمع، فَإِنَّهُ يجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى صَلَاة الصُّبْح من الْغَد قبل وَقتهَا) . انْتهى. قَالَت الْعلمَاء: يَعْنِي: وَقتهَا الْمُعْتَاد فِي كل يَوْم، لَا أَنه صلاهَا قبل الْفجْر، وَإِنَّمَا غلس بهَا جدا، ويوضحه رِوَايَة البُخَارِيّ: (وَالْفَجْر حِين بزغ) ، وَهَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ يسفر بِالْفَجْرِ دَائِما، وَقل مَا صلاهَا بِغَلَس، وَبِه اسْتدلَّ الشَّيْخ فِي (الإِمَام) لِأَصْحَابِنَا. على أَن أُسَامَة بن زيد قد تكلم فِيهِ، فَقَالَ أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
فَإِن قلت: قد قَالَ الْبَيْهَقِيّ، رجح الشَّافِعِي حَدِيث عَائِشَة بِأَنَّهُ أشبه بِكِتَاب اتعالى، لِأَن اتعالى، يَقُول: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} (الْبَقَرَة: 832) فَإِذا دخل الْوَقْت فَأولى الْمُصَلِّين بالمحافظة الْمُقدم للصَّلَاة، وَإِن رَسُول الله لَا يَأْمر بِأَن يُصَلِّي صَلَاة فِي وَقت يُصليهَا هُوَ فِي غَيره، وَهَذَا أشبه بسنن رَسُول ا. قلت: المُرَاد من الْمُحَافظَة هُوَ المداومة على إِقَامَة الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيل على أَن أول الْوَقْت أفضل، بل الْآيَة دَلِيل لنا. لِأَن الَّذِي يسفر بِالْفَجْرِ يترقب الْإِسْفَار فِي أول الْوَقْت، فَيكون هُوَ المحافظ المداوم على الصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ رُبمَا تقع صلَاته فِي التغليس قبل الْفجْر، فَلَا يكون محافظاً للصَّلَاة فِي وَقتهَا. فَإِن قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث:(4/91)
(أول الْوَقْت رضوَان اوآخره عَفْو ا) ، وَهُوَ لَا يُؤثر على رضوَان اشيئاً، وَالْعَفو لَا يكون عَن تَقْصِير. قلت: المُرَاد من الْعَفو الْفضل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} (الْبَقَرَة: 912) أَي: الْفضل، فَكَانَ معنى الحَدِيث، وَا أعلم، أَن من أدّى الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فقد نَالَ رضوَان ا، وَأمن من سخطه وعذابه لامتثال أمره، وأدائه مَا وَجب عَلَيْهِ، وَمن أدّى فِي آخر الْوَقْت فقد نَالَ فضل ا، ونيل فضل الا يكون بِدُونِ الرضْوَان، فَكَانَت هَذِه الدرجَة أفضل من تِلْكَ. فَإِن قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث: (وَسُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ: الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا) . وَهُوَ لَا يدع مَوضِع الْفضل وَلَا يَأْمر النَّاس إلاَّ بِهِ.
قلت: ذكر الأول للحث والتحضيض والتأكيد على إِقَامَة الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا، وإلاَّ فَالَّذِي يُؤَدِّي فِي ثَانِي الْوَقْت أَو فِي ثَالِثَة أَو رَابِعَة كَالَّذي يُؤَدِّيهَا فِي أَوله لَا أَن الْجُزْء الأول لَهُ مزية على الْجُزْء الثَّانِي أَو الثَّالِث أَو الرَّابِع، فحاصل الْمَعْنى: الصَّلَاة فِي وَقتهَا أفضل الْأَعْمَال، ثمَّ يتَمَيَّز الْجُزْء الثَّانِي فِي صَلَاة الصُّبْح عَن الْجُزْء الأول بِالْأَمر الَّذِي فِيهِ الْإِسْفَار الَّذِي يَقْتَضِي التَّأْخِير عَن الْجُزْء الأول. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي فِي حَدِيث رَافع: لَهُ وَجه لَا يُوَافق حَدِيث عَائِشَة وَلَا يُخَالِفهُ، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله لما حض النَّاس على تَقْدِيم الصَّلَاة، وَأخْبر بِالْفَضْلِ فِيهِ، احْتمل أَن يكون من الراغبين من يقدمهَا قبل الْفجْر الآخر، فَقَالَ: أسفروا بِالْفَجْرِ حَتَّى يتَبَيَّن الْفجْر الآخر، مُعْتَرضًا، فَأَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَا يرى الْخُرُوج من الشَّك حَتَّى يُصَلِّي الْمُصَلِّي بعد تبين الْفجْر، فَأَمرهمْ بالإسفار أَي: بالتبيين. قلت: يرد هَذَا التَّأْوِيل ويبطله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن رَافع، قَالَ: قَالَ رَسُول الله لِبلَال: (يَا بِلَال نوِّر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تبصر الْقَوْم مَوَاضِع نبلهم من الْإِسْفَار) . وَقد مر هَذَا عَن قريب. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حَازِم فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) : قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الْإِسْفَار بِصَلَاة الصُّبْح والتغليس بهَا، فَرَأى بَعضهم الْإِسْفَار هُوَ الْأَفْضَل، وَذهب إِلَى قَوْله: (أَصْبحُوا بالصبح) ، وَرَوَاهُ محكماً، وَزعم الطَّحَاوِيّ أَن حَدِيث الْإِسْفَار نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يدْخلُونَ مغلسين وَيخرجُونَ مسفرين، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن حَدِيث التغليس ثَابت، وَأَن النَّبِي داوم عَلَيْهِ حَتَّى فَارق الدُّنْيَا.
قلت: يرد هَذَا مَا روينَاهُ من حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَذكرنَا أَن فِيهِ دَلِيلا على أَنه، كَانَ يسفر بِالْفَجْرِ دَائِما، وَالْأَمر مثل مَا ذكره الطَّحَاوِيّ وَلَيْسَ مثل مَا ذكره ابْن حَازِم، بَيَان ذَلِك أَن اتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، بعد النَّبِي، على الْإِسْفَار بالصبح، على مَا ذكره الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: (مَا اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على التَّنْوِير) دَلِيل وَاضح على نسخ حَدِيث التغليس، لِأَن إِبْرَاهِيم أخبر أَنهم كَانُوا اجْتَمعُوا على ذَلِك، فَلَا يجوز عندنَا، وَا أعلم، اجْتِمَاعهم على خلاف مَا قد فعله النَّبِي، إلاَّ بعد نسخ ذَلِك وَثُبُوت خِلَافه، وَالْعجب من بعض شرَّاح البُخَارِيّ أَنه يَقُول: وَوهم الطَّحَاوِيّ حَيْثُ ادّعى أَن حَدِيث: (أسفروا. .) نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَلَيْسَ الواهم إلاَّ هُوَ، وَلَو كَانَ عِنْده إِدْرَاك مدارك الْمعَانِي لما اجترأ على مثل هَذَا الْكَلَام.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على خُرُوج النِّسَاء، وَهُوَ جَائِز بِشَرْط أَمن الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ أَو بِهن، وَكَرِهَهُ بَعضهم للشواب، وَعند أبي حنيفَة تخرج الْعَجَائِز لغير الظّهْر وَالْعصر، وَعِنْدَهُمَا: يخْرجن للْجَمِيع، وَالْيَوْم يكره للْجَمِيع، للعجائز والشواب، لظُهُور الْفساد وَعُمُوم الْفِتْنَة. وَا أعلم.
41 - (بابٌ إذَا صَلَّى فِي ثَوْب لهُ أعْلاَمٌ وَنَظَر إِلَى عَلَمِها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صلى شخص وَهُوَ لابس ثوبا وَله أَعْلَام، وَنظر إِلَى أَعْلَامه، هَل يكره ذَلِك أم لَا؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَنظر إِلَى علمه، وَفِي بَعْضهَا: إِلَى علمهَا، والتأنيث فِيهِ بِاعْتِبَار الخميصة، وَنَقله بَعضهم عَنهُ بِالْعَكْسِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي فِي رِوَايَة: وَنظر إِلَى علمه، والأعلام جمع علم، بِفَتْح اللَّام.
37393 - ح دّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ قالَ حدّثنا ابنُ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ النبيَّ صلَّى فِي خمِيصةٍ لَها أعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أعْلاَمِها نَظْرَةً(4/92)
فَلَمَّا انْصَرَف قالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أبي جَهْمٍ وأتُونِي بأنْبِجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ فإِنَّهَا ألْهَتْنِي آنِفاً عنْ صَلاَتي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة. وَأحمد بن عبد ابْن يُونُس وينسب إِلَى جده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون ومدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو النَّاقِد، وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان. وَأخرجه ابْن ماجة فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: (فِي خميصة) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة: وَهِي كسَاء أسود مربع لَهُ علمَان أَو أَعْلَام، وَيكون من خَز أَو صوف، وَلَا يُسمى خميصة إلاَّ أَن تكون سَوْدَاء معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وَصغر حجمها إِذا طويت، مَأْخُوذ من الخمص وَهُوَ: ضمور الْبَطن. وَقَالَ ابْن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الخميصة كسَاء صوف أَو مَرْعَزِيٌّ معلم الصَّنْعَة. قَوْله: (لَهَا أَعْلَام) جملَة وَقعت صفة لخميصة، والأعلام جمع: علم، بِفتْحَتَيْنِ، وَقد فسرناه عَن قريب. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) ، أَي: من صلَاته واستقبال الْقبْلَة. قَوْله: (إِلَى أبي جهم) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء: واسْمه عَامر بن حُذَيْفَة الْعَدوي الْقرشِي الْمدنِي الصَّحَابِيّ. وَقيل: اسْمه عبيد، أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ مُعظما فِي قُرَيْش وعالماً بِالنّسَبِ، شهد بُنيان الْكَعْبَة مرَّتَيْنِ، مَاتَ فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهُوَ غير أبي جهيم، المصغر الْمَذْكُور فِي الْمُرُور.
قَوْله: (بأنبجانية أبي جهم) ، قد اخْتلفُوا فِي ضبط هَذَا اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، فَقيل: بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم وَبعد النُّون يَاء النِّسْبَة. وَقَالَ ثَعْلَب: يُقَال كَبْش إنبجاني، بِكَسْر الْيَاء وَفتحهَا إِذا كَانَ ملتفاً كثير الصُّوف، وَكسَاء أنبجاني، كَذَلِك وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى منبج فتحت الْبَاء فَقلت: كسَاء منبجاني، أَخْرجُوهُ مخرج: مخبراني ومنظراني، وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي (لحن الْعَامَّة) : لَا يُقَال: كسَاء أنبجاني، وَهَذَا مِمَّا تخطىء فِيهِ الْعَامَّة، وَإِنَّمَا يُقَال: منبجاني، بِفَتْح الْمِيم وَالْبَاء. قَالَ: وَقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الْبَاء وَإِنَّمَا نسب إِلَى منبح بِالْكَسْرِ؟ قَالَ: خرج مخرج: منظراني ومخبراني. قَالَ: وَالنّسب مِمَّا يُغير الْبناء، وَقَالَ الْقَزاز فِي (الْجَامِع) : والنباج مَوضِع تنْسب إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الجمهرة) : ومنبج مَوضِع أعجمي، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب ونسبوا إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الْمُحكم) أَن منبج مَوضِع، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْمِيم، فِيهِ زَائِدَة بِمَنْزِلَة: الْألف، لِأَنَّهَا إِنَّمَا كثرت مزيدة أَولا، فموضوع زيادتها كموضع الْألف وَكَثْرَتهَا ككثرتها إِذا كَانَت أَولا فِي الِاسْم وَالصّفة، وَكَذَلِكَ النباج، وهما نباجان: نباج نَبْتَل ونباج بن عَامر، و: كسَاء منبجاني، مَنْسُوب إِلَيْهِ على غير قِيَاس. وَفِي (المغيث) : الْمَحْفُوظ كسر بَاء الأنبجانية، وَقَالَ ابْن الْحصار فِي (تقريب المدارك) : من زعم أَنه مَنْسُوب إِلَى منبج فقد وهم. قلت: منبج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره جِيم: بَلْدَة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الَّذِي غلب على الشَّام، وسماها: مُنَبّه، وَبنى بهَا بَيت نَار ووكل بهَا رجلا، فعربت فَقيل: منبج، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: منبجي، على الأَصْل: ومنبجاني على غير قِيَاس، وَالْبَاء تفتح فِي النِّسْبَة كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى: صدف، بِكَسْر الدَّال: صدفي بِفَتْحِهَا. وَمن هَذَا قَالَ ابْن قرقول: نِسْبَة إِلَى منبج، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: أنبجان، وَعَن هَذَا قَالَ ثَعْلَب: يُقَال كسَاء أنبجاني، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب فِي لفظ الحَدِيث، وَأما تَفْسِيرهَا، فَقَالَ عبد الْملك بن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : هِيَ كسَاء غليظ تشبه الشملة يكون سداه قطناً غليظاً أَو كتاناً غليظاً، وَلحمَته صوف لَيْسَ بالمبرم، فِي فتله لين، غليظ يلتحف بِهِ فِي الْفراش، وَقد يشْتَمل بهَا فِي شدَّة الْبرد. وَقيل: هِيَ من أدوان الثِّيَاب الغليظة تتَّخذ من الصُّوف، وَيُقَال: هُوَ كسَاء غليظ لَا علم لَهُ، فَإِذا كَانَ للكساء علم فَهُوَ خميصة، وَإِن لم يكن فَهُوَ أنبجانية.
قَوْله: (ألهتني) أَي: أشغلتني، وَهُوَ من: الإلهاء، وثلاثيه: لهي الرجل عَن الشَّيْء يلهى عَنهُ إِذا غفل، وَهُوَ من بَاب: يعلم، وَأما: لَهَا يلهو إِذا لعب فَهُوَ من بَاب:(4/93)
نصر ينصر. وَفِي (الموعب) : وَقد لهى يلهو والتهى وألهاني عَنهُ، كَذَا ... أَي أنساني وشغلني. قَوْله: (آنِفا) أَي: قَرِيبا، واشتقاقه من الائتلاف بالشَّيْء أَي: الِابْتِدَاء بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْنَاف، وَمِنْه أنف كل شَيْء وَهُوَ أَوله. وَيُقَال: قلت آنِفا وسالفاً، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة، قَالَ ابْن الْأَثِير: قلت: الشَّيْء آنِفا فِي أول وَقت يقرب مني. قَوْله: (عَن صَلَاتي) أَي: عَن كَمَال الْحُضُور فِيهَا وتدبير أَرْكَانهَا وأذكارها، وَالِاسْتِقْصَاء فِي التَّوَجُّه إِلَى جناب الجبروت.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز لبس الثَّوْب الْمعلم وَجَوَاز الصَّلَاة فِيهِ. وَفِيه: أَن اشْتِغَال الْفِكر الْيَسِير فِي الصَّلَاة غير قَادِح فِيهَا، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن الصَّلَاة تصح وَإِن حصل فِيهَا فكر مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلقا بِالصَّلَاةِ، وَالَّذِي حُكيَ عَن بعض السّلف أَنه مِمَّا يضر غير مُعْتَد بِهِ. وَفِيه: طلب الْخُشُوع فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا وَنفي كل مَا يشغل الْقلب ويلهي عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا: الْمُسْتَحبّ أَن يكون نظره إِلَى مَوضِع سُجُوده، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّعْظِيم من إرْسَال الطّرف يَمِينا وَشمَالًا. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى ترك كل مَا يلهي ويشغل الْقلب عَن الطَّاعَة والإعراض عَن زِينَة الدُّنْيَا والفتنة بهَا. وَفِيه: منع النّظر وَجمعه عَمَّا لَا حَاجَة بالشخص إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد كَانَ السّلف لَا يخطىء أَحدهمَا مَوضِع قَدَمَيْهِ، إِذا مَشى. وَفِيه: تكنية الْعَالم لمن دونه، وَكَذَلِكَ الإِمَام. وَفِيه: كَرَاهَة تزويق الْمِحْرَاب فِي الْمَسْجِد وحائطه ونقشه وَغير ذَلِك من الشاغلات. وَفِيه: قبُول الْهَدِيَّة من الْأَصْحَاب والإرسال إِلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بِهِ الْبَاجِيّ على صِحَة المعاطاة فِي الْعُقُود بِعَدَمِ ذكر الصِّيغَة، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أرسل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ أهداها إِيَّاه، فَلَمَّا ألهاه علمهَا أَي: شغله إِيَّاه عَن الصَّلَاة بِوُقُوع نظره على نقوش الْعلم، ردهَا، أَو تفكر فِي أَن مثل ذَلِك الرعونة الَّتِي لَا تلِيق بِهِ، ردهَا إِلَيْهِ واستبدل مِنْهُ أنبجانية كَيْلا يتَأَذَّى قلبه بردهَا إِلَيْهِ. وَفِيه: كَرَاهِيَة الْأَعْلَام الَّتِي يتعاطاه النَّاس على أردانهم. وَفِيه: أَن لصور الْأَشْيَاء الظَّاهِرَة تَأْثِيرا فِي النُّفُوس الطاهرة والقلوب الزكية.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ بعث بِشَيْء يكرههُ لنَفسِهِ إِلَى غَيره؟ وَأجِيب: بِأَن بعثها إِلَى أبي جهم لم يكن لما ذكر، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا كَانَت سَبَب غفلته وشغله عَن الْخُشُوع وَعَن ذكر ا، كَمَا قَالَ: أخرجُوا عَن هَذَا الْوَادي الَّذِي أَصَابَكُم فِيهِ الْغَفْلَة، فَإِنَّهُ وَاد بِهِ شَيْطَان، أَلا ترى إِلَى قَوْله لعَائِشَة فِي الضَّب: (إِنَّا لَا نتصدق بِمَا لَا نَأْكُل) وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أقوى خلق الرّفْع الوسوسة، وَلَكِن كرهها لدفع الوسوسة. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما بَعثه بالخميصة إِلَى أبي جهم وَطلب أنبجانيته فَهُوَ من بَاب الإدلال عَلَيْهِ لعلمه بِأَنَّهُ يفرح بِهِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تعْيين أبي جهم فِي الْإِرْسَال إِلَيْهِ؟ وَأجِيب بِأَن أَبَا جهم هُوَ الَّذِي أهداها لَهُ، فَلذَلِك ردهَا عَلَيْهِ. وروى الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ: حدّثنا مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه عَن عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: (أهْدى أَبُو جهم إِلَى النَّبِي خميصة شامية لَهَا علم، فَشهد فِيهَا النَّبِي الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: ردي هَذِه الخميصة إِلَى أبي جهم فَإِنَّهَا كَادَت تفتنني) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِير خاطره بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن بطال، وَالْأولَى من هَذَا مَا دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة أبي مُوسَى الْمدنِي: ردوهَا عَلَيْهِ وخذوا أنبجانيته، لِئَلَّا يُؤثر رد الْهَدِيَّة فِي قلبه. وَعند أبي دَاوُد. (شغلني أَعْلَام هَذِه، وَأخذ كرديا كَانَ لأبي جهم، فَقيل: يَا رَسُول االخميصة كَانَت خيرا من الْكرْدِي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى اسْتِعْمَال أبي جهم إِيَّاهَا فِي الصَّلَاة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ ذَلِك، وَمثله قَوْله فِي حلَّة عُطَارِد، حَيْثُ بعث بهَا إِلَى عمر: إِنِّي لم أبْعث بهَا إِلَيْك لتلبسها، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ الِانْتِفَاع بهَا من جِهَة بيع أَو إكساء لغيره من النِّسَاء. فَإِن قلت: لَيست قَضِيَّة أبي جهم مثل قَضِيَّة عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَم أبْعث بهَا إِلَيْك لكذا وَكَذَا، وَهِي إِذا ألهت سيد الْخلق مَعَ عصمته فَكيف لَا تلهي أَبَا جهم، على أَنه قيل: إِنَّه كَانَ أعمى فالإلهاء مَفْقُود عَنهُ. قلت: لَعَلَّه علم أَنه لَا يُصَلِّي فِيهَا، وَيحْتَمل أَن يكون خَاصّا بالشارع، كَمَا قَالَ: (كل فإنني أُنَاجِي من لَا تناجي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يخَاف الافتتان من لَا يلْتَفت إِلَى الأكوان {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} (النَّجْم: 71) وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خَارِجا عَن طباعه فَأشبه ذَلِك نظره من وَرَائه، فَأَما إِذا رد إِلَى طبعه البشري فَإِنَّهُ يُؤثر فِيهِ مَا يُؤثر فِي الْبشر.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن المراقبة شغلت خلقا من أَتْبَاعه حَتَّى إِنَّه وَقع السّقف إِلَى جَانب مُسلم بن يسَار وَلم يعلم. وَأجِيب: بِأَن أُولَئِكَ يؤخذون عَن طباعهم فيغيبون عَن وجودهم، وَكَانَ الشَّارِع يسْلك طَرِيق الْخَواص وَغَيرهم، فَإِذا سلك طَرِيق(4/94)
الْخَواص غير الْكل، فَقَالَ: (لست كأحدكم) ، وَإِذا سلك طَرِيق غَيرهم، قَالَ: (إِنَّمَا أَنا بشر) ، فَرد إِلَى حَالَة الطَّبْع، فَنزع الخميصة لَيْسَ بِهِ من ترك كل شاغل.
وقالَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ قالَ النَّبيُّ كنْتُ أنْظُرُ إِلَى عَلَمِها وَأَنا فِي الصَّلاَةِ فأخَافُ أنْ تَفْتِنَنِي.
قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف على قَوْله: قَالَ ابْن شهَاب، وَهُوَ من جملَة شُيُوخ إِبْرَاهِيم، وَيحْتَمل أَن يكون تَعْلِيقا. قلت: هَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) : عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبيد اعن معَاذ عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَنهُ، وَرَوَاهُ أَبُو معمر فَقَالَ: عمْرَة عَن عَائِشَة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَعَلَّه غلط مِنْهُ، وَالصَّحِيح: عُرْوَة، وَلم يذكر أَبُو مَسْعُود هَذَا التَّعْلِيق، وَذكره خلف. قَوْله: (وَأَنا فِي الصَّلَاة) جملَة حَالية. قَوْله: (أَن تفتنني) ، بِفَتْح التَّاء من: فتن يفتن من بَاب: ضرب يضْرب، وَيجوز أَن تكون بِالْإِدْغَامِ، وَأَن تكون بِضَم التَّاء من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ يُقَال: فتنه وأفتنه، وَأنْكرهُ الْأَصْمَعِي.
وَاعْلَم أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة لم يَقع لَهُ شَيْء من الْخَوْف من الإلهاء لِأَنَّهُ قَالَ: (فَأَخَاف) وَهَذَا مُسْتَقْبل، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا رِوَايَة مَالك: (فكاد يفتنني) ، فَهَذَا يدل على أَنه لم يَقع، وَالرِّوَايَة الأولى تدل على أَنه قد وَقع لِأَنَّهُ صرح بقوله: (فَإِنَّهَا ألهتني) والتوفيق بَينهمَا يُمكن بِأَن يُقَال: للنَّبِي حالتان: حَالَة بشرية وَحَالَة تخْتَص بهَا خَارِجَة عَن ذَلِك، فبالنظر إِلَى الْحَالة البشرية قَالَ: (ألهتني) ، وبالنظر إِلَى الْحَالة الثَّانِيَة لم يجْزم بِهِ، بل قَالَ: (أَخَاف) ، وَلَا يلْزم من ذَلِك الْوُقُوع. وَأَيْضًا فِيهِ تَنْبِيه لأمته ليحترزوا عَن مثل ذَلِك فِي صلَاتهم، لِأَن الصَّلَاة الْمُعْتَبرَة أَن يكون فِيهَا خشوع، وَمَا يلهي الْمُصَلِّي يُنَافِي الْخُشُوع والخضوع.
51 - (بابٌ إنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أوْ تصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ وَمَا يُنْهَى منْ ذَلِكَ.)
بَاب: منون، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِن صلى شخص حَال كَونه فِي (ثوب مصلب) بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام الْمُشَدّدَة. قَالَ بَعضهم: أَي فِيهِ صلبان. قلت: لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك، بل مَعْنَاهُ: إِن صلى فِي ثوب منقوش بصور الصلبان. قَوْله: (أَو تصاوير) قَالَ الْكرْمَانِي: أَو تصاوير عطف على ثوب لَا على مصلب، والمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول، أَو: على مصلب، لَكِن بِتَقْدِير أَنه فِي معنى ثوب مُصَور بالصليب، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مُصَور بالصليب، أَو بتصاوير غَيره. وَقَالَ بَعضهم: أَو تصاوير، أَي فِي ثوب ذِي تصاوير، كَأَنَّهُ حذف الْمُضَاف لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ. قلت: جعل الْكرْمَانِي: تصاوير، مصدرا بِمَعْنى الْمَفْعُول غير صَحِيح، لِأَن التصاوير إسم للتماثيل، كَذَا قَالَ أهل اللُّغَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: التصاوير: التماثيل، وَقد جَاءَ التصاوير والتماثيل والتصاليب، فَكَأَنَّهَا فِي الأَصْل جمع: تَصْوِير وتمثال وتصليب، وَلَئِن سلمنَا كَون التصاوير مصدرا فِي الأَصْل جمع تَصْوِير، فَلَا يَصح أَن يُقَال، عِنْد كَونه عطفا على ثوب أَن يقدرا: أَو إِن صلى فِي ثوب مصورة، لعدم التطابق حينئذٍ بَين الصّفة والموصوف، مَعَ أَنه شَرط، وَالظَّاهِر أَنه عطف على: مصلب، مَعَ حذف حرف الصِّلَة، تَقْدِيره؛ إِن صلى فِي ثوب مُصَور بصلبان، أَو ثوب مُصَور بتصاوير، الَّتِي هِيَ التماثيل.
وَقَول بَعضهم: لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَلم يبين أَن الْمَعْنى الدَّال عَلَيْهِ مَا هُوَ، وَالْقَوْل بِحَذْف حرف الصِّلَة أولى من القَوْل بِحَذْف الْمُضَاف، لِأَن ذَاك شَائِع ذائع. وَفرق بعض الْعلمَاء بَين الصُّورَة والتمثال، فَقَالَ: الصُّورَة تكون فِي الْحَيَوَان، والتمثال تكون فِيهِ وَفِي غَيره. وَيُقَال: التمثال مَا لَهُ جرم وشخص، وَالصُّورَة مَا كَانَ رقماً أَو تزويقاً فِي ثوب أَو حَائِط. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: قيل: التماثيل الصُّور، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وتماثيل} (سبأ: 31) إِنَّهَا صور العقبان والطواويس على كرْسِي سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ مُبَاحا. وَقيل: صور الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، من رُخَام أَو شبه لينشطوا فِي الْعِبَادَة بِالنّظرِ إِلَيْهِم. وَقيل: صور الْآدَمِيّين من نُحَاس، وَا تَعَالَى أعلم.
قَوْله: (هَل تفْسد صلَاته؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستفسار، جرى البُخَارِيّ فِي ذَلِك على عَادَته فِي ترك الْقطع فِي الشَّيْء الَّذِي فِيهِ اخْتِلَاف، لِأَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي النَّهْي الْوَارِد فِي الشَّيْء، فَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي نَفسه فَهُوَ يَقْتَضِي الْفساد فِيهِ، وَإِن كَانَ لِمَعْنى فِي غَيره فَهُوَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَة أَو الْفساد، فِيهِ خلاف. قَوْله: (وَمَا ينْهَى من ذَلِك) : أَي: وَالَّذِي ينْهَى عَنهُ من الْمَذْكُور، وَهُوَ؛ الصَّلَاة فِي ثوب مُصَور بصلبان أَو بتصاوير، وَفِي بعض النّسخ لَفْظَة: عَنهُ، مَوْجُودَة، وَفِي رِوَايَة: عَن ذَلِك، بِكَلِمَة: عَن، مَوضِع: من، وَالْأول أصح.(4/95)
47304 - ح دّثنا أبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍ وقالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ كانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جانِبَ بَيْتِها فقالَ النَّبيُّ: (أمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ستر الَّذِي فِيهِ التصاوير إِذا نهى عَنهُ الشَّارِع، فَمنع لبسه بِالطَّرِيقِ الأولى. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة شَيْئَانِ، والْحَدِيث لَا يدل إلاَّ على شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي فِيهِ الصُّورَة. قلت: يلْحق بِهِ الثَّوْب الَّذِي فِيهِ صور الصلبان لاشْتِرَاكهمَا فِي أَن كلاًّ مِنْهُمَا عبد من دونه اعز وَجل.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، الْكل قد ذكرُوا: وَمعمر بِفَتْح الْمِيم، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَرِجَاله كلهم بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس. وَأخرجه النَّسَائِيّ بِأَلْفَاظ، فَفِي لفظ: (يَا عَائِشَة أَخْرِجِي هَذَا فَإِنِّي إِذا رَأَيْته ذكرت الدُّنْيَا) . وَفِي لفظ: (فَإِن فِيهِ تِمْثَال طير مُسْتَقْبل الْبَيْت إِذا دخل الدَّاخِل) . وَفِي لفظ: (فِيهِ تصاوير، فَنَزَعَهُ رَسُول ا، فَقَطعه وسادتين، فَكَانَ يرتفق عَلَيْهِمَا) . وَفِي لفظ: (كَانَ فِي بَيْتِي ثوب فِيهِ تصاوير فَجَعَلته إِلَى سهوة فِي الْبَيْت، فَكَانَ رَسُول الله يُصَلِّي إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ: يَا عَائِشَة أخرجيه عني، فنزعته فَجَعَلته وسائد) . وَفِي لفظ: (دخل عَليّ رَسُول الله وَقد اشْتريت بقرام فِيهِ تماثيل، فَلَمَّا رَآهُ تلون وَجهه ثمَّ هتكه بِيَدِهِ، وَقَالَ؛ إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة الَّذين يشبهون بِخلق ا) . وَفِي لفظ: (قدم النَّبِي من سفر وَقد اشْتريت بقرام على سهوة لي فِيهِ تماثيل فَنَزَعَهُ) . وَفِي لفظ: (خرج رَسُول ا، خرجَة ثمَّ دخل وَقد علقت قراماً فِيهِ الْخَيل أولات الأجنحة، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: إنزعيه) .
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (قرام) ، بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف الرَّاء: وَهُوَ ستر رَقِيق من صوف ذُو ألوان. وَقَالَ أَبُو سعد: القرام: صوف غليظ جدا. يفرش فِي الهودج. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ ثوب من صوف ملون، وَالْجمع: قرم. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي، جمعه: قروم، هُوَ ثوب من صوف فِيهِ ألوان من عهن، فَإِذا خيط صَار كَأَنَّهُ بَيت، فَهُوَ كلة. وَقَالَ الْقَزاز وَابْن دُرَيْد: هُوَ السّتْر الرَّقِيق وَرَاء السّتْر الغليظ على الهودج وَغَيره. وَقَالَ الْخَلِيل: يتَّخذ سترا أَو يغشى بِهِ هودج أَو كلة، وَزعم الْجَوْهَرِي أَنه: ستر فِيهِ رقم ونقوش. وَقَالَ: وَكَذَلِكَ المقرم والمقرمة. قَوْله: (أميطي) أَي: أزيلي، وَهُوَ أَمر من أماط يميط. قَالَ ابْن سَيّده: يُقَال: مَاطَ عني ميطاً ومياطاً وأماط: تنحى وَبعد، وماطه عني وأماطه: نحاه وَدفعه. قَالَ بَعضهم؛ مطت بِهِ وأمطته، على حكم مَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ الْأَفْعَال غير المتعدية بِالنَّقْلِ فِي الْغَالِب، وماط الْأَذَى ميطاً وأماطه: نحاه وَدفعه. قَوْله: (لَا تزَال تصاوير) ، بِدُونِ الضَّمِير، وَفِي بعض الرِّوَايَة: تصاويره، بإضافته إِلَى الضَّمِير، وَالضَّمِير فِي: فَإِنَّهُ للشأن. وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بالضمير: يحْتَمل أَن يرجع إِلَى الثَّوْب. قَوْله: (تعرض) بِفَتْح التَّاء وَكسر الرَّاء أَي: تلوح، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. (تعرض) . بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الرَّاء، وَأَصله: تتعرض، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 41) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن الصُّور كلهَا مَنْهِيّ عَنْهَا، سَوَاء كَانَت أشخاصاً ماثلة أَو غير ماثلة، كَانَت فِي ستر أَو بِسَاط أَو فِي وَجه جِدَار أَو غير ذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال: علم من الحَدِيث النَّهْي عَن اللبَاس الَّذِي فِيهِ التصاوير بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهَذَا كُله على الْكَرَاهَة، فَإِن من صلى فِيهِ فَصلَاته مجزئة، لِأَنَّهُ لم يعد الصَّلَاة، وَلِأَنَّهُ ذكر أَنَّهَا عرضت لَهُ، وَلم يقل: إِنَّهَا قطعتها. وَمن صلى بذلك أَو نظر إِلَيْهِ فَصلَاته مجزئة عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ الْمُهلب: وَإِنَّمَا أَمر باجتناب هَذَا لإحضار الْخُشُوع فِي الصَّلَاة وَقطع دواعي الشّغل. وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ بِحَدِيث سهل بن حنيف، رَوَاهُ مَالك بن أنس: (عَن أبي النَّضر عَن عبيد ابْن عبد اأنه دخل على طَلْحَة الْأنْصَارِيّ يعودهُ، فَوجدَ عِنْده سهل بن حنيف، فَأمر أَبُو طَلْحَة إنْسَانا ينْزع نمطاً تَحْتَهُ، فَقَالَ لَهُ سهل: لِمَ تنزعه؟ قَالَ: لِأَن فِيهِ تصاوير، وَقد قَالَ رَسُول ا: مَا قد علمت قَالَ: ألم يقل: إلاَّ مَا كَانَ رقماً فِي ثوب؟ قَالَ؛ بلَى، وَلكنه أطيب للنَّفس) . وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عَليّ بن شُعَيْب عَن معن عَن مَالك بِهِ، وَاحْتج أَصْحَابنَا(4/96)
بِهَذَا أَن الصُّور الَّتِي تكون فِيمَا تبسط وتفترش وتمتهن خَارِجَة عَن النَّهْي الْوَارِد فِي هَذَا الْبَاب، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالنَّخَعِيّ وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو عمر: ذكر أَبُو الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ مَالك يكره التماثيل فِي الأسرة والقباب، وَأما الْبسط والوسائد وَالثيَاب فَلَا بَأْس بِهِ. وَكره أَن يُصَلِّي إِلَى قبَّة فِيهَا تماثيل. وَقَالَ الثَّوْريّ: لَا بَأْس بالصور فِي الوسائد لِأَنَّهَا تُوطأ وَيجْلس عَلَيْهَا، وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يكْرهُونَ التصاوير فِي الْبيُوت بتمثال، وَلَا يكْرهُونَ ذَلِك فِيمَا يبسط، وَلم يَخْتَلِفُوا أَن التصاوير فِي الستور الْمُعَلقَة مَكْرُوهَة، وَقَالَ أَبُو عمر: وَكره اللَّيْث التماثيل فِي الْبيُوت والأسرة والقباب والطساس والمنارات إلاَّ مَا كَانَ رقماً فِي ثوب، وَأما الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم كَرهُوا الصُّور مُطلقًا، سَوَاء كَانَت على الثِّيَاب أَو على الْفرش والبسط وَنَحْوهَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُوم الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن ذَلِك، وَلم يفرقُوا فِي ذَلِك، وَا تَعَالَى أعلم.
61 - (بابُ مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من صلى، وَهُوَ لابس فروجاً من حَرِير ثمَّ نَزعه، وَهُوَ حِكَايَة مَا وَقع من النَّبِي فِي ذَلِك، والفروج، بِفَتْح الْفَاء وَضم الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره جِيم، وَقَالَ أَبُو عبد ا: هُوَ القباء الَّذِي شقّ من خَلفه، وَقَالَ يحيى بن بكير: سَأَلت اللَّيْث بن سعد عَن الْفروج، فَقَالَ: القبا، وَعَن ابْن الْجَوْزِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي الْعَلَاء المعري: يُقَال، فِيهِ بِضَم الْفَاء من غير تَشْدِيد على وزن: خُرُوج، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيد بِفَتْح الْفَاء وَضمّهَا، وَالضَّم الْمَعْرُوف، وَأما الرَّاء فمضمومة على كل حَال مُشَدّدَة، وَقد تخفف. وَقَالَ ابْن قرقول بِفَتْح الْفَاء وَالتَّشْدِيد فِي الرَّاء، وَيُقَال: بتخفيفها أَيْضا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: القباء والفروج كِلَاهُمَا: ثوب ضيق الكمين ضيق الْوسط مشقوق من خلف يشمر فِيهِ للحرب والأسفار، وَقَوله: (حَرِير) بِالْجَرِّ صفة الْفروج.
41 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن يزِيد عَن أبي الْخَيْر عَن عقبَة بن عَامر قَالَ أهدي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فروج حَرِير فلبسه فصلى فِيهِ ثمَّ انْصَرف فَنَزَعَهُ نزعا شَدِيدا كالكاره لَهُ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتقين) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي تكَرر ذكره. الثَّانِي اللَّيْث بن سعد وَقَالَ الْكرْمَانِي عرض عَلَيْهِ الْمَنْصُور ولَايَة مصر فاستعفى (قلت) قد قيل أَنه ولي مُدَّة يسيرَة وَكَانَ على مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّالِث يزِيد بن حبيب. الرَّابِع أَبُو الْخَيْر مرْثَد بِفَتْح الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة الْيَزنِي بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالزَّاي بعْدهَا النُّون الْمَكْسُورَة. الْخَامِس عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ روى لَهُ خَمْسَة وَخَمْسُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ مِنْهَا ثَمَانِيَة كَانَ واليا على مصر لمعاوية مَاتَ بهَا سنة ثَمَان وَخمسين. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل وَفِيه بعد قَوْله عَن يزِيد هُوَ ابْن أبي حبيب فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِيه أَن رُوَاته كلهم مصريون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَأخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أبي مُوسَى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة وَعِيسَى بن حَمَّاد كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أهدي " على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي وَكَانَ الَّذِي أهداه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكيدر بن عبد الْملك صَاحب دومة الجندل وَذكر أَبُو نعيم أَنه أسلم وَأهْدى إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حلَّة سيراء وَقَالَ ابْن الْأَثِير أهْدى لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَالَحَهُ وَلم يسلم وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين أهل السّير وَمن قَالَ أَنه أسلم فقد أَخطَأ خطأ ظَاهر أَو كَانَ نَصْرَانِيّا وَلما صَالحه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَاد إِلَى حصنه وَبَقِي فِيهِ ثمَّ أَن خَالِدا أسره لما حاصر دومة الجندل أَيَّام أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَقتله مُشْركًا نَصْرَانِيّا وأكيدر بِضَم الْهمزَة ودومة الجندل اسْم حصن قَالَ الْجَوْهَرِي أَصْحَاب اللُّغَة يَقُولُونَ بِضَم الدَّال وَأهل الحَدِيث يفتحونها وَهُوَ اسْم مَوضِع فاصل بَين الشَّام وَالْعراق على سَبْعَة مراحل من دمشق وعَلى ثَلَاثَة عشر مرحلة من الْمَدِينَة قَوْله " فروج حَرِير " بِالْإِضَافَة كَمَا فِي ثوب خَز وَخَاتم فضَّة وَيجوز أَن يكون حَرِير صفة لفروج وَالْإِعْرَاب يحْتَمل ذَلِك وَالْكَلَام فِي الرِّوَايَة وَالظَّاهِر أَنَّهَا الأول قَوْله " ثمَّ انْصَرف " أَي من صلَاته واستقبال الْقبْلَة قَوْله " لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتقين " أَي لِلْمُتقين عَن الْكفْر أَي الْمُؤمنِينَ أَو عَن الْمعاصِي كلهَا(4/97)
أَي الصَّالِحين (فَإِن قلت) النِّسَاء المتقيات يدخلن فيهم مَعَ أَن الْحَرِير حَلَال لَهُنَّ (قلت) هَذِه مَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا وَالأَصَح أَن جمع الْمُذكر السَّالِم لَا يدْخل فِيهِ النِّسَاء فَلَا يَقْتَضِي فِيهِ الِاشْتِرَاك وَلَئِن سلمنَا دخولهن فالحل لَهُنَّ علم بِدَلِيل آخر (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام) مِنْهَا حُرْمَة لبس الْحَرِير للرِّجَال فِي كل الْأَحْوَال إِلَّا فِي صور تستثنى مِنْهَا فِي الْحَرْب يجوز لبسهَا للرِّجَال عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَمِنْهَا للجرب. وَمِنْهَا لأجل الْبرد إِذا لم يجد غَيره وَقد جوز طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة لبسه للرِّجَال مُطلقًا وَإِلَيْهِ ذهب عبد الله بن أبي مليكَة وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مسور بن مخرمَة أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه وحجج الْجُمْهُور فِي ذَلِك كَثِيرَة. مِنْهَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرج الطَّحَاوِيّ فِي هَذَا الْبَاب عَن خَمْسَة عشر نَفرا من الصَّحَابَة وهم عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَمْرو وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعمْرَان بن الْحصين والبراء بن عَازِب وَعبد الله بن الزبير وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأنس بن مَالك ومسلمة بن مخلد وَعقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي الْبَاب عَن أم هانىء عَن أبي يعلى الْموصِلِي وَأبي رَيْحَانَة عِنْد أبي دَاوُد وَاسم أبي رَيْحَانَة شَمْعُون وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عِنْد التِّرْمِذِيّ وَأَحَادِيث هَؤُلَاءِ نسخت مَا فِيهِ الْإِبَاحَة للبسه (فَإِن قلت) إِذا كَانَ حَرَامًا على الرِّجَال فَكيف لبسه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قلت) كَانَ ذَلِك قبل التَّحْرِيم وَقَالَ النَّوَوِيّ وَلَعَلَّ أول النَّهْي وَالتَّحْرِيم كَانَ حِين نَزعه وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث جَابر الَّذِي عِنْد مُسلم " صلى فِي قبا ديباج ثمَّ نَزعه وَقَالَ نهاني عَنهُ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَيكون أول التَّحْرِيم بِهَذَا وَجعل الْكرْمَانِي هَذَا تَخْصِيصًا وَلم يَجعله نسخا حَيْثُ قَالَ شَرط النّسخ أَن يكون الْمَنْسُوخ حكما شَرْعِيًّا ثمَّ قَالَ وَلَئِن سلم أَنه شَرْعِي فالنسخ هُوَ رفع الحكم عَن كل الْمُكَلّفين وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَن الْبَعْض فَهُوَ تَخْصِيص (قلت) لبسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حكم ثمَّ نَزعه حكم آخر ينْسَخ الأول فَكَمَا أَن الثَّانِي حكم شَرْعِي كَانَ الأول كَذَلِك وَلكنه نسخ وَكَانَ الثَّانِي يعم الرِّجَال وَالنِّسَاء لَكِن خرجت النِّسَاء بِدَلِيل آخر وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى تَحْرِيم الْحَرِير للرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ قَالَ حَدثنَا أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا هشيم عَن أبي بشر عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ سَأَلت امْرَأَة ابْن عمر قَالَت أتحلى بِالذَّهَب قَالَ نعم قَالَت مَا تَقول فِي الْحَرِير فَقَالَ يكره ذَلِك قَالَت مَا يكره أَخْبرنِي أحلال أم حرَام قَالَ كُنَّا نتحدث أَن من لبسه فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة " وَبِمَا رَوَاهُ أَيْضا عَن يحيى بن نصر حَدثنَا ابْن وهب أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن أَبَا عشانة الْمعَافِرِي حَدثهُ أَنه سمع عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ يخبر " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يمْنَع أَهله الْحِلْية وَالْحَرِير وَيَقُول إِن كنتن تحببن حلية الْجنَّة وحريرها فَلَا تلبسنها فِي الدُّنْيَا " وَبِمَا رَوَاهُ من حَدِيث الْأَزْرَق بن قيس قَالَ " سَمِعت عبد الله بن الزبير يخْطب يَوْم التَّرويَة وَهُوَ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس لَا تلبسوا الْحَرِير وَلَا تلبسوها نساءكم وَلَا أبناءكم فَإِنَّهُ من لبسه فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة " وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَأجَاب الْجُمْهُور عَن ذَلِك بِأَن مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر مَحْمُول على الرِّجَال خَاصَّة يدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن زيد بن أَرقم قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الذَّهَب وَالْحَرِير حل لإناث أمتِي وَحرَام على ذكورها " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَمَا رُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذ حَرِيرًا فَجعله فِي يَمِينه وَأخذ ذَهَبا فَجعله فِي شِمَاله ثمَّ قَالَ إِن هذَيْن حرَام على ذُكُور أمتِي " أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن مَاجَه وَمَا رُوِيَ أَيْضا عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ " الْحَرِير وَالذَّهَب حَلَال لإناث أمتِي حرَام على ذكورها " أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عبد الله بن عَمْرو وَعقبَة بن عَامر وَبِأَن مَا رُوِيَ عَن عقبَة تخَالفه رِوَايَته الْأُخْرَى وَهِي " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الْحَرِير وَالذَّهَب حرَام على ذُكُور أمتِي حل لإناثهم " وَبِأَن مَا رُوِيَ عَن ابْن الزبير بِأَنَّهُ لم يبلغهُ الحَدِيث الْمُخَصّص لعُمُوم الْحُرْمَة فِي قَوْله " من لبسه فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة " وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اخْتلف الْعلمَاء فِي لِبَاس الْحَرِير على عشرَة أَقْوَال: الأول محرم بِكُل حَال. وَالثَّانِي محرم إِلَّا فِي الْحَرْب. وَالثَّالِث يحرم إِلَّا فِي السّفر. وَالرَّابِع يحرم إِلَّا فِي الْمَرَض. وَالْخَامِس يحرم إِلَّا فِي الْغَزْو. وَالسَّادِس يحرم إِلَّا فِي الْعلم. وَالسَّابِع يحرم على الرِّجَال وَالنِّسَاء. وَالثَّامِن يحرم لبسه من فَوق دون لبسه من أَسْفَل وَهُوَ الْفرش قَالَه أَبُو حنيفَة وَابْن الْمَاجشون. وَالتَّاسِع مُبَاح بِكُل حَال. والعاشر يحرم وَإِن خلط مَعَ غَيره كالخز. وَمِنْهَا مَا احْتج بِهِ(4/98)
بَعضهم فِي جَوَاز الصَّلَاة فِي الثِّيَاب الْحَرِير لكَونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يعد تِلْكَ الصَّلَاة وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لِأَن ترك إِعَادَتهَا لكَونهَا وَقعت قبل التَّحْرِيم أما بعد فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء فَقَالَ أَصْحَابنَا تصح صلَاته وَلكنهَا تكره وَيَأْثَم لارتكابه الْحَرَام وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك من صلى فِي ثوب حَرِير يُعِيد فِي الْوَقْت إِن وجد ثوبا غَيره وَعَلِيهِ جلّ أَصْحَابه وَقَالَ أَشهب لَا إِعَادَة عَلَيْهِ فِي الْوَقْت وَلَا فِي غَيره وَهُوَ قَول أصبغ وخفف ابْن الْمَاجشون لِبَاسه فِي الْحَرْب وَالصَّلَاة للترهيب على الْعَدو والمباهات وَقَالَ آخَرُونَ إِن صلى فِيهِ وَهُوَ يعلم أَن ذَلِك لَا يجوز يُعِيد. وَمِنْهَا أَن فِيهِ جَوَاز قبُول هَدِيَّة الْمُشرك للْإِمَام لمصْلحَة يَرَاهَا
71 - (بابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأحْمَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْأَحْمَر، يَعْنِي: تجوز. وَقَالَ بَعضهم: يُشِير إِلَى الْجَوَاز، وَالْخلاف فِي ذَلِك مَعَ الْحَنَفِيَّة. قلت: لَا خلاف للحنيفة فِي جَوَاز ذَلِك، وَلَو عرف هَذَا الْقَائِل مَذْهَب الْحَنَفِيَّة لما قَالَ ذَلِك، وَلم يكتف بِهَذَا حَتَّى قَالَ: وتأولوا حَدِيث الْبَاب بِأَنَّهَا كَانَت حلَّة من برود فِيهَا خطوط حمر، وَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل، لأَنهم لم يَقُولُوا بِحرْمَة لبس الْأَحْمَر حَتَّى تأولوا هَذَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: مَكْرُوه لحَدِيث آخر، وَهُوَ نَهْيه عَن لبس المعصفر، وَالْعَمَل بِمَا رُوِيَ من الْحَدِيثين أولى من الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا، فاحتجوا بِالْأولِ على الْجَوَاز، وَبِالثَّانِي على الْكَرَاهَة. وَقَالَ أَيْضا: وَمن أدلتهم مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد ابْن عَمْرو قَالَ: (مر بِالنَّبِيِّ رجل وَعَلِيهِ ثَوْبَان أَحْمَرَانِ، فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ) . وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف الْإِسْنَاد. قلت: عرق العصبية حِين تحرّك حمله على أَن سكت عَن قَول التِّرْمِذِيّ، عقيب إِخْرَاجه هَذَا الحَدِيث: هَذَا حَدِيث حسن.
67324 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قالَ حدّثني عُمَرُ بنُ أبي زَائِدَةَ عنْ عَوْنِ ابْنِ أبي جُحَيْفَةَ عنْ أبِيهِ قالَ رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ فِي قُبَّةٍ حَمْراءَ مِنْ أَدَمٍ وَرَأيْتُ بلاَلاً أخَذَ وَضُوءَ رسولِ الله وَرَأيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَاكَ الوَضُوءَ فَمَنْ أصابَ مِنْهُ شيْئاً تَمَسَّحَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أخذَ مِنْ بَلَلٍ يَدِ صاحِبِهِ ثُمَّ رَأيْتُ بِلاَلاً أخَذَ عَنَزَةً فَرَكَزَها وخَرَجَ النَّبيُّ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّراً صَلَّى إلَى العَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَرَأيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَي العَنَزَةِ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن عرْعرة، بالمهملتين المفتوحتين وَسُكُون الرَّاء الأولى، مر فِي بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله. الثَّانِي: عمر بن أبي زَائِدَة، أَخُو زَكَرِيَّا الْهَمدَانِي الْكُوفِي، وَعمر بِدُونِ: الْوَاو. الثَّالِث: عون، بالنُّون فِي آخِره: ابْن أبي جُحَيْفَة. الرَّابِع: أَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء المهلة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء وَفِي آخِره هَاء: واسْمه وهب بن عبد االسوائي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالهمزة بعد الْألف: الْكُوفِي، مر فِي كتاب الْعلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُحَمَّد بن عرْعرة عَن عون بِهِ، وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن إِسْحَاق عَن النَّضر بن شُمَيْل عَنهُ بِبَعْضِه. وَأخرجه أَيْضا فِي بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة من خَلفه، وَبعده بِقَلِيل فِي بَاب الصَّلَاة إِلَى العنزة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز عَنهُ، وَأخرجه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مثنى وَمُحَمّد بن بشار، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي عَن وَكِيع. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام عَن إِسْحَاق الْأَزْرَق. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الصَّلَاة عَن أَيُّوب بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد.(4/99)
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فِي قبَّة حَمْرَاء من أَدَم) قَالَ الْجَوْهَرِي: الْقبَّة من الْبناء، وَالْجمع: قبب وقباب قلت: المُرَاد من الْقبَّة هُنَا هِيَ الَّتِي تعْمل من الْجلد، وَقد فسر ذَلِك بِكَلِمَة: من، البيانية، والأدم، بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال جمع: الْأَدِيم. وَفِي (الْمُحكم) الْأَدِيم: الْجلد مَا كَانَ، وَقيل: الْأَحْمَر، وَقيل: هُوَ المدبوغ. وَقيل: هُوَ بعد الأفيق، وَذَلِكَ إِذا تمّ واحمر، والأفيق: هُوَ الْجلد الَّذِي لم يتم دباغه. وَقيل: هُوَ مَا دبغ بِغَيْر الْقرظ، قَالَه ابْن الْأَثِير. والأدم اسْم الْجمع عِنْد سِيبَوَيْهٍ. والأدام جمع أَدِيم: كيتيم وأيتام، وَإِن كَانَ هَذَا فِي الصّفة أَكثر، وَقد يجوز أَن يكون جمع: أَدَم. وَفِي (الْمُخَصّص) : عَن أبي حنيفَة: إِذا رشف الْجلد وَبسط حَتَّى يُبَالغ فِيهِ مَا قبل من الدّباغ فَهُوَ حينئذٍ أَدِيم، وأدم وأدمة. وَفِي (نَوَادِر اللحياني) من خطّ الْحَافِظ: الْأدم والأدم جمع الْأَدِيم، وَهُوَ الْجلد. وَفِي (الْجَامِع) : الْأَدِيم بَاطِن الْجلد. ورؤية أبي جيحيفة النَّبِي كَانَت بِالْأَبْطح بِمَكَّة، صرح بذلك فِي رِوَايَة مُسلم: (أتيت النَّبِي بِمَكَّة وَهُوَ بِالْأَبْطح) . وَهُوَ الْموضع العروف، وَيُقَال لَهُ: الْبَطْحَاء، وَيُقَال: إِنَّه إِلَى منى أقرب، وَهُوَ: المحصب، وَهُوَ: خيف بني كنَانَة. وَزعم بَعضهم: أَنه ذُو طوى وَلَيْسَ كَذَلِك، كَمَا نبه عَلَيْهِ ابْن قرقول، وَعند النَّسَائِيّ: (وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء فِي نَحْو من أَرْبَعِينَ رجلا) .
قَوْله: (وضوء رَسُول ا) بِفَتْح الْوَاو: هُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. وَقَوله: (يبتدرون) أَي: يتسارعون ويتسابقون إِلَيْهِ تبركاً بآثاره الشَّرِيفَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَقَامَ النَّاس فَجعلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فيمسحون بهَا وُجُوههم، قَالَ: فَأخذت بِيَدِهِ فَوَضَعتهَا على وَجْهي فَإِذا هِيَ أبرد من الثَّلج وَأطيب رَائِحَة من الْمسك) . وَفِي رِوَايَة: (فَأخْرج فضل وضوء رَسُول الله فَابْتَدَرَهُ النَّاس، فنلت مِنْهُ شَيْئا) . قَوْله: (ذَلِك) ويروى: (ذَاك الْوضُوء) . قَوْله: (من بَلل يَد صَاحبه) ويروى: (من بِلَال يَد صَاحبه) . قَوْله: (عنزة) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالنُّون وَالزَّاي، وَهِي مثل نصف الرمْح أَو أكبر شَيْئا. وفيهَا سِنَان مثل سِنَان الرمْح، والعكازة قريب مِنْهَا. قَوْله: (فِي حلَّة حَمْرَاء) فِي مَوضِع النصب على الْحَال، والحلة: ثَوْبَان: إِزَار ورداء، وَقيل: أَن يكون ثَوْبَيْنِ من جنس وَاحِد سميا بذلك، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يحل على الآخر. وَقيل: أصل تَسْمِيَتهَا بِهَذَا إِذا كَانَ الثوبان جديدين، فَمَا حل طيهما فَقيل لَهما: حلَّة، لهَذَا، ثمَّ اسْتمرّ عَلَيْهِمَا الإسم. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْحلَّة وَاحِدَة الْحلَل، وَهِي: برود الْيمن، وَلَا تسمى حلَّة إلاَّ أَن تكون ثَوْبَيْنِ من جنس وَاحِد. وَقَالَ غَيره: وَالْجمع: حلل وحلال، وحلله الْحلَّة: ألبسهُ إِيَّاهَا. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء برود يَمَانِية قطري) . قَوْله: (برود) جمع: برد، مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة للحلة. وَقَوله: (يَمَانِية) صفة للبرود أَي منسوبة إِلَى الْيمن. قَوْله (قطري) بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الطَّاء، وَالْأَصْل: قطري، بِفَتْح الْقَاف والطاء لِأَنَّهُ نِسْبَة إِلَى؛ قطر، بلد بَين عمان وَسيف الْبَحْر، فَفِي النِّسْبَة خففوها وكسروا الْقَاف وَسَكنُوا الطَّاء، وَيُقَال: القطري، ضرب من البرود فِيهَا حمرَة، وَيُقَال: ثِيَاب حمر لَهَا أَعْلَام فِيهَا بعض الخشونة. وَقيل: حلل جِيَاد تحمل من قبل الْبَحْرين، وَإِنَّمَا لم يقل: قطرية، مَعَ أَن التطابق بَين الصّفة والموصوف شَرط لِأَنَّهُ بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال صَار كالاسم. لذَلِك النَّوْع من الْحلَل، وَوصف الْحلَّة بِثَلَاث صِفَات: الأولى: صفة الذَّات وَهِي قَوْله: (حَمْرَاء) وَالثَّانيَِة: صفة الْجِنْس وَهِي قَوْله: (برود) بَين بِهِ أَن جنس هَذِه الْحلَّة الْحَمْرَاء من البرود اليمانية. وَالثَّالِثَة: صفة النَّوْع، وَهِي قَوْله: (قطري) ، لِأَن البرود اليمانية أَنْوَاع، نوع مِنْهَا قطري بَينه بقوله: (قطري) . وَقيل: إِنَّمَا لبس النَّبِي الْحلَّة الْحَمْرَاء فِي السّفر ليتأهب لِلْعَدو، وَيجوز أَن يلبس فِي الْغَزْو مَا لَا يلبس فِي غَيره. قلت: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لم يكن فِي هَذَا السّفر للغزو، لِأَنَّهُ كَانَ عقيب حجَّة الْوَدَاع، وَلم يبْق لَهُ غَزْو إِذْ ذَاك، وَكَأَنَّهُ هَذَا الْقَائِل نقل عَن بعض الْحَنَفِيَّة أَنه ذهب إِلَى عدم جَوَاز لبس الثَّوْب الْأَحْمَر، ثمَّ لما أوردوا عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث أجَاب بِمَا ذكرنَا. قلت: لَا النَّقْل عَنهُ صَحِيح، وَلَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب الْمَذْكُور. قَوْله: (مشمراً) بِكَسْر الْمِيم الثَّانِيَة، نصب على الْحَال من النَّبِي. يُقَال: شمر إزَاره تشميراً، أَي: رَفعه، وشمر عَن سَاقه، وشمر فِي أمره أَي: خف، وَالْمعْنَى: رَفعهَا إِلَى أَنْصَاف سَاقيه، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم؛ (كَأَنِّي أنظر إِلَيّ بَيَاض سَاقيه) . قَوْله: (صلى بِالنَّاسِ) صلَاته هَذِه هِيَ صَلَاة الظّهْر، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَتقدم فصلى الظّهْر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ صلى الْعَصْر رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ لم يزل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة) . قَوْله: (يَمرونَ بَين يَدي العنزة) ، وَفِي رِوَايَة: (تمر من وَرَائِهَا الْمَرْأَة) . وَفِي لفظ: (يمر بَين يَدَيْهِ الْحمار وَالْكَلب لَا يمْنَع) .
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز لبس الثَّوْب الْأَحْمَر وَالصَّلَاة فِيهِ، وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. وَفِيه: جَوَاز ضرب الْخيام والقباب. وَفِيه: التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. وَفِيه: نصب عَلامَة بَين يَدي الْمُصَلِّي فِي الصَّحرَاء. وَفِيه: جَوَاز(4/100)
قصر الصَّلَاة فِي السّفر، وَهُوَ الْأَفْضَل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالَّذِي فِي مُسلم يدل عَلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز الْمُرُور وَرَاء ستْرَة الْمُصَلِّي، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَنه يجوز لِبَاس الثِّيَاب الملونة للسَّيِّد الْكَبِير والزاهد فِي الدُّنْيَا، والحمرة أشهر الملونات وَأجل الزِّينَة فِي الدُّنْيَا. وَفِيه: طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل. قيل: فِيهِ حجَّة على الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم بِنَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْمَذْهَب أَن المَاء الْمُسْتَعْمل طَاهِر حَتَّى يجوز شربه والتعجين بِهِ، غير أَنه لَيْسَ بِطهُور، فَلَا يجوز بِهِ الْوضُوء وَلَا الِاغْتِسَال، وَكَونه نجسا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا، على أَن حكم النَّجَاسَة فِي هَذِه الرِّوَايَة بِاعْتِبَار إِزَالَة الآثام النَّجِسَة عَن الْبدن المذنب فيتنجس حكما، بِخِلَاف فضل وضوء النَّبِي فَإِنَّهُ طَاهِر من بدن طَاهِر وَهُوَ طهُور أَيْضا أطهر من كل طَاهِر وَأطيب.
81 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي السُّطُوحِ وَالمِنْبَرِ والخَشَب)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر. إِلَى آخِره، يَعْنِي: يجوز، وَلما كَانَ فِيهِ خلاف لبَعض التَّابِعين، وللمالكية فِي الْمَكَان الْمُرْتَفع لمن كَانَ إِمَامًا لم يُصَرح بِالْجَوَازِ وَعَدَمه، وَلَكِن مُرَاده الْجَوَاز. قَوْله: (فِي الْمِنْبَر) كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: على الْمِنْبَر، وَحَدِيث الْبَاب يدل عَلَيْهِ، وَلَكِن كلمة. فِي، تَجِيء بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) والمنبر، بِكَسْر الْمِيم، من: نبرت الشَّيْء إِذا رفعته، وَالْقِيَاس فِيهِ فتح الْمِيم لِأَن الكسرة عَلامَة الْآلَة، وَلكنه سَمَاعي، و: (السطوح) جمع سطح الْبَيْت، و: (الْخشب) بِفتْحَتَيْنِ وبضمتين أَيْضا.
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ.
هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
وَلَم يَرَ الحَسَنُ بَأْسا أنْ يُصَلَّى عَلَى الْجَمَدِ والقَناطِرِ وإنْ جَرَي تَحْتَهَا بَوْلٌ أوْ فَوْقَهَا أوْ أمامَهَا إذَا كانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ.
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة تَأتي فِي القناطر، وَالْمرَاد من الْحسن هُوَ: الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (على الجمد) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. قَالَ السفاقسي: الجمد، بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا: مَكَان صلب مُرْتَفع، وَزعم ابْن قرقول أَن فِي كتاب الْأصيلِيّ وَأبي ذَر بِفَتْح الْمِيم. قَالَ: وَالصَّوَاب سكونها، وَهُوَ المَاء الجليد من شدَّة الْبرد. وَفِي (الْمُحكم) : الجمد الثَّلج، وَفِي (الْمثنى) لِابْنِ عديس: الجمد، بِالْفَتْح والإسكان: الثَّلج. قَالَ أَبُو عبد اموسى بن جَعْفَر: الجمد، محرك الْمِيم: الثَّلج الَّذِي يسْقط من السَّمَاء. وَقَالَ غَيره: الجمد والجمد بِالْفَتْح وَالضَّم، والجمد بِضَمَّتَيْنِ: مَا ارْتَفع من الأَرْض وَفِي (ديوَان الْأَدَب) للفارابي: الجمد مَا جمد من المَاء، وَهُوَ نقيض الذوب، وَهُوَ مصدر فِي الأَصْل. وَفِي (الصِّحَاح) الجمد، بِالتَّحْرِيكِ جمع؛ جامد، مثل: خَادِم وخدم، والجمد والجمد مثل: عسر وعسر، مَكَان صلب مُرْتَفع، وَالْجمع: أجماد وجماد، مثل: رمح وأرماح ورماح. قَوْله: (والقناطر) جمع قنطرة. قَالَ ابْن سَيّده: هِيَ مَا ارْتَفع من الْبُنيان، وَقَالَ الْقَزاز: القنطرة مَعْرُوفَة عِنْد الْعَرَب. قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الجسر قلت: القنطرة مَا تبنى بِالْحِجَارَةِ، والجسر يعْمل من الْخشب أَو التُّرَاب.
قَوْله: (وَإِن جرى تحتهَا بَوْل) يتَعَلَّق بالقناطر فَقَط ظَاهرا، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: يجوز أَن يتَعَلَّق بالجمد، لِأَن الجمد فِي الأَصْل مَاء فبشدة الْبرد يجمد، وَرُبمَا يكون مَاء النَّهر يجمد فَيصير كالحجر حَتَّى يمشي عَلَيْهِ النَّاس، فَلَو صلى شخص عَلَيْهِ وَكَانَ تَحْتَهُ بَوْل أَو نَحوه وَلَا يضر صلَاته. فَإِن قلت: على هَذَا كَيفَ يرجع الضَّمِير فِي (تحتهَا) إِلَى الجمد وَهُوَ غير مؤنث؟ قلت: قد مر أَن الْجَوْهَرِي قَالَ: إِن الجمد جمع جامد، فَإِذا كَانَ جمعا يجوز إِعَادَة الضَّمِير الْمُؤَنَّث إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي: (فَوْقهَا) و (أمامها) يجوز أَن يرجع إِلَى القناطر بِحَسب الظَّاهِر، وَإِلَى الجمد بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُور، وَالْمرَاد من أمامها: قدامها. وَقَالَ بَعضهم: الجمد المَاء إِذا جمد، وَهُوَ مُنَاسِب لأثر ابْن عمر الْآتِي أَنه صلى على الثَّلج.
قلت: إِن لم يُقيد الثَّلج بِكَوْنِهِ متجمداً متلبداً لَا تجوز الصَّلَاة عَلَيْهِ فَلَا يكون مناسباً لَهُ، وَفِي (المحتبى) : سجد على الثَّلج أَو الْحَشِيش الْكثير أَو الْقطن المحلوج يجوز إِن اعْتمد حَتَّى اسْتَقَرَّتْ جَبهته وَوجد حجم الأَرْض وإِلاَّ فَلَا. وَفِي (فَتَاوَى أبي حَفْص) : لَا بَأْس أَن يُصَلِّي على الجمد وَالْبر وَالشعِير والتين والذرة، وَلَا يجوز على الْأرز لِأَنَّهُ لَا يسْتَمْسك، وَلَا يجوز على الثَّلج المتجافي والحشيش وَمَا أشبهه حَتَّى يلبده فيجمد حجمه. قَوْله: (إِذا كَانَ بَينهمَا ستْرَة) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: بَين القناطر وَالْبَوْل، أَو؛ بَين الْمُصَلِّي وَالْبَوْل، وَهَذَا التَّقْيِيد مُخْتَصّ بِلَفْظ: (بأمامها) دون (أخويها) . قلت: الْمُصَلِّي غير مَذْكُور إلاَّ أَن يُقَال: إِن قَوْله: أَن يُصَلِّي، يدل على الْمصلى، وَالْمرَاد من الستْرَة أَن يكون الْمَانِع بَينه وَبَين النَّجَاسَة إِذا كَانَت قدامه، وَلم يعين حد ذَلِك، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ أَن لَا يلاقي النَّجَاسَة سَوَاء كَانَت قريبَة مِنْهُ أَو بعيدَة، وَقَالَ ابْن حبيب، من الْمَالِكِيَّة. إِن تعمد الصَّلَاة إِلَى نَجَاسَة وَهِي أَمَامه أعَاد إلاَّ أَن تكون بعيدَة(4/101)
جدا. وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : من صلى وأمامه جِدَار أَو مرحاض أَجزَأَهُ.
وَصَلَّى أبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ المَسْجِدِ بِصَلاَةِ الإِمَامِ.
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: (والسطوح) . وَقَوله: (على ظهر الْمَسْجِد) رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (على سقف الْمَسْجِد) ، وَوصل ابْن أبي شيبَة هَذَا الْأَثر عَن وَكِيع عَن ابْن أبي ذِئْب عَن صَالح، مولى التوءمة، قَالَ: (صليت مَعَ أبي هُرَيْرَة فَوق الْمَسْجِد بِصَلَاة الإِمَام وَهُوَ أَسْفَل) . وَصَالح تلكم فِيهِ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة، وَلَكِن رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة فتقوى بذلك، فلأجل ذَلِك ذكره البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن أبي عَامر عَن سعيد بن مُسلم، قَالَ: (رَأَيْت سَالم بن عبد ايصلي فَوق ظهر الْمَسْجِد صَلَاة الْمغرب وَمَعَهُ رجل آخر يَعْنِي، ويأتم بِالْإِمَامِ) . وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عدي عَن ابْن عون قَالَ: سُئِلَ مُحَمَّد عَن الرجل يكون على ظهر بَيت يُصَلِّي بِصَلَاة الإِمَام فِي رَمَضَان، فَقَالَ: لَا أعلم بِهِ بَأْسا إلاَّ أَن يكون بَين يَدي الإِمَام. وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره أَن يكون مَوضِع الإِمَام أَو الْمَأْمُوم أَعلَى من مَوضِع الآخر إلاَّ إِذا أَرَادَ تَعْلِيم أَفعَال الصَّلَاة، أَو أَرَادَ الْمَأْمُوم تَبْلِيغ الْقَوْم. وَقَالَ فِي (الْمُهَذّب) : إِذْ كره أَن يَعْلُو الإِمَام فالمأموم أولى، وَعِنْدنَا أَيْضا يكره أَن يكون الْقَوْم أَعلَى من الإِمَام. وَقَالَ ابْن حزم؛ وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا يجوز. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة هَذَا، ومذهبه أَنه يجوز وَلَكِن يكره. وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام: إِنَّمَا يكره إِذا لم يكن من عذر، أما إِذا كَانَ من عذر فَلَا يكره، كَمَا فِي الْجُمُعَة إِذا كَانَ الْقَوْم على الرف وَبَعْضهمْ على الأَرْض، والرف، بتَشْديد الْفَاء: شبه الطاق، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَعَن الطَّحَاوِيّ: إِنَّه لَا يكره، وَعَلِيهِ عَامَّة الْمَشَايِخ.
وصَلَّى ابنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ.
وَكَانَ الثَّلج متلبداً لِأَنَّهُ إِذا كَانَ متجافياً لَا تجوز كَمَا ذكرنَا، وَلَيْسَ لهَذَا الْأَثر مُطَابقَة للتَّرْجَمَة إلاَّ إِذا شرطنا التلبد لِأَنَّهُ حينئذٍ يكون متحجراً فَيُشبه السَّطْح أَو الْخشب.
77334 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدّثنا أبُو حازِمٍ قالَ سَألُوا سَهْلِ بنَ سَعْدٍ مِنْ أيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ فقالَ مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أعْلَمُ مِنِّي هُوَ مِنْ أثْلِ الغَابَةِ عَمِلَهُ فُلاَنٌ مَوْلَى فلاَنَةَ لِرَسُولِ الله وقامَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ حِينَ عُمِلَ وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ القِبلَةَ كَبَّرَ وقامَ النَّاسُ خَلْفَهُ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى فَسَجَدَ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ عادَ إِلَى المِنْبَرِ ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ بِالأَرْضِ فَهَذَا شَأْنُهُ. (الحَدِيث 773 أَطْرَافه فِي: 844، 719، 4902، 9652) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عبد اهو ابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: سَلمَة بن دِينَار. الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ، آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَصِيغَة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أَحْمد بن ثَابت الجحدري عَنهُ بِهِ.
ذكر لغاته ومعانيه. قَوْله: (من أَي شَيْء) أَي: من أَي عود، وَاللَّام فِي (الْمِنْبَر) للْعهد أَي: عَن منبره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (أَن رجَالًا أَتَوا سهل بن سعد السَّاعِدِيّ وَقد امتروا فِي الْمِنْبَر، مِم عوده؟) أَي: وَقد شكوا فِي مِنْبَر النَّبِي من أَي شَيْء كَانَ عوده؟ قَوْله: (مَا بَقِي بِالنَّاسِ) أَي فِي النَّاس ويروى كَذَلِك عَن الكشمهيني قَوْله: (هُوَ) ، مُبْتَدأ وَقَوله: (من أثل الغابة) ، خَبره وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (من طرفاء الغابة) ، وَفسّر الْخطابِيّ: الأثل: بالطرفاء، وَقَالَ ابْن سَيّده: الأثل يشبه الطرفاء إِلَّا أَنه أعظم مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو زِيَاد: من العضاه أثل، وَهُوَ طوال فِي السَّمَاء لَيْسَ لَهُ ورق ينْبت مُسْتَقِيم الْخَشَبَة، وخشبه(4/102)
جيد يحمل إِلَى الْقرى فيبنى عَلَيْهِ بيُوت الْمدر، ورقه هدي رقاق وَلَيْسَ لَهُ شوك، وَمِنْه تصنع القصاع والأواني الصغار والكبار والمكاييل والأبواب، وَهُوَ النضار. وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ أَجود الْخشب للآنية، وأجود النضار الورس لصفرته، ومنبر رَسُول الله نضار. وَفِي (الواعي) : الأثلة خمصة مثل الأشنان وَلها حب مثل حب التنوم وَلَا ورق لَهَا وَإِنَّمَا هِيَ أشنانة يغسل بهَا القصارون، غير أَنَّهَا أَلين من الأشنان. وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ ضرب من الشّجر يشبه الطرفاء وَلَيْسَ بِهِ، وَهُوَ أَجود مِنْهُ عوداً، وَمِنْه تصنع قداح الميسر. والتنوم، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم النُّون الْمُشَدّدَة وَبعد الْوَاو الساكنة مِيم: وَهُوَ نوع من نَبَات الأَرْض فِيهِ ثَمَر وَفِي ثمره سَواد قَلِيل.
و: الغابة، بغين مُعْجمَة وباء مُوَحدَة: أَرض على تِسْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة كَانَت إبل النَّبِي مُقِيمَة بهَا للرعي وَبهَا وَقعت قصَّة الْعرنِين الَّذين أَغَارُوا على سرحه، وَقَالَ ياقوت: بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة أَرْبَعَة أَمْيَال. وَقَالَ الْبكْرِيّ: هما غابتان عليا وسفلى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الغابة بريد من الْمَدِينَة من طَرِيق الشَّام. قَالَ الْوَاقِدِيّ، وَمِنْهَا صنع الْمِنْبَر. وَفِي (الْجَامِع) : كل شجر ملتف فَهُوَ غابة. وَفِي (الْمُحكم) : الغابة الأجمة الَّتِي طَالَتْ وَلها أَطْرَاف مُرْتَفعَة باسقة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ أجمة الْقصب، قَالَ: وَقد جعلت جمَاعَة الشّجر غاباً مَأْخُوذ من الغيابة، وَالْجمع: غابات وغياب، و: الطرفاء، بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ ممدودة: شجر من شجر الْبَادِيَة وَاحِدهَا: طرفَة، مثل: قَصَبَة وقصباء، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: الطرفاء وَاحِد وَجمع. قَوْله: (عمله فلَان) بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّهُ منصرف، لِأَنَّهُ كِنَايَة عَن علم الْمُذكر بِخِلَاف: فُلَانَة، فَإِنَّهُ كِنَايَة عَن علم الْمُؤَنَّث، وَالْمَانِع من صرفه وجود العلتين وهما: العلمية والتأنيث، وَاخْتلفُوا فِي اسْم: فلَان، الَّذِي هُوَ نجار منبره، فَفِي (كتاب الصَّحَابَة) لِابْنِ أَمِين الطليطلي: إِن اسْم هَذَا النجار: قبيصَة المَخْزُومِي. قَالَ: وَيُقَال: مَيْمُون. وَقَالَ: وَقيل: صَلَاح غُلَام الْعَبَّاس ابْن عبد الْمطلب، وَقَالَ ابْن بشكوال: وَقيل: ميناء. وَقيل: إِبْرَاهِيم. وَقيل: باقوم، بِالْمِيم فِي آخِره. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: كَانَ رومياً غُلَاما لسَعِيد بن الْعَاصِ مَاتَ فِي حَيَاة النَّبِي، وروى أَبُو سعد فِي (شرف الْمُصْطَفى) من طَرِيق ابْن لَهِيعَة: عَن عمَارَة بن غزيَّة عَن بعاس بن سهل عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ نجار وَاحِد يُقَال لَهُ مَيْمُون، فَذكر قصَّة الْمِنْبَر. وَقَالَ ابْن التِّين: عمله غُلَام لسعد بن عبَادَة. وَقيل: لامْرَأَة من الْأَنْصَار وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حدّثنا الْحسن بن عَليّ، قَالَ: حدّثنا إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن نَافِع: (عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، لما بدا قَالَ لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ أَلا اتخذ لَك منبراً يَا رَسُول اتجمع أَو تحمل عظامك؟ . قَالَ: بلَى، فَاتخذ لَهُ منبراً مرقاتين) . وَفِي (طَبَقَات ابْن سعد) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، قَالُوا: (كَانَ النَّبِي، يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِلَى جذع فَقَالَ: إِن الْقيام يشق عَلَيْهِ، فَقَالَ تَمِيم الدَّارِيّ أَلاَ أعمل لَك منبراً كَمَا رَأَيْته بِالشَّام؟ فَشَاور النَّبِي، الْمُسلمين فِي ذَلِك فروا أَن يَتَّخِذهُ، فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: إِن لي غُلَاما يُقَال لَهُ: كلاب، أعمل النَّاس. فَقَالَ النَّبِي: مره أَن يعمله، فَعلمه دَرَجَتَيْنِ ومقعداً، ثمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضعه فِي مَوْضِعه) . وَعند ابْن سعد أَيْضا بِسَنَد صَحِيح: (إِن الصَّحَابَة قَالُوا: يَا رَسُول اإن النَّاس قد كَثُرُوا فَلَو اتَّخذت شَيْئا تقوم عَلَيْهِ إِذا خطبت قَالَ: مَا شِئْتُم؟ قَالَ سهل: وَلم يكن بِالْمَدِينَةِ إلاَّ نجار وَاحِد، فَذَهَبت أَنا وَذَاكَ النجار إِلَى الغابتين، فَقطعت هَذَا الْمِنْبَر من أثله) . وَفِي لفظ: (وَحمل سهل مِنْهُنَّ خَشَبَة) .
قَوْله: (مولى فُلَانَة) ، لم يعرف اسْمهَا، وَلكنهَا أنصارية، وَوَقع فِي (الدَّلَائِل) لأبي مُوسَى الْمدنِي، نقلا عَن جَعْفَر المستغفري: أَنه قَالَ فِي أَسمَاء النِّسَاء من الصَّحَابَة: علاثة، بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، ثمَّ سَاق هَذَا الحَدِيث من طَرِيق يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم، وَقَالَ فِيهِ: (أرسل إِلَى علاثة امْرَأَة) قد سَمَّاهَا سهل، ثمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى: صحف فِيهِ جَعْفَر أَو شَيْخه، وَإِنَّمَا هِيَ فُلَانَة. وَقَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ: علاثة، فِي حَدِيث سهل: (أَن مري غلامك النجار أَن يعْمل لي أعواداً) وَإِنَّمَا هِيَ فُلَانَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل فِي فُلَانَة: اسْمهَا عَائِشَة الْأَنْصَارِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: وَأَظنهُ صحف الْمُصحف قلت: هَذَا الطَّبَرَانِيّ روى فِي مُعْجَمه الْأَوْسَط من حَدِيث جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ، (أَن رَسُول اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد ويخطب إِلَيْهَا ويعتمد عَلَيْهَا، وَأمرت عَائِشَة فصنعت لَهُ منبره هَذَا) . انْتهى. وَبِه يسْتَأْنس أَن فُلَانَة هِيَ: عَائِشَة، الْمَذْكُورَة. وَلَا سِيمَا قَالَ قَائِله: الْأَنْصَارِيَّة، وَلَا يستعبد هَذَا، وَإِن كَانَ إِسْنَاد الحَدِيث ضَعِيفا فحينئذٍ إِن الْمُصحف من قَالَ: علاثة، لَا من قَالَ: عَائِشَة الْأَنْصَارِيَّة. وَقد جَاءَ فِي الرِّوَايَة فِي الصَّحِيح: (أرسل، أَي: النَّبِي، إِلَى فُلَانَة سَمَّاهَا سهل مري غلامك النجار أَن يعْمل لي أعواداً أَجْلِس عَلَيْهِنَّ إِذا كلمت النَّاس، فَأَمَرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثمَّ جَاءَ بهَا، فَأرْسلت(4/103)
بهَا إِلَى رَسُول ا، فَأمر بهَا فَوضعت هَهُنَا) . وَعَن جَابر: (إِن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول اأَلاَ أجعَل لَك شَيْئا تقعد عَلَيْهِ؟ فَإِن لي غُلَاما نجاراً) الحَدِيث. وَفِي (الإكليل) للْحَاكِم: عَن يزِيد بن رُومَان: (كَانَ الْمِنْبَر ثَلَاث دَرَجَات، فَزَاد بِهِ مُعَاوِيَة، لَعَلَّه قَالَ: جعله سِتّ دَرَجَات، وَحَوله عَن مَكَانَهُ فكسفت الشَّمْس يومئذٍ) . قَالَ الْحَاكِم: وَقد أحرق الَّذِي عمله مُعَاوِيَة، ورد مِنْبَر النَّبِي إِلَى الْمَكَان الَّذِي وَضعه فِيهِ. وَفِي (الطَّبَقَات) : كَانَ بَينه وَبَين الْحَائِط ممر الشَّاة. وَقيل فِي (الإكليل) أَيْضا: من حَدِيث الْمُبَارك بن فضَالة. عَن الْحسن عَن أنس رَضِي اتعالى عَنهُ (لما كثر النَّاس قَالَ النَّبِي: إبنوا لي منبراً، فبنوا لَهُ عتبتين) . وَقد ذكرنَا عَن أبي دَاوُد فِي حَدِيث ابْن عمر: مرقاتين، وَهِي تَثْنِيَة مرقاة وَهِي: الدرجَة. فَإِن قلت: فِي (الصَّحِيح) : ثَلَاث دَرَجَات، فَمَا التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: الَّذِي قَالَ: مرقاتين، كَانَ لم يعْتَبر الدرجَة الَّتِي كَانَ يجلس عَلَيْهَا، وَالَّذِي روى لَهُ ثَلَاثًا اعتبرها. قَوْله: (فَقَامَ عَلَيْهِ) ، ويروى: (فرقى عَلَيْهِ) . قَوْله: (حِين عمل وَوضع) ، كِلَاهُمَا مَجْهُولَانِ. قَوْله: (كبر) بِدُونِ: الْوَاو، لِأَنَّهُ جَوَاب عَن سُؤال، كَأَنَّهُ قيل: مَا عمل انتصاب بعد الِاسْتِقْبَال؟ قَالَ: كبر. ويروى: (فَكبر) . وَفِي بعض النّسخ: (وَكبر) ، بِالْوَاو. قَوْله: (ثمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى) ، أَي: رَجَعَ إِلَى وَرَائه. فَإِذا قلت: رجعت الْقَهْقَرَى فكأنك قلت: رجعت الرُّجُوع الَّذِي يعرف بِهَذَا الِاسْم، لِأَن الْقَهْقَرِي ضرب من الرُّجُوع، فَيكون انتصاب على أَنه مفعول مُطلق، لكنه من غير لَفظه، كَمَا تَقول: قعدت جُلُوسًا. قَوْله: (على الأَرْض) ، وَذكر بعضه: بِالْأَرْضِ، وَذكر الْفرق بَيْنَمَا من حَيْثُ إِن فِي الأول: لوحظ معنى الاستعلاء، وَفِي الثَّانِي: معنى الإلصاق.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على مَا ترْجم لَهُ وَهِي الصَّلَاة على الْمِنْبَر، وَقد علل، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، صلَاته عَلَيْهِ وارتفاعه على الْمَأْمُومين بالاتباع لَهُ والتعليم، فَإِذا ارْتَفع الإِمَام على الْمَأْمُوم فَهُوَ مَكْرُوه إلاَّ لحَاجَة. كَمثل هَذَا فَيُسْتَحَب، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَاللَّيْث، وَعَن مَالك وَالشَّافِعِيّ: الْمَنْع، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَحكى ابْن حزم عَن أبي حنيفَة الْمَنْع، وَهُوَ غير صَحِيح، بل مذْهبه الْجَوَاز مَعَ الْكَرَاهَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. وَعَن أَصْحَابنَا عَن أبي حنيفَة جَوَازه إِذا كَانَ الإِمَام مرتفعاً مِقْدَار قامة، وَعَن مَالك: تجوز فِي الِارْتفَاع الْيَسِير.
وَمِنْهَا: أَن الْمَشْي الْيَسِير فِي الصَّلَاة لَا يُفْسِدهَا. وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) : الْمَشْي فِي الصَّلَاة خطْوَة لَا يُبْطِلهَا، وخطوتين أَو أَكثر يُبْطِلهَا، فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن تفْسد هَذِه الصَّلَاة على هَذِه الْكَيْفِيَّة، وَلَكنَّا نقُول: إِذا كَانَ لمصْلحَة يَنْبَغِي أَن لَا تفْسد صلَاته وَلَا تكره أَيْضا كَمَا فِي مَسْأَلَة من انْفَرد خلف الصَّفّ وَحده، فَإِن لَهُ أَن يجذب وَاحِدًا من الصَّفّ إِلَيْهِ ويصطفان، فَإِن المجذوب لَا تفْسد صلَاته وَلَو مَشى خطْوَة أَو خطوتين. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ أَن الْعَمَل الْيَسِير لَا يفْسد الصَّلَاة، وَكَانَ الْمِنْبَر ثَلَاث مراقي، وَلَعَلَّه إِنَّمَا قَامَ على الثَّانِيَة مِنْهَا فَلَيْسَ فِي نُزُوله وصعوده إلاَّ خطوتان.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمِنْبَر، وَكَون الْخَطِيب على مُرْتَفع كمنبر أَو غَيره.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ تَعْلِيم الإِمَام الْمَأْمُومين أَفعَال الصَّلَاة، وَأَنه لَا يقْدَح ذَلِك فِي صلَاته، وَلَيْسَ من بَاب التَّشْرِيك فِي الْعِبَادَة، بل هُوَ كرفع صَوته بِالتَّكْبِيرِ ليسمعهم.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَن الْعَالم إِذا انْفَرد بِعلم شَيْء يَقُول ذَلِك ليؤديه إِلَى حفظه.
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ قالَ عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَنْي أحْمَدُ بنُ حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّهُ عنْ هَذَا الحَدِيث قالَ فَإِنَّمَا أرَدْتُ أنَّ النَّبِيَّ كانَ أعلْى مِنَ النَّاسِ فَلاَ بَأْسَ أنْ يَكُونَ الإِمامُ أَعْلَى مِن النَّاسِ بِهَذَا الحَدِيثِ قالَ فَقُلْتُ إِنَّ سفْيَانَ بنَ عُيَيْنَةَ كانَ يُسْأَلُ عنْ هَذَا كَثِيراً فَلَمْ تَسْمَعْهُ مِنْهُ قالَ لاَ.
13
- 50 أَبُو عبد اهو: البُخَارِيّ نَفسه. وَعلي بن الْمَدِينِيّ الإِمَام الْحجَّة شَيْخه، وَأحمد بن حَنْبَل الإِمَام الْجَلِيل الْمَشْهُورَة آثاره فِي الْإِسْلَام الْمَذْكُورَة مقاماته فِي الدّين، قَالَ ابْن رَاهَوَيْه: هُوَ حجَّة بَين اوبين عباده فِي أرضه، مَاتَ ببغدا سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. قَوْله: (بِهَذَا الحَدِيث) أَي: بِدلَالَة هَذَا الحَدِيث، وَجوز الْعُلُوّ بِقدر دَرَجَات الْمِنْبَر. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: لَو كَانَ الإِمَام على رَأس مَنَارَة الْمَسْجِد، وَالْمَأْمُوم فِي قَعْر بِئْر، صَحَّ الِاقْتِدَاء. قَوْله: (قَالَ: فَقلت) : أَي: قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ لِأَحْمَد بن(4/104)
حَنْبَل. وَفِي بعض النّسخ: (قَالَ: قلت) ، بِدُونِ: الْفَاء. قَوْله: (إِن سُفْيَان) ،، وَفِي بعض النّسخ: (فَإِن سُفْيَان) بِالْفَاءِ. قَوْله: (يسْأَل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَلم تسمعه) مُتَضَمّن للاستفهام بِدَلِيل الْجَواب بِكَلِمَة: لَا، ثمَّ إِن الْمَنْفِيّ هُوَ جَمِيع الحَدِيث لِأَنَّهُ صَرِيح فِي ذَلِك، وَلَا يلْزم من ذَلِك عدم سَماع الْبَعْض، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أَحْمد قد أخرج فِي مُسْنده عَن ابْن عُيَيْنَة بِهَذَا الْإِسْنَاد من هَذَا الحَدِيث قَول سهل: كَانَ الْمِنْبَر من أثل الغابة فَقَط.
87344 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قالَ حدّثنا يَزِيدُ بنُ هارُونَ قالَ أخبْرنا حُمَيْدٌ الطوِيلُ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رَسولَ اللَّهِ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَتْ ساقُهُ أوْ كَتِفُهُ وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْراً فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُها مِنْ جُذُوعٍ فأتَاهُ أصْحَابُهُ يَعُودُنَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جالِساً وهُمْ قِيَامٌ فَلَمَّا سَلَّمَ قالَ (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكعُوا وإِذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا وإِنْ صلى قَائِماً فَصَلُّوا قِيَاماً وَنَزَلَ لِتسْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالُوا يَا رسولَ اللَّهِ إنَّكَ آلَيْتَ شَهْراً فقالَ إنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) (الحَدِيث 873 أَطْرَافه فِي: 986، 237، 337، 508، 4111، 1191، 9642، 1025، 9825، 4866) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي صلَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِأَصْحَابِهِ على أَلْوَاح الْمشْربَة وخشبها، والخشب مَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، قَالَه ابْن بطال، وَاعْترض عَلَيْهِ الْكرْمَانِي بقوله: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على أَنه صلى على الْخشب، إِذْ الْمَعْلُوم مِنْهُ أَن درجها من جُذُوع النّخل لَا نَفسهَا، ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَنه ذكره لغَرَض بَيَان الصَّلَاة على السَّطْح، إِذْ يُطلق السَّطْح على أَرض الغرفة. قلت: الظَّاهِر أَن الغرفة كَانَت من خشب، فَذكر كَون درجها من النّخل لَا يسْتَلْزم أَن تكون الْبَقِيَّة من الْبناء، فالاحتمال الَّذِي ذكره لَيْسَ بأقوى من الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ الْمَعْرُوف بصاعقة. الثَّانِي: يزِيد بن هَارُون، تكَرر ذكره. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء: الطَّوِيل. الرَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وواسطي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد ابْن الْمثنى، وَفِي الْمَظَالِم عَن مُحَمَّد هُوَ: ابْن سَلام، وَفِي الصَّوْم وَفِي النذور عَن عبد الْعَزِيز بن عبد ا، وَفِي النِّكَاح عَن خَالِد بن مخلد، وَفِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه، وَهُوَ عبد الحميد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه.
ذكر لغاته ومعانيه وَإِعْرَابه: قَوْله: (سقط عَن فرس) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فصرع عَنهُ) ، وَمَعْنَاهُ: سقط، أَيْضا وَكَانَ ذَلِك فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس من الْهِجْرَة. قَوْله: (فجحشت) ، بِضَم الْجِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة: من الجحش، وَهُوَ سجح الْجلد وَهُوَ الخدش، يُقَال: جحشه يجحشه جحشاً: خدشه. وَقيل: أَن يُصِيبهُ شَيْء ينسجح كالخدش أَو أكير من ذَلِك. وَقيل: الجحش فَوق الخدش. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه قد انسجح جلده، وَقد يكون مَا أصَاب رَسُول الله من ذَلِك السُّقُوط مَعَ الخدش رض فِي الْأَعْضَاء وتوجع، فَلذَلِك مَنعه الْقيام إِلَى الصَّلَاة. قَوْله: (أَو كتفه) على الشَّك من الرَّاوِي، ويروى: بِالْوَاو، الْوَاصِلَة. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (فجحش شقَّه الْأَيْمن) . وَفِي لفظ عِنْد أَحْمد عَن حميد عَن أنس بِسَنَد صَحِيح: (انفكت قدمه) . قَوْله: (وآلى من نِسَائِهِ) أَي: حلف أَن لَا يدْخل عَلَيْهِنَّ شهرا، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْإِيلَاء الْمُتَعَارف بَين الْفُقَهَاء وَهُوَ الْحلف على ترك قرْبَان امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر أَو أَكثر مِنْهَا، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا بُد من أَكثر، وَالْمولى من لَا يُمكنهُ قرْبَان امْرَأَته إلاَّ بِشَيْء يلْزمه، فَإِن وَطئهَا فِي الْمدَّة كفر لِأَنَّهُ حنث فِي يَمِينه وَسقط الْإِيلَاء، وإلاَّ بَانَتْ بتطليقة وَاحِدَة، وَكَانَ الْإِيلَاء طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَغير الشَّرْع حكمه، وَيَأْتِي حكمه فِي بَابه إِن شَاءَ اتعالى. وَالْإِيلَاء: على وزن إفعال، هُوَ: الْحلف. يُقَال: آلى يؤلي إِيلَاء، وتألى تألياً، وإلالية: الْيَمين، وَالْجمع أَلاَيَا، كعطية وعطايا، وَإِنَّمَا عدي: آلى، بِكَلِمَة: من، وَهُوَ لَا يعدى إِلَّا بِكَلِمَة: على، لِأَنَّهُ ضمن فِيهِ معنى الْبعد، وَيجوز أَن تكون: من، للتَّعْلِيل مَعَ أَن الأَصْل فِيهِ أَن يكون للابتداء(4/105)
أَي: آلى من نِسَائِهِ، أَي بِسَبَب نِسَائِهِ وَمن أَجلهنَّ.
قَوْله: (فِي مشربَة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَضمّهَا: وَهِي الغرفة. وَقيل: هِيَ أَعلَى الْبَيْت، شبه الغرفة. وَقيل: الخزانة، وَهِي بِمَنْزِلَة السَّطْح لما تحتهَا. قَوْله: (من جُذُوع النّخل) جمع جذع، بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال وَجمعه جُذُوع وأجذاع، قَالَه ابْن دُرَيْد. وَقَالَ الْأَزْهَرِي فِي (التَّهْذِيب) : وَلَا يتَبَيَّن للنخلة جذع حَتَّى يتَبَيَّن سَاقهَا. وَفِي (الْمُحكم) : الْجذع سَاق النَّخْلَة. قَوْله: (جَالِسا) حَال. وَقَوله: (وهم قيام) جملَة إسمية حَالية، وَالْقِيَام جمع قَائِم أَو مصدر بِمَعْنى إسم الْفَاعِل. قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام) كلمة: إِنَّمَا، للحصر لأجل الاهتمام وَالْمُبَالغَة، وَالْمَفْعُول الثَّانِي لقَوْله: جعل، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِنَّمَا جعل الإِمَام إِمَامًا، وَالْمَفْعُول الأول قَائِم مقَام الْفَاعِل. قَوْله: (ليؤتم بِهِ) أَي ليقتدى بِهِ وَيتبع أَفعاله.
قَوْله: (إِن صلى قَائِما فصلوا قيَاما) مَفْهُومه: إِن صلى قَاعِدا يُصَلِّي الْمَأْمُوم أَيْضا قَاعِدا، وَهُوَ غير جَائِز، وَلَا يعْمل بِهِ لِأَنَّهُ مَنْسُوخ لما ثَبت أَنه فِي آخر عمر صلى قَاعِدا وَصلى الْقَوْم قَائِمين. فَإِن قلت: جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: (فَإِن صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا) . قلت: مَعْنَاهُ: فصلوا قعُودا إِذا كُنْتُم عاجزين عَن الْقيام مثل الإِمَام، فَهُوَ من بَاب التَّخْصِيص، وَهُوَ مَنْسُوخ كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (إِن الشَّهْر) : اللَّام، فِيهِ للْعهد عَن ذَلِك الشَّهْر الْمعِين، إِذْ كل الشُّهُور لَا يلْزم أَن تكون تسعا وَعشْرين.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: مِنْهَا: جَوَاز الصَّلَاة على السَّطْح وعَلى الْخشب لِأَن الْمشْربَة بِمَنْزِلَة السَّطْح لما تحتهَا، وَالصَّلَاة فِيهَا كَالصَّلَاةِ على السَّطْح، وَبِذَلِك قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء. وَكره الْحسن وَابْن سِيرِين الصَّلَاة على الألواح والأخشاب، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَذكره أَيْضا عَن مَسْرُوق أَنه: كَانَ يحمل لبنة فِي السَّفِينَة ليسجد عَلَيْهَا، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن ابْن سِيرِين بِسَنَد صَحِيح.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْيَمين، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، آلى أَن لَا يدْخل على نِسَائِهِ شهرا.
وَمِنْهَا: أَن الشَّهْر لَا يَأْتِي كَامِلا دَائِما، وَإِن من حلف على فعل شَيْء أَو تَركه فِي شهر كَذَا، وَجَاء الشَّهْر تسعا وَعشْرين يَوْمًا، يخرج عَن يَمِينه، فَلَو نذر صَوْم شهر بِعَيْنِه فجَاء الشَّهْر تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا لم يلْزمه أَكثر من ذَلِك، وَإِذا قَالَ: عَليّ صَوْم شهر من غير تعْيين، كَانَ عَلَيْهِ إِكْمَال عدد ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَمِنْهَا: مَا احْتج أَحْمد وَإِسْحَاق وَابْن حزم وَالْأَوْزَاعِيّ وَنَفر من أهل الحَدِيث: أَن الإِمَام إِذا صلى قَاعِدا يُصَلِّي من خَلفه قعُودا. وَقَالَ مَالك: لَا تجوز صَلَاة الْقَادِر على الْقيام خلف الْقَاعِد لَا قَائِما وَلَا قَاعِدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَجُمْهُور السّلف: لَا يجوز للقادر على الْقيام أَن يُصَلِّي خلف الْقَاعِد إلاَّ قَائِما. وَقَالَ المرغيناني: الْفَرْض وَالنَّفْل سَوَاء. وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث من وُجُوه.
الأول: إِنَّه مَنْسُوخ، وناسخه صَلَاة النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالنَّاسِ فِي مرض مَوته قَاعِدا وهم قيام، وَأَبُو بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، قَائِم يعلمهُمْ بِأَفْعَال صلَاته بِنَاء على أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ الإِمَام وَأَن أَبَا بكر كَانَ مَأْمُوما فِي تِلْكَ الصَّلَاة. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه ذَا النّسخ وَقد وَقع فِي ذَلِك خلاف، وَذَلِكَ أَن هَذَا الحَدِيث النَّاسِخ وَهُوَ حَدِيث عَائِشَة فِيهِ أَنه كَانَ إِمَامًا وَأَبُو بكر مَأْمُوما؟ وَقد ورد فِيهِ الْعَكْس كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن نعيم بن أبي هِنْد عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق (عَن عَائِشَة قَالَت؛ صلى رَسُول الله فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ خلف أبي بكر قَاعِدا) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن حميد عَن أنس قَالَ: (آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول الله مَعَ الْقَوْم، صلى فِي ثوب وَاحِد متوشحاً خلف أبي بكر رَضِي اتعالى عَنهُ) . قلت: مثل هَذَا مَا يُعَارض مَا وَقع فِي الصَّحِيح، مَعَ أَن الْعلمَاء جمعُوا بَينهمَا، فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : وَلَا تعَارض بَين الْحَدِيثين، فَإِن الصَّلَاة الَّتِي كَانَ فِيهَا النَّبِي، إِمَامًا هِيَ صَلَاة الظّهْر يَوْم السبت أَو الْأَحَد وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُوما هِيَ صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وَهِي آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول ا، حَتَّى خرج من الدُّنْيَا. قَالَ: هَذَا لَا يُخَالف مَا ثَبت عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس فِي صلَاتهم يَوْم الْإِثْنَيْنِ، وكشفه السّتْر ثمَّ إرخائه، فَإِن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ فِي الرَّكْعَة الأولى، ثمَّ إِنَّه وجد فِي نَفسه خفَّة فَخرج فَأدْرك مَعَه الرَّكْعَة الثَّانِيَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: نسخ إِمَامَة الْقَاعِد بقوله: (لَا يؤمَّنَّ أحد بعدِي جَالِسا) . وبفعل الْخُلَفَاء بعده، وَإنَّهُ لم يؤم أحد مِنْهُم قَاعِدا. وَإِن كَانَ النّسخ لَا يُمكن بعد النَّبِي فمثابرتهم على ذَلِك تشهد بِصِحَّة نَهْيه عَن إِمَامَة الْقَاعِد بعده. قلت:(4/106)
هَذَا الحَدِيث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) عَن جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ. وَقَالَ الدارقطيني: لم يروه عَن الشّعبِيّ غير جَابر الْجعْفِيّ وَهُوَ مَتْرُوك، والْحَدِيث مُرْسل لَا تقوم بِهِ حجَّة. وَقَالَ عبد الْحق فِي (أَحْكَامه) : وَرَوَاهُ عَن الْجعْفِيّ مجَالد وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف.
الثَّانِي: أَنه كَانَ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيِّ وَفِيه نظر، لِأَن الأَصْل عدم التَّخْصِيص حَتَّى يدل عَلَيْهِ دَلِيل كَمَا عرف فِي الْأُصُول.
الثَّالِث: يحمل قَوْله: (فَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا) على أَنه إِذا كَانَ الإِمَام فِي حَالَة الْجُلُوس فاجلسوا وَلَا تخالفوه بِالْقيامِ، وَإِذا صلى قَائِما فصلوا قيَاما: يَعْنِي إِذا كَانَ فِي حَالَة الْقيام فَقومُوا وَلَا تخالفوه بالقعود، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (فَإِذا ركع فاركعوا، وَإِذا سجد فاسجدوا) . وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا يقوى الِاحْتِجَاج على أَحْمد بِحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى جَالِسا وَالنَّاس خَلفه قيام، بل وَلَا يصلح لِأَنَّهُ يجوز صَلَاة الْقَائِم خلف من شرع فِي صلَاته قَائِما. ثمَّ قعد لعذر، ويجعلون هَذَا مِنْهُ، سِيمَا وَقد ورد فِي بعض طرق الحَدِيث أَن النَّبِي أَخذ فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ انْتهى إِلَيْهِ أَبُو بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَأحمد فِي (مُسْنده) . فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه (الْوَهم وَالْإِيهَام) : وَهِي رِوَايَة مُرْسلَة، فَإِنَّهَا لَيست من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي وَإِنَّمَا رَوَاهَا ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه الْعَبَّاس عَن النَّبِي، كَذَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) بِسَنَد فِيهِ قيس بن الرّبيع وَهُوَ ضَعِيف، ثمَّ ذكر لَهُ مثالب فِي دينه. قَالَ: وَكَانَ ابْن عَبَّاس كثيرا مَا يُرْسل. قلت: رَوَاهُ ابْن ماجة من غير طَرِيق قيس، فَقَالَ: حدّثنا عَليّ بن مُحَمَّد، حدّثنا وَكِيع عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الأرقم بن شُرَحْبِيل عَن ابْن عَبَّاس: (لما مرض رَسُول ا) فَذكره إِلَى أَن قَالَ: (قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأخذ رَسُول الله فِي الْقِرَاءَة من حَيْثُ كَانَ بلغ أَبُو بكر رَضِي اعنه) . وَقَالَ الْخطابِيّ: وَذكر أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة جَابر وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة، وَلم يذكر صَلَاة رَسُول الله آخر مَا صلاهَا بِالنَّاسِ وَهُوَ قَاعد وَالنَّاس خَلفه قيام، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ من فعله، وَمن عَادَة أبي دَاوُد فِيمَا أنشأه من أَبْوَاب هَذَا الْكتاب أَن يذكر الحَدِيث فِي بَابه، وَيذكر الَّذِي يُعَارضهُ فِي بَاب آخر على إثره، وَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من النّسخ فلست أَدْرِي كَيفَ غفل عَن ذكر هَذِه الْقِصَّة وَهِي من أُمَّهَات السّنَن، وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الْفُقَهَاء. قلت: إِمَّا تَركهَا سَهوا أَو غَفلَة أَو كَانَ رَأْيه فِي هَذَا الحكم مثل مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، فَلذَلِك لم يذكر مَا ينْقضه. وَا تَعَالَى أعلم.
وَمِنْهَا: أَن فِي قَوْله: (إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ) دَلِيلا على وجوب الْمُتَابَعَة للْإِمَام فِي الْأَفْعَال حَتَّى فِي الْموقف وَالنِّيَّة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَطَائِفَة: لَا يضر اخْتِلَاف النِّيَّة، وَجعل الحَدِيث مَخْصُوصًا بالأفعال الظَّاهِرَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يضر اخْتِلَافهمَا، وَجعلا اخْتِلَاف النيات دَاخِلا تَحت الْحصْر فِي الحَدِيث. وَقَالَ مَالك: لَا يضر الِاخْتِلَاف بالهيئة بالتقدم فِي الْموقف، وَجعل الحَدِيث عَاما فِيمَا عدا ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن أَبَا حنيفَة احْتج بقوله: (فكبروا) على أَن الْمُقْتَدِي يكبر مُقَارنًا لتكبير الإِمَام لَا يتَقَدَّم الإِمَام وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ، لِأَن: الْفَاء، للْحَال. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل أَن يكبر بعد فرَاغ الإِمَام من التَّكْبِير، لِأَن الْفَاء للتعقيب وَإِن كبر مَعَ الإِمَام أَجزَأَهُ عِنْد مُحَمَّد رِوَايَة وَاحِدَة، وَقد أَسَاءَ. وَكَذَلِكَ فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف، وَفِي رِوَايَة: لَا يصير شَارِعا، ثمَّ يَنْبَغِي أَن يكون اقترانهما فِي التَّكْبِير على قَوْله كاقتران حَرَكَة الْخَاتم والإصبع، والبعدية على قَوْلهمَا؛ أَن يُوصل ألف: ا، برَاء: أكبر، وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده: قَول أبي حنيفَة أدق وأجود، وقولهما أرْفق وأحوط، وَقَول الشَّافِعِي كقولهما. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ، فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام قبل فرَاغ الإِمَام مِنْهَا: لم تَنْعَقِد صلَاته وَلَو ركع بعد شُرُوع الإِمَام فِي الرُّكُوع، فَإِن قارنه أَو سابقه فقد أَسَاءَ وَلَا تبطل صلَاته، فَإِن سلم قبل إِمَامه بطلت صلَاته إلاَّ أَن يَنْوِي الْمُفَارقَة فَفِيهِ خلاف مَشْهُور.
وَمِنْهَا: أَن الْفَاء فِي قَوْله: (فاركعوا) وَفِي قَوْله: (فاسجدوا) تدل على التعقيب وتدل على أَن الْمُقْتَدِي لَا يجوز لَهُ أَن يسْبق الإِمَام بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود حَتَّى إِذا سبقه فيهمَا وَلم يلْحقهُ الإِمَام فَسدتْ صلَاته.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب الْعِبَادَة عِنْد حُصُول الخدشة وَنَحْوهَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة جَالِسا عِنْد الْعَجز. وَا أعلم.
91 - (بابٌ إذَا أصابَ ثَوْبُ المصَلِّي امْرَأَتَهُ إذَا سَجَدَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي امْرَأَته وَهُوَ فِي حَالَة السُّجُود، هَل تفْسد صلَاته أم لَا؟ وَظَاهر حَدِيث الْبَاب يدل على صِحَة الصَّلَاة، وَكَانَت عَادَة البُخَارِيّ أَن يَأْتِي بِمثل هَذِه الْعبارَة فِي التراجم إِذا كَانَ فِي الحكم اخْتِلَاف، وَهَذَا الحكم(4/107)
لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَاف. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه كَانَ يُؤْتى بِتُرَاب فَيُوضَع على الْخمْرَة فَيسْجد عَلَيْهِ. قلت: كَانَ هَذَا مِنْهُ على تَقْدِير الصِّحَّة للْمُبَالَغَة فِي التَّوَاضُع والخشوع، لَا على أَنه كَانَ لَا يرى الصَّلَاة على الْخمْرَة، وَكَيف هَذَا وَقد صلى عَلَيْهَا وَهُوَ أَكثر تواضعاً وَأَشد خضوعاً؟ فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عُرْوَة أَنه كَانَ يكره على كل شَيْء دون الأَرْض. قلت: لَا حجَّة لأحد فِي خلاف مَا فعله النَّبِي، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن مُرَاده من الْكَرَاهَة التَّنْزِيه، وَكَذَا يُقَال فِي كل من رُوِيَ عَنهُ مثله.
97354 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ عنْ خالِدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قالتْ كانَ رسولُ اللَّهِ يُصَلِّي وأنَا حِذَاءَهُ وأَنَا حائِضٌ وَرُبَّما أصابَنِي ثَوْبُهُ إذَا سَجَدَ قالتْ وَكَانَ يُصَلِّي عَلى الخُمْرَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة تقدم ذكرهم، وخَالِد هُوَ ابْن عبد االواسطي الطَّحَّان أَبُو الْهَيْثَم، وَسليمَان هُوَ أَبُو إِسْحَاق التَّابِعِيّ، وَعبد ابْن شَدَّاد بن الْهَاد، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي وكوفي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن الْحسن بن مدرك، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن أبي النُّعْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن عون. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (يُصَلِّي) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ. قَوْله: (وَأَنا حذاءه) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا أَي: وَالْحَال أَنا بإزائه ومحاذيه، والحذاء والحذوة والحذة كلهَا بِمَعْنى. قَالَ الْكرْمَانِي: حذاءه، نصب على الظَّرْفِيَّة، ويروى: حذاؤه، بِالرَّفْع. قلت: الصَّحِيح الرّفْع على الخبرية. قَوْله: (وَأَنا حَائِض) أَيْضا جملَة إسمية وَقعت حَالا إِمَّا من الْأَحْوَال المترادفة أَو من الْأَحْوَال المتداخلة الأولى: بِالْوَاو وَالضَّمِير، وَالثَّانيَِة: بِالْوَاو فَقَط. قَوْله: (وَرُبمَا) كلمة رُبمَا تحْتَمل التقليل حَقِيقَة والتكثير مجَازًا. قَوْله: (على الْخمْرَة) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم: سجادة صَغِيرَة تعْمل من سعف النّخل وترمل بالخيوط. قيل: سميت خمرة لِأَنَّهَا تستر وَجه الْمُصَلِّي عَن الأَرْض. وَمِنْه سمي الْخمار الَّذِي يستر الرَّأْس. وَقَالَ ابْن بطال: الْخمْرَة مصلى صَغِير ينسج من السعف، فَإِن كَانَ كَبِيرا قدر طول الرجل أَو أَكثر فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ حينئذٍ: حَصِير، وَلَا يُقَال لَهُ خمرة، وَجَمعهَا: خمر. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: (جَاءَت فَأْرَة فَأخذت تجر الفتيلة فَجَاءَت بهَا فألقتها بَين يَدي رَسُول ا، على الْخمْرَة الَّتِي كَانَ قَاعِدا عَلَيْهَا، فأحرقت مِنْهَا مثل مَوضِع دِرْهَم) . وَهَذَا ظَاهر فِي إِطْلَاق الْخمْرَة على الْكَبِيرَة من نوعها.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام. الأول: فِيهِ جَوَاز مُخَالطَة الْحَائِض. الثَّانِي: فِيهِ طَهَارَة بدن الْحَائِض وثوبها. الثَّالِث: إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي الْمَرْأَة لَا يضر ذَلِك صلَاته وَلَو كَانَت الْمَرْأَة حَائِضًا. الرَّابِع: جَوَاز الصَّلَاة على الْخمْرَة من غير كَرَاهَة، وَعَن ابْن الْمسيب: الصَّلَاة على الْخمْرَة سنة، وَقد فعل ذَلِك جَابر وَأَبُو ذَر وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: أَن الصَّلَاة لَا تبطل بمحاذاة الْمُصَلِّي، وَتَبعهُ بَعضهم فَقَالَ. وَفِيه: أَن محاذاة الْمَرْأَة لَا تفْسد الصَّلَاة. قلت: قصدهما بذلك الغمز فِي مَذْهَب أبي حنيفَة فِي أَن محاذاة الْمَرْأَة للْمُصَلِّي مفْسدَة لصَلَاة الرجل، وَلَكِن هَيْهَات لما قَالَا لِأَن الْمُحَاذَاة الْمفْسدَة عِنْده أَن يكون الرجل وَالْمَرْأَة مشتركين فِي الصَّلَاة أَدَاء وتحريمة، وَهُوَ أَيْضا يَقُول: إِن الْمُحَاذَاة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث غير مفْسدَة، فحينئذٍ إطلاقهما الحكم فِيهِ غير صَحِيح، وَهُوَ من ضَرْبَان عرق العصبية.
02 - (بابُ الصَّلاةِ عَلَى الحَصِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على الْحَصِير، يَعْنِي جَائِزَة، والحصير، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ. وَذكر ابْن سَيّده(4/108)
فِي (الْمُحكم) و (الْمُحِيط) الْأَعْظَم: أَنَّهَا سفيفة تصنع من بردى وأسل، ثمَّ تفرش، سمي بذلك لِأَنَّهُ على وَجه الأَرْض، وَوجه الأَرْض يُسمى حَصِيرا، والسفيفة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالفاءين: شَيْء يعْمل من الخوص كالزنبيل؛ والأسل، بِفَتْح الْهمزَة وَالسِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام. نَبَات لَهُ أَغْصَان كَثِيرَة دقاق لَا ورق لَهَا. وَفِي (الجمهرة) : والحصير عَرَبِيّ، سمي حَصِيرا لانضمام بَعْضهَا إِلَى بعض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَصِير البارية.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: قد ذكرت عِنْد قَوْله: بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا، أَن الْأَبْوَاب الْمُتَعَلّقَة بالثياب سَبْعَة عشر بَابا، والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة، غير أَنه تخَلّل بَين هَذِه الْأَبْوَاب خَمْسَة أَبْوَاب لَيْسَ لَهَا تعلق بِأَحْكَام الثِّيَاب، وَقد ذكرنَا وَجه تخللها والمناسبة بَينهَا هُنَاكَ فَارْجِع إِلَيْهِ تظفر بجوابك.
وَصَلَّى جابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قائِماً.
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه.
الأول فِي مَعْنَاهُ: وَاسم أبي سعيد: سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ. قَوْله: (فِي السَّفِينَة) هِيَ: الْفلك لِأَنَّهَا تسفن وَجه المَاء أَي تقشره، فعيلة بِمَعْنى فاعلة، وَالْجمع سفائن وسفن وسفين. قَوْله: (قيَاما) جمع قَائِم وَأَرَادَ بِهِ التَّثْنِيَة أَي: قَائِمين، نصب على الْحَال وَفِي بعض النّسخ: قَائِما، بِالْإِفْرَادِ بِتَأْوِيل كل مِنْهُمَا قَائِما.
الثَّانِي: أَن هَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو بكر بن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: عَن عبيد ابْن أبي عتبَة مولى أنس، قَالَ: (سَافَرت مَعَ أبي الدَّرْدَاء وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَجَابِر بن عبد اوأناس قد سماهم، قَالَ: فَكَانَ إمامنا يُصَلِّي بِنَا فِي السَّفِينَة قَائِما، وَنُصَلِّي خَلفه قيَاما، وَلَو شِئْنَا لأرفينا) . أَي: لأرسينا. يُقَال أرسى السَّفِينَة بِالسِّين الْمُهْملَة، وأرفى، بِالْفَاءِ: إِذا وقف بهَا على الشط. وَالْبُخَارِيّ اقْتصر هُنَا على ذكر الْإِثْنَيْنِ، وهما: جَابر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي اتعالى عَنْهُمَا.
الثَّالِث: فِي وَجه مُنَاسبَة إِدْخَال هَذَا الْأَثر فِي بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، فَقَالَ ابْن الْمُنِير: لِأَنَّهُمَا اشْتَركَا فِي الصَّلَاة على غير الأَرْض لِئَلَّا يتخيل أَن مُبَاشرَة الْمُصَلِّي الأَرْض شَرط من، قَوْله: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِمعَاذ رَضِي اتعالى عَنهُ: (عفر وَجهك فِي التُّرَاب) . قلت: ثمَّة وَجه أقوى مِمَّا ذكره فِي الْمُنَاسبَة وَهُوَ أَن هَذَا الْبَاب فِي الصَّلَاة على الْحَصِير، وَفِي الْبَاب الَّذِي قبله: وَكَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة، وكل وَاحِد من الْحَصِير والخمرة يعْمل من سعف النّخل، وَيُسمى: سجادة، والسفينة أَيْضا مثل السجادة على وَجه المَاء، فَكَمَا أَن الْمُصَلِّي يسْجد على الْخمْرَة والحصير دون الأَرْض، فَكَذَلِك الَّذِي يُصَلِّي فِي السَّفِينَة يسْجد على غير الأَرْض.
الرَّابِع فِي استنباط الحكم مِنْهُ: وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي السَّفِينَة إِنَّمَا تجوز: إِذا كَانَ قَائِما. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز قَائِما وَقَاعِدا بِعُذْر وَبِغير عذر. وَبِه قَالَ الْحسن بن مَالك وَأَبُو قلَابَة وَطَاوُس، روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة، وروى أَيْضا عَن مُجَاهِد أَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة قَالَ: (كُنَّا نغزو مَعَه لَكنا نصلي فِي السَّفِينَة قعُودا) ، أَو لِأَن الْغَالِب دوران الرَّأْس فَصَارَ كالمحقق، وَالْأولَى أَن يخرج إِن اسْتَطَاعَ الْخُرُوج مِنْهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا تجوز قَاعِدا إلاَّ من عذر، لِأَن الْقيام ركن فَلَا يتْرك إلاَّ من عذر، وَالْخلاف فِي غير المربوطة، فَلَو كَانَت مربوطة لم تجز قَاعِدا إِجْمَاعًا. وَقيل: تجوز عِنْده فِي حالتي الإجراء والإرساء وَيلْزمهُ التَّوَجُّه عِنْد الِافْتِتَاح كلما دارت السَّفِينَة لِأَنَّهَا فِي حَقه كالبيت، حَتَّى لَا يتَطَوَّع فِيهَا مومياً مَعَ الْقُدْرَة على الرُّكُوع وَالسُّجُود، بِخِلَاف رَاكب الدَّابَّة.
وَقَالَ الحَسَنُ تُصلِّي قائِماً مَا لَمْ تَشُقَّ على أصْحَابِكَ تَدُورُ مَعَها وَإِلَّا فَقاعِداً.
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح: حدّثنا حَفْص عَن عَاصِم عَن الشّعبِيّ، وَالْحسن وَابْن سِيرِين أَنهم قَالُوا: صل فِي السَّفِينَة قَائِما. وَقَالَ الْحسن: لَا تشق على أَصْحَابك، وَفِي رِوَايَة الرّبيع بن صبيح: أَن الْحسن ومحمداً قَالَا: يصلونَ فِيهَا قيَاما جمَاعَة، ويدورون مَعَ الْقبْلَة حَيْثُ دارت. وَالْبُخَارِيّ اقْتصر على الذّكر عَن الْحسن. قَوْله: (تصلي) خطاب لمن سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة فِي السَّفِينَة: هَل يُصَلِّي قَائِما أَو قَاعِدا؟ فَأجَاب لَهُ: (تصلي قَائِما) أَي: حَال كونك قَائِما (مَا لم تشق على أَصْحَابك تَدور مَعهَا) أَي: مَعَ السَّفِينَة. قَوْله: (وإلاَّ) أَي؛ وَإِن شقّ على أَصْحَابك الْقيام فقاعداً، أَي: فصل حَال كونك قَاعِدا، لِأَن الْحَرج مَدْفُوع.
08364 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ قالَ أخْبرنا مالكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَةَ عَنْ أنَسِ بنِ(4/109)
مالِكٍ أنَّ جَدَّتَهُ مُليْكَةَ دَعَتْ رسولَ اللَّهِ لَطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: (قُومُوا فَلأضلِّيَ لَكُمْ) قَالَ أنَسٌ فَقمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسولُ الله وَصَفَفْتُ واليَتِيمَ وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَّلَى لَنا رَسولُ الله رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ. (الحَدِيث 083 أَطْرَافه فِي: 727، 068، 178، 478، 4611) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عبد ابْن يُوسُف التنيسِي، وَالْإِمَام مَالك بن أنس وَإِسْحَاق بن عبد ابْن أبي طَلْحَة، وَرُبمَا يُقَال إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، بنسبته إِلَى جده، وَاسم أبي طَلْحَة: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ النجاري، وَكَانَ مَالك لَا يقدم على إِسْحَاق أحد فِي الحَدِيث، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. وَالرَّابِع: أنس بن مَالك خَادِم النَّبِي. وَالْخَامِس: جدته مليكَة، بِضَم الْمِيم، والآن يَأْتِي بَيَانهَا مفصلا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين وَفِيه: عَن إِسْحَاق بن عبد ابْن أبي طَلْحَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: عَن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة بنسبته إِلَى جده. وَفِيه: الِاخْتِلَاف فِي الضَّمِير الَّذِي فِي جدته. فَقَالَ ابْن عبد الْبر وَعبد الْحق وعياض يعود على إِسْحَاق، وَصَححهُ النَّوَوِيّ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حدّثنا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حدّثنا الْمثنى بن سعيد حدّثنا قَتَادَة عَن أنس بن مَالك: (أَن النَّبِي كَانَ يزور أم سليم فَتُدْرِكهُ الصَّلَاة أَحْيَانًا فَيصَلي على بِسَاط لنا، وَهُوَ حَصِير ننضحه بِالْمَاءِ) . وَأم سليم هِيَ: أم أنس، وَأمّهَا مليكَة بنت مَالك بن عدي، وَهِي جدة أنس. وَاخْتلف فِي اسْم: أم سليم، فَقيل: سهلة. وَقيل: رميلة. وَقيل: رميثة. وَقيل: الرميصاء. وَقيل: الغميصاء. وَقيل: أنيفة، بالنُّون وَالْفَاء مصغرة، وَتزَوج أم سليم: مَالك بن النَّضر فَولدت لَهُ أنس بن مَالك، ثمَّ خلف عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَة فَولدت لَهُ: عبد اوأبا عُمَيْر، وَعبد اهو وَالِد إِسْحَاق، رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن عَمه أخي أَبِيه لأمه: أنس بن مَالك. وَقَالَ ابْن سعد وَابْن مَنْدَه وَابْن الْحصار: يعود الضَّمِير فِي جدته على أنس نَفسه، وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكره أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْحَادِي عشر من (فَوَائِد الْعِرَاقِيّين) : حدّثنا أَبُو بكر مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ؛ حدّثنا مقدم بن مُحَمَّد بن يحيى عَن عَمه الْقَاسِم بن يحيى عَن عبيد ابْن عمر عَن إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة، عَن أنس، قَالَ: (أرْسلت، جدتي إِلَى النَّبِي وَاسْمهَا مليكَة فجاءنا فَحَضَرت الصَّلَاة فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا) الحَدِيث. وَلَا تنَافِي بَين كَون مليكَة جدة أنس، وَبَين كَونهَا جدة إِسْحَاق.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَعَن أبي نعيم وَعَن عبد ابْن مُحَمَّد المسندي. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن بن عِيسَى، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: وَعند مُسلم: (فَرُبمَا تحضر الصَّلَاة وَهُوَ فِي بيتنا، فيأمر بالبساط الَّذِي تَحْتَهُ فيكنس ثمَّ ينضح، ثمَّ يؤم رَسُول الله فنقوم خَلفه، وَكَانَ بساطهم من جريد النّخل) . وَعند ابْن أبي شيبَة: عَن أنس بن مَالك، قَالَ: (صنع بعض عمومتي للنَّبِي طَعَاما، فَقَالَ إِنِّي أحب أَن تَأْكُل فِي بَيْتِي وَتصلي فِيهِ. قَالَ: فَأَتَاهُ وَفِي الْبَيْت فَحل من تِلْكَ الفحول، فَأمر بِجَانِب مِنْهُ فكنس. ورش فصلى فصلينا مَعَه) . وَعند النَّسَائِيّ: (أَن أم سليم سَأَلت رَسُول الله أَن يَأْتِيهَا فَيصَلي فِي بَيتهَا فتتخذه مصلى، فَأَتَاهَا فعمدت إِلَى حَصِير فنضحته فصلى عَلَيْهِ، وصلينا مَعَه) . وَفِي (الغرائب) للدارقطني: عَن أنس، قَالَ: (صنعت مليكَة طَعَاما لرَسُول الله فَأكل مِنْهُ وَأَنا مَعَه، ثمَّ دَعَا بِوضُوء فَتَوَضَّأ، ثمَّ قَالَ لي: قُم فَتَوَضَّأ وَمر الْعَجُوز فلتتوضأ وَمر هَذَا الْيَتِيم فَليَتَوَضَّأ. فلأصلي لكم. قَالَ: فعمدت إِلَى حَصِير عندنَا خلق قد اسود) . وَفِي رِوَايَة: (قِطْعَة حَصِير عندنَا خلق) . وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ) من حَدِيث أبي قلَابَة: عَن أنس (أَن النَّبِي، كَانَ يَأْتِي أم سليم يقيل عِنْدهَا، وَكَانَ يُصَلِّي على نطع، وَكَانَ كثير الْعرق فتتبع الْعرق من النطع فتجعله فِي الْقَوَارِير مَعَ الطّيب، وَكَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة) .(4/110)
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (لطعام) أَي: لأجل طَعَام، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ مشْعر بِأَن مَجِيئه كَانَ لذَلِك لَا ليُصَلِّي بهم ليتخذوا مَكَان صلَاته مصلى لَهُم، كَمَا فِي قصَّة عتْبَان بن مَالك الْآتِيَة، وَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي كَونه بَدَأَ فِي قصَّة عتْبَان بِالصَّلَاةِ قبل الطَّعَام، وَهَهُنَا بِالطَّعَامِ قبل الصَّلَاة، فَبَدَأَ فِي كل مِنْهُمَا بِأَصْل مَا دعِي لَهُ. قلت: لَا مَانع فِي الْجمع بَين الدُّعَاء للطعام وَبَين الدُّعَاء للصَّلَاة، وَلِهَذَا صلى رَسُول الله فِي هَذَا الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَن قصد مليكَة من دعوتها كَانَ للصَّلَاة، وَلكنهَا جعلت الطَّعَام مُقَدّمَة لَهَا. وَقَوله: وَهَذَا هُوَ السِّرّ إِلَى آخِره، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن الطَّعَام كَانَ قد حضر وتهيأ فِي دَعْوَة مليكَة، وَالطَّعَام إِذا حضر لَا يُؤَخر فَيقدم على الصَّلَاة، وَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ فِي قصَّة عتْبَان لعدم حُضُور الطَّعَام.
قَوْله: (فنضحته) من النَّضْح وَهُوَ الرش، وَذَلِكَ إِمَّا لأجل تلبين الْحَصِير، أَو لإِزَالَة الأوساخ مِنْهُ لِأَنَّهُ أسود من كَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَقَوله: (من طول مَا لبس) كِنَايَة عَنْهَا وأصل هَذِه الْمَادَّة تدل على مُخَالطَة ومداخلة، وَلَيْسَ هَهُنَا: لبس، من: لبست الثَّوْب، وَإِنَّمَا هُوَ من قَوْلهم: لبست امْرَأَة، أَي: تمتعت بهَا زَمَانا، فحينئذٍ يكون مَعْنَاهُ: قد اسود من كَثْرَة مَا تمتّع بِهِ طول الزَّمَان، وَمن هَذَا يظْهر لَك بطلَان قَول بَعضهم، وَقد اسْتدلَّ بِهِ على منع افتراش الْحَرِير لعُمُوم النَّهْي عَن لبس الْحَرِير، وَقصد هَذَا الْقَائِل الغمز فِيمَا قَالَ أَبُو حنيفَة من جَوَاز افتراش الْحَرِير وتوسده، وَلَكِن الَّذِي يدْرك دقائق الْمعَانِي ومدارك الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة يعرف ذَلِك، ويقر بِأَن أَبَا حنيفَة لَا يذهب إِلَى شَيْء سدىً. قَوْله: (واليتيم) ، هُوَ ضميرَة بن أبي ضميرَة، وَأَبُو ضمير مولى رَسُول ا، كَذَا قَالَه الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) ، ثمَّ قَالَ: لَهُ ولأبيه صُحْبَة. وَقَالَ فِي (الكنى) أَبُو ضميرَة مولى رَسُول ا، كَانَ من حمير، اسْمه سعد، وَكَذَا قَالَ البُخَارِيّ: إِن اسْمه سعد الْحِمْيَرِي من آل ذِي يزن، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: سعيد الْحِمْيَرِي هُوَ جد حُسَيْن بن عبد ابْن ضميرَة بن أبي ضميرَة. انْتهى. وَيُقَال: اسْم أبي ضميرَة: روح بن سندر، وَقيل: روح بن شيرزاد؛ وضميرة، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء فِي آخِره هَاء. قَوْله: (والعجوز) هِيَ: مليكَة الْمَذْكُورَة أَولا. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف) أَي: من الصَّلَاة، وَذهب إِلَى بَيته.
ذكر إعرابه: قَوْله: (صَنعته) جملَة فعلية فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لطعام. قَوْله: (فلأصلي لكم) فِيهِ سِتَّة أوجه من الْإِعْرَاب. الأول: فلأصلي، بِكَسْر اللَّام وَضم الْهمزَة وَفتح الْيَاء، وَوَجهه أَن اللَّام فِيهِ. لَام كي، وَالْفِعْل بعْدهَا مَنْصُوب: بِأَن، الْمقدرَة تَقْدِيره: فَلِأَن أُصَلِّي. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: روينَاهُ كَذَا، و: الْفَاء، زَائِدَة، أَو: الْفَاء، جَوَاب الْأَمر، ومدخول: الْفَاء، مَحْذُوف تَقْدِيره: قومُوا فقيامكم لأصلي لكم. وَيجوز أَن تكون: الْفَاء، زَائِدَة على رَأْي الْأَخْفَش، وَاللَّام مُتَعَلق: بقوموا. الْوَجْه الثَّانِي: فلأصلي، مثلهَا إِلَّا أَنَّهَا سَاكِنة الْيَاء، وَوَجهه أَن تسكين الْيَاء الْمَفْتُوحَة للتَّخْفِيف فِي مثل هَذَا لُغَة مَشْهُورَة. الثَّالِث: فلأصلِّ: بِحَذْف الْيَاء، لكَون اللَّام لَام الْأَمر، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ. الرَّابِع: فأصلي، على صِيغَة الْإِخْبَار عَن نَفسه، وَهُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فَأَنا أُصَلِّي، وَالْجُمْلَة جَوَاب الْأَمر. الْخَامِس: فلنصل؛ بِكَسْر اللَّام فِي الأَصْل وبنون الْجمع، وَوَجهه أَن: اللَّام، لَام الْأَمر، وَالْفِعْل مجزوم بهَا وعلامة الْجَزْم سُقُوط الْيَاء. السَّادِس: فلأصلي، بِفَتْح اللَّام، وَرُوِيَ هَكَذَا فِي بعض الرِّوَايَات، وَوَجهه: أَن تكون: اللَّام، لَام الِابْتِدَاء للتَّأْكِيد، أَو تكون جَوَاب قسم مَحْذُوف، و: الْفَاء، جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن قُمْتُم فوا لأصلي لكم.
قَوْله: (فصففت أَنا واليتيم) كَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فصففت واليتيم) ، بِغَيْر لفظ، أَنا، وَفِي مثل هَذَا خلاف بَين الْبَصرِيين والكوفيين، فَعِنْدَ الْبَصرِيين لَا يعْطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع، إلاَّ بعد أَن يُؤَكد بضمير مُنْفَصِل ليحسن الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل، بارزاً كَانَ أَو مستتراً. كَقَوْلِه تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 53، والأعراف: 91) وَعند الْكُوفِيّين: يجوز ذَلِك بِدُونِ التَّأْكِيد، وَالْأول هُوَ الْأَفْصَح. قَوْله: (واليتيم) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فَلِأَنَّهُ مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَرْفُوع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِالنّصب، وَلَو صَحَّ رِوَايَة الرّفْع فَهُوَ مُبْتَدأ و: وَرَاء، خَبره، وَالْجُمْلَة حَال. قلت: وَجه النصب هُوَ أَن تكون: الْوَاو، فِيهِ: وَاو المصاحبة، وَالتَّقْدِير: فصففت أَنا مَعَ الْيَتِيم. قَوْله: (والعجوز من وَرَائِنَا) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَفِي حَالَة الرّفْع تكون مَعْطُوفًا. فَافْهَم. قَوْله: (فصلى) أَي، النَّبِي: (لنا) ، أَي: لأجلنا.
ذكر استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: إِجَابَة الدعْوَة وَإِن لم تكن وَلِيمَة عرس وَالْأكل من طعامها. وَفِيه: جَوَاز النَّافِلَة جمَاعَة. فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي الشَّيْخ الْحَافِظ: (فَحَضَرت الصَّلَاة) . قلت: لَا يلْزم من حُضُور وَقت الصَّلَاة أَن صلَاته(4/111)
فِي بَيت مليكَة كَانَت للْفَرض، أَلاَ ترى أَن فِي رِوَايَة مُسلم: (قومُوا فلأصلي لكم) ، فِي غير وَقت صَلَاة، فصلى بِنَا فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (فَرُبمَا تحضر الصَّلَاة وَهُوَ فِي بيتنا) . قلت: الْجَواب مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَمَعَ هَذَا كره أَصْحَابنَا وَجَمَاعَة آخَرُونَ التَّنَفُّل بِالْجَمَاعَة فِي غير رَمَضَان. وَقَالَ ابْن حبيب، عَن مَالك: لَا بَأْس أَن يَفْعَله النَّاس الْيَوْم فِي الْخَاصَّة من غير أَن يكون مشتهراً، مَخَافَة أَن يَظُنهَا الْجُهَّال من الْفَرَائِض.
وَفِيه: أَن الْأَفْضَل أَن تكون النَّوَافِل فِي الْبَيْت لِأَن الْمَسَاجِد تبنى لأَدَاء الْفَرَائِض.
وَفِيه: الصَّلَاة فِي دَار الدَّاعِي وتبركه بهَا، وَقَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّه أَرَادَ تَعْلِيم أَفعَال الصَّلَاة مُشَاهدَة مَعَ تبركهم، فَإِن الْمَرْأَة قَلما تشاهد أَفعاله فِي الْمَسْجِد، فَأَرَادَ أَن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غَيرهَا.
وَفِيه: تنظيف مَكَان الْمصلى من الأوساخ، وَمثله التَّنْظِيف من الكناسات والزبالات.
وَفِيه: قيام الطِّفْل مَعَ الرِّجَال فِي صف وَاحِد.
وَفِيه: تَأَخّر النِّسَاء عَن الرِّجَال.
ويستنبط مِنْهُ أَن إِمَامَة الْمَرْأَة للرِّجَال لَا تصح لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مقَامهَا مُتَأَخِّرًا عَن مرتبَة الصَّبِي فبالأولى أَن لَا تتقدمهم، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، خلافًا للطبري وَأبي ثَوْر، فِي إجازتهما إِمَامَة النِّسَاء مُطلقًا، وَحكى عَنْهُمَا أَيْضا إجَازَة ذَلِك فِي التَّرَاوِيح إِذا لم يُوجد قارىء غَيرهَا.
وَفِيه: أَن الْأَفْضَل فِي نوافل النَّهَار أَن تكون رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: الِاقْتِصَار فِي نَافِلَة النَّهَار على رَكْعَتَيْنِ، خلافًا لمن اشْترط أَرْبعا. قلت: إِن كَانَ مُرَاده أَبَا حنيفَة، فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يشْتَرط ذَلِك، بل قَالَ الْأَرْبَع أفضل سَوَاء كَانَ فِي اللَّيْل أَو فِي النَّهَار. وَفِيه: صِحَة صَلَاة الصَّبِي الْمُمَيز. وَقَالَ النَّوَوِيّ: احْتج بقوله: من طول مَا لبس أَصْحَاب مَالك فِي الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة بِالْخِلَافِ، وَهِي إِذا حلف لَا يلبس ثوبا ففرشه فعندهم يَحْنَث، وَأجَاب أَصْحَابنَا: بِأَن لبس كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحملنا اللّبْس فِي الحَدِيث على الافتراش للقرينة، وَلِأَنَّهُ الْمَفْهُوم مِنْهُ، بِخِلَاف من حلف لَا يلبس ثوبا، فَإِن أهل الْعرف لَا يفهمون من لبسه الافتراش. انْتهى. قلت: لَيْسَ معنى اللّبْس فِي الحَدِيث الافتراش، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّمَتُّع، كَمَا قَالَ صَاحب (اللُّغَة) يُقَال: لبست امْرَأَة أَي تمتعت بهَا زَمَانا طَويلا، وَلَيْسَ هُوَ من: اللّبْس، الَّذِي من: لبست الثِّيَاب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَفِيه: الصَّلَاة على الْحَصِير وَسَائِر مَا تنبته الأَرْض، وَهُوَ إِجْمَاع إلاَّ من شَذَّ بِحَدِيث أَنه لم يصلِّ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَصح قلت: كَذَا ذكره صَاحب (التَّلْوِيح) وَأَرَادَ بقوله: لَا يَصح، الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يزِيد بن المقادم عَن أَبِيه شُرَيْح بن هانىء: (أَنه سَأَلَ عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، أَكَانَ النَّبِي يُصَلِّي على الْحَصِير؟ وَا تَعَالَى يَقُول: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} (الْإِسْرَاء: 8) فَقَالَت: لَا لم يكن يُصَلِّي على الْحَصِير) وَقَالُوا: هَذَا غير صَحِيح لضعف يزِيد بن الْمِقْدَام، وَلِهَذَا بوب البُخَارِيّ بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يثبت عِنْده، أوردهُ لمعارضة مَا هُوَ أقوى مِنْهُ، وَالَّذِي شَذَّ فِيهِ هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ كَانَ يسْجد على التُّرَاب، وَلَكِن يحمل فعله هَذَا على التَّوَاضُع.
وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْحَصِير وَنَحْوه الطَّهَارَة، وَلَكِن النَّضْح فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأجل التليين أَو لإِزَالَة الْوَسخ، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الْأَظْهر أَنه كَانَ للشَّكّ فِي نَجَاسَته. قُلْنَا: هَذَا على مذْهبه فِي أَن النَّجَاسَة الْمَشْكُوك فِيهَا تطهر بنضحها من غير غسل، وَعِنْدنَا الطَّهَارَة لَا تحصل إلاَّ بِالْغسْلِ.
وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ يكونَانِ صفا وَرَاء الإِمَام، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ ابْن مَسْعُود، فَإِنَّهُ قَالَ: يكون الإِمَام بَينهمَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة والكوفيون. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَذَلِك، بل مذْهبه أَنه إِذا أم اثْنَيْنِ يتَقَدَّم عَلَيْهِمَا، وَبِه قَالَ مُحَمَّد، واحتجا فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب، نعم، عَن أبي يُوسُف رِوَايَة أَنه يتوسطهما. قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَنقل ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود. قلت: هَذَا مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَقد رَوَاهُ مُسلم من ثَلَاث طرق وَلم يرفعهُ فِي الْأَوليين، وَرَفعه إِلَى النَّبِي فِي الثَّالِثَة. وَقَالَ؛ هَكَذَا فعل رَسُول ا. وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح رَفعه، وَأما فعله هُوَ فَإِنَّمَا كَانَ لضيق الْمَسْجِد، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) بِسَنَد عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: لَا أرى ابْن مَسْعُود فعل ذَلِك إلاَّ لضيق الْمَسْجِد، أَو لعذر آخر، لَا على أَنه السّنة.
وَفِيه: أَن الْمُنْفَرد خلف الصَّفّ تصح صلَاته بِدَلِيل وقُوف الْعَجُوز فِي الْأَخير، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَمَالك، وَقَالَ أَحْمد وَأَصْحَاب الحَدِيث: لَا يَصح لقَوْله: (لَا صَلَاة للمنفرد خلف الصَّفّ) . قُلْنَا؛ أُرِيد بِهِ نفي الْكَمَال.
وَفِيه: أَن السَّلَام لَيْسَ بِوَاجِب فِي الْخُرُوج من الصَّلَاة، لقَوْله؛ ثمَّ انْصَرف، وَلم يذكر سَلاما. فَإِن قلت: المُرَاد مِنْهُ الِانْصِرَاف من الْبَيْت الَّذِي فِيهِ. قلت: ظَاهره الِانْصِرَاف من الصَّلَاة، وَإِن كَانَ يحْتَمل الِانْصِرَاف من الْبَيْت، وَبِهَذَا الِاحْتِمَال لَا تقوم الْحجَّة.
12 -(4/112)
(بابُ الصلاَةِ عَلى الخُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على الْخمْرَة: يَعْنِي تجوز.
فَإِن قلت: قد ذكر ذَلِك فِي حَدِيث مَيْمُونَة فِي الْبَاب الَّذِي قبل بَاب الصَّلَاة على الْحَصِير، فَمَا فَائِدَة إِعَادَته؟ قلت: لِأَنَّهُ رُوِيَ هُنَاكَ عَن مُسَدّد مطولا، وَهَهُنَا رُوِيَ عَن أبي الْوَلِيد مُخْتَصرا، فَأَعَادَهُ مُوَافقَة لَهُ، وَقد مر تَفْسِير الْخمْرَة عَن قريب.
18374 - ح دّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدّثنا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عنْ عَبْدِ اللَّهِ ابنِ شَدَّادٍ عنْ مَيْمُونَةَ قالَتْ كانَ النبيُّ يُصَلِّي عَلى الخُمْرَةِ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث مَيْمُونَة، وَالطَّرِيق الأول ذكره فِي بَاب: إِذا أصَاب ثوب الْمُصَلِّي امْرَأَته إِذا سجد، لَكِن هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن خَالِد عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ، وَهَهُنَا عَن أبي الْوَلِيد: هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ.
وَفَائِدَة تكراره اخْتِلَاف بعض رجال الْإِسْنَاد كَمَا ترى، وَبَيَان مقصد شَيْخه عِنْد نَقله الحَدِيث، وَاخْتِلَاف اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام مِنْهُ، وَلكُل من مشايخه مَقْصُود غير مَقْصُود الآخر.
22 - (بابُ الصَّلاَةِ عَلى الفِرَاشِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة على الْفراش، يَعْنِي: تجوز، والفراش هُنَا اسْم لما يفترش من أَي نوع كَانَ من أَنْوَاع مَا يبسط، وَيجمع على: فرش، وَيَجِيء مصدرا من: فرشت الشَّيْء أفرشه فراشا: بسطته. وَهُوَ من بَاب: نصر ينصر.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
وَصَلَّى أنسٌ على فِراشِهِ.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة وَسَعِيد بن مَنْصُور، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْمُبَارك عَن حميد قَالَ: كَانَ أنس يُصَلِّي على فرَاشه.
وَقَالَ أنَسٌ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النبيِّ فَيَسْجُدُ أحَدُنَا على ثَوْبِهِ.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ أَيْضا فِيمَا بعد فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ. قَوْله: (أَحَدنَا) أَي: بَعْضنَا. قَوْله: (على ثَوْبه) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد مِنْهُ بعض ثَوْبه الَّذِي كَانَ لابسه، نَحْو الْفَاضِل من كمه أَو ذيله، وَيحْتَمل أَن يكون ثَوْبه الَّذِي يقلعه من جِسْمه فَيسْجد عَلَيْهِ، وَحَدِيثه الْمسند يُصَرح بِأَن المُرَاد مِنْهُ بعض ثَوْبه حَيْثُ قَالَ فِيهِ: فَيَضَع أَحَدنَا طرف الثَّوْب من شدَّة الْحر فِي مَكَان السُّجُود، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى.
وَوجه مُنَاسبَة هَذِه الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَنه إِذا سجد على ثَوْبه يكون سَاجِدا على الْفراش، لِأَنَّهُ اسْم لما يبسط كَمَا ذكرنَا.
283 - ح دّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثني مالِكٌ عَنْ أبي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبيْدِ اللَّهِ عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ عائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ أنَّهَا قالَتْ كُنْتُ أنامُ بَيْن يَدَيْ رسولِ الله وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْليَّ فإِذَا قامَ بَسَطْتُهُما قالَتْ والبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. (الحَدِيث 283 أَطْرَافه فِي: 383، 483، 805، 115، 215، 315، 415، 515، 915، 799، 9021، 6726) .
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (كنت أَنَام) ، لِأَن نومها كَانَ على الْفراش، وَقد صرحت فِي حَدِيثهَا الآخر بقولِهَا: (على الْفراش) الَّذِي ينامان عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: إِسْمَاعِيل بن عبد ابْن أبي أويس الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَأَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم مولى عمر، بِدُونِ الْوَاو: ابْن عبيد االتيمي، وَأَبُو سَلمَة عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي آخر. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن القعْنبِي وَعبد ابْن يُوسُف كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم(4/113)
فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن أبي النَّضر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عَاصِم بن النَّضر عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن عبيد ابْن عمر عَن أبي النَّضر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ورجلاي فِي قبلته) جملَة وَقعت حَالا أَي: فِي مَكَان سُجُوده. قَوْله: (غمزني) ، من الغمز بِالْيَدِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: غمزت الشَّيْء بيَدي، وغمزته بعيني، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذا مروا بهم يتغامزون} (المطففين: 03) وَالْمرَاد هَهُنَا: الغمز بِالْيَدِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سَلمَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: (كنت أكون نَائِمَة ورجلاي بَين يَدي رَسُول الله وَهُوَ يُصَلِّي من اللَّيْل، فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد ضرب رجْلي فقبضتهما، فَسجدَ) . قَوْله: (فقبضت رجْلي) ، بِفَتْح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء بِصِيغَة التَّثْنِيَة، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (رجْلي) ، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْيَاء، بِصِيغَة الْإِفْرَاد. قَوْله: (بسطتهما) ، بتثنية الضَّمِير على رِوَايَة الْأَكْثَرين، وبالإفراد على رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. قَوْله: (والبيوت) ، مُبْتَدأ. وَقَوله: (لَيْسَ فِيهَا مصابيح) خَبره، وَالْجُمْلَة حَال، والمصابيح جمع: مِصْبَاح، وَهَذَا اعتذار من عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، عَن نومها على هَذِه الْهَيْئَة، وَالْمعْنَى: لَو كَانَت المصابيح لقبضت رجْلي عِنْد إِرَادَته السُّجُود، وَلما أحوجته إِلَى غمزي، وَهَذَا يدل على أَنَّهَا كَانَت رَاقِدَة غير مستغرقة فِي النّوم، إِذْ لَو كَانَت مستغرقة لما كَانَت تدْرك شَيْئا، سَوَاء كَانَت مصابيح أَو لم تكن. قَوْله: (يومئذٍ) مَعْنَاهُ: وقئتذ، أَي: وَقت إِذْ كَانَ الرَّسُول حَيا، وَإِنَّمَا فسرناه هَكَذَا لِأَن المصابيح من وظائف اللَّيْل، فَلَا يُمكن إِجْرَاء الْيَوْم على حَقِيقَة مَعْنَاهُ، وَقد يذكر الْيَوْم وَيُرَاد بِهِ الْوَقْت، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يولهم يومئذٍ دبره إلاَّ متحرفاً لقِتَال أَو متحيزاً إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من اومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} (الْأَنْفَال: 61) .
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ: الأول: فِيهِ جَوَاز صَلَاة الرجل إِلَى الْمَرْأَة، وَأَنَّهَا لَا تقطع صلَاته، وَكَرِهَهُ بَعضهم لغير الشَّارِع لخوف الْفِتْنَة بهَا واشتغال الْقلب بِالنّظرِ إِلَيْهَا، وَأما النَّبِي فمنزه عَن هَذَا كُله، مَعَ أَنه كَانَ فِي اللَّيْل وَلَا مصابيح فِيهِ.
الثَّانِي: فِيهِ اسْتِحْبَاب إيقاظ النَّائِم للصَّلَاة.
الثَّالِث: أَن الْمَرْأَة لَا تبطل صَلَاة من صلى إِلَيْهَا، وَلَا من مرت بَين يَدَيْهِ، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء سلفا وخلفاً، مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَمَعْلُوم أَن اعتراضها بَين يَدَيْهِ أَشد من مرورها، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه يقطع مُرُور الْمَرْأَة وَالْحمار وَالْكَلب، وَقَالَ أَحْمد: يقطعهَا الْكَلْب الْأسود، وَفِي قلبِي من الْحمار وَالْمَرْأَة شَيْء. وَالْجَوَاب: عَن حَدِيث قطع الصَّلَاة بهؤلاء من وَجْهَيْن: إِن المُرَاد من الْقطع: النَّقْص، لشغل الْقلب بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَلَيْسَ المُرَاد إِبْطَالهَا لِأَن الْمَرْأَة تغير الْفِكر فِيهَا، وَالْحمار ينهق، وَالْكَلب يهوش، فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء آيلة إِلَى الْقطع أطلق عَلَيْهَا الْقطع.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِحَدِيث: (لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وادرؤوا مَا اسْتَطَعْتُم) ، وَصلى الشَّارِع وَبَينه وَبَين الْقبْلَة عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، وَكَانَت الأتان ترتع بَين يَدَيْهِ وَلم يُنكره أحد، لَكِن النّسخ لَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ بِأُمُور مِنْهَا التَّارِيخ، وأنى بِهِ؟ وَذهب ابْن عَبَّاس وَعَطَاء إِلَى أَن الْمَرْأَة الَّتِي تقطع الصَّلَاة إِنَّمَا هِيَ الْحَائِض، ورد بِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَات هَذَا الحَدِيث، قَالَ شُعْبَة: (وأحسبها قَالَت: وَأَنا حَائِض) . قَالَ: فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث: (يقطع الصَّلَاة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ والمجوسي وَالْخِنْزِير) ؟ قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف.
الرَّابِع: أَن الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة غير قَادِح.
الْخَامِس: جَوَاز الصَّلَاة إِلَى النَّائِم، وَكَرِهَهُ بَعضهم وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَا تصلوا خلف النَّائِم وَلَا المتحدث) . قلت: قَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن مُحَمَّد بن كَعْب، كلهَا واهية، وَهَذَا أمثلها وَهُوَ أَيْضا ضَعِيف، وَصرح بِهِ الْخطابِيّ، وَغَيره؛ (وَكَانَ ابْن عمر لَا يُصَلِّي خلف رجل يتَكَلَّم إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد مُنْقَطع، وَفِي (مراسيله) بِسَنَد ضَعِيف: (نهى النَّبِي أَن يتحدث الرّجلَانِ وَبَينهمَا أحد يُصَلِّي) ، وَفِي (كَامِل ابْن عدي بِسَنَد واهٍ عَن ابْن عمر: (نهى رَسُول الله أَن يُصَلِّي الْإِنْسَان إِلَى نَائِم أَو متحدث) . وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني. من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد ضَعِيف مَرْفُوعا: (نهيت أَن أُصَلِّي خلف النَّائِم والمتحدثين) . وَفِي (كتاب الصَّلَاة) لأبي نعيم: حدّثنا سُفْيَان عَن ابْن إِسْحَاق عَن معدي كرب عَن عبد ا، قَالَ: (لَا يُصَلِّي بَين يَدي قوم يمترون) . وَعَن سعيد بن جُبَير: (إِذا كَانُوا يذكرُونَ افلا بَأْس) . وَفِي رِوَايَة: (كره سعيد أَن يُصَلِّي وَبَين يَدَيْهِ متحدث) ، وَضرب عمر بن الْخطاب رَضِي اتعالى عَنهُ، رجلَيْنِ أَحدهمَا يسْتَقْبل الآخر وَهُوَ يُصَلِّي.
السَّادِس: قَالَ بَعضهم: وَقد اسْتدلَّ بقولِهَا: غمزني، على أَن لمس الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء، وَتعقب بِاحْتِمَال الْحَائِل أَو بالخصوصية،(4/114)
قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ بعض هَذَا من الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: هَل هُوَ دَلِيل على أَن لمس الْمَرْأَة لَا ينْتَقض الْوضُوء؟ قلت: لَا لاحْتِمَال أَن يكون بَينهمَا حَائِل من ثوب وَنَحْوه، بل هُوَ الظَّاهِر من حَال النَّائِم. قلت: هَذَا غير موجه، قَالَ ابْن بطال: الأَصْل فِي الرجل أَن يكون بِغَيْر حَائِل عرفا. وَكَذَلِكَ الْيَد، وَقَول الشَّافِعِي: كَانَ غمزه إِيَّاهَا على ثوب فِيهِ بعد. وَقَوله: أَو بالخصوصية، غير صَحِيح، لِأَن النَّبِي فِي هَذَا الْمقَام فِي مقَام التشريع لَا الخصوصية، إِذْ من الْمَعْلُوم أَن اعصمه فِي جَمِيع أَفعاله وأقواله، وَأَيْضًا مُجَرّد دَعْوَى الخصوصية بِلَا دَلِيل بَاطِل، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك قَامَ لنا الدَّلِيل من الحَدِيث أَن لمس الْمَرْأَة غير نَاقض للْوُضُوء، والعناد بعد ذَلِك مُكَابَرَة.
السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة على الْفراش، وَعقد البُخَارِيّ الْبَاب الْمَذْكُور لذَلِك، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلف فِي الصَّلَاة على الْفراش وَشبهه، فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يُصَلِّي على الْبسَاط والطنفسة. وَحكى ابْن أبي شيبَة ذَلِك عَن أبي الدَّرْدَاء بِلَفْظ: (مَا أُبَالِي لَو صليت على سِتّ طنافس بَعْضهَا فَوق بعض) . قَالَ: وَصلى ابْن عَبَّاس على مسح وعَلى طنفسة قد طبقت الْبَيْت صَلَاة الْمغرب، وَفعله أَبُو وَائِل وَعمر بن الْخطاب وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَالَ الْحسن: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ على الطنفسة. وَصلى قيس بن عباد على لبد دَابَّته، وَكَذَلِكَ قُرَّة الْهَمدَانِي، وَصلى على الْمسْح عمر بن عبد الْعَزِيز وَجَابِر بن عبد ا، وَعلي بن أبي طَالب وَأَبُو الدَّرْدَاء وَعبد ابْن مَسْعُود رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَقَالَ مَالك: الْبسَاط الصُّوف وَالشعر وَشبهه إِذا وضع الْمُصَلِّي جَبهته وَيَديه على الأَرْض فَلَا أرى بِالْقيامِ عَلَيْهَا بَأْسا، كَأَنَّهُ يُرِيد مَا ذكره ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود وَأَصْحَابه أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ أَن يصلوا على الطنافس والفرا والمسوح، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حدّثنا ابْن علية عَن يُونُس عَن الْحسن أَنه كَانَ يُصَلِّي على طنفسة وَقَدمَاهُ وَركبَتَاهُ عَلَيْهَا وَيَديه وجبهته على الأَرْض أَو بردي، وَعَن ابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَقَتَادَة: الصَّلَاة على الطنفسة مُحدث، وَكره الصَّلَاة على غير الأَرْض عُرْوَة بن الزبير وَجَابِر بن زيد وَابْن مَسْعُود، وَنهى أَبُو بكر عَن الصَّلَاة على البرادع، وَقَالَ أَبُو نعيم فِي (كتاب الصَّلَاة) تأليفه: حدّثنا زَمعَة بن صَالح عَن سَلمَة بن وهرام عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: (أَن النَّبِي صلى على بِسَاط) ، وحدّثنا زَمعَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن كريب عَن أبي معبد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (قد صلى رَسُول ا، على بِسَاط) .
38394 - ح دّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدّثنا الليْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ أخْبَرَتْهُ أَن رسولَ الله كَانَ يُصَلِّي وَهْيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ عَلَى فِرَاشِ أهْلِهِ اعْتِرَاضَ الجَنَازَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: بكير، بِضَم الْبَاء وَاللَّيْث: هُوَ ابْن سعد، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد بن عقيل، بِفَتْح الْعين، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: (كَانَ النَّبِي: يُصَلِّي صلَاته كلهَا من اللَّيْل وَأَنا مُعْتَرضَة بَينه وَبَين الْقبْلَة على فرَاش أَهله اعْتِرَاض الْجِنَازَة) . وَفِي لفظ: (وسط السرير وَأَنا مُضْطَجِعَة بَينه وَبَين الْقبْلَة تكون لي الْحَاجة فأكره أَن أقوم فأستقبله، فأنسل انسلالاً من قبل رجلَيْهِ) . وَفِي لفظ: (وَأَنا حذاءه وَأَنا حَائِض) . وَرُبمَا قَالَت: (أصابني ثَوْبه إِذا سجد) . وَفِي لفظ: (عَليّ مرط وَعَلِيهِ بعضه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن هَاشم بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: (أَن رَسُول الله كَانَ يُصَلِّي صَلَاة من اللَّيْل وَهِي مُعْتَرضَة بَينه وَبَين الْقبْلَة رَاقِدَة على الْفراش الَّذِي يرقد عَلَيْهِ، حَتَّى إِذا أَرَادَ أَن يُوتر أيقظها فأوترت) . وَفِي لفظ: (فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد ضرب رجْلي فقبضتهما) . وَفِي لفظ: (فَإِذا أَرَادَ أَن يُوتر قَالَ؛ تنحي) . وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بِهِ.(4/115)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهِي بَينه وَبَين الْقبْلَة) أَي: وَالْحَال أَن عَائِشَة بَين النَّبِي وَبَين مَوضِع سُجُوده. قَوْله: (اعْتِرَاض الْجِنَازَة) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: كاعتراض الْجِنَازَة، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره، وَهِي مُعْتَرضَة بَينه وَبَين الْقبْلَة اعتراضاً كاعتراض الْجِنَازَة. وَالْمرَاد: أَنَّهَا تكون نَائِمَة بَين يَدَيْهِ من جِهَة يَمِينه إِلَى جِهَة شِمَاله، كَمَا تكون الْجِنَازَة بَين يَدي الْمُصَلِّي. والجنازة، بِكَسْر الْجِيم وَهُوَ اخْتِيَار ثَعْلَب فِي (فصيحه) ، وَحكى فِي (نوادره) عَن أبي زيد: الْجِنَازَة، مَكْسُورَة الْجِيم وَلَا تفتح، وَكَذَا ذكره أَبُو عَليّ أَحْمد بن جَعْفَر الدينَوَرِي فِي كِتَابه (إصْلَاح الْمنطق) ، وَحكى المطرزي عَن الْأَصْمَعِي: الْجِنَازَة والجنازة لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، وَكَذَا قَالَه كرَاع فِي (الْمُنْتَخب) وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْجِنَازَة النعش، والجنازة الْمَيِّت. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعَامَّة تَقول: الْجِنَازَة، بِالْفَتْح وَالْمعْنَى: الْمَيِّت على السرير، وَفِي (شرح الفصيح) لِابْنِ عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن المرزوقي: الْجِنَازَة اسْم المتوفي فِي الأَصْل. وَقَالَ بَعضهم، بِفَتْح الْجِيم فِي الْمُتَوفَّى، وَقَالَ الْخَلِيل: الْجِنَازَة بِكَسْر الْجِيم: السرير، يَعْنِي سَرِير الْمَيِّت. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: لَا يُقَال للْمَيت جَنَازَة حَتَّى يكون على نعش، وَلَا يُقَال للنعش جَنَازَة حَتَّى يكون عَلَيْهَا ميت. وَفِي (الْمُحكم) : جنز الشَّيْء يجنزه جنزاً: ستره، وَقَالَ ابْن دُرَيْد عَن قوم: إِن اشتقاق الْجِنَازَة من ذَلِك، قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا صِحَّته، وَقد قيل: هُوَ نبطي.
32 - (بابٌ السُّجُودِ عَلى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُجُود الْمُصَلِّي على طرف ثَوْبه مثل كمه وذيله لأجل شدَّة الْحر، وَلَفظ: الْحر، لَيْسَ بِقَيْد، لِأَن حكم الْبرد كَذَلِك. وَإِنَّمَا ذكر مُوَافقَة للفظ الحَدِيث.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
وَقَالَ الحَسَنُ كانَ القَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلى العِمَامَةِ وَالقَلَنْسَوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ.
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة إلاَّ بالتعسف، لِأَن التَّرْجَمَة فِي السُّجُود على الثَّوْب، وَهَذَا لَا يُطلق على الْعِمَامَة، وَلَا على القلنسوة، وَلَكِن كَانَ هَذَا الْبَاب والأبواب الثَّلَاثَة الَّتِي قبله فِي السُّجُود على غير وَجه الأَرْض، بل كَانَ على شَيْء هُوَ على الأَرْض، وَهُوَ أَعم من أَن يكون حَصِيرا أَو خمرة أَو فراشا أَو عِمَامَة أَو قلنسوة أَو نَحْو ذَلِك، فبهذه الْحَيْثِيَّة تدخل الْعِمَامَة والقلنسوة فِي الْبَاب؛ وَالْحسن هُوَ: الْبَصْرِيّ، وَأَرَادَ بالقوم الصَّحَابَة، والقلسنوة: غشاء مبطن تلبس على الرَّأْس. قَالَه الْقَزاز فِي (شرح الفصيح) وَعَن ابْن خالويه: الْعَرَب تسمي القلنسوة برنساً. وَفِي (التَّلْخِيص) لأبي هِلَال العسكري: الْبُرْنُس: القلنسوة الواسعة الَّتِي تغطى بهَا العمائم، تستر من الشَّمْس والمطر. وَفِي (الْمُحكم) : هِيَ من ملابس الرؤوس مَعْرُوف. وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (شَرحه) : هِيَ الَّتِي تَقول لَهَا الْعَامَّة الشاشية، وَذكر ثَعْلَب فِي (فصيحه) لُغَة أُخْرَى وَهِي: القليسية، بِضَم الْقَاف وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء وَكسر(4/116)
السِّين وَفتح الْيَاء وَفِي آخِره هاه، وَفِي (الْمُحكم) : وَعِنْدِي أَن قليسية لَيست بلغَة، وَإِنَّمَا هِيَ مصغرة، وَفِي (شرح الْغَرِيب) لِابْنِ سَيّده: وَهِي قلنساة وقلساة، وَجَمعهَا: قلانس وقلاسي وقلنس وقلونس، ثمَّ يجمع على: قلنس، وَفِيه قلب حَيْثُ جعل الْوَاو قبل النُّون، وَعَن يُونُس: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: قلنسية، وَتَمِيم يَقُولُونَ: قلنسوة. وَفِي (شرح المرزوقي) : قلنست الشَّيْء إِذا غطيته.
قَوْله: (ويداه فِي كمه) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَيَديه فِي كمه) ، وَجه الأول أَن: يَدَاهُ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: فِي كمه، خَبره وَالْجُمْلَة حَال، وَالتَّقْدِير: ويدا كل وَاحِد فِي كمه، فلأجل ذَلِك قَالَ: ويداه فِي كمه، وَذَلِكَ لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: وأيديهم فِي أكمامهم، وَوجه الثَّانِي: أَن: يَدَيْهِ، مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: وَيجْعَل كل وَاحِد يَدَيْهِ فِي كمه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن الْحسن قَالَ: (إِن أَصْحَاب النَّبِي كَانُوا يَسْجُدُونَ وأيديهم فِي ثِيَابهمْ، وَيسْجد الرجل مِنْهُم على قلنسوته وعمامته) .
وَأخرجه أَيْضا عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن هِشَام بن حسان عَن الْحسن نَحوه. وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن يُونُس: (عَن الْحسن أَنه كَانَ يسْجد فِي طيلسانه) . وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن عدي: (عَن حميد: رَأَيْت الْحسن يلبس أنبجانيا فِي الشتَاء وَيُصلي فِيهِ وَلَا يخرج يَدَيْهِ) . وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن زيد يسْجد على كور عمَامَته، وَكَذَلِكَ الْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب وَبكر بن عبد ا، وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَعبد ابْن أبي أوفى وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد، وَكَانَ عبَادَة بن الصَّامِت وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأَبُو عُبَيْدَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وَمَيْمُون بن مهْرَان وَعُرْوَة بن الزبير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وجعدة بن هُبَيْرَة يكْرهُونَ السُّجُود على الْعِمَامَة، وَذكر مُحَمَّد بن أسلم الطوسي فِي كِتَابه (تَعْظِيم قدر الصَّلَاة) : عَن خَلاد بن يحيى عَن عبد ابْن المحرز عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي سجد على كور عمَامَته) . قَالَ ابْن أسلم: هَذَا سَنَد ضَعِيف.
58315 - ح دّثنا أبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ قَالَ حدّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدّثني غالِبٌ القَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أنَس بنِ مالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ فيضَعُ أحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ منْ شِدَّةِ الحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ. (الحَدِيث 583 طرفاه فِي: 245، 8021) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، ذكرُوا، و: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْفَاء وَتَشْديد الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة: الرقاشِي، بِفَتْح الرَّاء: العثماني، كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة. وغالب، بالغين الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام: ابْن خطَّاف، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبِفَتْحِهَا وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة: الْقطَّان، بِالْقَافِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أبي الْوَلِيد، وَفِي بشر وبالإفراد فِي غَالب عِنْد الْأَكْثَرين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: حِكَايَة قَول الصَّحَابِيّ عَمَّا يَفْعَله، وَالنَّبِيّ يُشَاهِدهُ وَلَا يُنكره، فَيكون تقريراً مِنْهُ. فَإِن قلت: كَانَ أنس خلف النَّبِي؟ قلت: مَا كَانَ يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَحْوَال من كَانَ خَلفه فِي الصَّلَاة، لِأَنَّهُ قد كَانَ يرى من خَلفه كَمَا يرى من قدامه، فَيكون قَول الصَّحَابِيّ، كُنَّا نَفْعل كَذَا من قبيل الْمَرْفُوع، وَلَا سِيمَا اتّفق الشَّيْخَانِ على تَخْرِيج هَذَا الحَدِيث فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَغَيرهمَا كَذَلِك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد، وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فَيَضَع أَحَدنَا) جملَة معطوفة على قَوْله: (كُنَّا نصلي) . قَوْله: (طرف ثَوْبه) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: يضع، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد: (بسط ثَوْبه فَسجدَ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (كُنَّا إِذا صلينَا خلف رَسُول الله بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الْحر) . وَعند ابْن أبي شيبَة: (كُنَّا نصلي مَعَ النَّبِي فِي شدَّة الْحر وَالْبرد فَيسْجد على ثَوْبه) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمَالك، وَأحمد وَإِسْحَاق على جَوَاز السُّجُود على الثَّوْب فيشدة الْحر وَالْبرد، وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي اتعالى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من حَدِيث إِبْرَاهِيم قَالَ: (صلى(4/117)
عمر ذَات يَوْم بِالنَّاسِ الْجُمُعَة فِي يَوْم شَدِيد الْحر، فَطرح طرف ثَوْبه بِالْأَرْضِ فَجعل يسْجد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِذا وجد أحدكُم الْحر فليسجد على طرف ثَوْبه) . وَرَوَاهُ زيد بن وهب عَن عمر بِنَحْوِهِ، وَأمر بِهِ إِبْرَاهِيم أَيْضا وَعَطَاء، وَفعله مُجَاهِد. وَقَالَ الْحسن: لَا بَأْس بِهِ، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر أَيْضا عَن الشّعبِيّ وَطَاوُس وَالْأَوْزَاعِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول ومسروق وَشُرَيْح. وَقَالَ صَاحب (التَّهْذِيب) من الشَّافِعِيَّة: وَبِه قَالَ أَكثر الْعلمَاء، والْحَدِيث حجَّة على الشَّافِعِي حَيْثُ لم يجوز ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: حمله الشَّافِعِي على الثَّوْب الْمُنْفَصِل، قُلْنَا: لفظ: ثَوْبه، دلّ على الْمُتَّصِل بِهِ من حَيْثُ اللَّفْظ، وَهُوَ تعقيب السُّجُود بالبسط، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد، وَكَذَا دلّ على الْمُتَّصِل بِهِ من خَارج اللَّفْظ، وَهُوَ قلَّة الثِّيَاب عِنْدهم. فَإِن قلت: أيد الْبَيْهَقِيّ حمل الشَّافِعِي على الثَّوْب الْمُنْفَصِل بِمَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ: (فَيَأْخُذ أَحَدنَا الْحَصَى فِي يَده فَإِذا برد وَضعه وَسجد عَلَيْهِ) . قَالَ: فَلَو جَازَ السُّجُود على شَيْء مُتَّصِل بِهِ لما احتاجوا إِلَى تبريد الْحَصَى مَعَ طول الْأَمر فِيهِ.
قلت: ورد هَذَا بِاحْتِمَال أَن يكون الَّذِي كَانَ يبرد الْحَصَى لم يكن فِي ثَوْبه فضلَة يسْجد عَلَيْهَا مَعَ بَقَاء ستْرَة لَهُ. فَإِن قلت: احْتج الشَّافِعِي بِحَدِيث خباب قَالَ: (شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حر الرمضاء فِي جباهنا فَلم يشكنا) . أَي: فَلم يزل شكوانا، وَبِمَا روى عَنهُ أَنه قَالَ: (ترب جبينك يَا رَبَاح) . قلت: حَدِيث خباب لَيْسَ فِيهِ ذكر الجباه والأكف فِي المسانيد الْمَشْهُورَة، ثَبت فَهُوَ مَحْمُول على التَّأْخِير الْكثير حَتَّى تبرد الرمضاء، وَذَلِكَ يكون فِي أَرض الْحجاز بعد الْعَصْر. وَيُقَال: إِنَّه مَنْسُوخ بقوله: (أبردوا بِالظّهْرِ فَإِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم) . وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عبد ابْن عبد الرَّحْمَن قَالَ: (جَاءَنَا رَسُول اعليه الصَّلَاة وَالسَّلَام، فصلى بِنَا فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فرأيته وَاضِعا يَدَيْهِ فِي ثَوْبه إِذا سجد) . رَوَاهُ أَحْمد وَابْن ماجة. فَإِن قلت: هَذَا مَحْمُول على الثَّوْب الْمُنْفَصِل الَّذِي لَا يَتَحَرَّك بحركته.
قلت: هَذَا بعيد لقَوْله: (بسط ثَوْبه فَسجدَ عَلَيْهِ) . إِذْ: الْفَاء، فِيهِ للتعقيب. وكل حَدِيث احْتج بِهِ الشَّافِعِي فِي هَذَا الْبَاب فَهُوَ مُحْتَمل، وَمَا احْتج بِهِ غَيره من الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين فَهُوَ مُحكم، فَيحمل الْمُحْتَمل على الْمُحكم على أَنه قد رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم رووا سُجُوده، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على كور عمَامَته. مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة، أخرج حَدِيثه عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) . وَابْن عَبَّاس، أخرج حَدِيثه أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) . وَعبد ابْن أبي أوفي، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) ، وَجَابِر أخرج حَدِيثه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) . وَأنس أخرج حَدِيثه ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه (الْعِلَل) . وَابْن عمر أخرج حَدِيثه الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم تَمام بن مُحَمَّد الرَّازِيّ فِي (فَوَائده) . فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : أما مَا روى أَن النَّبِي كَانَ يسْجد على كور عمَامَته فَلَا يثبت مِنْهُ شَيْء. قلت: حَدِيث ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن أبي أوفى جِيَاد، وَمَا كَانَ مِنْهُ من الضَّعِيف يشْتَد بِالْقَوِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي هَذَا الْبَاب. وَبِمَا ذكرنَا هَهُنَا يحصل الْجَواب عَمَّا قَالَه الْكرْمَانِي فِي هَذَا الْبَاب من فرقه بَين الْمَحْمُول المتحرك وَغَيره، وَالِاسْتِدْلَال بقوله: (ترب وَجهك) ، وَحَدِيث الْبَاب أَيْضا يرد مَا ذكره من قَوْله: وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء قِيَاس بالفارق، وَقِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص.
قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك لأَنا عَملنَا أَولا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ورد فِي هَذَا الْبَاب، وبالقياس أَيْضا، فَهَذَا أقوى. وَقَوله: ثَبت أَنه كَانَ يُبَاشر الأَرْض بِوَجْهِهِ فِي سُجُوده، فَنَقُول: بَاشر أَيْضا ثَوْبه فِي سُجُوده، كَمَا مر، وبدليل مَا لَو سجد على الْبسَاط يجوز بِالْإِجْمَاع، فَإِن احْتج بقوله: (مكن جبهتك وأنفك من الأَرْض) ، فَنَقُول بِمُوجبِه، وَهُوَ وجدان حجم الأَرْض حَتَّى إِذا امْتنع حجمها لَا يجوز. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ أَي فِي حَدِيث الْبَاب تَقْدِيم الظّهْر فِي أول الْوَقْت قُلْنَا: ظَاهر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْأَمر بالإيراد بِالظّهْرِ يُعَارضهُ، وَدفعهَا إِمَّا بِأَن نقُول: إِن التَّقْدِيم رخصَة والإيراد سنة، فَإِذا قُلْنَا: أَحَادِيث الْأَمر بالإيراد ناسخة لَا يبْقى تعَارض. فَافْهَم.
وَمِمَّا يستنبط من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة عَفْو، لِأَن وضع طرف الثَّوْب فِي مَوضِع السُّجُود، عمل. وَا أعلم.
42 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي النعالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي النِّعَال، أَي: على النِّعَال أَو؛ بالنعال، لِأَن الظَّرْفِيَّة غير صَحِيحَة.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب السَّابِق تَغْطِيَة الْوَجْه بِالثَّوْبِ الَّذِي يسْجد عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْبَاب تَغْطِيَة بعض الْقَدَمَيْنِ.(4/118)
68325 - ح دّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخبرنَا أبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بنُ يَزِيدَ الأَزْرِيُّ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مالِكٍ أكانَ النَّبيُّ يُصلِّي فِي نَعْلَيْهِ قَالَ نعَمْ. (الحَدِيث 683 طرفه فِي 0585) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة مر ذكرهم، وَأَبُو مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام، وَسَعِيد بِالْيَاءِ، وَيزِيد من الزِّيَادَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وكوفي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن بشر بن الْمفضل وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن عباد بن الْعَوام. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يزِيد بن زُرَيْع وغسان بن مُضر.
ذكر مَعْنَاهُ واستنباط الحكم مِنْهُ: قَوْله: (أَكَانَ النَّبِي) اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستفسار. قَوْله: (يُصَلِّي فِي نَعْلَيْه؟) أَي: على نَعْلَيْه، أَو بنعليه، كَمَا ذكرنَا. والنعل: الْحذاء مُؤَنّثَة وتصغيرها: نعيلة، وَقَالَ ابْن بطال: معنى هَذَا الحَدِيث عِنْد الْعلمَاء إِذا لم يكن فِي النَّعْلَيْنِ نَجَاسَة فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فيهمَا، وَإِن كَانَ فيهمَا نَجَاسَة فليمسحهما وَيصلى فيهمَا. وَاخْتلفُوا فِي تَطْهِير النِّعَال من النَّجَاسَات، فَقَالَت طَائِفَة: إِذا وطىء القذر الرطب يجْزِيه أَن يمسحهما بِالتُّرَابِ وَيُصلي فِيهِ. وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا يجْزِيه أَن يطهر الرطب إِلَّا بِالْمَاءِ، وَإِن كَانَ يَابسا أَجزَأَهُ حكه. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يطهر النَّجَاسَات إِلَّا المَاء فِي الْخُف والنعل وَغَيرهمَا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الصَّلَاة فِي النِّعَال من الرُّخص لَا من المستحبات، لِأَن ذَلِك لَا يدْخل فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب من الصَّلَاة.
قلت: كَيفَ لَا تكون من المستحبات بل يَنْبَغِي أَن تكون من السّنَن، لِأَن أَبَا دَاوُد روى فِي (سنَنه) : حدّثنا قُتَيْبَة بن سعيد حدّثنا مَرْوَان ابْن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن هِلَال بن مَيْمُون الرَّمْلِيّ عَن يعلى بن شَدَّاد بن أَوْس عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (خالفوا الْيَهُود فَإِنَّهُم لَا يصلونَ فِي نعَالهمْ وَلَا فِي خفافهم) . وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا، فَيكون مُسْتَحبا من جِهَة قصد مُخَالفَة الْيَهُود، وَلَيْسَت بِسنة لِأَن الصَّلَاة فِي النِّعَال لَيست بمقصوده بِالذَّاتِ، وَقد روى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله حافياً ومتنعلاً) ، وَهَذَا يدل على الْجَوَاز من غير كَرَاهَة، وَحكى الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) عَن بَعضهم أَن الصَّلَاة فِيهِ أفضل.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: جَوَاز الْمَشْي فِي الْمَسْجِد بالنعل.
52 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي الخِفَافِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْخفاف أَي: بالخفاف. وَهُوَ جمع خف.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
78335 - ح دّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنه الأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ إبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ عنْ هَمّامِ بنُ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلى خفَّيْهِ ثُمَّ قامَ فَصَلى فَسُئِلَ فَقالَ رَأَيْتُ النبيَّ صَنَعَ مِثْلَ هذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ فَكانَ يُعْجِبُهُمْ لأَنَّ جَرِيراً كانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أسْلَمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمسح على خفيه ثمَّ قَامَ فصلى) لِأَنَّهُ صلى وَهُوَ لابس خفيه، إِذْ لَو نزعهما بعد الْغسْل لوَجَبَ غسل رجلَيْهِ، وَلَو غسلهمَا لنقل فِي الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: آدم بن أبي إِيَاس، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، وَسليمَان الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ، وَهَمَّام: على وزن فعال بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد، كَانَ من الْعباد مَاتَ فِي زمن الْحجَّاج، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد االبجلي الصَّحَابِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد من الْمُضَارع. وَفِيه: السماع(4/119)
فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل وَالرِّوَايَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم، وَعلي بن خشرم وَعَن يحيى بن يحيى وَإِسْحَاق وَأبي كريب وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن ابْن أبي شيبَة وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن منْجَاب بن الْحَارِث. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن مُحَمَّد، الْكل عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن عبد ابْن دَاوُد عَن بكير بن عَامر عَن أبي زرْعَة بن عَمْرو بن جرير: (أَن جَرِيرًا بَال ثمَّ تَوَضَّأ فَمسح على خفيه، قَالَ: مَا يَمْنعنِي أَن أَمسَح وَقد رَأَيْت رَسُول الله يمسح؟ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك قبل نزُول الْمَائِدَة. قَالَ: مَا أسلمت إِلَّا بعد نزُول الْمَائِدَة) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث ربعي بن حِرَاش عَنهُ، قَالَ: (وضأت رَسُول الله فَمسح على خفيه بعد مَا نزلت سُورَة الْمَائِدَة) . ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان عَن ربعي إلاَّ ياسين الزيات، تفرد بِهِ عبد الرَّزَّاق، وَيَاسِين مُتَكَلم فِيهِ، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين عَنهُ أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله فِي حجَّة الْوَدَاع فَذهب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يتبرز فَرجع فَتَوَضَّأ وَمسح على خفيه، ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن مُحَمَّد بن سِيرِين إلاَّ خَالِد الْحذاء، وَلَا عَن خَالِد إلاَّ حَارِث بن شُرَيْح، تفرد بِهِ سِنَان بن فروخ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ قَامَ فصلى) ، ظَاهره أَنه صلى فِي خفيه كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَسئلَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: سُئِلَ جرير عَن الْمسْح عل الْخُفَّيْنِ وَالصَّلَاة فيهمَا، وَقد بَين الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيثه من طَرِيق جَعْفَر بن الْحَارِث عَن الْأَعْمَش أَن السَّائِل لَهُ عَن ذَلِك هُوَ همام بن الْحَارِث الْمَذْكُور، وَله من طَرِيق زَائِدَة عَن الْأَعْمَش، فعاب عَلَيْهِ ذَلِك رجل من الْقَوْم. قَوْله: (مثل هَذَا) أَي: من الْمسْح على خفيه وَالصَّلَاة فيهمَا. قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) أَي: الْمَذْكُور، وَهُوَ النَّخعِيّ. قَوْله: (فَكَانَ) أَي: فَكَانَ حَدِيث جرير يعجبهم، أَي: يعجب الْقَوْم لِأَنَّهُ من جملَة الَّذين أَسْلمُوا فِي آخر حَيَاة رَسُول ا، وَقد أسلم فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا رَسُول ا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش: كَانَ يعجبهم هَذَا الحَدِيث، وَمن طَرِيق عِيسَى بن يُونُس، فَكَانَ أَصْحَاب عبد ابْن مَسْعُود يعجبهم. قَوْله: (من آخر من أسلم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لِأَن إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول الْمَائِدَة) .
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (إِنَّمَا كَانَ ذَلِك) أَي: مسح النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْخُفَّيْنِ بعد نزُول الْمَائِدَة. فَقَالَ جرير: مَا أسلمت إلاَّ بعد نزُول الْمَائِدَة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، من طَرِيق شهر بن حَوْشَب: (قَالَ: رَأَيْت جرير بن عبد ا) فَذكر نَحْو حَدِيث الْبَاب، قَالَ: (فَقلت لَهُ: أقبل الْمَائِدَة أم بعْدهَا؟ قَالَ: مَا أسلمت إلاَّ بعد الْمَائِدَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث مُفَسّر، لِأَن بعض من أنكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ تَأَول أَن مسح النَّبِي على الْخُفَّيْنِ كَانَ قبل نزُول آيَة الْوضُوء الَّتِي فِي الْمَائِدَة، فَيكون مَنْسُوخا: فَذكر جرير فِي حَدِيثه أَنه رَآهُ يمسح بعد نزُول الْمَائِدَة، فَكَانَ أَصْحَاب ابْن مَسْعُود يعجبهم حَدِيث جرير لِأَن فِيهِ ردا على أَصْحَاب التَّأْوِيل الْمَذْكُور. قلت: قَالَ اتعالى فِي سُورَة الْمَائِدَة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} (النِّسَاء: 34، والمائدة: 6) الْآيَة، فَلَو كَانَ إِسْلَام جرير مُتَقَدما على نزُول الْمَائِدَة لاحتمل كَون حَدِيثه فِي مسح الْخُف مَنْسُوخا بِآيَة الْمَائِدَة، فَلَمَّا كَانَ إِسْلَامه مُتَأَخِّرًا علمنَا أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين أَن المُرَاد بِآيَة الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون السّنة مخصصة لِلْآيَةِ. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ) : عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم رَضِي اعنه، قَالَ: مَا سَمِعت فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ أحسن من حَدِيث جرير رَضِي اعنه، وَقد ورد مؤرخاً بِحجَّة الْوَدَاع فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَاعْلَم أَنه وَردت فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عدَّة أَحَادِيث تبلغ التَّوَاتُر على رَأْي كثير من الْعلمَاء. قَالَ الْمَيْمُونِيّ: عَن أَحْمد: فِيهَا سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابياً. وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ: أَرْبَعُونَ، كَذَا قَالَه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مسح على الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة، وَغَيرهم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار وَعَامة أهل الْعلم والأثر، وَلَا يُنكره إلاَّ مخذول مُبْتَدع خَارج عَن جمَاعَة الْمُسلمين. وَفِي (الْبَدَائِع) : الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عَامَّة الْفُقَهَاء وَعَامة الصَّحَابَة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ:(4/120)
أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، كلهم يرَوْنَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط السّنة وَالْجَمَاعَة، فَقَالَ: مِنْهَا أَن تفضل الشَّيْخَيْنِ، وتحب الختنين، وَترى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَأَن لَا تحرم نَبِيذ الْجَرّ يَعْنِي المثلث. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا على كبار الصَّحَابَة، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ فَكَانَ بِدعَة، وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْبَوْل بمشهد الرجل وَإِن كَانَت السّنة الاستتار عَنهُ. وَفِيه: الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. وَفِيه: الْإِعْجَاب بِبَقَاء حكم من الْأَحْكَام، وَهُوَ يدل على عدم النّسخ، وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا الْبَاب كالباب الَّذِي قبله فِي أَن الْخُف لَو كَانَ فِيهِ قذر فَحكمه حكم النَّعْل.
62 - (بابٌ إذَا لَمْ يُتِم السُّجُودَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم الْمُصَلِّي إِذا لم يتم سُجُوده فِي صلَاته، يَعْنِي أَنه: لَا يجوز لترتب الْوَعيد الشَّديد فِي حَقه. هَذَا الْبَاب، وَالْبَاب الَّذِي يَلِيهِ لم يقعا هَهُنَا أصلا عِنْد الْمُسْتَمْلِي، لِأَن مَحلهمَا فِي أَبْوَاب صفة الْوضُوء، وَإِنَّمَا وَقعا عِنْد الْأصيلِيّ، وَلَكِن قبل بَاب الصَّلَاة فِي النِّعَال، وَقَالَ بَعضهم: إِعَادَة هَاتين الترجمتين هُنَا، وَفِي بَاب السُّجُود، الْحمل فِيهِ عِنْدِي على النساخ بِدَلِيل سَلامَة رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي من ذَلِك وَهُوَ أحفظهم. قلت: تكْرَار هَذَا الْبَاب وإعادته لَهُ وَجه، لِأَن عَادَته التّكْرَار عِنْد وجود الْفَائِدَة، وَهِي مَوْجُودَة فِيهِ لِأَنَّهُ ترْجم هُنَا بقوله: (بَاب إِذا لم يتم السُّجُود) ، وَهُنَاكَ ترْجم بقوله: (بَاب إِذا لم يتم الرُّكُوع) . وَشَيْخه هُنَا: الصَّلْت ابْن مُحَمَّد يروي عَن مهْدي عَن وَاصل عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة أَنه رأى رجلا ... وَهُنَاكَ شَيْخه: حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان، قَالَ: سَمِعت زيد بن وهب، قَالَ: رأى حُذَيْفَة رجلا. وَفِي بَقِيَّة الْمَتْن أَيْضا تغاير. وَأما الْبَاب الثَّانِي فَلَيْسَ لذكره مَحل هَهُنَا، لِأَنَّهُ كَمَا هُوَ مَذْكُور هَهُنَا مَذْكُور هُنَاكَ، كَذَلِك: تَرْجَمَة ورواةً ومتناً.
فَإِن قلت: على مَا ذكره الْأصيلِيّ: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين بَاب السُّجُود على الثَّوْب فِي شدَّة الْحر؟ قلت: ظَاهر، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا فِي حكم السُّجُود.
55 - (أخبرنَا الصَّلْت بن مُحَمَّد أخبرنَا مهْدي عَن وَاصل عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة أَنه رأى رجلا لَا يتم رُكُوعه وَلَا سُجُوده فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ لَهُ حُذَيْفَة مَا صليت قَالَ وَأَحْسبهُ قَالَ لَو مت مت على غير سنة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -)(4/121)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول الصَّلْت بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي الْبَصْرِيّ ونسبته إِلَى خارك بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْكَاف وَهُوَ من سواحل الْبَصْرَة. الثَّانِي مهْدي بِلَفْظ الْمَفْعُول ابْن مَيْمُون أَبُو يحيى الْأَزْدِيّ مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث وَاصل بن حبَان الأحدب. الرَّابِع أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. الْخَامِس حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي النّصْف الأول بَصرِي وَالنّصف الثَّانِي كُوفِي وَحَدِيث حُذَيْفَة هَذَا مُعَلّق من إِفْرَاد البُخَارِيّ قَوْله " لَا يتم رُكُوعه " جملَة وَقعت صفة لقَوْله " رجلا " قَوْله " فَلَمَّا قضى صلَاته " أَي فَلَمَّا أدّى صلَاته وَالْقَضَاء يَجِيء بِمَعْنى الْأَدَاء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} قَوْله " مَا صليت " قد نفى الصَّلَاة عَنهُ لِأَن الْكل يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الْجُزْء فانتفاء إتْمَام الرُّكُوع مُسْتَلْزم لانْتِفَاء الرُّكُوع المستلزم لانْتِفَاء الصَّلَاة وَكَذَا حكم السُّجُود قَوْله " وَأَحْسبهُ " أَي قَالَ أَبُو وَائِل وأحسب حُذَيْفَة قَالَ أَيْضا لَو مت ويروى فِيهِ كسر الْمِيم من مَاتَ يمات وَضمّهَا من مَاتَ يَمُوت وَالْمرَاد من السّنة الطَّرِيقَة المتناولة للْفَرض وَالنَّفْل وَقَالَ ابْن بطال مَا صليت يَعْنِي صَلَاة كَامِلَة وَنفى عَنهُ الْعَمَل لقلَّة التجويد فِيهَا كَمَا تَقول للصانع إِذا لم يجد مَا صنعت شَيْئا تُرِيدُ نفي الْكَمَال وَهُوَ يدل على أَن الطُّمَأْنِينَة سنة (قلت) هَذَا التَّأْوِيل لمن يَدعِي أَن الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود سنة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ فرض على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
72 - (بابٌ يُبْدِي ضَبْعَيْهِ ويُجَافِي فِي السجُودِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن السّنة للْمُصَلِّي أَن يُبْدِي ضبعيه. قَوْله: (يُبْدِي) ، بِضَم الْيَاء من الإبداء، وَهُوَ: الْإِظْهَار. قَوْله: (ضبعيه) تَثْنِيَة: ضبع، بِفَتْح الضَّاد وَسُكُون الْبَاء. وَفِي (الموعب) : الضبع مِثَال صقر: الْعَضُد، مُذَكّر وَيُقَال: الْإِبِط. وَقيل: مَا بَين الْإِبِط إِلَى نصف الْعَضُد من أَعْلَاهُ. وَفِي (الْمُخَصّص) : قيل: الضبع هُوَ إِذا أدخلت يدك تَحت إبطَيْهِ من خَلفه واحتملته، والعضد يذكر وَيُؤَنث. وَفِي (الْمُحكم) : الضبع يكون للْإنْسَان وَغَيره. وَفِي (الْجَامِع) ، للقزاز و (الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد: الضبعان رَأس الْمَنْكِبَيْنِ، الْوَاحِد ضبع، سَاكن الْبَاء. وَفِي (الْجَامِع) و (الصِّحَاح) : الْجمع أضباع. وَقَالَ السفاقسي: الضبع مَا تَحت الْإِبِط، وَمعنى: يُبْدِي ضبعيه، لَا يلصق عضديه بجنبيه. قَوْله: (ويجافي) أَي: يباعد عضديه عَن جَنْبَيْهِ ويرفعهما عَنْهُمَا، ويجافي: من الْجفَاء، وَهُوَ الْبعد عَن الشَّيْء. يُقَال: جفاه إِذا بعد عَنهُ، وأجفاه إِذا أبعده ويجافي بِمَعْنى يجفي أَي: يبعد جَنْبَيْهِ، وَلَيْسَت المفاعلة هَهُنَا على بَابهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وسارعوا} (آل عمرَان: 331) أَي: أَسْرعُوا.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ على تَقْدِير ثُبُوت هَذَا الْبَاب هَهُنَا. قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق حكم الطُّمَأْنِينَة فِي السُّجُود، وَهَهُنَا إبداء الضبعين ومجافاة الجنبين فِي السُّجُود، وَكلهَا من أَحْكَام السُّجُود.
56 - (أخبرنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا بكر بن مُضر عَن جَعْفَر عَن ابْن هُرْمُز عَن عبد الله بن مَالك بن بُحَيْنَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا صلى فرج بَين يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " كَانَ إِذا صلى " لِأَن المُرَاد من قَوْله صلى سجد من قبيل إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْجُزْء. وَإِذا فرج بَين يَدَيْهِ لَا بُد من إبداء ضبعيه والمجافاة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة يحيى بن بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَبكر بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مُضر بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وروى غير منصرف للعلمية وَالْعدْل مثل عمر وَقَالَ الْكرْمَانِي أما بِاعْتِبَار العجمة (قلت) هَذَا بعيد لِأَنَّهُ لفظ عَرَبِيّ خَالص من مُضر اللَّبن يمضر مضورا وَهُوَ الَّذِي يحذي اللِّسَان قبل أَن يروب وَقَالَ أَبُو عبيد قَالَ أَبُو الْوَلِيد اسْم مُضر مُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وجعفر هُوَ ابْن ربيعَة بن شُرَحْبِيل الْمصْرِيّ توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَابْن هُرْمُز بِضَم الْهَاء وَالْمِيم هُوَ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج الْمَشْهُور بالرواية عَن أبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مَالك بن القشب بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وبالباء الْمُوَحدَة الْأَزْدِيّ وبحينة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَهُوَ اسْم أم عبد الله فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْوَالِدين أسلم قَدِيما وَصَحب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ ناسكا فَاضلا يَصُوم الدَّهْر مَاتَ زمن مُعَاوِيَة وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب فِيهِ أَن ينون مَالك(4/122)
وَيكْتب ابْن بِالْألف لِأَن ابْن بُحَيْنَة لَيْسَ صفة لمَالِك بل صفة لعبد الله اسْم أَبِيه مَالك وَاسم أمه بُحَيْنَة فبحينة امْرَأَة مَالك وَأم عبد الله فَلَيْسَ الابْن وَاقعا بَين علمين متناسبين (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن قُتَيْبَة عَن بكر بن مُضر وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ وَمَا اخْتلف من أَلْفَاظه) قَوْله " فرج بَين يَدَيْهِ " مَعْنَاهُ فرج بَين يَدَيْهِ وجنبيه وَفرج الله الْغم بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف وَهُوَ من بَاب ضرب يضْرب وَهُوَ لفظ مُشْتَرك بَين الْفرج الْعَوْرَة والثغر وَمَوْضِع المخافة وَالْحكمَة فِيهِ أَنه أشبه بالتواضع وأبلغ فِي تَمْكِين الْجَبْهَة من الأَرْض وَأبْعد من هيئات الكسالى قَوْله " بَين يَدَيْهِ " على حَقِيقَته يَعْنِي قدامه وَأَرَادَ يبعد قدامه من الأَرْض حَتَّى يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ وَيُؤَيّد هَذَا مَا فِي رِوَايَة مُسلم " إِذا سجد يجنح فِي سُجُوده حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث " كَانَ إِذا سجد فرج يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ حَتَّى أَنِّي لأرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث مَيْمُونَة " كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد لَو شَاءَت بهمة أَن تمر بَين يَدَيْهِ لمرت " وَفِي رِوَايَة " خوى بيدَيْهِ " يَعْنِي جنح " حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ من وَرَائه " وَعند التِّرْمِذِيّ محسنا وَعند الْحَاكِم مصححا عَن عبد الله بن أقرم فَكنت أنظر إِلَى عفرتي إبطَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد وَعند الْحَاكِم مصححا عَن ابْن عَبَّاس " أتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من خَلفه فَرَأَيْت بَيَاض إبطَيْهِ وَهُوَ مجخ قد فرج يَدَيْهِ " وَعند الدَّارَقُطْنِيّ ملزما للْبُخَارِيّ تَخْرِيجه عَن أَحْمد بن جُزْء أَنه قَالَ " كُنَّا لنأوي لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّا يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ إِذا سجد " وَعند أَحْمد وَصَححهُ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ وَابْن خُزَيْمَة عَن جَابر " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد جافى حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَعند ابْن خُزَيْمَة عَن عدي بن عميرَة " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد يرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة أَيْضا عَن الْبَراء " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سجد جنح " وَعند الْحَاكِم على شَرطهمَا عَن أبي هُرَيْرَة " إِذا سجد يرى وضح إبطَيْهِ " وَعند مُسلم من حَدِيث أبي حميد فِي عشرَة من الصَّحَابَة " إِذا سجد جافى بَين يَدَيْهِ " وَعند أبي دَاوُد عَن أبي مَسْعُود وَوصف صلَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه " ثمَّ جافى بَين مرفقيه حَتَّى اسْتَقر كل شَيْء مِنْهُ " قَوْله " يجنح " من التجنيح وَهُوَ أَن يرفع ساعديه فِي السُّجُود عَن الأَرْض فيصيران لَهُ مثل جناحي الطير فَكَذَلِك التجنح قَوْله " وضح إبطَيْهِ " أَي بياضهما وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَالضَّاد الْمُعْجَمَة قَوْله " بهمة " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ الْجَوْهَرِي البهمة من أَوْلَاد الضَّأْن خَاصَّة وَتطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى والسخال أَوْلَاد المعزى وَقَالَ أَبُو عبيد وَغَيره البهمة وَاحِد البهم وَهِي أَوْلَاد الْغنم من الذُّكُور وَالْإِنَاث وَجمع البهم البهام بِكَسْر الْبَاء وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ بَهِيمَة بالصغير وَقيل هُوَ الصَّوَاب وَفتح الْبَاء خطأ قَوْله " خوى " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة أَي جافى بَطْنه عَن الأَرْض ورفعها وجافى عضديه عَن جَنْبَيْهِ حَتَّى يخوى مَا بَين ذَلِك قَوْله " مجخ " بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم وبالخاء الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة من جخ بِفَتْح الْجِيم وَالْخَاء الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة إِذا فتح عضديه عَن جَنْبَيْهِ ويروى جخي بِالْيَاءِ وَهُوَ أشهر وَهُوَ مثل جخ وَقيل كَانَ إِذا صلى جخ يَعْنِي تحول من مَكَان إِلَى مَكَان قَوْله " لنأوى " أَي نرق لَهُ ونرثي يُقَال أويت الرجل أَوَى لَهُ إِذا أَصَابَهُ شَيْء فرثيت لَهُ والعفرة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء الْبيَاض وَزعم أَبُو نعيم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة أَن بَيَاض إبطَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَلَامَات نبوته (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ التَّفْرِيج بَين يَدَيْهِ وَهُوَ سنة للرِّجَال وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى تضمان لِأَن الْمَطْلُوب فِي حَقّهمَا السّتْر وَحكي عَن بَعضهم أَن السّنة فِي حق النِّسَاء التربع وَبَعْضهمْ خَيرهَا بَين الانفراج والانضمام وَقَالَ ابْن بطال وشرعت المجافاة فِي الْمرْفق ليخف على الأَرْض وَلَا يثقل عَلَيْهَا كَمَا روى أَبُو عُبَيْدَة عَن عَطاء أَنه قَالَ خففوا على الأَرْض وَفِي المُصَنّف وَمِمَّنْ كَانَ يُجَافِي أنس بن مَالك وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَقَالَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم وَعلي بن أبي طَالب قَالَ وَمِمَّنْ رخص أَن يعْتَمد الْمُصَلِّي بمرفقيه أَبُو ذَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن سِيرِين وَقيس بن سعد قَالَ وَحدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن سمي عَن النُّعْمَان(4/123)
ابْن أبي عَيَّاش قَالَ " شَكَوْنَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِدْغَام والاعتماد فِي الصَّلَاة فَرخص لَهُم أَن يَسْتَعِين الرجل بمرفقيه على رُكْبَتَيْهِ أَو فَخذيهِ " وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة " أَنه اشْتَكَى أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مشقة السُّجُود عَلَيْهِم فَقَالَ اسْتَعِينُوا بالركب " وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا وَلَفظه " اشْتَكَى أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مشقة السُّجُود عَلَيْهِم إِذا انفرجوا فَقَالَ اسْتَعِينُوا بالركب وَفِي المُصَنّف حَدثنَا يزِيد بن هَارُون عَن ابْن عون قَالَ " قلت لمُحَمد الرجل يسْجد إِذا اعْتمد بمرفقيه على رُكْبَتَيْهِ قَالَ مَا أعلم بِهِ بَأْسا حَدثنَا عَاصِم عَن ابْن جريج عَن نَافِع قَالَ كَانَ ابْن عمر يضم يَدَيْهِ إِلَى جَنْبَيْهِ إِذا سجد حَدثنَا ابْن نمير حَدثنَا الْأَعْمَش عَن حبيب قَالَ " سَأَلَ رجل ابْن عمر أَضَع مرفقي على فَخذي إِذا سجدت فَقَالَ اسجد كَيفَ تيَسّر عَلَيْك " حَدثنَا وَكِيع عَن أَبِيه عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن قيس بن السكن قَالَ كل ذَلِك قد كَانُوا يَفْعَلُونَ ويضمون ويتجافون كَانَ بَعضهم يضم وَبَعْضهمْ يتجافى. وَفِي الْأُم للشَّافِعِيّ يسن للرجل أَن يُجَافِي مرفقيه عَن جَنْبَيْهِ وَيرْفَع بَطْنه عَن فَخذيهِ وتضم الْمَرْأَة بَعْضهَا إِلَى بعض وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَحكم الْفَرَائِض والنوافل فِي هَذَا سَوَاء
(وَقَالَ اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة نَحوه) هَذَا التَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه فَقَالَ حَدثنَا عَمْرو بن سَواد عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث وَاللَّيْث بن سعد كِلَاهُمَا عَن جَعْفَر بن ربيعَة وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث " إِذا سجد يجنح فِي سُجُوده حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ " وَفِي رِوَايَة اللَّيْث " كَانَ إِذا سجد فرج يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ حَتَّى أَنِّي لأرى بَيَاض إبطَيْهِ " وَقَالَ الْكرْمَانِي وَقَالَ اللَّيْث عطف على بكر أَي حَدثنَا يحيى قَالَ اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر بِلَفْظ التحديث وَمَا روى بكر عَنهُ بطرِيق العنعنة
82 - (بابُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)
لما فرغ من بَيَان أَحْكَام ستر الْعَوْرَة بأنواعها شرع فِي بَيَان اسْتِقْبَال الْقبْلَة على التَّرْتِيب، لِأَن الَّذِي يُرِيد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة يحْتَاج أَولا إِلَى ستر الْعَوْرَة، ثمَّ إِلَى اسْتِقْبَال الْقبْلَة، وَذكر مَا يتبعهَا من أَحْكَام الْمَسَاجِد.
يَسْتَقْبِلُ بِأطْرَافِ رِجْلَيْهِ قالَهُ أبُو حُمَيْدٍ عنِ النبيِّ.
0 - أَي: يسْتَقْبل الْمُصَلِّي برؤوس أَصَابِع رجلَيْهِ نَحْو الْقبْلَة، هَذَا تَعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل فِي صفة الصَّلَاة، رَوَاهُ أَبُو حميد عَن النَّبِي، وخرجه البُخَارِيّ مُسْندًا فِيمَا بعد فِي بَاب سنة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد، وَجعل هَذِه الْقطعَة تَرْجَمَة لباب آخر فِيمَا بعد، حَيْثُ قَالَ: بَاب يسْتَقْبل الْقبْلَة بأطراف رجلَيْهِ، قَالَ أَبُو حميد عَن النَّبِي، وَاسم أبي حميد: عبد الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، قيل: اسْمه الْمُنْذر، غلبت عَلَيْهِ كنيته، مَاتَ فِي آخر زمن مُعَاوِيَة.
فَإِن قلت: مَا مُطَابقَة هَذِه الْقطعَة للتَّرْجَمَة؟ قلت: إِذا عرف فرض الِاسْتِقْبَال وَعرف فَضله عرفت الْمُطَابقَة؛ أما فَرْضه فَهُوَ توجه الْمُصَلِّي بكليته إِلَى الْقبْلَة، وَأما فَضله فَهُوَ استقباله بِجَمِيعِ مَا يُمكن من أَعْضَائِهِ حَتَّى بأطراف أَصَابِع رجلَيْهِ فِي التَّشَهُّد، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ، فَقَالَ: الِاسْتِقْبَال بأطراف أَصَابِع الْقدَم الْقبْلَة عِنْد الْقعُود للتَّشَهُّد، ثمَّ روى حَدِيث عبد ابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، قَالَ: من سنة الصَّلَاة أَن تنصب الْقدَم الْيُمْنَى، واستقباله بأصابعها الْقبْلَة وَالْجُلُوس على الْيُسْرَى. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِذكرِهِ بَيَان مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِقْبَال بِجَمِيعِ مَا يُمكن من الْأَعْضَاء. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن التَّرْجَمَة فِي فضل الِاسْتِقْبَال لَا فِي مشروعيته، على مَا لَا يخفى.
19375 - ح دّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدّثنا ابنُ مَهْدِيَ قَالَ حدّثنا مَنْصُورُ بنُ سَعْدٍ عنْ مَيْمُونِ بنِ سِيَاهٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وأكَلَ ذَبيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) . (الحَدِيث 193 طرفاه فِي: 293، 393) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (واستقبل قبلتنا) ، بَيَانه أَنه أفرد بِذكر اسْتِقْبَال الْقبْلَة بعد قَوْله: (من صلى(4/124)
صَلَاتنَا) مَعَ كَونه دَاخِلا فِيهَا، لِأَنَّهُ من شرائطها، وَذَلِكَ للتّنْبِيه على تَعْظِيم شَأْن الْقبْلَة وَعظم فضل استقبالها، وَهُوَ غير مقتصر على حَالَة الصَّلَاة، بل أَعم من ذَلِك على مَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِالْوَاو: ابْن عَبَّاس، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو عُثْمَان الْأَهْوَازِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان أَبُو سعيد الْبَصْرِيّ اللؤْلُؤِي. الثَّالِث: مَنْصُور بن سعد، وَهُوَ صَاحب اللؤْلُؤِي الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: مَيْمُون بن سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف هَاء، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ: الْأسود، وَيجوز فِيهِ الصّرْف وَمنعه، أما مَنعه فللعلمية والعجمة، وَأما صرفه فلعدم شَرط الْمَنْع، وَهُوَ أَن يكون علما فِي الْعَجم. وَلَفظ: سياه، لَيْسَ بِعلم فِي الْعَجم، فَلذَلِك يكون صرفه أولى. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ فَارسي، وَقيل: عَرَبِيّ. قلت: قَوْله: وَقيل عَرَبِيّ، غير صَحِيح لعدم تصرف وُجُوه الِاشْتِقَاق فِيهِ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن حَفْص بن عمر عَن عبد الرَّحْمَن بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (من صلى صَلَاتنَا) أَي: صلى كَمَا نصلي، وَلَا يُوجد إلاَّ من معترف بِالتَّوْحِيدِ والنبوة، وَمن اعْترف بنبوة مُحَمَّد فقد اعْترف بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ عَن اتعالى، فَلهَذَا جعل الصَّلَاة علما لإسلامه، وَلم يذكر الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا داخلتان فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا ذكر اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَالصَّلَاة متضمنة لَهُ مَشْرُوطَة بِهِ، لِأَن الْقبْلَة أعرف من الصَّلَاة، فَإِن كل أحد يعرف قبلته وَإِن كَانَ لَا يعرف صلَاته، وَلِأَن من أَعمال صَلَاتنَا مَا هُوَ يُوجد فِي صَلَاة غَيرنَا: كالقيام وَالْقِرَاءَة، واستقبال قبلتنا مَخْصُوص بِنَا، ثمَّ لما ذكر من الْعِبَادَات مَا يُمَيّز الْمُسلم من غَيره أعقبه بِذكر مَا يميزه عَادَة وَعبادَة: فَقَالَ: (وَأكل ذبيحتنا) ، فَإِن التَّوَقُّف عَن أكل الذَّبَائِح كَمَا هُوَ من الْعَادَات، فَكَذَلِك هُوَ من الْعِبَادَات الثَّابِتَة فِي كل مِلَّة. قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَأَقُول، وَا أعلم، إِذا أجري الْكَلَام على الْيَهُود سهل تعَاطِي عطف الِاسْتِقْبَال على الصَّلَاة بعد الدُّخُول فِيهَا، ويعضده اخْتِصَاص ذكر الذَّبِيحَة، لِأَن الْيَهُود خُصُوصا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الَّذين حِين تحولت الْقبْلَة شنعوا بقَوْلهمْ: {مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (الْبَقَرَة: 241) أَي: صلوا صَلَاتنَا وَتركُوا الْمُنَازعَة فِي أَمر الْقبْلَة والامتناع عَن أكل الذَّبِيحَة، لِأَنَّهُ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، فَلَمَّا ذكر الصَّلَاة عطف مَا كَانَ الْكَلَام فِيهِ وَمَا هُوَ مهتم بِشَأْنِهِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنه يجب عَلَيْهِم أَيْضا عِنْد الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَن يقرُّوا بِبُطْلَان مَا يخالفون بِهِ الْمُسلمين فِي الِاعْتِقَاد بعد إقرارهم بِالشَّهَادَتَيْنِ.
قَوْله: (صَلَاتنَا) ، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، وَهُوَ فِي نفس الْأَمر صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: من صلى صَلَاة كصلاتنا، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَذَلِك الْمُسلم) ، جَوَاب الشَّرْط، وَذَلِكَ، مُبْتَدأ وَخَبره: الْمُسلم، وَقَوله: (الَّذِي) صفته، وَقَوله: (ذمَّة ا) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره. هُوَ قَوْله: لَهُ، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول. قَوْله: (ذمَّة ا) ، الذِّمَّة: الْأمان والعهد، وَمَعْنَاهُ فِي أَمَان اوضمانه، وَيجوز أَن يُرَاد بهَا الذمام وَهُوَ الْحُرْمَة. وَيُقَال: الذِّمَّة الْحُرْمَة أَيْضا. قَالَ الْقَزاز: الذمام كل حُرْمَة تلزمك مِنْهَا مذمة، تَقول: ألزمني لفُلَان ذمام وَذمَّة ومذمة، هَذَا بِكَسْر الذَّال، وَكَذَا لزمتني لَهُ ذمَامَة، مَفْتُوح الأول. وَفِي (الْمُحكم) : الذمام والمذمة: الْحق، وَالْجمع: أذمة، والذمة: الْعَهْد وَالْكَفَالَة، وَالْجمع: ذمم، وَفِي (الغريبين) : قَالَ ابْن عَرَفَة: الذِّمَّة الضَّمَان وَبِه سمي أهل الذِّمَّة لدخولهم فِي ضَمَان الْمُسلمين. قَالَ الْأَزْهَرِي فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاًّ وَلَا ذمَّة} أَي: وَلَا أَمَانًا. قَوْله: (فَلَا تخفروا ا) ، قَالَ ثَعْلَب فِي (فصيحه) : خفرت الرجل إِذا أجرته وأخفرته إِذا نقضت عَهده. وَقَالَ كرَاع فِي (الْمُجَرّد) وَابْن القطاع فِي كتاب (الْأَفْعَال) أخفرته بعثت مَعَه خفيراً، وَقَالَ الْقَزاز، خفر فلَان بفلان وأخفره إِذا غدر بِهِ، وَقَالَ ابْن سَيّده: خفره خفراً وخفراً وأخفره: نقض عَهده وغدره، وأخفر الذِّمَّة: لم يَفِ بهَا. قلت: لَا تخفروا، بِضَم التَّاء من الإخفار، والهمزة فِيهِ للسلب، أَي: لسلب الْفَاعِل عَن الْمَفْعُول أصل الْفِعْل نَحْو أشكيته، أَي: أزلت شكايته، وَكَذَلِكَ: أخفرته، أَي: أزلت خفارته. وَقَالَ الْخطابِيّ: فَلَا تخفروا ا، مَعْنَاهُ: وَلَا تخونوا افي تَضْييع حق من هَذَا سَبيله، وَإِنَّمَا اكْتفى فِي النَّهْي بِذِمَّة اوحده، وَلم يذكر الرَّسُول كَمَا ذكر أَولا، لِأَنَّهُ ذكر الأَصْل لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ ولاستلزامه عدم إخفاره ذمَّة الرَّسُول، وَأما ذكره أَولا فللتأكيد وَتَحْقِيق عصمته مُطلقًا، وَالضَّمِير فِي ذمَّته يرجع إِلَى الْمُسلم أَو إِلَى اتعالى، فَافْهَم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: أَن أُمُور النَّاس مَحْمُولَة على الظَّاهِر دون بَاطِنهَا، فَمن أظهر شَعَائِر الدّين أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام أَهله مَا لم يظْهر مِنْهُ خلاف ذَلِك، فَإِذا دخل رجل غَرِيب فِي بلد من بِلَاد الْمُسلمين بدين أَو مَذْهَب فِي الْبَاطِن(4/125)
غير أَنه عَلَيْهِ زِيّ الْمُسلمين حمل على ظَاهر أمره على أَنه مُسلم حَتَّى يظْهر خلاف ذَلِك. وَفِيه: مَا يدل على تَعْظِيم شان الْقبْلَة، وَهِي من فَرَائض الصَّلَاة، وَالصَّلَاة أعظم قربات الدّين، وَمن ترك الْقبْلَة مُتَعَمدا فَلَا صَلَاة لَهُ، وَمن لَا صَلَاة لَهُ فَلَا دين لَهُ. وَفِيه: أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة شَرط للصَّلَاة مُطلقًا، إلاَّ فِي حَالَة الْخَوْف، ثمَّ من كَانَ بِمَكَّة شرفها اتعالى فالفرض فِي حَقه إِصَابَة عينهَا سَوَاء كَانَ بَين الْمُصَلِّي وَبَين الْكَعْبَة حَائِل بجدار أَو لم يكن، حَتَّى لَو اجْتهد وَصلى فَبَان خَطؤُهُ، فَقَالَ الرَّازِيّ: يُعِيد، وَنقل ابْن رستم عَن مُحَمَّد بن الْحسن: لَا يُعِيد إِذا بَان خَطؤُهُ بِمَكَّة أَو بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُوَ الأقيس لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وَسعه، وَذكر أَبُو الْبَقَاء أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وضع محراب رَسُول الله مسامت الْكَعْبَة، وَقيل: كَانَ ذَلِك بالمعاينة، بِأَن كشف الْحَال وأزيلت الحوائل، فَرَأى رَسُول الله الْكَعْبَة فَوضع قبْلَة مَسْجده عَلَيْهَا، وَأما من كَانَ غَائِبا عَن الْكَعْبَة ففرضه جِهَة الْكَعْبَة لَا عينهَا، وَهُوَ قَول الْكَرْخِي وَأبي بكر الرَّازِيّ وَعَامة مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ أَبُو عبد االجرجاني، شيخ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ الْفَرْض إِصَابَة عينهَا فِي حق الْحَاضِر وَالْغَائِب، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي. قَالَ النوووي: الصَّحِيح عَن الشَّافِعِي فرض الْمُجْتَهد مطلوبية عينهَا. وَفِي تعلم أَدِلَّة الْقبْلَة ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه فرض كِفَايَة. الثَّانِي: فرض عين وَلَا يَصح. الثَّالِث: فرض كِفَايَة إلاَّ أَن يُرِيد سفرا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : وَالَّذِي رُوِيَ مَرْفُوعا: (الْكَعْبَة قبْلَة من يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْحَرَام قبْلَة أهل مَكَّة مِمَّن يُصَلِّي فِي بَيته أَو فِي الْبَطْحَاء، وَمَكَّة قبْلَة أهل الْحرم، وَالْحرم قبْلَة لأهل الْآفَاق) . فَهُوَ حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه: أَن من جملَة الشواهد بِحَال الْمُسلم أكل ذَبِيحَة الْمُسلمين، وَذَلِكَ أَن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذَبَائِح الْمُسلمين، والوثني الَّذِي يعبد الوثن أَي الصَّنَم.
29385 - ح دّثنا نُعَيْمٌ قَالَ حدّثنا ابنُ المبارَك عِنْ حُمَيْدِ الطَّوِيل عنْ أنسَ بن مالكٍ قَالَ قَالَ رَسُول الله أَمرتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فإِذَا قالُوها وصَلَّوْا صَلاَتَنا واسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَليْنا دِماؤُهُمْ وأمْوالُهُمْ إلاَّ بِحَقِّها وحسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. .
حَدِيث أنس هَذَا أخرجه البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب من ثَلَاثَة أوجه. الأول: مُسْند عَن عَمْرو بن عَبَّاس الخ، وَقد مر. وَالثَّانِي: فِيهِ خلاف بَين الروَاة من أَرْبَعَة أوجه. الأول: حَدثهُ البُخَارِيّ عَن نعيم بن حَمَّاد الْخُزَاعِيّ، ونعيم خرجه مُعَلّقا من حَيْثُ قَالَ: قَالَ ابْن الْمُبَارك، وَهُوَ عبد ابْن الْمُبَارك، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي نسختنا. الثَّانِي: قَالَ ابْن شَاكر رَاوِي البُخَارِيّ عَنهُ: قَالَ نعيم بن حَمَّاد: فَالْبُخَارِي علقه. وَالثَّالِث: رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، قَالَ ابْن الْمُبَارك بِغَيْر ذكر نعيم: فَالْبُخَارِي أَيْضا علقه. وَالرَّابِع: وَقع مُسْندًا حَيْثُ قَالَ فِي بعض النّسخ: حدّثنا نعيم حدّثنا ابْن الْمُبَارك ... الخ. وَالثَّالِث من الْأَوْجه: الَّتِي ذكرهَا البُخَارِيّ: مُعَلّق مَوْقُوف على مَا يَأْتِي عَن قريب.
وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث فِي الْجِهَاد وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن سعيد بن يَعْقُوب عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك.
قَوْله: (أمرت) أَي: أَمرنِي اتعالى، وَإِنَّمَا طوى ذكر الْفَاعِل لشهرته ولتعظيمه. قَوْله: (أَن أقَاتل النَّاس) أَي: بِأَن أقَاتل، وكملة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَرَادَ بِالنَّاسِ: الْمُشْركين. قَوْله: (حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إلاَّ ا) ، إِنَّمَا اكْتفى بِذكر هَذَا الشَّرْط من غير انضمام: مُحَمَّد رَسُول ا، لِأَنَّهُ عبر على طَرِيق الْكِنَايَة عَن الْإِقْرَار برسالته بِالصَّلَاةِ والاستقبال وَالذّبْح، لِأَن هَذِه الثَّلَاثَة من خَواص دينه، لِأَن الْقَائِلين: لَا إِلَه إِلَّا ا، كاليهود فصلاتهم بِدُونِ الرُّكُوع، وقبلتهم غير الْكَعْبَة، وذبيحتهم لَيست كذبيحتنا. وَقد يُجَاب بِأَن هَذَا الشَّرْط الأول من كلمة الشَّهَادَة شعار لمجموعها، كَمَا يُقَال قَرَأت: {ألم ذَلِك الْكتاب} (الْبَقَرَة: 1 2) وَالْمرَاد كل السُّورَة، لَا يُقَال: فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى الْأُمُور الثَّلَاثَة، لِأَن مُجَرّد هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ شعار الْإِسْلَام مُحرمَة للدماء وَالْأَمْوَال، لأَنا نقُول: الْغَرَض مِنْهُ بَيَان تَحْقِيق القَوْل بِالْفِعْلِ وتأكيد أمره، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا قالوها وحققوا مَعْنَاهَا بموافقة الْفِعْل لَهَا فَتكون مُحرمَة. وَأما تَخْصِيص هَذِه الثَّلَاثَة من بَين سَائِر الْأَركان وواجبات الدّين فلكونها أظهرها وَأَعْظَمهَا وأسرعها علما بهَا، إِذْ فِي الْيَوْم الأول من الملاقاة مَعَ الشَّخْص يعلم صلَاته وَطَعَامه، غَالِبا، بِخِلَاف نَحْو الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يظْهر الامتياز بَيْننَا وَبينهمْ بِهِ وَنَحْو الْحَج فَإِنَّهُ قد يتَأَخَّر إِلَى شهور وسنين، وَقد لَا يجب عَلَيْهِ أصلا. قَوْله: (وذبحوا ذبيحتنا) أَي: ذَبَحُوا الْمَذْبُوح مثل مذبوحنا،(4/126)
والذبيحة على وزن: فعيلة بِمَعْنى: الْمَذْبُوح. فَإِن قلت: فعيل: إِذا كَانَ بِمَعْنى الْمَفْعُول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَلَا تدخله التَّاء. قلت: لما زَالَ عَنهُ معنى الوصفية وغلبت الإسمية عَلَيْهِ واستوى فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فدخله التَّاء، وَقد يُقَال: إِن الاسْتوَاء فِيهِ عِنْد ذكر الْمَوْصُوف مَعَه، وَأما إِذا انْفَرد عَنهُ فَلَا. قَوْله: (إِلَّا بِحَقِّهَا) . أَي: إلاَّ بِحَق الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: (فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إلاَّ بِحَق الْإِسْلَام) . قَوْله: (وحسابهم على ا) ، على سَبِيل التَّشْبِيه أَي: هُوَ كالواجب على افي تحقق الْوُقُوع، وإلاَّ فَلَا يجب على اشيء، وَكَانَ الأَصْل فِيهِ أَن يُقَال: وحسابهم أَو إِلَى ا، وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مُسْتَوفى فِي بَاب {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} (التَّوْبَة: 5، 11) .
وقالَ عَلِيُّ بنُ عبْدِ اللَّهِ حدّثنا خالِدُ بنُ الْحَارِثِ قَالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أنَسَ بْنَ مالِكٍ قَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ وَمَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ ومالَهُ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ أنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلاَتَنا وأكَلَ ذَبِيحَتَنا فَهْوَ الْمُسْلِمُ لهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وعلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ.
هَذَا مُعَلّق وَمَوْقُوف أما التَّعْلِيق فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ عَليّ بن عبد اهو ابْن الْمَدِينِيّ. وفاعل قَالَ الأول: هُوَ: البُخَارِيّ، وفاعل قَالَ الثَّانِي: ظَاهر وَهُوَ شَيْخه عَليّ بن الْمَدِينِيّ. وَأما الْوَقْف فَإِن أنسا لم يرفعهُ. قَوْله: (يَا با حَمْزَة) أَصله: يَا أَبَا حَمْزَة، فحذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف، وَأَبُو حَمْزَة كنية أنس. قَوْله: (وَمَا يحرم؟) ، بِالتَّشْدِيدِ من التَّحْرِيم، وَكلمَة: مَا، استفهامية. فَإِن قلت: و: مَا يحرم، عطف على: مَاذَا؟ قلت: على شَيْء مَحْذُوف كَأَنَّهُ سَأَلَ عَن شَيْء قبل هَذَا، ثمَّ قَالَ: وَمَا يحرم، وَلم تقع: الْوَاو، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة. وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو استئنافية. قلت: الِاسْتِئْنَاف كَلَام مُبْتَدأ فعلى هَذَا لَا يبْقى مقول لقَالَ، فَيحْتَاج إِلَى تَقْدِير. فَإِن قلت: الْجَواب: يَنْبَغِي أَن يكون مطابقاً للسؤال، وَالسُّؤَال هُنَا عَن سَبَب التَّحْرِيم، فَالْجَوَاب كَيفَ يطابقه؟ قلت: الْمُطَابقَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: من شهد، الخ هُوَ الْجَواب وَزِيَادَة، لِأَنَّهُ لما ذكر الشَّهَادَة وَمَا عطف عَلَيْهَا علم أَن الَّذِي يفعل هَذَا هُوَ الْمُسلم، وَالْمُسلم يحرم دَمه وَمَاله إِلَّا بِحقِّهِ. قَوْله: (لَهُ) أَي: من النَّفْع، و: (عَلَيْهِ) أَي: من الْمضرَّة، والتقديم يُفِيد الْحصْر أَي: لَهُ ذَلِك لَا لغيره.
(393) قَالَ ابنُ أبي مَرْيَمَ أخْبَرَنَا يَحْيَى قالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قالَ حدّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ.
هَذَا أَيْضا مُعَلّق رَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن الحكم الْمصْرِيّ عَن يحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك، وَقد وَصله أَبُو نعيم: حدّثنا أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ حدّثنا، إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدّثنا إِبْرَاهِيم بن هانىء حدّثنا عَمْرو بن الرّبيع (ح) وحدّثنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حدّثنا أَبُو عرُوبَة حدّثنا عمر بن الْخطاب حدّثنا ابْن أبي مَرْيَم، قَالَا: حدّثنا يحيى بن أَيُّوب أَخْبرنِي حميد سمع أنسا ... فَذكره، وَفِي هَذَا فَائِدَة وَهِي: تَصْرِيح حميد بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس، وَلَكِن طعن فِيهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ: الحَدِيث حَدِيث مَيْمُون وَإِنَّمَا سَمعه حميد مِنْهُ، وَلَا يحْتَج بِيَحْيَى بن أَيُّوب فِي قَوْله: عَن حميد حدّثنا أنس قَالَ، وَيدل على ذَلِك مَا أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن البحتري حدّثنا عبيد ابْن معَاذ حدّثنا أبي عَن حميد عَن مَيْمُون، قَالَ: (سَأَلت أنسا مَا يحرم مَال الْمُسلم وَدَمه؟) الحَدِيث
قلت: رِوَايَة معَاذ لَا دَلِيل فِيهَا على أَن حميدا لم يسمعهُ من أنس، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سَمعه من أنس ثمَّ استثبت فِيهِ عَن مَيْمُون، فَكَأَنَّهُ تَارَة يحدث بِهِ عَن أنس لأجل الْعُلُوّ، وَتارَة عَن مَيْمُون للاستثبات، وَقد جرت عَادَة حميد وَغَيره بِهَذِهِ الطَّرِيقَة. فَإِن قلت: جَاءَ عَن أبي هُرَيْرَة: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا ا، فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) . وَجَاء عَن ابْن عمر: (أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة، فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ) ، وَجَاء عَن أنس الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب، فَمَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث؟ قلت: إِنَّمَا اخْتلفت هَذِه الْأَلْفَاظ فزادت ونقصت لاخْتِلَاف الْأَحْوَال والأوقات الَّتِي وَقعت هَذِه الْأَقْوَال فِيهَا، وَكَانَت أُمُور الشَّرِيعَة تشرع شَيْئا فَشَيْئًا فَخرج كل قَول فِيهَا على شَرط الْمَفْرُوض فِي حِينه، فَصَارَ كل مِنْهَا فِي زَمَانه شرطا لحقن الدَّم وَحُرْمَة المَال، وَلَا مُنَافَاة بَين الرِّوَايَات وَلَا اخْتِلَاف.(4/127)
92 - (بابُ قِبْلَةِ أهْلِ المَدِينةِ وأهْلِ الشَّأَمِ والمَشْرِقِ لَيْسَ فِي المَشْرِقِ ولاَ فِي المَغْرِبِ قِبْلَة)
هَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى تَحْرِير قوي، فَإِن أَكثر من تصدى لشرحه لم يغنِ شَيْئا بل بَعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فَنَقُول، وبا التَّوْفِيق: إِن قَوْله: بَاب، إِمَّا أَن يُضَاف إِلَى مَا بعده أَو يقطع عَنهُ، وَإِن لَفْظَة: قبْلَة، بعد قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، إِمَّا أَن تكون مَوْجُودَة أَو لَا، وَلكُل وَاحِد من ذَلِك وَجه.
فَفِي الْقطع وَعدم وجود لَفْظَة: قبْلَة، يكون لَفْظَة. بَاب، منوناً على تَقْدِير: هَذَا بَاب. وَيجوز أَن يكون سَاكِنا مثل تعداد الْأَسْمَاء لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بِالْعقدِ والتركيب، وَيكون قَوْله: قبْلَة أهل الْمَدِينَة، الَّذِي هُوَ كَلَام إضافي مُبْتَدأ، أَو، قَوْله: وَأهل الشَّام، بِالْجَرِّ عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله: والمشرق، بِالْجَرِّ. وَقَوله: لَيْسَ فِي الْمشرق، خبر الْمُبْتَدَأ. وَلَكِن لَا بُد فِيهِ من تقديرين: أَحدهمَا: أَن يقدر لفظ: قبْلَة، الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأ بِلَفْظ: مُسْتَقْبل أهل الشَّام، لوُجُوب التطابق بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي التَّذْكِير والتأنيث. وَالثَّانِي: أَن يؤول لفظ: الْمشرق، بالتشريق، وَلَفظ: الْمغرب، بالتغريب، وَالْعرب تطلق الْمشرق وَالْمغْرب لِمَعْنى التَّشْرِيق والتغريب، قَالَه ثَعْلَب وَأنْشد.
أبعد مغربهم بَغْدَاد ساحتها
وَقَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ أبعد تغريبهم؟ فَإِن قلت: لم لم يذكر: الْمغرب، بعد قَوْله: والمشرق، مَعَ أَن الْعلَّة فيهمَا مُشْتَركَة؟ قلت: اكْتفى بذلك عَنهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سرابيل تقيكم الْحر} (النَّحْل: 18) أَي: وَالْبرد، وَأما تَخْصِيص الْمشرق فَلِأَن أَكثر بِلَاد الْإِسْلَام فِي جِهَة الْمشرق.
وَأما فِي الْإِضَافَة، وَتَقْدِير وجود لفظ: قبْلَة، بعد قَوْله: وَلَا فِي الْمغرب، فتقديره؛ هَذَا بَاب فِي بَيَان قبْلَة أهل الْمَدِينَة وقبلة أهل الشَّام وقبلة أهل الْمشرق، ثمَّ بَين ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الاستئنافية، وَهِي قَوْله: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة، وَلِهَذَا ترك العاطف، وَالْجُمْلَة الاستئنافية فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، وَهُوَ أَنه: لما قَالَ: بَاب قبْلَة أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام والمشرق، انتصب سَائل فَقَالَ: كَيفَ قبْلَة هَذِه الْمَوَاضِع؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة. وَقَالَ السفاقسي: يُرِيد أَن قبْلَة هَؤُلَاءِ الْمُسلمين لَيست فِي الْمشرق مِنْهُم وَلَا فِي الْمغرب، بِدَلِيل أَن النَّبِي، أَبَاحَ لَهُم قَضَاء الْحَاجة فِي جِهَة الْمشرق مِنْهُم وَالْمغْرب. قلت: مَعْنَاهُ: الْقبْلَة مَا بَينهمَا، لما روى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ النَّبِي: (مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) . ثمَّ قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة، مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن عمر: (إِذا جعلت الْمغرب عَن يَمِينك والمشرق عَن يسارك فَمَا بَينهمَا قبْلَة إِذا اسْتقْبلت الْقبْلَة) وَقَوله: (مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة) ، لَيْسَ عَاما فِي سَائِر الْبِلَاد، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، وَمَا وَافق قبلتها، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : وَالْمرَاد، وَا أعلم، أهل الْمَدِينَة. وَمن كَانَت قبلته على سمت أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ أَحْمد بن خَالِد الذَّهَبِيّ: قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي اتعالى عَنهُ: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة، قَالَه بِالْمَدِينَةِ، فَمن كَانَت قبلته مثل قبْلَة الْمَدِينَة فَهُوَ من سَعَة مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، ولسائر الْبلدَانِ من السعَة فِي الْقبْلَة مثل ذَلِك بَين الْجنُوب وَالشمَال، وَنَحْو ذَلِك؛ وَقَالَ ابْن بطال: تَفْسِير هَذِه التَّرْجَمَة يَعْنِي: وقبلة مشرق الأَرْض كلهَا إلاَّ مَا قَابل مشرق مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط الْمَار عَلَيْهَا من الْمشرق إِلَى الْمغرب، فَحكم مشرق الأَرْض كلهَا كَحكم مشرق أهل الْمَدِينَة وَالشَّام فِي الْأَمر بالانحراف عِنْد الْغَائِط، لأَنهم إِذا شرقوا أَو غربوا لم يستقبلوا الْقبْلَة وَلم يستدبروها. قَالَ: وَأما مَا قَابل مشرق مَكَّة من الْبِلَاد الَّتِي تكون تَحت الْخط الْمَار عَلَيْهَا من مشرقها، إِلَى مغْرِبهَا فَلَا يجوز لَهُم اسْتِعْمَال هَذَا الحَدِيث، وَلَا يَصح لَهُم أَن يشرقوا. وَلَا أَن يغربوا لأَنهم إِذا شرقوا استدبروا الْقبْلَة، وَإِذا غربوا استقبلوها، وَكَذَلِكَ من كَانَ موازياً بمغرب مَكَّة إِن غرب استدبر الْقبْلَة، وَإِن شَرق اسْتَقْبلهَا، وَإِنَّمَا ينحرف إِلَى الْجنُوب أَو الشمَال، فَهَذَا هُوَ تغريبه وتشريقه.
قَالَ: وَتَقْدِير التَّرْجَمَة: بَاب قبْلَة أهل الْمَدِينَة وَأهل الشَّام والمشرق وَالْمغْرب لَيْسَ فِي التَّشْرِيق وَلَا فِي التَّغْرِيب يَعْنِي أَنهم عِنْد الانحراف للتشريق والتغريب لَيْسُوا مواجهين للْقبْلَة وَلَا مستدبرين لَهَا.
لقوْلِ النَّبيِّ (لاَ تسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) . هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْصُولا. فَقَالَ: أخبرنَا مَنْصُور، قَالَ: حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَن النَّبِي، قَالَ: (لَا تستقبلوا الْقبْلَة بغائط وَلَا بَوْل وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) . وَاحْتج البُخَارِيّ(4/128)
بِعُمُوم هَذَا الحَدِيث، وَسوى بَين الصَّحَارِي والأبنية، وَجعله دَلِيلا للتَّرْجَمَة الَّتِي وَضعهَا، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن فِي نفس حَدِيثه الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَالْبُخَارِيّ أَيْضا على مَا يَجِيء الْآن، مَا يدل على عكس مَا أَرَادَهُ وَذَلِكَ أَن أَبَا أَيُّوب رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ فِي حَدِيثه، (فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت نَحْو الْكَعْبَة، لَكنا ننحرف عَنْهَا، ونستغفر اعز وَجل) . قلت: لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا أصلا لِأَن الْمَنْع لأجل تَعْظِيم الْقبْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء والبنيان، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوب: (لَكنا ننحرف عَنْهَا ونستغفر اعز وَجل) ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَذهب الشَّافِعِي وَمَالك إِلَى أَنه يحرم اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الصَّحرَاء بالبول وَالْغَائِط، وَلَا يحرم ذَلِك فِي الْبُنيان، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْوضُوء.
49395 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عَطاءِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبي أيُّوب الأَنْصارِيِّ أنَّ النبيَّ قَالَ: (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبلوا القِبْلَةَ ولاَ تَسْتَدْبِرُوها ولَكنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا) قَالَ أبُو أيُّوبَ فَقَدِمْنا الشَّأَمَ فَوَجَدْنا مَراحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. (انْظُر الحَدِيث 441) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (شرقوا أَو غربوا) لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبْلَة، فَإِذا لم تكن فيهمَا قبْلَة يتَوَجَّه المستنجي إِلَيْهَا إِمَّا يشرق وَإِمَّا يغرب.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: عَليّ بن عبد االمديني، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَاسم أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه مُسلم فِيهَا عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر وَابْن نمير، وَأَبُو دَاوُد فِيهَا أَيْضا عَن مُسَدّد، وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَابْن مَاجَه كَذَلِك عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (الْغَائِط) ، اسْم للْأَرْض المطمئنة لقَضَاء الْحَاجة. قَوْله: (فقدمنا الشَّام) ، وَهُوَ إقليم مَشْهُور يذكر وَيُؤَنث، وَيُقَال مهموزاً ومسهلاً، وَسميت بسام بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ أول من نزلها، فَجعلت السِّين شيناً مُعْجمَة تغييراً للفظ الأعجمي، وَقيل: سميت بذلك لِكَثْرَة قراها وتداني بَعْضهَا من بعض فشبهت بالشامات. قَوْله: (مراحيض) ، بِفَتْح الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: جمع مرحاض، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ الْبَيْت الْمُتَّخذ لقَضَاء حَاجَة الْإِنْسَان، أَي: التغوط، قَوْله: (قبل الْكَعْبَة) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، أَي: مقابلها. قَوْله: (فننحرف) أَي: عَن جِهَة الْقبْلَة من الانحراف. ويروى: (فنتحرف) من التحرف. قَوْله: (ونستغفر اتعالى) ، قيل: نَسْتَغْفِر الْمَنّ بناها فَإِن الاسْتِغْفَار للمذنبين سنة. وَقيل: نَسْتَغْفِر امن الِاسْتِقْبَال، وَقيل: نَسْتَغْفِر امن ذنُوبه. وَيُقَال: لَعَلَّ أَبَا أَيُّوب لم يبلغهُ حَدِيث ابْن عمر فِي ذَلِك وَلم يره مُخَصّصا. وَحمل مَا رَوَاهُ على الْعُمُوم، وَهَذَا الاسْتِغْفَار لنَفسِهِ لَا للنَّاس على هَذِه الْهَيْئَة. فَإِن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إِثْمًا فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى الاسْتِغْفَار. قلت: أهل الْوَرع والمناصب الْعلية فِي التَّقْوَى قد يَفْعَلُونَ مثل هَذَا بِنَاء على نسبتهم التَّقْصِير إِلَى أنفسهم فِي التحفظ ابْتِدَاء، وَقد مر مَا يستنبط مِنْهُ فِيمَا مضى فِي كتاب الْوضُوء.
وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَطاءٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أيُّوبَ عنِ النبيِّ مِثْلَهُ.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) عطف على قَوْله: (حدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ) يَعْنِي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد الْمَذْكُور، سَمِعت أَبَا أَيُّوب. وَفَائِدَة ذكره مكرراً أَن فِي الطّرق الأول عنعن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء عَن أبي أَيُّوب، وَفِي هَذَا الطَّرِيق صرح عَطاء بِالسَّمَاعِ عَن أبي أَيُّوب، وَالسَّمَاع أقوى من العنعنة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السماع أقوى من العنعنة. وَهِي أقوى من أَن، لَكِن فِيهِ ضعف من جِهَة التَّعْلِيق عَن الزُّهْرِيّ. قلت: الظَّاهِر مَعَ الْكرْمَانِي، وَلَكِن الحَدِيث بِهَذَا(4/129)
الطَّرِيق مُسْندًا فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن سُفْيَان. إِلَى آخِره. وَا أعلم.
03
- (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى}
(الْبَقَرَة: 521) .)
أَي هَذَا بَاب قَول اتعالى إِنَّمَا بوب بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَن فِيهَا بَيَان الْقبْلَة على مَا نذكرهُ، وَهَذَا أَيْضا هُوَ وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر هَذَا الْبَاب بَين هَذِه الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة هَهُنَا الْمُتَعَلّقَة بالقبلة وأحكامها. قَوْله: (وَاتَّخذُوا) بِلَفْظ الْأَمر على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَاتَّخذُوا على إِرَادَة القَوْل أَي: وَقُلْنَا: اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهُوَ على وَجه الِاخْتِيَار والاستحباب دون الْوُجُوب. وَقَالَ غَيره: وقرىء بِلَفْظ الْمَاضِي عطفا على {جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا وَاتَّخذُوا} (الْبَقَرَة: 521) وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالْمقَام مَا هُوَ؟ فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا عَمْرو بن شيبَة النميري حدّثنا أَبُو خلف، يَعْنِي: عبد ابْن عِيسَى، حدّثنا دَاوُد بن أبي هِنْد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) قَالَ: مقَام إِبْرَاهِيم الْحرم كُله، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء مثل ذَلِك. وَقَالَ السّديّ: الْمقَام: الْحجر الَّذِي وَضعته زَوْجَة إِسْمَاعِيل تَحت قدم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى غسلت رَأسه، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَضَعفه وَرجح غَيره، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي (تَفْسِيره) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالربيع بن أنس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حدّثنا الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حدّثنا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن ابْن جريج عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه سمع جَابِرا يحدث عَن حجَّة النَّبِي قَالَ: (لما طَاف النَّبِي قَالَ لَهُ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ: هَذَا مقَام أَبينَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟ فَأنْزل اعز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) .
وَقَالَ عُثْمَان بن أبي شيبَة: حدّثنا أَبُو أُسَامَة عَن زَكَرِيَّا عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي ميسرَة، قَالَ: قَالَ عمر: (قلت: يَا رَسُول اهذا مقَام خَلِيل رَبنَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟ فَنزلت: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . وَقَالَ ابْن مرْدَوَيْه؛ حدّثنا دعْلج بن أَحْمد حدّثنا غيلَان بن عبد الصَّمد حدّثنا مَسْرُوق بن الْمَرْزُبَان حدّثنا زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون: (عَن عمر بن الْخطاب أَنه مر بمقام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: يَا رَسُول األيس تقوم مقَام خَلِيل ا؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: أَفلا نتخذه مصلى؟ فَلم يلبث إلاَّ يَسِيرا حَتَّى نزلت: (وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى) (الْبَقَرَة: 521) وَحكى ابْن بطال عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْحَج كُله مقَام إِبْرَاهِيم، وَقَالَ مُجَاهِد: الْحرم كُله مقَام إِبْرَاهِيم، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ قَالَ: هُوَ عَرَفَة وَجمع وَمنى. وَقَالَ عَطاء: مقَام، إِبْرَاهِيم عَرَفَة والمزدلفة والجمار، وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {مصلى} (الْبَقَرَة: 521) فَقَالَ مُجَاهِد: مدعى، كَأَنَّهُ أَخذه من: صليت، بِمَعْنى: دَعَوْت. وَقَالَ الْحسن؛ قبْلَة، وَقَالَ السّديّ وَقَتَادَة: أمروا أَن يصلوا عِنْده، وَلَا شكّ أَن من صلى إِلَى الْكَعْبَة من غير الْجِهَات الثَّلَاث الَّتِي لَا تقَابل مقَام إِبْرَاهِيم فقد أدّى فَرْضه، فالفرض إِذا الْبَيْت لَا الْمقَام، وَقد صلى الشَّارِع خَارِجهَا، وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة، وَلم يسْتَقْبل الْمقَام حِين صلى داخلها، ثمَّ اسْتقْبل الْمقَام فَإِن الْمقَام إِنَّمَا يكون قبْلَة، إِذا جعله الْمصلى بَينه وَبَين الْقبْلَة.
60 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار قَالَ سَأَلنَا ابْن عمر عَن رجل طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة وَلم يطف بَين الصَّفَا والمروة أَيَأتِي امْرَأَته فَقَالَ قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ وَطَاف بَين الصَّفَا والمروة وَقد لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة وَسَأَلنَا جَابر بن عبد الله فَقَالَ لَا يقربنها حَتَّى يطوف بَين الصَّفَا والمروة) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " وَصلى خلف الْمقَام " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول الْحميدِي بِضَم الْحَاء وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف واسْمه عبد الله بن الزبير الْقرشِي الْأَسدي أَبُو بكر الْمَكِّيّ ونسبته إِلَى بطن من قُرَيْش يُقَال لَهُ حميد بن زُهَيْر بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى. الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار الْمَكِّيّ. الرَّابِع عبد الله بن عمر بن الْخطاب. الْخَامِس جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه السُّؤَال فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته الثَّلَاثَة مكيون وَلَا يدْخل هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند جَابر لِأَنَّهُ لم يرفعهُ إِنَّمَا هُوَ من مُسْند ابْن عمر قَالَه خلف(4/130)
(ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا وَفِي الْحَج عَن الْحميدِي وَفِي الْحَج أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَعلي بن عبد الله فرقهم ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان وَعَن آدم عَن شُعْبَة وَعَن مكي بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن سُفْيَان وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن عبد الله بن حميد عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج وَأخرج النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ فرقهم ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَمْرو بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن وَكِيع (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي " طَاف بِالْبَيْتِ للْعُمْرَة " بِحَذْف اللَّام من قَوْله " للْعُمْرَة " وَلَا بُد من تَقْدِيره إِذْ الْمَعْنى لَا يَصح بِدُونِهِ قَوْله " وَلم يطف " أَي لم يسع بَين الصَّفَا والمروة فَأطلق الطّواف على السَّعْي إِمَّا لِأَن السَّعْي نوع من الطّواف وَإِمَّا للمشاكلة ولوقوعه فِي مصاحبة طواف الْبَيْت قَوْله " يَأْتِي امْرَأَته " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستفسار أَي أَيجوزُ لَهُ الْجِمَاع يَعْنِي أحصل لَهُ التَّحَلُّل من الْإِحْرَام قبل السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة أم لَا قَوْله " فَقَالَ " أَي ابْن عمر فِي جَوَابه قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى آخِره فَأجَاب ابْن عمر بِالْإِشَارَةِ إِلَى وجوب اتِّبَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا سِيمَا فِي أَمر الْمَنَاسِك لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذُوا عني مَنَاسِككُم " وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا تحلل قبل السَّعْي فَيجب التأسي بِهِ وَهُوَ معنى قَوْله " وَقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة " والأسوة بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا أَي قدوة قَوْله " لَا يقربنها " جملَة فعلية مضارعية مأكدة بالنُّون الثَّقِيلَة وَهَذَا جَوَاب جَابر بن عبد الله بِصَرِيح النَّهْي عَنهُ وَإِنَّمَا خص إتْيَان الْمَرْأَة بِالذكر وَإِن كَانَ الحكم سَوَاء فِي جَمِيع الْمُحرمَات لِأَن إتْيَان الْمَرْأَة من أعظم الْمُحرمَات (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ أَن السَّعْي وَاجِب فِي الْعمرَة وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا مَا حَكَاهُ عِيَاض عَن ابْن عَبَّاس أَنه أجَاز التَّحَلُّل بعد الطّواف وَإِن لم يسع وَهُوَ ضَعِيف ومخالف للسّنة. وَفِيه أَن الطّواف لَا بُد فِيهِ من سَبْعَة أَشْوَاط. وَفِيه الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ خلف الْمقَام فَقيل أَنَّهَا سنة وَقيل وَاجِبَة وَقيل تَابِعَة للطَّواف إِن كَانَ الطّواف سنة فَالصَّلَاة سنة وَإِن كَانَ وَاجِبا فَالصَّلَاة وَاجِبَة
61 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سيف قَالَ سَمِعت مُجَاهدًا قَالَ أُتِي ابْن عمر فَقيل لَهُ هَذَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْكَعْبَة فَقَالَ ابْن عمر فَأَقْبَلت وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد خرج وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين الْبَابَيْنِ فَسَأَلت بِلَالًا فَقلت أصلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَعْبَة قَالَ نعم رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين اللَّتَيْنِ على يسَاره إِذا دخلت ثمَّ خرج فصلى فِي وَجه الْكَعْبَة رَكْعَتَيْنِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فصلى فِي وَجه الْكَعْبَة " أَي مواجه بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ مقَام إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي يحيى الْقطَّان. الثَّالِث سيف بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره فَاء ابْن سُلَيْمَان أَو ابْن أبي سُلَيْمَان المَخْزُومِي الْمَكِّيّ ثَبت صَدُوق مَاتَ سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة. الرَّابِع مُجَاهِد الإِمَام الْمُفَسّر تكَرر ذكره. الْخَامِس عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه السماع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع هُنَا عَن مُسَدّد عَن يحيى وَأخرجه أَيْضا عَن أبي نعيم عَن يحيى عَن سيف وَفِي الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن سَالم وَحَدِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بَين العمودين أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة وَفِي الْأَطْرَاف للمزي فِي الْمَغَازِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر وَعَن ابْن(4/131)
مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن شُرَيْح بن النُّعْمَان وَفِي الْجِهَاد عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث وَفِي الصَّلَاة عَن أبي النُّعْمَان وقتيبة كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث وَعَن حَرْمَلَة وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي الرّبيع وَعَن ابْن أبي عمر وَعَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن حميد بن مسْعدَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَتَى ابْن عمر " بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله " خرج " أَي من الْكَعْبَة قَوْله " وَأَجد " على صِيغَة الْمُتَكَلّم وَحده من الْمُضَارع وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يَقُول وَوجدت بعد قَوْله " فَأَقْبَلت " لكنه عدل عَن الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارع حِكَايَة عَن الْحَال الْمَاضِيَة واستحضارا لتِلْك الْحَالة قَوْله " بِلَالًا " مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول أجد وَقَائِمًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ حَال من بِلَال قَوْله " بَين الْبَابَيْنِ " قَالَ الْكرْمَانِي أَي مصارعي الْبَاب إِذا الْكَعْبَة لم يكن لَهَا حِينَئِذٍ إِلَّا بَاب وَاحِد وَأطلق ذَلِك بِاعْتِبَار مَا كَانَ من الْبَابَيْنِ لَهَا فِي زمن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَو أَنه كَانَ فِي زمَان رِوَايَة الرَّاوِي لَهَا بَابَانِ لِأَن ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جعل لَهَا بَابَيْنِ وَقَالَ بَعضهم بَين الْبَابَيْنِ أَي المصراعين وَحمله الْكرْمَانِي على حَقِيقَة التَّثْنِيَة وَقَالَ أَرَادَ بِالْبَابِ الثَّانِي الْبَاب الَّذِي لم تفتحه قُرَيْش حِين بنت الْكَعْبَة وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون ابْن عمر وجد بِلَالًا فِي وسط الْكَعْبَة وَفِيه بعد (قلت) الْكرْمَانِي فسر قَوْله بَين الْبَابَيْنِ بِثَلَاثَة أوجه فَأخذ هَذَا الْقَائِل الْوَجْه الأول من تَفْسِيره وَلم يعزه إِلَيْهِ ثمَّ نسب إِلَيْهِ مَا لم تشهد بِهِ عِبَارَته لِأَن عبارَة الْكرْمَانِي فِي شَرحه مَا ذكرته الْآن ثمَّ قَالَ وَهَذَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون ابْن عمر وجد بِلَالًا فِي وسط الْكَعْبَة (قلت) هَذِه الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة لِأَن عبارَة الْكَلَام لَا تَقْتَضِي ذَلِك ثمَّ قَالَ وَفِيه بعد (قلت) مَا فِيهِ بعد بل الْبعد فِي الَّذِي اخْتَارَهُ من التَّفْسِير وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ " وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين النَّاس " بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة قَوْله " أصلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْهمزَة فِيهِ للاستفهام قَوْله " قَالَ نعم رَكْعَتَيْنِ " أَي نعم صلى رَكْعَتَيْنِ قَوْله " بَين الساريتين " تَثْنِيَة سَارِيَة وَهِي الأسطوانة قَوْله " على يسَاره " الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الدَّاخِل بِقَرِينَة إِذا دخلت وَفِي بعض النّسخ " يسارك " وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب أَو كَانَ يَقُول إِذا دخل وَوجه الأول أَن يكون من الِالْتِفَات أَو يكون الضَّمِير فِيهِ عَائِدًا إِلَى الْبَيْت قَوْله " ثمَّ خرج " أَي من الْبَيْت قَوْله " فِي وَجه الْكَعْبَة " أَي مواجه بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَو يكون الْمَعْنى فِي جِهَة الْكَعْبَة فَيكون أَعم من جِهَة الْبَاب قَوْله " رَكْعَتَيْنِ " مفعول قَوْله " فصلى " (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الدُّخُول فِي الْبَيْت وَفِي الْمُغنِي وَيسْتَحب لمن حج أَن يدْخل الْبَيْت وَيُصلي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يدْخل الْبَيْت بنعليه وَلَا خفيه وَلَا يدْخل الْحجر أَيْضا لِأَن الْحجر من الْبَيْت. وَفِيه اسْتِحْبَاب الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْت فَإِن بِلَالًا أخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ النَّوَوِيّ أجمع أهل الحَدِيث على الْأَخْذ بِرِوَايَة بِلَال لِأَنَّهُ مُثبت وَمَعَهُ زِيَادَة علم فَوَجَبَ تَرْجِيحه وَأما نفي من نفى كأسامة فسببه أَنهم لما دخلُوا الْكَعْبَة أغلقوا الْبَاب وَاشْتَغلُوا بِالدُّعَاءِ فَرَأى أُسَامَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو فاشتغل هُوَ أَيْضا بِالدُّعَاءِ فِي نَاحيَة من نواحي الْبَيْت وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَاحيَة أُخْرَى وبلال قريب مِنْهُ ثمَّ صلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَآهُ بِلَال بِقُرْبِهِ وَلم يره أُسَامَة لبعده مَعَ خفَّة الصَّلَاة وإغلاق الْبَاب واشتغاله بِالدُّعَاءِ وَجَاز لَهُ نَفيهَا عملا بظنه وَقَالَ بعض الْعلمَاء يحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت مرَّتَيْنِ فَمرَّة صلى فِيهِ وَمرَّة دَعَا فَلم يُصَلِّي وَلم تتضاد الْأَخْبَار (قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ " دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت فصلى بَين الساريتين رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى بَين الْبَاب وَالْحجر رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ هَذِه الْقبْلَة ثمَّ دخل مرّة أُخْرَى فَقَامَ فِيهِ يَدْعُو ثمَّ خرج وَلم يصل (فَإِن قلت) روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ " مَا أحب أَن أُصَلِّي فِي الْكَعْبَة من صلى فِيهَا فقد ترك شَيْئا خَلفه وَلَكِن حَدثنِي أخي أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين دَخلهَا خر بَين العمودين سَاجِدا ثمَّ قعد فَدَعَا وَلم يصل " (قلت) هَذَانِ نفي وَإِثْبَات فِي رِوَايَتَيْنِ فرواية الْإِثْبَات مُقَدّمَة كَمَا ذكرنَا وَكَيف(4/132)
وَقد صرح بِلَال فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بقوله " نعم رَكْعَتَيْنِ " (فَإِن قلت) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَشْهُور عَن ابْن عمر من طَرِيق نَافِع وَغَيره عَنهُ أَنه قَالَ " ونسيت أَن أسأله كم صلى " فَدلَّ على أَنه أخبرهُ بالكيفية وَهِي تعْيين الْموقف فِي الْكَعْبَة وَلم يُخبرهُ بالكمية وَنسي هُوَ أَن يسْأَله عَنْهَا (قلت) أُجِيب بِأَن المُرَاد من قَوْله صلى الصَّلَاة الْمَعْهُودَة وأقلها رَكْعَتَانِ لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه تنفل فِي النَّهَار بِأَقَلّ من رَكْعَتَيْنِ فَكَانَت الركعتان متحققا وقوعهما وأصرح من هَذَا مَا رَوَاهُ عَمْرو بن أبي شيبَة فِي كتاب مَكَّة من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي دَاوُد عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي هَذَا الحَدِيث " فاستقبلني بِلَال فَقلت مَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَهُنَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن صلى رَكْعَتَيْنِ بالسبابة وَالْوُسْطَى " فعلى هَذَا يحمل قَوْله " نسيت أَن أسأله كم صلى " على أَنه لم يسْأَله بِاللَّفْظِ وَلم يجبهُ بِاللَّفْظِ وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْهُ صلَاته الرَّكْعَتَيْنِ بِالْإِشَارَةِ لَا بالنطق وَقد قيل يجمع بَين الْحَدِيثين بِأَن ابْن عمر نسي أَن يسْأَل بِلَالًا ثمَّ لقِيه مرّة أُخْرَى فَسَأَلَ وَقَالَ بَعضهم فِيهِ نظر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد لِأَنَّهُ أَتَى فِي السُّؤَال بِالْفَاءِ المعقبة فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَعًا فَقَالَ فِي هَذِه فَأَقْبَلت ثمَّ قَالَ فَسَأَلت بِلَالًا وَقَالَ فِي الْأُخْرَى فبدرت فَسَأَلت بِلَالًا فَدلَّ على أَن السُّؤَال عَن ذَلِك كَانَ وَاحِدًا فِي وَقت وَاحِد وَثَانِيهمَا أَن رَاوِي قَول ابْن عمر ونسيت هُوَ نَافِع مَوْلَاهُ وَيبعد مَعَ طول ملازمته لَهُ إِلَى وَقت مَوته أَن يسْتَمر على حِكَايَة النسْيَان وَلَا يتَعَرَّض لحكاية الذّكر أصلا (قلت) فِي نظره نظر من وُجُوه. الأول أَن قَوْله أَن الْقِصَّة لم تَتَعَدَّد دَعْوَى بِلَا برهَان فَمَا الْمَانِع من تعددها. وَالثَّانِي أَنه علل على ذَلِك بِالْفَاءِ لكَونهَا للتعقيب وَلقَائِل أَن يَقُول لَهُ فَلم لَا يجوز أَن تكون الْفَاء هَهُنَا بِمَعْنى ثمَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة} فَإِن الْفَاء فِي {فخلقنا المضغة} وَفِي {فكسونا} بِمَعْنى ثمَّ لتراخي معطوفاتها وَتارَة تكون بِمَعْنى الْوَاو كَمَا فِي قَول الشَّاعِر
(بَين الدُّخُول فحومل ... )
. وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا للتعقيب وَهُوَ فِي كل شَيْء بِحَسبِهِ أَلا ترى أَنه يُقَال تزوج فلَان فولد لَهُ إِذا لم يكن بَينهمَا إِلَّا مُدَّة الْحمل وَإِن كَانَ مُدَّة متطاولة وَدخلت الْبَصْرَة فبغداد إِذا لم يقم فِي الْبَصْرَة وَلَا بَين البلدتين. وَالثَّالِث أَن قَوْله وَيبعد مَعَ طول ملازمته إِلَى آخِره غير بعيد فَإِن الْإِنْسَان مَأْخُوذ من النسْيَان (فَإِن قلت) قَالَ عِيَاض أَن قَوْله رَكْعَتَيْنِ غلط من يحيى بن سعيد الْقطَّان لِأَن ابْن عمر قد قَالَ نسيت أَن أسأله كم صلى وَإِنَّمَا دخل الْوَهم عَلَيْهِ من ذكر الرَّكْعَتَيْنِ (قلت) لم ينْفَرد يحيى بن سعيد بذلك حَتَّى يغلط فقد تَابعه أَبُو نعيم عِنْد البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو عَاصِم عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَعمر بن عَليّ بن الْإِسْمَاعِيلِيّ وَعبد الله بن نمير عِنْد أَحْمد عَنهُ كلهم عَن سيف وَلم ينْفَرد بِهِ سيف أَيْضا فقد تَابعه عَلَيْهِ خصيف عَن مُجَاهِد عِنْد أَحْمد وَلم ينْفَرد بِهِ مُجَاهِد عَن ابْن عمر فقد تَابعه عَلَيْهِ ابْن أبي مليكَة عِنْد أَحْمد. وَالنَّسَائِيّ وَعَمْرو بن دِينَار عِنْد أَحْمد أَيْضا بِاخْتِصَار وَمن حَدِيث عُثْمَان بن طَلْحَة عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد قوي وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد الْبَزَّار وَمن حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن صَفْوَان قَالَ " فَلَمَّا خرج سَأَلت من كَانَ مَعَه فَقَالُوا صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد السارية الْوُسْطَى " أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَمن حَدِيث شيبَة بن عُثْمَان قَالَ " لقد صلى رَكْعَتَيْنِ عِنْد العمودين " أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف يقدم عِيَاض على تغليط حَافظ جهبذ من غير تَأمل فِي بَابه. وَفِيه حجَّة لمن يَقُول الأولى فِي نفل النَّهَار رَكْعَتَانِ وَالشَّافِعِيّ يَقُول الْأَفْضَل فِي النَّوَافِل مثنى مثنى فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ قَول مَالك وَأحمد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مثنى أفضل بِاللَّيْلِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة الْأَرْبَع أفضل فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَاحْتج فِي ذَلِك بِحَدِيث ابْن عَبَّاس حِين بَات عِنْد خَالَته مَيْمُونَة يرقب صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه " كَانَ يُصَلِّي أَرْبعا لَا تسْأَل عَن حسنهنَّ وطولهن ". وَفِيه حجَّة على ابْن جرير الطَّبَرِيّ حَيْثُ قَالَ بِعَدَمِ جَوَاز الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة فرضا كَانَ أَو نفلا وَقَالَ مَالك لَا تصلى فِيهِ الْفَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا الطّواف الْوَاجِب فَإِن صلى أعَاد فِي الْوَقْت وَيجوز أَن يُصَلِّي فِيهِ النَّافِلَة وَفِي المسالك لِابْنِ الْعَرَبِيّ روى مُحَمَّد عَن أصبغ أَن من صلى فِي الْبَيْت أعَاد أبدا وَقَالَ مُحَمَّد لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَقَالَ أَشهب من صلى على ظهر الْبَيْت أعَاد أبدا وَعند أبي حنيفَة يجوز الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ وَبِه قَالَ الشَّافِعِي
89326 - حدّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ عَطاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ قَالَ لَمَّا دَخَلَ النبيُّ البَيْتَ دَعا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ(4/133)
حَتَّى خرجَ مِنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبْلِ الكَعْبَةِ وَقَالَ: (هَذِهِ القِبْلَة) . (الحَدِيث 893 أَطْرَافه فِي: 1061، 1533، 2533، 8824) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قبل الْكَعْبَة) ، وَالْمرَاد: مُقَابل الْكَعْبَة، وَهُوَ مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن نصر، ذكر فِي (أَسمَاء رجال الصَّحِيحَيْنِ) إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ، وَكَانَ ينزل الْمَدِينَة، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع فِي كِتَابه، مرّة يَقُول: حدّثنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَمرَّة يَقُول: حدّثنا إِسْحَاق بن نصر، فينسبه إِلَى جده. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: عبد ابْن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: إِسْحَاق وَقع مَنْسُوبا فِي الرِّوَايَات كلهَا، وَبِذَلِك جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم وَابْن مَسْعُود وَآخَرُونَ، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس فِي (الْأَطْرَاف) لَهُ: أَن البُخَارِيّ أخرجه عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم فِي (مستخرجيهما) من طَرِيق إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن عبد الرَّزَّاق شيخ إِسْحَاق بن نصر فِيهِ بِإِسْنَادِهِ هَذَا، فَجعله من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن زيد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج، وَهُوَ الْأَرْجَح. قلت: هَذَا يدل على أَن هَذَا الحَدِيث من مَرَاسِيل ابْن عَبَّاس، وَأَيْضًا لم يثبت أَن ابْن عَبَّاس دخل الْكَعْبَة مَعَ النَّبِي. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وصنعاني ومكي.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج عَن عَطاء بِهِ، وَفِيه قصَّة، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن خشيش بن أَصْرَم عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ عبد الْمجِيد بن عبد الْعَزِيز بن أبي دَاوُد عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن أُسَامَة، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فِي نواحيه) جمع: نَاحيَة وَهِي الْجِهَة. قَوْله: (ركع) أَي: صلى، أطلق الْجُزْء وَأَرَادَ الْكل. قَوْله: (فِي قبل الْكَعْبَة) ، بِضَم الْقَاف وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وتضم الْبَاء وتسكن أَي: مقابلها وَمَا استقبلك مِنْهَا. قَوْله: (هَذِه الْقبْلَة) ، الْإِشَارَة إِلَى الْكَعْبَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن أَمر الْقبْلَة قد اسْتَقر على اسْتِقْبَال هَذَا الْبَيْت فَلَا ينْسَخ بعد الْيَوْم فصلوا إِلَيْهِ أبدا، وَيحْتَمل أَنه علمهمْ سنة موقف الإِمَام فَإِنَّهُ يقف فِي وَجههَا دون أَرْكَانهَا وجوانبها الثَّلَاثَة، وَإِن كَانَت الصَّلَاة فِي جَمِيع جهاتها مجزئة. وَيحْتَمل أَنه دلّ بِهَذَا القَوْل على أَن حكم من شَاهد الْبَيْت وعاينه خلاف حكم الْغَائِب عَنهُ فِيمَا يلْزمه من مواجهته عيَانًا دون الِاقْتِصَار على الِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ فَائِدَة مَا قَالَ: هَذِه الْقبْلَة، وَإِن كَانُوا قد عرفوها قَدِيما وَأَحَاطُوا بهَا علما. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل معنى آخر وَهُوَ: أَن مَعْنَاهُ: هَذِه الْكَعْبَة هِيَ الْمَسْجِد الْحَرَام أمرْتُم باستقباله، لَا كل الْحرم وَلَا مَكَّة وَلَا الْمَسْجِد الَّذِي هُوَ حول الْكَعْبَة، بل هِيَ الْكَعْبَة نَفسهَا فَقَط. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار من حَدِيث عبد ابْن حبشِي الْخَثْعَمِي قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله يُصَلِّي إِلَى بَاب الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس إِن الْبَاب قبْلَة الْبَيْت) . قلت: هَذَا مَحْمُول على النّدب لقِيَام الْإِجْمَاع على جَوَاز اسْتِقْبَال الْبَيْت من جَمِيع جهاته، كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
وَوجه التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَة وَالَّتِي قبلهَا قد مر مُسْتَوفى.
13 - (بابُ التَّوَجُّهِ نَحْوَ القِبْلَةِ حَيْث كانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّوَجُّه إِلَى جِهَة الْقبْلَة حَيْثُ كَانَ الْمُصَلِّي، أَي: حَيْثُ وجد فِي سفر أَو حضر، وَكَانَ، تَامَّة فَلذَلِك: اقْتصر على اسْمه، وَالْمرَاد بِهِ: فِي صَلَاة الْفَرِيضَة، وَذَلِكَ لقَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441، 051) .
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَكَبِّرْ) .
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة الْمُسِيء فِي صلَاته، سَاقه البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتاب الاسْتِئْذَان.
99336 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَجاءٍ قَالَ حدّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِي اعنهما قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّة عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ(4/134)
عَشَرَ شَهْراً وكانَ رسولُ اللَّهِ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعبَةِ فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ قدْ نَرَى تقَلَبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ اليَهُودُ مَا وَلاَّهُمْ عنْ قِبْلَتِهمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَصَلَّى مَعَ النبيِّ رَجلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَما صَلَّى فَمَرَّ عَلى قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ فِي صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فقالَ هُوَ يَشْهَدُ أنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسولِ اللَّهِ وَأنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ القَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتوجه نَحْو الْكَعْبَة الَّتِي اسْتَقَرَّتْ قبْلَة أبدا) فِي أَي حَالَة كَانَ الْمُصَلِّي صَلَاة الْفَرْض.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد ابْن رَجَاء، بتَخْفِيف الْجِيم: الغداني، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، جد إِسْرَائِيل واسْمه: عَمْرو بن عبد االكوفي. الرَّابِع: الْبَراء بن عَازِب رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان عَن عَمْرو بن خَالِد عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، وَأخرجه فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى عَن وَكِيع. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقد ذكرنَا جَمِيع ذَلِك فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (صلى نَحْو بَيت الْمُقَدّس) أَي: بِالْمَدِينَةِ، صلى جِهَة بَيت الْمُقَدّس (سِتَّة عشر شهرا أَو سَبْعَة عشر شهرا) فالشك من الْبَراء، وَكَذَا وَقع الشَّك عِنْد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة زُهَيْر وَأبي نعيم، وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من رِوَايَة أبي نعيم، فَقَالَ: سِتَّة عشر، من غير شكّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم رِوَايَة الْأَحْوَص، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة. وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، عَن ابْن عَبَّاس: سَبْعَة عشر، وَنَصّ النَّوَوِيّ على صِحَة سِتَّة عشر، وَالْقَاضِي على صِحَة سَبْعَة عشر وَهُوَ قَول أبي إِسْحَاق وَابْن الْمسيب وَمَالك بن أنس؛ وَالْجمع بَينهمَا أَن من جزم بِسِتَّة عشر أَخذ من شهر الْقدوم وَشهر التَّحْوِيل شهرا، وألغى الْأَيَّام الزَّائِدَة فِيهِ، وَمن جزم بسبعة عشر عدهما مَعًا، وَمن شكّ تردد فيهمَا، وَذَلِكَ أَن قدوم النَّبِي الْمَدِينَة كَانَ فِي شهر ربيع الأول بِلَا خلاف، وَكَانَ التَّحْوِيل فِي نصف شهر رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة على الصَّحِيح، وَبِه جزم الْجُمْهُور.
وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات أُخْرَى: فَفِي (سنَن) أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه: ثَمَانِيَة عشر شهرا، وَحكى الْمُحب الطَّبَرِيّ: ثَلَاثَة عشر شهرا، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى سنتَيْن، وَأغْرب مِنْهُمَا: تِسْعَة أشهر، وَعشرَة أشهر، وهما شَاذان. قَوْله: (أَن يُوَجه) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَصلى مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رجل) واسْمه: عباد بن بشر، قَالَه ابْن بشكوال. وَقَالَ أَبُو عمر: عباد بن نهيك، بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فصلى مَعَ النَّبِي رجال) ، بِالْجمعِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذِه الرِّوَايَة إِلَى مَا يرجع الضَّمِير فِي قَوْله: (ثمَّ خرج) ؟ قلت: إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ؛ رجال، وَهُوَ مُفْرد، أَو مَعْنَاهُ: ثمَّ خرج خَارج. قلت: مَعْنَاهُ على هَذَا: ثمَّ خرج خَارج مِنْهُم، فَيكون الْفَاعِل محذوفاً. قَوْله: (بَعْدَمَا صلى) كَلمه: مَا، إِمَّا مَصْدَرِيَّة وَإِمَّا مَوْصُولَة. قَوْله: (فِي صَلَاة الْعَصْر نَحْو بَيت الْمُقَدّس) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فِي صَلَاة الْعَصْر يصلونَ نَحْو بَيت الْمُقَدّس) ، أَي: جِهَته. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: الرجل.
قَوْله: (وَهُوَ يشْهد) أَرَادَ بِهِ نَفسه، وَلَكِن عبر عَنْهَا بِلَفْظ الْغَيْبَة على سَبِيل التَّجْرِيد، أَو على طَريقَة الِالْتِفَات، أَو نقل كَلَامه بِالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي بَاب الْإِيمَان من الصَّلَاة بِلَفْظ: أشهد، وَوَقع هُنَا صَلَاة الْعَصْر، وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عمر فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ: صَلَاة الصُّبْح، والتوفيق بَينهمَا أَن هَذَا الْخَبَر وصل إِلَى قوم كَانُوا يصلونَ فِي نفس الْمَدِينَة صَلَاة الْعَصْر، ثمَّ وصل إِلَى أهل قبا فِي صبح الْيَوْم الثَّانِي، لأَنهم(4/135)
كَانُوا خَارِجين عَن الْمَدِينَة، لِأَن قبا من جملَة سوادها، وَفِي حكم رساتيقها، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز نسخ الْأَحْكَام عِنْد الْجُمْهُور إلاَّ طَائِفَة لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا يعبأ بهم. وَفِيه: الدَّلِيل على نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ عِنْد الْجُمْهُور، وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ. وَفِيه: دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد. وَفِيه: وجوب الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة وَالْإِجْمَاع على أَنَّهَا الْكَعْبَة. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة إِلَى جِهَتَيْنِ. وَفِيه: أَن النّسخ لَا يثبت فِي حق الْمُكَلف حَتَّى يبلغهُ، وَفِي هَذَا الْبَاب أبحاث طَوِيلَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَعَلَيهِ بالمراجعة إِلَى مَا ذكرنَا فِي شرح بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
00446 - حدّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدّثنا هِشَامٌ قَالَ حدّثنا يَحْيَى بنْ أبي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْد الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كانَ رسولُ اللَّهِ يُصَلِّي عَلى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ فإِذَا أرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. (الحَدِيث 004 أَطْرَافه فِي: 4901، 9901، 0414) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَاسْتقْبل الْقبْلَة) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسلم بن إِبْرَاهِيم القصاب، الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير، بالثاء الْمُثَلَّثَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان العامري الْمدنِي. الْخَامِس: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: ذكر مُسلم شيخ البُخَارِيّ غير مَنْسُوب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَفِيه: ذكر هِشَام أَيْضا غير مَنْسُوب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هِشَام بن أبي عبد ا. وَفِيه: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن جَابر غير هَذَا الحَدِيث، وَفِي طبقته: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ عَن جَابر شَيْئا. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَقْصِير الصَّلَاة عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام، وَعَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن عُثْمَان بن عبد ابْن سراقَة عَن جَابر رَضِي اتعالى عَنهُ. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله يُصَلِّي على حمَار وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) . وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَابر: (بَعَثَنِي النَّبِي فِي حَاجَة فَجئْت وَهُوَ يُصَلِّي على رَاحِلَته نَحْو الْمشرق، السُّجُود أَخفض) ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَفِي الْبَاب عَن أنس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب مَالك) وعامر بن أبي ربيعَة عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم وَأبي سعيد عِنْد (1) .
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل، وَكَذَلِكَ الرحول، وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى. قَوْله: (حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (تَوَجَّهت) بِدُونِ لَفْظَة: بِهِ. قَوْله: (فَإِذا أَرَادَ الْفَرِيضَة) أَي: إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي صَلَاة الْفَرْض نزل عَن الرَّاحِلَة واستقبل الْقبْلَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على عدم ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الْفَرِيضَة، وَهُوَ إِجْمَاع، وَلَكِن رخص فِي شدَّة الْخَوْف، وَفِي خُلَاصَة الفتاوي، أما صَلَاة الْفَرْض على الدَّابَّة بالعذر فجائزة، وَمن الْأَعْذَار: الْمَطَر، وَعَن مُحَمَّد: إِذا كَانَ الرجل فِي السّفر فأمطرت السَّمَاء فَلم يجد مَكَانا يَابسا ينزل للصَّلَاة، فَإِنَّهُ يقف على الدَّابَّة مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَيُصلي بِالْإِيمَاءِ إِذا أمكنه إيقاف الدَّابَّة، فَإِن لم يُمكنهُ يُصَلِّي مستدبر الْقبْلَة وَهَذَا إِذا كَانَ الطين بِحَال يغيب وَجهه، فَإِن لم يكن بِهَذِهِ المثابة لَكِن الأَرْض ندية صلى هُنَالك، ثمَّ قَالَ: هَذَا إِذا كَانَت الدَّابَّة تسير بِنَفسِهَا، أما إِذا سيَّرها صَاحبهَا فَلَا يجوز التَّطَوُّع وَلَا الْفَرْض، فَمن الْأَعْذَار كَون الدَّابَّة جموحاً لَو نزل لَا يُمكنهُ الرّكُوب. وَمِنْهَا: اللص وَالْمَرَض وَكَونه شَيخا كَبِيرا لَا يجد من يركبه. وَمِنْهَا: الْخَوْف من السَّبع، وَفِي (الْمُحِيط) : تجوز الصَّلَاة على الدَّابَّة فِي هَذِه الْأَحْوَال، وَلَا يلْزمه الْإِعَادَة بعد زَوَال الْعذر، وَهَذَا كُله إِذا كَانَ خَارج الْمصر. وَفِي (الْمُحِيط) : من النَّاس من يَقُول إِنَّمَا يجوز التَّطَوُّع(4/136)
على الدَّابَّة إِذا تَوَجَّهت إِلَى الْقبْلَة عِنْد افتتاحها ثمَّ يتْرك التَّوَجُّه وانحرف عَن الْقبْلَة، أما لَو افتتحها إِلَى غير الْقبْلَة لَا تجوز، وَعند الْعَامَّة: تجوز كَيفَ مَا كَانَ، وَصرح فِي (الْإِيضَاح) : أَن الْقَائِل بِهِ الشَّافِعِي. وَقَالَ ابْن بطال: اسْتحبَّ ابْن حَنْبَل وَأَبُو ثوران يفتتحها مُتَوَجها إِلَى الْقبْلَة، ثمَّ لَا يُبَالِي حَيْثُ تَوَجَّهت. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: الْمُنْفَرد فِي الرّكُوب على الدَّابَّة إِن كَانَت سهلة يلْزمه أَن يُدِير رَأسهَا عِنْد الْإِحْرَام إِلَى الْقبْلَة فِي أصح الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَة ابْن الْمُبَارك، ذكرهَا فِي (جَوَامِع الْفِقْه) . وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: لَا يلْزمه، وَفِي القطار وَالدَّابَّة الصعبة لَا يلْزمه، وَفِي الْعمادِيَّة وَفِي الْمحمل الْوَاسِع يلْزمه التَّوَجُّه كالسفينة، وَقيل: فِي الدَّابَّة يلْزمه فِي السَّلَام أَيْضا، وَالأَصَح أَن الْمَاشِي يتم رُكُوعه وَسُجُوده وَيسْتَقْبل فيهمَا وَفِي إِحْرَامه وَلَا يمشي إلاَّ فِي قِيَامه، وَمذهب أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن الزبير وَأبي ذَر وَأنس وَابْن عمر، وَبِه قَالَ طَاوس وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمَالك وَاللَّيْث، وَلَا يشْتَرط أَن يكون السّفر طَويلا عِنْد الْجُمْهُور، بل لكل من كَانَ خَارج الْمصر فَلهُ الصَّلَاة على الدَّابَّة. وَاشْترط مَالك مَسَافَة الْقصر، ويحكى هَذَا أَيْضا عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَمذهب ابْن عمر منع التَّنَفُّل فِي السّفر بِالنَّهَارِ جملَة. وجوازه لَيْلًا على الأَرْض وَالرَّاحِلَة، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (حَوَاشِيه) . وَأما التَّنَفُّل على الدَّابَّة فِي الْحَضَر فَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد والإصطخري من الشَّافِعِيَّة، وَيجوز عِنْد أبي يُوسُف. وَعَن مُحَمَّد: يجوز وَلَكِن يكره، وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على جَوَاز التَّنَفُّل على الدَّابَّة وَردت فِي السّفر، فَفِي رِوَايَة جَابر: كَانَت فِي غَزْوَة أَنْمَار، وَهِي غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَفِي رِوَايَة: (أَرْسلنِي رَسُول الله وَهُوَ منطلق إِلَى بني المصطلق، فَأَتَيْته وَهُوَ يُصَلِّي على بعيره) . وَفِي رِوَايَة ابْن عمر: (بطرِيق مَكَّة) ، وَفِي رِوَايَة: (مُتَوَجّه إِلَى الْمَدِينَة) . وَفِي رِوَايَة: (مُتَوَجّه إِلَى خَيْبَر) ، وَالْحَاصِل أَنَّهَا كَانَت مَرَّات كلهَا فِي السّفر. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أبي يُوسُف فِي جَوَازه فِي الْمَدِينَة أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنِي فلَان، وَرفع الْإِسْنَاد: (أَن رَسُول الله ركب الْحمار فِي الْمَدِينَة يعود سعد بن عبَادَة وَكَانَ يُصَلِّي) . قلت: هَذَا شَاذ، وَهُوَ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى لَا يكون حجَّة، وَلَكِن لقَائِل أَن يَقُول: لأبي يُوسُف على مَا ذهب إِلَيْهِ أَن يحْتَج بِمَا رَوَاهُ أنس: (أَنه صلى على حمَار فِي أَزِقَّة الْمَدِينَة يومي إِيمَاء) ، ذكره ابْن بطال.
10456 - ح دّثنا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهيمَ عنْ عَلْقَمَة قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ صَلى النَّبيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَ أدْرِي زَادَ أوْ نَقَصَ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسولَ اللَّهِ أحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ قالَ (وَمَا ذَاكَ) قالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاستَقْبَلَ القِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَمَّا أقَبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ لإِنَّهُ لوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ وَلَكنْ إِنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي وَإذَا شكَّ أحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عليهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) . (الحَدِيث 104 أَطْرَافه فِي: 404، 6221، 1766، 9427) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَثنى رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة) لِأَنَّهُ اسْتَقْبلهَا بعد أَن سلم سَلام الْخُرُوج من الصَّلَاة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد ابْن مَسْعُود، رَضِي اعنه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون وأئمة إجلاء وَإِسْنَاده من أصح الْأَسَانِيد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى وَأبي كريب وَمُحَمّد بن حَاتِم وَعبد ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ وَمُحَمّد بن الْمثنى وَيحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد االمخزومي وَعَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل وَعَن سُوَيْد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بنْدَار وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ.(4/137)
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (صلى النَّبِي) هَذِه الصَّلَاة قيل: الظّهْر، وَقيل: الْعَصْر. وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث طَلْحَة بن مصرف عَن إِبْرَاهِيم بِهِ: أَنَّهَا الْعَصْر، فنقص فِي الرَّابِعَة وَلم يجلس حَتَّى صلى الْخَامِسَة. وَمن حَدِيث شُعْبَة عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم أَنَّهَا الظّهْر وَأَنه صلاهَا خمْسا. قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) أَي: النَّخعِيّ الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا أَدْرِي زَاد أَو نقص) مدرج، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَلَا أَدْرِي) ، أَي: فَلَا أعلم هَل زَاد النَّبِي فِي صلَاته أَو نقص، وَالْمَقْصُود أَن إِبْرَاهِيم شكّ فِي سَبَب سُجُود السَّهْو الْمَذْكُور، هَل كَانَ لأجل الزِّيَادَة أَو النُّقْصَان؟ وَهُوَ مُشْتَقّ من النَّقْص الْمُتَعَدِّي لَا من النُّقْصَان اللَّازِم، وَالصَّحِيح كَمَا قَالَ الْحميدِي: إِنَّه زَاد. قَوْله: (أحدث؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَمَعْنَاهُ السُّؤَال عَن حُدُوث شَيْء من الْوَحْي يُوجب تَغْيِير حكم الصَّلَاة بِالزِّيَادَةِ على مَا كَانَت معهودة، أَو بِالنُّقْصَانِ عَنهُ. قَوْله: (حدث) بِفَتْح الدَّال مَعْنَاهُ: وَقع، وَأما: حدث، بِضَم الدَّال فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْكَلَام إلاَّ فِي قَوْلهم: أَخَذَنِي مَا قدُم وَمَا حدُث، للازدواج.
قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) سُؤال من لم يشْعر بِمَا وَقع مِنْهُ وَلَا يَقِين عِنْده وَلَا غَلَبَة ظن، وَهُوَ خلاف مَا عِنْدهم حَيْثُ قَالَ: صليت كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُ إِخْبَار من يتَحَقَّق مَا وَقع. وَقَوله: (كَذَا وَكَذَا) ، كِنَايَة عَمَّا وَقع إِمَّا زَائِدا على الْمَعْهُود أَو نَاقِصا. قَوْله: (فَثنى) ، بتَخْفِيف النُّون، مُشْتَقّ من الثني أَي: عطف، وَالْمَقْصُود مِنْهُ: فَجَلَسَ كَمَا هوهيئة الْقعُود للتَّشَهُّد. قَوْله: (رجله) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي: (رجلَيْهِ) بالتثنية. قَوْله: (لنبأتكم بِهِ) : لأخبرتكم بِهِ، وَهَذَا من بَاب؛ نبأ، بتَشْديد الْبَاء، وَهُوَ مِمَّا ينصب ثَلَاثَة مفاعيل، وَكَذَلِكَ: أنبأ، منباب أفعل، والثلاثي: نبأ، والمصدر، النبأ، مَعْنَاهُ الْخَبَر. تَقول نبأ وأنبأ ونبأ، أَي: أخبر، وَمِنْه أَخذ النَّبِي لِأَنَّهُ أنبأ عَن اتعالى، وللام فِيهِ لَام الْجَواب. وتفيد التَّأْكِيد أَيْضا، وَزعم بَعضهم أَن: اللَّام، بعد: لَو، جَوَاب قسم مُقَدّر.
فَإِن قلت: أَيْن المفاعيل الثَّلَاثَة هَهُنَا؟ قلت: الأول: ضمير المخاطبين، وَالثَّانِي: الْجَار وَالْمَجْرُور، أَعنِي لَفْظَة: بِهِ، وَالضَّمِير يه يرجع إِلَى الْحُدُوث الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (لَو حدث فِي الصَّلَاة شَيْء) ، كَمَا فِي قَوْله: {أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . وَالثَّالِث: مَحْذُوف. قَوْله: (وَلَكِن إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ) لَا نزاع أَن كلمة؛ إِنَّمَا، للحصر، لَكِن تَارَة تَقْتَضِي الْحصْر الْمُطلق، وَتارَة حصراً مَخْصُوصًا، وَيفهم ذَلِك بالقرائن والسياق، وَمعنى الْحصْر فِي الحَدِيث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الإطلاع على بوانط المخاطبين لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل شَيْء، فَإِن لرَسُول الله أوصافاً أخر كَثِيرَة.
قَوْله: (أنسى كَمَا تنسون) ، النسْيَان فِي اللُّغَة خلاف الذّكر ولحفظ، وَفِي الِاصْطِلَاح: النيسان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، وَيَجِيء النسْيَان بمنى التّرْك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نسوا افنسيهم} (وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم) (التَّوْبَة: 76، وَالْبَقَرَة: 732) . قَوْله: (فذكروني) أَي: فِي الصَّلَاة بالتسبيح وَنَحْوه. قَوْله: (وَإِذا شكّ أحدكُم) الشَّك فِي اللُّغَة خلاف الْيَقِين، وَفِي الِاصْطِلَاح الشَّك: مَا يَسْتَوِي فِيهِ طرف الْعلم وَالْجهل، وَهُوَ الْوُقُوف بَين الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يمِيل إِلَى أَحدهمَا، فاذا قوي أَحدهمَا وترجح على الآخر، وَلم يَأْخُذ بِمَا رجح وَلم يطْرَح الآخر فَهُوَ الظَّن، وَإِذا عقد الْقلب على أَحدهمَا وَترك الآخر فَهُوَ أكبر الظَّن، وغالب الرَّأْي، فَيكون الظَّن أحد طرقي الشَّك بِصفة الرجحان. قَوْله: (فليتحرَّ) الصَّوَاب التَّحَرِّي: الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب والعزم على تَخْصِيص الشَّيْء بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَينْظر أَحْرَى ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) . وَفِي رِوَايَة: (فليتحر أقرب ذَلِك إِلَى الصَّوَاب) . وَفِي رِوَايَة: (فليتحر الَّذِي يرى أَنه صَوَاب. وَيعلم من هَذَا أَن التَّحَرِّي طلب أحد الْأَمريْنِ، وأولاهما بِالصَّوَابِ. قَوْله: (فليتم عَلَيْهِ) أَي: فليتم بانياً عَلَيْهِ، وَلَوْلَا تضمين الْإِتْمَام معنى الْبناء لما جَازَ اسْتِعْمَاله بِكَلِمَة الاستعلاء، وَقصد الصَّوَاب فِي الْبناء على غَالب الظَّن عِنْد أبي حنيفَة وَعند الشَّافِعِي: الْأَخْذ بِالْيَقِينِ. قَوْله: (ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ) ، ويروى: (ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) يَعْنِي للسَّهْو.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على جَوَاز النّسخ وَجَوَاز توقع الصَّحَابَة ذَلِك، دلّ على ذَلِك استفهامهم حَيْثُ قيل لَهُ: أحدث فِي الصَّلَاة شَيْء؟ وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز وُقُوع السَّهْو من الْأَنْبِيَاء. عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْأَفْعَال. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء والنظار، وشذت طَائِفَة فَقَالُوا: لَا يجوز على النَّبِي السَّهْو، وَهَذَا الحَدِيث يرد عَلَيْهِم. قلت: هم منعُوا السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال البلاغية، وَأَجَابُوا عَن الوظاهر الْوَارِدَة فِي ذَلِك بِأَن السَّهْو لَا يُنَاقض النُّبُوَّة وَإِذا لم يقر عَلَيْهِ لم تحل مِنْهُ مفْسدَة بل تحصل فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ بَيَان أَحْكَام النَّاس وَتَقْرِير الْأَحْكَام، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز السَّهْو عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا تتَعَلَّق بالبلاغ وَبَيَان(4/138)
أَحْكَام الشَّرْع من أَفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الْجُمْهُور. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال البلاغية فَأَجْمعُوا على مَنعه كَمَا أَجمعُوا على امْتنَاع تَعَمّده. وَأما السَّهْو فِي الْأَقْوَال الدُّنْيَوِيَّة، وَفِيمَا لَيْسَ سَبيله الْبَلَاغ من الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا أَخْبَار الْقِيَامَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَلَا يُضَاف إِلَى وَحي فجوزه قوم، إِذْ لَا مفْسدَة فِيهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ تَرْجِيح قَول من منع ذَلِك على الْأَنْبِيَاء فِي كل خبر من الْأَخْبَار، كَمَا لَا يجوز عَلَيْهِم خلف فِي خبر لَا عمدا وَلَا سَهوا، لَا فِي صِحَة وَلَا فِي مرض، وَلَا رضى وَلَا غضب. وَأما جَوَاز السَّهْو فِي الاعتقادات فِي أُمُور الدُّنْيَا فَغير مُمْتَنع.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ جَوَاز النسْيَان فِي الْأَفْعَال على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاتَّفَقُوا على أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ بل يعلمهُمْ اتعالى بِهِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: شَرطه تنبيهه على الْفَوْر أَي مُتَّصِلا بالحادثة، وجوزت طَائِفَة تَأْخِير مُدَّة حَيَاته. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان؟ قيل: النسْيَان غَفلَة الْقلب عَن الشَّيْء، والسهو غَفلَة الشَّيْء عَن الْقلب، فَفِي هَذَا قَالَ قوم: كَانَ النَّبِي لَا يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفى عَن نَفسه النسْيَان فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ، (بقوله: لم أنس) ، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل. وَقَالَ الْقشيرِي: يبعد الْفرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يتلوح من اللَّفْظ على أَن النيسان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع كَقَوْلِه: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) . وَقَالَ القَاضِي: إِنَّمَا أنكر: نسيت الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ قد نهى عَن هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا، وَلكنه نسِّي) ، وَقد قَالَ أَيْضا: (لَا أنسى) على النَّفْي، (وَلَكِن أُنسَّى (. وَقد شكّ بعض الروَاة فِي رِوَايَته فَقَالَ: (أنسى أَو أنسَّى) . وَإِن: أَو، للشَّكّ أَو للتقسيم، وَإِن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِل بذلك فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ أنكرهُ، وَقَالَ: كل ذَلِك لم يكن، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فبيِّن، وَكَذَلِكَ: لم أنس حَقِيقَة من قبل نَفسِي، وَلَكِن اأنساني. وسنتكلم فِي هَذَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ اتعالى.
وَمِنْهَا: أَن بَعضهم احْتج بِهِ على أَن كَلَام النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو عمر: ذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى أَن الْكَلَام وَالسَّلَام سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهمَا أَن مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام فِيهَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول ربيعَة وَابْن الْقَاسِم إلاَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد، ذكر الْأَثْرَم عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته لإصلاحها لم يفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك فَسدتْ عَلَيْهِ. وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ: أَن مذْهبه فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلاَّ الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم تبطل صلَاته. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة وَأَنه فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لَا تبطل، وَأَجْمعُوا على أَن الْكَلَام عَامِدًا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعملم أَنه فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد الصَّلَاة إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر. وَفِي (الْمُغنِي) : وَقَالَ ابْن الْمُنْذر مَا ملخصه: إِن الْكَلَام لغير مصلحَة الصَّلَاة يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام:
الأول: الْكَلَام جَاهِلا بِتَحْرِيمِهِ فِيهَا. قَالَ القَاضِي فِي (الْجَامِع) : لَا أعرف عَن أحد نصا فِيهِ، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل.
الثَّانِي: الْكَلَام نَاسِيا وَهُوَ على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينسى أَنه فِي الصَّلَاة، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالْأُخْرَى: تبطل، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالنَّوْع الآخر: أَن يظنّ أَن صلَاته تمت فيتكلم، فَإِن كَانَ سَلاما لَا تبطل رِوَايَة وَاحِدَة، وإلاَّ فالمنصوص عَن أَحْمد: إِن كَانَ لأمر الصَّلَاة لَا تبطل، وَإِن كَانَ لغير أمرهَا مثل: إسقني يَا غُلَام مَاء، تبطل. وَعنهُ رِوَايَة ثَانِيَة أَنَّهَا تفْسد بِكُل حَال، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي، وَفِيه رِوَايَة ثَالِثَة: أَنَّهَا لَا تبطل بالْكلَام فِي تِلْكَ الْحَال بِحَال، سَوَاء كَانَ من شَأْن الصَّلَاة أَو لم يكن، إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَتخرج رِوَايَة رَابِعَة وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم إِن كَانَ إِمَامًا تكلم لمصْلحَة الصَّلَاة لم تفْسد، وَإِن تكلم غَيره فَسدتْ.
الْقسم الثَّالِث: أَن يتَكَلَّم مَغْلُوبًا على الْكَلَام، وَهُوَ ثَلَاثَة: أَنْوَاع: أَحدهَا: بِأَن تخرج الْحُرُوف من فِيهِ بِغَيْر اخْتِيَاره، مثل: إِن تثاوب فَقَالَ: آه، أَو تنفس(4/139)
فَقَالَ: آه، أَو يسعل فينطق فِي السعلة بحرفين وَمَا أشبه هَذَا، أَو يغلط فِي الْقِرَاءَة فيعدل إِلَى كلمة من غير الْقُرْآن، أَو يَجِيئهُ بكاء فيبكي وَلَا يقدر على رده، فَهَذَا لَا تفْسد صلَاته، نَص عَلَيْهِ أَحْمد. وَقَالَ القَاضِي: فِيمَن تثاوب فَقَالَ: آه، آه، فَسدتْ صلَاته: النَّوْع الثَّانِي: أَن ينَام فيتكلم، فقد توقف أَحْمد عَن الْجَواب فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَن لَا تبطل. النَّوْع الثَّالِث: أَن يكره على الْكَلَام، فَيحْتَمل أَن يخرج على كَلَام النَّاسِي، وَالصَّحِيح إِن شَاءَ اأن هَذَا تفْسد صلَاته.
الْقسم الرَّابِع: أَن يتَكَلَّم بِكَلَام وَاجِب، مثل أَن يخْشَى على صبي أَو ضَرِير الْوُقُوع فِي هلكة، أَو يرى حَيَّة وَنَحْوهَا تقصد غافلاً أَو نَائِما، أَو يرى نَارا يخَاف أَن تشتعل فِي شَيْء وَنَحْو هَذَا، فَلَا يُمكنهُ التَّنْبِيه بالتسبيح، فَقَالَ أَصْحَابنَا: تبطل الصَّلَاة بِهَذَا، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَيحْتَمل أَن لَا تبطل، وَهُوَ ظَاهر قَول أَحْمد، وَهَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي.
الْقسم الْخَامِس: أَن يتَكَلَّم لإِصْلَاح الصَّلَاة، وَجُمْلَته أَن من سلم من نقص فِي صلَاته يظنّ نها قد تمت، ثمَّ تكلم فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهَا: لَا تفْسد إِذا كَانَ لشأن الصَّلَاة. وَالثَّانيَِة: تفْسد، وَهُوَ قَول الْخلال وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالثَّالِثَة: صَلَاة الإِمَام لَا تفْسد، وَصَلَاة الْمَأْمُوم الَّذِي تكلم تفْسد انْتهى.
وَمذهب أَصْحَابنَا أَنه: لَا يجوز الْكَلَام فِي الصَّلَاة إلاَّ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتهليل وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يجوز أَن يتَكَلَّم فِيهَا لأجل شَيْء حدث من الإِمَام فِي الصَّلَاة، وَالْكَلَام يبطل الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا، وَسَوَاء كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة، وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعبد ابْن وهب وَابْن نَافِع من أَصْحَاب مَالك، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ أخرجه مُسلم مطولا، وَفِيه: (إِن هَذِه الصَّلَاة لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَهَذَا نَص صَرِيح على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة سَوَاء كَانَ عَامِدًا أَو نَاسِيا، لحَاجَة أَو غَيرهَا، وَسَوَاء كَانَ لمصْلحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا. فَإِن احْتَاجَ إِلَى تَنْبِيه إِمَام وَنَحْوه سبح إِن كَانَ رجلا، وصفقت إِن كَانَت امْرَأَة، وَذَلِكَ لقَوْله: (من نابه شَيْء فِي الصَّلَاة فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء وَالتَّسْبِيح للرِّجَال) ، رَوَاهُ سهل بن سعد، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ مطولا، وَلَفظه: (أَيهَا النَّاس مَا لكم حِين نابكم شَيْء فِي الصَّلَاة أَخَذْتُم فِي التصفيق؟ وَإِنَّمَا التصفيق للنِّسَاء، من نابه شَيْء فِي صلَاته فَلْيقل: سُبْحَانَ ا، فَإِنَّهُ لَا يسمعهُ أحد حِين يَقُول: سُبْحَانَ ا، إِلَّا الْتفت) . وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
قَوْله: (من نابه) أَي من نزل بِهِ شَيْء من الْأُمُور المهمة، وَالْمرَاد من التصفيق ضرب ظَاهر إِحْدَى يَدَيْهِ على بَاطِن الْأُخْرَى، وَقيل: بإصبعين من أَحدهمَا على صفحة الْأُخْرَى للإنذار والتنبيه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن هَذَا الحَدِيث دلّ على أَن كَلَام ذِي الْيَدَيْنِ لرَسُول الله بِمَا كَلمه بِهِ فِي حَدِيث عمرَان وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو سَجْدَتَانِ، وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء، وَحكي عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه يلْزمه لكل سَهْو سَجْدَتَانِ، وَكَذَا حُكيَ عَن ابْن أبي ليلى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه حَدِيث ضَعِيف.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا عل أَن سَجْدَتي السَّهْو بعد السَّلَام، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي أَنَّهُمَا قبل السَّلَام، وَفِي (الْمُغنِي) : السُّجُود كُله عِنْد أَحْمد قبل السَّلَام إلاَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذين ورد النَّص بسجودهما بعد السَّلَام، وهما: إِذا سلم من نقص فِي صلَاته، أَو تحرى الإِمَام فَبنى على غَالب ظَنّه، وَمَا عداهما يسْجد لَهُ قبل السَّلَام، نَص على هَذَا فِي رِوَايَة الْأَثْرَم، وَبِه قَالَ سُلَيْمَان بن دَاوُد وَأَبُو خَيْثَمَة وَابْن الْمُنْذر. وَحكى أَبُو الْخطاب عَن أَحْمد رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ: إِحْدَاهمَا: إِن السُّجُود كُله قبل السَّلَام، وَالثَّانيَِة: أَنَّهَا قبل السَّلَام إِن كَانَت لنَقص، وَبعد السَّلَام إِن كَانَت لزِيَادَة، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأبي ثَوْر، وَبِمَا قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد ابْن مَسْعُود وَعبد ابْن عَبَّاس وعمار بن يَاسر وَعبد ابْن الزبير وَأنس بن مَالك، رَضِي اعنهم: فَإِن قلت: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام كَيفَ يكون حكمه عَن الْحَنَفِيَّة. قلت: قَالَ الْقَدُورِيّ: لَو سجد للسَّهْو قبل السَّلَام جَازَ عندنَا، هَذَا فِي رِوَايَة الْأُصُول، وَرُوِيَ عَنْهُم أَنه: لَا يجوز، لِأَنَّهُ أَدَّاهُ قبل وقته. وَفِي (الْهِدَايَة) : وَهَذَا الْخلاف فِي الْأَوْلَوِيَّة، وَكَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) وَابْن عبد الْبر وَغَيرهم.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الرُّجُوع إِلَى الْمَأْمُومين، وَفِيه إِشْكَال على مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَن عِنْدهم أَنه لَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي قدر صلَاته إِلَى قَول غَيره إِمَامًا كَانَ أَو مَأْمُوما، وَلَا يعْمل إلاَّ على يَقِين نَفسه، وَاعْتذر النَّوَوِيّ عَن هَذَا بِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر، فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَوْلهم، وَلَو(4/140)
جَازَ ترك يَقِين نَفسه وَالرُّجُوع إِلَى قَول غَيره لرجع ذُو الْيَدَيْنِ حِين قَالَ: (لم تقصر وَلم أنس) . قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مخلص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن الرُّجُوع، سَوَاء كَانَ رُجُوعه للتذكر أَو لغيره، وَعدم رُجُوع ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ لأجل كَلَام الرَّسُول لَا لأجل يَقِين نَفسه. فَافْهَم. وَقَالَ ابْن الْقصار: اخْتلفت الرِّوَايَة فِي هَذَا عَن مَالك، فَمرَّة قَالَ: يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ قَالَ: يبْنى على غَالب ظَنّه. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: يعْمل على يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، كَقَوْل الشَّافِعِي.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْبَيَان لَا يُؤَخر عَن وَقت الْحَاجة لقَوْله: (لَو حدث فِي الصَّلَاة شَيْء لنبأتكم بِهِ) .
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ حجَّة لأبي حنيفَة وَلغيره من أهل الْكُوفَة على أَن: من شكّ فِي صلَاته فِي عدد ركعاتها تحرى لقَوْله: (فليتحر الصَّوَاب) ، وَيَبْنِي على غَالب ظَنّه وَلَا يلْزمه الِاقْتِصَار على الْأَقَل، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي قَوْلهم فِيمَن شكّ: هَل صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا مثلا؟ لزمَه الْبناء على الْيَقِين، وَهُوَ الْأَقَل فَيَأْتِي بِمَا بَقِي وَيسْجد للسَّهْو. فَإِن قلت: أَمر الشَّارِع بِالتَّحَرِّي وَهُوَ الْقَصْد بِالصَّوَابِ، وَهُوَ لَا يكون إلاَّ بِالْأَخْذِ بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَقِين، على مَا بَينه فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول ا: (إِذا صلى أحدكُم فَلم يدر أَثلَاثًا صلى أم أَرْبعا فليبن على الْيَقِين ويدع الشَّك) الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة. قلت: هَذَا مَحْمُول على مَا إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فَفِي هَذَا نقُول: يَبْنِي على الْأَقَل لِأَن حَدِيثه ورد فِي الشَّك، وَهُوَ مَا اسْتَوَى طرفاه وَلم يتَرَجَّح لَهُ أحد الطَّرفَيْنِ، فَفِي هَذَا يبْنى على الْأَقَل بِالْإِجْمَاع، فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ فِي دفع هَذَا: إِن تَفْسِير الشَّك هَكَذَا اصْطِلَاح طَار للأصوليين، وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه كُله يُسمى شكا، سَوَاء المستوي وَالرَّاجِح والمرجوح، والْحَدِيث يحمل على اللُّغَة مَا لم يكن هُنَاكَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة، أَو عرفية، فَلَا يجوز حمله على مَا يطْرَأ للمتأخرين من الِاصْطِلَاح. قلت: هَذَا غير مجدٍ وَلَا دافعٍ، لِأَن المُرَاد الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة، وَهِي أَن: الشَّك مَا اسْتَوَى طرفاه، وَلَئِن سلمنَا أَن يكون المُرَاد مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ فَلَيْسَ معنى الشَّك فِي اللُّغَة مَا ذكره، لِأَن صَاحب (الصِّحَاح) فسر الشَّك فِي بَاب: الْكَاف، فَقَالَ: الشَّك خلاف الْيَقِين، ثمَّ فسر الْيَقِين فِي بَاب: النُّون، فَقَالَ: الْيَقِين الْعلم، فَيكون الشَّك ضد الْعلم، وضد الْعلم الْجَهْل، وَلَا يُسمى المتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه جَاهِلا، بل يُسمى شاكاً، فَعلم، أَن قَوْله: وَأما فِي اللُّغَة فالتردد بَين وجود الشَّيْء وَعَدَمه يُسمى شكا هُوَ الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو يتداخل وَلَا يَتَعَدَّد بِتَعَدُّد أَسبَابه، فَإِن النَّبِي تكلم بعد أَن سَهَا، وَاكْتفى فِيهِ بسجدتين، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء، وَمِنْهُم من قَالَ: يَتَعَدَّد السُّجُود بِتَعَدُّد السَّهْو.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو فِي آخر الصَّلَاة: لِأَنَّهُ لم يَفْعَله إلاَّ كَذَلِك، وَقيل: فِي حكمته: إِنَّه أخر لاحْتِمَال سَهْو آخر فَيكون جَابِرا للْكُلّ، وَفرع الْفُقَهَاء على أَنه لَو سجد ثمَّ تبين أَنه لم يكن آخر الصَّلَاة لزمَه إِعَادَته فِي آخرهَا، وصوروا ذَلِك فِي صُورَتَيْنِ. إِحْدَاهمَا: أَن يسْجد للسَّهْو فِي الْجُمُعَة ثمَّ يخرج الْوَقْت وَهُوَ فِي السُّجُود الْأَخير فَيلْزمهُ إتْمَام الظّهْر وَيُعِيد السُّجُود. وَالثَّانيَِة: أَن يكون مُسَافِرًا فَيسْجد للسَّهْو وَتصل بِهِ السَّفِينَة إِلَى الوطن أَو يَنْوِي الْإِقَامَة فَيتم ثمَّ يُعِيد السُّجُود.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَوْله: (وَسجد سَجْدَتَيْنِ) دَلِيل على أَنه لم ينقص شَيْئا من الرَّكْعَات وَلَا من السجدات وَإِلَّا لتداركها فَكيف صَحَّ أَن يَقُول إِبْرَاهِيم: لَا أَدْرِي؟ بل تعين أَنه زَاد إِذْ النُّقْصَان لَا يجْبر بالسجدتين، بل لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك أَيْضا؟ قلت: كل نُقْصَان لَا يسْتَلْزم الْإِتْيَان بِهِ بل كثير مِنْهُ ينجبر بِمُجَرَّد السَّجْدَتَيْنِ، وَلَفظ: نقص، لَا يُوجب النَّقْص فِي الرَّكْعَة وَنَحْوهَا. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى عَن الْحميدِي أَنه قَالَ: بل زَاد، وَكَانَت زِيَادَته أَنه صلى الظّهْر خمْسا. كَمَا ذكره الطَّبَرَانِيّ، فحينئذٍ كَانَ سُجُوده لتأخير السَّلَام ولزيادته من جنس الصَّلَاة، وَقَوله: إِذْ النُّقْصَان لَا ينجبر بالسجدتين، غير مُسلم، لِأَن النُّقْصَان إِذا كَانَ فِي الْوَاجِبَات أَو فِي تَأْخِيرهَا عَن محلهَا أَو فِي تَأْخِير ركن من الْأَركان ينجبر بالسجدتين. وَقَوله: بل لَا بُد من الْإِتْيَان بالمتروك، إِنَّمَا يجب إِذا كَانَ الْمَتْرُوك ركنا، وَأما إِذا كَانَ من الْوَاجِبَات وَمن السّنَن الَّتِي هِيَ فِي قُوَّة الْوَاجِب فَلَا يلْزمه الْإِتْيَان بِمثلِهِ، وَإِنَّمَا ينجبر بالسجدتين.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا: فَإِن قلت: الصَّوَاب غير مَعْلُوم، وإلاَّ لما كَانَ ثمَّة شكّ، فَكيف يتحَرَّى الصَّوَاب؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ: المتحقق والمتيقن، أَي: فليأخذ بِالْيَقِينِ. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بِنَاء على مَذْهَب إِمَامه، فَإِنَّهُ فسر الصَّوَاب بِالْأَخْذِ بِالْيَقِينِ، وَأما عِنْد أبي حنيفَة: المُرَاد(4/141)
مِنْهُ الْبناء على غَالب الظَّن وَالْيَقِين فِي أَيْن هَهُنَا؟ وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: كَيفَ رَجَعَ إِلَى الصَّلَاة بانياً عَلَيْهَا وَقد تكلم بقوله: وَمَا ذَاك؟ قلت: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، أَو أَنه كَانَ خطابا للنَّبِي وجواباً، وَذَلِكَ لَا يبطل الصَّلَاة، أَو كَانَ قَلِيلا وَهُوَ فِي حكم الساهي أَو النَّاسِي، لِأَنَّهُ كَانَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِيهَا. قلت: مَذْهَب إِمَامه أَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ نَاسِيا أَو سَاهِيا لَا يُبْطِلهَا، فَلَا فَائِدَة حينئذٍ فِي قَوْله: إِنَّه كَانَ قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة. وَالْجَوَاب الثَّانِي: لَا يمشي بعد النَّبِي. وَالْجَوَاب الثَّالِث: غير موجه لِأَنَّهُ قَوْله: (وَمَا ذَاك؟) غير قَلِيل على مَا لَا يخفى.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قيل: كَيفَ رَجَعَ النَّبِي إِلَى قَول غَيره، وَلَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي حَال صلَاته إلاَّ إِلَى علمه ويقين نَفسه؟ فَجَوَابه: أَن النَّبِي سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ، لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَول الْغَيْر، أَو أَن قَول السَّائِل أحدث شكا عِنْد رَسُول الله فَسجدَ بِسَبَب حُصُول الشَّك لَهُ، فَلَا يكون رُجُوعا إِلَّا إِلَى حَال نَفسه قلت: هَذَا كَلَام فِيهِ تنَاقض، لِأَن قَوْله: سَأَلَهُمْ إِلَى قَوْله: فَبنى عَلَيْهِ، رُجُوع إِلَى الْغَيْر بِلَا نزاع، وَقَوله: لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَول الْغَيْر، يُنَاقض ذَلِك. وَقَوله: فَسجدَ بِسَبَب حُصُول الشَّك، غير مُسلم، لِأَن سُجُوده إِنَّمَا كَانَ للزِّيَادَة لَا للشَّكّ الْحَاصِل من كَلَامهم، لِأَنَّهُ لَو شكّ لَكَانَ تردداً، إِذْ مُقْتَضى الشَّك التَّرَدُّد، فحين سمع قَوْلهم: صليت كَذَا وَكَذَا ثنى رجلَيْهِ واستقبل الْقبْلَة وَسجد سَجْدَتَيْنِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: آخر الحَدِيث يدل على سُجُود السَّهْو بعدالسلام وأوله على عَكسه. قلت: مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه يسن قبل السَّلَام، وَتَأَول آخر الحَدِيث بِأَنَّهُ قَول، وَالْأول فعل، وَالْفِعْل مقدم على القَوْل لِأَنَّهُ أدل على الْمَقْصُود، أَو أَنه أَمر بِأَن يسْجد بعد السَّلَام بَيَانا للْجُوَاز، وَفعل نَفسه قبل السَّلَام لِأَنَّهُ أفضل. قلت: لَا نسلم أَن الْفِعْل مقدم على القَوْل، لِأَن مُطلق القَوْل يدل على الْوُجُوب، على أَنا نقُول: يحْتَمل أَن يكون سلم قبل أَن يسْجد سَجْدَتَيْنِ، ثمَّ سلم سَلام سُجُود السَّهْو، فالراوي اخْتَصَرَهُ، وَلِأَن فِي السُّجُود بعد السَّلَام تضَاعف الْأجر، وَهُوَ الْأجر الْحَاصِل من سَلام الصَّلَاة وَمن سَلام سُجُود السَّهْو، وَلِأَنَّهُ شرع جبرا للنقص أَو للزِّيَادَة الَّتِي فِي غير محلهَا وَهِي أَيْضا نقص كالإصبع الزَّائِدَة، والجبر لَا يكون إلاَّ بعد تَمام المجبور، وَمَا بَقِي عَلَيْهِ سَلام الصَّلَاة، فَهُوَ فِي الصَّلَاة.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: لم عدل عَن لفظ الْأَمر إِلَى الْخَبَر وَغير أسلوب الْكَلَام؟ قلت: لَعَلَّ السَّلَام وَالسُّجُود كَانَا ثابتين يومئذٍ، فَلهَذَا أخبر عَنْهُمَا، وَجَاء بِلَفْظ الْخَبَر بِخِلَاف التَّحَرِّي والإتمام، فَإِنَّهُمَا ثبتا بِهَذَا الْأَمر، أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا بواجبين كالتحري والإتمام. قلت: الفصاحة من التفنن فِي أساليب الْكَلَام، وَالنَّبِيّ أفْصح النَّاس لَا يجارى فِي فَصَاحَته، وَقَوله: أَو للإشعار بِأَنَّهُمَا ليسَا بواجبين، غير مُسلم، بل هما واجبان لمقْتَضى الْأَمر الْمُطلق، وَهُوَ قَوْله: (من شكّ فِي صلَاته فليسجد سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يسلم) ، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب هُوَ الْوُجُوب، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) و (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَعند الْكَرْخِي من أَصْحَابنَا: أَنه سنة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وعَلى رِوَايَة: (فليتحر الصَّوَاب فليتم عَلَيْهِ ثمَّ ليسلم ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ) ، لَا يرد هَذَا السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي أَيْضا. فَإِن قلت: السَّجْدَة مُسلم أَنَّهَا لَيست بواجبة، لَكِن السَّلَام وَاجِب. قلت: وُجُوبه بِوَصْف كَونه قبل السَّجْدَتَيْنِ مَمْنُوع، وَأما نفس وُجُوبه فمعلوم من مَوضِع آخر. قلت: قَوْله: مُسلم، غير مُسلم لما ذكرنَا الْآن، وَقَوله: مَمْنُوع، غير مَمْنُوع أَيْضا لِأَن مَحل السَّلَام الَّذِي هُوَ للصَّلَاة فِي آخرهَا مُتَّصِلا بهَا فَوَجَبَ بِهَذَا الْوَصْف، وَلَا يمْتَنع أَن يكون الشَّيْء وَاجِبا من جِهَتَيْنِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن التَّحَرِّي فِي حَدِيث الْبَاب مَحْمُول على الْأَخْذ بِالْأَقَلِّ الَّذِي هُوَ الْيَقِين، لِأَن التَّحَرِّي هُوَ الْقَصْد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {تحروا رشدا} (الْجِنّ: 41) وَمعنى قَوْله (فليتحر الصَّوَاب) : فليتقصد الصَّوَاب فليعمل بِهِ، وَقصد الصَّوَاب هُوَ مَا بَينه فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسلم، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فَلَا يدْرِي كم صلى ثَلَاثًا أم أَرْبعا؟ فليطرح الشَّك وليبن على الْيَقِين) الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على مَا إِذا تحرى وَلم يَقع تحريه على شَيْء، فحينئذٍ نقُول: إِنَّه يَبْنِي على الْأَقَل، وَلَا يُخَالف هَذَا لما قُلْنَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: الْمصير إِلَى التَّحَرِّي لضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا، لِأَنَّهُ يُمكنهُ إِدْرَاك الْيَقِين بِدُونِهِ بِأَن يَبْنِي على الْأَقَل. فَلَا حَاجَة إِلَى التَّحَرِّي؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قد يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى مَا اشْتبهَ عَلَيْهِ بِدَلِيل من الدَّلَائِل، والتحري عِنْد عدم الْأَدِلَّة مَشْرُوع كَمَا فِي أَمر الْقبْلَة. فَإِن قيل: يسْتَقْبل. قلت: لَا وَجه لذَلِك لِأَنَّهُ عَسى أَن يَقع لَهُ ثَانِيًا. وَثَانِيا إِلَى مَا لَا يتناهى،(4/142)
فَإِن قلت: يبنيه على الْأَقَل. قلت: لَا وَجه لذَلِك أَيْضا، لِأَن ذَلِك لَا يوصله إِلَى مَا عَلَيْهِ، فَلَا يَبْنِي على الْأَقَل إلاّ عِنْد عدم وُقُوع تحريه على شَيْء، كَمَا ذكرنَا.
23 - (بابُ مَا جاءَ فِي القِبْلَةِ وَمَنْ لاَ يَرَى الإِعادَةَ عَلى منْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي أَمر الْقبْلَة، وَهُوَ بِخِلَاف مَا تقدم قبل هَذَا الْبَاب، فَإِن ذَاك فِي حكم التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة، وَهَذَا فِي حكم من سَهَا فصلى إِلَى غير الْقبْلَة. وَأَشَارَ إِلَى حكم هَذَا بقوله: وَمن لم ير الْإِعَادَة. إِلَى آخِره. وَهَذَا بَاب فِيهِ الْخلاف، وَهُوَ أَن الرجل إِذا اجْتهد فِي الْقبْلَة فصلى إِلَى غَيرهَا فَهَل يُعِيد أم لَا؟
فَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَعَطَاء وَسَعِيد بن الْمسيب وَحَمَّاد: لَا يُعِيد، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ. وَعَن مَالك كَذَلِك، وَعنهُ: يُعِيد فِي الْوَقْت اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر؛ وَهُوَ قَول الْحسن وَالزهْرِيّ، وَقَالَ الْمُغيرَة: يُعِيد أبدا. وَعَن حميد بن عبد الرَّحْمَن وطاووس وَالزهْرِيّ: يُعِيد فِي الْوَقْت. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن فرغ من صلَاته ثمَّ بَان لَهُ أَنه صلى إِلَى الْمغرب اسْتَأْنف الصَّلَاة، وَإِن لم يبن لَهُ ذَلِك إلاَّ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن لم يتَيَقَّن الْخَطَأ فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ، وَإِلَّا أعَاد وروى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أَنه قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي فِي سفر فغيمت السَّمَاء وأشكلت علينا الْقبْلَة فصليناه وَأَعْلَمنَا، فَلَمَّا طلعت الشَّمْس إِذا نَحن قد صلينَا إِلَى غير الْقبْلَة، فَذَكرنَا ذَلِك للنَّبِي فَأنْزل اتعالى {فإينما توَلّوا فثم وَجه ا} (الْبَقَرَة: 511)) . وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من حَدِيث جَابر: (أَنهم صلوا فِي لَيْلَة مظْلمَة كل رجل مِنْهُم على حياله، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: (مَضَت صَلَاتكُمْ) ، وَنزلت {فأينما توَلّوا فثم وَجه ا} (الْبَقَرَة: 511) ويحتج بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين لما ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَمن تبعه فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: حَدِيث جَابر ضَعِيف قلت: رُوِيَ حَدِيث جَابر من ثَلَاث طرق: إِحْدَاهَا أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) عَن مُحَمَّد بن سَالم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَنهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَمُحَمّد بن سَالم لَا أعرفهُ بعدالة وَلَا جرح. وَقَالَ الواحدي: مَذْهَب ابْن عمرَان: الْآيَة نازلة فِي التَّطَوُّع بالنافلة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: لما توفّي النَّجَاشِيّ جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى النَّبِي، فَقَالَ: إِن النَّجَاشِيّ توفّي فصل عَلَيْهِ. فَقَالَ الصَّحَابَة فِي أنفسهم: كَيفَ نصلي على رجل مَاتَ وَلم يصلِّ إِلَى قبلتنا؟ وَكَانَ النَّجَاشِيّ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِلَى أَن مَاتَ، فَنزلت الْآيَة. وَقَالَ قَتَادَة: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 441) وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَمن لم ير الْإِعَادَة) ، وَفِي بعض النّسخ (وَمن لم يرى الْإِعَادَة) ، وَهُوَ عطف على قَوْله: (فِي الْقبْلَة) أَي: وَبَاب مَا جَاءَ فِيمَن لَا يرى إِعَادَة الصَّلَاة على من سَهَا فصلى إِلَى غير الْقبْلَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فصلى تَفْسِير لقَوْله: سَهَا، وَالْفَاء، تفسيرية. قلت: وَفِيه: بعد، وَالْأولَى إِن تكون للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن اأنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} (الْحَج: 36) وَلَو قَالَ: بِالْوَاو، لَكِن أحسن على مَا لَا يخفى.
وقَد سَلَّمَ النبيُّ فِي رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ وأقْبَلَ عَلى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ثُمَّ أتَمَّ مَا بَقِيّ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ عدم وجوب الْإِعَادَة على من صلى سَاهِيا إِلَى غير الْقبْلَة، وَهُوَ ظَاهر لِأَنَّهُ، فِي حَال إقباله على النَّاس دَاخل فِي حكم الصَّلَاة، وَأَنه فِي ذَلِك الزَّمَان ساهٍ مصلَ إِلَى غير الْقبْلَة؛ وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي اتعالى عَنهُ، فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ، وَزعم ابْن بطال وَابْن التِّين أَنه طرف من حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي سلف، وَهَذَا وهم مِنْهُمَا، لِأَن حَدِيث ابْن مَسْعُود لَيْسَ فِي شَيْء من طرقه أَنه سلم من رَكْعَتَيْنِ.
66 - (حَدثنَا عَمْرو بن عون قَالَ حَدثنَا هشيم عَن حميد عَن أنس قَالَ قَالَ عمر وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث فَقلت يَا رَسُول الله لَو اتخذنا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى فَنزلت وَاتَّخذُوا من مقَام(4/143)
إِبْرَاهِيم مصلى وَآيَة الْحجاب قلت يَا رَسُول الله لَو أمرت نِسَاءَك أَن يحتجبن فَإِنَّهُ يكلمهن الْبر والفاجر فَنزلت آيَة الْحجاب وَاجْتمعَ نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْغيرَة عَلَيْهِ فَقلت لَهُنَّ عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن فَنزلت هَذِه الْآيَة) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي الْجُزْء الأول وَهُوَ قَوْله " لَو اتخذنا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى " وَالْمرَاد من مقَام إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة على قَول وَهِي قبْلَة وَالْبَاب فِيمَا جَاءَ فِي الْقبْلَة وعَلى قَول من فسر مقَام إِبْرَاهِيم بِالْحرم فالحرم كُله قبْلَة فِي حق الأفاقيين وَالْبَاب فِي أُمُور الْقبْلَة وَأما على قَول من فسر الْمقَام بِالْحجرِ الَّذِي وقف عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتكون الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة مُتَعَلقَة بالمتعلق بالقبلة لَا بِنَفس الْقبْلَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عَمْرو بن عون أَبُو عُثْمَان الوَاسِطِيّ الْبَزَّاز بالزاي المكررة نزيل الْبَصْرَة مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي هشيم بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن بشير بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر ذكره فِي أول كتاب التَّيَمُّم. الثَّالِث حميد الطَّوِيل وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع أنس بن مَالك. الْخَامِس عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه القَوْل. وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين واسطي وبصري وَفِيه رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عون وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن حميد بِقصَّة الْحجاب فَقَط وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم بالقصة الأولى وَعَن عبد بن حميد عَن حجاج وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد عَن يحيى بن زَائِدَة عَن حميد بالقصة الأولى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن حميد بالقصة الثَّانِيَة قصَّة الْحجاب وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن هشيم بالقصة الثَّالِثَة اجْتمع نساؤه فِي الْغيرَة وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن هشيم بالقصة الأولى. (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " وَافَقت رَبِّي " من الْمُوَافقَة من بَاب المفاعلة الَّتِي تدل على مُشَاركَة اثْنَيْنِ فِي فعل ينْسب إِلَى أَحدهمَا مُتَعَلقا بِالْآخرِ وَالْمعْنَى فِي الأَصْل وَافقنِي رَبِّي فَأنْزل الْقُرْآن على وفْق مَا رَأَيْت وَلكنه رَاعى الْأَدَب فأسند الْمُوَافقَة إِلَى نَفسه لَا إِلَى الرب جلّ وَعز قَوْله " فِي ثَلَاث " أَي فِي ثَلَاثَة أُمُور وَإِنَّمَا لم يؤنث الثَّلَاث مَعَ أَن الْأَمر مُذَكّر لِأَن الْمُمَيز إِذا لم يكن مَذْكُورا جَازَ فِي لفظ الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث (فَإِن قلت) حصلت الْمُوَافقَة لَهُ فِي أَشْيَاء غير هَذِه الثَّلَاث. مِنْهَا فِي أُسَارَى بدر حَيْثُ كَانَ رَأْيه أَن لَا يفدون فَنزل {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} وَمِنْهَا فِي منع الصَّلَاة على الْمُنَافِقين فَنزل {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَمِنْهَا فِي تَحْرِيم الْخمر. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة حَدثنَا عَليّ بن زيد " عَن أنس قَالَ عمر وَافَقت رَبِّي فِي أَربع " وَذكر مَا فِي البُخَارِيّ قَالَ " وَنزلت {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين} إِلَى قَوْله {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَقلت أَنا {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَنزلت كَذَلِك ". وَمِنْهَا فِي شَأْن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " لما قَالَ أهل الْإِفْك مَا قَالُوا فَقَالَ يَا رَسُول الله من زوجكها فَقَالَ الله تَعَالَى قَالَ أفتنظر أَن رَبك دلّس عَلَيْك فِيهَا {سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} فَأنْزل الله ذَلِك " ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه وَقد ذكر أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ أَن الْمُوَافقَة فِي أحد عشر موضعا (قلت) يشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مصححا من حَدِيث ابْن عمر " مَا نزل بِالنَّاسِ أَمر قطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن على نَحْو مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا يدل على كَثْرَة مُوَافَقَته فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَكيف نَص على الثَّلَاث فِي الْعدَد (قلت) التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد وَقيل يحْتَمل أَنه ذكر ذَلِك قبل أَن يُوَافق فِي أَربع وَمَا زَاد وَفِيه نظر لِأَن عمر أخبر بِهَذَا بعد موت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يتَّجه مَا ذكر من ذَلِك وَيُقَال يحْتَمل أَن الرَّاوِي اعتنى بِذكر الثَّلَاث دون مَا سواهَا لغَرَض لَهُ قَوْله " قلت " ويروى " فَقلت " قَوْله " لَو اتخذنا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى " جَوَاب لَو مَحْذُوف وَيجوز أَن يكون لَو لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب وَاخْتلفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْن الصَّائِغ وَابْن هِشَام هِيَ قسم برأسها لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب كجواب الشَّرْط(4/144)
وَلَكِن قد يُؤْتى لَهَا بِجَوَاب مَنْصُوب كجواب لَيْت وَقَالَ بَعضهم هِيَ لَو الشّرطِيَّة أشربت معنى التَّمَنِّي وَقَالَ ابْن مَالك هِيَ لَو المصدرية أغنت عَن فعل التَّمَنِّي قَوْله " وَآيَة الْحجاب " هِيَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} وَآيَة الْحجاب كَلَام إضافي يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجر أما الرّفْع فَيحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا بِالِابْتِدَاءِ مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره وَآيَة الْحجاب كَذَلِك وَالْآخر أَن يكون مَعْطُوفًا على مُقَدّر تَقْدِيره هُوَ اتِّخَاذ الْمصلى وَآيَة الْحجاب وَأما النصب فعلى الِاخْتِصَاص وَأما الْجَرّ فعلى أَنه مَعْطُوف على مجرور وَهُوَ بدل من ثَلَاث وَالتَّقْدِير فِي ثَلَاث اتِّخَاذ الْمصلى وَآيَة الْحجاب قَوْله " الْبر " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة صفة مشبهة من بررت أبر من بَاب علم يعلم فَأَنا بر وبار وَيجمع الْبر على أبرار والبار على البررة وَالْبر مُقَابل الْفَاجِر من الْفُجُور قَالَ الْجَوْهَرِي فجر فجورا أَي فسق وفجر أَي كذب وَأَصله الْميل والفاجر المائل قَوْله " فِي الْغيرَة " بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَهِي الحمية والأنفة يُقَال رجل غيور وَامْرَأَة غيور بِلَا هَاء لِأَن فعولًا يشْتَرك فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى يُقَال غرت على أَهلِي أغار غيرَة فَأَنا غائر وغيور للْمُبَالَغَة (ذكر استنباط الْأَحْكَام) وَهِي على ثَلَاثَة أَنْوَاع كَمَا صرح بهَا فِي الحَدِيث. الأول سُؤال عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَّخذ من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى وَقَالَ الْخطابِيّ سَأَلَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن يَجْعَل ذَلِك الْحجر الَّذِي فِيهِ أثر مقَامه مصلى بَين يَدي الْقبْلَة يقوم الإِمَام عِنْده فَنزلت الْآيَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَإِن قيل مَا السِّرّ فِي أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يقنع بِمَا فِي شرعنا حَتَّى طلب الاستنان بِملَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَقد نَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن مثل هَذَا حِين أَتَى بأَشْيَاء من التَّوْرَاة فَالْجَوَاب أَن عمر لما سمع قَوْله تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيم {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} ثمَّ سمع {أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} على أَن الائتمام بِهِ مَشْرُوع فِي شرعنا دون غَيره ثمَّ رأى أَن الْبَيْت مُضَاف إِلَيْهِ وَأَن أثر قدمه فِي الْمقَام كرقم اسْم الْبَانِي فِي الْبناء ليذكر بِهِ بعد مَوته فَرَأى الصَّلَاة عِنْد الْمقَام كَقِرَاءَة الطَّائِف بِالْبَيْتِ اسْم من بناه انْتهى وَلم تزل آثَار قدمي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ظَاهِرَة فِيهِ مَعْرُوفَة عِنْد الْعَرَب فِي جَاهِلِيَّتهَا وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالب فِي قصيدته اللامية الْمَعْرُوفَة
(وموطىء إِبْرَاهِيم فِي الصخر رطبَة ... على قَدَمَيْهِ حافيا غير ناعل)
وَقد أدْرك الْمُسلمُونَ ذَلِك فِيهِ أَيْضا كَمَا قَالَ عبد الله بن وهب أَخْبرنِي يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب أَن أنس بن مَالك حَدثهمْ قَالَ رَأَيْت الْمقَام فِيهِ أَصَابِعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخْمص قَدَمَيْهِ غير أَنه أذهبه مسح النَّاس بِأَيْدِيهِم وَقَالَ ابْن جرير حَدثنَا بشر بن معَاذ حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} إِنَّمَا أمروا أَن يصلوا عِنْده وَلم يؤمروا بمسحه وَلَقَد تكلفت هَذِه الْأمة شَيْئا مَا تكلفته الْأُمَم قبلهَا وَلَقَد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فِيهَا فَمَا زَالَت هَذِه الْأمة يمسحونه حَتَّى اخلولق وانمحى. الثَّانِي الْحجاب فَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَارِيا فِيهِ على عَادَة الْعَرَب وَلم يكن يخفى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن حجبهن خير من غَيره لكنه كَانَ ينْتَظر الْوَحْي بِدَلِيل أَنه لم يُوَافق عمر حِين أَشَارَ بذلك قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَكَانَ الْحجاب فِي السّنة الْخَامِسَة فِي قَول قَتَادَة وَقيل فِي السّنة الثَّالِثَة قَالَه أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى وَعند ابْن سعد فِي ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما تزوج زَيْنَب بنت جحش أولم عَلَيْهَا فَأكل جمَاعَة وَهِي مولية بوجهها إِلَى الْحَائِط وَلم يخرجُوا فَخرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يخرجُوا وَعَاد وَلم يخرجُوا فَنزلت آيَة الْحجاب وَقَالَ عِيَاض أما الْحجاب الَّذِي خص بِهِ زَوْجَات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك لشهادة وَلَا لغَيْرهَا وَلَا إِظْهَار شخصهن إِذا خرجن كَمَا فعلت حَفْصَة يَوْم مَاتَ أَبوهَا ستر شخصها حِين خرجت وبنيت عَلَيْهَا قبَّة لما توفيت قَالَ تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} . الثَّالِث اجْتِمَاع نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْغيرَة عَلَيْهِ وَهُوَ مَا ذكره البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة حَدثنَا مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن حميد عَن أنس قَالَ " قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث أَو وَافقنِي رَبِّي فِي ثَلَاث فَقلت يَا رَسُول الله لَو اتَّخذت من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى وَقلت يَا رَسُول الله يدْخل عَلَيْك الْبر والفاجر فَلَو أمرت أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بالحجاب فَأنْزل الله آيَة الْحجاب قَالَ وَبَلغنِي معاتبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعض نِسَائِهِ فَدخلت عَلَيْهِنَّ قلت إِن انتهيتن أَو ليبدلن الله رَسُوله خيرا مِنْكُن حَتَّى أتيت إِحْدَى(4/145)
نِسَائِهِ فَقَالَت يَا عمر أما فِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يعظ نِسَاءَهُ حَتَّى تعظهن أَنْت فَأنْزل الله تَعَالَى {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات} " الْآيَة وَأخرج فِي سُورَة التَّحْرِيم وَقَالَ حَدثنَا عَمْرو بن عون حَدثنَا هشيم عَن حميد عَن أنس قَالَ " قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ اجْتمع نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْغيرَة عَلَيْهِ فَقلت لَهُنَّ {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَنزلت الْآيَة " وأصل هَذِه الْقَضِيَّة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا صلى الْغَدَاة دخل على نِسَائِهِ امْرَأَة امْرَأَة وَكَانَت قد أهديت لحفصة بنت عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عكة من عسل فَكَانَت إِذا دخل عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسلما حَبسته وسقته مِنْهَا وَأَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنْكرت احتباسه عِنْدهَا فَقَالَت لجويرية عِنْدهَا حبشية يُقَال لَهَا خضرَة إِذا دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على حَفْصَة فادخلي عَلَيْهَا فانظري مَاذَا تصنع فَأَخْبَرتهَا الْخَبَر وشأن الْعَسَل فغارت فَأرْسلت إِلَى صواحبها وَقَالَت إِذا دخل عليكن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْنَ إِنَّا نجد مِنْك ريح مَغَافِير وَهُوَ صمغ العرفط كريه الرَّائِحَة وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكره ويشق عَلَيْهِ أَن يُوجد مِنْهُ ريح مُنْتِنَة لِأَنَّهُ يَأْتِيك الْملك فَدخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على سَوْدَة قَالَت فَمَا أردْت أَن أَقُول ذَلِك لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ إِنِّي فرقت من عَائِشَة فَقلت يَا رَسُول الله مَا هَذِه الرّيح الَّتِي أَجدهَا مِنْك أكلت المغافير قَالَ لَا وَلَكِن حَفْصَة سقتني عسلا ثمَّ دخل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على امْرَأَة امْرَأَة وَهن يقلن لَهُ ذَلِك ثمَّ دخل على عَائِشَة فَأخذت بأنفها فَقَالَ لَهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا شَأْنك قَالَت أجد ريح المغافير أأكلتها يَا رَسُول الله قَالَ لَا بل سقتني حَفْصَة عسلا قَالَت جرست إِذا نحله العرفط فَقَالَ لَهَا وَالله لَا أطْعمهُ أبدا فحرمه على نَفسه قَالُوا وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم الْأَيَّام بَين نِسَائِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم حَفْصَة قَالَت يَا رَسُول الله إِن لي إِلَى أبي حَاجَة نَفَقَة لي عِنْده فَأذن لي أَن أَزورهُ وَآتِي بهَا فَأذن لَهَا فَلَمَّا خرجت أرسل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى جَارِيَته مَارِيَة الْقبْطِيَّة أم إِبْرَاهِيم وَكَانَ قد أهداها لَهُ الْمُقَوْقس فَأدْخلهَا بَيت حَفْصَة فَوَقع عَلَيْهَا فَأَتَت حَفْصَة فَوجدت الْبَاب مغلقا فَجَلَست عِنْد الْبَاب فَخرج رَسُول الله وَوَجهه يقطر عرقا وَحَفْصَة تبْكي فَقَالَ مَا يبكيك فَقَالَت إِنَّمَا أَذِنت لي من أجل هَذَا أدخلت أمتك بَيْتِي ثمَّ وَقعت عَلَيْهَا فِي يومي وعَلى فِرَاشِي أما رَأَيْت لي حُرْمَة وَحقا مَا كنت تصنع هَذَا بِامْرَأَة مِنْهُنَّ فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَيْسَ هِيَ جاريتي قد أحلهَا الله لي اسكتي فَهِيَ عَليّ حرَام ألتمس بِذَاكَ رضاك فَلَا تُخْبِرِي بِهَذَا امْرَأَة مِنْهُنَّ وَهُوَ عنْدك أَمَانَة فَلَمَّا خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرعت حَفْصَة الْجِدَار الَّذِي بَينهَا وَبَين عَائِشَة فَقَالَت أَلا أُبَشِّرك أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد حرم عَلَيْهِ أمته مَارِيَة فقد أراحنا الله مِنْهَا وأخبرت عَائِشَة بِمَا رَأَتْ وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سَائِر أَزوَاج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يزل نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى حلف أَن لَا يقربهَا فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} يَعْنِي الْعَسَل ومارية ثمَّ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما بلغه ذَلِك دخل على نِسَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوعظهن وزجرهن وَمن جملَة مَا قَالَ {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة فَهَذَا من جملَة مَا وَافق عمر ربه عز وَجل وَوَافَقَهُ ربه. وَقَالَ صَاحب الْكَشَّاف (فَإِن قلت) كَيفَ يكون المبدلات خيرا مِنْهُنَّ وَلم يكن على وَجه الأَرْض نسَاء خير من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ (قلت) إِذا طلقهن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعصيانهن لَهُ وإيذائهن إِيَّاه لم يبْقين على تِلْكَ الصّفة وَكَانَ غَيْرهنَّ من الموصوفات بِهَذِهِ الْأَوْصَاف مَعَ الطَّاعَة لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النُّزُول على هَوَاهُ وَرضَاهُ خيرا مِنْهُنَّ وَإِنَّمَا أخليت الصِّفَات كلهَا عَن العاطف ووسط بَين الثيبات والأبكار لِأَنَّهُمَا صفتان متنافيتان لَا يجتمعن فيهمَا اجتماعهن فِي سَائِر الصِّفَات فَلم يكن بُد من الْوَاو وَقَالَ النَّسَفِيّ الْآيَة وَارِدَة فِي الْإِخْبَار عَن الْقُدْرَة لَا عَن الْكَوْن فِي الْوَقْت لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِن طَلَّقَكُن وَقد علم أَنه لَا يُطَلِّقهُنَّ وَهَذَا كَقَوْلِه {وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ} الْآيَة فَهَذَا إِخْبَار عَن الْقُدْرَة وتخويف لَهُم لَا أَن فِي الْوُجُود من هُوَ خير من أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ ابْن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا يحيى بن أَيُّوب قَالَ حَدثنِي حميد قَالَ سَمِعت أنسا بِهَذَا) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم الْمَعْرُوف بِابْن أبي مَرْيَم وَيحيى بن أَيُّوب الغافقي أَو حميد الطَّوِيل وَهَذَا ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا هَهُنَا وَفِي التَّفْسِير أَيْضا وَنَصّ عَلَيْهِ أَيْضا خلف وَصَاحب الْمُسْتَخْرج(4/146)
وَهُوَ الظَّاهِر وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم وَهُوَ غير ظَاهر لِأَن البُخَارِيّ لم يحْتَج بِيَحْيَى بن أَيُّوب وَإِنَّمَا ذكره فِي الاستشهاد والمتابعة (فَإِن قلت) قَالَ ابْن بطال خرج لَهُ الشَّيْخَانِ (قلت) فِيهِ نظر لِأَنَّهُ نقض كَلَام نَفسه بِنَفسِهِ بِذكرِهِ لَهُ تَرْجَمَة فِي إِفْرَاد مُسلم (فَإِن قلت) مَا فَائِدَة ذكر البُخَارِيّ لَهُ إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرت (قلت) ليُفِيد تَصْرِيح حميد فِيهِ بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس فَحصل الْأَمْن من تدليسه وَقَالَ الْكرْمَانِي إِنَّمَا اسْتشْهد بِهَذَا الطَّرِيق للتقوية دفعا لما فِي الْإِسْنَاد السَّابِق من ضعف عنعنة هشيم إِذْ قيل أَنه مُدَلّس (قلت) فِيهِ نظر لِأَن معنعنات الصَّحِيحَيْنِ كلهَا مَقْبُولَة مَحْمُولَة على السماع وَكَلَامه يدل على هَذَا فَحِينَئِذٍ ذكره كَمَا ذكرنَا هُوَ الْوَاقِع فِي مَحَله ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) لم مَا عكس بِأَن يَجْعَل هَذَا الْإِسْنَاد أصلا (قلت) لما فِي يحيى من سوء الْحِفْظ وَلِأَن ابْن أبي مَرْيَم مَا نَقله بِلَفْظ النَّقْل والتحديث بل ذكره على سَبِيل المذاكرة وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ قَالَ ابْن أبي مَرْيَم (قلت) يُعَكر على مَا قَالَه رِوَايَة كَرِيمَة حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم كَمَا ذَكرْنَاهُ وَالظَّاهِر أَن الْكرْمَانِي لَو اطلع على هَذِه الرِّوَايَة لما قَالَ مَا ذكره قَوْله " بِهَذَا " أَي بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور سندا ومتنا فَهُوَ من رِوَايَة أنس عَن عمر لَا من رِوَايَة أنس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَافْهَم
67 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك بن أنس عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر قَالَ بَينا النَّاس بقباء فِي صَلَاة الصُّبْح إِذْ جَاءَهُم آتٍ فَقَالَ إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أنزل عَلَيْهِ اللَّيْلَة قُرْآن وَقد أَمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة فاستقبلوها وَكَانَت وُجُوههم إِلَى الشَّام فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ الدّلَالَة عَلَيْهَا من الْجُزْء الأول وَهُوَ قَوْله " وَقد أَمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة " وَمن الْجُزْء الثَّانِي أَيْضا وَذَلِكَ لأَنهم صلوا فِي أول تِلْكَ الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة المنسوخة الَّتِي هِيَ غير الْقبْلَة الْوَاجِب استقبالها جاهلين بِوُجُوبِهِ وَالْجَاهِل كالناسي حَيْثُ لم يؤمروا بِإِعَادَة صلَاتهم. وَرِجَاله أَئِمَّة مَشْهُورُونَ. وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك والعنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يحيى بن قزعة وقتيبة فرقهما وَفِي خبر الْوَاحِد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي التَّفْسِير جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة أربعتهم عَنهُ بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " بَينا " أَصله بَين فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا يُقَال بَينا وبينما وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل مُبْتَدأ وَخبر ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى والأفصح فِي جوابهما أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا وَقد جاآ كثيرا تَقول بَينا زيد جَالس دخل عَلَيْهِ عَمْرو وَإِذ دخل عَلَيْهِ عَمْرو وَإِذا دخل عَلَيْهِ وَبينا هَهُنَا أضيف إِلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَجَوَابه قَوْله إِذْ جَاءَهُم آتٍ وَفِي قبَاء سِتّ لُغَات الْمَدّ وَالْقصر والتذكير والتأنيث وَالصرْف وَالْمَنْع وأفصحها الْمَدّ وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف ظَاهر الْمَدِينَة وَالْمعْنَى هُنَا بَينا النَّاس فِي مَسْجِد قبَاء وهم فِي صَلَاة الصُّبْح وَاللَّام فِي النَّاس للْعهد الذهْنِي لِأَن المُرَاد أهل قبَاء وَمن حضر مَعَهم فِي الصَّلَاة قَوْله " آتٍ " فَاعل من أَتَى يَأْتِي فأعل إعلال قَاض وَهَذَا الْآتِي هُوَ عباد بِالتَّشْدِيدِ ابْن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي حَدِيث الْبَراء الْمُتَقَدّم فِي صَلَاة الْعَصْر وَلَا مُنَافَاة بَين الْخَبَرَيْنِ وَقد ذكرنَا وَجهه فِي حَدِيث الْبَراء وَهُوَ أَن الْخَبَر وصل وَقت الْعَصْر إِلَى من هُوَ دَاخل الْمَدِينَة وَوقت الصُّبْح فِي الْيَوْم الثَّانِي إِلَى من هُوَ خَارِجهَا قَوْله " وَقد أنزل عَلَيْهِ اللَّيْلَة قُرْآن " أطلق اللَّيْلَة على بعض الْيَوْم الْمَاضِي وَمَا يَلِيهِ مجَازًا وَأَرَادَ بِالْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء} الْآيَات وَفِيه أَيْضا مجَاز حَيْثُ ذكر الْكل وَأَرَادَ الْجُزْء وَفِي بعض النّسخ الْقُرْآن بِالْألف وَاللَّام الَّتِي هِيَ للْعهد قَوْله " وَقد أَمر " على صِيغَة الْمَجْهُول أَي أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة " أَي بِأَن يسْتَقْبل وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالْمعْنَى باستقبال الْكَعْبَة قَوْله " فاستقبلوها " على صِيغَة الْجمع من الْمَاضِي وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير لأهل قبَاء يَعْنِي حِين سمعُوا من الْآتِي مَا بَلغهُمْ استقبلوا الْكَعْبَة وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " فاستقبلوها " بِكَسْر الْبَاء على صِيغَة الْأَمر للْجمع وَالْأَمر لأهل قبَاء من الْآتِي قَوْله " وَكَانَت وُجُوههم "(4/147)
هُوَ من كَلَام ابْن عمر لَا كَلَام الرجل الْمخبر بِتَغَيُّر الْقبْلَة قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) لَا مَانع أَن يكون من كَلَام الْمخبر فعلى هَذَا تكون الْوَاو للْحَال فَتكون جملَة حَالية على رِوَايَة الْأَكْثَرين وَهُوَ أَن يكون صِيغَة الْجمع من الْمَاضِي وعَلى رِوَايَة الْأصيلِيّ تكون الْوَاو للْعَطْف وَجَاء عطف الْجُمْلَة الخبرية على الإنشائية وَالضَّمِير فِي وُجُوههم يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين وَقَالَ بَعضهم عوده إِلَى أهل قبَاء أظهر ويرجح رِوَايَة الْكسر أَنه عِنْد المُصَنّف فِي التَّفْسِير " وَقد أَمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة أَلا فاستقبلوها " فدخول حرف الاستفتاح يشْعر بِأَن الَّذِي بعده أَمر لَا أَنه بَقِيَّة الْخَبَر الَّذِي قبله (قلت) إِلَّا فِي مثل هَذَا الْموضع تكون للتّنْبِيه لتدل على تحقق مَا بعْدهَا وَلَا يُسمى حرف استفتاح إِلَّا فِي مَكَان يهمل مَعْنَاهَا وَفِي تَرْجِيحه الْكسر بِهَذَا نظر لِأَنَّهُ يُعَكر عَلَيْهِ قَوْله " فاستداروا " إِذا جعل وَكَانَت وُجُوههم من كَلَام ابْن عمر (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) قد مر أَكْثَره فِي حَدِيث الْبَراء بن عَازِب وَفِيه مَا يُؤمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يلْزم أمته وَفِيه أَن أَفعاله يجب الْإِتْيَان بهَا عِنْد قيام الدَّلِيل على الْوُجُوب وَيسن وَيسْتَحب بِحَسب الْمقَام والقرائن وَفِيه قبُول خبر الْوَاحِد وَفِيه جَوَاز تَعْلِيم من لَيْسَ فِي الصَّلَاة من هُوَ فِيهَا وَفِيه اسْتِمَاع الْمُصَلِّي لكَلَام من لَيْسَ فِي الصَّلَاة لَا يضر صلَاته وَفِيه أَن من تبلغه الدعْوَة وَلم يُمكنهُ استعلام ذَلِك فالفرض غير لَازم لَهُ هَكَذَا استنبطه الطَّحَاوِيّ مِنْهُ
404 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عنِ الحَكَمِ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَة عنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ صَلَّى النبيُّ الظُّهْرَ خَمْساً فقالُوا أزِيدَ فِي الصَّلاَةِ قَالَ وَمَا ذاكَ قالُوا صَلَّيْتَ خَمْساً فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: (وَمن لم ير الْإِعَادَة على من سَهَا فصلى) ظَاهِرَة لِأَنَّهُ سهى فصلى وَلم يعد تِلْكَ الصَّلَاة، وَهَذَا الحَدِيث مضى عَن قريب فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا الْبَاب، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَالْحكم بن عُيَيْنَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ وَعبد ابْن مَسْعُود.
فَإِن قلت: مَا وَجه احتجاج البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث؟ قلت: هُوَ أَن إقباله على النَّاس بِوَجْهِهِ بعد انْصِرَافه بعد السَّلَام كَانَ فِي غير صَلَاة، فَلَمَّا بنى على صلَاته بَان أَنه كَانَ فِي وَقت استدبار الْقبْلَة فِي حكم الْمُصَلِّي، لِأَنَّهُ لَو خرج من الصَّلَاة لم يجز لَهُ أَن يَبْنِي على مَا مضى مِنْهَا، فَظهر بِهَذَا أَن من أَخطَأ الْقبْلَة لَا يُعِيد.
33 - (بابُ حَكِّ البُزَاقِ بِاليَدِ مِنَ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حك البزاق بِالْيَدِ، سَوَاء كَانَ بِآلَة أَو لَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث الْبَاب الحك بِالْيَدِ من غير ذكر آلَة وَكَذَلِكَ فِي التَّرْجَمَة قلت: قَوْله: بِالْيَدِ، أَعم من أَن يكون فِيهَا آلَة أَو لَا، على أَن أَبَا دَاوُد روى عَن جَابر قَالَ: (أَتَانَا رَسُول الله فِي مَسْجِدنَا وَفِي يَده عرجون ابْن طَابَ، فَنظر فَرَأى فِي قبْلَة الْمَسْجِد نخامة، فَأقبل عَلَيْهَا فحتها بالعرجون) الحَدِيث، فَهَذَا يدل على أَنه بَاشر بِيَدِهِ بعرجون فِيهَا؛ والعرجون، بِضَم الْعين: هُوَ الْعود الْأَصْغَر الَّذِي فِيهِ الشماريخ إِذا يبس واعوج، وَهُوَ من الانعراج، وَهُوَ الانعطاف، وَجمعه: عراجين، و: الْوَاو وَالنُّون فِيهِ زائدتان، و: ابْن طَابَ، رجل من أهل الْمَدِينَة ينْسب إِلَيْهِ نوع من تمر الْمَدِينَة، وَمن عاداتهم أَنهم ينسبون ألوان التَّمْر كل لون إِلَى أحد، وَمَعَ هَذَا يحْتَمل تعدد الْقِصَّة. وَفِي البزاق ثَلَاث لُغَات: بالزاي وَالصَّاد وَالسِّين، والأوليان مشهورتان.
وَلما فرغ من بَيَان أَحْكَام الْقبْلَة شرع فِي بَيَان أَحْكَام الْمَسَاجِد، والمناسبة ظَاهِرَة.
50496 - ح دّثنا قتَيْبَةُ قَالَ حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ أنَّ النبيَّ رَأى نُخَامَةً فِي القبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ فقامَ فَحكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: (إِنَّ أحَدَكُمْ إذَا قامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَو إنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ) ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فقالَ أَو يَفْعَلُ هَكَذَا. .(4/148)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم فِي بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب كَفَّارَة البزاق فِي الْمَسْجِد، وَفِي بَاب إِذا بدره البزاق وَفِي بَاب لَا يبصق عَن يَمِينه فِي الصَّلَاة، وَفِي بَاب ليبصق عَن يسَاره، وَفِي بَاب مَا يجوز من البزاق، وَفِي بَاب الْمُصَلِّي يُنَاجِي ربه. وَأخرجه مُسلم أَيْضا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَفِي هَذَا الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَعَائِشَة يَأْتِي عَن قريب، وَحَدِيث النَّسَائِيّ عَن أنس قَالَ: (رأى رَسُول الله نخامة فِي قبْلَة الْمَسْجِد فَغَضب حَتَّى احمر وَجهه، فَقَامَتْ امْرَأَة من الْأَنْصَار فحكتها وَجعلت مَكَانهَا خلوقاً، قَالَ رَسُول ا: مَا أحسن هَذَا) وَفِي كتاب (الْمَسَاجِد) لأبي نعيم: (من ابتلع رِيقه إعظاماً لِلْمَسْجِدِ وَلم يمح اسْما من أَسمَاء اتعالى ببزاق كَانَ من خِيَار عباد ا) . وَفِي سَنَده ضرار بن عَمْرو، وَفِيه كَلَام، وَذكر ابْن خالويه فِي هَذَا (أَن النَّبِي لما رأى النخامة فِي الْمِحْرَاب قَالَ: من إِمَام هَذَا الْمَسْجِد؟ قَالُوا؛ فلَان. قَالَ: قد عزلته، فَقَالَت امْرَأَته: لِمَ عزل النَّبِي زَوجي عَن الْإِمَامَة؟ فَقَالَ: رأى نخامة فِي الْمَسْجِد فعمدت إِلَى خلوق طيب فخلقت بِهِ الْمِحْرَاب، فاجتاز عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ: من فعل هَذَا؟ قَالَ: امْرَأَة الإِمَام قَالَ: قد وهبت ذَنبه لامْرَأَته ورددته إِلَى الْإِمَامَة) . فَكَانَ هَذَا أول خلوق كَانَ فِي الْإِسْلَام.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (نخامة) ، بِضَم النُّون: النخاعة، وَقد ذكره البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ فِي بَاب الِالْتِفَات. يُقَال: تنخم الرجل إِذا تنخع. وَفِي (الْمطَالع) : النخامة مَا يخرج من الصَّدْر وَهُوَ البلغم اللزج. وَفِي (النِّهَايَة) : النخامة البزقة الَّتِي تخرج من الرَّأْس. وَيُقَال: النخامة مَا يخرج من الصَّدْر. والبصاق مَا يخرج من الْفَم، والمخاط مَا يسيل من الْأنف. قَوْله: (فِي الْقبْلَة) أَي: فِي حَائِط من جِهَة قبْلَة الْمَسْجِد. قَوْله: (حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجهه) ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْهمزَة وَفتح الْيَاء، أَي: شوهد أثر الْمَشَقَّة فِي وَجهه، وَقد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فَغَضب حَتَّى أحمَّر وَجهه) ، وللبخاري فِي الْأَدَب من حَدِيث ابْن عمر: (فتغيظ على أهل الْمَسْجِد) . قَوْله: (إِذا قَامَ فِي صلَاته) ، الْفرق بَين: قَامَ فِي الصَّلَاة، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة، أَن الأول يكون بعد الشُّرُوع، وَالثَّانِي عِنْد الشُّرُوع. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، الْفَاء: فِيهِ جَوَاب: إِذا، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة، قَائِمَة مقَام خبر الْمُبْتَدَأ. قَوْله: (يُنَاجِي ربه) ، من الْمُنَاجَاة. قَالَ النَّوَوِيّ: الْمُنَاجَاة إِشَارَة إِلَى إخلاص الْقلب وحضوره وتفريغه لذكر اتعالى. قلت: الْمُنَاجَاة والنجوى هُوَ السِّرّ بَين الْإِثْنَيْنِ، يُقَال: نَاجَيْته إِذا ساررته، وَكَذَلِكَ نجوت نجوى، ومناجاة الرب مجَاز لِأَن الْقَرِينَة صارفة عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة، إِذْ لَا كَلَام محسوساً، إلاَّ من طرف العَبْد، فَيكون المُرَاد لَازم الْمُنَاجَاة وَهُوَ إِرَادَة الْخَيْر، وَيجوز أَن تكون من بَاب التَّشْبِيه أَي: كَأَنَّهُ ربه يُنَادي، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنه شبه العَبْد وتوجهه إِلَى اتعالى فِي الصَّلَاة وَمَا فِيهَا من الْقِرَاءَة والأذكار وكشف الْأَسْرَار واستنزال رَحمته ورأفته مَعَ الخضوع والخشوع. بِمن يُنَاجِي مَوْلَاهُ ومالكه، فَمن شَرَائِط حسن الْأَدَب أَن يقف محاذيه ويطرق رَأسه وَلَا يمد بَصَره إِلَيْهِ ويراعي جِهَة أَمَامه حَتَّى لَا يصدر من تِلْكَ الهيئات شَيْء وَإِن كَانَ اتعالى منزهاً عَن الْجِهَات، لِأَن الْآدَاب الظَّاهِرَة والباطنة مُرْتَبِط بَعْضهَا بِبَعْض. قَوْله: (أَو أَن ربه بَينه وَبَين الْقبْلَة) ، كَذَا هُوَ بِالشَّكِّ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: بواو، الْعَطف وَلَا يَصح حمل هَذَا الْكَلَام على ظَاهره، لِأَن اتعالى منزه عَن الْحُلُول فِي الْمَكَان، فَالْمَعْنى على التَّشْبِيه، أَي: كَأَنَّهُ بَينه وَبَين الْقبْلَة، وَكَذَا معنى قَوْله فِي الحَدِيث الَّذِي بعده: (فَإِن اقِبَل وَجهه) . وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن توجهه إِلَى الْقبْلَة مفض بِالْقَصْدِ مِنْهُ إِلَى ربه، فَصَارَ فِي التَّقْدِير كَأَن مَقْصُوده بَينه وَبَين قبلته، فَأمر أَن تصان تِلْكَ الْجِهَة عَن البزاق وَنَحْوه من أثقال الْبدن. قَوْله: (قبل) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. أَي: جِهَة الْقبْلَة. قَوْله: (أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى) كَمَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَي: فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَزَاد أَيْضا من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة: (فيدفنها) ، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى. قَوْله: (ثمَّ أَخذ طرف رِدَائه) الخ، فِيهِ الْبَيَان بِالْفِعْلِ ليَكُون أوقع فِي نفس السَّامع. قَوْله: (أَو يفعل هَكَذَا) عطف على الْمُقدر بعد حرف الِاسْتِدْرَاك، أَي: وَلَكِن يبزق عَن يسَاره أَو يفعل هَكَذَا، وَلَيْسَت كلمة: أَو، هَهُنَا للشَّكّ بل للتنويع، وَمَعْنَاهُ أَنه: مُخَيّر بَين هَذَا وَهَذَا.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَعْظِيم الْمَسَاجِد عَن إثقال ابدن، وَعَن القاذورات بِالطَّرِيقِ الأولى. وَفِيه: احترام جِهَة الْقبْلَة. وَفِيه: إِزَالَة البزاق وَغَيره من الأقذار من الْمَسْجِد. وَفِيه: أَنه إِذا بزق يبزق عَن يسَاره وَلَا يبزق أَمَامه تَشْرِيفًا(4/149)
للْقبْلَة، وَلَا عَن يَمِينه تَشْرِيفًا للْيَمِين، وَجَاء فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (فَإِن عَن يَمِينه ملكا) ، وَعند ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح: (لَا يبزق عَن يَمِينه فَعَن يَمِينه كَاتب الْحَسَنَات، وَلَكِن يبزق عَن شِمَاله أَو خلف ظَهره) . وَقَوله: (فَإِن عَن يَمِينه ملكا) دَلِيل على أَنه لَا يكون حالتئذٍ عَن يسَاره ملك، لِأَنَّهُ فِي طَاعَة فَإِن قلت: يخدش فِي هَذَا قَوْله: (إِن الْكِرَام الْكَاتِبين لَا يفارقان العَبْد إلاَّ عِنْد الْخَلَاء وَالْجِمَاع) . قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا فِي غير الْمَسْجِد، أما فِيهِ فَلَا يبزق إلاَّ فِي ثَوْبه.
قلت: وَسِيَاق الحَدِيث على أَنه فِي الْمَسْجِد. وَاعْلَم أَن البصاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة مُطلقًا، سَوَاء احْتَاجَ إِلَيْهِ أم لَا، فَإِن احْتَاجَ يبزق فِي ثَوْبه، فَإِن بزق فِي الْمَسْجِد يكون خَطِيئَة وَعَلِيهِ أَن يكفر هَذِه الْخَطِيئَة بدفنه، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: البزاق لَيْسَ بخطيئة إلاَّ فِي حق من لم يدفنه، فَأَما من أَرَادَ دَفنه فَلَيْسَ بخطيئة، وَهَذَا غير صَحِيح، وَالْحق مَا ذَكرْنَاهُ. وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد: بدفنه، فالجمهور على أَنه الدّفن فِي تُرَاب الْمَسْجِد ورمله وحصياته إِن كَانَت فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء، وإلاَّ يُخرجهَا. وَعَن أَصْحَاب الشَّافِعِي قَولَانِ: أَحدهمَا إِخْرَاجه مُطلقًا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الرَّوْيَانِيّ، فَإِن لم تكن الْمَسَاجِد تربة وَكَانَت ذَات حَصِير فَلَا يجوز احتراماً للمآلية، وَفِيه أَن البزاق طَاهِر، وَكَذَا النخامة طَاهِرَة، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف إلاَّ مَا حُكيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ يَقُول: البزاق نجس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الحَدِيث دَال على تَحْرِيم البصاق فِي الْقبْلَة، فَإِن الدّفن لَا يَكْفِيهِ. قيل: هُوَ كَمَا قَالَ. وَقيل: دَفنه كَفَّارَته. وَقيل: النَّهْي فِيهِ للتنزيه، وَالأَصَح أَنه للتَّحْرِيم، وَفِي (صحيحي) ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، من حَدِيث حُذَيْفَة مَرْفُوعا: (من تفل تجاه الْقبْلَة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وتفله بَين عَيْنَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة لِابْنِ خُزَيْمَة، من حَدِيث ابْن عمر، مَرْفُوعا: (يبْعَث صَاحب النخامة فِي الْقبْلَة يَوْم الْقِيَامَة وَهِي فِي وَجهه) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سهلة السَّائِب بن خَلاد، قَالَ أَحْمد، من أَصْحَاب النَّبِي: (إِن رجلا أم قوما فبصق فِي الْقبْلَة وَرَسُول الله ينظر، فَقَالَ رَسُول الله حِين فرغ: لَا يُصَلِّي لكم، فَأَرَادَ بعد ذَلِك أَن يُصَلِّي لَهُم فمنعوه وَأَخْبرُوهُ بقول رَسُول ا، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله فَقَالَ: نعم، وحسبت أَنه قَالَ: إِنَّك آذيت اورسوله) . وَالْمعْنَى: أَنه فعل فعلا لَا يُرْضِي اورسوله. وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث جَابر أَنه قَالَ: (أَتَانَا رَسُول الله فِي مَسْجِدنَا هَذَا، وَفِي يَده عرجون ابْن طَابَ) ، ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا بَال أحدكُم يقوم يسْتَقْبل ربه، عز وَجل، فيتنخع أَمَامه، أَيُحِبُّ أَن يسْتَقْبل فيتنخع فِي وَجهه؟) الحَدِيث.
60407 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رسولَ الله رَأى بُصَاقاً فِي جِدَارِ القِبلَةِ فَحكَّهُ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى الناسِ فَقَالَ: (إذَا كانَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ فإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إذَا صَلَّى) . (الحَدِيث 604 أَطْرَافه فِي: 357، 3121، 1116) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من إِسْنَاد الحك إِلَيْهِ أَنه كَانَ بِيَدِهِ، وَأَن الْمَعْهُود من جِدَار الْقبْلَة، جِدَار قبْلَة مَسْجِد رَسُول ا، وَبِهَذَا التَّقْدِير يسْقط سُؤال من يَقُول: إِن هَذَا الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على بعض التَّرْجَمَة، وَلَا يعلم أَن الحك كَانَ بِيَدِهِ وَلَا من الْمَسْجِد فَافْهَم.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب وَغَيره. وَأخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (فِي جِدَار الْقبْلَة) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (فِي جِدَار الْمَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الصَّلَاة من طَرِيق أَيُّوب عَن نَافِع: (فِي قبْلَة الْمَسْجِد) وَزَاد فِيهِ: (ثمَّ نزل فحكها بِيَدِهِ) ، وَفِيه إِشْعَار بِأَنَّهُ كَانَ فِي حَالَة الْخطْبَة، وَصرح الْإِسْمَاعِيلِيّ بذلك فِي رِوَايَة من طَرِيق شيخ البُخَارِيّ، وَزَاد فِيهِ أَيْضا قَالَ: (وَأَحْسبهُ دَعَا بزعفران فلطخه بِهِ) ، وَزَاد عبد الرَّزَّاق فِي رِوَايَة عَن معمر عَن أَيُّوب، فَلذَلِك صنع الزَّعْفَرَان فِي الْمَسَاجِد. قَوْله: (فَإِن اقبل وَجهه) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، أَي: جِهَة وَجهه، وَهَذَا أَيْضا على سَبِيل التَّشْبِيه، أَي كَأَن اتعالى فِي مُقَابل وَجهه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن اقِبَل الْجِهَة الَّتِي عظمها، وَقيل: فَإِن قبله اوقبله ثَوَابه وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يُقَابل هَذِه الْجِهَة بالبزاق الَّذِي هُوَ الاستخفاف لمن يبزق إِلَيْهِ وتحقيره.
70417 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيهِ عنْ عائِشَة(4/150)
أمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّ رسولَ اللَّهِ رَأى فِي جِدَارِ القِبْلَةِ مَخَاطاً أوْ بُصَاقاً أوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا. وَأخرجه مُسلم. أَيْضا. قَوْله: (أَو بصاقاً أَو نخامة) ، كَذَا هُوَ وَقع فِي (الْمُوَطَّأ) بِالشَّكِّ، وَفِي وَرَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق معن عَن مَالك: (أَو نخاعاً) بدل: (مخاطاً) . وَقد ذكرنَا الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة.
43 - (بَاب حَكِّ المُخَاطِ بِالحَصَى مِنَ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حك المخاط بالحصى من الْمَسْجِد. فَإِن قلت: ذكر فِي الْبَاب السَّابِق حك البصاق بِالْيَدِ، وَذكر هَهُنَا حك المخاط بالحصى، فَهَل فِيهِ زِيَادَة فَائِدَة؟ قلت: نعم، وَذَلِكَ أَن المخاط غَالِبا يكون لَهُ جرم لزج فَيحْتَاج فِي قلعه إِلَى معالجة وَهِي بالحصى وَنَحْوه، والبصاق لَيْسَ لَهُ ذَلِك فَيمكن نَزعه بِلَا آلَة، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يخالطه بلغم فحينئذٍ يلْحق بالمخاط. فَإِن قلت: الْبَاب مَعْقُود على حك المخاط، والْحَدِيث يدل على حك النخامة. قلت: لما كَانَا فضلتين طاهرتين لم يفرق بَينهمَا إشعاراً بِأَن حكمهمَا وَاحِد، هَذَا الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: وَإِن كَانَ بَينهمَا فرق، وَهُوَ أَن المخاط يكون من الْأنف والنخامة من الصَّدْر، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن (الْمطَالع) ، لكنه ذكر المخاط فِي التَّرْجَمَة والنخامة فِي الحَدِيث إشعاراً بِأَن بَينهمَا اتحاداً فِي الثخانة واللزوجة، وَأَن حكمهمَا وَاحِد من هَذِه الْحَيْثِيَّة أَيْضا.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي اعَنْهُما إِن وَطِئْتَ عَلَى قَذَرٍ رَطْبٍ فاغْسِلْهُ وإنْ كَانَ يابِساً فَلاَ.
قَالَ بَعضهم: مطابقته للتَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الْعلَّة فِي النَّهْي احترام الْقبْلَة لَا مُجَرّد التأذي بالبزاق، فَلهَذَا لم يفرق فِيهِ بَين رطب ويابس، بِخِلَاف مَا عِلّة النَّهْي فِيهِ مُجَرّد الاستقذار فَلَا يضر وَطْء الْيَابِس مِنْهُ. قلت: هَذَا تعسف وبعدٌ عَظِيم، لِأَن قَوْله: الْعلَّة فِي النَّهْي احترام الْقبْلَة لَا مُجَرّد التأذي بالبزاق، غير موجه لِأَن عِلّة النَّهْي فِيهِ احترام الْقبْلَة، وَحُصُول التأذي مِنْهُ كَمَا ذكره فِي حَدِيث أبي سهلة (أَنَّك آذيت اورسوله) : وَحُصُول الْأَذَى فِيهِ هُوَ مَا ذكره فِي الحَدِيث، (فَإِن اقبل وَجهه إِذا صلى) ، وبزاقه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة أَذَى كبيرٌ وَهُوَ منباب ذكر اللَّازِم وَإِرَادَة الْمَلْزُوم، وَمَعْنَاهُ: لَا يرضى ابه وَلَا يرضى بِهِ رَسُوله أَيْضا، وتأذيه من ذَلِك هُوَ أَنه نَهَاهُ عَنهُ وَلم ينْتَه، وَفِيه مَا فِيهِ من الْأَذَى، فَعلم من ذَلِك أَن الْعلَّة الْعُظْمَى هِيَ حُصُول الْأَذَى مَعَ ترك احترام الْقبْلَة، وَالْحكم يثبت بعلل شَتَّى. وَقَوله بِخِلَاف مَا عِلّة النَّهْي فِيهِ مُجَرّد الاستقذار، فَلَا يضرّهُ وَطْء الْيَابِس غير صَحِيح، لِأَن عِلّة النَّهْي فِيهِ كَونه نجسا، وَلم تسْقط عَنهُ صفة النَّجَاسَة، غير أَن وَطْء يابسه لَا يضرّهُ لعدم التصاقه بالجسم وَعدم التلوث، لَا لمُجَرّد كَونه يَابسا، حَتَّى لَو صلى على مَكَان عَلَيْهِ نجس يَابِس لَا تجوز صلَاته، وَلَو كَانَ على بدنه أَو ثَوْبه نَجَاسَة يابسة لَا يجوز أَيْضا، فَعلم أَن النَّجَاسَة المائعة تضره مُطلقًا، غير أَنه عفى عَن يابسها فِي الْوَطْء، وَيُمكن أَن يُوَجه لَهُ تناسب بِوَجْهِهِ وَهُوَ أَن يُقَال: الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب حك النخامة بالحصى، وَفِي التَّرْجَمَة حك المخاط بالحصى، وَذَا يدل على أَنه كَانَ يَابسا إِذْ الحك لَا يُفِيد فِي رطبه لِأَنَّهُ ينتشر بِهِ ويزداد التلوث، فَظهر الْفرق بَين رطبه ويابسه وَإِن لم يُصَرح بِهِ فِي ظَاهر الحَدِيث، فَفِي الرطب يزَال بِمَا تمكن إِزَالَته بِهِ، وَفِي الْيَابِس بالحصاة وَنَحْوهَا، فَكَذَلِك فِي أثر ابْن عَبَّاس: الْفرق حَيْثُ قَالَ: إِن كَانَ رطبا فاغسله وَإِن كَانَ يَابسا فَلَا، أَي: فَلَا يَضرك وَطْؤُهُ، فَتكون الْمُنَاسبَة بَينهمَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَهَذَا الْقدر كافٍ، لِأَنَّهُ أقناعي غير برهاني، ثمَّ إِن أثر ابْن عَبَّاس ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَوَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح، وَقَالَ فِي آخِره: وَإِن كَانَ يَابسا لم يضرّهُ.
904 - ح دّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ أخبرنَا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أبَا هُريْرةَ وأَبَا سَعِيدٍ حدَّثاه أنَّ رسولَ اللَّهِ رَأى نُخَامَةً فِي جِدَارِ المَسْجِدِ فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَكَّهَا فقالَ إذَا تَنخَّمَ أحَدُكُمْ فَلاَ يَنَنَخَّمَنَّ قبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عنْ يَمِينِهِ وَليْبصقْ عنْ يَسَارِهِ أَو تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى. (الحَدِيث 804 طرفاه فِي: 014، 614) (الحَدِيث 904 طرفاه فِي: 114، 414) .(4/151)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَتَنَاول حَصَاة فحكها) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالتبوذكي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الْمدنِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعد بن مَالك، رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا مُوسَى بن إِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ بَصرِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ وَلم يذكر سُفْيَان أَبَا هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فحكها) أَي: حك النخامة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فحتها) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، ومعناهما وَاحِد. قَوْله: (إِذا تنخم) أَي: إِذا رمى بالنخامة. وَبَقِيَّة الْكَلَام تقدّمت.
53 - (بابٌ لَا يَبْصُقْ عنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ يذكر لَا يبصق الْمُصَلِّي عَن يَمِينه فِي الصَّلَاة.
114 - ح دّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وأبَا سَعِيدٍ أخبراهُ أنَّ رَسولَ اللَّهِ رَأَى نُخَامَةً فِي حائِطِ المَسْجِد فَتَنَاوَلَ رسولُ اللَّهِ حَصَاةً فَحَتَّها ثُمَّ قَالَ: (إذَا تَنَخَّمَ أحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمْ قِبلَ وَجْهِهِ ولاَ عنْ يَمِينهِ وَلْيَبْصُقْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى) . (انْظُر الْحَدِيثين 804 و 904 وطرفيهما) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَا يتنخم قبل وَجهه وَلَا عَن يَمِينه) أَي: وَلَا يتنخم عَن يَمِينه. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة: لَا يبصق عَن يَمِينه، وَلَفظ حَدِيث الْبَاب: (لَا يتنخم؟) قلت: جعل النَّبِي، حكم النخامة والبصاق وَاحِدًا، أَلا ترى أَنه قَالَ فِي حَدِيث أنس الْآتِي: (لَا يبزقن فِي قبلته، وَلَكِن عَن يسَاره) بعد أَن رأى نخامة فِي الْقبْلَة، فَدلَّ ذَلِك عل تساويهما فِي الحكم، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ عين الحَدِيث الَّذِي مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَنه من طَرِيق أُخْرَى عَن ابْن شهَاب، فَبين البُخَارِيّ وَبَين ابْن شهَاب ثَلَاثَة أنفس، وهم: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَاللَّيْث بن سعد، وَعقيل بن خَالِد. وَفِي ذَاك الحَدِيث بَينهمَا اثْنَان، وهما: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَهُنَاكَ أَن أَبَا هُرَيْرَة وَأَبا سعيد: حَدَّثَاهُ، وَهَهُنَا: أخبراه. وَهُنَاكَ فِي: جِدَار الْمَسْجِد، وَهَهُنَا فِي: حَائِط الْمَسْجِد، وَهُنَاكَ: فحكها، وَهَهُنَا: فحتها، وَهُنَاكَ: فَلَا يتنخمن؛ بالنُّون الْمُؤَكّدَة، وَهَهُنَا: فَلَا يتنخم، بِدُونِ التَّأْكِيد، وَهُنَاكَ: تَحت قدمه، وَهَهُنَا: تَحت قدمه الْيُسْرَى، وَقَوله هُنَاكَ: تَحت قدمه، أَعم من أَن يكون قدمه الْيُمْنَى أَو الْيُسْرَى، وَهَهُنَا فسر أَن المُرَاد من الْقدَم هُوَ الْيُسْرَى لِأَن الْيَمين لَهُ فضل عَن الْيَسَار.
ثمَّ هَذَا الحَدِيث غير مُقَيّد بِحَالَة الصَّلَاة إلاَّ فِي حَدِيث أنس الْمُتَقَدّم الَّذِي رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة، وَفِي حَدِيث ابْن عمر الْمُتَقَدّم الَّذِي رَوَاهُ عَن عبد ابْن يُوسُف، وَفِي حَدِيث أنس الْآتِي الَّذِي رَوَاهُ عَن آدم، وَمن ذَلِك جزم النَّوَوِيّ بِالْمَنْعِ فِي كل حَالَة دَاخل الصَّلَاة وخارجها، وَسَوَاء كَانَ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره، وَنقل عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا بَأْس بِهِ خَارج الصَّلَاة، وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن مَسْعُود أَنه كره أَن يبصق عَن يَمِينه وَلَيْسَ فِي الصَّلَاة. وَعَن معَاذ بن جبل، قَالَ: مَا بصقت عَن يَمِيني مُنْذُ أسلمت، وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه نهى ابْنه عَنهُ مُطلقًا، وَهَذِه كلهَا تشهد للْمَنْع مُطلقًا. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: النَّهْي عَن البصاق عَن الْيَمين فِي الصَّلَاة إِنَّمَا هُوَ مَعَ إِمْكَان غَيره، فَإِن تعذر فَلهُ ذَلِك. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِن كَانَ عَن يسَاره وَاحِد فَلَا يبزق فِي وَاحِد من الْجِهَتَيْنِ، لَكِن تَحت(4/152)
قدمه أَو ثَوْبه، وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن طَارق بن عبد االمحاربي قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا قَامَ الرجل إِلَى الصَّلَاة، أَو إِذا صلى أحدكُم، فَلَا يبزق أَمَامه وَلَا عَن يَمِينه، وَلَكِن عَن تِلْقَاء يسَاره إِن كَانَ فَارغًا، أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى ثمَّ ليقل بِهِ) . وَهَذَا الحَدِيث يُؤَيّد مَا قَالَه الْخطابِيّ، وَمعنى قَوْله: (إِن كَانَ فَارغًا) أَي: مُتَمَكنًا من البزق فِي يسَاره. قَوْله: (ثمَّ ليقل بِهِ) ، أَي: ليدفنه إِذا بزقه تَحت قدمه الْيُسْرَى، وَقد ذكرنَا أَن لفظ: القَوْل، يسْتَعْمل عِنْد الْعَرَب فِي معانٍ كثيرةٍ.
21447 - ح دّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي قَتَادةُ قَالَ سَمِعْتُ أنَساً قَالَ قَالَ النبيُّ (ل ايَتْفِلَنَّ أحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَن يَمِينهِ وَلَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ رِجْلِهِ) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن معنى: لَا يتفلن: لَا يبزقن. وَهُوَ بالتءا الْمُثَنَّاة من فَوق وبضم الْفَاء وَكسرهَا، والتفل شَبيه بالبزق، وَهُوَ قل مِنْهُ أَوله البزق ثمَّ التفل ثمَّ النفث ثمَّ النفخ. وَقد ذكر المُصَنّف حَدِيث أنس هَذَا فِي مَوَاضِع، وَقد ذَكرنَاهَا.
63 - (بابٌ لِيَبْزُقْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ يذكر البصق عَن يسَاره، وَفِي بعض النّسخ: (ليبزق) ، ومعناهما وَاحِد، وَذكر فِيهِ هَذَا الْبَاب حديثين: أَحدهمَا: عَن أنس بن مَالك، وَقد تكَرر وَفِيه الْقَيْد بِالصَّلَاةِ، وَالْآخر: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ الْقَيْد بِالصَّلَاةِ على مَا يَجِيء بَيَانه، والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
314 - ح دّثنا آدَمُ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدّثنا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ قَالَ النبيُّ (إنَّ المُؤْمنَ إذَا كانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عنْ يَمِينِهِ ولَكِنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن عَن يسَاره) ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِن ليبصق عَن يسَاره، وَقد ذكر هَذَا فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد بأزيد مِنْهُ، وَقد تقدم مَا فِيهِ من الْكَلَام.
وَفِي إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: التَّصْرِيح بِسَمَاع قَتَادَة عَن أنس رَضِي اعنه.
41467 - ح دّثنا عليٌ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبي سَعِيدٍ أنَّ النبيَّ أبْصَر نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ فَحَكَّها بِحَصَاةٍ ثُمَّ نَهَى أنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أوْ عنْ يَمينِهِ وَلَكنْ عنْ يَسَارِهِ أوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى. (انْظُر الحَدِيث 904 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق، وَعلي هُوَ ابْن عبد االمديني، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بتصريح عبد ا، وَهَذَا الحَدِيث تقدم ذكره من وَجْهَيْن آخَرين عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ: مُحَمَّد بن شهَاب، وَلم يذكر سُفْيَان وَهُوَ ابْن عُيَيْنَة فيهمَا، وَإِنَّمَا ذكر هَهُنَا. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَن أبي هُرَيْرَة بدل أبي سعيد، وَالظَّاهِر أَنه وهم، وَوَافَقَهُ فِي هَذَا مَا ذكره البُخَارِيّ فِي آخر الحَدِيث، و: عَن الزُّهْرِيّ سمع حميدا عَن أبي سعيد، فَظن أَنه عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد مَعًا وفرقهما. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذِه التَّرْجَمَة مُقَيّدَة بالقدم الْيُسْرَى، وَلَفظ الْقدَم فِي الحَدِيث لَا تَقْيِيد فِيهِ؟ قلت: يُقيد بِهِ عملا بالقاعدة المقررة من تَقْيِيد الْمُطلق. قلت: لفظ الحَدِيث: (أَو تَحت قدمه الْيُسْرَى) ، وَكَأن نسخته قد سَقَطت مِنْهَا لَفْظَة: الْيُسْرَى، فَبنى هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب على هَذَا، وَمَعَ هَذَا سَأَلَ أَيْضا بقوله: فَإِن قلت: لَفْظَة: عَن يسَاره، شَامِل لقدمه الْيُسْرَى، فَمَا فَائِدَة تخصيصها بِالذكر؟ قلت: لَيْسَ شَامِلًا لَهَا إِذْ جِهَة الْيَمين وَالشمَال غير جِهَة التحت والفوق، وَبَين كلاميه تنَاقض. قَوْله: (وَلَكِن عَن يسَاره أَو تَحت قدمه) كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (وَتَحْت قدمه) ، بواو الْعَطف من غير شكّ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي اعنه: (وَلَكِن عَن يسَاره تَحت قدمه) ، بِحَذْف كلمة: أَو، وَكَذَا للْبُخَارِيّ من حَدِيث أنس رَضِي اعنه، فِي أَوَاخِر الصَّلَاة وَرِوَايَة كلمة: أَو، أَعم وأشمل.(4/153)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ حُمَيْداً عنْ أبي سَعِيدٍ نَحْوَهُ.
أَشَارَ البُخَارِيّ بهَا أَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ روى أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة روى هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بالعنعنة وَالْآخر: صرح فِيهِ بِسَمَاعِهِ من حميد، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا تَعْلِيق، وَقَالَ بَعضهم: وَوهم بعض الشُّرَّاح فِي زَعمه أَن قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) مُعَلّق، بل هُوَ مَوْصُول قلت: أَرَادَ بِالْبَعْضِ: الْكرْمَانِي، وَظَاهر الْأَمر مَعَه، وَهُوَ ادَّعى أَنه مَوْصُول وَلم يبين وَجه ذَلِك.
73 - (بابُ كَفَّارَةِ البُزَاقِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَفَّارَة البزاق فِي الْمَسْجِد، وَالْكَفَّارَة على وزن: فعالة، للْمُبَالَغَة، كقتالة وضرابة، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة فِي بَاب الإسمية، وَهِي عبارَة عَن الفعلة والخصلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة أَي: تسترها وتمحوها، وأصل الْمَادَّة من الْكفْر وَهُوَ السّتْر، وَمِنْه سمى الزَّارِع: كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر الْحبّ فِي الأَرْض، وَسمي الْمُخَالف لدين الْإِسْلَام كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر الدّين الْحق، والتكفير هُوَ فعل مَا يجب بِالْحِنْثِ، والإسم مِنْهُ: الْكَفَّارَة.
51477 - (حدّثنا آدَمُ قا حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدّثنا قَتَادَةُ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ قَالَ النبيُّ (البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وكَفَّارَتُها دَفْنُها) .)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: التَّصْرِيح بِسَمَاع قَتَادَة عَن أنس. وَفِيه: القَوْل.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن حبيب عَن خَالِد بن الْحَارِث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (البزاق فِي الْمَسْجِد) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (التفل فِي الْمَسْجِد) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وكفارته أَن تواريه) أَي: أَن تغيبه يَعْنِي: تدفنه. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ظرف للْفِعْل فَلَا يشْتَرط كَون الْفَاعِل فِيهِ حَتَّى لَو بَصق من هُوَ خَارج الْمَسْجِد فِيهِ يتَنَاوَلهُ النَّهْي. قَوْله: (خطية) أَي إِثْم، وَأَصلهَا بِالْهَمْزَةِ، وَلَكِن يجوز تَشْدِيد الْيَاء. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بدفن البزاق، فالجمهور على أَنه الدّفن فِي تُرَاب الْمَسْجِد ورمله وحصائه إِن كَانَت فِيهِ هَذِه الْأَشْيَاء وإلاَّ يُخرجهُ. وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (من دخل هَذَا الْمَسْجِد فبزق فِيهِ أَو تنخم فليحفر فليدفنه. فَإِن لم يفعل فليبزق فِي ثَوْبه ثمَّ ليخرج بِهِ) . قَوْله: (فَإِن لم يفعل) ، أَي: فَإِن لم يحْفر أَو: لم يُمكن الْحفر (فليبزق فِي ثَوْبه) . وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (البزاق فِي الْمَسْجِد خطية وكفارته دَفنه) ، وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا فِي غير الْمَسْجِد، وَأما الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَلَا يبزق إلاَّ فِي ثَوْبه، ورد عَلَيْهِ بِأَحَادِيث كَثِيرَة إِن ذَلِك كَانَ فِي الْمَسْجِد، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن: (من تنخم فِي الْمَسْجِد فليغيب نخامته أَن تصيب جلد مُؤمن أَو ثَوْبه فتؤذيه) . وروى أَحْمد أَيْضا، وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا، قَالَ: (من تنخع فِي الْمَسْجِد فَلم يدفنه فسيئة، وَإِن دَفنه فحسنة) . وَفِي حَدِيث مُسلم عَن ابي ذَر: (وَوجدت فِي مساوىء أَعمال أمتِي النخامة تكون فِي الْمَسْجِد وَلَا تدفن) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَلم يثبت لَهَا حكم السَّيئَة بِمُجَرَّد إيقاعها فِي الْمَسْجِد، بل بِهِ وبتركها غير مدفونة، وروى سعيد بن مَنْصُور: (عَن أبي عُبَيْدَة أَنه تنخم فِي الْمَسْجِد لَيْلَة فنسي أَن يدفنها حَتَّى رَجَعَ إِلَى منزله، فَأخذ شعلة من نَار ثمَّ جَاءَ فطلبها حَتَّى دَفنهَا، ثمَّ قَالَ: الْحَمد الَّذِي لم يكْتب عليَّ خَطِيئَة اللَّيْلَة) .
78 - (حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر قَالَ حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام سمع أَبَا هُرَيْرَة(4/154)
عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة فَلَا يبصق أَمَامه فَإِنَّمَا يُنَاجِي الله مادام فِي مُصَلَّاهُ وَلَا عَن يَمِينه فَإِن عَن يَمِينه ملكا وليبصق عَن يسَاره أَو تَحت قدمه فيدفنها) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فيدفنها " (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول اسحق بن نصر هُوَ اسحق بن إِبْرَاهِيم بن نصر وَقد تقدم. الثَّانِي عبد الرَّزَّاق صَاحب المُصَنّف. الثَّالِث معمر بن رَاشد. الرَّابِع همام على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن مُنَبّه. الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه التَّصْرِيح بِسَمَاع همام عَن أبي هُرَيْرَة وَفِيه عنعنة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بخاري بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وصنعاني وبصري (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " فَلَا يبصق " نهى الْغَائِب قَوْله " فَإِنَّمَا يُنَاجِي الله " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " فَإِنَّهُ يُنَاجِي " قَوْله " مادام فِي مُصَلَّاهُ " أَي مُدَّة دَوَامه فِي مُصَلَّاهُ (فَإِن قلت) هَذَا تَخْصِيص الْمَنْع بِمَا إِذا كَانَ فِي الصَّلَاة وَرِوَايَة " أَذَى الْمُسلم " تَقْتَضِي الْمَنْع مُطلقًا وَلَو لم يكن فِي الصَّلَاة (قلت) هَذِه مَرَاتِب فكونه فِي الصَّلَاة أَشد إِثْمًا مُطلقًا وَكَونه فِي جِدَار الْقبْلَة أَشد إِثْمًا من كَونه فِي غَيرهَا من جدر الْمَسْجِد قَوْله " فيدفنها " بِنصب النُّون لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر وَيجوز رَفعهَا على أَن تكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي فَهُوَ يدفنها وَيجوز الْجَزْم عطفا على الْأَمر وتأنيث الضَّمِير فِي " فيدفنها " على تَأْوِيل البصقة الَّتِي يدل عَلَيْهَا قَوْله وليبصق وَقيل إِنَّمَا لم يقل يغطيها لِأَن التغطية يسْتَمر الضَّرَر بهَا إِذْ لَا يُؤمن أَن يجلس غَيره عَلَيْهَا فتؤذيه بِخِلَاف الدّفن فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ التعميق فِي بَاطِن الأَرْض (قلت) يُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ " فليحفره وليدفنه " وَعند ابْن أبي شيبَة مَرْفُوعا " إِذا بزق فِي الْمَسْجِد فليحفر وليمعن " وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة " فليبعد " لَا يُقَال أَن الْبَاب مَعْقُود على دفن النخامة والْحَدِيث يدل على دفن البزاق لأَنا نقُول قد قُلْنَا فِيمَا مضى أَنه لَا تفَاوت بَينهمَا فِي الحكم (فَإِن قلت) قَوْله " فَإِن عَن يَمِينه ملكا " يَقْتَضِي اخْتِصَاص منع البزق عَن يَمِينه لأجل الْملك وَفِي يسَاره أَيْضا ملك (قلت) أُجِيب بِأَنا لَو سلمنَا ذَلِك فلليمين شرف وَفِيه نظر لَا يخفى وَقيل بِأَن الصَّلَاة أم الْحَسَنَات الْبَدَنِيَّة فَلَا دخل لكاتب السَّيِّئَات فِيهَا وَفِيه نظر أَيْضا لِأَنَّهُ وَلَو لم يكْتب لَا يغيب عَنهُ فَأحْسن مَا يُجَاب بِهِ أَن يُقَال أَن لكل وَاحِد قرينا وموقفه يسَاره كَمَا ورد فِي حَدِيث أبي أُمَامَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ " فَإِنَّهُ يقوم بَين يَدي الله وَملكه عَن يَمِينه وقرينه عَن يسَاره " فَلَعَلَّ الْمُصَلِّي إِذا تفل عَن يسَاره يَقع على قرينه وَهُوَ الشَّيْطَان وَلَا يُصِيب الْملك مِنْهُ شَيْء
83 - (بابُ دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دفن النخامة فِي الْمَسْجِد، يَعْنِي جَوَاز ذَلِك. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
93 - (بابٌ إِذَا بَدَرَهُ البُزَاقُ فَلْيَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا بدره البزاق: إِذا غلب عَلَيْهِ وَلم يقدر على دَفعه، وَلَكِن لَا يُقَال: بدره، بل يُقَال: بدر إِلَيْهِ، قَالَ الْجَوْهَرِي: بدرت إِلَى الشَّيْء أبدر بدوراً: أسرعت، وَكَذَلِكَ: بادرت إِلَيْهِ، وتبادر الْقَوْم تسارعوا، وَأجَاب بَعضهم عَن هَذَا نصْرَة للْبُخَارِيّ بِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي المغالبة فَيُقَال: بادرت كَذَا فبدرني أَي: سبقني قلت: هَذَا كَلَام من لم يمس شَيْئا من علم التصريف. فَإِن فِي المغالبة يُقَال: بادرني فبدرته، وَلَا يُقَال: بادرت كَذَا فبدرني، وَالْفِعْل اللَّازِم فِي بَاب المغالبة يَجْعَل مُتَعَدِّيا بِلَا حرف صلَة، يُقَال: كارمني فكرمته، وَلَيْسَ هُنَا بَاب المغالبة حَتَّى يُقَال: بدره.
71497 - حدّثنا مالِك بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أنَس أنَّ النبيَّ رأى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ فَحَكَّها بِيَدِهِ ورُؤِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ أوْ رُؤِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وشِدَّتُهُ عليهِ وَقَالَ (إنَّ أحَدَكُمْ إذَا قامَ فِي صَلاَةِ فإنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ أوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلتِه فَلاَ يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ ولَكِنْ عَنْ يَسَارِه أَو تَحْتَ قَدَمِهِ) ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْض قَالَ أوْ يَفْعَلُ هَكذَا. .(4/155)
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: أَولهمَا مبادرة البزاق، وَالْآخر هُوَ أَخذ الْمُصَلِّي بزاقه بِطرف ثَوْبه، وَفِي الحَدِيث مَا يُطَابق الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ أَخذ طرف رِدَائه فبزق فِيهِ) وَلَيْسَ للجزء الأول ذكر فِي الحَدِيث أصلا، وَلِهَذَا اعْترض عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال، وَإِن كَانَ فِيهِ تعسف: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا فِي بعض طرق الحَدِيث، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: (وليبصق عَن يسَاره تَحت رجله الْيُسْرَى، فَإِن عجلت بِهِ بادرة فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا، ثمَّ طوى بعضه على بعض) . وروى أَبُو دَاوُد: (فَإِن عجلت بِهِ بادرة فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا، وَضعه على فِيهِ ثمَّ دلكه) . قَوْله: (بادرة) أَي: حِدة، وبادرة الْأَمر: حِدته، وَالْمعْنَى: إِذا غلب غليه البصاق والنخامة فَلْيقل بِثَوْبِهِ هَكَذَا. وَقَوله: (وَضعه على فِيهِ) تَفْسِير لقَوْله: (فَلْيقل بِهِ) ، وَلأَجل ذَلِك ترك العاطف أَي: وضع ثَوْبه على فَمه حَتَّى يتلاشى البزاق فِيهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ، وَقد مر فِي بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الثَّانِي: زُهَيْر، بِالتَّصْغِيرِ: ابْن مُعَاوِيَة الْكُوفِي. الثَّالِث: حميد الطَّوِيل. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي بَاب حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد، وَذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الأبحاث. ولنذكر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ. قَوْله: (كَرَاهِيَة) ، مَرْفُوع بقوله: رُؤِيَ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو رُؤِيَ كراهيته) شكّ من الرَّاوِي قَوْله: (لذَلِك) أَي: لأجل رُؤْيَة النخامة فِي الْقبْلَة. قَوْله: (وشدته عَلَيْهِ) يجوز فِيهِ الرّفْع والجر عطفا على الْكَرَاهِيَة أَو على لذَلِك قَوْله: (أَو ربه) مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (بَينه وَبَين الْقبْلَة) ، وَالْجُمْلَة معطوفة على: (يُنَاجِي ربه) ، عطف الْجُمْلَة الإسمية على الفعلية. قَوْله: (وَقَالَ) فِي بعض النّسخ: (فَقَالَ) ، بِالْفَاءِ.
وَفِيه من الْفَوَائِد: اسْتِحْبَاب إِزَالَة مَا يستقذر أَو يتنزه عَنهُ من الْمَسْجِد. وَفِيه: تفقد الإِمَام أَحْوَال الْمَسَاجِد وتعظيمها وصيانتها. وَفِيه: أَن للْمُصَلِّي أَن يبصق فِي الصَّلَاة وَلَا تفْسد صلَاته. وَفِيه: أَنه إِذا نفخ أَو تنحنح جَازَ، كَذَا قَالُوا، وَلَكِن هَذَا بالتفصيل وَهُوَ أَن التنحنح لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِغَيْر اخْتِيَاره فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ بِاخْتِيَارِهِ فَإِن حصلت مِنْهُ حُرُوف ثَلَاثَة تفْسد صلَاته، وَفِي الحرفين قَولَانِ، وَعَن أبي حنيفَة: إِن النفخ إِذا كَانَ يسمع فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكَلَام يقطع الصَّلَاة. وَفِيه: إِن البصاق طَاهِر، وَكَذَا النخامة والمخاط، خلافًا لمن يَقُول: كل مَا تستقذره النَّفس حرَام. وَمن فَوَائده: أَن التحسين والتقبيح إِنَّمَا هُوَ بِالشَّرْعِ، لكَون الْيَمين مفضلة على الْيَسَار، وَالْيَد مفضلة على الْقدَم.
04 - (بَاب عِظَةِ الإمامِ النَّاسَ فِي إتْمَامِ الصَّلاةِ وذِكْرِ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الإِمَام النَّاس بِأَن يتموا صلَاتهم وَلَا يتْركُوا مِنْهَا شَيْئا، والعظة على وزن: عِلّة، مصدر من: وعظ يعظ وعظاً وعظة وموعظة، وأصل: عظة: وعظ، فَلَمَّا حذفت مِنْهُ الْوَاو عوضت مِنْهَا التَّاء فِي آخِره، أما الْحَذف فلوجوده فِي فعله، وَأما كسر الْعين فَمن الْوَاو. فَافْهَم. والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، وَيُقَال: وعظته فاتعظ أَي: قبل الموعظة.
وَجه الْمُنَاسبَة فِي ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ فِيهَا أَمر وَنهي وَتَشْديد فيهمَا، وَهِي كلهَا وعظ ونصح، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي الْوَعْظ والنصح. قَوْله: (وَذكر الْقبْلَة) بِالْجَرِّ عطف على: (عظة) أَي: وَفِي بَيَان الْقبْلَة.
814 - حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أَن رَسُول الله قَالَ (هلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي ههُنا فَوَا مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشوُعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ إنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ ورَاءِ ظِهْرِي) . (الحَدِيث 814 طرفه فِي: 147) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي هَذَا الحديبث وعظاً لَهُم وتذكيراً وتنبيهاً لَا يخفى عَلَيْهِ ركوعهم وسجودهم، يظنون أَنه لَا يراهم لكَونه مستدبراً لَهُم، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، لِأَنَّهُ يرى من خَلفه مثل مَا يرى من بَين يَدَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وَقد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد اللَّه بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هَهُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.(4/156)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَل ترَوْنَ قِبْلَتِي؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل إِنْكَار مَا يلْزمه مِنْهُ، الْمَعْنى، أَنْتُم تحسبون قِبْلَتِي هَهُنَا، وإنني لَا أرى إلاَّ مَا فِي هَذِه الْجِهَة، فوا إِن رؤيتي لَا تخْتَص بِجِهَة قِبْلَتِي هَذِه، فَإِنِّي أرى من خَلْفي كَمَا أرى من جِهَة قِبْلَتِي، ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا هَهُنَا فِي موضِعين: الأول: فِي معنى هَذِه الرُّؤْيَة، فَقَالَ قوم: المُرَاد بهَا الْعلم إِمَّا بطرِيق أَنه كَانَ يُوحى إِلَيْهِ بَيَان كَيْفيَّة فعلهم، وَإِمَّا بطرِيق الإلهام، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك بطرِيق الْعلم مَا كَانَت فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بقوله: (من وَرَاء ظَهْري) ، وَقَالَ قوم: المُرَاد بِهِ أَنه يرى من عَن يَمِينه وَمن عَن يسَاره، مِمَّن تُدْرِكهُ عينه مَعَ الْتِفَات يسير فِي بعض الْأَحْوَال وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء، وَهُوَ ظَاهر. وَقَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ الصَّوَاب: إِنَّه من خَصَائِصه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن إبصاره إِدْرَاك حَقِيقِيّ انخرقت لَهُ فِيهِ الْعَادة، وَلِهَذَا أخرجه البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، وَفِيه دلَالَة للأشاعرة حَيْثُ لَا يشترطون فِي الرُّؤْيَة مُوَاجهَة وَلَا مُقَابلَة، وجوزوا إبصار أعمى الصين بقْعَة أندلس قلت: هُوَ الْحق عِنْد أهل السّنة: إِن الرُّؤْيَة لَا يشْتَرط لَهَا عقلا عُضْو مَخْصُوص، وَلَا مُقَابلَة وَلَا قرب، فَلذَلِك حكمُوا بِجَوَاز رُؤْيَة اتعالى فِي الدَّار الْآخِرَة خلافًا للمعتزلة فِي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وللمشبهة والكرامية فِي خلوها عَن المواجهة وَالْمَكَان، فَإِنَّهُم إِنَّمَا جوزوا رُؤْيَة اتعالى لاعتقادهم كَونه تَعَالَى فِي الْجِهَة وَالْمَكَان، وَأهل السّنة أثبتوا رُؤْيَة اتعالى بِالنَّقْلِ وَالْعقل، كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه، وبينوا بالبرهان على أَن تِلْكَ الرُّؤْيَة مبرأة عَن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي. الْموضع الثَّانِي: اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة رُؤْيَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من خلف ظَهره، فَقيل: كَانَت لَهُ عين خلف ظَهره يرى بهَا من وَرَائه دَائِما، وَقيل: كَانَت لَهُ بَين كَتفيهِ عينان مثل سم الْخياط، يَعْنِي: مثل خرق الإبرة يبصر بهما لَا يحجبهما ثوب وَلَا غَيره. وَقيل: بل كَانَت صورهم تنطبع فِي حَائِط قبلته كَمَا تنطبع فِي الْمرْآة أمثلتهم فِيهَا، فيشاهد بذلك أفعالهم. قَوْله: (لَا يخفى عَليّ ركوعكم وَلَا خُشُوعكُمْ) يَعْنِي: إِذا كنت فِي الصَّلَاة مستدبراً لكم؛ وَيجوز أَن يكون المُرَاد من الْخُشُوع السُّجُود لِأَنَّهُ غَايَة الْخُشُوع، وَقد صرح فِي رِوَايَة مُسلم بِالسُّجُود، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ أَعم من ذَلِك. فَيتَنَاوَل جَمِيع أفعالهم فِي صلَاتهم. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْخُشُوع بِمَعْنى الْأَعَمّ يتَنَاوَل الرُّكُوع أَيْضا، فَمَا فَائِدَة ذكره، قلت: لكَونه من أكبر عمد الصَّلَاة، وَذَلِكَ لِأَن الرجل مَا دَامَ فِي الْقيام لَا يتَحَقَّق أَنه فِي الصَّلَاة، فَإِذا ركع تحقق أَنه فِي الصَّلَاة، وَيكون فِيهِ عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (فوا) ، قسم مِنْهُ وَجَوَابه قَوْله: (لَا يخفى) . وَقَوله: (إِنِّي لأَرَاكُمْ) إِمَّا بَيَان وَإِمَّا بدل. قَوْله: (ركوعكم) بِالرَّفْع فَاعل (لَا يخفى) وَقَوله: (وَلَا خُشُوعكُمْ) ، عطف عَلَيْهِ، أَي: لَا يخفى عَليّ خُشُوعكُمْ، والهمزة فِي لأَرَاكُمْ مَفْتُوحَة، وَاللَّام للتَّأْكِيد.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنه يَنْبَغِي للْإِمَام إِذا رأى أحدا مقصراً فِي شَيْء من أُمُور دينه أَو نَاقِصا للكمال مِنْهُ أَن ينهاه عَن فعله، ويحضه على مَا فِيهِ جزيل الْحَظ. أَلا ترى أَنه كَيفَ وبخ من نقص كَمَال الرُّكُوع وَالسُّجُود، ووعظهم فِي ذَلِك بِأَنَّهُ يراهم من وَرَاء ظَهره كَمَا يراهم من بَين يَدَيْهِ؟ وَفِي تَفْسِير سنيد: حدّثنا حجاج عَن ابْن أبي ذِئْب حدّثنا يحيى بن صَالح حدّثنا فليح عَن هِلَال ابْن عَليّ عَن أنس قَالَ: (صلى لنا رَسُول الله صَلَاة، ثمَّ رقى الْمِنْبَر فَقَالَ، فِي الصَّلَاة وَفِي الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ من ورائي كَمَا أَرَاكُم) . وَفِي لفظ: (أُقِيمَت الصَّلَاة فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم وتراصوا، فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري) . وَفِي لفظ: (أقِيمُوا الرُّكُوع وَالسُّجُود فوا إِنِّي لأَرَاكُمْ من بعدِي، وَرُبمَا قَالَ: من بعد ظَهْري، إِذا رَكَعْتُمْ وَإِذا سجدتم) . وَعند مُسلم: (صلى بِنَا ذَات يَوْم، فَلَمَّا قضى صلَاته أقبل علينا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس: إِنِّي إمامكم فَلَا تسبقوني بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُود وَلَا بالانصراف، فَإِنِّي أَرَاكُم أَمَامِي وَمن خَلْفي، ثمَّ قَالَ. وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَو رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا. قَالُوا: وَمَا رَأَيْت يَا رَسُول ا؟ قَالَ رَأَيْت: الْجنَّة وَالنَّار) .
81 - (حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ عَن أنس بن مَالك قَالَ صلى بِنَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاة ثمَّ رقي الْمِنْبَر فَقَالَ فِي الصَّلَاة وَفِي الرُّكُوع إِنِّي لأَرَاكُمْ من ورائي كَمَا أَرَاكُم) مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي قبله. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. يحيى بن صَالح الوحاظي بِضَم(4/157)
الْوَاو الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَقد مر ذكره الثَّالِث اهلال بن عَليّ وَيُقَال هِلَال بن أبي هِلَال بن عَليّ وَيُقَال ابْن أُسَامَة الفِهري الْمَدِينِيّ مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك الرَّابِع أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان عَن فليح وَأخرجه فِي الرقَاق عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " صلى لنا " أَي صلى لأجلنا قَوْله " صَلَاة " بالتنكير للإبهام قَوْله " ثمَّ رقي الْمِنْبَر " بِكَسْر الْقَاف وَيجوز فتحهَا على لُغَة طَيء قَوْله " فَقَالَ فِي الصَّلَاة " فِيهِ حذف تَقْدِيره فَقَالَ فِي شَأْن الصَّلَاة وَفِي أمرهَا أَو يكون متعلقها محذوفا تَقْدِيره أَرَاكُم فِي الصَّلَاة وَقَالَ بَعضهم هُوَ مُتَعَلق بقوله بعد لأَرَاكُمْ (قلت) هَذَا غلط لِأَن مَا فِي حيّز ان لَا يتَقَدَّم عَلَيْهَا قَوْله " وَفِي الرُّكُوع " إِنَّمَا أفرده بِالذكر وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي الصَّلَاة للاهتمام بِشَأْنِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ أعظم أَرْكَانهَا بِدَلِيل أَن الْمَسْبُوق لَو أدْرك الرُّكُوع أدْرك تِلْكَ الرَّكْعَة بِتَمَامِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أَنهم قصروا فِي حَال الرُّكُوع فَذكره لزِيَادَة التَّنْبِيه قَوْله " من ورائي " وَفِي بعض الرِّوَايَات " من وَرَاء " حذفت الْيَاء مِنْهُ وَاكْتفى بالكسرة عَنْهَا وَقَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) الرُّؤْيَة من الوراء كَانَت مَخْصُوصَة بِحَال الصَّلَاة أم هِيَ عَامَّة لجَمِيع الْأَحْوَال (قلت) اللَّفْظ سِيمَا فِي الحَدِيث السَّابِق يَقْتَضِي الْعُمُوم والسياق يَقْتَضِي الْخُصُوص (قلت) نقل عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ فِي جَمِيع أَحْوَاله قَوْله " كَمَا أَرَاكُم " أَي كَمَا أَرَاكُم من أَمَامِي وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة مُسلم " إِنِّي لَأبْصر من ورائي كَمَا أبْصر من بَين يَدي " وَعَن بَقِي بن مخلد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبصر فِي الظلمَة كَمَا يبصر فِي الضَّوْء وَالْكَاف فِي كَمَا أَرَاكُم للتشبيه فالمشبه بِهِ الرُّؤْيَة الْمقيدَة بالوراء وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت فِي الحَدِيث السَّابِق
14 - (بابٌ هَلْ يُقالُ مَسْجِدُ بَنِي فلاَنٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِضَافَة مَسْجِد من الْمَسَاجِد إِلَى قَبيلَة أَو إِلَى أحد مثل بانيه أَو الملازم للصَّلَاة فِيهِ، هَل يجوز أَن يُقَال ذَلِك؟ نعم يجوز، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عمر الْآتِي ذكره، وَإِنَّمَا ترْجم الْبَاب بِلَفْظَة: هَل، الَّتِي للاستفهام لِأَن فِي هَذَا خلاف إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَإِنَّهُ كَانَ يكره أَن يُقَال: مَسْجِد بني فلَان، أَو: مصلى فلَان، لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن الْمَسَاجِد} (الْجِنّ: 81) ذكره ابْن أبي شيبَة عَنهُ، وَحَدِيث الْبَاب يرد عَلَيْهِ، وَالْجَوَاب عَن تمسكه بِالْآيَةِ أَن الْإِضَافَة فِيهَا حَقِيقَة، وإضافتها إِلَى غَيره إِضَافَة تَمْيِيز وتعريف.
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبَاب هَهُنَا؟ وَمَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة؟ قلت: الْمَذْكُور فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة أَحْكَام تتَعَلَّق بالمساجد، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا حكم من أَحْكَامهَا، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف.
02428 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نَافِعٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ أنَّ رَسُول الله سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الحَفْياءِ وأَمَدُها ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ وسابَقَ بَيْنَ الخَيْل الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّة إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأن عَبْدَ اللَّه بنَ عُمَرَ كانَ فِيمَنْ سابَقَ بهَا. (الحَدِيث 024 أَطْرَافه فِي: 8682، 9682، 0782، 6337) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق) ، وَرِجَاله تكرروا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْخَيل عَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَابق) ، من الْمُسَابقَة وَهِي السَّبق الَّذِي يشْتَرك فِي الِاثْنَان، وَبَاب المفاعلة يَقْتَضِي ذَلِك، وَالْخَيْل الَّتِي أضمرت هِيَ الَّتِي كَانَت الْمُسَابقَة بَينهَا، وَكَانَ فرس النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، بَينهَا يُسمى: السكب، وَكَانَ أغر محجلاً طلق الْيَمين لَهُ مسحة، وَهُوَ أول فرس ملكه، وَأول فرس غزا عَلَيْهِ، وَاشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني فَزَارَة بِعشر أَوَاقٍ، وَكَانَ إسمه عِنْد الْأَعرَابِي: الضرس، فَسَماهُ رَسُول اصلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: السكب، وسابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح بِهِ، وَهُوَ أول فرس سَابق عَلَيْهِ فَسبق وَفَرح الْمُسلمُونَ بِهِ. قَوْله: (أضمرت) ، بِضَم الْهمزَة على صِيغَة(4/158)