الابط وَحلق الراس وَالسَّلَام من الصَّلَاة وَغسل أَعْضَاء الطَّهَارَة وَالْخُرُوج إِلَى الْخَلَاء وَالْأكل وَالشرب والمصافحة واستلام الْحجر الْأسود، وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، يسْتَحبّ التَّيَامُن فِيهِ؛ وَأما مَا كَانَ بضده: كدخول الْخَلَاء وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثَّوْب والسراويل والخف وَمَا أشبه ذَلِك، فَيُسْتَحَب التياسر فِيهِ، وَيُقَال: حَقِيقَة الشَّأْن مَا كَانَ فعلا مَقْصُودا، وَمَا يسْتَحبّ فِيهِ التياسر لَيْسَ من الْأَفْعَال الْمَقْصُودَة، بل هِيَ إِمَّا تروك وَإِمَّا غير مَقْصُودَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ الدّلَالَة على شرف الْيَمين وَقد مر فِي معنى الحَدِيث السَّابِق. الثَّانِي: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبدَاءَة بشق الرَّأْس الْأَيْمن فِي الرتجل وَالْغسْل وَالْحلق. فَإِن قلت: هُوَ من بَاب الْإِزَالَة، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يبْدَأ بالأيسر. قلت: لَا، بل هُوَ من بَاب التزيين والتجميل. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبِدَايَة فِي التنعل والتخفف كَذَلِك. الرَّابِع: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي الْوضُوء، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن لَا إِعَادَة على من بَدَأَ بيساره فِي وضوئِهِ قبل يَمِينه وروينا عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالَا: (لَا تبالي بِأَيّ شَيْء بدأت) . زَاد الدَّارَقُطْنِيّ: أَبَا هُرَيْرَة، وَنقل المرتضى الشِّيعَة عَن الشَّافِعِي فِي (الْقَدِيم) : وجوب تَقْدِيم الْيَمين على الْيُسْرَى، وَنسب المرتضى فِي ذَلِك إِلَى الْغَلَط، فَكَأَنَّهُ ظن أَن ذَلِك لَازم من وجوب التَّرْتِيب عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ [قع النَّوَوِيّ [/ قع: أجمع الْعلمَاء على أَن تَقْدِيم الْيَمين فِي الْوضُوء سنة من خالفها فَاتَهُ الْفضل وَتمّ وضوؤه، وَالْمرَاد من قَوْله: الْعلمَاء أهل السّنة، لِأَن مَذْهَب الشِّيعَة الْوُجُوب، وَقد صحف العمراني فِي (الْبَيَان) والبندنيجي فِي (التَّجْرِيد) . الشِّيعَة، بالشين الْمُعْجَمَة، بالسبعة من الْعدَد فِي نسبتها القَوْل بِالْوُجُوب إِلَى الْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَفِي كَلَام الرَّافِعِيّ أَيْضا مَا يُوهم أَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن صَاحب (الْمُغنِي) قَالَ: لَا نعلم فِي عدم الْوُجُوب خلافًا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (إِذا توضأتم فابدأوا بميامنكم) . وَفِي أَكثر طرقه: (بأيامنكم) ، جمع: أَيمن، (إِذا لبستم وَإِذا توضأتم) . قلت: الْأَمر فِيهِ للاستحباب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاعْلَم أَن الِابْتِدَاء باليسار، وَإِن كَانَ مجزئاً، فَهُوَ مَكْرُوه، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ فِي (الام) ، وَقَالَ ايضا: ثمَّ اعْلَم أَن من الْأَعْضَاء فِي وَالْوُضُوء مَا لَا يسْتَحبّ فِيهِ التَّيَامُن وَهُوَ: الأذنان والكفان والخدان، بل يطهران دفْعَة وَاحِدَة، فَإِن تعذر ذَلِك كَمَا فِي حق الأقطع وَنَحْوه قدم الْيَمين، وَمِمَّا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عمر قَالَ: خير الْمَسْجِد الْمقَام ثمَّ ميامن الْمَسْجِد. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب، يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن من الْمَسْجِد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُعجبهُ أَن يقوم عَن يَمِين الإِمَام، وَكَانَ أنس يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن، وَكَذَا عَن الْحسن وَابْن سِيرِين.
32 - (بابُ الْتِمَاسِ الوَضُوءِ إِذا حانَتِ الصَّلاةُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التمَاس الْوضُوء إِذا حانت الصَّلَاة. وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (اذا حانت) أَي: قربت، يُقَال: حَان حِينه أَي: قرب وقته.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ مَا يَأْتِي إلاَّ بِالْجَرِّ الثقيل، وَهُوَ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق طلب التَّيَمُّن لأجل الْوضُوء وَالْغسْل، وَهَهُنَا طلب المَاء لأجل الْوضُوء.
وقالَتْ عائِشَةُ حضَرَتِ الصبْحُ فالتُمِسَ المَاءُ فلمْ يُوجَدْ فَنْزَلَ التَّيَمُّمُ
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فالتمس المَاء) . وَفِي قَوْله: (فالتمس النَّاس الْوضُوء) ، وَهَذَا تَعْلِيق صَحِيح لِأَنَّهُ أخرجه فِي كِتَابه مُسْندًا فِي مَوَاضِع شَتَّى، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيثهَا فِي قصَّة نزُول آيَة التَّيَمُّم، ذكره فِي كتاب التَّيَمُّم. قَوْله: (حضرت الصُّبْح) ، الْقيَاس: حضر الصُّبْح، لِأَنَّهُ مُذَكّر، والتأنيث بِاعْتِبَار صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (فالتمس) بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَنزل التَّيَمُّم) أَي: فَنزلت آيَة التَّيَمُّم، وَإسْنَاد النُّزُول إِلَى التَّيَمُّم مجَاز عَقْلِي.
169 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحانَتْ صَلاةُ العَصْرِ فالْتَمَسَ(3/32)
النَّاسُ الوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُوتِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَضُوءِ فَوَضَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِكَ الاِناءِ يَدَهُ وأَمَرَ النَّاسَ أنْ يَتَوَضَّؤُا مِنْهُ قالَ فَرَأَيْتُ المَاءَ يَنْبِعُ مِنْ تَحْتِ أصابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّؤُا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. قد ذكرُوا كلهم، وَهُوَ من رباعيات البُخَارِيّ، وَأَبُو طَلْحَة اسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني وبصري، فعبد الله بن يُوسُف شَامي نزل تنيس، بَلْدَة بساحل الْبَحْر الْملح، بِالْقربِ من دمياط، وَالْيَوْم خراب: وَمَالك بن أنس وَإِسْحَاق مدنيان، وَأنس بن مَالك يعد من أهل الْبَصْرَة. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده قريب إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن معن، وَعَن أبي الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح عَن ابْن وهب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة، خمستهم عَنهُ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (حانت) بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: قرب وَقت صَلَاة الْعَصْر، وَزَاد قَتَادَة: (وَهُوَ بالزوراء) ، وَهُوَ سوق بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (فالتمس النَّاس) الالتماس: الطّلب. قَوْله: (الْوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، وَكَذَا قَوْله: (فاتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوضُوء) بِالْفَتْح، قَوْله: (يَنْبع) فِيهِ ثَلَاث لُغَات: ضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا وَفتحهَا، وَمَعْنَاهُ: يخرج مثل مَا يخرج من الْعين. قَوْله: (من بَين أَصَابِعه) جمع: أصْبع، فِيهِ لُغَات: إِصْبَع، بِكَسْر الْهمزَة وَضمّهَا، وَالْبَاء مَفْتُوحَة فيهمَا، وَلَك أَن تتبع الضمة الضمة والكسرة الكسرة.
وَأما الْإِعْرَاب: فَقَوله: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِمَعْنى: أَبْصرت، فَلذَلِك اقْتصر على مفعول وَاحِد. قَوْله: (وحانت) الْوَاو، فِيهِ للْحَال، وَالتَّقْدِير: وَالْحَال أَنه قد حانت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (فَلم يجدوه) بالضمير الْمَنْصُوب، رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَلم يَجدوا) ، بِدُونِ الضَّمِير، وَهُوَ من الوجدان بِمَعْنى الْإِصَابَة. قَوْله: (فاتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَالصَّحِيح من الرِّوَايَة: (فأُتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي ذَلِك الْإِنَاء) مُتَعَلق بقوله: (فَوضع) ، و (يَده) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (أَن يتوضؤا) أَي: بَان يتوضؤا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة اي: بالتوضىء مِنْهُ، أَي: من ذَلِك الْإِنَاء. قَوْله: (قَالَ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (يَنْبع) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي هُوَ فِيهِ الَّذِي يرجع إِلَى المَاء، وَهِي فِي مَحل النصب على الْحَال، وَقد علم أَن الْجُمْلَة أَن الْجُمْلَة الفعلية إِذا وَقعت حَالا تَأتي بِلَا، وَاو إِذا كَانَ فعلهَا مضارعاً. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون مَفْعُولا ثَانِيًا لرأيت؟ قلت: قد قلت لَك إِن: رَأَيْت، هُنَا بِمَعْنى: أَبْصرت، فَلَا تَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا. قَوْله: (حَتَّى توضؤا) قَالَ الْكرْمَانِي: حَتَّى، للتدريج: وَمن، للْبَيَان أَي: تَوَضَّأ النَّاس حَتَّى تَوَضَّأ الَّذين من عِنْد آخِرهم ... وَهُوَ كِنَايَة عَن جَمِيعهم، ثمَّ نقل عَن النَّوَوِيّ أَن: من، فِي: من عِنْد آخِرهم، بِمَعْنى إِلَى، وَهِي لُغَة. ثمَّ قَالَ: أَقُول وُرُود: من، بِمَعْنى إِلَى شَاذ قل مَا، يَقع فِي فصيح الْكَلَام. قلت: حَتَّى، هَهُنَا حرف ابْتِدَاء، يَعْنِي حرف يبتدأ بعده جملَة، أَي: تسْتَأْنف فَتكون إسمية أَو فعلية، والفعلية يكون فعلهَا مَاضِيا ومضارعاً، وَمِثَال الإسمية قَول جرير.
(فَمَا زَالَت الْقَتْلَى تمج دماؤها ... بدجلة حَتَّى مَاء دجلة أشكل)
وَمِثَال الفعلية الَّتِي فعلهَا مَاض: {حَتَّى عفوا} (الْأَعْرَاف: 95) . و: (حَتَّى توضؤا) ، وَمِثَال الفعلية الَّتِي فعلهَا مضارع: {حَتَّى يَقُول الرَّسُول} (الْبَقَرَة: 214) فِي قِرَاءَة نَافِع. قَوْله: (من) ، للْبَيَان. قلت: إِنَّمَا تكون من للْبَيَان إِذا كَانَ فِيمَا قبلهَا إِبْهَام، وَلَا إِبْهَام هَهُنَا، لِأَن التَّقْدِير: وَأمر النَّاس أَن يتوضؤا فتوضؤا حَتَّى تَوَضَّأ من عِنْد آخِرهم، على ان: من، الَّتِي للْبَيَان كثيرا مَا يَقع بعد: مَا، وَمهما. الإفراط إبها مهما، نَحْو: {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا} (فاطر: 2) {وَمهما تأتنا بِهِ من آيَة} (الْأَعْرَاف: 132) وَمَعَ هَذَا أنكر قوم مجىء: من، لبَيَان الْجِنْس. وَالظَّاهِر ان: من، هَهُنَا للغاية، تَوَضَّأ النَّاس ابْتِدَاء من أَوَّلهمْ حَتَّى انْتَهوا إِلَى آخِرهم. على أَن: من، تَأتي على خَمْسَة عشر وَجها،(3/33)
وَالْغَالِب عَلَيْهَا أَن تكون للغاية حَتَّى ادّعى قوم أَن سَائِر مَعَانِيهَا رَاجِعَة إِلَيْهَا، وَلم أجد فِي هَذِه الْمعَانِي الْخَمْسَة عشرَة مَجِيء: من، بِمَعْنى: إِلَى. وَادّعى الْكرْمَانِي أَنَّهَا لُغَة قوم وَلم يبين ذَلِك، ثمَّ أدعى أَنه شَاذ. قلت: إِن اسْتعْمل بِمَعْنى: الى، فِي كَون كل مِنْهُمَا للغاية لِأَن: من، لابتداء الْغَايَة، و: إِلَى، لانْتِهَاء الْغَايَة، يجوز ذَلِك لِأَن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَالْمرَاد، بالغاية فِي قَوْلهم ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهاء الْغَايَة، جَمِيع الْمسَافَة، إِذْ لَا معنى لابتداء الْغَايَة وانتهاء الْغَايَة، فَيكون معنى الحَدِيث: حَتَّى توضؤوا وانتهوا إِلَى آخِرهم وَلم يبْق مِنْهُم أحد، والشخص هُوَ آخِرهم دَاخل فِي هَذَا الحكم لِأَن السِّيَاق يقتضى الْعُمُوم وَالْمُبَالغَة، فَإِن قلت: عِنْد، ظرف خَاص وَاسم للحضور الْحسي، فالعموم من أَيْن يَأْتِي؟ قلت: عِنْد هُنَا تجْعَل لمُطلق الظَّرْفِيَّة حَتَّى تكون بِمَعْنى: فِي، كَأَنَّهُ. قَالَ: حَتَّى تَوَضَّأ الَّذين هم فِي آخِرهم، وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَاخل فِي عُمُوم لفظ النَّاس، وَلَكِن الْأُصُولِيِّينَ اخْتلفُوا فِي أَن الْمُخَاطب بِكَسْر الطَّاء دَاخل فِي عُمُوم مُتَعَلق خطابه أمرا أَو نهيا أَو خَبرا أم غير دَاخل؟ وَالْجُمْهُور على أَنه دَاخل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَأتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوضُوء) وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فَأتي بقدح رحراح) وَفِي بَعْضهَا: (زجاج) ، وَفِي بَعْضهَا: (جَفْنَة) ، وَفِي بَعْضهَا: (ميضأة) ، وَفِي بَعْضهَا: (مزادة) . وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك: (فَانْطَلق رجل من الْقَوْم فجَاء بقدح من مَاء يسير) . وروى الْمُهلب أَنه كَانَ مِقْدَار وضوء رجل وَاحِد. قَوْله: (وامر النَّاس) ، وَكَانُوا خمس عشرَة وَمِائَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات ثَمَانمِائَة، وَفِي بَعْضهَا زهاء ثَلَاثمِائَة، وَفِي بَعْضهَا، ثَمَانِينَ، وَفِي بَعْضهَا سبعين. قَوْله: (يَنْبع من تَحت أَصَابِعه) وَفِي بعض الرِّوَايَات: (يفور من بَين أَصَابِعه) ، وَفِي بَعْضهَا: (يتفجر من أَصَابِعه كأمثال الْعُيُون) ، وَفِي بَعْضهَا: (سكب مَاء فِي ركوة وَوضع إصبعه وبسطها وغسلها فِي المَاء) ، وَهَذِه المعجزة أعظم من تفجر الْحجر بِالْمَاءِ. وَقَالَ الْمُزنِيّ، نبع المَاء بَين أَصَابِعه أعظم مِمَّا أوتيه مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين ضرب بعصاه الْحجر فِي الأَرْض، لِأَن المَاء مَعْهُود أَن يتفجر من الْحِجَارَة، وَلَيْسَ بمعهود أَن يتفجر من بَين الْأَصَابِع، وَقَالَ غَيره: وَأما من لحم وَدم فَلم يعْهَد من غَيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهَذِه الْقَضِيَّة رَوَاهَا الثِّقَات من الْعدَد الْكثير عَن الجم الْغَفِير عَن الكافة مُتَّصِلا عَمَّن حدث بهَا من جملَة الصَّحَابَة، وأخبارهم أَن ذَلِك كَانَ فِي مَوَاطِن اجْتِمَاع الْكثير مِنْهُم من محافل الْمُسلمين وَمجمع العساكر، وَلم يرو وَاحِد من الصَّحَابَة مُخَالفَة للراوي فِيمَا رَوَاهُ، وَلَا إِنْكَار عَمَّا ذكر عَنْهُم أَنهم رَأَوْهُ كَمَا رَآهُ، فسكوت السَّاكِت مِنْهُم كنطق النَّاطِق مِنْهُم، إِذْ هم المنزهون عَن السُّكُوت على الْبَاطِل، والمداهنة فِي كذب وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَة وَلَا رهبة تمنعهم، فَهَذَا النَّوْع كُله مُلْحق بالقطعي من معجزاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِيه رد على ابْن بطال حَيْثُ قَالَ فِي شَرحه: هَذَا الحَدِيث شهده جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، إلاَّ أَنه لم يروَ إلاَّ من طَرِيق أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ، وَالله تَعَالَى أعلم لطول عمره، وَيطْلب النَّاس الْعُلُوّ فِي السَّنَد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ عدم وجوب طلب المَاء للتطهر قبل دُخُول الْوَقْت، لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِم التَّأْخِير، فَدلَّ على الْجَوَاز. وَذكر ابْن بطال: أَن إِجْمَاع الامة على أَنه إِن تَوَضَّأ قبل الْوَقْت فَحسن، وَلَا يجوز التَّيَمُّم عِنْد أهل الْحجاز قبل دُخُول الْوَقْت، وَأَجَازَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: الثَّانِي: أَن فِيهِ دَلِيلا على وجوب الْمُوَاسَاة عِنْد الضَّرُورَة لمن كَانَ فِي مَائه فضل عَن وضوئِهِ. الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن الصَّلَاة لَا تجب إلاَّ بِدُخُول الْوَقْت. الرَّابِع: يسْتَحبّ التمَاس الماى لمن كَانَ على غير طَهَارَة، وَعند دُخُول الْوَقْت يجب. الْخَامِس: فِيهِ رد على من يُنكر المعجزة من الْمَلَاحِدَة. السَّادِس: إستنبط الْمُهلب مِنْهُ أَن الْأَمْلَاك ترْتَفع عِنْد الضَّرُورَة، لِأَنَّهُ لما أُتِي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْمَاءِ لم يكن أحد أَحَق بِهِ من غَيره، بل كَانُوا فِيهِ سَوَاء، ونوقش فِيهِ، وَإِنَّمَا تجب الْمُوَاسَاة عِنْد الضَّرُورَة لمن كَانَ فِي مَائه فضل عَن وضوئِهِ.
33 - (بابُ المَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعْرُ الاِنْسانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر بني آدم.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول التمَاس النَّاس الْوضُوء، وَلَا يلْتَمس للْوُضُوء إِلَّا المَاء الطَّاهِر، وَفِي هَذَا الْبَاب غسل شعر الْإِنْسَان، وَشعر الانسان طَاهِر، فالماء الَّذِي يغسل بِهِ طَاهِر، فَعلم أَن فِي كل من الْبَابَيْنِ اشْتِمَال على حكم المَاء الطَّاهِر.
وكانَ عَطاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْساً أنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الخُيُوطُ والحِبَالُ(3/34)
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُحَمَّد بن إِسْحَاق الفاكهي فِي (أَخْبَار مَكَّة) بِسَنَد صَحِيح إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالِانْتِفَاعِ بشعور النَّاس الَّتِي تحلق بِمني، وَلم يقف الْكرْمَانِي على هَذَا حَتَّى قَالَ: الظَّاهِر أَن عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (ان يتَّخذ) بِفَتْح: أَن، بَدَلا من الضَّمِير الْمَجْرُور فِي: بِهِ، كَمَا فِي قَوْله: مَرَرْت بِهِ الْمِسْكِين، أَي: لَا يرى بَأْسا باتخاذ الخيوط من الشّعْر. وَفِي بعض النّسخ لم يُوجد لفظ: بِهِ، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: الخيوط، جمع خيط، و: الحبال، جمع حَبل، وَالْفرق بَينهمَا بالرقة والغلظ، ويروى عَن عَطاء أَن نجس الشّعْر، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة رد قَول الشَّافِعِي: إِن شعر الانسان إِذا فَارق الْجَسَد نجس، وَإِذا وَقع فِي المَاء نجسه، إِذْ لَو كَانَ نجسا لما جَازَ اتِّخَاذه خيوطاً وحبالاٌ. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه طَاهِر، وَكَذَا شعر الْميتَة والأجزاء الصلبة الَّتِي لَا دم فِيهَا: كالقرون والعظم وَالسّن والحافر والظلف والخف وَالشعر والوبر وَالصُّوف والعصب والريش والأنفحة الصلبة، قَالَه فِي (الْبَدَائِع) . وَكَذَا من الْآدَمِيّ على الْأَصَح، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (التُّحْفَة) وَفِي (قاضيخان) على الصَّحِيح: لَيست بنجسة عندنَا، وَقد وَافَقنَا على صوفها ووبرها وشعرها وريشها مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق والمزني، وَهُوَ مَذْهَب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَحَمَّاد وَدَاوُد فِي الْعظم أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : حكى الْعَبدَرِي عَن الْحسن وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث: إِنَّهَا تنجس بِالْمَوْتِ، لَكِن تطهر بِالْغسْلِ. وَعَن القَاضِي ابي الطّيب: الشّعْر وَالصُّوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الْحَيَاة وتنجس بِالْمَوْتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَب، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزنِيّ والبويطي وَالربيع وحرملة عَن الشَّافِعِي، وروى ابراهيم الْبكْرِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه رَجَعَ عَن تنجيس شعر الْآدَمِيّ، وَحَكَاهُ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن شُرَيْح عَن الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي، وَحكى الرّبيع الجيزي عَن الشَّافِعِي أَن الشّعْر تَابع للجلد يطهر بِطَهَارَتِهِ وينجس بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: وَأما شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي الشّعْر خلاف، فَإِن عَطاء يرْوى عَنهُ أَنه نجسه. قلت: يُشِير بذلك إِلَى أَن اسْتِدْلَال البُخَارِيّ بِمَا روى عَن عَطاء فِي طَهَارَة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر نظر، ثمَّ قَالَ: وَرَأى ابْن الْمُبَارك رجلا أَخذ شَعْرَة من لحيته ثمَّ جعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: مَه، أترد الْميتَة إِلَى فِيك؟ فاما شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مكرم مُعظم خَارج عَن هَذَا. قلت: قَول الْمَاوَرْدِيّ: واما شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ، يدل على أَن لَهُم قولا بِغَيْر ذَلِك، فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك القَوْل. وَقد اخترق بعض الشَّافِعِيَّة، وَكَاد أَن يخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام، حَيْثُ قَالَ: وَفِي شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَان، وحاشا شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذَلِك، وَكَيف قَالَ هَذَا وَقد قيل بِطَهَارَة فضلاته فضلا عَن شعره الْكَرِيم؟ وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّمَا قسم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَرعه للتبرك، وَلَا يتَوَقَّف التَّبَرُّك على كَونه طَاهِرا. قلت: هَذَا أشنع من ذَلِك، وَقَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة نَحْو ذَلِك، ثمَّ قَالُوا: الَّذِي أَخذ كَانَ يَسِيرا معفواً عَنهُ. قلت: هَذَا أقبح من الْكل، وغرضهم من ذَلِك تمشية مَذْهَبهم فِي تنجيس شعر بني آدم، فَلَمَّا أورد عَلَيْهِم شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أولُوا هَذِه التأويلات الْفَاسِدَة، وَقَالَ بعض شرَّاح البُخَارِيّ فِي بَوْله وذنه وَجْهَان والأليق الطَّهَارَة وَذكر القَاضِي حُسَيْن فِي الْعذرَة وَجْهَيْن، وَأنكر بَعضهم على الْغَزالِيّ حكايتهما فِيهَا، وَزعم نجاستها بالِاتِّفَاقِ. قلت: يَا للغزالي من هفوات حَتَّى فِي تعلقات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة أَن جمَاعَة شربوا دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهُم أَبُو طيبَة الْحجام، وَغُلَام من قُرَيْش حجم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعبد الله بن الزبير شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) . ويروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرُوِيَ أَيْضا أَن أم أَيمن شربت بَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي رِوَايَة سلمى امْرَأَة ابي رَافع أَنَّهَا شربت بعض مَاء غسل بِهِ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهَا حرم الله بدنك على النَّار. وَقَالَ بَعضهم: الْحق أَن حكم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَحكم جَمِيع الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام التكليفية: إلاَّ فِيمَا يخص بِدَلِيل. قلت: يلْزم من هَذَا أَن يكون النَّاس مساويين للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا يَقُول بذلك إلاَّ جَاهِل غبي، وَأَيْنَ مرتبته من مَرَاتِب النَّاس؟ وَلَا يلْزم أَن يكون دَلِيل الْخُصُوص بِالنَّقْلِ دَائِما، وَالْعقل لَهُ مدْخل فِي تميز النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غَيره فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء، وَأَنا اعْتقد أَنه لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، وَإِن قَالُوا غير ذَلِك فاذني عَنهُ صماء.(3/35)
وسُؤْرِ الكِلابِ وَمَمرِّها فِي المَسْجِدِ
وسؤر الْكلاب، بِالْجَرِّ، عطف على قَوْله: المَاء، وَالتَّقْدِير: وَبَاب سُؤْر الْكلاب، يَعْنِي: مَا حكمه، وَفِي بعض النّسخ جَمعهمَا فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِي بَعْضهَا ذكرُوا كلهَا بعد قَوْله: (وممرها وَفِي الْمَسْجِد) ، وَفِي بَعْضهَا سَاقِط، وَقصد البُخَارِيّ بذلك إِثْبَات طَهَارَة الْكَلْب وطهارة سُؤْر الْكَلْب. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أرى أَبَا عبد الله عَنى نَحْو تَطْهِير الْكَلْب حَيا، وأباح سؤره، لما ذكره من هَذِه الْأَخْبَار، وَهِي لعمري صَحِيحَة، إلاَّ أَن فِي الِاسْتِدْلَال بهَا على طَهَارَة الْكَلْب نظرا، والسؤر، بِالْهَمْزَةِ، بَقِيَّة المَاء الَّتِي يبقيها الشَّارِب: وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ مَا بَقِي من الشَّرَاب وَغَيره. وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه. والعامة لَا تهمزه، وَترك الْهمزَة لَيْسَ بخطأ، وَلَكِن الْهمزَة أفْصح وَأعرف. وَفِي (الواعي) : السؤر والسأر: الْبَقِيَّة من الشَّيْء. وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري، فِي كتاب (البقايا) : هُوَ مَا يبْقى فِي الْإِنَاء من الشَّرَاب بعد مَا شرب، يُقَال مِنْهُ اسأر إسآراً، وَهُوَ مسئر، وَجَاء: سأر، بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمُبَالغَة.
وقالَ الزُّهْرِيُّ إِذا ولَغَ الكَلْبُ فِي إناءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يتَوَضَّأُ بِهِ
قَول الزُّهْرِيّ هَذَا رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم فِي مُصَنفه عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَغَيره عَنهُ، وَلَفظه: سَمِعت الزُّهْرِيّ: فِي إِنَاء ولغَ فِيهِ كلب فَلم يجد مَاء غَيره قَالَ يتَوَضَّأ بِهِ اخرجه أبن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد من ذريقه بِسَنَد صَحِيح وَاسم الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. قَوْله: (ولغَ) اي: الْكَلْب، والقرينة تدل عَلَيْهِ، وَجَاء فِي بعض الرِّوَايَات: (إِذا ولغَ الْكَلْب) ، بِذكرِهِ صَرِيحًا، ولغَ: ماضٍ من الولغ، وَهُوَ من الْكلاب وَالسِّبَاع كلهَا هُوَ أَن يدْخل لِسَانه فِي المَاء وَغَيره من كل مَائِع فيحركه فِيهِ، وَعَن ثَعْلَب: تحريكاً قَلِيلا أَو كثيرا، قَالَه المطرزي. وَقَالَ مكي فِي شَرحه: فَإِن كَانَ غير مَائِع قيل: لعقه ولحسه. قَالَ المطرزي: فَإِن كَانَ الْإِنَاء فَارغًا يُقَال: لحسه، فَإِن كَانَ فِيهِ شَيْء يُقَال: ولغَ، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: معنى ولغَ: لطع بِلِسَانِهِ شرب فِيهِ أَو لم يشرب، كَانَ فِيهِ مَاء أَو لم يكن. وَفِي (الصِّحَاح) : ولغَ الْكَلْب بشرابنا وَفِي شرابنا وَمن شرابنا. وَقَالَ ابْن خالويه: ولغَ يلغ ولغاً وولغاناً، وولغ ولغاً وولغاً وولغاناً وولوغاً، وَلَا يُقَال: ولغَ فِي شَيْء من جوارحه سوى لِسَانه. وَقَالَ ابْن جني: الولغ فِي الأَصْل شرب السبَاع بألسنتها، ثمَّ كثر فَصَارَ الشّرْب مُطلقًا، وَذكر المطرزي أَنه يُقَال: ولغَ، بِكَسْر اللَّام، وَهِي لُغَة غير فصيحة، ومستقبله: يلغ، بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن القطاع: سكَّن بَعضهم اللَّام فَقَالَ: ولغَ. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ) أَي: لمن أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ. قَوْله: (وضوء) ، بِفَتْح الْوَاو: أَي المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (غَيره) أَي غير مَا ولغَ فِيهِ، فَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، وَالْجُمْلَة المنفية حَال. وَقَوله: (يتَوَضَّأ) جَوَاب الشَّرْط. قَوْله: (بِهِ) أَي: بِالْمَاءِ، وَفِي بعض النّسخ: بهَا، فيؤول الْإِنَاء: بالمطهرة أَو الْإِدَاوَة، فَالْمَعْنى: يتَوَضَّأ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا.
وقالَ سُفْيانُ: هَذَا الفِقْهُ بَعَيْنهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعالىَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا وهذَا ماءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوضَأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ
سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، لِأَن الْوَلِيد بن مُسلم لما روى هَذَا الْأَثر الَّذِي رَوَاهُ الزُّهْرِيّ ذكر عَقِيبه بقوله: فَذكرت ذَلِك لِسُفْيَان الثَّوْريّ، فَقَالَ: هَذَا وَالله الْفِقْه بِعَيْنِه، وَلَوْلَا هَذَا التَّصْرِيح لَكَانَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن أَنه سُفْيَان بن عُيَيْنَة لكَونه مَعْرُوفا بالرواية عَن الزُّهْرِيّ دون الثَّوْريّ. قَوْله: (هَذَا الْفِقْه بِعَيْنِه) أَرَادَ أَن الحكم بِأَنَّهُ يتَوَضَّأ بِهِ هُوَ الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) لِأَن قَوْله (مَاء) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم وَلَا تَحض إِلَّا لدَلِيل وَسمي الثَّوْريّ الْأَخْذ بِدلَالَة الْعُمُوم قفهافإن قلت لما كَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ فقهاً وَكَانَ مَذْكُورا فِي الْقُرْآن فَلم قَالَ وَفِي النَّفس مِنْهُ شَيْء أَي دغدغه وَلم ءأى التَّيَمُّم بعد الْوضُوء بِهِ قلت رُبمَا يكون ذَلِك لعدم ظُهُور دلَالَته أَو لوُجُود معَارض لَهُ أما من الْقُرْآن أَو غير ذَلِك فَلذَلِك قَالَ (يتَوَضَّأ بِهِ وَيتَيَمَّم) لِأَن المَاء الَّذِي يشك فِيهِ اكالمعدوم وَقَالَ الْكرْمَانِي رَحمَه الله وَلَا يخفى أَن الْوَاو بِمَعْنى ثمَّ إِذا التَّيَمُّم بعد التوضىء قطعا قلت لَا نسلم ذَلِك فَإِن هَذَا الْوَضع لَا يشْتَرط التَّرْتِيب بل الشَّرْط الْجمع بَينهمَا سَوَاء قدم الْوضُوء أَو أَخّرهُ قَوْله (فَلم تَجدوا مَاء) هَذَا نَص الْقُرْآن، وَوَقع فِي رِوَايَة ابي الْحسن الْقَابِسِيّ عَن ابي زيد الْمروزِي، فِي حِكَايَة قَول سُفْيَان، يَقُول الله تَعَالَى: {فان لم تَجدوا مَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) على البُخَارِيّ. وَقَالَ الْقَابِسِيّ: قد ثَبت ذَلِك فِي الْأَحْكَام لإسماعيل القَاضِي، يعْنى(3/36)
بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُفْيَان، قَالَ: وَمَا أعرف من قَرَأَ بذلك. وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّ الثَّوْريّ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. قلت: لَا يَصح هَذَا أصلا، لِأَنَّهُ قلب كَلَام الله تَعَالَى، وَالظَّاهِر أَنه سَهْو، أَو وَقع غَلطا.
170 - حدّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدثنَا إسْرائِيلُ عنْ عاصِمٍ عَن ابنِ سيرِينَ قَالَ قُلْتُ لَعبِيدَةَ عِنْدَنا مِنْ شَعَرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أنَسٍ أوْ مِنْ قِبَلِ أهْلِ أنَسٍ فقالَ لاََنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أحَبُّ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا.
(الحَدِيث 170 طرفه فِي: 171)
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه: الأول فِي رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل، أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ، الْحَافِظ الْحجَّة العابد، روى عَنهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة بِوَاسِطَة، مَاتَ فِي سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: مَالك بن إِسْمَاعِيل، سواهُ الثَّانِي: إِسْرَائِيل ابْن يُونُس، وَقد تقدم. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحْوَال الْبَصْرِيّ الثِّقَة الْحَافِظ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين وَقد تقدم. الْخَامِس: عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء: ابْن عَمْرو، وَيُقَال: ابْن قيس بن عَمْرو السَّلمَانِي، بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام: الْمرَادِي الْكُوفِي، أسلم فِي حَيَاة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يلقه. وَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ كُوفِي تَابِعِيّ ثِقَة جاهلي أسلم قبل وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَكَانَ أَعور؛ وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ عُبَيْدَة يوازي شريحاً فِي الْعلم وَالْقَضَاء، وَقَالَ ابْن نمير: كَانَ شُرَيْح إِذا أشكل عَلَيْهِ الْأَمر كتب إِلَى عُبَيْدَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَقيل: ثَلَاث.
الثَّانِي فِي لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
الثَّالِث: أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِي رِوَايَته: أحب إِلَيّ من كل صفراء وبيضاء.
الرَّابِع فِي مَعْنَاهُ واعرابه. قَوْله: (عندنَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: عندنَا شَيْء من شعر، وَيحْتَمل أَن تكون: من، للتَّبْعِيض، وَالتَّقْدِير: بعض شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَيكون: بعض، مُبْتَدأ وَقَوله: عندنَا، خَبره. وَيجوز أَن يكون الْمُبْتَدَأ محذوفاً أَي: عندنَا شَيْء من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو عندنَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام شَيْء. قَوْله: (اصبناه من قبل انس) أَي: حصل لنا من جِهَة أنس ابْن مَالك، رَضِي الله عَنهُ. وَقَوله: (أَو) للتشكيك. قَوْله: (لِأَن تكون) ، اللَّام: فِيهِ لَام الِابْتِدَاء للتَّأْكِيد، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، و: تكون، نَاقِصَة، وَيحْتَمل أَن تكون تَامَّة، وَالتَّقْدِير: كَون شَعْرَة عِنْد من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا من متاعها.
الْخَامِس فِي حكم المستنبط مِنْهُ: وَهُوَ أَنه لما جَازَ أتخاذ شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والتبرك بِهِ لطارته ونظافته، دلّ على أَن مُطلق الشّعْر طَاهِر، أَلا تى أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ، جعل فِي قلنسوته من شعر رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَانَ يدْخل بهَا فِي الْحَرْب ويستنصر ببركته، فَسَقَطت عَنهُ يَوْم الْيَمَامَة، فَاشْتَدَّ عَلَيْهَا شدَّة، وَأنكر عَلَيْهِ الصَّحَابَة، فَقَالَ: إِنِّي لم افْعَل ذَلِك لقيمة القلنسوة. لَكِن كرهت أَن تقع بأيدي الْمُشْركين وفيهَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. ثمَّ إِن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ على أَن الشّعْر طَاهِر وإلاَّ لما حفظوه، وَلَا تمنى عُبَيْدَة أَن تكون عِنْده شَعْرَة وَاحِدَة مِنْهُ، وَإِذا كَانَ طَاهِرا فالماء الَّذِي يغسل بِهِ طَاهِر، وَهُوَ مُطَابق لترجمة الْبَاب، وَلما وَضعه البُخَارِيّ فِي المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان ذكر هَذَا الْأَثر مطابقاً للتَّرْجَمَة، ودليلاً لما ادَّعَاهُ، ثمَّ ذكر حَدِيثا آخر مَرْفُوعا على مَا يَأْتِي الْآن.
171 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحيم قَالَ أخبرنَا سَعِيدُ بنُ سُلَيْمانَ قَالَ حدّثنا عَبَّادٌ عَن ابنِ عَوْنٍ عَن ابْن سِيرينَ عَنْ أنَسٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا حَلَقَ رَأسَهُ كانَ أبُو طَلْحَةَ أوّلَ منْ أخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 170)
هَذَا هُوَ الدَّلِيل الثَّانِي لما ادَّعَاهُ البُخَارِيّ من طَهَارَة الشّعْر، وطهارة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ، المطابق للتَّرْجَمَة الأولى، وَهِي قَوْله: (طَهَارَة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الانسان) .
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم صَاعِقَة، تقدم. الثَّانِي: سعيد بن سُلَيْمَان الضَّبِّيّ الْبَزَّار أَبُو عُثْمَان سَعْدَوَيْه الْحَافِظ الوَاسِطِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، حج سِتِّينَ حجَّة، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ عَن مائَة سنة. الثَّالِث: عباد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ ابْن الْعَوام الوَاسِطِيّ، أَبُو سهل،(3/37)
مَاتَ سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة، ثِقَة صَدُوق، عَن أَحْمد أَنه مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ يتشيع، فَأَخذه هَارُون فحبسه زَمَانا ثمَّ خلى عَنهُ، وَأقَام بِبَغْدَاد. الرَّابِع: ابْن عون، بِفَتْح الْغَيْن الْمُهْملَة وَفِي آخر نون: هُوَ عبد الله بن عون، تَابِعِيّ سيد قراء زَمَانه، وَقد تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رب مبلغ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن سِيرِين، وَقد تكَرر ذكره. السَّادِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ. السَّابِع: أَبُو طَلْحَة الْأنْصَارِيّ، زوج أم سليم، وَالِدَة أنس، رَضِي الله عَنهُ. وَاسم ابي طَلْحَة: زيد بن سهل بن الْأسود النجاري، شهد الْعقبَة وبدراً وأُحداً والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بن عَفَّان.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وواسطي وبصري. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، فَالْأول عبد الله بن عون. وَفِي مُسلم وللنسائي عبد الله بن عون بن أَمِير مصر، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة غَيرهمَا، وَمَعَ هَذِه اللطائف إِسْنَاده نَازل، لَان البُخَارِيّ سمع من شيخ شَيْخه سعيد بن سُلَيْمَان، بل سمع من ابْن عَاصِم وَغَيره من أَصْحَاب ابْن عون، فَيَقَع بَينه وَبَين ابْن عون وَاحِد، وَهنا بَينه وَبَينه ثَلَاثَة أنفس.
بَيَان من اخراجه غَيره لم يُخرجهُ أحد من السِّتَّة غَيره بِهَذِهِ الْعبارَة وَهَذَا السَّنَد، وَهُوَ أَيْضا أخرجه هُنَا فِي كِتَابه فَقَط، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه، وَلَفظه: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الحلاق فحلق رَأسه وَدفع إِلَى ابي طَلْحَة الشق الْأَيْمن، ثمَّ حلق الشق الآخر فَأمره أَن يقسمهُ بَين النَّاس) . وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: (لما رمى الْجَمْرَة وَنحر نُسكه ناول الحلاق شقَّه الْأَيْمن فحلقه، ثمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَة فَأعْطَاهُ إِيَّاه، ثمَّ نَاوَلَهُ الشق الْأَيْسَر فحلقه فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة، فَقَالَ: إقسمه بَين النَّاس) . وَله من رِوَايَة حَفْص بن غياث عَن هِشَام: (أَنه قسم الْأَيْمن فِيمَن يَلِيهِ) ، وَفِي لفظ: (فوزعه بَين النَّاس. الشعرة والشعرتين. وَأعْطِي الْأَيْسَر أم سليم) . وَفِي لفظ: أَبَا طَلْحَة. فَإِن قلت: فِي هَذِه الرِّوَايَات تنَاقض ظَاهر. قلت: لَا تنَاقض، بل يجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ ناول أَبَا طَلْحَة كلا من الشقين، فَأَما الْأَيْمن فوزعه أَبُو طَلْحَة بأَمْره بَين النَّاس وَأما الايسر فَأعْطَاهُ لأم سليم زَوجته بأَمْره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَيْضا، زَاد أَحْمد فِي رِوَايَة لَهُ: (لتجعله فِي طيبها) .
بَيَان استنباط الاحكام من الاحاديث الْمَذْكُورَة: الأول: أَن فِيهِ الْمُوَاسَاة بَين الْأَصْحَاب فِي الْعَطِيَّة وَالْهِبَة. الثَّانِي: الْمُوَاسَاة لَا تَسْتَلْزِم الْمُسَاوَاة. الثَّالِث: فِيهِ تنفيل من يتَوَلَّى التَّفْرِقَة على غَيره. الرَّابِع: فِيهِ أَن حلق الرَّأْس سنة أَو مُسْتَحبَّة اقْتِدَاء بِفِعْلِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الْخَامِس: فِيهِ أَن الشّعْر طَاهِر. السَّادِس: أَن فِيهِ التَّبَرُّك بِشعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. السَّابِع: أَن فِيهِ جَوَاز اقتناء الشّعْر، فَإِن قلت: من كَانَ الحالق لرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: اخْتلفُوا فِيهِ، قيل: هُوَ خرَاش بن امية، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة أَيْضا. وَقيل: معمر بن عبد الله، وَهُوَ الصَّحِيح، وَكَانَ خرَاش هُوَ الحالق بِالْحُدَيْبِية.
172 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ عَن مالِكٍ عنَ أبي الزِّنادِ عَنِ الاَعْرَجِ عنْ أبي هُريْرَةَ قالَ إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إِذا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إناءِ أحَدِكُمْ فَلْيغْسِلْهُ سَبْعاً.
لما ذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حكمين ثَانِيهمَا فِي سُؤْر الْكَلْب أُتِي بِدَلِيل من الخديث الْمَرْفُوع وَهُوَ أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم ذكرُوا غير مرّة، وَمَالك هُوَ ابْن أنس، وَأَبُو زناد، بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة بعْدهَا النُّون، واسْمه عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج اسْمه عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ أَيْضا عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن روح بن عبَادَة، خمستهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث الْأَعْمَش عَن ابْن رزين، وابي صَالح عَن ابي هُرَيْرَة، بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) ، بدل: (شرب) ، وَمن حَدِيث(3/38)
مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة: (طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولع فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِذا ولغت فِيهِ الْهِرَّة غسله مرّة وَاحِدَة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سوار بن عبد الله الْعَنْبَري، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بِهِ، وَوَقفه مُسَدّد وَرَفعه سواهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ذكر الهر مَوْقُوف. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مدرج.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (إِذا شرب الْكَلْب) كَذَا هُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَالْمَشْهُور عَن أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة جُمْهُور اصحابه عَنهُ: (إِذا ولغَ) ، وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضمن: شرب، معنى: ولغَ، فعدي تعديته. يُقَال: ولغَ الْكَلْب من شرابنا، كَمَا يُقَال: فِي شرابنا، وَيُقَال: ولغَ شرابنا أَيْضا. قلت: الشَّارِع أفْصح الفصحاء، وَرُوِيَ عَنهُ: (شرب) ، و: (ولغَ) ، لتقاربهما فِي الْمَعْنى، وَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكَلُّف. فان قلت: الشّرْب أخص من الولوغ فَلَا يقوم مقَامه. قلت: لَا نسلم عدم قيام الْأَخَص مقَام الْأَعَمّ، لِأَن الْخَاص لَهُ دلَالَة على الْعَام اللَّازِم، كَلَفْظِ الْإِنْسَان لَهُ دلَالَة على مَفْهُوم الْحَيَوَان بالتضمن، لِأَنَّهُ جُزْء مَفْهُومه، وَكَذَا لَهُ دلَالَة على مَفْهُوم الْمَاشِي بِالْقُوَّةِ بالالتزام، لكَونه خَارِجا عَن معنى الْإِنْسَان لَازِما لَهُ، فعلى هَذَا يجوز أَن يذكر الشّرْب ويرادبه الولوغ. وَادّعى ابْن عبد الْبر أَن لَفْظَة: شرب، لم يروه إلاَّ مَالك، وَأَن غَيره رَوَاهُ بِلَفْظ: ولغَ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فقد رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر من طَرِيقين عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين عَن ابي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا شرب) ، لَكِن الْمَشْهُور عَن هِشَام بن حسان بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) ، كَذَا أخرجه مُسلم وَغَيره من طَرِيق عَنهُ، وَقد رَوَاهُ عَن ابي الزِّنَاد شيخ مَالك بِلَفْظ: (إِذا شرب) ، وَرُوِيَ أَيْضا عَن مَالك بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) أخرجه أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) لَهُ عَن إِسْمَاعِيل بن عمر عَنهُ، وَمن طَرِيقه أوردهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْمُوَطَّأ) لَهُ من طَرِيق أبي عَليّ الْحَنَفِيّ.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ دلَالَة على نَجَاسَة الْكَلْب، لِأَن الطَّهَارَة لَا تكون إلاَّ عَن حدث أَو نجس، وَالْأول مُنْتَفٍ فَتعين الثَّانِي، فَإِن قلت: اسْتدلَّ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب الْمُشْتَمل على الْحكمَيْنِ على الحكم الثَّانِي وَهُوَ سُؤْر الْكَلْب بالأثر الَّذِي رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ وَالثَّوْري، ثمَّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الْمَرْفُوع، فَمَا وَجه دلَالَة هَذَا على مَا ادَّعَاهُ، وَالْحَال أَن الحَدِيث يدل على خلاف مَا يَقُوله؟ قلت: أجَاب عَنهُ من ينصره ويتغالى فِيهِ بِأَن سُؤْر الْكَلْب طَاهِر، وَأَن الْأَمر بِغسْل الْإِنَاء سبعا من ولوغه أَمر تعبدي، فَلَا يدل على نَجَاسَته. قلت: هَذَا بعيد جدا، لِأَن دلَالَة ظَاهر الحَدِيث على خلاف مَا ذَكرُوهُ، على أَنا، وَلَئِن سلمنَا أَنه يحْتَمل أَن يكون الامر لنجاسته، وَيحْتَمل أَن يكون للتعبد، وَلَكِن رجح الأول مَا رَوَاهُ مُسلم: (طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) ، وَرِوَايَته أَيْضا (إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء احدكم فليرقه ثمَّ ليغسله سبع مَرَّات) ، وَلَو كَانَ سؤره طَاهِرا لما أَمر بإراقته، وَالَّذِي قَالُوهُ نصْرَة للْبُخَارِيّ بِغَيْر مَا يذكر عَن الْمَالِكِيَّة. فان قلت: من قَالَ إِن البُخَارِيّ ذهب إِلَى مَا نسبوه لَهُ؟ قلت: قَالَ ابْن بطال فِي شَرحه: ذكر البُخَارِيّ أَرْبَعَة أَحَادِيث فِي الْكَلْب، وغرضه من ذَلِك إِثْبَات طَهَارَة الْكَلْب وطهارة سؤره. أَقُول: كَلَام ابْن بطال لَيْسَ بِحجَّة، فَلم، لَا يجوز أَن يكون غَرَضه بَيَان مَذَاهِب النَّاس فَبين فِي هَذَا الْبَاب مَسْأَلَتَيْنِ: أولاهما المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر، وَالثَّانيَِة: سُؤْر الْكلاب؟ بل الظَّاهِر هَذَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: وسؤر الْكلاب، وَاقْتصر على هَذِه اللَّفْظَة وَلم يقل وطهارة سُؤْر الْكلاب.
الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الْإِنَاء، وَلَا فرق بَين الْكَلْب الْمَأْذُون فِي اقتنائه وَغَيره، وَلَا بَين الْكَلْب البدوي والحضري لعُمُوم اللَّفْظ، وللمالكية فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: طَهَارَته، ونجاسته، وطهارة سُؤْر الْمَأْذُون فِي اتِّخَاذه دون غَيره، وَالْفرق بَين الحضري والبدوي. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي (شَرحه الْكَبِير) : وَعند مَالك لَا يغسل فِي غير الولوغ، لِأَن الْكَلْب طَاهِر عِنْده. وَالْغسْل من الولوغ تعبدي. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا ثَبت أَن لِسَانه الَّذِي يتَنَاوَل بِهِ المَاء نجس، علم أَن سَائِر أَجْزَائِهِ فِي النَّجَاسَة بِمَثَابَة لِسَانه، فَأَي جُزْء من بدنه مَسّه وَجب تَطْهِيره.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن المَاء النَّجس يجب تَطْهِير الْإِنَاء مِنْهُ.
الرَّابِع: قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم بيع الْكَلْب إِذْ كَانَ نجس الذَّات، فَصَارَت كَسَائِر النَّجَاسَات. قلت: يجوز بَيْعه عِنْد اصحابنا لِأَنَّهُ منتفع بِهِ حراسةً واصطياداً. قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح(3/39)
مكلبين} (الْمَائِدَة: 4) فَإِن قلت: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب، وَمهر الْبَغي، وحلوان الكاهن، قلت: هَذَا كَانَ فِي زمن كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر فِيهِ بقتل الْكلاب، وَكَانَ الِانْتِفَاع بهَا يَوْمئِذٍ محرما، ثمَّ بعد ذَلِك رخص فِي الِانْتِفَاع بهَا، وروى الطَّحَاوِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش، وَعنهُ عَن عَطاء: لَا بَأْس بِثمن الْكَلْب، فَهَذَا قَول عَطاء، رَضِي الله عَنهُ، وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ثمن الْكَلْب من السُّحت، وَعنهُ عَن ابْن شهَاب أَنه إِذا قتل الْكَلْب الْمعلم فَإِنَّهُ تقوم قِيمَته فيغرمه الَّذِي قَتله، فَهَذَا الزُّهْرِيّ يَقُول هَذَا، وَقد رُوِيَ عَن ابي بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن ثمن الْكَلْب من السُّحت، وَعنهُ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا بَأْس بِثمن كلب الصَّيْد، وَرُوِيَ عَن مَالك إجَازَة بيع كلب الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية، وَلَا خلاف عَنهُ أَن من قتل كلب صيد أَو مَاشِيَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قِيمَته، وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَنه أجَاز الْكَلْب الضاري فِي الْمهْر وَجعل على قَاتله عشْرين من الْإِبِل، ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) [/ ح.
الْخَامِس: استدلت بِهِ الشَّافِعِيَّة على وجوب غسل الْإِنَاء الَّذِي ولغَ فِيهِ الْكَلْب سبع مَرَّات، وَلَا فرق عِنْدهم بَين ولوغه وَغَيره، وَبَين بَوْله وروثه وَدَمه وعرقه وَنَحْو ذَلِك، وَلَو ولغَ كلاب أَو كلب وَاحِد مَرَّات فِي إِنَاء فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: الصَّحِيح: يَكْفِي للْجَمِيع سبع مَرَّات. وَالثَّانِي: أَنه يجب لكل وَاحِد سبع. وَالثَّالِث: أَنه يَكْفِي لولغات الْكَلْب الْوَاحِد سبع، وَيجب لكل كلب سبع، وَلَو وَقعت نَجَاسَة أُخْرَى فِيمَا ولغَ فِيهِ كفى عَن الْجَمِيع سبع، وَلَو كَانَت نَجَاسَة الْكَلْب دَمه فَلم تزل عينه إلاَّ بست غسلات مثلا، فَهَل يحْسب ذَلِك سِتّ غسلات أم غسلة وَاحِدَة أم لَا يحْسب من السَّبع أصلا؟ فِيهِ أَيْضا ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا وَاحِدَة، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ظَاهر لفظ الحَدِيث يدل على أَنه لَو كَانَ المَاء الَّذِي فِي الْإِنَاء قُلَّتَيْنِ وَلم تَتَغَيَّر أَوْصَافه لكثرته كَانَ الولوغ فِيهِ منجساً أَيْضا، لَكِن الْفُقَهَاء لم يَقُولُوا بِهِ. قلت: لَا نسلم أَن ظَاهره دلّ عَلَيْهِ، إِذْ الْغَالِب فِي أوانيهم أَنَّهَا مَا كَانَت تسع الْقلَّتَيْنِ، فبلفظ الْإِنَاء خرج عَنهُ قلتان وَمَا فَوْقه. قلت: إِذا كَانَ الْإِنَاء يسع الْقلَّتَيْنِ أَو أَكثر، فَمَاذَا يكون حكمه؟ والإناء لَا يُطلق إلاَّ على مَا لَا يسع فِيهِ إلاَّ مَا دون الْقلَّتَيْنِ، وَاللَّفْظ أَعم من ذَلِك.
السَّادِس: انه ورد فِي هَذَا الحَدِيث (سبعا) أَي: سبع مَرَّات، وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) . وَفِي رِوَايَة: (أولَاهُنَّ أَو أخراهن) ، وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات السَّابِعَة بِتُرَاب) ، وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما رِوَايَة: وغفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ، فمذهبنا وَمذهب الجماهير، إِذا المُرَاد: إغسلوه سبعا وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِتُرَاب مَعَ المَاء، فَكَانَ التُّرَاب قَائِما مقَام غسله، فسميت ثامنة. وَقَالَ بَعضهم: خَالف ظَاهر هَذَا الحَدِيث الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة، أما الْمَالِكِيَّة فَلم يَقُولُوا بالتتريب أصلا مَعَ إيجابهم السَّبع على الْمَشْهُور عِنْدهم، وَأجِيب: عَن ذَلِك بِأَن التتريب لم يَقع فِي رِوَايَة مَالك، على أَن الْأَمر بالتسبيع عِنْده للنَّدْب لكَون الْكَلْب طَاهِرا عِنْده. فَإِن عورض بالرواية الَّتِي روى عَنهُ أَنه نجس أُجِيب بِأَن قَاعِدَته أَن المَاء لَا ينجس إلاَّ بالتغير، فَلَا يجب التسبيع للنَّجَاسَة بل للتعبد، فَإِن عورض بِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن ابي هُرَيْرَة: (طهُور إِنَاء أحدكُم) أُجِيب: بإن الطَّهَارَة تطلق على غير ذَلِك كَمَا فِي {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ} (التَّوْبَة: 103) و: (السِّوَاك مطهرة للفم) ، فَإِن عورض بِأَن اللَّفْظ الشَّرْعِيّ إِذا دَار بَين الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة والشرعية حملت على الشَّرْعِيَّة إلاَّ إِذا قَامَ دَلِيل، أُجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الدَّلِيل، وَهنا يحْتَمل أَن يكون من قبيل قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (التَّيَمُّم طهُور الْمُسلم) . وَبَعض الْمَالِكِيَّة قَالُوا: الْأَمر بِالْغسْلِ من ولوغه فِي الْكَلْب الْمنْهِي عَن اتِّخَاذه دون الْمَأْذُون فِيهِ، فَإِن عورض بِعَدَمِ الْقَرِينَة فِي ذَلِك، أُجِيب: بِأَن الْأذن فِي مَوَاضِع جَوَاز الاتخاذ قرينَة، وَبَعْضهمْ قَالُوا: إِن ذَلِك مَخْصُوص بالكلب الكَلِب، وَالْحكمَة فِيهِ من جِهَة الطِّبّ، لِأَن الشَّارِع اعْتبر السَّبع فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قَوْله: (صبوا عَليّ من سبع قرب) ، وَمِنْهَا قَوْله: (من تصبح بِسبع تمرات) ، فَإِن عورض بِأَن الْكَلْب الكِلب لَا يقرب المَاء، فَكيف يَأْمر بِالْغسْلِ من ولوغه؟ اجيب: بِأَنَّهُ لَا يقرب بعد استحكام ذَلِك، اما فِي ابْتِدَائه فَلَا يمْتَنع، فان عورض بِمَنْع استلزام التَّخْصِيص بِلَا دَلِيل، وَالتَّعْلِيل بالتنجيس أولى، لِأَنَّهُ فِي معنى الْمَنْصُوص، وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا التَّصْرِيح بِأَن الْغسْل من ولوغ الْكَلْب لِأَنَّهُ رِجْس، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نضر الْمروزِي بأسناد صَحِيح، وَلم يَصح عَن أحد من الصَّحَابَة خِلَافه. أُجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْإِطْلَاق مثل إِطْلَاق الرجس على الميسر والانصاب.
واما الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا بِوُجُوب السَّبع، وَلَا التتريب. قلت: لم يَقُولُوا بذلك لِأَن أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي روى السَّبع، رُوِيَ عَنهُ غسل الْإِنَاء مرّة من ولوغ(3/40)
الْكَلْب ثَلَاثًا فعلا وقولاً مَرْفُوعا وموقوفاً من طَرِيقين: الأول: أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (إِذا ولغَ الْكَلْب فِي الْإِنَاء فأهرقه ثمَّ اغسله ثَلَاث مَرَّات) ، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الإِمَام: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح. الطَّرِيق الثَّانِي: أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَن الْحُسَيْن بن عَليّ الْكَرَابِيسِي، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق، حَدثنَا عبد الْملك عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليهرقه وليغسله ثَلَاث مَرَّات) ، ثمَّ أخرجه عَن عمر بن شبة أَيْضا: حَدثنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق بِهِ مَوْقُوفا، وَلم يرفعهُ غير الْكَرَابِيسِي. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عبد الْملك من أَصْحَاب عَطاء، ثمَّ عَطاء من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة والحفاظ الثِّقَات من أَصْحَاب عَطاء وَأَصْحَاب ابي هُرَيْرَة يَرْوُونَهُ: سبع مَرَّات، وَفِي ذَلِك دلَالَة على خطأ رِوَايَة عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة فِي الثَّلَاث، وَعبد الْملك لَا يقبل مِنْهُ مَا يُخَالف الثِّقَات، ولمخالفته أهل الْحِفْظ والثقة فِي بعض رواياته تَركه شُعْبَة بن الْحجَّاج وَلم يحْتَج بِهِ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : قلت: عبد الْملك أخرج لَهُ مُسلم فِي صَحِيحه، وَقَالَ أَحْمد وَالثَّوْري: هُوَ من الْحفاظ، وَعَن الثَّوْريّ: هُوَ ثِقَة فَقِيه متقن، وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: ثِقَة ثَبت فِي الحَدِيث، وَيُقَال: كَانَ الثَّوْريّ يُسَمِّيه الْمِيزَان. وَأما الْكَرَابِيسِي فقد قَالَ: ابْن عدي قَالَ لنا: أَحْمد بن الْحسن الْكَرَابِيسِي يسْأَل مِنْهُ والكرابيسي لَهُ كتب مصنفة ذكر فِيهَا اخْتِلَاف النَّاس فِي الْمسَائِل وَذكر فِيهَا أَخْبَارًا كَثِيرَة، وَكَانَ حَافِظًا لَهَا، وَلم أجد لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، وَالَّذِي حمل عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّمَا هُوَ من أجل اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ. فَأَما فِي الحَدِيث فَلم أر بِهِ بَأْسا. واما الطَّحَاوِيّ فَقَالَ، بعد أَن روى الْمَوْقُوف عَن عبد الْملك بن ابي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة: فَثَبت بذلك نسخ السَّبع لِأَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ رَاوِي السَّبع، والراوي إِذا عمل بِخِلَاف رِوَايَته أَو أفتى بِخِلَافِهَا لَا يبْقى حجَّة، لِأَن الصَّحَابِيّ لَا يحل لَهُ أَن يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، ويفتي أَو يعْمل بخلافة إِذْ تسْقط بِهِ عَدَالَته، وَلَا تقبل رِوَايَته، وَإِنَّا نحسن الظَّن بِأبي هُرَيْرَة، فَدلَّ على نسخ مَا رَوَاهُ. وَقد عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَن الْحَنَفِيَّة خالفوا ظَاهر هَذَا الحَدِيث بقوله: يحْتَمل أَن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السَّبع لَا وُجُوبهَا، أَو كَانَ نسي مَا رَوَاهُ، وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يثبت النّسخ، ورد بِأَن هَذَا إساءة الظَّن بَابي هُرَيْرَة، وَالِاحْتِمَال الناشىء من غير دَلِيل لَا يعْتد بِهِ، وادعاء الطَّحَاوِيّ النّسخ مبرهن بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ إِذا حدث عَن ابي هُرَيْرَة، فَقيل لَهُ: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: كل حَدِيث ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَو وَجب الْعَمَل بِرِوَايَة السَّبع وَلَا يَجْعَل مَنْسُوخا لَكَانَ مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مُغفل فِي ذَلِك من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أولى مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، لِأَنَّهُ زَاد عَلَيْهِ: (وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ) ، وَالزَّائِد أولى من النَّاقِص، وَكَانَ يَنْبَغِي لهَذَا الْمُخَالف أَن يَقُول لَا يطهر إلاَّ بِأَن يغسل ثَمَان مَرَّات الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ، ليَأْخُذ بِالْحَدِيثين جَمِيعًا. فَإِن ترك حَدِيث ابْن مُغفل فقد لزمَه مَا لزمَه خَصمه فِي ترك السَّبع، وَمَعَ هَذَا لم يَأْخُذ بالتعفير الثَّابِت فِي الصَّحِيح مُطلقًا، قيل: إِنَّه مَنْسُوخ.
فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ بِأَن أَبَا هُرَيْرَة أحفظ من روى فِي دهره، فروايته أولى. أُجِيب: بِالْمَنْعِ، بل رِوَايَة ابْن الْمُغَفَّل أولى لِأَنَّهُ أحد الْعشْرَة الَّذين بَعثهمْ عمر بن الْخطاب، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِلَيْنَا، يفقهُونَ النَّاس، وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَهُوَ أفقه من أبي هُرَيْرَة، وَالْأَخْذ بروايته أحوط، وَلِهَذَا ذهب إِلَيْهِ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحَدِيثه هَذَا أخرجه ابْن مَنْدَه من طَرِيق شُعْبَة، وَقَالَ: اسناده مجمع على صِحَّته، وَرَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا ولغَ السنور فِي الْإِنَاء يغسل سبع مَرَّات) ، وَلم يعملوا بِهِ، فَكل جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك فَهُوَ جَوَابنَا عَمَّا زَاد على الثَّلَاث، فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَبت أَن أَبَا هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا، وَرِوَايَة من روى عَنهُ مُوَافقَة فتياه لروايته أرجح من رِوَايَة من روى عَنهُ مخالفتها، من حَيْثُ الْإِسْنَاد وَمن حَيْثُ النّظر. اما النّظر فَظَاهر، واما الْإِسْنَاد فالموافقة وَردت من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن ابْن سِيرِين عَنهُ، وَهَذَا من أصح الْأَسَانِيد. واما الْمُخَالفَة فَمن رِوَايَة عبد الْملك ابْن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَنهُ، وَهُوَ دون الأول فِي الْقُوَّة بِكَثِير. أُجِيب: بِأَن قَوْله ثَبت أَن أَبَا هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَمُجَرَّد الدَّعْوَى لَا تسمع، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فقد يحْتَمل أَن يكون فتواه بالسبع قبل ظُهُور النّسخ عِنْده، فَلَمَّا ظهر أفتى بِالثلَاثِ. وَأما دَعْوَى الرجحان فَغير صَحِيحه، لَا من حَيْثُ النّظر وَلَا من حَيْثُ قُوَّة الْإِسْنَاد، لِأَن رجال كل مِنْهُمَا رجال الصَّحِيح. كَمَا بَيناهُ عَن قريب، وَأما من حَيْثُ النّظر فَإِن الْعذرَة أَشد فِي النَّجَاسَة من سُؤْر الْكَلْب(3/41)
وَلم يعْتد بالسبع، فَيكون الولوغ من بَاب أولى.
وَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونهَا أَشد مِنْهُ فِي الاستقذار أَن لَا تكون أَشد مِنْهَا فِي تَغْلِيظ الحكم. أُجِيب: بِمَنْع عدم الْمُلَازمَة، فَإِن تَغْلِيظ الحكم فِي ولوغ الْكَلْب إِمَّا تعبدي وَإِمَّا مَحْمُول على من غلب على ظَنّه أَن نَجَاسَة الولوغ لَا تَزُول بِأَقَلّ مِنْهَا، وَأما أَنهم نهوا عَن اتِّخَاذه فَلم ينْتَهوا فغلظ عَلَيْهِم بذلك، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: كَانَ الْأَمر بالسبع عِنْد الْأَمر بقتل الْكلاب، فَلَمَّا نهى عَن قَتلهَا نسخ الامر بِالْغسْلِ سبعا. وَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَن الْأَمر بِالْقَتْلِ كَانَ فِي أَوَائِل الْهِجْرَة، وَالْأَمر بِالْغسْلِ مُتَأَخّر جدا، لِأَن من رِوَايَة ابي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مُغفل، وَكَانَ إسلامهما سنة سبع. أُجِيب: بِأَن كَون الْأَمر بقتل الْكَلَام، فِي أَوَائِل الْهِجْرَة يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَطْعِيّ، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَكَانَ يُمكن أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة قد سمع ذَلِك من صَحَابِيّ أَنه أخبرهُ أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما نهى عَن قتل الْكلاب نسخ الْأَمر بِالْغسْلِ سبعا من غير تَأْخِير، فَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لاعتماده على صدق الْمَرْوِيّ عَنهُ، لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول، وَكَذَلِكَ عبد الله بن الْمُغَفَّل، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: عملت الشَّافِعِيَّة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وَتركُوا الْعَمَل بِحَدِيث ابْن الْمُغَفَّل، وَكَانَ يلْزمهُم الْعَمَل بذلك، ويوجبوا ثَمَانِي غسلات. وعارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الشَّافِعِيَّة لَا يَقُولُونَ بِحَدِيث ابْن مُغفل ان يتْركُوا الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا ورأساً، لِأَن اعتذار الشَّافِعِيَّة عَن ذَلِك، إِن كَانَ متجها فَذَاك، وإلاَّ فَكل من الْفَرِيقَيْنِ ملوم فِي ترك الْعَمَل بِهِ. وَأجِيب: بِأَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة وَلَا سِيمَا من صَحَابِيّ فَقِيه، وَتركهَا لَا وَجه لَهُ، فالحديثان فِي نفس الْأَمر كالواحد، وَالْعَمَل بِبَعْض الحَدِيث وَترك بعضه لَا يجوز، واعتذارهم غير مُتَّجه لذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يلام الْحَنَفِيَّة فِي ذَلِك لأَنهم عمِلُوا بِالْحَدِيثِ النَّاسِخ وَتركُوا الْعَمَل بالمنسوخ، وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: وَقع الْإِجْمَاع على خِلَافه فِي الْعَمَل. وعارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَبت القَوْل بذلك عَن الْحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة. وَأجِيب: بِأَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تمنع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَهُوَ مَذْهَب كثير من الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالُوا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: حَدِيث ابْن مُغفل لم أَقف على صِحَّته، قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِعُذْر، وَقد وقف جمَاعَة كَثِيرُونَ على صِحَّته، وَلَا يلْزم من عدم ثُبُوته عِنْد الشَّافِعِي ترك الْعَمَل بِهِ عِنْد غَيره.
173 - حدّثنا إسْحاقُ قَالَ أخْبرَنا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ أبي عَنْ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رجُلاً رَأى كَلْباً يأْكُلُ الثَرى مِنَ العَطشِ فَأخذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَل يغْرفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أرْوَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لهُ فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ..
هَذَا من الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج بهَا البُخَارِيّ على طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، على مَا يَأْتِي فِي الْأَحْكَام.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة، الأول: أسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج، على مَا جزم بِهِ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) ، وَقَالَ الكلاباذى والجياني: اسحاق بن مَنْصُور، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يرويان عَن عبد الصَّمد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِسْحَاق هَذَا هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم. قلت: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج الْحَافِظ، أَبُو يَعْقُوب التَّيْمِيّ الْمروزِي نزيل نيسابور. قَالَ مُسلم: ثِقَة مَأْمُون أحد الْأَئِمَّة، مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين ومائين، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَأما إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء، أَبُو يَعْقُوب الْحِمصِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة. وَإِسْحَاق بن ابراهيم بن أبي إِسْرَائِيل أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب، وَعَن يحيى ثِقَة. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْبَغَوِيّ لُؤْلُؤ ابْن عَم أَحْمد بن منيع، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَجَمَاعَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن إِبْرَاهِيم الإِمَام، أَبُو يَعْقُوب الْحَنْظَلِي النَّيْسَابُورِي الدَّارَقُطْنِيّ الْمروزِي الأَصْل، الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، أحد الْأَعْلَام، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، تقدم. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار الْمُزنِيّ الْعَدوي، مولى ابْن عمر بن الْخطاب، تكلمُوا فِيهِ لكنه صَدُوق، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله ابْن دِينَار، مولى ابْن عمر التَّابِعِيّ، وَلَيْسَ فِي كتب السِّتَّة سواهُ. نعم فِي ابْن مَاجَه: عبد الله بن دِينَار الْحِمصِي، وَلَيْسَ بِقَوي. الْخَامِس: ابو صَالح الزيات ذكْوَان، وَقد تقدم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة؟ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث(3/42)
والإخبار وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ تابعين وهما: عبد الله بن دِينَار وَأَبُو صَالح.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره هَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي عدَّة مَوَاضِع فِي الشّرْب والمظالم وَالْأَدب، وَأخرجه أَيْضا من طَرِيق ابْن سِيرِين: (بَيْنَمَا كلب يطِيف بركَة كَاد يقْتله الْعَطش إِذْ رَأَتْهُ بغي فنزعت موقها فسبقته فغفر لَهَا) . أخرجه فِي ذكر بني إِسْرَائِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (يَأْكُل الثرى) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء، مَقْصُور: وَهُوَ التُّرَاب الندي، قَالَه الْجَوْهَرِي وَصَاحب (الغريبين) وَفِي (الْمُحكم) : الثرى التُّرَاب. وَقيل: التُّرَاب الَّذِي إِذا بل يصير طيناً لازباً، وَالْجمع اثرى. وَفِي (مجمع الغرائب) : أصل الثرى الندى، وَلذَلِك قيل للعرق ثرى. وَمعنى يَأْكُل الثرى: يلعق التُّرَاب. قَوْله: (من الْعَطش) أَي: من أجل الْعَطش، فَإِن قلت: يَأْكُل الثرى، مَا مَحَله من الْإِعْرَاب؟ قلت: نصب إِمَّا حَال من كَلْبا، أَو صفة لَهُ. قَالَ الْكرْمَانِي: قلت: لَا يجوز أَن يكون حَالا، لِأَن الشَّرْط أَن يكون ذُو الْحَال معرفَة، وَهَهُنَا نكرَة، وَلَا يجوز أَيْضا أَن يكون مَفْعُولا ثَانِيًا، لِأَن الرُّؤْيَة بِمَعْنى الإبصار. قَوْله: (فَجعل) من أَفعَال المقاربة. وَهِي مَا وضع لدنو الْخَبَر رَجَاء أَو حصولاً أَو أخذا فِيهِ، وَالضَّمِير فِيهِ اسْمه. وَقَوله: (يغْرف) جملَة خَبره، أَي: طفق يغْرف لَهُ.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (حَتَّى أرواه) اي: جعله رَيَّان. قَوْله: (فَشكر الله لَهُ) ، وَالشُّكْر هُوَ الثَّنَاء على المحسن بِمَا أولاه من الْمَعْرُوف. يُقَال: شكرته وشكرت لَهُ، وباللام أفْصح، وَالْمرَاد هَهُنَا مُجَرّد الثَّنَاء، اي: فاثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ، أَو المُرَاد مِنْهُ الْجَزَاء، إِذْ الشُّكْر نوع من الْجَزَاء أَي: فجزاه الله تَعَالَى. فان قلت: إِدْخَال الْجنَّة هُوَ نفس الْجَزَاء، فَمَا معنى الثَّنَاء؟ قلت: هُوَ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، أَو الْفَاء تفسرية. نَحْو: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 54) على مَا فسر بِهِ من أَن الْقَتْل كَانَ نفس نوبتهم. فَإِن قلت: هَذِه الْقِصَّة مَتى وَقعت؟ قلت: هَذِه من الوقائع الَّتِي وَقعت فِي زمن بني اسرائيل، فَلذَلِك قَالَ: إِن رجلا، وَلم يسم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول فِيهِ الْإِحْسَان إِلَى كل حَيَوَان بسقيه أَو نَحوه، وَهَذَا فِي الْحَيَوَان الْمُحْتَرَم، وَهُوَ مَا لَا يُؤمر بقتْله وَلَا يُنَاقض، هَذَا مَا أمرنَا بقتْله أَو أُبِيح قَتله، فَإِن ذَلِك إِنَّمَا شرع لمصْلحَة راجحة، وَمَعَ ذَلِك فقد أمرنَا بِإِحْسَان القتلة. الثَّانِي: فِيهِ حُرْمَة الْإِسَاءَة إِلَيْهِ، وإثم فَاعله، فَإِنَّهُ ضد الْإِحْسَان الْمُؤَجّر عَلَيْهِ، وَقد دخلت تِلْكَ الْمَرْأَة النَّار فِي هرة حبستها حَتَّى مَاتَت. الثَّالِث: قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: أَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الحَدِيث طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، لِأَن الرجل مَلأ خفه وسقاه بِهِ، وَلَا شكّ أَن سؤره بَقِي فِيهِ. وَأجِيب: بانه لَيْسَ فِيهِ أَن الْكَلْب شرب المَاء من الْخُف، إِذْ قد يجوز أَن يكون غرفه بِهِ ثمَّ صب فِي مَكَان غَيره، أَو يُمكن أَن يكون غسل خفه إِن كَانَ سقَاهُ فِيهِ، وعَلى تَقْدِير: أَن يكون سقَاهُ فِيهِ لَا يلْزمنَا هَذَا، لِأَن هَذَا كَانَ فِي شَرِيعَة غَيرنَا على مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول فِيهِ دغدغة، إِذْ لَا يعلم مِنْهُ أَنه كَانَ فِي زمن بعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو كَانَ قبلهَا أَو كَانَ بعْدهَا قبل ثُبُوت حكم سُؤْر الْكلاب، أَو أَنه لم يلبس بعد ذَلِك، أَو غسله. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الترديد، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن ابي هُرَيْرَة أَنه: كَانَ فِي شَرِيعَة غَيرنَا، على مَا ذكرنَا. الرَّابِع: يفهم مِنْهُ وجوب نَفَقَة الْبَهَائِم الْمَمْلُوكَة على مَالِكهَا بِالْإِجْمَاع.
174 - وقالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ حَدثنَا أبي عنْ يوْنُس عنْ ابنِ شِهَابٍ. قَالَ حدّثنى حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبِيهِ قالَ كَانَتِ الكِلابُ تَبُولُ وتُقْبِلُ وتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ فِي زَمانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَكونُوا يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ.
هَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا احْتج بِهِ فِي طَهَارَة الْكَلْب، وطهارة سؤره، وَجَوَاز مَمَره فِي الْمَسْجِد.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: أَحْمد بن شبيب، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ، شيخ البُخَارِيّ، وَلم يخرج لَهُ غَيره، أَصله من الْبَصْرَة، نزل مَكَّة مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ ووالده، أخرج لَهُ النَّسَائِيّ، وَهُوَ صَدُوق. الثَّانِي: أَبوهُ شبيب الْمَذْكُور، وَكَانَ من أَصْحَاب يُونُس، وَكَانَ يخْتَلف فِي التِّجَارَة إِلَى مصر، وَكتابه كتاب صَحِيح. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد تقدم. الرَّابِع: ابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ تقدم. الْخَامِس: حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَبُو عمَارَة الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي التَّابِعِيّ، ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: ابوه عبد الله بن عمر.(3/43)
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ القَوْل والتحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأيلي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: اخبرني يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ حَدثنِي حَمْزَة بن عبد الله بن عمر: (كنت أَبيت فِي الْمَسْجِد فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكنت شَابًّا فَتى عزباً، وَكَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد وَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا من ذَلِك) . وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا ابو يعلى حَدثنَا هَارُون بن مَعْرُوف حَدثنَا ابْن وهب اخبرني يُونُس عَن ابْن شهَاب حَدَّثَنى حَمْزَة بِلَفْظ: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَن أبي إِسْحَاق بن مُحَمَّد حَدثنَا مُوسَى بن سعيد عَن أَحْمد بن شبيب، وَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَا سَماع.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (كَانَت الْكلاب تقبل وتدبر) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد والإسماعيلي وَأبي نعيم وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر) ، بِزِيَاد: تبول، قبل: (تقبل وتدبر) . وستقف على معنى هَذِه الزِّيَادَة. قَوْله: (تقبل) جملَة فِي مَحل النصب على الخبرية إِن جعلت: كَانَت، نَاقِصَة. وَإِن جعلت تَامَّة بِمَعْنى: وجدت، كَانَ مَحل الْجُمْلَة النصب على الْحَال. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) حَال أَيْضا، وَالتَّقْدِير: حَال كَون الإقبال والإدبار فِي الْمَسْجِد، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد. اي: فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلم يَكُونُوا يرشون) من: رش المَاء، وَحكى ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ أَنه أبدل قَوْله: (يرشون) بِلَفْظ: (يرتقبون) ، بِإِسْكَان الرَّاء وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْقَاف بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَفسّر مَعْنَاهُ بقوله: (وَلَا يَخْشونَ) فصحف اللَّفْظ وَأبْعد فِي التَّفْسِير لِأَن معنى: الارتقاب: الِانْتِظَار. وَأما نفي الْخَوْف من نفي الارتقاب فَهُوَ تَفْسِير بِبَعْض لوازمه. قَوْله: (من ذَلِك) أَي من الْمَسْجِد، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْبعيد فِي الْمرتبَة، أَي: ذَلِك الْمَسْجِد الْعَظِيم الْبعيد دَرَجَته عَن فهم النَّاس.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: احْتج بِهِ البُخَارِيّ على طَهَارَة بَوْل الْكَلْب، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، فَإِن هَذَا التَّرْكِيب يشْعر باستمرار الإقبال والإدبار، وَلَفظ: فِي زمَان رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، دَال على عُمُوم جَمِيع الْأَزْمِنَة، إِذْ اسْم الْجِنْس الْمُضَاف من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة. وَفِي: (فَلم يَكُونُوا يرشون) مُبَالغَة، لَيْسَ فِي قَوْلك: فَلم يرشوا بِهِ، بِدُونِ لفظ: الْكَوْن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم} (الْأَنْفَال: 33) حَيْثُ لم يقل: وَمَا يعذبهم الله، وَكَذَا فِي لفظ الرش حَيْثُ اخْتَارَهُ على لفظ الْغسْل، لِأَن الرش لَيْسَ فِيهِ جَرَيَان المَاء، بِخِلَاف الْغسْل فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهِ الجريان، فنفي الرش يكون أبلغ من نفي الْغسْل، وَلَفظ: شَيْئا، أَيْضا عَام لِأَنَّهُ نكرَة وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي، وَهَذَا كُله للْمُبَالَغَة فِي طَهَارَة سؤره، إِذْ فِي مثل هَذِه الصُّورَة الْغَالِب أَن لعابه يصل إِلَى بعض أَجزَاء الْمَسْجِد، فَإِذا قرر الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ذَلِك وَلم يَأْمُرهُ بِغسْلِهِ قطّ علم أَنه طَاهِر، وَهَذَا كُله من ناصري البُخَارِيّ: وَالْجَوَاب أَن نقُول: لَا دلَالَة على ذَلِك، وَالَّذِي ذَكرُوهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَن طَهَارَة الْمَسْجِد متيقنة غير مَشْكُوك فِيهَا، وَالْيَقِين لَا يرفع بِالظَّنِّ، فضلا عَن الشَّك. وعَلى تَقْدِير دلَالَته فدلالته لَا تعَارض مَنْطُوق الحَدِيث النَّاطِق صَرِيحًا بِإِيجَاب الْغسْل حَيْثُ قَالَ: (فليغسله سبعا) . وَأما على رِوَايَة من رُوِيَ: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر) ، فَلَا حجَّة فِيهِ لمن اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة الْكلاب للاتفاق على نَجَاسَة بولها، وَتَقْرِير هَذَا أَن إقبالها وإدبارها فِي الْمَسْجِد ثمَّ لَا يرش، فَالَّذِي فِي رِوَايَته: تبول، يذهب إِلَى طَهَارَة بولها وَكَانَ الْمَسْجِد لم يكن يغلق وَكَانَت تَتَرَدَّد، وعساها كَانَت تبول إِلَّا أَن علم بولها فِيهِ لم يكن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عِنْد اصحابه وَلَا عِنْد الرَّاوِي أَي مَوضِع هُوَ، وَلَو كَانَ علم لأمر بِمَا أَمر فِي بَوْل الْأَعرَابِي، فَدلَّ ذَلِك أَن بَوْل مَا سواهُ فِي حكم النَّجَاسَة سَوَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: يتَأَوَّل على أَنَّهَا كَانَت لَا تبول فِي الْمَسْجِد بل فِي مواطنها وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد عابرة، إِذْ لَا يجوز أَن تتْرك الْكلاب تبات فِي الْمَسْجِد حَتَّى تمتهنه وتبول فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ إقبالها وإدبارها فِي أَوْقَات نادرة، وَلم يكن على الْمَسْجِد أَبْوَاب تمنع من عبورها فِيهِ. قلت: إِنَّمَا تَأَول الْخطابِيّ بِهَذَا التَّأْوِيل حَتَّى لَا يكون الحَدِيث حجَّة للحنفية فِي قَوْلهم، لِأَن أَصْحَابنَا استدلوا بِهِ على أَن الأَرْض إِذا أصابتها نَجَاسَة فجفت بالشمس أَو بالهواء فَذهب أَثَرهَا تطهر فِي حق الصَّلَاة، خلافًا للشَّافِعِيّ وَاحْمَدْ وزفرٍ، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أَبَا دَاوُد وضع لهَذَا الحَدِيث بَاب طهُور الأَرْض إِذا يَبِسَتْ، وَأَيْضًا قَوْله: فَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا، إِذْ عدم الرش يدل على جفاف الأَرْض وطهارتها، وَمن أكبر مَوَانِع تَأْوِيله أَن قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) لَيْسَ ظرفا لقَوْله: (وَتقبل وتدبر) وَحده، وَإِنَّمَا هُوَ ظرف لقَوْله: تبول. وَمَا بعده كلهَا، فَافْهَم.(3/44)
وَيُقَال: الْأَوْجه فِي هَذَا أَن يُقَال: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام على أصل الْإِبَاحَة ثمَّ، ورد الْأَمر بتكريم الْمَسْجِد وتطهيره وَجعل الْأَبْوَاب على الْمَسَاجِد.
الثَّانِي: أَن ابْن بطال قَالَ فِيهِ: إِن الْكَلْب طَاهِر لِأَن إقبالها وإدبارها فِي الْأَغْلَب يَقْتَضِي أَن تجر فِيهِ أنوفها وتلحس المَاء وفتات الطَّعَام، لِأَنَّهُ كَانَ مبيت الغرباء والوفود، وَكَانُوا يَأْكُلُون فِيهِ، وَكَانَ مسكن أهل الصّفة، وَلَو كَانَ الْكَلْب نجسا لمنع من دُخُول الْمَسْجِد لِاتِّفَاق الْمُسلمين على أَن الأنجاس تجنب الْمَسَاجِد، وَالْجَوَاب: عَنهُ مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا على طَهَارَة الأَرْض بجفاف النَّجَاسَة عَلَيْهَا، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
175 - حدّثنى حَفْصُ بنُ عُمَر قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنِ ابنِ أبي السَّفَرِ عَن الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بنِ حاتمِ قالَ سألْتُ النَّبيَّ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ فَقَتَل فَكُل وإذَا أكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَاِنَّمَا أمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأجِدُ مَعَهُ كَلْباً آخَرَ قالَ فَلا تَأْكُلْ فَاِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ولَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ..
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث ليستدل بِهِ لمذهبه فِي طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله: (وسؤر الْكَلْب) فِي أول الْبَاب.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: حَفْص بن عمر. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: ابْن أبي السّفر، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: اسْمه عبد الله، وَأَبُو السّفر اسْمه سعيد بن مُحَمَّد، وَيُقَال: أَحْمد الْهَمدَانِي الْكُوفِي. الرَّابِع: الشّعبِيّ، واسْمه عَامر كلهم ذكرُوا. الْخَامِس: عدي بن حَاتِم بن عبد الله الطَّائِي، أَبُو طريف، بِفَتْح الطَّاء: الْجواد بن الْجواد، قدم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة سبع، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا ثَلَاثَة، وَانْفَرَدَ مُسلم بحديثين. نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا زمن الْمُخْتَار، وَهُوَ ابْن عشْرين وَمِائَة سنة، وَيُقَال: مَاتَ بقرقيسيا، وَكَانَ أَعور، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي فِي (كتاب المعمرين) : قَالُوا عَاشَ عدي بن حَاتِم مائَة وَثَمَانِينَ سنة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع وَالصَّيْد والذبائح. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّيْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن الْمُنْذر.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى قَوْله: (قَالَ) أَي: عدي. قَوْله: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول ذكر المسؤول عَنهُ وَلم يذكر المسؤول، وَاكْتفى بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُ كَانَ يحْتَمل أَن يكون علم أصل الْإِبَاحَة، وَلكنه حصل عِنْده شكّ فِي بعض أُمُور الصَّيْد فَاكْتفى بِالْجَوَابِ، وَالتَّقْدِير: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حكم صيد الْكلاب، وَقد صرح البُخَارِيّ بِهِ فِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي كتاب الصَّيْد، وَيحْتَمل أَن يكون قَامَ عِنْده مَانع من الْإِبَاحَة الَّتِي علم أَصْلهَا وَقَالَ بَعضهم: حذف لفظ السُّؤَال اكْتِفَاء بِدلَالَة الْجَواب. قلت: الْمَحْذُوف لَيْسَ لفظ السُّؤَال، وَإِنَّمَا الْمَحْذُوف لفظ المسؤول، كَمَا قُلْنَا. قَوْله: (قَالَ فَقَالَ) فَاعل: قَالَ. الأولى هُوَ عدي، وفاعل: فَقَالَ، هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كلبك الْمعلم) قَالَ الْكرْمَانِي: الْمعلم هُوَ الَّذِي ينزجر بالزجر ويسترسل بِالْإِرْسَال وَلَا يَأْكُل من الصَّيْد لإمرة بل مرَارًا. قلت: كَون الْكَلْب معلما مفوض إِلَى رَأْي الْمعلم عَن ابي حنيفَة لانه يخْتَلف باخْتلَاف الاشخاص والاحوال وَعند ابي يُوسُف وَمُحَمّد بترك اكله ثَلَاث مَرَّات وَعند الشَّافِعِي بِالْعرْفِ، وَعند مَالك بالانزجار، وَأما اشْتِرَاط التَّعَلُّم فَلقَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} (الْمَائِدَة: 4) قَوْله: (فَقتل) أَي: فَقتل الكلبُ الصَيد، وطوى ذكر الْمَفْعُول للْعلم بِهِ. قَوْله: (فَلَا تَأْكُل) أَي: الصَّيْد الَّذِي أكل مِنْهُ الْكَلْب، وَعلل بقوله: (فَإِنَّمَا أمْسكهُ على نَفسه) ، و: الْفَاء، فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (قلت) : قَائِله: عدي، هُوَ سُؤال آخر.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن البُخَارِيّ احْتج بِهِ لمذهبه فِي طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أذن لعدي رَضِي الله عَنهُ، فِي أكل مَا صَاده الْكَلْب وَلم يُقيد ذَلِك بِغسْل مَوضِع فَمه، وَمن ثمَّ قَالَ مَالك: كَيفَ يُؤْكَل صَيْده وَيكون لعابه نجسا؟ وَأجَاب الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَن الحَدِيث سيق لتعريف أَن قَتله ذَكَاته وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَات نَجَاسَته وَلَا نَفيهَا، وَلذَلِك لم يقل لَهُ إغسل الدَّم إِذا خرج من جرح نابه، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون وكل إِلَيْهِ ذَلِك كَمَا تقرر عِنْده من وجوب غسل(3/45)
الدَّم، وَيدْفَع ذَلِك بِأَن الْمقَام مقَام التَّعْرِيف، وَلَو كَانَ ذَلِك وَاجِبا لبينه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه ارتباط هَذَا الحَدِيث بالترجمة على مَا فِي بعض النّسخ من لفظ: (وأكلها) ، بعد لفظ الْمَسْجِد كَمَا ذكر مَالك عِنْد قَوْله: (وسؤر الْكلاب وممرها فِي الْمَسْجِد) .
الثَّانِي: أَن فِي إِطْلَاق الْكَلْب دلَالَة لإباحة صيد جَمِيع الْكلاب المعلمة من الْأسود وَغَيرهَا، وَقَالَ أَحْمد: لَا يحل صيد الْكَلْب الْأسود لِأَنَّهُ شَيْطَان، وَإِطْلَاق الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الثَّالِث: أَن التَّسْمِيَة شَرط لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (فَإِنَّمَا سميت على كلبك) . اي: ذكرت اسْم الله تَعَالَى على كلبك عِنْد إرْسَاله، وَعلم من ذَلِك أَنه لَا بُد من شُرُوط أَرْبَعَة حَتَّى يحل الصَّيْد. الأول: الْإِرْسَال. وَالثَّانِي: كَونه معلما. وَالثَّالِث: الْإِمْسَاك على صَاحبه بِأَن لَا يَأْكُل مِنْهُ. وَالرَّابِع: أَن يذكر اسْم الله عَلَيْهِ عِنْد الْإِرْسَال. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي التَّسْمِيَة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا سنة فَلَو تَركهَا عمدا أَو سَهوا يحل الصَّيْد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: التَّسْمِيَة وَاجِبَة فَلَو تَركهَا سَهوا أَو عمدا لم يحل. وَقَالَ ابو حنيفَة: لَو تَركهَا عمدا لم يحل وَلَو تَركهَا سَهوا يحل، وسيجىء مزِيد الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الذَّبَائِح.
الرَّابِع: فِيهِ إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للاكتساب وَالْحَاجة وَالِانْتِفَاع بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيره وَدفع الشَّرّ وَالضَّرَر، وَاخْتلفُوا فِيمَن صَاد للهو والتنزه، فأباحه بَعضهم وَحرمه الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ مَالك: إِن فعله ليذكيه فمكروه، وَإِن فعله من عير نِيَّة التذكية فَحَرَام لِأَنَّهُ فَسَاد فِي الأَرْض وَإِتْلَاف نفس.
الْخَامِس: فِيهِ التَّصْرِيح بِمَنْع أكل مَا أكل مِنْهُ الْكَلْب.
السَّادِس: فِيهِ أَن مُقْتَضى الحَدِيث عدم الْفرق بَين كَون الْمعلم، بِكَسْر اللَّام، مِمَّن تحل ذَكَاته أَو لَا، وَذكر ابْن حزم فِي (الْمحلى) عَن قوم اشْتِرَاط كَونه مِمَّن تحل ذَكَاته، وَقَالَ قوم: لَا يحل صيد جارح علمه من لَا يحل أكل مَا ذكاه، وَرُوِيَ فِي ذَلِك آثَار: مِنْهَا عَن يحيى بن عَاصِم عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كره صيد باز الْمَجُوسِيّ وصقره. وَمِنْهَا: عَن ابْن الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا يُؤْكَل صيد الْمَجُوسِيّ وَلَا مَا أَصَابَهُ سَهْمه. وَمِنْهَا: عَن خصيف قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا تَأْكُل مَا صيد بكلب الْمَجُوسِيّ وان سميت، فَإِنَّهُ من تَعْلِيم الْمَجُوسِيّ، قَالَ تَعَالَى: {تعلمونهن مِمَّا علمكُم الله} (الْمَائِدَة: 4) وَجَاء هَذَا القَوْل عَن عَطاء وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَمُحَمّد وَابْن عَليّ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْإِرْسَال شَرط حَتَّى لَو استرسل بِنَفسِهِ يمْنَع من أكل صَيْده، وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: وَلَو أرسل كَلْبا حَيْثُ لَا صيد فاعترضه صيد فَأَخذه لم يحل على الْمَشْهُور عندنَا، وَقيل: يحل. ثمَّ إعلم أَن الصَّيْد حَقِيقَة فِي المتوحش، فَلَو استأنس فَفِيهِ خلاف الْعلمَاء على مَا ياتي فِي كتاب الصَّيْد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّامِن: الحَدِيث صَرِيح فِي منع مَا أكل مِنْهُ الْكَلْب، وَفِي حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فِي سنَن أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن: كُله وَإِن أكل مِنْهُ الْكَلْب. قلت: التَّوْفِيق بَين الحَدِيث بِأَن يَجْعَل حَدِيث أبي ثَعْلَبَة أصلا فِي الْإِبَاحَة، وَأَن يكون النَّهْي فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم على معنى التَّنْزِيه دون التَّحْرِيم قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ أَيْضا: وَيحْتَمل أَن يكون الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عدي، وَيكون النَّهْي عَن التَّحْرِيم الثَّابِت، فَيكون المُرَاد بقوله: وَإِن أكل مِنْهُ الْكَلْب، فِيمَا مضى من الزَّمَان وَتقدم مِنْهُ، لَا فِي هَذِه الْحَالة، وَذَلِكَ لِأَن من الْفُقَهَاء من ذهب الى أَنه إِذا أكل الْكَلْب الْمعلم من الصَّيْد مرّة، بعد أَن كَانَ لَا يَأْكُل، فَإِنَّهُ يحرم كل صيد كَانَ قد اصطاده، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كل مِنْهُ وَإِن كَانَ قد أكل فِيمَا تقدم إِذا لم يكن قد أكل مِنْهُ فِي هَذِه الْحَالة. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول ابي حنيفَة، وَأول بِهَذَا التَّأْوِيل ليَكُون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (إِذا أرْسلت كلابك المعلمة، وَذكرت اسْم الله تَعَالَى، فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب فَلَا تَأْكُل فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون إِنَّمَا أمسك على نَفسه (.
34 - (بابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إلاَّ مِنَ المَخْرجَيْنِ القُبُلِ والدُّبُرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من لم ير الْوضُوء إلاَّ من المخرجين، وَهُوَ تَثْنِيَة مخرج، بِفَتْح الْمِيم، وَبَين ذَلِك بطرِيق عطف الْبَيَان بقوله: (الْقبل والدبر) ، وَيجوز أَن يكون جرهما بطرِيق الْبَدَل، والقبل يتَنَاوَل الذّكر والفرج،، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: للْوُضُوء أَسبَاب أخر مثل النّوم وَغَيره، فَكيف حصر عَلَيْهِمَا؟ قلت: الْحصْر إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد الْخصم، إِذْ هُوَ رد لما اعتقده، وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَمَعْنَاه: من لم ير الْوضُوء من مخرج من مخارج الْبدن إلاَّ من هذَيْن المخرجين، وَهُوَ رد لمن راى أَن الْخَارِج من الْبدن بالفصد مثلا نَاقض الْوضُوء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لم ير الْوضُوء إلاَّ من المخرجين لَا من مخرج آخر كالفصد، كَمَا هُوَ اعْتِقَاد الشَّافِعِي. قلت: فِيهِ مناقشة من وُجُوه. الأول: أَنه جعل مثل النّوم سَببا للْوُضُوء، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن(3/46)
النّوم وَنَحْوه سَبَب لانتقاض الْوضُوء لَا للْوُضُوء، وَالَّذِي يكون سَببا لنفي شَيْء كَيفَ يكون سَببا لإثباته؟ الثَّانِي: قَوْله: بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد الْخصم لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ حصر بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد خصم الْخصم، والخصم لَا يَدعِي الْحصْر على المخرجين. الثَّالِث: إِن قَوْله: فَمَعْنَاه من لم ير الْوضُوء من مخرج ... إِلَى آخِره، يردهُ حكم من طعن فِي سرته وَخرج الْبَوْل والعذرة، تنْتَقض الطَّهَارَة عِنْد الْخصم أَيْضا، فَعلمنَا من هَذَا أَن احكم الْخَارِج من الْقبل والدبر وَغَيرهمَا سَوَاء فِي الحكم فَلَا يتَفَاوَت.
ثمَّ الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب السَّابِق فِي نفي النَّجَاسَة عَن شعر الْإِنْسَان وَعَن سُؤْر الْكَلْب، وَفِي هَذَا الْبَاب نفي انْتِقَاض الْوضُوء من الْخَارِج من غير المخرجين، وَأدنى الْمُنَاسبَة كَافِيَة.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ
هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا لما ادَّعَاهُ من الْحصْر على الْخَارِج من المخرجين، لِأَن عِنْدهم ينْتَقض الْوضُوء من لمس النِّسَاء وَمَسّ الْفرج، فَإِذا الْحصْر بَاطِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْغَائِط المطمئن من الأَرْض، فَيتَنَاوَل الْقبل والدبر، إِذْ هُوَ كِنَايَة عَن الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ مُطلقًا. قلت: تنَاوله الْقبل والدبر لَا يسْتَلْزم حصر الحكم على الْخَارِج مِنْهُمَا، فالآية لَا تدل على ذَلِك، لَان الله تَعَالَى أخبر أَن الْوضُوء، أَو التَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء، يجب بالخارج من السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على الْحصْر. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا دَلِيل الْوضُوء مِمَّا يخرج من المخرجين. قلت: نَحن نسلم ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم دعواك أَيهَا الْقَائِل: إِن هَذَا حصر على الْخَارِج مِنْهُمَا. وَقَالَ أَيْضا: {أَو لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء من ملامسة النِّسَاء: قلت: الْمُلَامسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْمس واللمس والغشيان والإتيان والقربان والمباشرة: الْجِمَاع، لكنه عز وَجل حَيّ كريم يعْفُو ويكني، فكنى باللمس عَن الْجِمَاع كَمَا كنى بالغائط عَن قَضَاء الْحَاجة، وَمذهب عَليّ بن أبي طَالب، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبيدَة السَّلمَانِي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَعبيدَة الضَّبِّيّ، بِضَم الْعين، وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: أَن اللَّمْس وَالْمُلَامَسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب أَيْضا على مَا نَقله أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَابْن الْجَزرِي، فَحِينَئِذٍ بَطل قَول هَذَا الْقَائِل: وَقَوله: {اَوْ لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء، بل هُوَ دَلِيل الْغسْل وَقَالَ أَيْضا: وَفِي مَعْنَاهُ مس الذّكر. قلت: هَذَا أبعد من الأول، فَإِن كَانَت الْمُلَامسَة بِمَعْنى الْجِمَاع، كَيفَ يكون مس الذّكر مثله؟ فَيلْزم من ذَلِك أَن يجب الْغسْل على من مس ذكره. وَقَوله: مَعَ صِحَة الحَدِيث، اي: فِي مس الذّكر. قلت: وَإِن كَانَ الحَدِيث فِيهِ صَحِيحا، قُلْنَا: أَحَادِيث وأخبار ترفع حكم هَذَا، كَمَا قَررنَا فِي مَوْضِعه فِي غير هَذَا الْكتاب.
وقالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ القَمْلَةِ يُعِيدُ الوُضُوءَ
عَطاء هُوَ ابْن ابي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقَالَ: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن ابْن جريج عَن عَطاء، فَذكره. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه ينْقض خُرُوج الْغَائِط من الدبر وَالْبَوْل من الْقبل وَالرِّيح من الدبر والمذي، قَالَ: وَدم الِاسْتِحَاضَة ينْقض فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء الْأَرْبَعَة. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي الدُّود يخرج من الدبر فَكَانَ عَطاء ابْن ابي رَبَاح وَالْحسن وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو مجلز وَالْحكم وسُفْيَان وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يرَوْنَ مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ قَتَادَة وَمَالك: لَا وضوء فِيهِ، روروي ذَلِك عَن النَّخعِيّ. وَقَالَ مَالك: لَا وضوء فِي الدَّم يخرج من الدبر. انْتهى. ونقلت الشَّافِعِيَّة عَن مَالك أَن النَّادِر لَا ينْقض، والنادر كالمذي يَدُوم لَا بِشَهْوَة فَإِن كَانَ بهَا فَلَيْسَ بنادر، وَكَذَا نقل ابْن بطال عَنهُ، فَقَالَ: وَعند مَالك أَن مَا خرج من المخرجين مُعْتَادا نَاقض، وَمَا خرج نَادرا على وَجه الْمَرَض لَا يقْض الْوضُوء: كالاستحاضة وسلس الْبَوْل ابو والمذي وَالْحجر والدود وَالدَّم. وَقَالَ ابْن حزم: الْمَذْي وَالْبَوْل وَالْغَائِط، من أَي مَوضِع خرجن من الدبر أَو الإحليل أَو المثانة أَو الْبَطن أَو غير ذَلِك من الْجَسَد أَو الْفَم، نَاقض للْوُضُوء لعُمُوم أمره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوضُوءِ مِنْهَا، وَلم يخص موضعا دون مَوضِع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالرِّيح الْخَارِجَة من ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء عندنَا، هَكَذَا ذكره الْكَرْخِي عَن أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة مفضاة، وَهِي الَّتِي صَار مَسْلَك بولها وَوَطئهَا وَاحِدًا، أَو الَّتِي صَار مَسْلَك الْغَائِط وَالْوَطْء مِنْهَا وَاحِدًا. وَعَن الْكَرْخِي: إِن الرّيح(3/47)
لَا يخرج من الذّكر وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاج. وَقيل: إِن كَانَت الرّيح مُنْتِنَة يجب الْوضُوء وَإِلَّا فَلَا، وَفِي (الذَّخِيرَة) : والدودة الْخَارِجَة من قبل الْمَرْأَة على هَذِه الْأَقْوَال. وَفِي (الْقَدُورِيّ) : توجب الْوضُوء، وَفِي الذّكر لَا تنقض وَإِن خرجت الدودة من الْفَم اَوْ الْأنف أَو الْأذن لَا تنقض.
وقالَ جابِر بنُ عَبْدِ اللَّهِ إذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أعادَ الصَّلاَةَ ولَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) عَن أبي عبد الله الْحَافِظ: حَدثنَا أَبُو الْحسن بن ماتي حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا: سُئِلَ جَابر فَذكره، وَرَوَاهُ أَبُو شيبَة. قَاضِي وَاسِط عَن يزِيد بن أبي خَالِد عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا، وَاخْتلف عَلَيْهِ فِي سنَنه وَالْمَوْقُوف هُوَ الصَّحِيح وَرَفعه ضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن عبد الله ابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء السَّبْعَة. وَقَالَ الشّعبِيّ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ: وَهُوَ إِجْمَاع فِيمَا ذكره ابْن بطال وَغَيره، وَإِنَّمَا الْخلاف: هَل ينْقض الْوضُوء؟ فَذهب مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه لَا ينْقض، وَذهب النَّخعِيّ وَالْحسن إِلَى أَنه ينْقض الْوضُوء وَالصَّلَاة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ مستدلين بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابي الْمليح عَن أَبِيه: (بَينا نَحن نصلي خلف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا أقبل رجل ضَرِير الْبَصَر، فَوَقع فِي حُفْرَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من ضحك مِنْكُم فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أنس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأبي هُرَيْرَة، وضعفها كلهَا. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة لَيْسَ كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا مذْهبه مثل مَا رُوِيَ عَن جَابر أَن الضحك يبطل الصَّلَاة وَلَا يبطل الْوضُوء، والقهقهة تبطلهما جَمِيعًا، والتبسم لَا يبطلهما، والضحك مَا يكون مسموعا لَهُ دون جِيرَانه، والقهقهة مَا يكون مسموعاً لَهُ ولجيرانه، والتبسم مَا لَا صَوت فِيهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ دون وَاحِد مِنْهُمَا. فان قَالَ: كَيفَ استدلت الحنيفة بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ الضحك دون القهقهة؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: من ضحك مِنْكُم قهقهة، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن عمر. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ضحك فِي الصَّلَاة قهقهة فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث بَقِيَّة: حَدثنَا أبي عَمْرو بن قيس عَن عَطاء عَن ابْن عمر، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. فان قيل: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح، فَإِن بَقِيَّة من عَادَته التَّدْلِيس. قلت: المدلس إِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا زَالَت تُهْمَة التَّدْلِيس، وَبَقِيَّة صرح بِالتَّحْدِيثِ وَهُوَ صَدُوق.
وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب أحد عشر حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا أَرْبَعَة مُرْسلَة وَسَبْعَة مُسندَة.
فَأول الْمَرَاسِيل حَدِيث ابي الْعَالِيَة الريَاحي، رَوَاهُ عَنهُ عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة عَن ابي الْعَالِيَة، وَهُوَ عدل ثِقَة: (أَن أعمى تردى فِي بِئْر وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ، فَضَحِك بعض من كَانَ يُصَلِّي مَعَه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأمر النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، من كَانَ ضحك مِنْهُم أَن يُعِيد الْوضُوء وَيُعِيد الصَّلَاة) ، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من جِهَة عبد الرَّزَّاق بِسَنَدِهِ، وَعبد الرَّزَّاق فَمن فَوْقه من رجال الصَّحِيح، وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه: رفيع ابْن مهْرَان الريَاحي الْبَصْرِيّ، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسنتَيْنِ، وَدخل على أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى خلف عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وروى لَهُ الْجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن رشد الْمَالِكِي: هُوَ مُرْسل صَحِيح، وَلم يقل الشَّافِعِي إلاَّ بإرساله، والمرسل عندنَا حجَّة وَكَذَا عِنْد مَالك، قَالَه أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ، وَكَذَا عَن أَحْمد، حكى ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق؛ وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا من طرق سَبْعَة مُتَّصِلَة، ذكرهَا جمَاعَة مِنْهُم ابْن الجوزى. وَالثَّانِي من الْمَرَاسِيل: مُرْسل الْحسن الْبَصْرِيّ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ أَيْضا مُرْسل صَحِيح. وَالثَّالِث: مُرْسل النَّخعِيّ، رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن النَّخعِيّ قَالَ: جَاءَ رجل ضَرِير الْبَصَر وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يُصَلِّي ... الحَدِيث. وَالرَّابِع: مُرْسل معبد الْجُهَنِيّ، رُوِيَ عَنهُ من طرق.
وَأول المسانيد حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَالثَّانِي: حَدِيث أنس بن مَالك، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طرق. وَالثَّالِث: حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة أبي أُميَّة عَن الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه قَالَ: إِذا قهقهه فِي الصَّلَاة أعَاد الْوضُوء وَأعَاد الصَّلَاة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَالرَّابِع: حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه(3/48)
قَالَ: (من ضحك فِي الصَّلَاة قرقرة فليعد الْوضُوء) . وَالْخَامِس: حَدِيث جَابر أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ. وَالسَّادِس: حَدِيث ابي الْمليح بن أُسَامَة، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. وَالسَّابِع: حَدِيث رجل من الْأَنْصَار: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يُصَلِّي، فَمر رجل فِي بَصَره سوء فتردى فِي بِئْر وَضحك طوائف من الْقَوْم، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ ضحك أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة) ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ بَعضهم حاكياً عَن ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه لَا ينْقض خَارج الصَّلَاة، وَاخْتلفُوا إِذا وَقع فِيهَا فَخَالف من قَالَ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ، وتمسكوا بِحَدِيث لَا يَصح، وحاشا أَصْحَاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الَّذين هم خير الْقُرُون، أَن يضحكوا بَين يَدي الله سُبْحَانَهُ خلف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: هَذَا الْقَائِل أعجبه هَذَا الْكَلَام المشوب بالطعن على الْأَئِمَّة الْكِبَار، وفساده ظَاهر من وجوده: الأول: كَيفَ يجوز التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود الْأَخْبَار الْمُشْتَملَة على مَرَاسِيل مَعَ كَونهَا حجَّة عِنْدهم. وَالثَّانِي قَوْله: تمسكوا بِحَدِيث لَا يَصح، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل تمسكوا بالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا وَإِن كَانَ بَعضهم قد ضعف مِنْهَا، فبكثرتها وَاخْتِلَاف طرقها ومتونها ورواتها تتعاضد وتتقوى على مَا لَا يخفى، وَمَعَ هَذَا فَإِن الروَاة الَّذين فِيهَا من الضُّعَفَاء على زعم الْخصم لَا يُسلمهُ من يعْمل بأحاديثهم، وَلم يسلم أحد من التَّكَلُّم فِيهِ. وَالثَّالِث: قَوْله: حاشا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِحجَّة فِي ترك الْعَمَل فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة، وَكَانَ يُصَلِّي خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة وَغَيرهم من الْمُنَافِقين والأعراب الْجُهَّال، وَهَذَا من بَاب حسن الظَّن بهم، وإلاَّ فَلَيْسَ الضحك كَبِيرَة، وهم لَيْسُوا من الصَّغَائِر بمعصومين وَلَا عَن الْكَبَائِر، على تَقْدِير كَونه كَبِيرَة، وَمَعَ هَذَا وَقع من الْأَحْدَاث فِي حَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هُوَ أَشد من هَذَا. وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور، بعد نَقله كَلَام ابْن الْمُنْذر الَّذِي ذَكرْنَاهُ: على أَنهم لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، بل خصوه بالقهقهة. قلت: هَذَا كَلَام من لَا ذوق لَهُ من دقائق التراكيب، وَكَيف لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، وَلَو لم يَأْخُذُوا مَا قَالُوا: الضحك يفْسد الصَّلَاة وَلَا خصوه بالقهقهة؟ فَإِن لَفظه القهقهة ذكر صَرِيحًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر صَرِيحًا. وَجَاء أَيْضا لفظ: القرقرة، فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن. وَقد ذكرناهما قَرِيبا، وَقد ذكرنَا أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
وقالَ الحَسَنُ: إنْ أخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وأظْفَارِهِ أوْ خَلعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَليْهِ
أَي قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، وَهَذِه مَسْأَلَتَانِ ذكرهمَا بِالتَّعْلِيقِ. التَّعْلِيق الأول: وَهُوَ قَوْله: (ان اخذ من شعره أَو اظفاره) أخرجه سعيد بن مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح مَوْصُولا، وَبِه قَالَ أهل الْحجاز وَالْعراق. وَعَن ابي الْعَالِيَة وَالْحكم وَحَمَّاد وَمُجاهد إِيجَاب الْوضُوء فِي ذَلِك، وَقَالَ عَطاء وَالشَّافِعِيّ وَالنَّخَعِيّ: يمسهُ المَاء. وَقَالَ اصحابنا الْحَنَفِيَّة: وَلَو حلق رأسة بعد الْوضُوء، أَو جزَّ شَاربه أَو قلَّم ظفره أَو قشط خفه بعد مَسحه فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن جرير: وَعَلِيهِ الْإِعَادَة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: عَلَيْهِ إمرار المَاء على ذَلِك الْموضع. وَالتَّعْلِيق الثَّانِي: وَصله ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام عَن يُونُس عَنهُ قَوْله: (اَوْ خلع خفيه) قيد بِالْخلْعِ لِأَنَّهُ إِذا أَخذ من خفيه بِمَعْنى قشط من مَوضِع الْمسْح فَلَا وضوء عَلَيْهِ، وَأما لَو خلع خفيه بعد الْمسْح عَلَيْهِمَا فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: فَقَالَ مَكْحُول وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يسْتَأْنف الْوضُوء، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي القَوْل الْقَدِيم. وَالْقَوْل الثَّانِي: يغسل رجلَيْهِ مَكَانَهُ فَإِن لم يفعل اسْتَأْنف الْوضُوء، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث. وَالثَّالِث: يغسلهما إِذا أَرَادَ الْوضُوء، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ فِي (الْجَدِيد) والمزني وَأَبُو ثَوْر. وَالرَّابِع: لَا شَيْء عَلَيْهِ وَيغسل كَمَا هُوَ، وَبِه قَالَ الْحسن وَقَتَادَة، وَرُوِيَ مثله عَن النَّخعِيّ.
وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ لاَ وُضُوءَ منْ حَدَثٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (الْأَحْكَام) بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث مُجَاهِد عَنهُ مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب (الطّهُور) بِلَفْظ (لَا وضوء إلاَّ من حدث أَو صَوت أَو ريح) . وَقَالَ بَعضهم: وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن سهل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا. قلت: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد غير مَا رُوِيَ عَن ابي هُرَيْرَة، وَخِلَافَة على مَا تقف عَلَيْهِ الْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: معنى (لَا وضوء إلاَّ من حدث) : لَا وضوء إلاَّ من الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ. قلت: الْحَدث أَعم من هَذَا، وكل وَاحِد من الْإِغْمَاء وَالنَّوْم وَالْجُنُون حدث، وَجَمِيع الْأَئِمَّة يَقُولُونَ: لَا وضوء إلاَّ من حدث؛ فَإِن اعْتمد الْكرْمَانِي فِي هَذَا(3/49)
التَّفْسِير على حَدِيث أبي دَاوُد الْمَرْفُوع، فَلَا يساعده ذَلِك، لِأَن لفظ حَدِيث أبي دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة فَوجدَ حَرَكَة فِي دبره أحدث أَو لم يحدث فأشكل عَلَيْهِ، فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . فالحدث هُنَا خَاص وَهُوَ: سَماع الصَّوْت أَو وجدان الرّيح. وَأثر أبي هُرَيْرَة عَام فِي سَائِر الْأَحْدَاث، لِأَن قَوْله: من حدث، لفظ عَام لَا يخْتَص بِحَدَث دون حدث.
ويُذْكَرُ عَنْ جابِرٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وسَجَدَ ومَضَى فِي صَلاَتِهِ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا الحَدِيث وَصله ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي، قَالَ: حَدثنِي صَدَقَة بن يسَار عَن عقيل ابْن جَابر عَن ابيه قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . يَعْنِي فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع فَأصَاب رجلٌ أمْرَأَة رجلٍ من الْمُشْركين، فَحلف أَن لَا أَنْتَهِي حَتَّى أهريق دَمًا فِي أَصْحَاب مُحَمَّد، فَخرج يتبع أثر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزلا فَقَالَ: من رجل يكلؤنا؟ فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَرجل من الْأَنْصَار، قَالَ: كونا بِفَم الشّعب. قَالَ: فَلَمَّا خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع الْمُهَاجِرِي وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، وأتى الرجل، فَلَمَّا رأى شخصه عرف أَنه ربيئة للْقَوْم، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه فِيهِ، ونزعه حَتَّى مضى ثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع وَسجد، ثمَّ انتبه صَاحبه، فَلَمَّا عرف أَنه قد نذروا بِهِ هرب، وَلما رأى الْمُهَاجِرِي مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من الدِّمَاء قَالَ: سُبْحَانَ الله أَلا أنبهتني أول مَا رمى؟ قَالَ: كنت فِي سُورَة أقرؤها فَلم أحب أَن اقطعها.
الثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث صَحِيح. أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَأحمد فِي (مُسْنده) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) كلهم من طَرِيق إِسْحَاق. فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلِمَ لم يجْزم بِهِ البُخَارِيّ؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: ذكره بِصِيغَة التمريض لِأَنَّهُ غير مجزوم بِهِ، بِخِلَاف قَوْله: قَالَ جَابر فِي الحَدِيث الَّذِي مضى هُنَا، لِأَن: قَالَ، وَنَحْوه تَعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح مَجْزُومًا بِهِ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي قَالَ فِيهِ: قَالَ جَابر، لَا يُقَاوم الحَدِيث على مَا وقفت عَلَيْهِ، وَكَانَ على قَوْله يَنْبَغِي ان يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ. وَقَالَ بَعضهم: لم يجْزم بِهِ لكَونه مُخْتَصرا. قلت: هَذَا أبعد من تَعْلِيل الْكرْمَانِي، فَإِن كَون الحَدِيث مُخْتَصرا لَا يسْتَلْزم أَن يذكر بِصِيغَة التمريض،، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: لأجل الِاخْتِلَاف فِي ابْن إِسْحَاق.
الثَّالِث فِي رِجَاله، وهم: صَدَقَة بن يسَار الْجَزرِي، سكن مَكَّة، قَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ ابو حَاتِم: صَالح، روى لَهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَعقيل، بِفَتْح الْعين: ابْن جَابر الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ، وَلم يعرف لَهُ راوٍ غير صَدَقَة وَجَابِر بن عبد الله بن عمر والأنصاري.
الرَّابِع: فِي لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع) سميت بإسم شَجَرَة هُنَاكَ، وَقيل: باسم جبل هُنَاكَ فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد وَحُمرَة، يُقَال لَهُ: الرّقاع، فسميت بِهِ. وَقيل: سميت بِهِ لرقاع كَانَت فِي أَلْوِيَتهم. وَقيل: سميت بذلك لِأَن أَقْدَامهم نقبت فلفوا عَلَيْهَا الْخرق، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِأَن أَبَا مُوسَى حَاضر ذَلِك مُشَاهدَة وَقد أخبر بِهِ، وَكَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة أَربع من الْهِجْرَة. وَذكر البُخَارِيّ أَنَّهَا كَانَت بعد خَيْبَر، لِأَن أَبَا مُوسَى جَاءَ بعد خَيْبَر. قَوْله: (حَتَّى أهريق) أَي: أريق، وَالْهَاء فِيهِ زَائِدَة. قَوْله: (أثر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز بِكَسْرِهَا وَسُكُون الثَّاء. قَوْله: (من رجل) ، كلمة: من، استفهامية أَي: أَي رجل يكلؤنا؟ اي: يحرسنا؟ من كلأ يكلأ كلاءة، من بَاب: فتح يفتح. كلأته أكلؤه فَأَنا كالىء، وَهُوَ مكلوء. وَقد تخفف همزَة الكلاءة وتقلب يَاء فَيُقَال: كلاية. قَوْله: (فَانْتدبَ) ، يُقَال نَدبه لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ لَهُ اي: دَعَا لَهُ فَأجَاب، وَالرجلَانِ هما: عمار بن يَاسر وَعباد بن بشر. وَيُقَال الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ عمَارَة بن حزم، وَالْمَشْهُور الأول. قَوْله: (الشّعب) ، بِكَسْر الشين: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَجمعه شعاب. قَوْله: (وَقَامَ الْأنْصَارِيّ) ، وَهُوَ عباد بن بشر. قَوْله: (ربيئة) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ الْعين والطليعة الَّذِي ينظر للْقَوْم لِئَلَّا يدهمهم عَدو، وَلَا يكون إلاَّ على جبل أَو شرف ينظر مِنْهُ، من: ربأ يربأ من بَاب: فتح يفتح. قَوْله: (فَرَمَاهُ) ، الضَّمِير الْمَرْفُوع يرجع إِلَى الْمُشرك، والمنصوب إِلَى الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (حَتَّى مضى ثَلَاثَة أسْهم) اي: حَتَّى كمل ثَلَاثَة أسْهم. قَوْله: (قد نذروا بِهِ) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: أَي علمُوا وأحسوا بمكانه. قَوْله: (أَلا انبهتني) كلمة: ألاَّ، بِفَتْح الْهمزَة وَالتَّخْفِيف بِمَعْنى الْإِنْكَار، فَكَأَنَّهُ أنكر عَلَيْهِ عدم إنباهه، وَيجوز بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد، وَيكون بِمَعْنى: هلا، بِمَعْنى اللوم والعتب على ترك الإنباه. قَوْله: (كنت فِي سُورَة أقرؤها) ، وَكَانَت سُورَة الْكَهْف، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (فنزفه الدَّم) ،(3/50)
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِفَتْح الزَّاي، وبالفاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال نزفه الدَّم إِذا خرج مِنْهُ دم كثير حَتَّى يضعف، فَهُوَ نزيف ومنزوف، وَقَالَ ابْن التِّين: هَكَذَا روينَاهُ، وَالِدي عِنْد أهل اللُّغَة: نزف دَمه، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَيْن: سَالَ دَمه. وَقَالَ ابْن جني: أنزفت الْبِئْر وأنزفت هِيَ، جَاءَ مُخَالفا للْعَادَة. وَفِي (الْمُحكم) : أنزفت الْبِئْر: نزحت. وَقَالَ ابْن طَرِيق: تَمِيم تَقول: أنزفت، وَقيس تَقول: نزفت، ونزفه الْحجام ينزفه وينزفه: أخرج دَمه كُله، ونزفه الدَّم، وَإِن شِئْت قلت: أنزفه، وَحكى الْفراء: أنزفت الْبِئْر: ذهب مَاؤُهَا.
الْخَامِس فِي استنباط الاحكام مِنْهُ احْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث: أَن خُرُوج الدَّم وسيلانه من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الْوضُوء، فَإِنَّهُ لَو كَانَ ناقضاً للطَّهَارَة لكَانَتْ صَلَاة الْأنْصَارِيّ بِهِ تفْسد أول مَا أَصَابَهُ الرَّمية، وَلم يكن يجوز لَهُ بعد ذَلِك أَن يرْكَع وَيسْجد وَهُوَ مُحدث، وَاحْتج أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة بِأَحَادِيث كَثِيرَة أقواها وأصحها مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم. قَالَ هِشَام: قَالَ أبي: ثمَّ توضيء لكل صَلَاة حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت) . لَا يُقَال: قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل صَلَاة) ، من كَلَام عُرْوَة، لِأَن التِّرْمِذِيّ لم يَجعله من كَلَام عُرْوَة وَصَححهُ. وَأما احتجاج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بذلك الحَدِيث فمشكل جدا، لِأَن الدَّم إِذا سَالَ أصَاب بدنه وَجلده، وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه وَمن نزل عَلَيْهِ الدِّمَاء مَعَ إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ يَسِيرا لَا تصح صلَاته عِنْدهم، وَلَئِن قَالُوا: إِن الدَّم كَانَ يخرج من الْجراحَة على سَبِيل الزرق حَتَّى لَا يُصِيب شَيْئا من ظَاهر بَدَنَة إِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَمر عَجِيب وَهُوَ بعيد جدا، وَقَالَ الْخطابِيّ: لست أَدْرِي كَيفَ يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالدَّم إِذا سَالَ يُصِيب بدنه وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه، وَمَعَ إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ يَسِيرا. لَا تصح صلَاته، وَقَالَ بَعضهم: وَلَو لم يظْهر الْجَواب عَن كَون الدَّم أَصَابَهُ فَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ كَانَ يرى أَن خُرُوج الدَّم فِي الصَّلَاة لَا يبطل، بِدَلِيل أَنه ذكر عقيب هَذَا الحَدِيث اثر الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: مَا زَالَ الْمُسلمُونَ يصلونَ فِي جراحاتهم. قلت: هَذَا أعجب من الْكل وَأبْعد من الْعقل، وَكَيف يجوز هَذَا الْقَائِل نِسْبَة جَوَاز الصَّلَاة مَعَ خُرُوج الدَّم فِيهَا مَعَ غير دَلِيل قوي إِلَى البُخَارِيّ؟ وَأثر الْحسن لَا يدل على شَيْء من ذَلِك أصلا، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من قَوْله: (يصلونَ فِي جراحاتهم) ، أَن يكون الدَّم خَارِجا وقتئذ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة لأَجلهَا بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء، أَو مربوطة بجبيرة، وَمَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك تفْسد صلَاته بِمُجَرَّد الْخُرُوج، وَلَا بُد من سيلانه ووصوله إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير.
وَقَالَ الحَسَنُ مَا زَال المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحاتِهِمْ
اي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَمَعْنَاهُ يصلونَ فِي جراحاتهم من غير سيلان الدَّم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن هِشَام عَن يُونُس عَن الْحسن: أَنه كَانَ لَا يرى الْوضُوء من الدَّم إلاَّ مَا كَانَ سَائِلًا، هَذَا الَّذِي رُوِيَ عَن الْحسن بِإِسْنَاد صَحِيح هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، وَحجَّة لَهُم على الْخصم، فَبَطل بذلك قَول الْقَائِل الْمَذْكُور، وَلَو لم يظْهر الْجَواب ... إِلَى آخِره، وَلم يكن المُرَاد من أثر الْحسن مَا ذهب إِلَيْهِ فهمه بل وهمه، فَذَلِك مَعَ علمه ووقوفه على الَّذِي رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) الْمَذْكُور تَركه، وَلم يذكرهُ لكَونه يرد عَلَيْهِ مَا ذهب إِلَيْهِ، وَيبْطل مَا اعْتمد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْن المنصفين وَإِنَّمَا هَذَا دأب المعاندين المعتصبين الَّذِي يدقون الْحَدِيد الْبَارِد على السندان.
وقالَ طَاوُسٌ ومُحمَّدُ بنُ عَلِيٍّ وأهْلُ الحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ
طَاوس هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي، أحد الْأَعْلَام التَّابِعين وَخيَار عباد الله الصَّالِحين. قَالَ يحيى بن معِين: اسْمه ذكْوَان، وَسمي طاوساً لِأَنَّهُ كَانَ طَاوس الْقُرَّاء، وَوصل أَثَره ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة عَن طَاوس أَنه كَانَ لَا يرى فِي الدَّم السَّائِل وضوء يغسل مِنْهُ الدَّم ثمَّ حَبسه، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة لَهُم لأَنهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِفعل التَّابِعِيّ، وَلَا هُوَ حجَّة على الْحَنَفِيَّة من وَجْهَيْن: الأول: أَنه لَا يدل على أَن طاوساً كَانَ يُصَلِّي وَالدَّم سَائل. وَالثَّانِي: وَإِن سلمنَا ذَلِك، فالمنقول عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول: التابعون رجال وَنحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم، وَالْمعْنَى أَن أحدا مِنْهُم إِذا أدّى(3/51)
اجْتِهَاده إِلَى شَيْء لَا يلْزمنَا الْأَخْذ بِهِ، بل نجتهد كَمَا اجْتهد هُوَ، فَمَا أدّى اجتهادنا إِلَيْهِ عَملنَا بِهِ وَتَركنَا اجْتِهَاده. واما مُحَمَّد بن عَليّ فَهُوَ: مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ، الْهَاشِمِي الْمدنِي، أَبُو جَعْفَر الْمَعْرُوف: بالباقر، سمي بِهِ لِأَنَّهُ بقر الْعلم أَي: شقَّه بِحَيْثُ عرف حقائقه، وَهُوَ أحد الْأَعْلَام التَّابِعين الأجلاء، وروى هَذَا مَوْصُولا فِي (فَوَائِد) الْحَافِظ أبي بشر الْمَعْرُوف بسمويه، من طَرِيق الْأَعْمَش، قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر الباقر عَن الرعاف، فَقَالَ: لَو سَالَ نهر من دم مَا أعدت مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا مُحَمَّد بن عَلَيْهِ الْمَشْهُور بِابْن الحنيفة، وَالظَّاهِر الاول. وَاعْلَم أَن جَمِيع مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ بِحجَّة على الْحَنَفِيَّة، فَإِن كَانَ من أَقْوَال الصَّحَابَة فَكل وَاحِد لَهُ تَأْوِيل ومحمل صَحِيح، وَإِن كَانَ من قَول التَّابِعين فَلَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِم، لما ذكرنَا عَن ابي حنيفَة الْآن. وَأما عَطاء فَهُوَ ابْن أبي رَبَاح وأثره وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ. قَوْله: (وَأهل الْحجاز) من عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن طاوساً وَمُحَمّد بن عَليّ وَعَطَاء حجازيون، وَغير هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مثل سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ، وَخَالفهُم أَبُو حنيفَة، وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: إلاَّ أَن يكون دَمًا سَائِلًا، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. قَالَ ابو عمر: وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَعبيد الله بن الْحسن وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَإِن كَانَ الدَّم يَسِيرا غير خَارج وَلَا سَائل فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء عِنْد جَمِيعهم، وَمَا أعلم أحدا أوجب الْوضُوء من يسير الدَّم إلاَّ مُجَاهدًا وَحده.
وعَصَر ابنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ ولَمْ يَتَوضَّا
وَصله ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا عبد الْوَهَّاب حَدثنَا سُلَيْمَان بن التَّيْمِيّ عَن بكر، قَالَ: (رَأَيْت ابْن عمر عصر بثرة فِي وَجهه فَخرج مِنْهَا شَيْء من دم، فحكه بَين إصبعيه ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ) . (البثرة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتحهَا وَهُوَ خَرّاج صَغِير. يُقَال: بثر وَجهه، وَهَذَا الْأَثر حجَّة للحنفية، لِأَن الدَّم الْخَارِج بالعصر لَا ينْقض الْوضُوء عِنْدهم لِأَنَّهُ مخرج، والنقض يُضَاف إِلَى الْخَارِج دون الْمخْرج كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتبهمْ، فَإِن فَرح أحد من الْخُصُوم أَنه حجَّة على الْحَنَفِيَّة فَهِيَ فرحة غير مستمرة.
وبَزَقَ ابنُ أبي أوْفَى دَماً فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ
ابْن أبي أوفى: اسْمه عبد الله، وَأَبُو أوفى اسْمه: عَلْقَمَة بن الْحَارِث الصَّحَابِيّ بن الصَّحَابِيّ، شهد بيعَة الرضْوَان وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ سنة سبع وَثَمَانِينَ، وَقد كف بَصَره، وَهُوَ أحد من رَآهُ أَبُو حنيفَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الْمُنكر المتعصب: وَكَانَ عمر أبي حنيفَة حِينَئِذٍ سبع سِنِين، وَهُوَ سنّ التَّمْيِيز. هَذَا على الصَّحِيح إِن مولد أبي حنيفَة سنة ثَمَانِينَ، وعَلى قَول من قَالَ: سنة سبعين، يكون عمره حِينَئِذٍ سَبْعَة عشر سنة، ويستبعد جدا أَن يكون صَحَابِيّ مُقيما ببلدة، وَفِي أَهلهَا من لَا يكون رَآهُ وَأَصْحَابه أخبر بِحَالهِ وهم ثِقَات فِي أنفسهم قَوْله: (بزق) ، بالزاي وَالسِّين وَالصَّاد: بِمَعْنى وَاحِد، وَهَذَا الْأَثر وَصله سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي (جَامعه) عَن عَطاء بن السَّائِب أَنه رَآهُ يفعل ذَلِك، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد جيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: رَأَيْت ابْن أبي أوفى بزق دَمًا هُوَ يُصَلِّي ثمَّ مضى فِي صلَاته، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة لَهُم علينا، لِأَن الدَّم الَّذِي يخرج من الْفَم، إِن كَانَ من جَوْفه فَلَا ينْقض وضوءه، وَإِن كَانَ من بَين أَسْنَانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق وَالدَّم، وَلم يتَعَرَّض الرَّاوِي لذَلِك، فَلم يبْق حجَّة. وَالْحكم بالغلبة لَهُ أصل وروى ابْن أبي شيبَة عَن الْحسن فِي رجل بزق فَرَأى فِي بزاقه دَمًا أَنه لم يرد ذَلِك شَيْئا حَتَّى يكون عبيطاً، وَرُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه رُبمَا بزق فَيَقُول لرجل: أنظر هَل تغير الرِّيق؟ فَإِن تغير، بزق الثَّانِيَة، فان كَانَ فِي الثَّانِيَة متغيراً فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ، وَإِن لم يكن فِي الثَّانِيَة متغيراً لم ير وضوأً. قلت: التَّغَيُّر لَا يكون إلاَّ بالغلبة.
وقالَ ابنُ عُمَرَ والَحسنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ غَسْلُ مَحاجِمِهِ(3/52)
عبد الله بن عمر وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَهَذَانِ رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا ابْن نمير حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَنه كَانَ إِذا احْتجم غسل أثر محاجمه) . وَحدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الْحسن وَابْن سِيرِين (أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ بِغسْل أثر المحاجم) . وَلما ذكر ابْن بطال فِي شَرحه أثر ابْن عمر وَالْحسن. قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي وَحده بِإِثْبَات: إلاَّ، وَرَوَاهُ الْكشميهني، وَأكْثر الروَاة بِغَيْر: إلاَّ، ثمَّ قَالَ: وَرِوَايَة الْمُسْتَمْلِي هِيَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومقصودهم من تَصْحِيح هَذِه الرِّوَايَة إِلْزَام الْحَنَفِيَّة، وَلَا يصعد ذَلِك مَعَهم لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَأَوْا فِيهِ الْغسْل، مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَعلي بن أبي طَالب، وروته عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بأسانيد جِيَاد، وَهُوَ مَذْهَب مُجَاهِد أَيْضا، وَأَيْضًا فالدم الَّذِي يخرج من مَوضِع الْحجامَة مخرج وَلَيْسَ بِخَارِج، والنقض يتَعَلَّق بالخارج كَمَا ذكرنَا، فَإِذا احْتجم وَخرج الدَّم فِي المحجم بمص الْحجام وَلم يسل وَلم يلْحق إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير، فعلى الأَصْل الْمَذْكُور لَا ينْتَقض وضوؤه، وَلَكِن لَا بُد من غسل مَوضِع الْحجامَة، وَالْمَقْصُود إِزَالَة ذَلِك من مَوضِع الْحجامَة بِأَيّ شَيْء كَانَ، وَلَا يتَعَيَّن المَاء، وَفِي (الْمحلى) فِي أثر ابْن عمر: غسله بحصاة فَقَط، وَعَن اللَّيْث: يجْزِيه أَن يمسحه وَيُصلي وَلَا يغسلهُ، فَهَذَا يدل على أَن المُرَاد إِزَالَة ذَلِك. قَوْله: (محاجمه) جمع محجمة، بِفَتْح الْمِيم: مَكَان الْحجامَة، وبكسر الْمِيم: اسْم القارورة، وَالْمرَاد هَهُنَا الأول.
176 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كانَ فِي الَمسْجِدِ ينْتَظِرُ الصَّلاَةَ مَا لمْ يُحْدِثْ فقالَ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ مَا الحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ الصَّوْتُ يَعْنِي الضَّرْطَةَ.
اقول: إِن كَانَ البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا للرَّدّ على أحد مِمَّن هُوَ معود بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَغير مُنَاسِب، لِأَن حكم هَذَا الحَدِيث مجمع عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف. وَإِن كَانَ لأجل مطابقته لترجمة الْبَاب فَلَيْسَ كَذَلِك أَيْضا، لِأَنَّهُ دَاخل فِيمَن يرى الْوضُوء من المخرجين، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح: وَالْبُخَارِيّ سَاقه لأجل تَفْسِير أبي هُرَيْرَة بالضرطة، وَهُوَ إِجْمَاع. قلت: لم يتَأَمَّل هَذَا مَا قَالَه، لِأَن الْبَاب مَا عقد لَهُ، وَلَا لَهُ مُنَاسبَة هُنَا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم قد ذكرُوا، وَابْن أبي ذِئْب: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه: هِشَام بن شُعْبَة، وَسَعِيد بن أبي سعيد المقبرى، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا، وَقيل: بِكَسْرِهَا أَيْضا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ آدم فَإِنَّهُ أَيْضا دخل الْمَدِينَة.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا يزَال العَبْد فِي صَلَاة) اي: فِي ثَوَاب صَلَاة. قَوْله: (فِي صَلَاة) خبر: لَا يزَال. قَوْله: (مَا كَانَ فِي مَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا دَامَ فِي مَسْجِد) . قَوْله: (ينْتَظر) : إِمَّا خبر للْفِعْل النَّاقِص، وَإِمَّا حَال. و (فِي الْمَسْجِد) خَبره، وَإِنَّمَا نكر الصَّلَاة وَعرف الْمَسْجِد لِأَنَّهُ قصد بالتنكير التنويع، ليعلم أَن المُرَاد نوع صلَاته الَّتِي ينتظرها، مثلا لَو كَانَ فِي انْتِظَار صَلَاة الظّهْر كَانَ فِي صَلَاة الظّهْر، وَفِي انْتِظَار الْعَصْر كَانَ فِي صَلَاة الْعَصْر، وهلم جراً. وَأما تَعْرِيف الْمَسْجِد فَظَاهر، لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْمَسْجِد الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ الْإِضْمَار، تَقْدِيره: لَا يزَال العَبْد فِي ثَوَاب صَلَاة ينتظرها مَا دَامَ ينتظرها، والقرينة لفظ الِانْتِظَار، وَلَو كَانَ يجْرِي على ظَاهره لم يكن لَهُ أَن يتَكَلَّم، وَلَا أَن يَأْتِي بِمَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة. قَوْله: (مَا لم يحدث) أَي: مَا لم يَأْتِ بِالْحَدَثِ. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة زمانية، وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام. عدم الْحَدث، كَمَا قَوْله تَعَالَى: {مَا دمت} (مَرْيَم: 31) أَي: مُدَّة دوامي {حَيا} (مَرْيَم: 31) فَحذف الظّرْف وخلفته: مَا، وصلتها. قَوْله: (أعجمي) نِسْبَة إِلَى الْأَعْجَم، كَذَا قيل، وَهُوَ الَّذِي لَا يفصح وَلَا يبين كَلَامه وَإِن كَانَ من الْعَرَب، والعجم خلاف الْعَرَب، وَالْوَاحد أعجمي. وَقَالَ ابْن الاثير: كل من لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ اعجم ومستعجم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لَا نقل: رجل أعجمي، فتنسبه إِلَى نَفسه إلاَّ أَن يكون أعجم؛ وأعجمي بِمَعْنى مثل: دوار ودواري. قلت: فهم من كَلَامه أَن الْيَاء فِي: أعجمي، لَيست للنسبة، كَمَا قَالَ بَعضهم، وَإِنَّمَا هِيَ للْمُبَالَغَة. قَوْله: (فَقَالَ رجل) إِلَى آخِره: مدرج من سعيد.
بَيَان اسنتباط الاحكام الأول فِيهِ فضل انْتِظَار الصَّلَاة، لِأَن انْتِظَار الْعِبَادَة عبَادَة. الثَّانِي: فِيهِ أَن من يتعاطى أَسبَاب(3/53)
الصَّلَاة يُسمى مُصَليا. الثَّالِث: فِيهِ أَن هَذِه الْفَضِيلَة الْمَذْكُورَة لمن لَا يحدث. وَقَوله: (مَا لم يحدث) أَعم من أَن يكون فسَاء اَوْ ضراطاً أَو غَيرهم من نواقض الْوضُوء من الْمجمع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْحَدث لَيْسَ منحصراً فِي الضرطة. قلت: المُرَاد الضرطة وَنَحْوهَا من الفساء وَسَائِر الخارجات من السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا خصص بهَا لِأَن الْغَالِب أَن الْخَارِج مِنْهُمَا فِي الْمَسْجِد لَا يزِيد عَلَيْهَا. قلت: السُّؤَال عَام وَالْجَوَاب خَاص، وَيَنْبَغِي أَن يُطَابق الْجَواب وَالسُّؤَال، وَلَكِن فهم أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مَقْصُود هَذَا السَّائِل الْحَدث الْخَاص، وَهُوَ الَّذِي يَقع فِي الْمَسْجِد حَالَة الِانْتِظَار، وَالْعَادَة أَن ذَلِك لَا يكون إلاَّ الضرطة، فَوَقع الْجَواب طبق السُّؤَال، وإلاَّ فأسباب النَّقْض كَثِيرَة.
177 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عَن الزُّهْريِّ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لاَ يَنْصَرفْ حَتى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدَ رِيحاً.
(انْظُر الحَدِيث 137 وطرفه) .
قَالَ بَعضهم: أورد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا لظُهُور دلَالَته على حصر النَّقْض بِمَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ. قلت: هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عبد الله بن زيد، وَهُوَ جَوَاب للرجل الَّذِي شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة، حَتَّى يخيل إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، وَهُوَ جَوَاب مُطَابق للسؤال، لِأَن سُؤَاله عَن هَذَا وَهُوَ فِي حَالَة الصَّلَاة، وَفِي حَالَة الصَّلَاة لَا يُوجد غَالِبا إلاَّ ضراط أَو فسَاء. فَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ لَا ينْصَرف حَتَّى يجد أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا حصر النَّقْض بِمَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ، فالقائل الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام نصْرَة البُخَارِيّ وتوجيه وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لما ذكره، فَلَيْسَ بِشَيْء.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد: هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، هَذَا الَّذِي قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِمْ هِشَام بن عمار، ويكنى بِأبي الْوَلِيد، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة، ويروي عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبَّاد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: عَمه عبد الله بن زيد الْمَازِني رَضِي، الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله وَأبي الْوَلِيد، فرقهما. وَفِي الْبيُوع عَن أبي نعيم. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد ابْن أَحْمد بن أبي خلف. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن صباح، عشرتهم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعباد بن تَمِيم عَن عَمه عَن عبد الله بن زيد بِهِ.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا ينْصَرف) أَي: الْمُصَلِّي عَن صلَاته، لِأَن تَمام الحَدِيث: (شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرجل يخيل إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . وَفِي رِوَايَة (لَا ينفلت) بِمَعْنى: لَا ينْصَرف، وَكلمَة: حَتَّى، للغاية. وَكلمَة: ان، مقدرَة بعْدهَا، وَإِنَّمَا ذكر شَيْئَيْنِ وهما: سَماع الصَّوْت ووجدان الرَّائِحَة، حَتَّى يتَنَاوَل الْأَصَم والأخشم، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك حَتَّى يستيقن.
178 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنِ الاَعْمش عَنْ مُنْذِرٍ أبي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ كنْتُ رَجُلاً مَدَّاءً فاسْتَحيَيْتُ أنَ أسْألَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ الاَسْوَدِ فَسَألَهُ فقالَ فِيهِ الوُضُوءُ.
(انْظُر الحَدِيث: 132 وطرفه) .
تقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى: فِي آخر كتاب الْعلم، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَذكر الْكل فِيمَا مضى. وَقَالَ بَعضهم: أورد البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب هَذَا الحَدِيث لدلالته على إِيجَاب الْوضُوء من الْمَذْي. وَهُوَ خَارج من أحد المخرجين. قلت: هَذَا مجمع عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة. فَافْهَم.
وَرَواهُ شُعْبَةُ عَنِ الاَعْمَشِ(3/54)
أَي: روى هَذَا الحَدِيث شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن مُنْذر إِلَى آخِره. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن خَالِد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، والمذاء على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ يَعْنِي: كثير الْمَذْي.
179 - حدّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَ عَنْ أبي سَلمَةَ أَن عطَاءَ بن يَسَارٍ أخْبرهُ أنّ زَيْدَ بنَ خالِدٍ أخْبرَهُ أنّهُ سَألَ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ رَضِي الله عنهُ قُلْتُ أرَأيْتَ إِذا جامَع فَلَمْ يُمْنِ قالَ عُثْمانُ يَتَوَضَّأُكما يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ويَغْسِلُ ذَكَرَهُ قالَ عُثْمانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَألْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ وأَبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله عنْهُمْ فأمَرُوْهُ بذَلِكَ.
(الحَدِيث 179 طرفه فِي: 292) .
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته للتَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ مُنَاسِب لجزء من التَّرْجَمَة، إِذْ هُوَ يدل على وجوب الْوضُوء من الْخَارِج من الْمخْرج الْمُعْتَاد. نعم لَا يدل على الْجُزْء الآخر وَهُوَ عدم الْوُجُوب فِي غَيره، وَلَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة، بل لَو دلّ الْبَعْض على الْبَعْض بِحَيْثُ لَا يدل كل مَا فِي الْبَاب على كل التَّرْجَمَة لصَحَّ التَّعْبِير بهَا. قلت: نعم لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي البا إِلَى آخِره، لَكِن الحَدِيث مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع فَلَا يُنَاسِبه التَّرْجَمَة لِأَن الْبَاب مَعْقُود فِيمَن لم ير الْوضُوء إلاَّ من المخرجين وَهَهُنَا لَا خلاف فِيهِ.
بَيَان رِجَاله الْمَذْكُورين فِيهِ وهم أحد عشر رجلا. الأول: سعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي، بالمهملتين: الْكُوفِي. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، أَبُو مُعَاوِيَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف التَّابِعِيّ، وكل هَؤُلَاءِ تقدمُوا فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: الْمدنِي، مر فِي بَاب كفران العشير. السَّادِس: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الْمدنِي الصَّحَابِيّ، تقدم فِي بَاب الْغَضَب فِي الموعظة. السَّابِع: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بَاب الْوضُوء ثَلَاثًا، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة هم الصَّحَابَة المشهورون.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة والإخبار وَالسُّؤَال وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين: إثنان من كبار التَّابِعين، وهما أَبُو سَلمَة وَعَطَاء، وَالثَّالِث تَابِعِيّ صَغِير وَهُوَ: يحيى بن أبي كثير، وَالثَّلَاثَة على نسق وَاحِد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ صحابيين يرْوى أَحدهمَا عَن الآخر وهما: زيد بن ابي خَالِد وَعُثْمَان بن عَفَّان. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره وَأخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن سعد بن حَفْص عَن شَيبَان، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن حُسَيْن الْمعلم كِلَاهُمَا، عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن يسَار عَنهُ بِهِ، زَاد فِي حَدِيث حُسَيْن عَن يحيى، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ان عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ أَن أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخبرهُ أَنه سمع ذَلِك من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حميد وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه عَن حُسَيْن الْمعلم بِهِ، وَذكر الزِّيَارَة الَّتِي فِي آخِره عَن عبد الْوَارِث ابْن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه عَن جده.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (قلت) ، بِصِيغَة الْمُتَكَلّم، وَإِنَّمَا لم يقل: قَالَ كَمَا قَالَ إِنَّه سَأَلَ، لِأَن فِيهِ نوع من محَاسِن الْكَلَام لِأَن فِيهِ اعتبارين وهما عبارتان عَن أَمر وَاحِد فَفِي الأول نظر إِلَى جَانب الْغَيْبَة، وَفِي الثَّانِي إِلَى جَانب الْمُتَكَلّم. قَوْله: (أَرَأَيْت) مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي، ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْت أَنه يتوضؤ. قَوْله: (فَلم يمن) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف: من الإمناء، عَلَيْهِ الرِّوَايَة، وَفِيه لُغَة ثَانِيَة: فتح الْيَاء، وثالثة: ضم الْيَاء مَعَ فتح الْمِيم وَتَشْديد النُّون. يُقَال: منى وأمنى وَمنى، ثَلَاث لُغَات وَالْوُسْطَى أشهر وأفصح، وَبهَا جَاءَ الْقُرْآن. قَالَ الله تَعَالَى: {افرأيتم مَا تمنون} (الْوَاقِعَة: 58) قَوْله: (يتَوَضَّأ) أمره بِالْوضُوءِ احْتِيَاطًا، لِأَن الْغَالِب خُرُوج الْمَذْي من المجامع وَإِن لم يشْعر بِهِ. قَوْله: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) احْتَرز بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ. قَوْله: (وَيغسل ذكره) ، أمره بذلك لتنجسه بالمذي، وَلَا يُقَال الْغسْل مقدم على التوضيء، فَلم أَخّرهُ؟ لأَنا نقُول: الْوَاو وَلَا تدل على التَّرْتِيب بل للْجمع الْمُطلق، فَلَو تَوَضَّأ قبله يجوز وَلَا ينْتَقض وضوؤه. قَوْله: (سَمِعت) أَي: سَمِعت الْمَذْكُور كُله من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة(3/55)
وَالسَّلَام. قَوْله: (فَسَأَلت عَن ذَلِك) مقول زيد لَا مقول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فامروه) الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ رَاجع إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْأَرْبَعَة: عَليّ وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وَأبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ رَاجع إِلَى المجامع. فَإِن قلت: لم يمض ذكر المجامع. قلت: قَوْله: (إِذا جَامع) اي: الرجل يدل على المجامع ضمنا من قبل قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ اقْربْ للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) اي: الْعدْل أقرب، دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا. قَوْله: (بذلك) أَي: بِأَنَّهُ يتَوَضَّأ وَيغسل ذكره.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ وجوب الْوضُوء على من يُجَامع امْرَأَته وَلَا ينزل. الثَّانِي: فِيهِ وجوب غسل ذكره، وَاخْتلفُوا هَل يجب غسل كل الذّكر أَو غسل مَا أَصَابَهُ الْمَذْي، فَقَالَ مَالك بالاول، وَقَالَ الشَّافِعِي بِالثَّانِي. قلت: اخْتلف أَصْحَاب مَالك، مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده وَعَن الزُّهْرِيّ، لَا يغسل مَالك، مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل الْمَذْي وَحده وَعَن الزُّهْرِيّ، لَا يغسل الانثيين من الْمَذْي إلاَّ أَن يكون أصابهما شَيْء. وَقَالَ الْأَثْرَم: وعَلى هَذَا مَذْهَب ابي عبد الله، سمعته لَا يرى فِي الْمَذْي إلاَّ الْوضُوء، وَلَا يرى فِيهِ الْغسْل وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة: الْمَذْي ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا يخرج لزجاً متسبسباً عِنْد الشَّهْوَة فَيكون على رَأس الذّكر. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والانثيين مَعَ الْوضُوء. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يكن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يغسل مذاكيره) لإِيجَاب الْغسْل، وَلكنه ليتقلص اي ليرتفع وينزوي الْمَذْي فَلَا يخرج، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ، فِي (صَحِيح مُسلم) : (تَوَضَّأ وانضح فرجك) ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي رِوَايَة.
فَائِدَة إعلم أَن حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كنت رجلا مذَّاء) ، وَهُوَ الْمَذْكُور قبل هَذَا الحَدِيث وَفِي مَوضِع آخر من (صَحِيح البُخَارِيّ) : (فَكنت أستحى أَن اسْأَل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لمَكَان ابْنَته. فَقَالَ: ليغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) . وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أرسلنَا الْمِقْدَاد إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي الَّذِي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل؟ فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: تَوَضَّأ وانضح فرجك) . وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاء فَسَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: إِذا رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن حُصَيْن بن قبيصَة عَنهُ: (كنت رجلا مذَّاءً فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ) الحَدِيث. قَالَ ابو الْقَاسِم: لم يروه عَن حُصَيْن إلاَّ زَائِدَة، تفرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَمْرو، وَرَوَاهُ غير إِسْمَاعِيل عَن أبي حُصَيْن عَن حُصَيْن بن قبيصَة. وَعند ابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد عَن عبد الله: حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد شَيبَان حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم الْقَسْمَلِي حَدثنَا يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاءً، فَسَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن ذَلِك) الحَدِيث، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث هانىء بن هانىء عَن عَليّ: (فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَضَحِك فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) . وَفِي (سنَن الْكَجِّي) كل: فَحل يمذي، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ الطّهُور. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) من حَدِيث الدكين عَن حُصَيْن عَنهُ بِلَفْظ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أَو ذكر لَهُ. وَفِي (صَحِيح الْحَافِظ ابي عوَانَة) من حَدِيث عُبَيْدَة عَنهُ: (يغسل انثييه وَذكره وَيتَوَضَّأ وضوء للصَّلَاة) . وَفِي هَذَا رد لما ذكره أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد مَا قَالَ: غسل الْأُنْثَيَيْنِ إلاَّ هِشَام بن عُرْوَة فِي حَدِيثه.
وَأما الاحاديث كلهَا فَلَيْسَ فِيهَا ذَا، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث رَافع بن خديج: (أَن عليا أَمر عماراً أَن يسْأَل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يغسل مذاكيره) . وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) : أخبرنَا يُونُس عَن عبد الْأَعْلَى أخبرنَا ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن سَالم بن أبي النَّضر عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن الْمِقْدَاد (أَنه سَأَلَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الرجل يدنو من امْرَأَته فَلَا ينزل؟ قَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك فلينضح فرجه) . زَاد ابْن حبَان عَن عَطاء: أَخْبرنِي عايش ابْن أنس قَالَ: تَذَاكر عَليّ وعمار والمقداد الْمَذْي، فَقَالَ عَليّ: إِنِّي، رجل مذاء، فسألا عَن ذَلِك النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ عايش: فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن. عمار أَو الْمِقْدَاد. قَالَ عَطاء: وَسَماهُ عايش فَنسيته، قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة يحيى عَن مَالك: (فلينضح فرجه) . وَفِي رِوَايَة ابْن بكير والقعنبي وَابْن وهب: (فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة) . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِه رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن مَالك، كَمَا رَوَاهُ يحيى: (ولينضح فرجه) . وَلَو صحت رِوَايَة يحيى وَمن تَابعه كَانَت مجملة تفسرها رِوَايَة غَيره،(3/56)
لِأَن النَّضْح يكون فِي لِسَان الْعَرَب مرّة الْغسْل وَمرَّة الرش، وَفِيه نظر لما تقدم من عِنْد ابْن مَاجَه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن القعْنبِي، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (أَحَادِيث الْمُوَطَّأ) : أَن أَبَا مُصعب وَأحمد بن إِسْمَاعِيل الْمدنِي وَأبي وهب وَعبد الله بن يُونُس وَيحيى بن بكير وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْقَاسِم وَعتبَة بن عبد الله وَأَبا عَليّ الْحَنَفِيّ وَإِسْحَاق بن عِيسَى وَالقَاسِم ابْن يزِيد رَوَوْهُ عَن مَالك بِلَفْظ: (فلينضح) ، إلاَّ ابْن وهب فان فِي بعض أَلْفَاظه: (فليغسل) . فَلَو كَانَ أَبُو عمر عكس قَوْله لَكَانَ صَوَابا من فعله. وَقَالَ ابْن حبَان: قد يتَوَهَّم بعض المستمعين لهَذِهِ الْأَخْبَار أَن بَينهَا تضاداً وتهاتراً، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون عَليّ أَمر عماراً أَن يسْأَله، فَسَأَلَهُ. ثمَّ أَمر الْمِقْدَاد أَن يسْأَله فَسَأَلَهُ، ثمَّ سَأَلَ هُوَ بِنَفسِهِ وَالدَّلِيل على صِحَة مَا ذكرت أَن متن كل خبر بِخِلَاف متن الآخر فَفِي خبر عبد الرَّحْمَن: (إِذا رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ فاغتسل) . وَفِي خبر إِيَاس بن خَليفَة عَن عمار: (يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ) ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمَنِيّ، وَخبر الْمِقْدَاد مُسْتَأْنف ينبئك أَنه لَيْسَ بالسؤالين اللَّذين ذكرناهما، لِأَن فِيهِ سؤالاً عَن الرجل إِذا دنا من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَإِن عِنْدِي ابْنَته، فَذَلِك مَا وَصفنَا. على أَن هَذِه أسئلة متباينة فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة لعلل مَوْجُودَة.
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقد ورد فِي حَدِيث حسن الْإِسْنَاد أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هُوَ السَّائِل لَهُ، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَن قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (رَآنِي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد شحبت، فَقَالَ: يَا عَليّ قد شحبت. قلت: شحبت من اغتسال المَاء وَأَنا رجل مذاء، فاذا رَأَيْت مِنْهُ شَيْئا اغْتَسَلت. قَالَ: لَا تَغْتَسِل يَا عَليّ) . ثمَّ قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فَيحْتَمل أَن يكون عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، لما بعث من بعث رَآهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي غُضُون الْبعْثَة شاحباً، وَنزل على جَوَابه عَن ذَلِك بِمَنْزِلَة السُّؤَال ابْتِدَاء تجوزاً. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ الْكَبِير) من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يدْخل فِي إحليله الفيلة من كَثْرَة الْمَذْي، وَفِي حَدِيث حسان بن عبد الرَّحْمَن الضبعِي عِنْد ابي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ، قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَو اغتسلتم من الْمَذْي كَانَ أَشد عَلَيْكُم من الْحيض) . وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: (لَا يَصح أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي كلما تَوَضَّأت سَالَ، فَقَالَ: إِذا تَوَضَّأت فَسَالَ من قرنك إِلَى قدمك فَلَا وضوء عَلَيْك) .
180 - حدّثنا إسْحاقُ هُو ابْنُ مَنْصُورٍ قالَ أخبرنَا النَّضْرُ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ إلَى رَجُل مِنَ الاَنْصَارِ فَجَاءَ ورَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقال النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّنَا أعْجَلْنَاك فقالَ نَعَمْ فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا اُعْجِلْتَ أوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الوُضُوءُ.
هَذَا الحَدِيث لَا يُنَاسب تَرْجَمَة الْبَاب إلاَّ أَن بعض الشُّرَّاح قَالَ: أقل حَال هَذَا الحَدِيث حُصُول الْمَذْي لمن جَامع وَلم يمن، فَصدق عَلَيْهِ وجوب الْوضُوء من الْخَارِج من أحد السَّبِيلَيْنِ، وَلَكِن يُعَكر عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل الْعلم وأئمة الْفَتْوَى على وجوب الْغسْل من مُجَاوزَة الختانن الْخِتَان لأمر الشَّارِع بذلك، وَهُوَ زِيَادَة على مَا فِي هَذَا الحَدِيث، فَيجب الْأَخْذ بهَا.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور، هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا: إِسْحَاق، كَذَا بِلَا ذكر: مَنْصُور، وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الْمَعْرُوف بالكوسج الْمروزِي، مر فِي بَاب فضل من علم، وَهُوَ الْأَصَح، نَص عَلَيْهِ أَبُو نعيم رَحمَه الله فِي (الْمُسْتَخْرج) الثَّانِي: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة: ابْن وَالْحسن الْمَازِني الْبَصْرِيّ، تقدم فِي آخر بَاب حمل العنزة فِي الِاسْتِنْجَاء. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، تَصْغِير عتبَة الْبَاب، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات الْمدنِي، تقدم فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان وَغَيره. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بن مروزي وبصري وواسطي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره لَيْسَ لَهُ تعدد. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن ابي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَابْن بشار بِهِ.(3/57)
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (أرسل إِلَى رجل من الْأَنْصَار) وَلمُسلم وَغَيره: مر على رجل، فَيحمل على أَنه مر بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ وسمى مُسلم هَذَا الرجل فِي رِوَايَته من طَرِيق أُخْرَى عَن ابي سعيد عتْبَان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة، وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَلَفظه: من رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه، قَالَ: (خرجت مَعَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى قبا، حَتَّى إِذا كُنَّا فِي بني سَالم وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَاب عتْبَان فَخرج يجر إزَاره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعجلنا الرجل) . فَذكر الحَدِيث بِمَعْنَاهُ، وعتبان الْمَذْكُور هُوَ ابْن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي السالمي البدري، وَإِن لم يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فيهم، وَكَذَا نسبه تَقِيّ بن مخلد فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي رِوَايَة فِي (صَحِيح ابي عوَانَة) أَنه ابْن عتبَة. وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن جده، لكنه قَالَ: فَهَتَفَ بِرَجُل من أَصْحَابه يُقَال لَهُ: صَالح، فَإِن حمل على تعدد الْوَقْعَة وإلاَّ فطريق مُسلم أصح، وَقد وَقعت الْقِصَّة أَيْضا لرافع بن خديج وَغَيره. أخرجه أَحْمد وَغَيره، وَلَكِن الْأَقْرَب فِي تَفْسِير الْمُبْهم الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنه عتْبَان. وَالله اعْلَم. قَوْله: (فجَاء) أَي: الرجل الْمَدْعُو. قَوْله: (وَرَأسه يقطر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: جَاءَ، وَمعنى: يقطر، ينزل من المَاء قَطْرَة قَطْرَة من أثر الِاغْتِسَال، وَإسْنَاد الْقطر إِلَى الرَّأْس مجَاز من قبل: سَالَ الْوَادي. قَوْله: (لَعَلَّنَا) كلمة: لَعَلَّ، هُنَا لإِفَادَة التَّحْقِيق، فَمَعْنَاه: قد أعجلناك. وَقَوله: (فَقَالَ: نعم) مُقَرر لَهُ، وَلَا يُمكن أَن يكون: لَعَلَّ، هُنَا على بَابه للترجي، والترجي لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَهنا قد أجَاب الرجل بقوله: نعم. (و: أعجلناك) من الإعجال. يُقَال: أعجله إعجالاً وعجله تعجيلاً: إِذا استحثه، وَمَعْنَاهُ: اعجلناك عَن فرَاغ شغلك وحاجتك عَن الْجِمَاع. قَوْله: (إِذا أعجلت) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي أصل أبي ذَر: (إِذا عجلت) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الْجِيم المخففة، وَفِي رِوَايَة: (إِذا أعجلت) ، بِالتَّشْدِيدِ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو قحطت) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: قحطت، بِفَتْح الْقَاف. وَقَالَ لنا شَيخنَا عبد الله بن احْمَد النَّحْوِيّ: الصَّوَاب ضم الْقَاف. وَفِي (صَحِيح مُسلم) : (أقحطت) ، بِفَتْح الْهمزَة والحاء، وَفِي رِوَايَة ابْن بشار بِضَم الْهمزَة وَكسر الْحَاء، وَالرِّوَايَتَانِ صحيحتان، وَمعنى الإقحاط هُنَا عدم الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، وَهُوَ اسْتِعَارَة من قُحُوط الْمَطَر، وَهُوَ انحباسه، وقحوط الأَرْض وَهُوَ عدم إخْرَاجهَا النَّبَات. وَحكى الْفراء: قحط الْمَطَر، بِالْكَسْرِ. وَفِي (الْمُحكم) : الْفَتْح أَعلَى، وقحط النَّاس بِالْكَسْرِ لَا غير وأقحطوا، وكرهها بَعضهم. وَلَا يُقَال: قحطوا وَلَا أقحطوا. وَحكى أَبُو حنيفَة: قحط الْقَوْم وَفِي (أمالي) الهجري: أقحط النَّاس. وَقَالَ التَّمِيمِي: وَقع فِي الْكتاب: قحطت، وَالْمَشْهُور أقحطت بِالْألف. يُقَال للَّذي أعجل فِي الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، فَفَارَقَ وَلم ينزل المَاء أَو جَامع فَلم يَأْته المَاء: أقحط. قَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون لقَوْله: أعجلت فَائِدَة، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. فَإِن قلت: كلمة: أَو، مَا مَعْنَاهَا هَهُنَا؟ هَل هُوَ شكّ من روى أَو تنويع الحكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من كَلَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمرَاده بَيَان أَن عدم الْإِنْزَال سَوَاء كَانَ بِأَمْر خَارج عَن ذَات الشَّخْص أَو كَانَ من ذَاته لَا فرق بَينهمَا فِي الحكم فِي أَن الْوضُوء عَلَيْهِ فيهمَا. قَوْله: (فَعَلَيْك الْوضُوء) يجوز فِي الْوضُوء الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (عَلَيْك) ، وَالنّصب على أَن مفعول: عَلَيْك، لِأَنَّهُ إسم فعل نَحْو: عَلَيْك زيدا، وَمَعْنَاهُ: فَالْزَمْ الْوضُوء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ بالقرائن، لِأَن الصَّحَابِيّ لما أبضأ عَن الْإِجَابَة مُدَّة الِاغْتِسَال خَالف الْمَعْهُود مِنْهُ، وَهُوَ سرعَة الْإِجَابَة للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا رأى عَلَيْهِ أثر الْغسْل دلّ على أَنه كَانَ مَشْغُولًا بجماع. الثَّانِي: يسْتَحبّ الدَّوَام على الطَّهَارَة لكَون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِ تَأْخِير إجَابَته، وَكَأن ذَلِك كَانَ قبل إِيجَابهَا، إِذْ الْوَاجِب لَا يُؤَخر للمستحب. الثَّالِث: أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ، وَلم يق بِعَدَمِ نسخه إلاَّ من روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَدَاوُد، وَادّعى القَاضِي عِيَاض أَنه لَا يعلم من قَالَ بِهِ بعد خلاف الصَّحَابَة إلاَّ الْأَعْمَش وَدَاوُد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن الْأمة مجمعة الْآن على وجوب الْغسْل بِالْجِمَاعِ، وَإِن لم يكن مَعَه إِنْزَال، وعَلى وُجُوبه بالإنزال، وَكَانَت جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَنه لَا يجب إلاَّ بالإنزال، ثمَّ رَجَعَ بَعضهم وانعقد الْإِجْمَاع بعد الآخرين. وَفِي (الْمحلى) : وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن(3/58)
بشير وَزيد بن ثَابت وَجُمْهُور الْأَنْصَار وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وَبَعض أَصْحَاب الظَّاهِر. وَقَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ إِيجَاب الْغسْل عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأَبُو بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَابْن عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن ابي طَالب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس والمهاجرين. قلت: وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَبَعض أَصْحَاب الظَّاهِر وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري.
تابَعَهُ وَهْبٌ.
أَي تَابع النَّضر بن شُمَيْل وهب بن جرير ابْن حَازِم، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَبُو الْعَبَّاس السراج فِي مُسْنده عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أبوُ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ ويحْيىَ عنْ شُعْبَةَ الوُضُوءُ
قَوْله: (قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة) وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا شُعْبَة، بِدُونِهِ لفظ: قَالَ، وَهُوَ المُرَاد سَوَاء ذكر أَو لَا، أَي: قَالَ وهب: حَدثنَا شُعْبَة عَن الحكم عَن ذكْوَان ... إِلَى آخِره، بِمثل مَا ذكر. وَفِي رِوَايَة وهب عَن شُعْبَة. أخرجهَا الطَّحَاوِيّ. قَالَ: أخبرنَا يزِيد، قَالَ: حَدثنَا وهب، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن الْحَاكِم عَن ذكْوَان أبي صَالح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... الحَدِيث. قَوْله: (وَلم يقل) ، من كَلَام البُخَارِيّ أَي: لم يقل غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر وَيحيى بن سعيد الْقطَّان الْوضُوء، يَعْنِي رويا هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن، لَكِن لم يَقُولَا فِيهِ لفظ: الْوضُوء، بل قَالَا: فَعَلَيْك، فَقَط بِحَذْف الْمُبْتَدَأ وَجَاز ذَلِك لقِيَام الْقَرِينَة عَلَيْهِ، والمقدر عَن الْقَرِينَة كالملفوظ. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم: لَكِن لم يَقُولَا فِيهِ: عَلَيْك الْوضُوء، وَأما يحيى فَهُوَ كَمَا قَالَه، قد أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ وَلَفظه: فَلَيْسَ عَلَيْك غسل. وَأما غنْدر فقد أخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده عَنهُ لكنه ذكر الْوضُوء وَلَفظه: (فَلَا غسل عَلَيْك، عَلَيْك الْوضُوء) . وَهَكَذَا أخرجه مُسلم وَابْن مَاجَه والإسماعيلي وَأَبُو نعيم من طرق عَنهُ، وَكَذَا ذكر أَكثر أَصْحَاب شُعْبَة كَأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَغَيره عَنهُ، وَكَأن بعض مَشَايِخ البُخَارِيّ حَدثهُ بِهِ عَن يحيى وغندر مَعًا، فساقه لَهُ على لفظ يحيى. وَالله اعْلَم. قلت: أما الْكَلَام الْكرْمَانِي فَلَا وَجه لَهُ، لِأَن معنى قَوْله: عَلَيْك، على مَا قَرَّرَهُ يحْتَمل أَن يكون: عَلَيْك الْغسْل، وَيحْتَمل أَن يكون: عَلَيْك الْوضُوء، وَالِاحْتِمَال الأول غير صَحِيح لِأَن فِي رِوَايَة يحيى فِي مُسْند أَحْمد التَّصْرِيح بقوله: فَلَيْسَ عَلَيْك غسل، وَالِاحْتِمَال الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، لِأَن فِي رِوَايَة غنْدر: عَلَيْك الْوضُوء، فَحِينَئِذٍ قَوْله: لم يقل غندرو يحيى عَن شُعْبَة الْوضُوء، مَعْنَاهُ: لم يذكرَا لفظ: عَلَيْك الْوضُوء، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت فِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى لَيْسَ فِيهَا: عَلَيْك الْوضُوء، وَإِنَّمَا لَفظه: فَلَيْسَ عَلَيْك غسل. فان قلت: كَيفَ قَالَ البُخَارِيّ: لم يَقُولَا عَن شُعْبَة الْوضُوء، فَهَذَا فِي رِوَايَة غنْدر ذكر: عَلَيْك الْوضُوء؟ قلت: كَأَنَّهُ سمع من بعض مشايخه أَنه حَدثهُ عَن يحيى وغندر كليهمَا، فساق شَيْخه لَهُ على لفظ يحيى، وَلم يسقه على لفظ غنْدر، فَهَذَا تَقْرِير مَا قَالَه بَعضهم، وَلَكِن فِيهِ نظر على مَا لَا يخفى.
35 - (بابُ الرَّجُلِ يُوَضِّىءُ صَاحبَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من يوضىء غَيره. قَوْله: (يوضىء) بِالتَّشْدِيدِ والهمزة فِي آخِره من: وضأ يوضىء، من بَاب التفعيل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
181 - حدّثنى مُحَّمدُ بنُ سَلاَمٍ قَالَ أخبرنَا يَزِيدُ بنُ هارُونَ عَنْ يَحْيى عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلى ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ اُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا أفَاض مِنْ عَرَفَةَ عَدَلَ إلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حاجَتَهُ قَالَ اُسَامَةُ بنُ زيْدٍ فَجَعَلْتُ أصُبُّ عَلَيْهِ ويتَوَضَّا فَقَلْتُ يَا رسولَ الله أتُصلِّي فقالَ المُصَلَّى أَمامَكَ.
(انْظُر الحَدِيث: 139 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَسَلام بتَخْفِيف اللَّام، وَقيل بِالتَّشْدِيدِ، وَالْأول أصح، وَقد مر فِي كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: يزييد بن هَارُون، أحد الْأَعْلَام، مر فِي بَاب(3/59)
التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، مر فِي كتاب الْوَحْي. الرَّابِع: مُوسَى بن عقبَة الْأَسدي الْمدنِي التَّابِعِيّ، تقدم فِي إسباغ الْوضُوء. الْخَامِس: كريب مولى ابْن عَبَّاس التَّابِعِيّ، تقدم أَيْضا فِي إسباغ الْوضُوء. السَّادِس: أُسَامَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم: يحيى ومُوسَى وكريب، وَهُوَ من أوساط التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بيكندي وواسطي ومدني، وَوَقع لِابْنِ الْمُنِير فِي هَذَا الاسناد وهم فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهِ ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن زيد، وَلَيْسَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، وَإِنَّمَا هُوَ من رِوَايَة كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي وَعَن ابْن سَلام، وَأخرجه فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة، فِي الْحَج أَيْضا عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى عَن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن رمح عَن لَيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد بِهِ، وَعَن إِسْحَاق عَن يحيى بن آدم عَن زُهَيْر كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، وَعَن إِسْحَاق عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عقبَة كِلَاهُمَا عَن كريب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ، وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان عَن يزِيد بن هَارُون بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ مُخْتَصرا.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لما أَفَاضَ) أَي: لما رَجَعَ أَو دفع. قَوْله: (من عَرَفَة) أَي: من وقُوف عَرَفَة، لِأَن عَرَفَة اسْم الزَّمَان، وَالدَّفْع كَانَ من عَرَفَات لِأَنَّهُ اسْم الْمَكَان، وَقيل: جَاءَ عَرَفَة أَيْضا اسْما للمكان، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَول النَّاس: نزلنَا عَرَفَة شَبيه بمولَّد وَلَيْسَ بعربي مَحْض. قَوْله: (عدل إِلَى الشّعب) أَي: توجه إِلَيْهِ، والشعب، بِكَسْر الشين: الطَّرِيق فِي الْجَبَل. قَوْله: (أصب) بِضَم الصَّاد، ومفعوله مَحْذُوف، وَالْجُمْلَة خبر: جعلت، لِأَنَّهُ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (يتَوَضَّأ) جملَة موضعهَا النصب على الْحَال، وَجَاز وُقُوع الْفِعْل الْمُضَارع الْمُثبت حَالا مَعَ الْوَاو. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قَوْله تَعَالَى: {وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا} (النِّسَاء: 19) حَال، وَكَذَا {ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} (الْمَائِدَة: 84) ، وَيجوز أَن يقدر مُبْتَدأ: (وَيتَوَضَّأ) خَبره، وَالتَّقْدِير: وَهُوَ يتَوَضَّأ، فَحِينَئِذٍ تكون جملَة إسمية أَو تكون الْوَاو للْعَطْف: قَوْله: (قَالَ) ، وَفِي رِوَايَة: (فَقَالَ) ، بفاء الْعَطف اي: قَالَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. قَوْله: (الْمصلى) أَي: مَكَان الصَّلَاة. (أمامك) بِفَتْح الْمِيم الثَّانِيَة لِأَنَّهُ ظرف، أَي: قدامك.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: مَا قَالَه النَّوَوِيّ: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء، وَهِي على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا أَن يَسْتَعِين فِي إِحْضَار المَاء فَلَا كَرَاهِيَة فِيهِ. الثَّانِي: أَن يَسْتَعِين فِي غسل الْأَعْضَاء ويباشر الْأَجْنَبِيّ بِنَفسِهِ غسل الْأَعْضَاء فَهَذَا مَكْرُوه إلاَّ لحَاجَة. الثَّالِث: أَن يصب عَلَيْهِ، فَهَذَا مَكْرُوه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَالْأولَى تَركه. قلت: فِيهِ حزازة لِأَن مَا فعل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يُقَال فِيهِ: الأولى تَركه، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يتحَرَّى إلاَّ مَا فعله أولى ثمَّ إِذا قيل: الأولى تَركه، كَيفَ يُنَازع فِي كَرَاهَته وَلَيْسَ حَقِيقَة الْمَكْرُوه إلاَّ ذَلِك؟ كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا حَقِيقَة الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّنْزِيه لَا الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّحْرِيم. وَقَالَ ابْن بطال: وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ من صب المَاء عَلَيْهِ أَنه يجوز للرجل أَن يوضئه غَيره لِأَنَّهُ لما لزم المتوضىء اغتراف المَاء من الْإِنَاء بأعضائه، جَازَ لَهُ أَن يَكْفِيهِ ذَلِك غَيره بِدَلِيل صب أُسَامَة. والاغتراف بعض أَعمال الْوضُوء، فَكَذَلِك يجوز سَائِر أَعماله، وَهَذَا من بَاب القربات الَّتِي يجوز أَن يعملها الرجل عَن غَيره، بِخِلَاف الصَّلَاة. وَلما أَجمعُوا أَنه جَائِز للْمَرِيض أَن يوضئه غَيره، وييممه إِذا لم يسْتَطع، وَلَا يجوز أَن يُصَلِّي عَنهُ إِذا لم يسْتَطع، ذدل أَن حكم الْوضُوء بِخِلَاف حكم الصَّلَاة. قَالَ: وَهَذَا الْبَاب رد لما رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم قَالُوا: نكره أَن يشركنا فِي الْوضُوء أحد. فَإِن قلت: البُخَارِيّ لم يبين فِي هَذَا الْمَسْأَلَة الْجَوَاز وَلَا عَدمه. قلت: إِذا عقد الْبَاب أَفلا يعلم مِنْهُ جَوَازه، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؟ وَقَالَ ابْن الْمُنِير: قَاس البُخَارِيّ توضئة الرجل غَيره على صبه عَلَيْهِ لاجتماعهما فِي الْإِعَانَة قلت: هَذَا قِيَاس بالفارق، وَالْفرق ظَاهر، وَرُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا نهيا أَن يستقى لَهما المَاء لوضوئهما، وَقَالا: نكره أَن يشركنا فِي(3/60)
الْوضُوء أحد، ورويا ذَلِك عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: الحَدِيث هُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَنا لَا أستعين فِي وضوئي بِأحد) قَالَه لعمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقد بَادر ليصب المَاء على يَدَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ، وَذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) بسياق آخر، فَقَالَ: رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هم بصب المَاء على يَد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (فَقَالَ: أَنا لَا أحب أَن يشاركني فِي وضوئي أحد) ، وَهَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ، وَالَّذِي وَقع على زعم الرَّاوِي كَانَ لعمر، رَضِي الله عَنهُ، دون أبي بكر، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: مَا أُبَالِي أعانني رجل على طهوري اَوْ على ركوعي وسجودي، وَثَبت عَن ابْن عمر خلاف مَا ذكر عَنهُ، فروى شُعْبَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يسْكب على ابْن عمر المَاء فَيغسل رجلَيْهِ، وهذ أصح عَن ابْن عمر، إِذا رَاوِي الْمَنْع رجل اسْمه أَيفع وَهُوَ مَجْهُول، والْحَدِيث عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، لَا يَصح لِأَن رَاوِيه النَّضر بن مَنْصُور عَن ابي الْجنُوب عَنهُ، وهما غير حجَّة فِي الدّين وَلَا يعْتد بنقلهما. وَقَالَ الْبَزَّار فِي كتاب (السّنَن) : لَا نعلمهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من حَدِيث النَّضر عَن أبي الْجنُوب عقبَة بن عَلْقَمَة. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد فِيمَا ذكره ابْن عدي: قلت ليحيى: مَا حَال هَذَا السَّنَد؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ حمالَة الْحَطب وَتَمام الحَدِيث أخرجه، الْبَزَّار فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأَبُو يعلى فِي مُسْنده من طَرِيق النَّضر بن مَنْصُور عَن أبي الْجنُوب، قَالَ: رَأَيْت عليا، رَضِي الله عَنهُ يَسْتَقِي المَاء لطهوره، فبادرت استقى لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْجنُوب {فَإِنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه، فبادرت استقى لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْحسن} فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا عمر فَإِنِّي لَا أُرِيد أَن يُعِيننِي على وضوئي أحد) . وَقَالَ الطَّبَرِيّ: صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه صب على يَدي عمر، رَضِي الله عَنهُ، الْوضُوء بطرِيق مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى، حِين سَأَلَهُ عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا. وَقيل: صب ابْن عَبَّاس على يَدي عمر أقرب للمعونة من استقاء المَاء، ومحال أَن يمْنَع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، استقاء المَاء وبييح صب المَاء عَلَيْهِ للْوُضُوء مَعَ سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَرَاهَة. قلت: لقَائِل أَن يَقُول: إِن أُسَامَة تبرع بالصب وَكَذَا غَيره أَمر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم. فان قلت: هَل يجوز أَن يَسْتَدْعِي الْإِنْسَان الصب من غَيره بِأَمْر؟ قلت: نعم لما رُوِيَ التِّرْمِذِيّ محسناً من حَدِيث ابْن عقيل عَن الرّبيع، قَالَت: (أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بميضأة فَقَالَ: اسكبي: فَسَكَبت، فَذكرت وضوءه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) قَالَ: وَلم يحْتَج البُخَارِيّ بِابْن عقيل وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث مُتَقَدم فِي الشّرف. وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح على شَرط ابْن حبَان من حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال، قَالَ: (صببت على النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، المَاء فِي السّفر والحضر فِي الْوضُوء) ، وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد مُعَلل عَن أم عَيَّاش، وَكَانَت أمه لرقية بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (كنت أوضىء رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أَنا قَائِمَة وَهُوَ قَاعد) . وَمِمَّنْ كَانَ يَسْتَعِين على وضوئِهِ بِغَيْرِهِ من السّلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ الْحسن: رَأَيْته يصب عَلَيْهِ من إبريق. وَفعله عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى،، وَالضَّحَّاك ابْن مُزَاحم، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: وَلَا بَأْس للْمَرِيض أَن يوضئه الْحَائِض، وَبَقِيَّة الْأَحْكَام ذَكرنَاهَا فِي بَاب: إسباغ الْوضُوء.
182 - حدّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قالَ حدّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ قالَ أخْبرَنِي سَعْدُ بنُ إبْراهِيمَ أنَّ نَافعَ بنَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أخْبَرَهُ أنَّه سَمِعَ عُرْوَةَ بنَ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَن المُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أنَّهُ كانَ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ وأنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ وأنَّ مُغِيرَةَ جَعلَ يَصُبُّ الماءَ عَلَيْهِ وَهْوَ يتَوَضَّاُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسهِ وَمَسَحَ عَلَى الخفَّيْنِ..
ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا لأجل الِاسْتِدْلَال على الْإِعَانَة فِي الْوضُوء.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة. الأول: عَمْرو بن عَليّ الفلاس، أحد الْحفاظ الْأَعْلَام الْبَصرِيين. الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ. الرَّابِع: سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي التَّابِعِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة. الْخَامِس: نَافِع(3/61)
بن جُبَير بن مطعم الْقرشِي النَّوْفَلِي الْمدنِي التَّابِعِيّ. السَّادِس: عُرْوَة بن الْمُغيرَة الثَّقَفِيّ الْكُوفِي. السَّابِع: الْمُغيرَة، بِضَم الْمِيم، تقدم فِي آخر كتاب الْإِيمَان، وَهُوَ بِاللَّامِ مثل: الْحَارِث، فِي أَنه علم يدْخلهُ لَام التَّعْرِيف على سَبِيل الْجَوَاز، لَا مثل: النَّجْم للثريا، فَإِن التَّعْرِيف بِاللَّامِ لَازم فِيهِ. فَإِن قلت: لماذا يدْخلُونَ اللَّام فِي مثل الْمُغيرَة وَمَا فَائِدَته؟ قلت: للمح الوصفية.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ والإفراد والإخبار كَذَلِك وَالسَّمَاع والعنعنة، وراعى البُخَارِيّ أَلْفَاظ الشُّيُوخ بِعَينهَا حَيْثُ فرق بَين التحديث والإخبار وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين يرْوى بَعضهم عَن بعض، وَهُوَ من أحسن اللطائف: اثْنَان مِنْهُم تابعيان صغيران وهما: يحيى وَسعد، وَاثْنَانِ تابعيان وسطان وهما: نَافِع بن جُبَير وَعُرْوَة بن الْمُغيرَة، وهم من نسق وَاحِد. وَفِيه رِوَايَة الأقران فِي موضِعين الأول فِي الصغيرين وَالثَّانِي فِي الوسطين.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا، وَفِي اللبَاس عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا بن ابي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ نَحوه، وَلم يذكر قصَّة الصَّلَاة خلف عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن مُسَدّد عَن عِيسَى بن يُونُس عَن أَبِيه عَن الشّعبِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ مِنْهُ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن مَالك وَيُونُس وَعَمْرو بن الْحَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، إلاَّ أَن مَالِكًا لم يذكر عُرْوَة بن الْمُغيرَة، وَعَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر عَن بشر بن الْفضل عَن ابْن عون عَن الشّعبِيّ بِهِ، وَهُوَ أتم، وَعَن قُتَيْبَة بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (أَنه كَانَ) أَي: أَن الْمُغيرَة كَانَ مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأدّى عُرْوَة كَلَام أَبِيه بِعِبَارَة نَفسه، وإلاَّ فَمُقْتَضى الْحَال أَن يَقُول: قَالَ إِنِّي كنت مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَكَذَا قَوْله: (وَأَن الْمُغيرَة) جعل وَالضَّمِير فِي و: أَنه، وَفِي: لَهُ، للرسول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (جعل) أَي: طفق من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (هُوَ يتَوَضَّأ) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَغسل) ، الْفَاء: فِيهِ هِيَ الْفَاء الَّتِي تدخل بَين الْمُجْمل والمفصل، لِأَن الْمفصل كَأَنَّهُ يعقب الْمُجْمل، كَمَا ذكره الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن فاؤا فَإِن الله غَفُور رَحِيم وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم} (الْبَقَرَة: 226، 227) لتفصيل قَوْله تَعَالَى: {اللَّذين يؤلون من نِسَائِهِم} (الْبَقَرَة: 226) فَإِن قلت: لِمَ قَالَ: فَغسل، مَاضِيا وَلم يقل بِلَفْظ الْمُضَارع ليناسب لفظ: يتَوَضَّأ؟ قلت: الْمَاضِي هُوَ الأَصْل، وَعدل فِي: يتَوَضَّأ، إِلَى الْمُضَارع حِكَايَة عَن الْحَال الْمَاضِيَة. قَوْله: (وَمسح بِرَأْسِهِ وَمسح على الْخُفَّيْنِ) إِنَّمَا ذكر فِي الأول حرف الإلصاق لِأَنَّهُ الأَصْل، وَفِي الثَّانِي كلمة: على، نظرا إِلَى الاستعلاء، كَمَا يُقَال: مسح إِلَى الكعب، نظرا إِلَى الِانْتِهَاء، وبحسب الْمَقَاصِد تخْتَلف صلات الْأَفْعَال. فَإِن قلت: لم كرر لفظ: مسح، وَلم يُكَرر لفظ: غسل؟ قلت: لِأَنَّهُ يُرِيد بِذكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ بَيَان تأسيس قَاعِدَة شَرْعِيَّة، فَصرحَ اسْتِقْلَالا بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، بِخِلَاف قَضِيَّة الْغسْل فَإِنَّهَا مقررة بِنَصّ الْقُرْآن.
بَيَان ابستنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز الِاسْتِعَانَة بِغَيْرِهِ فِي الْوضُوء، لَكِن من يَدعِي أَن الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِغَيْر الْمَشَقَّة والاحتياج لَا يتم لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ كَانَ فِي السّفر. الثَّانِي: فِيهِ حكم مسح الرَّأْس. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَبَقِيَّة الْكَلَام بَعْضهَا مضى وَبَعضهَا يَأْتِي فِي بَاب: الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: فِيهِ من الْأَدَب خدمَة الصَّغِير للكبير، وَلَو كَانَ لَا يَأْمر بذلك.
36 - (بابُ قِرَاءَةِ القُرْآنِ بَعْدَ الحَدَثِ وَغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث. قَالَ بَعضهم: أَي الْحَدث الْأَصْغَر. قلت: الْحَدث أَعم من الْأَصْغَر والأكبر، وَقِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْأَصْغَر تجوز دون الْأَكْبَر، وَكَأن هَذَا الْقَائِل إِنَّمَا خصص الْحَدث بِالْأَصْغَرِ نظرا إِلَى أَن البُخَارِيّ تعرض هُنَا إِلَى حكم قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث الْأَصْغَر دون الْأَكْبَر، وَلَكِن جرت عَادَته أَن يبوب الْبَاب بترجمة، ثمَّ يذكر(3/62)
فِيهِ جُزْءا مِمَّا تشْتَمل عَلَيْهِ تِلْكَ التَّرْجَمَة، وَهَهُنَا كَذَلِك. قَوْله: (وَغَيره) قَالَ بَعضهم: أَي من مظان الْحَدث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن من السَّلَام وَسَائِر الْأَذْكَار. قلت: أما قَول هَذَا الْقَائِل: من مظان الْحَدث، فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن عود الضَّمِير لَا يَصح إلاَّ إِلَى شَيْء مَذْكُور لفظا وتقديراً بِدلَالَة الْقَرِينَة اللفظية، أَو الحالية، وَلم يبين أَيْضا مظان الْحَدث، ومظنة الْحَدث أَيْضا على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: مثل الْحَدث، وَالْآخر: لَيْسَ مثله، فَإِن كَانَ مُرَاده النَّوْع الأول فَهُوَ دَاخل فِي قَوْله: بعد الْحَدث، وَإِن كَانَ الثَّانِي. فَهُوَ خَارج عَن الْبَاب، فَإِذا لَا وَجه لما قَالَه على مَا لَا يخفى. وَأما قَول الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن، فَهُوَ الْوَجْه، وَلَكِن قَوْله: من السَّلَام وَسَائِر الْأَذْكَار، لَا وَجه لَهُ فِي التَّمْثِيل، لِأَن الْمُحدث إِذا جَازَ لَهُ قِرَاءَة الْقُرْآن، فالسلام وَسَائِر الْأَذْكَار بِالطَّرِيقِ الأولى أَن يجوز، وَلَو قَالَ غير الْقُرْآن مثل: كِتَابَة الْقُرْآن، لَكَانَ أوجه وأشمل للقولي والفعلي، على أَن تَعْلِيق البُخَارِيّ قَول مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مُشْتَمل على الْقسمَيْنِ: أَحدهمَا: قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث، وَالثَّانِي: كِتَابَة الرسائل فِي حَالَة الْحَدث.
ثمَّ المناسة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة من وَجه أَن فِي الْبَاب الأول حكم التوضئة، وَفِي هَذَا الْوضُوء، وَهَذَا الْقدر كافٍ. فَافْهَم.
وقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إبْراهِيمَ لاَ بَأْسَ بِالقِرَاءَةِ فِي الحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءِ.
مَنْصُور هُوَ: ابْن الْمُعْتَمِر السّلمِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي القعْنبِي، مر فِي بَاب ظلم دون ظلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور مثله، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟ فَقَالَ: لم يُبْنَ للْقِرَاءَة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا يُخَالف رِوَايَة أبي عوَانَة. قلت: لَا مُخَالفَة بَينهمَا، لِأَن قَوْلهم: لم يبن للْقِرَاءَة، إِخْبَار بِمَا هُوَ الْوَاقِع فِي نَفسه، فَلَا يدل على الْكَرَاهَة وَلَا على عدمهَا. أَو نقُول: عَن إِبْرَاهِيم رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَة يكره، وَفِي رِوَايَة لَا يكره. وَقد روى سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن مُحَمَّد بن أبان عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟ فَقَالَ: يكره ذَلِك. فان قلت: لِمَ ذكر البُخَارِيّ الْأَثر الَّذِي فِيهِ ذكر الْحمام، والتبويب أَعم من هَذَا؟ قلت: لِأَن الْغَالِب أَن أهل الْحمام أَصْحَاب الْأَحْدَاث.
وَاخْتلفُوا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام. فَعَن ابي حنيفَة أَنه يكره، وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه لَا يكره، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل خَاص، قلت: إِنَّمَا كره أَبُو حنيفَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام لِأَن حكمه حكم بَيت الْخَلَاء، لِأَنَّهُ مَوضِع النَّجَاسَة، وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْحمام نجس عِنْده، وَعند مُحَمَّد طَاهِر، فَلذَلِك لم يكرهها. قَوْله: (وبكتب الرسَالَة) أَي: وبكتابة الرسَالَة، لِأَن الْكتب مصدر دخلت عَلَيْهِ الْبَاء حرف الْجَرّ، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: (لَا بَأْس بِالْقِرَاءَةِ) ، وَالتَّقْدِير: وَلَا بَأْس بكتب الرسَالَة على غير وضوء، وَهَذِه فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: وَيكْتب الرسَالَة، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَالْوَجْه الأول أوجه، وَهَذَا الْأَثر وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ أَيْضا عَن مَنْصُور، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم: أأكتب الرسَالَة على غير وضوء؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ بَعضهم: وَتبين بِهَذَا أَن قَوْله: (على غير وضوء) يتَعَلَّق بِالْكِتَابَةِ لَا بالقراء فِي الْحمام. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن قَوْله: (وبكتب الرسَالَة) على الْوَجْهَيْنِ يتَعَلَّق على قَوْله: (بِالْقِرَاءَةِ) . وَقَوله: (وعَلى غير وضوء) يتَعَلَّق بالمعطوف عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كشيء وَاحِد. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكره للْجنب أَو الْحَائِض أَن يكْتب الْكتاب الَّذِي فِي بعض سطوره آيَة من الْقُرْآن وَإِن كَانَا لَا يقرآن شَيْئا، لِأَنَّهُمَا منهيان عَن مس الْقُرْآن، وَفِي الْكِتَابَة مس، لِأَنَّهُ يكْتب بالقلم وَهُوَ فِي يَده، وَهُوَ صُورَة الْمس: وَفِي (الْمُحِيط) : لَا بَأْس لَهما بِكِتَابَة الْمُصحف إِذا كَانَت الصَّحِيفَة على الأَرْض عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ لَا يمس الْقُرْآن بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يكْتب حرفا فحرفاً، وَلَيْسَ الْحَرْف الْوَاحِد بقرآن. وَقَالَ مُحَمَّد: أجب إِلَى أَن لَا يكْتب لِأَنَّهُ فِي الحكم مَاس للحروف، وَهِي بكليتها قُرْآن ومشايخ بخاري أخذُوا بقول مُحَمَّد، كَذَا فِي (الذَّخِيرَة) .
وَقَالَ حمَّادٌ عَنْ إبْراهِيمَ إنْ كانَ عَلَيْهِمْ إزَارٌ فَسَلِّمْ وإلاَّ فَلاَ تُسَلِّمْ.
حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، فَقِيه الْكُوفَة وَشَيخ أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الثَّوْريّ فِي (جَامعه) عَنهُ. قَوْله: (عَلَيْهِم) أَي على: أهل الْحمام العراة المتطهرين، وَقَالَ بَعضهم: اي على من فِي الْحمام، وَالْمرَاد الْجِنْس. قلت:(3/63)
قَوْله: من فِي الْحمام، يتَنَاوَل العراء فِيهِ والقاعدين بثيابهم فِي مسلخ الْحمام، وَقَول إِبْرَاهِيم مُخْتَصّ بالعراة حَيْثُ قَالَ: إِن كَانَ عَلَيْهِم إِزَار فنسلم عَلَيْهِم، و: إلاَّ، أَي: وَإِن لم يكن عَلَيْهِم إِزَار فَلَا نسلم. فَكيف يُطلق هَذَا الْقَائِل كَلَامه على من فِي الْحمام على سَبِيل الْعُمُوم، وَالسَّلَام على القاعدين بثيابهم لَا خلاف فِيهِ؟ .
183 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثنى مالكٌ عَنْ مَخْرمَةَ بنِ سُلَيْمان عَنْ كرَيْبٍ مَوْلى ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عبَّاسٍ أخْبرَهُ أنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْيَ خالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الوِسَادَة واضْطَجَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأهلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حنَتَّى إِذا انْتَصَف اللَّيْلُ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ العَشْرَ اْلا يَاتِ الخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَان ثُمَّ قامَ إلَي شَنٍّ مُعلَّقَةٍ فَتوَضأَ مِنْهَا فَاحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قامَ يُصَلِّي قالَ ابنُ عَبَّاسٍ فَقمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صيَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنى عَلَى رَأسِي وَأخَذَ بِاُذُنِي اليُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أتَاهُ المُؤَذِّنُ فَقامَ فَصَلَّى رَكْعتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ..
قيل: مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ الْعشْر الْآيَات من آخر آل عمرَان بعد قِيَامه من نَومه قبل وضوئِهِ. قلت: كَيفَ يُقَال هَذَا ونومه لَا ينْقض وضوءه؟ وَقَالَ بَعضهم: الْأَظْهر أَن مُنَاسبَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن مضاجعة الْأَهْل فِي الْفراش لَا تَخْلُو من الْمُلَامسَة. قلت: هَذَا أبعد من ذَاك، لأَنا لَا نسلم وجود ذَلِك على التَّحْقِيق، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فمراده من الْمُلَامسَة اللَّمْس بِالْيَدِ أَو الْجِمَاع؟ فَإِن كَانَ الأول: فَلَا ينْقض الْوضُوء أصلا، سِيمَا فِي حَقه، عَلَيْهِ السَّلَام؛ وَإِن كَانَ الثَّانِي: فَيحْتَاج إِلَى الِاغْتِسَال، وَلم يُوجد هَذَا أصلا فِي هَذِه الْقِصَّة، وَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب بِنَاء على ظَاهر الحَدِيث، حَيْثُ تَوَضَّأ بعد قِيَامه من النّوم، وإلاَّ مُنَاسبَة فِي وَضعه هَذَا الحَدِيث هَهُنَا. فَافْهَم.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس الأصبحي. الثَّانِي: مَالك بن أنس، خَال إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور. الثَّالِث: مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء. ابْن سُلَيْمَان الْوَالِي الْمدنِي. الرَّابِع: كريب، مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الرَّاوِي عَن خَاله، وَهُوَ رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن خَاله مَالك.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا الْأصيلِيّ فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْوتر عَن القعْنبِي، وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أَحْمد عَن ابْن وهب. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن هَارُون ابْن سعيد عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن وهب، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن خَلاد عَن معن بِهِ.
بَيَان لغاته قَوْله: (فِي عرض الوسادة) ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الرَّاء، وَقَالَ السفاقسي؛ ضم الْعين غير صَحِيح، ورويناه بِفَتْحِهَا عَن جمَاعَة، وَقَالَ ابو عبد الْملك: رُوِيَ بِفَتْح الْعين وَهُوَ ضد الطول، وبالضم الْجَانِب، وَالْفَتْح أَكثر. وَقَالَ الدَّاودِيّ عرضهَا بِضَم الْعين، وَأنْكرهُ أَبُو الْوَلِيد، وَقَالَ: لَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ: توسد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله طول الوسادة، وتوسد ابْن عَبَّاس عرضهَا. فَقَوله: (فاضطجع فِي عرضهَا) يَقْتَضِي أَن يكون الْعرض محلا لاضطجاعه، وَلَا يَصح ذَلِك إلاَّ أَن يكون فراشا. وَفِي (الْمطَالع)(3/64)
: الْفَتْح عِنْد أَكثر مَشَايِخنَا، وَوَقع عَن جمَاعَة مِنْهُم: الدَّاودِيّ وحاتم الطرابلسي والأصيليل بِضَم الْعين، وَالْأول أظهر. قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، والوساد: المتكأ. قَالَ ابْن سَيّده: وَقد توسد ووسده إِيَّاه. وَفِي (الْمُجْمل) : جمع الوسادة وسائد، والوسادة مَا يتوسد عَن الموم، وَالْجمع وسد. وَفِي (الصِّحَاح) : الوساد والوسادة: المخدة، وَالْجمع: وسائد ووسد، وَزعم ابْن التِّين أَن الوساد الْفراش الَّذِي ينَام عَلَيْهِ، فَكَأَن اضطجاع ابْن عَبَّاس فِي عرضهَا عِنْد رؤوسها أَو أرجلهما، كَذَا قَالَ أَبُو الْوَلِيد: قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا بَاطِل. قَوْله: (الى شن) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: وَهُوَ وعَاء المَاء إِذا كَانَ من أَدَم فأخلق، وَجمعه: شنان، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (بأذني) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة. قَوْله: (يفتلها) أَي: يدلكها ويعركها. قَوْله: (ثمَّ خرج) أَي من الججرة إِلَى الْمَسْجِد فصلى الصُّبْح أَي بِالْجَمَاعَة.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فاضطجعت) أَي: وضعت الْجنب على الأَرْض وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول: اضْطجع بِصُورَة الْمَاضِي الْغَائِب، كَمَا قَالَ: إِنَّه بَات. أَو قَالَ: بت كَمَا قَالَ: فاضطجعت، بِصُورَة الْمُتَكَلّم فيهمَا، وَلكنه قصد بذلك التفنن فِي الْكَلَام وَهُوَ نوع من أَنْوَاع الِالْتِفَات. فَإِن قلت: من هُوَ القاصد لذَلِك؟ قلت: كريب، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نقل كَلَام ابْن عَبَّاس، وَالظَّاهِر أَن اخْتِلَاف العبارتين من ابْن عَبَّاس وَمن كريب، لِأَنَّهُ كريباً أخبر أَولا عَن ابْن عَبَّاس أَنه باتت لَيْلَة عِنْد مَيْمُونَة، ثمَّ أضمر لفظ: قَالَ، قبل قَوْله: (فاضطجعت) ، فَيكون الْكَلَام على أسلوب وَاحِد. قَوْله: (حَتَّى) للغاية. قَوْله: (أَو قبله) ظرف لقَوْله: (اسْتَيْقَظَ) . إِن قُلْنَا: إِن: اذا ظرفية اي: حَتَّى اسْتَيْقَظَ وَقت انتصاف اللَّيْل، أَو قبل انتصافه. وَكلمَة: أَو، للتشكيك أَو يكون مُتَعَلقا بِفعل مُقَدّر. إِن قُلْنَا: إِن إِذا، شَرْطِيَّة و: اسْتَيْقَظَ، جزاؤها، وَالتَّقْدِير: حَتَّى إِذا استنصف اللَّيْل، أَو كَانَ قبل الانتصاف، اسْتَيْقَظَ. قَوْله: (فَجَلَسَ يمسح النّوم عَن وَجهه بِيَدِهِ) وَفِي بعض النّسخ: (فَجعل يمسح النّوم) . فَفِي الْوَجْه الأول يكون: يمسح، الَّتِي هِيَ جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: فَجَلَسَ وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: تكون الْجُمْلَة خبر: فَجعل، لِأَنَّهُ من أَفعَال المقاربة. وَمسح النّوم من الْعَينَيْنِ من بَاب إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل، لِأَن الْمسْح لَا يَقع إلاَّ على الْعَينَيْنِ، وَالنَّوْم لَا يمسح. وَقَالَ بَعضهم: أَو أثر النّوم من بَاب إِطْلَاق إسم السَّبَب على الْمُسَبّب. قلت: أثر النّوم من النّوم لِأَنَّهُ بَقِيَّته، فَكيف يكون من هَذَا الْبَاب؟ قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ الْعشْر الْآيَات) بِإِضَافَة الْعشْر إِلَى الْآيَات، وَيجوز دُخُول لَام التَّعْرِيف على الْعدَد عِنْد الْإِضَافَة، نَحْو: الثَّلَاثَة الأثواب، وَهُوَ من بَاب إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. قَوْله: (الْخَوَاتِم) بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: الْعشْر، وَهُوَ جمع خَاتِمَة أَي: أَوَاخِر سُورَة آل عمرَان، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 190) الى آخر السُّورَة. فَإِن قلت: ذكر فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي تقدم فِي بَاب التَّخْفِيف، هَكَذَا: فَتَوَضَّأ من شن مُعَلّق وضُوءًا خَفِيفا، بتذكير وصف الشن، وتوصيف الْوضُوء بالخفة، وَهَهُنَا أنث الْوَصْف حَيْثُ قَالَ: معلقَة، وَقَالَ: فَأحْسن وضوءه، وَالْمرَاد بِهِ الْإِتْمَام والإتيان بِجَمِيعِ المندوبات. فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: الشن: يذكر وَيُؤَنث، والتذكير بِاعْتِبَار لَفظه أَو بِاعْتِبَار الْأدم أَو الْجلد، والتأنيث بِاعْتِبَار الْقرْبَة، وإتمام الْوضُوء لَا يُنَافِي التَّخْفِيف، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون أَتَى بِجَمِيعِ المندوبات مَعَ التَّخْفِيف، أَو هَذَا كَانَ فِي وَقت، وَذَاكَ فِي وَقت آخر. قَوْله: (فصنعت مثل مَا صنع) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: فصنعت مثل مَا صنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: تَوَضَّأت نَحوا مِمَّا تَوَضَّأ، كَمَا صرح بِهِ فِي بَاب التَّخْفِيف، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ أَعم من ذَلِك فَيشْمَل النّوم حَتَّى انتصاف اللَّيْل وَمسح الْعَينَيْنِ عَن النّوم وَقِرَاءَة الْعشْر الْآيَات وَالْقِيَام إِلَى الشن وَالْوُضُوء وإحسانه. قَوْله: (يفتلها) جملَة وَقعت حَالا، وَأما فتله أُذُنه: إِمَّا للتّنْبِيه عَن الْغَفْلَة وَإِمَّا لإِظْهَار الْمحبَّة. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لم يكن فتله أُذُنه إلاَّ لأجل أَنه لما وقف وقف بجنبه الْيَسَار فَأخذ أُذُنه وعركها وأداره إِلَى يَمِينه. قَوْله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ) لفظ: رَكْعَتَيْنِ، سِتّ مَرَّات فَيكون الْمَجْمُوع، اثْنَي عشر رَكْعَة. قَوْله: (ثمَّ أوتر) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي جَاءَ بِرَكْعَة أُخْرَى فردة. قلت: لم لَا يجوز أَن يكون معنى قَوْله: أوتر، صلى ثَلَاث رَكْعَات، لِأَنَّهَا وترا ايضاً، بل الْأَوْجه هَذَا لِأَنَّهُ ورد النَّهْي عَن البتيراء، وَهُوَ التَّنَفُّل بِرَكْعَة وَاحِدَة. ثمَّ إعلم أَن قَوْله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ) إِلَى قَوْله: (ثمَّ اوتر) تَقْيِيد وَتَفْسِير للمطلق الَّذِي ذكر فِي بَاب التَّخْفِيف حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: فصلى مَا شَاءَ الله.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ ابْن بطال فِيهِ رد على من كره قِرَاءَة الْقُرْآن على غير طَهَارَة لمن لم يكن جنبا، وَهِي الْحجَّة الكافية فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَرَأَ الْعشْر الْآيَات بعد قِيَامه من النّوم قبل الْوضُوء، وَقَالَ الْكرْمَانِي:(3/65)
أَقُول: لَيْسَ ذَلِك حجَّة كَافِيَة، لِأَن قلب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا ينَام وَلَا ينْتَقض وضوؤه بِهِ، وَكَذَا رد عَلَيْهِ ابْن الْمُنِير، ثمَّ قَالَ: وَأما كَونه تَوَضَّأ عقيب ذَلِك فَلَعَلَّهُ جدد الْوضُوء أَو أحدث بعد ذَلِك فَتَوَضَّأ. وَاسْتحْسن بَعضهم كَلَامه بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَام ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: بعد قِيَامه من النّوم، ثمَّ قَالَ: لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن كَونه أحدث فِي النّوم، لَكِن لما عقب ذَلِك بِالْوضُوءِ كَانَ ظَاهرا فِي كَونه أحدث، وَلَا يلْزم من كَون نَومه لَا ينْقض وضوءه أَن لَا يَقع مِنْهُ حدث وَهُوَ نَائِم، نعم، إِن وَقع شعر بِهِ بِخِلَاف غَيره، وَمَا أَدْعُوهُ من التَّجْدِيد وَغَيره الأَصْل عَدمه. قلت: قَوْله: وَلَا يلْزم من كَون نَومه ... إِلَى آخِره غير مُسلم، وَكَيف يمْنَع عدم الْمُلَازمَة، بل يلْزم من كَون نَومه لَا ينْقض وضوءه أَن لَا يَقع مِنْهُ حدث فِي حَالَة النّوم، لَان هَذَا من خَصَائِصه، فَيلْزم من قَول هَذَا الْقَائِل أَن لَا يفرق بَين نوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونوم غَيره، وَقَوله: وَمَا أَدْعُوهُ من التَّجْدِيد وَغَيره الأَصْل عَدمه. قلت: هَذَا عِنْد عدم قيام الدَّلِيل على ذَلِك، وَهَهُنَا قَامَ الدَّلِيل بِأَن وضوءه لم يكن لأجل الْحَدث، وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (تنام عَيْنَايَ وَلَا ينَام قلبِي) ، وَحِينَئِذٍ يكون تَجْدِيد وضوئِهِ لأجل طلب زِيَادَة النُّور، حَيْثُ قَالَ: الْوضُوء نور على نور. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الِاضْطِجَاع عِنْد الْمحرم، وَإِن كَانَ زَوجهَا عِنْدهَا. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة اللَّيْل وَقِرَاءَة الْآيَات الْمَذْكُورَة بعد الانتباه من النّوم. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز عَرك أذن الصَّغِير لأجل التَّأْدِيب، أَو لأجل الْمحبَّة. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب مَجِيء الْمُؤَذّن إِلَى الإِمَام وإعلامه بِإِقَامَة الصَّلَاة. السَّادِس فِيهِ تَخْفيف الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبل صَلَاة الصُّبْح مَعَ مُرَاعَاة أَدَائِهَا. وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الَّتِي مضى ذكر بَعْضهَا، وَسَيَأْتِي بَعْضهَا أَيْضا فِي كتاب الْوتر. إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
37 - (بابُ مَنْ لَمْ يرَ الوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الغَشْيِ المُثْقِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم ير الْوضُوء إلاَّ من الغشي، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف. يُقَال: غشى عَلَيْهِ غشية وغشياناً فَهُوَ مغشي عَلَيْهِ، والغشى: مرض يعرض من طول التَّعَب وَالْوُقُوف، وَهُوَ ضرب من الْإِغْمَاء، إلاَّ أَنه أخف مِنْهُ. وَقَالَ صَاحب (الْعين) : غشي عَلَيْهِ: ذهب عقله، وَفِي الْقُرْآن: {كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} (الْأَحْزَاب: 19) وَقَالَ الله تَعَالَى {فاغشيناهم فهم لَا يبصرون} (ي س: 9) . قَوْله: (المثقل) ، بِضَم الْمِيم: من أثقل يثقل إثقالاً فَهُوَ مثقل بِكَسْر الْقَاف للْفَاعِل، وَبِفَتْحِهَا للْمَفْعُول، وَهُوَ ضد الْخَفِيف. فان قلت: كَيفَ يجوز هَذَا الْحصْر وللوضوء أَسبَاب أخر غير الغشي؟ قلت: أَيْنَمَا يَقع مثل هَذَا الْحصْر فَالْمُرَاد أَنه رد لاعتقاد السَّامع حَقِيقَة أَو ادِّعَاء، فَكَأَن هَهُنَا من يعْتَقد وجوب الْوضُوء من الغشي مُطلقًا، سَوَاء كَانَ مُثقلًا أَو غير مثقل، وأشركهما فِي الحكم، فالمتكلم حصر على أحد النَّوْعَيْنِ من الغشي فأفرده بالحكم مزيلاً للشَّرِكَة، وَمثله يُسمى قصر الْإِفْرَاد، وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يتَوَضَّأ إلاَّ من الغشي المثقل، لَا من الغشي الْغَيْر المثقل، وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنه يتَوَضَّأ تَوَضَّأ من الغشي المثقل لَا من سَبَب من أَسبَاب الْحَدث، وَجَوَاب آخر: أَنه اسْتثِْنَاء مفرغ، فَلَا بُد من تَقْدِير الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مناسباً لَهُ، فتقديره من لم ير الْوضُوء من الغشي. إلاَّ من الغشي المثقل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب السَّابِق عدم لُزُوم الْوضُوء عَن الْقِرَاءَة، وَهَهُنَا عدم لُزُومه عِنْد الغشي الْغَيْر المثقل.
184 - حدّثنا إسْماعِيلُ قالَ حدّثنى مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوةَ عَنِ امْرَأتِهِ فَاطِمة عَن جَدَّتِها أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ أنَّها قالتْ أتَيْتُ عائِشَة زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فاذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وإذَا هِي قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وقالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشْيُ وَجَعَلْتُ أصُبُّ فَوْقَ رَأْسي مَاء فَلَمَّا انْصَرَفَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَمِد اللَّهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أرَهُ إلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَقَدْ أُوحِيَ إليَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ(3/66)
مثْلَ أوْ قَرِيباً من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ لاَ أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالَتْ أسْمَاءُ يُؤْتَي أحَدُكُمْ فَيُقَال مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فأَما المُؤْمِنُ أوِ المُوقِنُ لاَ أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالَتْ أسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّهِ جاءَنَا بالبَيِّنَاتِ والهُدَى فَاجَبْنَا وآمنَّا واتَّبَعْنَا فَيُقالُ نَمْ صَالِحاً فَقَدْ عَلِمْنَا إنْ كُنْتَ لَمُؤْمِناً وأمَّا المُنَافِقُ أوِ المُرْتَابُ لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالتْ أْسمَاءُ فَيقُولُ لاَ أدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شيْئاً فقلْتُهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (حَتَّى تجلاني الغشي) ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُثقلًا لَكَانَ إنتقض الْوضُوء مِنْهَا، لِأَنَّهُ كالإغماء حِينَئِذٍ، وَالدَّلِيل على أَنه لم يكن مُثقلًا لِأَنَّهَا صبَّتْ المَاء على رَأسهَا ليزول الغشي، وَذَلِكَ يدل على أَن حواسها كَانَت حَاضِرَة، وَهُوَ يدل على عدم انْتِقَاض وضوئها.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَقد مر عَن قريب. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام القريشي؛ وَالرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: جدَّتهَا أَسمَاء، على وزن حَمْرَاء، بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنْهُم، وَزَوْجَة الزبير بن الْعَوام، وَفِي بعض النّسخ عَن: جدته، بتذكير الضَّمِير، وَكِلَاهُمَا صَحِيحَانِ بِلَا تفَاوت فِي الْمَعْنى، لِأَن أَسمَاء جدة لهشام ولفاطمة كليهمَا، وَتقدم ذكر الثَّلَاثَة فِي بَاب: من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأقران هِشَام وَامْرَأَته فَاطِمَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مَوَاضِع فِي الطَّهَارَة عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْكُسُوف عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الِاعْتِصَام عَن القعْنبِي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي الْعلم عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب، وَفِي الْجِهَاد، وَقَالَ مَحْمُود: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، ثَلَاثَتهمْ عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ، وَفِي السمر عَن يحيى ابْن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن هِشَام بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ، وَعَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة نَحوه، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث مُسْتَوفى فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد وَالرَّأْس، وَكَانَت تَرْجَمَة الْبَاب فِيهِ.
38 - (بابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مسح كل الرَّأْس فِي الْوضُوء وَلَفظ: (كُله) ، مَوْجُود عِنْدهم إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فَإِنَّهُ سَاقِط.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب الأول مترجم بترك الْوضُوء من الغشي إلاَّ إِذا كَانَ مُثقلًا، وَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على مسح جَمِيع الرَّأْس، وَهُوَ جُزْء من الْوضُوء.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالىَ وامْسَحُوا بِرُوسِكُمْ
احْتج البُخَارِيّ فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس بقوله تَعَالَى {وامسحو برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) واحتجاجه بِهِ إِنَّمَا يتم إِذا كَانَت: الْبَاء، زَائِدَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى.
وقالَ ابنُ المُسَيَّبِ المَرْأةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا
أَي: قَالَ ابْن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم يعْنى ابْن مَالك عَن سعيد بن الْمسيب الْمَرْأَة وَالرجل فِي مسح الرَّأْس سَوَاء. قَوْله: (بِمَنْزِلَة الرجل) أَي: فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن يكون مُرَاده أَنه بِمَنْزِلَة الرجل فِي وجوب أصل الْمسْح، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْأَثر لَا يساعد البُخَارِيّ فِي تبويبه لمسح كل الرَّأْس، وَنقل عَن أَحْمد أَنه قَالَ: يَكْفِي الْمَرْأَة مسح مقدم رَأسهَا.(3/67)
وَسُئِلَ مالِكٌ: أيُجْزِىءُ أنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ فاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ
أيجزىء: يجوز فِيهِ الوجان: احدهما: بِفَتْح الْيَاء من جزى أَي كفى، والهمزة فِيهِ للاستفهام. وَالثَّانِي: بِضَم الْيَاء من الْإِجْزَاء وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، وَفِي بعض النّسخ: بِبَعْض رَأسه، وَفِي بَعْضهَا: بعض الرَّأْس، والسائل عَن مَالك فِي مسح الرَّأْس هُوَ إِسْحَاق بن عِيسَى ابْن الطباع، بَينه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه، وَلَفظه: سَأَلت مَالِكًا عَن الرجل يمسح مقدم رَأسه فِي وضوئِهِ أيجزيه؟ فَقَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن عبد الله بن زيد، قَالَ: (مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وضوئِهِ من ناصيته إِلَى قَفاهُ، ثمَّ رد يَدَيْهِ إِلَى ناصيته فَمسح رَأسه كُله) . وَقَالَ بَعضهم: مَوضِع الدّلَالَة من الحَدِيث وَالْآيَة: ان لفظ الْآيَة مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مسح الْكل، عَن أَن: الْبَاء، زَائِدَة، أَو مسح الْبَعْض على أَنَّهَا تبعيضية، فَتبين بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد الأول. قلت: لَا إِجْمَال فِي الْآيَة، وَإِنَّمَا الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار دون الْمحل، لِأَن الرَّأْس وَهُوَ مَعْلُوم، وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بَيَانا للإجمال الَّذِي فِي الْمِقْدَار، وَهَذَا الْقَائِل لَو علم معنى الْإِجْمَال لما قَالَ لفظ الْآيَة مُجمل. قَوْله: (فاحتج) اي: مَالك احْتج بِحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي سَاقه هُنَا على عدم الْإِجْزَاء فِي مسح بعض الرَّأْس، وَالْمعْنَى: أَنه لما سُئِلَ عَن مسح الرَّأْس روى هَذَا الحَدِيث وَاحْتج بِهِ على أَنه لَا يجوز أَن يقْتَصر بِبَعْض الرَّأْس.
185 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ عَمرِو بن يَحْيىَ المَازِنيِّ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَجُلاً قالَ لَعْبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ وَهوَ جَدُّ عَمْرِو بنِ يَحْيىَ أتَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّا فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعًّ بِماءٍ فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رأْسَهُ بِيَدَيْهِ فأقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبَرَ بَدَأَ بِمقَدَّم رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ مسح رَأسه) . إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عبد الله يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: مَالك بن انس. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم، وَقد تقدمُوا. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة بن أبي حسن، واسْمه تَمِيم بن عبد بن عَمْرو بن قيس، وَأَبُو حسن لَهُ صُحْبَة، وَكَذَا لعمارة فِيمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر. وَقَالَ أَبُو نعيم: فِيهِ نظر. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عمَارَة بن أبي حسن الْأنْصَارِيّ الْمَازِني، لَهُ صُحْبَة، وَقيل: ابوه بَدْرِي وعقبي. الْخَامِس: الرجل السَّائِل هُوَ عمر بن يحيى، وَإِنَّمَا قَالَ: جد عَمْرو بن يحيى تجوزاً لِأَنَّهُ عَم أَبِيه، وَسَماهُ جَداً لكَونه فِي مَنْزِلَته. وَقيل: إِن المُرَاد بقوله هُوَ عبد الله بن زيد وَهَذَا وهم، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَداً لعَمْرو بن يحيى لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَذكر فِي (الْكَمَال) فِي تَرْجَمَة عَمْرو بن يحيى أَنه ابْن بنت عبد الله بن زيد. قَالُوا: إِنَّه غلط، وَقد ذكر مُحَمَّد بن سعد أَن أم عَمْرو بن يحيى هِيَ حميدة بنت مُحَمَّد بن إِيَاس بن بكير، وَقَالَ غَيره: هِيَ أم النُّعْمَان بنت أبي حَيَّة. وَالله اعْلَم. وَقد اخْتلف رُوَاة (الْمُوَطَّأ) فِي تعْيين هَذَا السَّائِل فأبهمه أَكْثَرهم. قَالَ معن بن عِيسَى فِي رِوَايَته عَن عَمْرو عَن ابيه يحيى: إِنَّه سمع أَبَا مُحَمَّد بن حسن، وَهُوَ جد عَمْرو بن يحيى. قَالَ لعبد الله بن زيد، وَكَانَ من الصَّحَابَة فَذكر الحَدِيث، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ: عَن مَالك حَدثنَا عَمْرو عَن أَبِيه يحيى أَنه سمع جده أَبَا حسن يسْأَل عبد الله بن زيد، وَكَذَا سَاقه سَحْنُون فِي (الْمُدَوَّنَة) . وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : عَن مَالك عَن عَمْرو عَن أَبِيه. فَإِن قلت: هَل يُمكن أَن يجمع هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: يُمكن أَن يُقَال: اجْتمع عِنْد عبد الله بن زيد بن ابي حسن الْأنْصَارِيّ وَابْنه عَمْرو وَابْن ابْنه عمَارَة بن أبي حسن، فَسَأَلُوهُ عَن صفة وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَوَلَّى السُّؤَال مِنْهُم لَهُ عمَارَة بن أبي حسن، فَحَيْثُ نسب إِلَيْهِ السُّؤَال كَانَ على الْحَقِيقَة، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ فِي بَاب الْوضُوء من التور، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عمي، يعْنى عَمْرو بن أبي حسن، يكثر الْوضُوء، فَقَالَ لعبد الله ابْن زيد: أَخْبرنِي، فَذكره. وَحَيْثُ نسب السُّؤَال إِلَى أبي حسن فعلى الْمجَاز لكَونه كَانَ الْأَكْبَر وَكَانَ حَاضرا، وَحَيْثُ نسب السُّؤَال ليحيى بن عمَارَة فعلى الْمجَاز أَيْضا لكَونه ناقل الحَدِيث، وَقد حضر السُّؤَال، وَكَانُوا كلهم متفقين على السُّؤَال،(3/68)
غير أَن السَّائِل مِنْهُم كَانَ عَمْرو بن أبي حسن، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من حَدِيث الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن عَمه عَمْرو بن أبي حسن. قَالَ: كنت كثير الْوضُوء فَقلت لعبد الله بن زيد ... الحَدِيث السَّادِس: من الرِّجَال عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالْأَخْبَار، كَذَلِك والعنعنة وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مذنيون إلاَّ عبد الله بن يُوسُف وَقد دَخلهَا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة فِي خَمْسَة مَوَاضِع عَن عبد الله بن يُوسُف هُنَا، وَعَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَسليمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن وهيب، وَعَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله وَعَن أَحْمد ابْن يُونُس عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة الْمَاجشون، خمستهم عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا، وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر. وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا فِي الطَّهَارَة: فَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد وَعَن القعْنبِي وَعَن الْحسن بن عَليّ، وَالتِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ بِهِ مُخْتَصرا. وَالنَّسَائِيّ عَن عقبَة بن عبد الله بن الْيَعْمرِي وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور؛ وَابْن مَاجَه عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وحرملة بن عِيسَى كِلَاهُمَا عَن الشَّافِعِي عَن مَالك وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة مُخْتَصرا، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد مُخْتَصرا.
بَيَان اللُّغَات والمعاني قَوْله: (فأفرغ على يَده) أَي: فصب المَاء على يَده، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (يَدَيْهِ) . قَوْله: وَفِي رِوَايَة مُوسَى عَن وهيب: فأكفأ، بهمزتين. وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب فِي بَاب مسح الرَّأْس مرّة عَن وهيب: فكفأ، بِفَتْح الْكَاف وهما لُغَتَانِ بِمَعْنى. يُقَال: كفأ الْإِنَاء وأكفأه إِذا أماله. وَقَالَ الْكسَائي: كفأت الْإِنَاء كببته، وأكفأته أملته، وَالْمرَاد فِي الْمَوْضِعَيْنِ أفراغ المَاء من الْإِنَاء على الْيَد. قَوْله: (فَغسل يَده مرَّتَيْنِ) بإفراد الْيَد فِي رِوَايَة مَالك، وتثنية الْيَد فِي رِوَايَة وهيب وَسليمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ، وَكَذَا الدراورذي عِنْد ابي نعيم، وَفِي رِوَايَة مَالك: (فَغسل يَده مرَّتَيْنِ) . بإفراد الْيَد، يحمل على الْجِنْس، ثمَّ إِنَّه عِنْد مَالك مرَّتَيْنِ، وَعند هَؤُلَاءِ ثَلَاثًا، وَكَذَا لخَالِد بن عبد الله عِنْد مُسلم فان قلت: لِمَ لَا يحمل هَذَا على الوقعتين؟ قلت: الْمخْرج وَاحِد وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد. قَوْله: (ثمَّ تمضمض واستنثر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مضمض واستنشق) وَمعنى استنثر: استنشق المَاء ثمَّ اسْتِخْرَاج ذَلِك بِنَفس الْأنف، والنثرة الخيشوم وَمَا ولاه وتشق واستنشق المَاء فِي أَنفه صبه فِيهِ وَيُقَال نشر وانتشر واستنشر إِذا حرك النشرة، وَهِي طرف الْأنف. وَقَالَ بَعضهم: الاستنثار يسْتَلْزم الِاسْتِنْشَاق بِلَا عكس. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد. قَوْله: (ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات فِي ذَلِك. قَوْله: (ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) كَذَا بتكرار: مرَّتَيْنِ، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات عَن عَمْرو بن يحيى فِي غسل الْيَدَيْنِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حبَان بن وَاسع عَن عبد الله بن زيد: (انه رأى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، تَوَضَّأ وَفِيه يَده الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ الْأُخْرَى ثَلَاثًا) فَيحمل عل أَنه وضوء آخر لكَون مخرج الْحَدِيثين غير مُتحد. قَوْله: (إِلَى الْمرْفقين) كَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: إِلَى الْمرْفق، بِالْإِفْرَادِ على إِرَادَة الْجِنْس. قَوْله: (ثمَّ مسح رَأسه) زَاد ابْن الطباع لَفظه: كُله، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رِوَايَة خَالِد بن عبد الله: (مسح بِرَأْسِهِ) ، بِزِيَادَة: الْبَاء. قَوْله: (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة وهيب الْآتِيَة إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (أتستطيع) ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (أَن تريني) فكلمة أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول: تَسْتَطِيع، وَالتَّقْدِير: هَل تَسْتَطِيع الإراءة إيَّايَ كَيفَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ؟ قَوْله: (يتَوَضَّأ) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، وَيجوز أَن تكون تَامَّة وَيكون قَوْله: (يتَوَضَّأ) حَالا. قَوْله: (نعم) ، مقول القَوْل، وَهُوَ يكون جملَة، وَالتَّقْدِير: نعم أَسْتَطِيع أَن أريك. قَوْله: (فَدَعَا بِمَاء) الْفَاء: للتعقيب، وَكَذَا: الْفَاء فِي: فافرغ، وَفِي: فَغسل يَدَيْهِ، وَأما كلمة: ثمَّ، فِي سِتَّة مَوَاضِع فِي الحَدِيث بِمَعْنى: الْوَاو، وَلَيْسَت على مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ، وَهُوَ: الْإِمْهَال. كَذَا قَالَ ابْن بطال. قلت: ثمَّ،(3/69)
فِي هَذِه الْمَوَاضِع للتَّرْتِيب لِأَن: ثمَّ، تسْتَعْمل لثَلَاثَة معَان: التَّشْرِيك فِي الحكم، وَالتَّرْتِيب، والمهلة. مَعَ أَن فِي كل وَاحِد خلافًا، وَالْمرَاد من التَّرْتِيب هُوَ التَّرْتِيب فِي الْإِخْبَار لَا التَّرْتِيب فِي الحكم مثل مَا يُقَال بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب! أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب. قَوْله: (بَدَأَ بِمقدم رَأسه) إِلَى قَوْله: (مِنْهُ) بَيَان لقَوْله: (فَأقبل بهما وَأدبر) ، وَلذَلِك لم تدخل الْوَاو عَلَيْهِ. قَوْله: (بَدَأَ مِنْهُ) إِلَى آخِره من الحَدِيث، وَلَيْسَ مدرجاً من كَلَام مَالك.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ غسل الْيَد قبل شُرُوعه فِي الْوضُوء، وَذكر هُنَا مرَّتَيْنِ، وَذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، ثمَّ إِن هَذَا الْغسْل لَيْسَ من سنَن الْوضُوء وَلَا من الْفُرُوض، وَذهب دَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء ينجس إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة؛ وَقَالَ مَالك: السّنة أَن يغسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء مرَّتَيْنِ، كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث. قلت: فِيهِ أَقْوَال خَمْسَة: الأول: إِنَّه سنة، وَهُوَ الْمَشْهُور عندنَا، كَذَا فِي (الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) وَيدل عَلَيْهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتَوَضَّأ قطّ إلاَّ غسل يَدَيْهِ. وَفِي (الْمَنَافِع) تَقْدِيم غسلهمَا إِلَى الرسغين سنة تنوب عَن الْفَرْض، كالفاتحة تنوب عَن الْوَاجِب وَفرض الْقِرَاءَة. الثَّانِي: إِنَّه مُسْتَحبّ للشَّاكِّ فِي طَهَارَة يَده، كَذَا رُوِيَ عَن مَالك. الثَّالِث: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، قَالَ أَحْمد. الرَّابِع: إِن من شكّ: هَل أَصَابَت يَده نَجَاسَة أم لَا؟ يجب غسلهمَا فِي مَشْهُور مَذْهَب مَالك. الْخَامِس: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من النّوم مُطلقًا، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأَصْحَابه. وَفِي الْحَوَاشِي تَقْدِيم غسل الْيَدَيْنِ للمستيقظ يتْرك بِالْحَدِيثِ، وإلاَّ فسببه شَامِل لَهُ وَلغيره.
الثَّانِي: فِيهِ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وهما سنتَانِ فِي الْوضُوء، فرضان فِي الْغسْل. وَبِه قَالَ الثَّوْريّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: سنتَانِ فيهمَا، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَالْحكم وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث، وَهُوَ رِوَايَة عَن عَطاء وَأحمد، وَعنهُ أَنَّهُمَا واجبتان فيهمَا، وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق. وَالْمذهب الرَّابِع: أَن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب فِي الْوضُوء وَالْغسْل دون الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
الثَّالِث: فِيهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مضمض واستنشق ثَلَاثًا بِثَلَاث غرفات، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَفِي (الرَّوْضَة) . فِي كيفيته وَجْهَان: أصَحهمَا: يتمضمض من غرفَة ثَلَاثًا، ويستنشق من أُخْرَى ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: بست غرفات. وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِحَدِيث التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي: (مضمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: لَمْ يحكِ فِيهِ ان كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِدَة بل حكى انه تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا قلت مضمونه ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَن يَأْخُذ لكل وَاحِد مِنْهُمَا مَاء جَدِيدا، وَكَذَا روى الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة، وَثَلَاث غرفات للاستنشاق.
الرَّابِع: فِيهِ غسل الْوَجْه ثَلَاث مَرَّات، وَلَيْسَ فِيهِ خلاف.
الْخَامِس: فِيهِ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ، وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم: ثَلَاثًا. فَإِن قلت: هَل هَذَا يغسل يَدَيْهِ هَهُنَا من أول الْأَصَابِع أَو يغسل ذِرَاعَيْهِ؟ قلت: ذكر فِي الأَصْل غسل ذِرَاعَيْهِ لَا غير لتقدم غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الرسغ مرّة، وَفِي (الذَّخِيرَة) : الْأَصَح عِنْدِي أَن يُعِيد غسل الْيَدَيْنِ ظاهرهما وباطنهما، لِأَن الأول كَانَ سنة افْتِتَاح الْوضُوء، فَلَا يَنُوب عَن فرض الْوضُوء.
السَّادِس: فِيهِ أَن الْمرْفقين هما يدخلَانِ فِي غسل الْيَدَيْنِ عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لزفَر وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ أدَار المَاء على مرفقيه) ، وروى الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث وَائِل بن حجر: (وَغسل ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوز الْمرْفق) ، وروى الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ثَعْلَبَة بن عباد الْعَبْدي عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يسيل المَاء على مرفقيه) .
السَّابِع: فِيهِ مسح رَأسه، احْتج بِهِ مَالك وَابْن علية وَأحمد فِي رِوَايَة عَليّ أَن مسح جَمِيع الرَّأْس فرض؛ وَلَكِن أَصْحَاب مَالك اخْتلفُوا، فَقَالَ أَشهب: يجوز مسح بعض الرَّأْس، وَقَالَ غَيره: الثُّلُث فَصَاعِدا، وَعِنْدنَا وَعند الشَّافِعِي: الْفَرْض مسح بعض الرَّأْس. فَقَالَ أَصْحَابنَا: ذَلِك الْبَعْض هُوَ ربع الرَّأْس، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة لِأَن الْكتاب مُجمل فِي حق الْمِقْدَار فَقَط، لِأَن: الْبَاء، فِي (وامسحو برؤوسكم) للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع، فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه، كَمَا تَقول: مسحت الْحَائِط بيَدي، ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي، فَيتَنَاوَل كُله،(3/70)
وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى الْآلَة فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَاب، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلصاق الْآلَة بِالْمحل، وَذَلِكَ يستوعب الْكل عَادَة بل أَكثر الْآلَة ينزل منزلَة الْكل فيتأدى الْمسْح بإلصاق ثَلَاثَة أَصَابِع بِمحل الْمسْح، وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِمَعْنى أَن: الْبَاء، للتَّبْعِيض، كَمَا قَالَه الْبَعْض. وَقد أنكر بعض أهل الْعَرَبيَّة كَون: الْبَاء، للتَّبْعِيض، وَقَالَ ابْن برهَان: من زعم أَن: الْبَاء، تفِيد التَّبْعِيض فقد جَاءَ أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعْرفُونَ، وَقد جعل الْجِرْجَانِيّ معنى الإلصاق فِي: الْبَاء، أصلا وَإِن كَانَت تَجِيء لمعانٍ كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن هَاشم: أثبت مَجِيء: الْبَاء، للتَّبْعِيض الْأَصْمَعِي والفارسي والقتبي وَابْن مَالك. قيل: والكوفيون، وَجعلُوا مِنْهُ: {عينا يشرب بهَا عباد الله} (الْإِنْسَان: 6) قيل وَمِنْه: {وامسحوا برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) فَالظَّاهِر
أَن: الْبَاء، فيهمَا للإلصاق. وَقيل: هِيَ فِي آيَة الْوضُوء للاستعانة، وَإِن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا، فَإِن: مسح، يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ، وَإِلَى المزيل: بِالْبَاء، فَالْأَصْل امسحوا رؤوسكم بِالْمَاءِ. فان قلت: أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (النِّسَاء: 43) ، ثمَّ الإستيعاب فِيهِ شَرط؟ قلت: عرف الِاسْتِيعَاب فِيهِ إِمَّا بِإِشَارَة الْكتاب، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي هذَيْن العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذره، والاستيعاب فرض بِالنَّصِّ، وَكَذَا فِيمَا قَامَ مقَامه، أَو عرف ذَلِك بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (يَكْفِيك ضربتان: ضَرْبَة للْوَجْه وضربه للذراعين) . وَأما على رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه لَا يشْتَرط الِاسْتِيعَاب فَلَا يرد شَيْء. فَإِن قلت: الْمسْح فرض، والمفروض مِقْدَار الناصية، وَمن حكم الْفَرْض أَن يكفر جاحده، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر، فَكيف يكون فرضا؟ قلت: بل جَاحد، أصل الْمسْح كَافِر لِأَنَّهُ قَطْعِيّ، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر لِأَنَّهُ فِي حق الْمِقْدَار ظَنِّي. فان قلت: أَيهَا الْحَنَفِيّ! إِنَّك استدللت بِحَدِيث الْمُغيرَة على أَن الْمِقْدَار فِي الْمسْح هُوَ قدر الناصية، وَتركت بَقِيَّة الحَدِيث وَهُوَ: الْمسْح على الْعِمَامَة. قلت: لَو عَملنَا بِكُل الحَدِيث يلْزم بِهِ الزِّيَادَة على النَّص، لِأَن هَذَا خبر الْوَاحِد، وَالزِّيَادَة بِهِ على الْكتاب نسخ، فَلَا يجوز. وَأما الْمسْح على الرَّأْس فقد ثَبت بِالْكتاب فَلَا يلْزم ذَلِك، وَأما مَسحه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْعِمَامَة فأوله الْبَعْض بَان المُرَاد بِهِ مَا تَحْتَهُ من قبيل إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل، وأوله الْبَعْض بِأَن الرَّاوِي كَانَ بَعيدا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمسح على رَأسه وَلم يضع الْعِمَامَة من رَأسه، فَظن الرَّاوِي أَنه مسح على الْعِمَامَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَأحسن مَا حمل عَلَيْهِ أَصْحَابنَا حَدِيث الْمسْح على الْعِمَامَة أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَعَلَّه كَانَ بِهِ مرض مَنعه كشف رَأسه، فَصَارَت الْعِمَامَة كالجبيرة الَّتِي يمسح عَلَيْهَا للضَّرُورَة. وَقَالَ بَعضهم: فَإِن قيل: فَلَعَلَّهُ اقْتصر على مسح الناصية لعذر لِأَنَّهُ كَانَ فِي سفر، وَهُوَ مَظَنَّة الْعذر، وَلِهَذَا مسح على الْعِمَامَة بعد مسح الناصية، كَمَا هُوَ ظَاهر سِيَاق مُسلم من حَدِيث الْمُغيرَة. قُلْنَا: قد رُوِيَ عَنهُ مسح مقدم الرَّأْس من غير مسح على الْعِمَامَة. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من حَدِيث عَطاء: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فحسر الْعِمَامَة عَن رَأسه وَمسح مقدم رَأسه) ، وَهُوَ مُرْسل، لكنه اعتضد من وَجه آخر مَوْصُولا، أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث أنس. وَفِي إِسْنَاده أَبُو معقل لَا يعرف حَاله، فقد اعتضد كل من الْمُرْسل والموصول بِالْآخرِ، وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل من أعجب الْعَجَائِب لِأَنَّهُ يَدعِي أَن الْمُرْسل غير حجَّة عِنْد إِمَامه، ثمَّ يَدعِي أَنه اعتضد بِحَدِيث مَوْصُول ضَعِيف باعترافه هُوَ، ثمَّ يَقُول: وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة، فَكيف تحصل الْقُوَّة من شَيْء لَيْسَ بِحجَّة وَشَيْء ضَعِيف؟ فَإِذا كَانَ الْمُرْسل غير حجَّة يكون فِي حكم الْعَدَم، وَلَا يبْقى إلاَّ الحَدِيث الضَّعِيف وَحده، فَكيف تكون الصُّورَة الْمَجْمُوعَة؟ .
الثَّامِن: فِيهِ الْبدَاءَة فِي مسح الرَّأْس بمقدمه، وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة. فَعِنْدَ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (ثمَّ مسح رَأسه بيدَيْهِ، فَأقبل بهما وادبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) . وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الرّبيع: (بَدَأَ بمؤخره ثمَّ مد يَدَيْهِ على ناصيته) . وَعند الطَّبَرَانِيّ: (بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ جَرّه إِلَى مؤخره) . وَعند أبي دَاوُد: (يبْدَأ بمؤخره ثمَّ بمقدمه وبإذنه كليهمَا) . وَفِي لفظ: (مسح الراس كُله من قرن الشّعْر كل ناحيته لمنصب الشّعْر لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته) . وَفِي لفظ: (مسح رَأسه كُله وَمَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه) . وَعند الْبَزَّار من حَدِيث أبي بكرَة يرفعهُ: (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِيه: (مسح بِرَأْسِهِ يقبل بِيَدِهِ من مقدمه إِلَى مؤخره وَمن مؤخره إِلَى مقدمه) . وَعند ابْن نَافِع من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (وضع يَدَيْهِ(3/71)
على النّصْف من رَأسه ثمَّ جرهما إِلَى مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ وجرهما إِلَى صدغيه) . وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث أنس: (أَدخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح بِمقدم رَأسه) . وَفِي كتاب ابْن السكن: (فَمسح بَاطِن لحيته وَقَفاهُ) . وَفِي (مُعْجم) الْبَغَوِيّ وَكتاب ابْن ابي خَيْثَمَة: (مسح رَأسه إِلَى سالفته) . وَفِي كتاب النَّسَائِيّ عَن عَائِشَة، ووصفت وضوءه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَوضعت يَدهَا فِي مقدم رَأسهَا ثمَّ مسحت إِلَى مؤخره، ثمَّ مدت بِيَدَيْهَا بأذنيها، ثمَّ مدت على الْخَدين. فَهَذِهِ أوجه كَثِيره يخْتَار المتوضىء أَيهَا شَاءَ، وَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة عبد الله بن زيد. وَقَالَ بَعضهم: فِي قَوْله: بَدَأَ بِمقدم رَأسه، حجَّة على من قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس الى ان يَنْتَهِي الى مقدمه. قلت: لَا يُقَال: إِن مثل هَذَا حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ورد فِيهِ الْأَوْجه الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وَالَّذِي قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس اخْتَار الْوَجْه الَّذِي فِيهِ البداء بمؤخر الرَّأْس، وَله أَيْضا أَن يَقُول: هَذَا الْوَجْه حجَّة عَلَيْك أَيهَا الْمُخْتَار فِي الْبدَاءَة بالمقدم.
التَّاسِع: فِيهِ غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمرْفقين.
الْعَاشِر: فِيهِ جَرَيَان التلطف بَين الشَّيْخ وتلميذه فِي قَوْله: (أتستطيع أَن تريني) إِلَى آخِره.
الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي إِحْضَار المَاء من غير كَرَاهَة.
الثَّانِي عشر: فِيهِ التَّعْلِيم بِالْفِعْلِ.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن الاغتراف من المَاء الْقَلِيل لَا يصير المَاء مُسْتَعْملا، لِأَن فِي رِوَايَة وهيب وَغَيره: ثمَّ أَدخل يَده.
الرَّابِع عشر: فِيهِ اسْتِيعَاب مسح الرَّأْس، وَلَكِن سنة لَا فرضا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ الِاقْتِصَار فِي مسح الرَّأْس على مرّة وَاحِدَة.
39 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الكعْبَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ فِي الْوضُوء. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
186 - حدّثنا مُوسَى بْنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍ عَنْ أبِيهِ شَهدْتُ عَمْرَو بنَ أبي حَسَنٍ سَألَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاكْفَأَ علَى يَدِهِ مِنَ النَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْه ثَلاثاً ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي النَّوْرِ فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثَ غَرَفاتٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ يدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى المرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَاقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ مرَّةً غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، والأبحاث الْمُتَعَلّقَة بِهِ قد ذَكرنَاهَا فِي الحَدِيث السَّابِق، وَنَذْكُر هَهُنَا الَّتِي لم نذْكر هُنَاكَ.
فَنَقُول: مُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، مر فِي كتاب الْوَحْي، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد الْبَاهِلِيّ مر فِي بَاب من أجَاب الْفتيا، وَعمر وَهُوَ ابْن يحيى بن عمَارَة، شيخ مَالك الْمُتَقَدّم ذكره فِي الحَدِيث السَّابِق، وَعمر وَابْن أبي حسن، بِفَتْح الْحَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عَمْرو هَذَا جد عَمْرو بن يحيى. فَإِن قلت: تقدم أَن السَّائِل هُوَ جَده، وَهَذَا يدل على أَنه أَخُو جده، فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: لَا مُنَافَاة فِي كَونه جَداً لَهُ من جِهَة الْأُم، عَمَّا لِأَبِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: أغرب الْكرْمَانِي فَقَالَ: عَمْرو بن ابي حسن جد عَمْرو بن يحيى من قبل أمه، وَقدمنَا أَن أم عَمْرو بن يحيى لَيست بِنْتا لعَمْرو بن أبي حسن، فَلم يستقم مَا قَالَه بِالِاحْتِمَالِ. قلت: لم يغرب الْكرْمَانِي فِي ذَلِك، وَلَا قَالَه بِالِاحْتِمَالِ، فَإِن صَاحب (الْكَمَال) قَالَ ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي مضى.
قَوْله: (بتور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره رَاء: هُوَ الطشت، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَاء يشرب مِنْهُ. وَقَالَ الدَّرَاورْدِي: قدح. وَقيل: يشبه الطشت، وَقيل: مثل الْقدر يكون من صفر أَو حِجَارَة، وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة عِنْد البُخَارِيّ فِي بَاب الْغسْل فِي المخضب والصفر، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء: صنف من جيد النّحاس قيل: إِنَّه سمي بذلك لكَونه يشبه الذَّهَب، وَيُسمى أَيْضا: الشّبَه، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (لَهُم) أَي: لأجلهم، وهم: السَّائِل وَأَصْحَابه. قَوْله: (فأكفأ) فعل ماضٍ من الإكفاء، وَقد مر فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (واستنشق واستنثر) قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا دَلِيل من قَالَ: إِن الاستنشار هُوَ غير الِاسْتِنْشَاق، وَهُوَ الصَّوَاب. قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى عَن ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: أَن الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد، فان قلت: فعلى هَذَا يكون عطف الشَّيْء على نَفسه. قلت: لَا نسمِ(3/72)
ذَلِك، لِأَن اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ يجوز ذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون عطف تَفْسِير. قَوْله: (ثَلَاثَة غرفات) قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا أَنَّهَا كَانَت للمضمضة ثَلَاثًا وللاستنشاق ثَلَاثًا، أَو كَانَت الثَّلَاث لَهما، وَلِهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قلت: الظَّاهِر هُوَ الأول لَا الثَّانِي، لِأَنَّهُ ثَبت فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: أَنه مضمض واستنشق ثَلَاثًا. فان قلت: لَا يعلم أَن كل وَاحِدَة من الثَّلَاث بغرفة. قلت: قد قُلْنَا لَك فِيمَا مضى: إِن الْبُوَيْطِيّ روى عَن الشَّافِعِي أَنه روى عَنهُ أَنه: يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق، وكل مَا رُوِيَ من خلاف هَذَا فَهُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز. قَوْله: (ثمَّ أَدخل يَده) يدل على أَنه اغترف بِإِحْدَى يَدَيْهِ، هَكَذَا هُوَ فِي بَاقِي الرِّوَايَات، وَفِي مُسلم وَغَيره، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَأبي الْوَقْت من طَرِيق سُلَيْمَان ابْن بِلَال الْآتِيَة: (ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ) ، بالتثنية، وَلَيْسَ كَذَلِك فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا الْأصيلِيّ، وَلَا فِي شَيْء من الرِّوَايَات خَارج الصَّحِيح، قَالَه النَّوَوِيّ: (ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، المُرَاد: غسل كل يَد مرَّتَيْنِ، كَمَا تقدم من طَرِيق مَالك: (ثمَّ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) ، وَلَيْسَ المُرَاد توزيع الْمَرَّتَيْنِ على الْيَدَيْنِ ليَكُون لكل يَد مرّة وَاحِدَة. قَوْله: (إِلَى الْمرْفقين) الْمرْفق، بِكَسْر الْمِيم وبفتح الْفَاء: هُوَ الْعظم الناتىء فِي الذِّرَاع، سمي بذلك لِأَنَّهُ يرتفق فِي الإتكاء وَنَحْوه. قَوْله: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعب هُوَ الْعظم الناتيء عِنْد ملتقى السَّاق والقدم. قَالَ بَعضهم: وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه الْعظم الَّذِي فِي ظهر الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك. قلت: هَذَا مختلق على أبي حنيفَة، وَلم يقل بِهِ أصلا، بل نقل ذَلِك عَن مُحَمَّد بن الْحسن، وَهُوَ أَيْضا غلط، لِأَن هَذَا التَّفْسِير فسره مُحَمَّد فِي حق الْمحرم إِذا لم يجد نَعْلَيْنِ يلبس خُفَّيْنِ يقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ بالتفسير الَّذِي ذكره.
40 - (بابُ اسْتِعْمالِ فَضْل وَضُوءِ الناسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس فِي التطهر وَغَيره. وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو؛ وَالْمرَاد من فضل الْوضُوء يحْتَمل أَن يكون مَا يبْقى فِي الظّرْف بعد الْفَرَاغ من الْوضُوء، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المَاء الَّذِي يتقاطر عَن أَعْضَاء المتوضىء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يَقُول لَهُ الْفُقَهَاء: المَاء الْمُسْتَعْمل. وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ؛ فَعَن ابي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات: فروى عَنهُ أَبُو يُوسُف أَنه نجس مخفف، وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه نجس مغلظ، وروى مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر وعافية القَاضِي أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر. وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الْأَشْهر الأقيس. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) : وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الأسبيجابي: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ قاضيخان: وَرِوَايَة التَّغْلِيظ رِوَايَة شَاذَّة غير مَأْخُوذ بهَا، وَبِه يرد على ابْن حزم قَوْله: الصَّحِيح عَن ابي حنيفَة نَجَاسَته. وَقَالَ عبد الحميد القَاضِي: أَرْجُو أَن لَا تثبت رِوَايَة النَّجَاسَة فِيهِ عَن ابي حنيفَة. وَعند مَالك طَاهِر وطهور، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر. وَعند الشَّافِعِي طَاهِر غير طهُور وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد. وَعند زفر إِن كَانَ مستعمله طَاهِرا فَهُوَ طَاهِر وطهور، وَإِن مُحدثا فَهُوَ طَاهِر غير طهُور. وَقَوله: اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس أَعم من أَن يسْتَعْمل للشُّرْب أَو لإِزَالَة الْحَدث أَو الْخبث أَو للاختلاط بِالْمَاءِ الْمُطلق، فعلى قَول النَّجَاسَة لَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا، وعَلى قَول الطّهُورِيَّة يجوز اسْتِعْمَاله فِي كل شَيْء، وعَلى قَول الطاهرية فَقَط يجوز اسْتِعْمَاله للشُّرْب والعجين والطبخ وَإِزَالَة الْخبث، وَالْفَتْوَى عندنَا على أَنه طَاهِر غير طهُور، كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب السَّابِق فِي صفة الْوضُوء، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان المَاء الَّذِي يفضل من الْوضُوء.
وأمَرَ جَرِيرُ بنُ عبْدِ اللَّهِ أهْلهُ أنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ
هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة أصلا، فَإِن التَّرْجَمَة فِي اسْتِعْمَال فضل المَاء الَّذِي يفضل من المتوضىء، والأثر هُوَ الْوضُوء بِفضل السِّوَاك، ثمَّ فضل السِّوَاك إِن كَانَ مَا ذكره ابْن التِّين وَغَيره أَنه هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع بِهِ السِّوَاك، فَلَا مُنَاسبَة لَهُ للتَّرْجَمَة أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفضل الْوضُوء، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنه المَاء الَّذِي يغمس فِيهِ المتوضىء سواكه بعد الاستياك، فَكَذَلِك لَا يُنَاسب التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن هَذَا الصَّنِيع لَا يُغير المَاء فَلَا يمْنَع التطهر بِهِ. قلت: من لَهُ أدنى ذوق من الْكَلَام لَا يَقُول هَذَا الْوَجْه فِي تطابق الْأَثر للتَّرْجَمَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: إِن قيل: ترْجم على اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء، ثمَّ ذكر(3/73)
حَدِيث السِّوَاك والمجة فَمَا وَجهه؟ قلت: مَقْصُوده الرَّد على من زعم أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْوضُوء لَا يتَطَهَّر بِهِ. قلت: هَذَا الْكَلَام أبعد من كَلَام ذَلِك الْقَائِل، فَأَي دَلِيل دلّ على ان المَاء فِي خبر السِّوَاك والمجة فضل الْوضُوء؟ وَلَيْسَ فضل الْوضُوء إِلَّا المَاء الَّذِي يفضل من وضوء المتوضي. فَإِن كَانَ لفظ: فضل الْوضُوء، عَرَبيا فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَإِن كَانَ غير عَرَبِيّ فَلَا تعلق لَهُ هَهُنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع فِيهِ السِّوَاك ليترطب، وسواكهم الْأَرَاك، وَهُوَ لَا يُغير المَاء. قلت: بيّنت لَك أَن هَذَا كَلَام واهٍ، وَأَن فضل السِّوَاك لَا يُقَال لَهُ: فضل الْوضُوء، وَهَذَا لَا يُنكره إلاَّ معاند، وَيُمكن أَن يُقَال بِالْجَرِّ الثقيل: إِن المُرَاد من فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي فِي الظّرْف والمتوضىء يتَوَضَّأ مِنْهُ، وَبعد فَرَاغه من تسوكه عقيب فَرَاغه من الْمَضْمَضَة يرْمى السِّوَاك الملوث بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل فِيهِ. ثمَّ أثر جرير الْمَذْكُور وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَغَيرهمَا من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَنهُ، وَفِي بعض طرقه: كَانَ جرير يستاك ويغمس رَأس سواكه فِي المَاء، ثمَّ يَقُول لأَهله: توضأوا بفضله، لَا يُرى بِهِ بَأْس.
187 - حدّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شْعْبَةُ قَالَ حدّثنا الحَكَمُ قالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهَاجِرَةِ فَأُتَيِ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ..
هَذَا الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: يَأْخُذُونَ من فضل وضوئِهِ مَا سَالَ من أَعْضَاء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ المَاء الَّذِي فضل عَنهُ فِي الْوِعَاء فَلَا مُنَاسبَة أصلا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: آدم بن أبي اياس تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. وَالثَّالِث: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. وَالرَّابِع: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله الثَّقَفِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب كِتَابَة الْعلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وكوفي وواسطي. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن الحكم بن عتيبة لَيْسَ لَهُ سَماع من أحد من الصَّحَابَة إلاَّ أَبَا جُحَيْفَة، وَقيل: روى عَن أبي أوفى أَيْضا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الْحسن بن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بن المثني عَن مُحَمَّد بن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي، خمستهم عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَمُحَمّد بن بشار بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (بالهاجرة) ، قَالَ ابْن سَيّده: الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر: نصف النَّهَار عِنْد زَوَال الشَّمْس مَعَ الظهيرة، وَقيل: عِنْد زَوَال إِلَى الْعَصْر، وَقيل فِي ذَلِك: إِنَّه شدَّة الْحر. وهجر الْقَوْم وأهجروا وتهجروا: سَارُوا فِي الهجيرة. وَفِي كتاب (الأنواء الْكَبِير) لأبي حنيفَة: الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بِقَلِيل أَو بعْدهَا بِقَلِيل، يُقَال: أَتَيْته بالهجر الْأَعْلَى وبالهاجرة الْعليا، يُرِيد فِي آخر الهاجرة، والهو يجرة: قبل الْعَصْر بِقَلِيل، والهجر مثله. وَسميت الهاجرة لهرب كل شَيْء مِنْهَا، وَلم أسمع بالهاجرة فِي غير الصَّيف إلاَّ فِي قَول العجاج فِي ثَوْر وَحش طرده الْكلاب فِي صميم الْبر:
(ولى كمصباح الدجى المزهورة ... كَانَ من آخر الهجيرة)
قوم هجان هم بالمقدورة.
وَفِي (الموعب) : أَتَيْته بالهاجرة وَعند الهاجرة وبالهجير وَعند الهجير، وَفِي (المغيث) : الهاجرة بِمَعْنى المهجورة، لِأَن السّير يهجر فِيهَا، كَمَاء دافق بِمَعْنى مدفوق، قَالَه الْهَرَوِيّ. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (والمهجر كالمهدي بدنه) ، فَالْمُرَاد التبكير إِلَى كل صَلَاة. وَعَن الْخَلِيل: التهجير إِلَى الْجُمُعَة. التبكير، وَهِي لُغَة حجازية. قَوْله: (فأُتي بِوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله:(3/74)
(فيتمسَّحون بِهِ) ، من بَاب التفعل، وَهُوَ يَأْتِي لمعانٍ، وَمَعْنَاهُ هَهُنَا: الْعَمَل، ليدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة، نَحْو تجرَّعه أَي: شربه جرعة بعد جرعة، وَالْمعْنَى هَهُنَا كَذَلِك، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يمسح بِهِ وَجهه وَيَديه مرّة بعد أُخْرَى، وَيجوز أَن يكون للتكلف، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم لشدَّة الازدحام على فضل وضوئِهِ كَانَ يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر. قَوْله: (عنزة) ، بِالتَّحْرِيكِ: أقصر من الرمْح وأطول من العصار، وَفِيه زج كزج الرمْح.
وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: (يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان: لسمعت، على قَول من يَقُول: إِن السماع يَسْتَدْعِي مفعولين، وَالْأَظْهَر أَنه: حَال. قَوْله: (بالهاجر) : الْبَاء، فِيهِ ظرفية بِمَعْنى: فِي الهاجرة. قَوْله: (يأخذونه) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر جعل الَّذِي هُوَ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (عنزة) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مقدما، قَوْله: (بَين يَدَيْهِ) ، وَالْجُمْلَة حَالية.
بَيَان إستنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الدّلَالَة الظَّاهِرَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا سَالَ من أَعْضَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا فضل من وضوئِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِنَاء فَيكون المُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك بذلك، وَالْمَاء طَاهِر فازداد طَهَارَة ببركة وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَده الْمُبَارَكَة فِيهِ. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. الثَّالِث: فِيهِ قصر الرباعة فِي السّفر، لِأَن الْوَاقِع كَانَ فِي السّفر، وَصرح فِي رِوَايَة أُخْرَى أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا كَانَ من قبَّة حَمْرَاء من أَدَم بِالْأَبْطح بِمَكَّة. الرَّابِع: فِيهِ نصب العنزة وَنَحْوهَا بَين يَدي الْمُصَلِّي إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء.
وَقَالَ أبُو مُوسَى دَعا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسل يَدَيْهِ وَوجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا اشْرَبَا مِنْهُ وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُمَا ونُحُورِكُمَا.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ هَذَا من الْوضُوء فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ مثل من استشفى بِالْغسْلِ لَهُ فَغسل. قلت: أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَنه لَا مُطَابقَة لَهُ للتَّرْجَمَة، وَلَكِن فِيهِ مُطَابقَة من حَيْثُ إِنَّه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما غسل يَدَيْهِ وَوَجهه فِي الْقدح صَار المَاء مُسْتَعْملا وَلكنه طَاهِر، إِذْ لَو لم يكن طَاهِرا لما أَمر بشربه وإفراغه على الْوَجْه والنحر، وَهَذَا المَاء طَاهِر وطهور أَيْضا بِلَا خلاف، وَلكنه إِذا وَقع مثل هَذَا من غير النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يكون المَاء على حَاله طَاهِرا، وَلَكِن لَا يكون مطهراً على مَا عرف.
بَيَان مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء الأول: أَن أَبَا مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، تقدم فِي بَاب: أَي الْإِسْلَام أفضل.
الثَّانِي: أَن أَن هَذَا تَعْلِيق وَهُوَ طرف من حَدِيث مطول أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي. وأوله عَن أبي مُوسَى، قَالَ: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة وَمَعَهُ بِلَال، رَضِي الله عَنهُ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي قَالَ: أَلا تنجز لي مَا وَعَدتنِي؟ قَالَ: إبشر) الحَدِيث، وَفِيه: (دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَغسل يَدَيْهِ) الحَدِيث. وَأخرج أَيْضا قِطْعَة مِنْهُ فِي بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
الثَّالِث: الْقدح، بفتحين: هُوَ الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ. قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: الْقدح فِي اسْتِعْمَال النَّاس الْيَوْم الَّذِي يشرب فِيهِ. قَوْله: (وَمَج فِيهِ) اي: صب مَا تنَاوله من المَاء بِفِيهِ فِي الْإِنَاء. وَقَالَ ابْن الاثير. مج لعابه إِذا قذفه. وَقيل: لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. قَوْله: (قَالَ لَهما) أَي: لأبي مُوسَى وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَانَ بِلَال مَعَ أبي مُوسَى حَاضرا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وأفرغا) من: الإفراغ. قَوْله: (وَنَحْو ركما) بالنُّون جمع نحر، وَهُوَ: الصَّدْر.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَفِيه جَوَاز مج الرِّيق فِي المَاء، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن لعابه أطيب من الْمسك وَمن غَيره يستقذر، وَلِهَذَا كره الْعلمَاء. وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مقَامه أعظم، وَكَانُوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بهَا وُجُوههم لبركتها وطيبها، وخلوفه مَا كَانَ يشابه خلوف غَيره، وَذَلِكَ لمناجاته الْمَلَائِكَة فطيب الله نكهته وخلوف فَمه وَجَمِيع رَائِحَته. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن لعاب الْبشر لَيْسَ بِنَجس وَلَا بَقِيَّة شربه، وَذَلِكَ يدل على أَن نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن النفخ فِي الطَّعَام وَالشرَاب لَيْسَ على سَبِيل أَن مَا تطاير فِيهِ من اللعاب نجس، وَإِنَّمَا هُوَ خشيَة أَن يتقذرة الْآكِل مِنْهُ، فَأمر بالتأدب فِي ذَلِك. وَقَالَ أَيْضا: وَحَدِيث ابي مُوسَى يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالشرب من الَّذِي مج فِيهِ، والإفراغ على الْوُجُوه والنحور من أجل مرض أَو شَيْء أصابهما. قَالَ الْكرْمَانِي: لم يكن ذَلِك من أجل مَا ذكره، بل كَانَ لمُجَرّد التَّيَمُّن(3/75)
والتبرك بِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قلت: فعلى هَذَا لَا تطابق بَينه وَبَين تَرْجَمَة الْبَاب، وَالْعجب من ابْن بطال حَيْثُ يَقُول بِالِاحْتِمَالِ فِي الَّذِي يدل على هَذَا الحَدِيث على التَّبَرُّك والتيمن ظَاهرا، وَيَقُول بِالْجَزْمِ فِي الَّذِي يحْتَمل غَيره.
189 - حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ سَعْدٍ قالَ حدّثنا أبي عنْ صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ قَالَ أخْبرَني مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ قالَ وَهْوَ الَّذِي مَجَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجْهِهِ وهْوَ غُلاَمٌ منْ بِئْرِهِمْ..
هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة أصلا، وَإِنَّمَا يدل على ممازحة الطِّفْل بِمَا قد يصعب عَلَيْهِ، لِأَن مج المَاء قد يصعب عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ قد يستلذه.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: مَتى يَصح سَماع الصَّغِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى من جمع الْوُجُوه.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، أحد الْأَعْلَام، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالربيع بِفَتْح الرَّاء.
قَوْله: (من بئرهم) ، يتَعَلَّق بقوله: (مج) . وَقَوله: (وَهُوَ غُلَام) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي مج) إِلَى لفظ: (بئرهم) ، كَلَام لِابْنِ شهَاب ذكره تعريفاً أَو تَشْرِيفًا، وَالضَّمِير فِي بئرهم: لمحمود وَقَومه بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَالَّذِي اخبر بِهِ مَحْمُود هُوَ قَوْله: عقلت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجة مجها فِي وَجْهي وَأَنا ابْن خمس سِنِين من دلو.
وقالَ عُرْوَةُ عَنِ المِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُما صاحِبَهُ وَإِذا وَضَّأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ
عُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام تقدم. الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: الزُّهْرِيّ ابْن بنت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وَصَحَّ سَمَاعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَعِشْرُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، فَأَصَابَهُ حجر من أَحْجَار المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَمَكثَ خَمْسَة أَيَّام ثمَّ مَاتَ زمن محاصرة الْحجَّاج مَكَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَالْألف وَاللَّام فِيهِ كالألف وَاللَّام فِي: الْحَارِث، يجوز إِثْبَاتهَا وَيجوز نَزعهَا وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ علم.
قَوْله: (يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه) أَي: يصد كل من الْمسور ومروان صَاحبه، لِأَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره، وَهُوَ مَرْوَان على مَا يَأْتِي. وَقد خبط الْكرْمَانِي هُنَا خباطاً فَاحِشا، وسأبنيه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَغَيره) يُرِيد بِهِ مَرْوَان بن الحكم، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا التَّعْلِيق فِي كتاب الشُّرُوط فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مَوْصُولا، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر قَالَ: اخبرني الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة ابْن الزبير عَن الْمسور ابْن مخرمَة ومروان، يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا حَدِيث صَاحبه، قَالَا: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة) الحَدِيث وَهُوَ طَوِيل جدا إِلَى أَن قَالَ: (ثمَّ إِن عُرْوَة جعل يرمق أَصْحَاب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِعَيْنيهِ. قَالَ: فوَاللَّه مَا تنخم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نخامة إلاَّ وَقعت فِي كف رجل مِنْهُم، فدلك بهَا وَجهه وَجلده، وَإِذا أَمرهم ابتدروا أمره، وَإِذا تَوَضَّأ كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ، وَإِذا تكلم خفضوا أَصْوَاتهم عِنْده، وَمَا يحدون إِلَيْهِ النّظر تَعْظِيمًا لَهُ) إِلَى آخر الحَدِيث. وَالْمرَاد من قَوْله: ثمَّ إِن عُرْوَة، وَهُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود أرْسلهُ كفار مَكَّة إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، زمن الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (واذا تَوَضَّأ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحاكي هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَاهد من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بَين يَدي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَهُوَ أَيْضا أخبر بذلك لأهل مَكَّة، كَمَا ستقف على الحَدِيث بِطُولِهِ. قَوْله: (كَانُوا يقتتلون) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي، رِوَايَة البَاقِينَ: (كَادُوا يقتتلون) . قَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ لم يَقع بَينهم قتال. قلت: كِلَاهُمَا سَوَاء، وَالْمرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي ازدحامهم على نخامة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وضوئِهِ. وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا: فَإِن قلت: هُوَ رِوَايَة عَن الْمَجْهُول وَلَا اعْتِبَار بِهِ. قلت: الْغَالِب أَن عُرْوَة لَا يرْوى إلاَّ عَن الْعدْل، فَحكمه حكم الْمَعْلُوم. وَأَيْضًا هُوَ مَذْكُور على سَبِيل التّبعِيَّة، وَيحْتَمل فِي التَّابِع مَا لَا يحْتَمل فِي غَيره. أَقُول(3/76)
هَذَا السُّؤَال، غير وَارِد أصلا، لِأَن هَذَا التَّعْلِيق، وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ عُرْوَة ... قد أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَبَين فِيهِ أَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره هُوَ مَرْوَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِذا سقط السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ثَانِيًا: فَإِن قلت: هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ أم لَا؟ قلت: هُوَ عطف على مقول ابْن شهَاب اي: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مَحْمُود وَقَالَ عُرْوَة، أَقُول: نعم، هَذَا تَعْلِيق وَصله فِي كِتَابه كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ هُوَ عطفا على مقول ابْن شهَاب. وَقَالَ ثَالِثا: قَوْله مِنْهُمَا أَي: من مَحْمُود والمسور، أَي: مَحْمُود يصدق مسوراً، ومسور يصدق مَحْمُودًا. أَقُول: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْمَعْنى أَن الْمسور يصدق مَرْوَان بن الحكم، ومروان يصدق مسوراً. وَقَالَ رَابِعا: وَلَفظ يصدق، هُوَ كَلَام ابْن شهَاب أَيْضا، ومقول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ. أَقُول: لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ، لَيْسَ مقول كل وَاحِد مِنْهُمَا، بل مقول عُرْوَة بن مَسْعُود، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِل بذلك والحاكي بِهِ عِنْد مُشْركي مَكَّة، وَذكر أَبُو الْفضل بن طَاهِر أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَذَلِكَ أَن الْمسور ومروان لم يدركا هَذِه الْقِصَّة الَّتِي كَانَت بِالْحُدَيْبِية سنة سِتّ لِأَن مولدهما كَانَ بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وعَلى ذَلِك اتّفق المؤرخون. وَأما مَا فِي (صَحِيح مُسلم) عَن الْمسور قَالَ: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب النَّاس على هَذَا الْمِنْبَر وَأَنا يَوْمئِذٍ محتلم) ، فَيحْتَاج إِلَى تَأْوِيل لغَوِيّ أَنه كَانَ يعقل لَا الِاحْتِلَام الشَّرْعِيّ، أَو أَنه كَانَ سميناً غير مهزول فِيمَا ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : حلم حلماً إِذا عقل. وَقَالَ غَيره: تحلم الْغُلَام صَار سميناً، وَهُوَ مَعْدُود فِي صغَار الصَّحَابَة، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ.
190 - حدّثنا عَبْد الرَّحْمنِ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا حاتِمُ بنُ إسْماعِيلَ عَنِ الجَعْدِ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بن يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خالَتِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنَّ ابنَ اُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعا لي بالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلفَ ظَهْرِهِ فَنظَرْتُ إِلَى خاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إِن كَانَ المُرَاد من قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، وَإِن كَانَ المُرَاد: من فضل وضوئِهِ، فَلَا مُطَابقَة. وَوَقع للمستملي على رَأس هَذَا الحَدِيث لَفظه: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة. وَعند الْأَكْثَرين وَقع بِلَا فصل بَينه وَبَين الَّذِي قبله.
بَيَان رِجَاله وهم اربعة. الأول: عبد الرَّحْمَن بن يُونُس أَبُو مُسلم الْبَغْدَادِيّ الْمُسْتَمْلِي اُحْدُ الْحفاظ، استملى لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره، مَاتَ فَجْأَة سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، نزل الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة هَارُون. الثَّالِث: الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس الْمدنِي الْكِنْدِيّ، وَالْمَشْهُور أَنه يُقَال لَهُ: الجعيد، بِالتَّصْغِيرِ. الرَّابِع: السَّائِب اسْم فَاعل من السَّبَب، بِالْمُهْمَلَةِ وبالياء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْكِنْدِيّ. قَالَ: حج بِي أبي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث، وَالْبُخَارِيّ أخرجهَا كلهَا، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن الرِّوَايَة فِيهِ من صغَار الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، وَفِي الطِّبّ عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وهناد عَن عبد الرَّحْمَن، أربعتهم عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْفضل بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد، كِلَاهُمَا عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ وَقَالَ حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (ذهبت بِهِ) ، وَالْفرق بَينه وَبَين: أذهبه أزاله وَجعله ذَاهِبًا. وَمعنى ذهب بِهِ: استصحبه وَمضى بِهِ مَعَه. قَوْله: (وَقع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْقَاف وبالتنوين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي ذَر الْهَرَوِيّ وَقع بِفَتْح الْقَاف على لفظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (وجع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَمعنى: وَقع، بِكَسْر الْقَاف: أَصَابَهُ وجع فِي قَدَمَيْهِ(3/77)
وَزعم ابْن سَيّده أَنه يُقَال: وَقع الرجل وَالْفرس وَقعا فَهُوَ وَقع: إِذا حفي من الْحِجَارَة والشوط، وَقد وقعه الْحجر، وحافر وقيع وقعته الْحِجَارَة فقصت مِنْهُ، ثمَّ استعير للمشتكي الْمَرِيض، يُبينهُ قَوْلهَا: وجع، وَالْعرب تسمي كل مرض وجعاً. وَفِي (الْجَامِع) : وَقع الرجل فَوَقع إِذا حفي من مَشْيه على الْحِجَارَة. وَقيل: هُوَ أَن يشتكي لحم رجلَيْهِ من الحفا. وَقَالَ ابْن بطال: وَقع مَعْنَاهُ أَنه وَقع فِي الْمَرَض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقع أَي: سقط، والوقع أَيْضا: الحفا. قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) بِفَتْح الْوَاو. قَوْله: (إِلَى خَاتم النُّبُوَّة) بِكَسْر: التَّاء، أَي: فَاعل الْخَتْم، وَهُوَ الْإِتْمَام وَالْبُلُوغ إِلَى الآخر، وبفتح: التَّاء، بِمَعْنى: الطابع، وَمَعْنَاهُ الشَّيْء الَّذِي هُوَ دَلِيل على أَنه لَا نَبِي بعده. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: خَاتم النُّبُوَّة أثر بَين كَتفيهِ، نعت بِهِ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ عَلامَة يعلم بهَا أَنه النَّبِي الْمَوْعُود، وصيانة لنبوته عَن تطرق الْقدح إِلَيْهَا صِيَانة الشَّيْء المستوثق بالختم. قَوْله: (مثل زر الحجلة) : الزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء. والحجلة، بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم: وَاحِدَة الحجال، وَهُوَ بيُوت تزين بالثياب والستور والإثرة، لَهَا على وأزرار. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحجلة، بِالتَّحْرِيكِ: بَيت كالقبة يستر بالثياب وَيكون لَهُ أزرار كبار، وَيجمع على: حجال. وَقيل: المُرَاد بالحجلة: الطير، وَهِي الَّتِي تسمى القبحة، وَتسَمى الْأُنْثَى الحجلة، وَالذكر: يَعْقُوب، وزرها: بيضها. وَيُؤَيّد هَذَا أَن فِي حَدِيث آخر: (مثل بَيْضَة الْحَمَامَة) . وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله شيخ البُخَارِيّ. الحجلة من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ، وَفِي بعض نسخ المغاربة: الحجلة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد رُوِيَ أَيْضا بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي، وَيكون المُرَاد مِنْهُ: الْبيض. يُقَال: أرزت الجرادة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الزَّاي: إِذا كبست ذنبها فِي الأَرْض فباضت.
وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة: فَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر بن سَمُرَة: (وَرَأَيْت الْخَاتم عِنْد كَتفيهِ مثلي بَيْضَة الْحَمَامَة يشبه جسده) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد، من حَدِيث عبد الله بن سرجس: (وَرَأَيْت خَاتم النُّبُوَّة فِي نغض كتفه الْيُسْرَى كَأَنَّهُ جمع فِيهِ خيلان سود كَأَنَّهُمَا الثآليل) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابي رمثة التَّيْمِيّ، قَالَ: (خرجت مَعَ أبي حَتَّى أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بِرَأْسِهِ ردع حناء، وَرَأَيْت على كتفه مثل التفاحة، فَقَالَ ابي: إِنِّي طَبِيب أَلاَ أبطها لَك؟ قَالَ: طبيبها الَّذِي خلقهَا) . وَفِي (صَحِيح) الْحَاكِم: (شعر مُجْتَمع) ، وَفِي كتاب الْبَيْهَقِيّ: (مثل السّلْعَة) . وَفِي (الشَّمَائِل) : (بضعَة نَاشِزَة) . وَفِي حَدِيث عَمْرو بن أَخطب: (كشيء يخْتم بِهِ) . وَفِي (تَارِيخ) ابْن عَسَاكِر: (مثل البندقة) ، وَفِي التِّرْمِذِيّ: (كالتفاحة) . وَفِي (الرَّوْض) : كاثم المحجم الغائص على اللَّحْم. وَفِي (تَارِيخ ابْن ابي خَيْثَمَة) : شامة خضراء محتفرة فِي اللَّحْم، وَفِيه أَيْضا: شامة سوادء تضرب إِلَى الصُّفْرَة حولهَا شَعرَات متراكبات كَأَنَّهَا عرف الْفرس. وَفِي (تَارِيخ الْقُضَاعِي) : ثَلَاث مجتمعات. وَفِي كتاب (المولد) لِابْنِ عَابِد: كَانَ نورا يتلألأ. وَفِي (سيرة) ابْن أبي عَاصِم: عذرة كعذرة الْحَمَامَة. قَالَ أَبُو أَيُّوب: يعْنى فرطمة الْحَمَامَة، وَفِي (تَارِيخ نيسابور) : مثل البندقة من لحم مَكْتُوب فِيهِ بِاللَّحْمِ: (مُحَمَّد رَسُول الله) . وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كتينة صَغِيرَة تضرب إِلَى الدهمة، وَكَانَت مِمَّا يَلِي الْقَفَا. قَالَت: فلمسته حِين توفّي فَوَجَدته قد رفع. وَقيل: كركبة العنز، وأسده أَبُو عمر عَن عباد بن عَمْرو، وَذكر الْحَافِظ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (التَّنْوِير) : كَانَ الْخَاتم الَّذِي بَين كَتِفي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَأَنَّهُ بَيْضَة حمامة مَكْتُوب فِي بَاطِنهَا: (الله وَحده) : وَفِي ظَاهرهَا: (توجه حَيْثُ شِئْت فَإنَّك مَنْصُور) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب استنكره؛ قَالَ: وَقيل: كَانَ من نور. فَإِن قلت: هَل كَانَ خَاتم النُّبُوَّة بعد ميلاده أَو ولد هُوَ مَعَه؟ قلت: قيل: ولد وَهُوَ مَعَه، وَعَن ابْن عَائِد فِي (مغازيه) بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّاد بن أَوْس، فَذكر حَدِيث الرَّضَاع وشق الصَّدْر، وَفِيه: وَأَقْبل الثَّالِث. يعين الْملك وَفِي يَده خَاتم لَهُ شُعَاع فَوَضعه بَين كَتفيهِ وثدييه، وَوجد برده زَمَانا. وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم: أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ولد ذكرت أمه أَن الْملك غمسه فِي المَاء الَّذِي أنبعه ثَلَاث غمسات، ثمَّ أخرج صرة من حَرِير أَبيض، فَإِذا فِيهَا خَاتم، فَضرب على كَتفيهِ كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أَيْن كَانَ مَوْضِعه؟ قلت: قد رُوِيَ أَنه بَين كَتفيهِ. وَقيل: كَانَ على نغض كتفه اليسى، لِأَنَّهُ يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ الشَّيْطَان إِلَى بَاطِن الْإِنْسَان، فَكَانَ هَذَا عصمَة لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّيْطَان. وَذكر أَبُو عمرَان، مَيْمُون بن مهْرَان، ذكر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ: أَن رجلا سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان مِنْهُ، فَرَأى جسده ممهى يرى دَاخله من خَارجه، وَرَأى الشَّيْطَان فِي صُورَة ضفدع عِنْد نغض كتفه حداء قلبه، لَهُ خرطوم كخرطوم الْبَعُوضَة، وَقد أدخلهُ فِي مَنْكِبه الْأَيْسَر إِلَى قلبه(3/78)
يوسوس إِلَيْهِ، فَإِذا ذكر الله تَعَالَى العَبْد خنس. ثمَّ الْحِكْمَة فِي الْخَاتم. على وَجه الِاعْتِبَار. أَن قلبه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ملىء حِكْمَة وإيمانا، كَمَا فِي (الصَّحِيح) ، ختم عَلَيْهِ كَمَا يخْتم على الْوِعَاء المملوء مسكاً أَو درا، فَلم يجد عدوه سَبِيلا إِلَيْهِ من أجل ذَلِك الْخَتْم، لِأَن الشَّيْء الْمَخْتُوم محروس، وَكَذَا تَدْبِير الله، عز وَجل، فِي هَذِه الدُّنْيَا إِذا وجد الشَّيْء بختمه زَالَ الشَّك وَانْقطع الْخِصَام فِيمَا بَين الْآدَمِيّين، فَلذَلِك ختم رب العلمين فِي قلبه ختماً تطامن لَهُ الْقلب، وَبَقِي النُّور فِيهِ، ونفذت قُوَّة الْقلب إِلَى الصلب فظهرت بَين الْكَتِفَيْنِ كالبيضة، وَمن أجل ذَلِك برز بِالصّدقِ على أهل الْموقف، فَصَارَت لَهُ الشَّفَاعَة من بَين الرُّسُل بالْمقَام الْمَحْمُود، لِأَن ثَنَاء الصدْق هُوَ الَّذِي خصّه ربه بِمَا لم يخص بِهِ أحدا غَيره من الْأَنْبِيَاء، وَغَيرهم، يحققه قَول الله الْعَظِيم: {وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} (يُونُس: 2) قَالَ ابو سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد صدق: هُوَ مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، شفيعكم يَوْم الْقِيَامَة، وَكَذَا قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم: وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ذكره مُسلم من حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأخرت الثَّالِثَة ليَوْم ترغب إِلَيّ فِيهِ الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا الْخَاتم هُوَ أثر شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن شقّ الْملكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدره.
مشكلات مَا وَقع فِي هَذَا الْبَاب قَوْله: (فِي نغض كتفه الْيُسْرَى) ، بِضَم النُّون وَفتحهَا وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة، قَالَ ابْن الاثير: النغض والنغض والناغض: أَعلَى الْكَتف. وَقيل: هُوَ الْعظم الرَّقِيق الَّذِي على طرفه. قَوْله: (كأه جمع) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، مَعْنَاهُ: مثل جمع الْكَفّ، وَهُوَ أَن تجمع الْأَصَابِع وتضمها، وَمِنْه يُقَال: ضربه بِجمع كَفه. (و: الخيلان) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء، جمع: خَال. قَوْله: (الثآليل) جمع: ثؤلول، وَهُوَ الْحبَّة الَّتِي تظهر فِي الْجلد كالحمصة فمادونها. قَوْله: (ردع حناء) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره عين مُهْملَة: أَي لطخ حناء، والحناء، بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد وبالمد، مَعْرُوف. والحناءة أخص مِنْهُ. قَوْله: (أَلاَ أبطها) ؟ من البَطِّ، وَهُوَ: شقّ الدمل وَالْخَرَاج. قَوْله: (بضعَة نَاشِزَة) . الْبضْعَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْقطعَة من اللَّحْم. و: نَاشِزَة، بالنُّون والشين وَالزَّاي المعجمتين أَي: مُرْتَفعَة عَن الْجِسْم. قَوْله: (محتفرة) : أَي غائصة، وَأَصله من حفر الأَرْض.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الاول: فِيهِ بركَة الاسترقاء. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على مسح رَأس الصَّغِير، وَكَانَ مولد السَّائِب الَّذِي مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَشهد حجَّة الْوَدَاع، وَخرج مَعَ الصّبيان إِلَى ثنية الْوَدَاع يتلَقَّى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدمه من تَبُوك. الثَّالِث: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل، وَإِن كَانَ المُرَاد من قَول السَّائِب بن يزِيد: فَشَرِبت من وضوئِهِ، وَهُوَ: المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْأَحَادِيث يَعْنِي الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب. ترد عَلَيْهِ: أَي على أبي حنيفَة، لِأَن النَّجس لَا يتبرك بِهِ. قلت: قصد هَذَا الْقَائِل التشنيع على أبي حنيفَة بِهَذَا الرَّد الْبعيد، لِأَن لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مَا يدل صَرِيحًا على أَن المُرَاد من: فضل وضوئِهِ، هُوَ: المَاء الَّذِي تقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة. وَكَذَا فِي قَوْله: (كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ) ، وَكَذَا فِي قَول السَّائِب: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) . وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد هُوَ المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، فَأَبُو حنيفَة يُنكر هَذَا وَيَقُول بِنَجَاسَة ذَاك، حاشاه مِنْهُ، وَكَيف يَقُول ذَلِك هُوَ يَقُول بِطَهَارَة بَوْله وَسَائِر فضلاته؟ وَمَعَ هَذَا قد قُلْنَا: لم يَصح عَن أبي حنيفَة تنجيس المَاء الْمُسْتَعْمل، وفتوى الحنيفة عَلَيْهِ، فَانْقَطع شغب هَذَا المعاند. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي إِجْمَاع أهل الْعلم على أَن البلل الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضىء، وَمَا قطر مِنْهُ على ثِيَابه، دَلِيل قوي على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل. قلت: الْمثل.
حفظت شَيْئا وَغَابَتْ عَنْك أَشْيَاء.
وَالْمَاء الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضيء لَا خلاف لأحد فِي طَهَارَته، لِأَن من يَقُول بِعَدَمِ طهرته إِنَّمَا يَقُول بالانفصال عَن الْعُضْو، بل عِنْد بضعهم بالانفصال والاستقرار فِي مَكَان. وَأما المَاء الَّذِي قطر مِنْهُ على ثِيَابه فَإِنَّمَا سقط حكمه للضَّرُورَة لتعذر الِاحْتِرَاز عَنهُ.
41 - (بابُ مَنْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، كَمَا فعله عبد الله بن زيد.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا من تعلقات الْوضُوء. فَالْأول: فِي الْوضُوء، بِالْفَتْح، وَالثَّانِي: فِي الْوضُوء، بِالضَّمِّ.(3/79)
191 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنى خالِدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أَبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ أنَّهُ أفْرَغَ مِنَ الاِناءِ علَى يَدَيْهِ فَغَسَلهُمَا ثُمَّ غَسَلَ أوْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ غَسَل يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ومَسَحَ برَأُسِهِ مَا أَقْبلَ وَمَا أَدْبَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ ثُمَّ قالَ هَكَذَا وُضُوءُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: مُسَدّد بِفَتْح الدَّال المسددة، وَقد تقدم فِي أول كتاب الايمان. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ، أَبُو الْهَيْثَم الطَّحَّان، يحْكى أَنه تصدق بزنة بدنه فضَّة ثَلَاث مَرَّات، مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن عمَارَة الْمَازِني الْأنْصَارِيّ، تقدم قَرِيبا. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى، تقدم أَيْضا. الْخَامِس: عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فعل الصَّحَابِيّ ثمَّ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد ذكرنَا عَن قريب أَن البُخَارِيّ قد أخرج حَدِيث عبد الله بن زيد فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَأخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن خَالِد بن عبد الله بِسَنَدِهِ هَذَا من غير شكّ، وَلَفظه: (ثمَّ أَدخل يَده فاستخرجها فَمَضْمض واستنشق) : وَأخرجه أَيْضا الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد كَذَلِك.
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (أفرغ) اي: صب المَاء فِي الْإِنَاء على يَدَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ غسل) أَي: فَمه. قَوْله: (أَو مضمض) شكّ من الرَّاوِي. قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الشَّك من يحيى. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن الشَّك من مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وَأغْرب الْكرْمَانِي فَقَالَ: الظَّاهِر أَن الشَّك فِيهِ من التَّابِعِيّ: قلت: كل مِنْهُمَا مُحْتَمل، وَكَونه من الظَّاهِر من أَيْن بِلَا قرينَة؟ قَوْله: (من كفة) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَر بن: (من كف) بِلَا هَاء، وَفِي بعض النّسخ: (من غرفَة وَاحِدَة) . وَقَالَ ابْن بطال: من كفة، أَي: من حفْنَة وَاحِدَة، فاشتق لذَلِك من اسْم الْكَفّ عبارَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يعرف فِي كَلَام الْعَرَب إِلْحَاق هَاء التَّأْنِيث فِي الْكَفّ. وَقَالَ ابْن التِّين: اشتق بذلك من اسْم الْكَفّ، وَسمي الشَّيْء باسم مَا كَانَ فِيهِ. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْح مثل غرفَة وغرفة، أَي: مَلأ كَفه من مَاء. وَقَالَ بَعضهم: ومحصل ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله: (كَفه) فعلة فِي أَنَّهَا تَأْنِيث الْكَفّ. قلت: هَذَا مُحَصل غير حَاصِل، فَكيف يكون كفة تَأْنِيث كف، والكف مؤنث؟ وَالْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب مَا ذكره ابْن التِّين قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين) . وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ بعد غسل الْوَجْه، وَلم يذكر غسل الْوَجْه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: أَيْن ذكر غسل الْوَجْه؟ قلت: هُوَ من بَاب اخْتِصَار الحَدِيث وَذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبَاب مَعَ زِيَادَة بَيَان مَا اخْتلف فِيهِ من التَّثْلِيث فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَإِدْخَال الْمرْفق فِي الْيَد وتثنية غسل الْيَد وَمسح مَا أقبل وَأدبر من الرَّأْس وَغسل الرجل منتهياً إِلَى الكعب، وَأما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر لَا احْتِيَاج لَهُ إِلَى الْبُنيان؛ فالتشبيه فِي: (هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لَيْسَ من جَمِيع الْوُجُوه، بل فِي حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق. قلت: هَذَا جَوَاب لَيْسَ فِيهِ طائل، وَتصرف غير موجه، لِأَن هَذَا فِي بَاب التَّعْلِيم لغيره صفة الْوضُوء، فَيشْهد بذلك قَوْله: (هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا جَاءَ فِي حَدِيث الآخر عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، عَن أَبِيه أَن رجلا قَالَ لعبد الله بن زيد، وَهُوَ حد عَمْرو بن يحيى: (أتستطيع أَن تريني كَيفَ كَانَ رَسُول الله يتَوَضَّأ) ؟ الحَدِيث ... وَقد مر عَن قريب، وكل مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن زيد فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث وَاحِد وَقد ذكر فِيهِ غسل الْوَجْه، وَكَذَا ثَبت ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي بَاب التَّعْلِيم فَكيف يجوز لَهُ ترك فرض من فروض الْوضُوء وَذكر شَيْء من الزَّوَائِد؟ وَالظَّاهِر أَنه سقط من الرَّاوِي كَمَا أَنه شكّ فِي قَوْله: (ثمَّ غسل أَو مضمض) . وَقَول الْكرْمَانِي: واما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر، غير ظَاهر، وَكَونه ظَاهرا عِنْد عبد الله بن زيد لَا يسْتَلْزم أَن يكون ظَاهرا عِنْد السَّائِل عَنهُ، وَلَو كَانَ ظَاهرا لما سَأَلَهُ. وَقَوله(3/80)
: ذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، أَي: ذكر البُخَارِيّ مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبَاب. قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على المضمضمة وَالِاسْتِنْشَاق فَقَط، كَمَا هُوَ عَادَته فِي تقطيع الحَدِيث لأجل التراجم، فَيتْرك اختصاراً ذكر فرض من الْفُرُوض القطعية، وَيذكر زَوَائِد لَا تطابق التَّرْجَمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُجَاب أَيْضا بِأَن الْمَفْعُول الْمَحْذُوف الْوَجْه، أَي: ثمَّ غسل وَجهه، وَحذف لظُهُوره، فأو، بِمَعْنى: الْوَاو، فِي قَوْله: (أَو مضمض) ، وَمن كفة وَاحِدَة يتَعَلَّق: بمضمض واستنشق فَقَط. قلت: هَذَا أقرب إِلَى الصَّوَاب لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْفَم فِي الْوضُوء إلاَّ مضمض، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ الْغسْل.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام قد تقدم، وَإِنَّمَا مُرَاد البُخَارِيّ هَهُنَا بَيَان أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، وَهَذَا أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة الْمُتَقَدّمَة، وَلَيْسَ هَذَا حجَّة على من يرى خلاف هَذَا الْوَجْه، لِأَن الْكل نقل عَنهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، بَيَانا للْجُوَاز.
42 - (بابُ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
192 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيىَ عنْ أَبِيه قَالَ شَهدْتُ عَمْرَو بنَ أبي حَسَنِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ زَيْدٍ عنْ وُضُوءِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ فَتَوَضَّأَ لهُمْ (فَكَفَأَهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسلَهُمَا ثَلاثاً ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ) فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرَفاتٍ مِنْ ماءٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي الاناءِ فَغَسَلَ وَجْههُ ثَلَاثًا ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ الى المِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاناءِ فمَسَح بِرَأْسِهِ فَأَقْبَل بِيَدَيْهِ وَادْبَرَ بِهِمَا ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ..
قَوْله: (بَاب مسح الرَّأْس مرّة) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (بَاب مسح الرَّأْس مسحة) .
ومطابقة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (فَمسح بِرَأْسِهِ) ، أَي: مرّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَيْئَانِ. أَحدهمَا: أَنه نَص على الثَّلَاث وعَلى مرَّتَيْنِ فِي غَيره. وَالثَّانِي: أَنه صرح بالمرة فِي حَدِيث مُوسَى عَن وهيب، كَمَا يذكرهُ الْآن، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. قَوْله: (وهيب) هُوَ ابْن خَالِد. قَوْله: (فَدَعَا بتور من مَاء) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَدَعَا بِمَاء) ، لم يذكر: التور. قَوْله: (فكفأه) أَي: أماله، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فاكفأه) ، بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله، وَهَذِه كلهَا مَضَت فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، والتفاوت بَينهمَا أَنه كرر لفظ: مرَّتَيْنِ، هَهُنَا وَزَاد: الْبَاء، فِي: مسح بِرَأْسِهِ. وَلَفظ: (ثمَّ ادخل يَده فِي الاناء) ، وَنقص لفظ: مرّة وَاحِدَة، مِنْهُ وَلَفظ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل فرق بَين تكْرَار لفظ: مرَّتَيْنِ، وَعَدَمه غير التَّأْكِيد؟ قلت: هَذَا نَص فِي غسل كل يَد مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ ظَاهر فِيهِ.
وحدّثنا مُوسَى قَالَ حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ مَسَحَ رَأسَهُ مَرَّةً.
مُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي؛ ووهب هُوَ ابْن خَالِد، وَتَقَدَّمت طَرِيق مُوسَى هَذَا فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَذكر فِيهَا أَنه مسح الراس مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الشَّافِعِي: الْمسنون ثَلَاث مسحات، وَالْحجّة عَلَيْهِ أَن الْمسنون يحْتَاج إِلَى شرع، وَحَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَإِن كَانَ فِيهِ: أَنه مسح بِرَأْسِهِ مرّة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّرْع الَّذِي قَالَ الشَّافِعِي فِي مسنونية الثَّلَاث مَا روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مسح ثَلَاثًا، وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء. قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا هَارُون بن عبد الله، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم، قَالَ: حَدثنَا اسرائيل عَن عَامر عَن شَقِيق بن حَمْزَة عَن شَقِيق بن سَلمَة، قَالَ: (رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل هَذَا) . قلت: الْمَذْكُور من حَدِيث الْجَمَاعَة هُوَ مسح الراس مرّة وَاحِدَة، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح تدل على أَن مسح الرَّأْس مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا(3/81)
وَقَالُوا فِيهَا: مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا، كَمَا ذكرُوا فِي غَيره، وَوصف عبد الله بن زيد وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: مسح براسه مرّة وَاحِدَة، مُتَّفق عَلَيْهِ. وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه: (مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَكَذَا وصف عبد الله بن أبي أوفى وَابْن عَبَّاس وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَالربيع، كلهم قَالُوا: وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة، وَلم يَصح فِي أَحَادِيثهم شَيْء صَرِيح فِي تكْرَار الْمسْح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ من أوجه غَرِيبَة عَن عُثْمَان ذكرُ التّكْرَار فِي مسح الرَّأْس، إلاَّ أَنَّهَا مَعَ خلاف الْحفاظ الثِّقَات لَيست بِحجَّة عِنْد أهل الْمعرفَة، وَإِن كَانَ بعض أَصْحَابنَا يحْتَج بهَا. فان قلت: قد روى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الوَاسِطِيّ عَن شُعَيْب بن أَيُّوب عَن أبي يحيى الجماني عَن أبي حنيفَة عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير عَن عَلَيْهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه تَوَضَّأ) الحَدِيث، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن خَالِد. وَخَالفهُ جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات عَن خَالِد بن عَلْقَمَة، فَقَالُوا فِيهِ: وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة وَمَعَ خلَافَة إيَّاهُم قَالَ: إِن السّنة فِي الْوضُوء مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. قلت: الزِّيَادَة عَن الثِّقَة مَقْبُولَة، وَلَا سِيمَا من مثل أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَأما قَوْله: فقد خَالف فِي حكم الْمسْح، غير صَحِيح، لِأَن تكْرَار الْمسْح مسنون عَن أبي حنيفَة أَيْضا، صرح بذلك صَاحب (الْهِدَايَة) : وَلَكِن بِمَاء وَاحِد. وَقَول الْكرْمَانِي وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء، ردَّ بِأَن الْمسْح مَبْنِيّ على التَّخْفِيف، بِخِلَاف الْغسْل، وَلَو شرع التّكْرَار لصار صُورَة المغسول. وَقد اتّفق على كَرَاهَة غسل الرَّأْس بدل الْمسْح وَإِن كَانَ مجزياً. وَأجِيب: بِأَن الخفة تَقْتَضِي عدم الِاسْتِيعَاب، وَهُوَ مَشْرُوع بالِاتِّفَاقِ، فَلْيَكُن الْعدَد كَذَلِك ورد بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَصَححهُ وَغَيره أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي صفة الْوضُوء حَيْثُ قَالَ: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن فرغ: (من زَاد على هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم) . فَإِن فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور التَّصْرِيح بِأَنَّهُ مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة، فَدلَّ على أَن الزِّيَادَة فِي مسح الرَّأْس على الْمرة غير مُسْتَحبَّة، وَيحمل مَا رُوِيَ من الْأَحَادِيث فِي تثليث الْمسْح، إِن صحت على إِرَادَة الِاسْتِيعَاب بِالْمَسْحِ، لَا أَنَّهَا مسحات مُسْتَقلَّة لجَمِيع الرَّأْس، جمعا بَين هَذِه الْأَدِلَّة الْقَائِل بِهَذَا الرَّد هُوَ بَعضهم مِمَّن تصدى لشرح البُخَارِيّ، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ الثَّلَاث نَص فِيهِ، والاستيعاب بِالْمَسْحِ لَا يتَوَقَّف على الْعدَد، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْمسْح ثَلَاثًا لَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْمسْح مرّة وَاحِدَة، وَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن بعدهمْ. وَقَالَ ابو عمر ابْن عبد الْبر: كلهم يَقُول مسح الرَّأْس مسحة وَاحِدَة. فَإِن قلت: هَذَا الَّذِي ذكرته يرد على أبي حنيفه. قلت: لَا يرد أصلا، فَإِنَّهُ رأى التَّثْلِيث سنة لكَونه رَوَاهُ، وَلكنه شَرط أَن يكون بِمَاء وَاحِد، وَهَذَا خلاف مَا قَالَه الشَّافِعِي، رَحمَه الله، وَمَعَ هَذَا الْمَذْهَب: الْإِفْرَاد لَا التثليثْ، لما ذكرنَا.
43 - (بابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ إمْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته فِي إِنَاء وَاحِد، وَالْوُضُوء فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَم الْوَاو فِي الأول وَفِي الثَّانِي بِالْفَتْح، لِأَن المُرَاد من الأول وَالْفِعْل، وَمن الثَّانِي المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (وَفضل) بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: (وضوء الرجل) وَفِي بعض النّسخ: (بَاب وضوء الرجل مَعَ الْمَرْأَة) ، وَهُوَ أَعم من أَن تكون: امْرَأَته، أَو غَيرهَا.
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ
هَذَا الْأَثر الْمُعَلق لَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة أصلا، وَهَذَا ظَاهر كَمَا ترى. وَقَالَ بَعضهم: ومناسبته للتَّرْجَمَة من جِهَة الْغَالِب أَن أهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى الرَّد على من منع الْمَرْأَة أَن تتطهر بِفضل الرجل، لِأَن الظَّاهِر أَن امْرَأَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَت تَغْتَسِل بفضله أَو مَعَه، فَنَاسَبَ قَوْله: وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد. قلت: من لَهُ ذوق أَو إِدْرَاك يَقُول هَذَا الْكَلَام الْبعيد، فمراده من قَوْله: إِن اهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فِي كل الْأَشْيَاء أَو فِي بضعهما؟ فَإِن كَانَ الأول فَلَا نسلم ذَلِك، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَيجب التَّعْيِين. وَقَوله: لِأَن الظَّاهِر. إِلَى آخِره، أَي: ظَاهر دلّ على هَذَا. وَهل هَذَا إلاَّ حدس وتخمين؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته للتَّرْجَمَة؟ قلت: غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْكتاب لَيْسَ منحصراً(3/82)
فِي ذكر متون الْأَحَادِيث، بل يُرِيد الإفادة أَعم من ذَلِك، وَلِهَذَا يذكر آثَار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وفتاوى السّلف وأقوال الْعلمَاء، ومعاني اللُّغَات وَغَيرهَا، فقصد هَهُنَا بَيَان التوضيء بِالْمَاءِ الَّذِي مسته النَّار وتسخن بهَا بِلَا كَرَاهَة دفعا لما قَالَ مُجَاهِد. قلت: هَذَا أعجب من الأول وَأغْرب، وَكَيف يُطَابق هَذَا الْكَلَام وَقد وضع أبواباً مترجمة، وَلَا بُد من رِعَايَة تطابق بَين تِلْكَ الْأَبْوَاب وَبَين الْآثَار الَّتِي يذكرهَا فِيهَا، وإلاَّ يعد من التخابيط؟ وَكَونه يذكر فَتَاوَى السّلف وأقوال الْعلمَاء ومعاني اللُّغَات لَا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وَهَذِه الْأَشْيَاء أَيْضا إِذا ذكرت بِلَا مُنَاسبَة يكون التَّرْتِيب مخبطاً، فَلَو ذكر شخص مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق مثلا فِي كتاب الطَّهَارَة، أَو مَسْأَلَة من كتاب الطَّهَارَة فِي كتاب الْعتاق مثلا، نسب إِلَيْهِ التخبيط. ثمَّ هَذَا الْأَثر الأول وَصله سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: إِن عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابي شيبَة وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: (كَانَ يسخن لَهُ مَاء فِي حميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قَوْله: (بالحميم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ المَاء المسخن. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ المَاء السخين، فعيل بِمَعْنى مفعول. وَمِنْه سمي الْحمام حَماما لإسخانه من دخله، والمحموم محموماً لسخونة جسده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق جَمِيعًا على الْوضُوء بِالْمَاءِ السخن غير مُجَاهِد فَإِنَّهُ كرهه. رَوَاهُ عَنهُ لَيْث بن أبي سليم. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه: إِن الصَّحَابَة تطهروا بِالْمَاءِ المسخن بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا الْخَبَر. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أره فِي غير الرَّافِعِيّ! قلت: قد وَقع ذَلِك لبَعض الصَّحَابَة فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) ؛ وَأَبُو نعيم فِي (الْمعرفَة) ، وَالْمَشْهُور من طَرِيق الأسلع بن شريك، قَالَ: كنت أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصابتني جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرحلة فَكرِهت أَن أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب، وخشيت أَن اغْتسل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت أَو أمرض، فَأمرت رجلا من الْأَنْصَار يرحلها، وَوضعت أحجاراً فاسخنت بهَا مَاء فاغتسلت، ثمَّ لحقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا ايها الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وانتم سكارى} (النِّسَاء: 43) إِلَى {غَفُورًا} (النِّسَاء: 43) وَفِي سَنَده: الْهَيْثَم بن زُرَيْق الرَّاوِي لَهُ عَن أَبِيه عَن الأسلع مَجْهُولَانِ، والْعَلَاء بن الْفضل رَاوِيه عَن الْهَيْثَم وَفِيه ضعف، وَقد قيل: إِنَّه تفرد بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يسخن المَاء يتَوَضَّأ بِهِ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: (إِنَّا نَتَوَضَّأ بالحميم وَقد أغلي على النَّار) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن بشر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا سملة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس. وَمِنْهُم ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم.
قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) وَهُوَ الْأَثر الثَّانِي، وَهُوَ عطف على قَوْله: (بالحميم) أَي: وَتَوَضَّأ عمر من بَيت نَصْرَانِيَّة. وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِحَذْف الْوَاو من قَوْله: (وَمن بَيت) ، وَهَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُمَا أثران مستقلان، فَالْأول ذَكرْنَاهُ، وَالثَّانِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ وَوَصله الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه: (أَن عمر تَوَضَّأ من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة) ، وَهَذَا لفظ الشَّافِعِي. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: رَوَاهُ خَلاد بن أسلم عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ فَقَالَ: (مَاء نَصْرَانِيّ) ، بالتذكير. وَالْمَحْفُوظ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي: (نَصْرَانِيَّة) ، بالتأنيث. وَفِي (الام) للشَّافِعِيّ: من جرة نَصْرَانِيَّة، بِالْهَاءِ فِي آخرهَا. وَفِي (الْمُهَذّب) لأبي إِسْحَاق: جر نَصْرَانِيّ، وَقَالَ: صَحِيح. وَذكر ابْن فَارس فِي (حلية الْعلمَاء) : هَذَا سلاخة عرقوب الْبَعِير يَجْعَل وعَاء للْمَاء، فَإِن قلت: مَا وَجه تطابق هَذَا الاثر للتَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: بِنَاء على حذف وَاو الْعَطف من قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) ، ومعتقداً أَنه أثر وَاحِد لما كَانَ هَذَا الاخير الَّذِي هُوَ مُنَاسِب لترجمة الْبَاب من فعل عمر، رَضِي الله عَنهُ. ذكر الْأَمر الأول أَيْضا، وَإِن لم يكن مناسباً لَهَا، لاشْتِرَاكهمَا فِي كَونهمَا من فعله تكثيراً للفائدة واختصاراً فِي الْكتاب. وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قصَّة وَاحِدَة، أَي: تَوَضَّأ من بَيت النَّصْرَانِيَّة بِالْمَاءِ الْحَمِيم، وَيكون الْمَقْصُود ذكر اسْتِعْمَال سُؤْر الْمَرْأَة النَّصْرَانِيَّة، وَذكر الْحَمِيم إِنَّمَا هُوَ لبَيَان الْوَاقِع، فَتكون مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قلت: هَذَا مِنْهُ لعدم إطلاعه فِي كتب الْقَوْم، فَظن أَنه أثر وَاحِد، وَقد عرفت أَنَّهُمَا أثران مستقلان. ثمَّ ادّعى أَن الْأَمر الْأَخير مُنَاسِب للتَّرْجَمَة، فهيهات أَن يكون مناسباً، لِأَن الْبَاب فِي وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته، وَفضل وضوء الْمَرْأَة؟ فَأَي وَاحِد من هذَيْن مُنَاسِب لهَذَا؟ وَأي وَاحِد من هذَيْن يدل على ذَلِك؟ أما توضؤ عمر بالحميم فَلَا يدل على شَيْء من ذَلِك ظَاهرا، وَأما توضؤ عمر(3/83)
من بَيت نَصْرَانِيَّة فَهَل يدل على أَن وضوءه كَانَ من فضل هَذِه النَّصْرَانِيَّة؟ فَلَا يدل وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك. فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان بالبرهان.
وَقَالَ بَعضهم الثَّانِي مُنَاسِب لقَوْله: وَفضل وضوء الْمَرْأَة، لِأَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، تَوَضَّأ بِمَائِهَا، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز التطهر بِفضل وضوء المراة الْمسلمَة لِأَنَّهَا لَا تكون أَسْوَأ حَالا من النَّصْرَانِيَّة. قلت: التَّرْجَمَة فضل وضوء الْمَرْأَة، والنصرانية هَل لَهَا فضل وضوء حَتَّى يكون التطابق بَينه وَبَين التَّرْجَمَة؟ فَقَوله: من بَيت نَصْرَانِيَّة لَا يدل على أَن المَاء كَانَ من فضل اسْتِعْمَال النَّصْرَانِيَّة، وَلِأَن المَاء كَانَ لَهَا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الشَّافِعِي: من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة، قلت: نعم، وَلَكِن لَا يدل على أَنه كَانَ من فضل اسْتِعْمَالهَا، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هَذَا الْأَثر جَوَاز اسْتِعْمَال مِيَاههمْ، وَلَكِن يكره اسْتِعْمَال أوانيهم وثيابهم. سَوَاء فِيهِ أهل الْكتاب وَغَيرهم. وَقَالَ الشَّافِعِيَّة: وأوانيهم المستعملة فِي المَاء أخف كَرَاهَة، فَإِن تَيَقّن طَهَارَة أوانيهم أَو ثِيَابهمْ فَلَا كَرَاهَة إِذا فِي اسْتِعْمَالهَا. قَالُوا: وَلَا نعلم فِيهَا خلافًا، وَإِذا تطهر من إِنَاء كَافِر وَلم يتَيَقَّن طَهَارَته وَلَا نَجَاسَته، فَإِن كَانَ من قوم لَا يتدينون باستعمالها صحت طَهَارَته قطعا، وَإِن كَانَ من قوم يتدينون باستعمالها فَوَجْهَانِ: أصَحهمَا: الصِّحَّة، وَالثَّانِي: الْمَنْع. وَمِمَّنْ كَانَ لَا يرى بَأْسا بِهِ: الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم أحدا كرهه إلاَّ أَحْمد وَإِسْحَاق. قلت: وتبعهما أهل الظَّاهِر، وَاخْتلف قَول مَالك فِي هَذَا، فَفِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يتَوَضَّأ بسؤر النَّصْرَانِي وَلَا بِمَاء أَدخل يَده فِيهِ. وَفِي (الْعُتْبِيَّة) أجَازه مرّة وَكَرِهَهُ أُخْرَى. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الام) : لَا بَأْس بِالْوضُوءِ من مَاء الْمُشرك وبفضل وضوئِهِ مَا لم يعلم فِيهِ نَجَاسَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: انْفَرد إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بِكَرَاهَة فضل الْمَرْأَة إِن كَانَت جنبا.
193 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ انَّهُ قالَ كانَ الرِّجالُ والنِّسَاءُ(3/84)
يَتَوَضَّؤُنَ فِي زَمانِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمِيعاً.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على التَّرْجَمَة صَرِيحًا، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا شَيْئَانِ، والْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ إلاَّ شَيْء وَاحِد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يدل على الأول صَرِيحًا، وعَلى الثَّانِي التزاماً. فَإِن قلت: هَذَا لَا يدل على أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون من إِنَاء وَاحِد. قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وروى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن النُّعْمَان عَن مَالك بِلَفْظ: (من الميضأة) . وَفِي رِوَايَة القعْنبِي وَابْن وهب عَنهُ: (كَانُوا يتوضؤون زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْإِنَاء الْوَاحِد) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (كُنَّا نَتَوَضَّأ نَحن وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد على عهد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ندلي فِيهِ أَيْدِينَا) ، وَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم تقدمُوا، وَعبد الله هُوَ التنيسِي.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني. وَمِنْهَا: أَن هَذَا السَّنَد من سلسلة الذَّهَب، وَعَن البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر.
بَيَان الْمعَانِي قَالَ بَعضهم ظَاهر: (كَانَ الرِّجَال) التَّعْمِيم، لَكِن: اللَّام، للْجِنْس لَا للاستغراق. قلت: أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: يُقرر فِي علم الْأُصُول أَن الْجمع الْمحلى بِالْألف وَاللَّام للاستغراق، فَمَا حكمه هَهُنَا؟ قلت: قَالُوا بِعُمُومِهِ إِلَّا إِذا دلّ الدَّلِيل على الْخُصُوص، وَهَهُنَا الْقَرِينَة العادية مخصصة بالبغض. قلت: الْجمع مثل الرِّجَال وَالنِّسَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْعَام المتناول للمجموع إِذا عرّف بِاللَّامِ يكون مجَازًا عَن الْجِنْس، مثلا إِذا قلت: فلَان يركب الْخَيل ويلبس الثِّيَاب الْبيض، يكون للْجِنْس للْقطع بِأَن لَيْسَ الْقَصْد إِلَى عهد أَو استغراق، فَلَو حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء وَلَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم النَّاس يَحْنَث بِالْوَاحِدِ، إِلَّا أَن يَنْوِي الْعُمُوم فَلَا يَحْنَث قطّ، لِأَنَّهُ نوى حَقِيقَة كَلَامه، ثمَّ هَذَا الْجِنْس بِمَنْزِلَة النكرَة يخص فِي الْإِثْبَات، كَمَا إِذا حلف أَن يركب الْخَيل يحصل الْبر بركوب وَاحِد، ثمَّ قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء) إِثْبَات فَيَقَع على الْأَقَل بِقَرِينَة الْعَادة، وَإِن كَانَ يحْتَمل الْكل. فَإِن قلت: لَا يصلح التَّمَسُّك بِهِ لِأَن قَوْله: (جَمِيعًا) يُنَافِي وُقُوعه على الْأَقَل. قلت: مَعْنَاهُ مُجْتَمعين، فالاجتماع رَاجع إِلَى حَالَة كَونهم يتوضؤون لَا إِلَى كَون الرِّجَال وَالنِّسَاء مُطلقًا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي. فان قلت: لَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ، لِأَن فعل البغض لَيْسَ بِحجَّة. قلت: التَّمَسُّك لَيْسَ بِالْإِجْمَاع بل بتقرير الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أَقُول: حَاصِل السُّؤَال أَنه لَا يَصح التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من قَوْله: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء يتوضؤون فِي زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) لِأَنَّك قد قلت: إِن المُرَاد الْبَعْض لقِيَام الْقَرِينَة عَلَيْهِ بذلك، واجتماع الْكل مُتَعَذر، فَلَا يكون حجَّة لعدم الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَحَاصِل الْجَواب أَن التَّمَسُّك لَيْسَ بطرِيق الِاجْتِمَاع، بل بِأَن الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قررهم على ذَلِك وَلم يُنكر عَلَيْهِم، فَيكون ذَلِك حجَّة للْجُوَاز. وَقد ذكر أهل الْأُصُول أَن قَول الصَّحَابِيّ: كَانَ النَّاس يَفْعَلُونَ، وَنَحْو ذَلِك، حجَّة فِي الْعَمَل. لَا سِيمَا إِذا قيد الصَّحَابِيّ ذَلِك بِزَمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: لِمَ لَا يكون من بَاب الْإِجْمَاع السكوتي، وَهُوَ حجَّة عِنْد الْأَكْثَر؟ قلت: لَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع إلاَّ بعد وَفَاة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الصَّحَابِيّ إِذا أسْند الْفِعْل إِلَى زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون حكمه الرّفْع عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لقوم. وَقَالَ بعضهمم: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن البُخَارِيّ يرى ذَلِك. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن البُخَارِيّ وضع هَذَا الْمَرْوِيّ عَن ابْن عمر لبَيَان جَوَاز وضوء الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، وَمَعَ هَذَا لَا يُطَابق هَذَا تَرْجَمَة الْبَاب بِحَسب الظَّاهِر كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الثَّانِي فِيهِ دَلِيل على جَوَاز توضيء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. وَأما فضل الْمَرْأَة فَيجوز عِنْد الشَّافِعِي الْوضُوء بِهِ أَيْضا للرجل، سَوَاء خلت بِهِ أَو لَا. قَالَ الْبَغَوِيّ، وَغَيره: فَلَا كَرَاهَة فِيهِ للأحاديث الصَّحِيحَة فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَجُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ أَحْمد وَدَاوُد: لَا يجوز إِذا خلت بِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَن عبد الله بن سرجس وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ عَن أَحْمد كمذهبنا، وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن كَرَاهَة فَضلهَا مُطلقًا. وَحكى ابو عمر فِيهَا خَمْسَة مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه لَا بَأْس أَن يغْتَسل الرجل بفضلها مَا لم تكن جنبا أَو حَائِضًا. وَالثَّانِي: يكره أَن يتَوَضَّأ بفضلها وَعَكسه. وَالثَّالِث: كَرَاهَة فَضلهَا لَهُ والرخصة فِي عَكسه. وَالرَّابِع: لَا بَأْس بشروعهما مَعًا، وَلَا ضير فِي فَضلهَا، وَهُوَ قَول احْمَد. وَالْخَامِس: لَا بَأْس بِفضل كل مِنْهُمَا شرعا جَمِيعًا أَو خلا كل وَاحِد مِنْهُم بِهِ، وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار.
اما اغتسال الرِّجَال وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد، فقد نقل الطَّحَاوِيّ والقرطبي وَالنَّوَوِيّ الِاتِّفَاق على جَوَاز ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر لما حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي عَنهُ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن قوم. قلت: فِي نظره نظر، لأَنهم قَالُوا بالِاتِّفَاقِ دون الْإِجْمَاع، فَهَذَا الْقَائِل لم يعرف الْفرق بَين الِاتِّفَاق والاجماع، على أَنه روى جَوَاز ذَلِك عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم: عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَأم هانىء ومَيْمُونَة. فَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عَن أَحْمد قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة اغتسلا من إِنَاء وَاحِد من جَنَابَة، وتوضآ جَمِيعًا للصَّلَاة) ؛ وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن جُبَير عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل هُوَ وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ من الْإِنَاء الْوَاحِد) . وروى الطَّحَاوِيّ نَحوه عَن أبي بكرَة القَاضِي؛ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله أَو بعض أَهله. يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد فَيبْدَأ قبلي) ؛ وَحَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، قَالَت: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِنَاء وَاحِد) ، وَأخرجه البُخَارِيّ بأتم مِنْهُ، وَحَدِيث أم هانىء، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْد النَّسَائِيّ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل هُوَ ومَيْمُونَة من إِنَاء وَاحِد فِي قَصْعَة فِيهَا أثر الْعَجِين) ؛ وَحَدِيث مَيْمُونَة عِنْد التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَدَّثتنِي مَيْمُونَة، قَالَت: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد من الْجَنَابَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا حجَّة على من يكره أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة، أَو تتوضأ الْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَبَقِي الْكَلَام فِي ابْتِدَاء أَحدهمَا قبل الآخر. وَجَاء حَدِيث بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغْتَسَلت من جَنَابَة، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتوضأ مِنْهَا أَو يغْتَسل. فَقَالَت لَهُ: يَا رَسُول الله إِنِّي كنت جنبا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن المَاء لَا يجنب) . وَجَاء أَيْضا حَدِيث أم حَبِيبَة الجهنية عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي قَالَت: (رُبمَا اخْتلفت يَدي وَيَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوضُوء من إِنَاء وَاحِد) ، وَهَذَا فِي حق الْوضُوء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا يدل على أَن أَحدهمَا كَانَ يَأْخُذ من المَاء بعد صَاحبه.
فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عبد الله بن سرجس، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل الرجل بِفضل(3/85)
المراة وَالْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَلَكِن يشرعان جَمِيعًا) ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة أَو بسؤر الْمَرْأَة، لَا يدْرِي أَبُو حَاجِب أَيهمَا قَالَ) . وَأَبُو حَاجِب هُوَ الَّذِي روى عَن الحكم، وَاسم أبي حَاجِب: سوَادَة بن عَاصِم الْعَنزي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، وَرُوِيَ أَيْضا عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: (كنت لقِيت من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا صَحبه أَبُو هُرَيْرَة أَربع سِنِين، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، فَذكر مثله، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة. قلت: نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي منع التطهر بِفضل الْمَرْأَة، وَفِي جَوَاز ذَلِك مضطربة، قَالَ: لَكِن صَحَّ من الصَّحَابَة الْمَنْع فِيمَا إِذا دخلت بِهِ، وَلَكِن يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ بِصِحَّة الْجَوَاز عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ.
وَأشهر الْأَحَادِيث عِنْد المانعين: حَدِيث عبد الله ابْن سرجس، وَحَدِيث حكم الْغِفَارِيّ. وَأما حَدِيث عبد الله بن سرجس، فَإِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفاً. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: أَخطَأ من رَفعه. قلت: الحكم للرافع، لِأَنَّهُ زَاد: والراوي قد يُفْتِي بالشَّيْء ثمَّ يرويهِ مرّة أُخْرَى، وَيجْعَل الْمَوْقُوف فَتْوَى فَلَا يُعَارض الْمَرْفُوع، وَصَححهُ ابْن حزم مَرْفُوعا من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار الَّذِي فِي مُسْنده، والشيخان أخرجَا لَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، فَلَا يضرّهُ وقف من وَقفه. وَتوقف ابْن الْقطَّان فِي تَصْحِيحه لِأَنَّهُ لم يره إلاَّ فِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ، وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ لَا يعرف حَاله. قلت: شَيْخه فِيهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد المَقْبُري، وَلَو رَآهُ عِنْد ابْن مَاجَه أَو عِنْد الطَّحَاوِيّ لما توقف، لَان ابْن مَاجَه رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن المعلي بن أَسد، والطَّحَاوِي رَوَاهُ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، وهما مشهوران. وَأما حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، فَقَالَت جمَاعَة من أهل الحَدِيث، إِن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح، وَأَشَارَ الْخطابِيّ أَيْضا إِلَى عدم صِحَّته، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: لَا يثبت من جِهَة السَّنَد. قلت: لما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَرجحه ابْن مَاجَه على حَدِيث عبد الله بن سرجس، وَصَححهُ ابْن حبَان وَأَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي، وَالْقَوْل قَول من صَححهُ لَا من ضعفه، لِأَنَّهُ مُسْند ظَاهره السَّلامَة من تضعف وَانْقِطَاع، وَقَالَ ابْن قدامَة: الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَاحْتج بِهِ، وتضعيف البُخَارِيّ لَهُ بعد ذَلِك لَا يقبل لاحْتِمَال أَن يكون وَقع لَهُ من غير طَرِيق صَحِيح، وَيرد بِهَذَا أَيْضا قَول النَّوَوِيّ: اتّفق الْحفاظ على تَضْعِيفه.
الثَّالِث من الْأَحْكَام أَن ظَاهر الحَدِيث يدل على جَوَاز تنَاول الرِّجَال وَالنِّسَاء المَاء فِي حَالَة وَاحِدَة، وَحكى ابْن التِّين عَن قوم: أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، هَؤُلَاءِ على حِدة وَهَؤُلَاء على حِدة. قلت: الزِّيَادَة فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: (من إِنَاء وَاحِد) يرد عَلَيْهِم، وَكَأَنَّهُم استبعدوا إجتماع الرِّجَال وَالنِّسَاء الأجنبيات، وَأجَاب ابْن التِّين عَن ذَلِك بِمَا حَكَاهُ عَن سَحْنُون أَن مَعْنَاهُ كَانَ الرِّجَال يتوضؤون ويذهبون، ثمَّ تَأتي النِّسَاء فيتوضأن. قلت: هَذَا خلاف الَّذِي يدل عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَمَعَ هَذَا جَاءَ صَرِيحًا وحدة الْإِنَاء فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُعْتَمر عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه أبْصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يتطهرون، وَالنِّسَاء مَعَهم، من إِنَاء وَاحِد كلهم يتطهرون مِنْهُ) . قيل: وَلنَا أَن نقُول: مَا كَانَ مَانع من ذَلِك قبل نزُول آيَة الْحجاب، وَأما بعده فَيخْتَص بالزوجات والمحارم، وَفِيه نظر، وَالله تَعَالَى أعلم.
44 - (بابُ صَبِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضوءَهُ علَى المُغْمَى عَلَيهِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان صب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وضوء، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ على من أُغمي عَلَيْهِ، يُقَال: أُغمي عَلَيْهِ، بِضَم الْهمزَة، فَهُوَ مغمى عَلَيْهِ، وغمي بِضَم الْغَيْن وَتَخْفِيف الْمِيم فَهُوَ مغمى عَلَيْهِ، بِصِيغَة الْمَفْعُول، لِأَن أَصله مغموي على وزن: مفعول، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت يَاء، ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، فَصَارَ: مغمى، بِضَم الْمِيم الثَّانِيَة وَتَشْديد الْيَاء، ثمَّ أبدلت من ضمة الْمِيم كسرة لأجل الْيَاء، فَصَارَ مغمى، وَالْإِغْمَاء والغشي بِمَعْنى وَاحِد. قَالَه الْكرْمَانِي: وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الغشي مرض يحصل من طول التَّعَب، وَهُوَ أخف من الْإِغْمَاء، وَالْفرق بَينه وَبَين الْجُنُون وَالنَّوْم أَن الْعقل يكون فِي الْإِغْمَاء مَغْلُوبًا، وَفِي الْجُنُون يكون مسلوباً، وَفِي النّوم يكون مَسْتُورا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نوعا من الْوضُوء.(3/86)
194 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بن المِنْكَدِرِ قالَ سَمِيْتُ جابِراً يَقُولُ جاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُني وَانَا مَرِيضٌ لاَ اَعْقلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ علَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ لِمَنِ المِيرَاثُ إنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ فَنزلَتْ آيَةُ الفَرَائِضِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ هِشَام بن عبد الْملك، تقدم فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر التَّيْمِيّ الْقرشِي التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، الْجَامِع بَين الْعلم والزهد، وَكَانَ الْمُنْكَدر خَال عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَشكى إِلَيْهَا الْحَاجة فَقَالَت لَهُ: أول شَيْء يأتيني أبْعث بِهِ إِلَيْك، فَجَاءَهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم، فَبعثت بهَا إِلَيْهِ فَاشْترى مِنْهَا جَارِيَة فَولدت لَهُ مُحَمَّدًا إِمَامًا متألهاً بكاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله الصَّحَابِيّ الْكَبِير، تقدم فِي كتاب الْوَحْي.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني وَمِنْهَا: أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَفِي الْفَرَائِض عَن عبد الله بن عُثْمَان عَن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأبي عَامر الْعَقدي، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن وهب بن جرير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الطَّهَارَة، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، ثمانيتهم عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْمعْنَى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (يَقُول) جملَة وَقعت حَالا، وَكَذَا قَوْله: (يعودنِي) . وَكَذَا قَوْله: (وَأَنا مَرِيض لَا أَعقل) اي: لَا أفهم، وَحذف مَفْعُوله إِمَّا للتعميم أَي: لَا أَعقل شَيْئا، أَو لجعله كالفعل اللَّازِم. قَوْله: (من وضوئِهِ) ، بِفَتْح الْوَاو: مَعْنَاهُ من المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ، أَو مِمَّا بَقِي مِنْهُ. وَأخرج فِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ بن عبد الله: ثمَّ صب وضوءه عَليّ، وَلأبي دَاوُد: (فَتَوَضَّأ وصبه عَليّ) . قَوْله: (لمن الْمِيرَاث) ؟ الْألف وَاللَّام فِيهِ عوض عَن يَاء الْمُتَكَلّم، أَي: لمن ميراثي، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه فِي الِاعْتِصَام أَنه قَالَ: (كَيفَ اصْنَع فِي مالى) ؛ وَفِي رِوَايَة: (مَا تَأْمُرنِي أَن أصنع فِي مَالِي) ؟ وَفِي أُخْرَى: (كَيفَ أَقْْضِي فِي مَالِي) ، وَفِي أُخْرَى: (إِنَّمَا ترثني سبع أَخَوَات) ، وَفِي أُخْرَى فَنزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} (النِّسَاء: 11) . قَوْله: (كَلَالَة) فِيهَا أَقْوَال أَصَحهَا: مَا عدا الْوَالِد وَالْولد، وَفِيه حَدِيث صَحِيح من طَرِيق الْبَراء بن عَازِب. وَقيل: مَا عدا الْوَلَد خَاصَّة، وَقيل: الْأُخوة للام، وَقيل: بَنو الْعم وَمن أشبهم، وَقيل: الْعَصَبَات كلهم وَإِن بعدوا، ثمَّ قيل: للْوَرَثَة، وَقيل: للْمَيت، وَقيل: لَهما، وَقيل: لِلْمَالِ الْمَوْرُوث. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الكُّل: الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد، يُقَال: كَلُّ الرجل يكلُّ كَلَالَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تطلق الْكَلَالَة على ثَلَاثَة: على من لم يخلف ولدا وَلَا والداً، وعَلى من لَيْسَ بِولد وَلَا وَالِد من الْمُخلفين، وعَلى الْقَرَابَة من غير جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد. قَوْله: (فَنزلت آيَة الْفَرَائِض) وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} (النِّسَاء: 176)
إِلَى آخر السُّورَة، وَقيل: هِيَ آيَة الْمَوَارِيث مُطلقًا. والفرائض: جمع فَرِيضَة، وَالْمرَاد هَهُنَا: الحصص الْمقدرَة فِي كتاب الله للْوَرَثَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ ابْن بطال فِيهِ دَلِيل على طهورية المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، لِأَنَّهُ لَو لم يكن طَاهِرا لما صبه عَلَيْهِ. قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه صب من الْبَاقِي فِي الْإِنَاء. الثَّانِي: فِيهِ رقية الصَّالِحين للْمَاء ومباشرتهم إِيَّاه، وَذَلِكَ مِمَّا يُرْجَى بركته. الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن بركَة يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزيل كل عِلّة. الرَّابِع: فِيهِ أَن مَا يقْرَأ على المَاء مِمَّا ينفع. الْخَامِس: فِيهِ فَضِيلَة عِيَادَة الضُّعَفَاء. السَّادِس: فِيهِ فَضِيلَة عِيَادَة الأكابرِ الأصاغرَ.
45 - (بابُ الْغُسْلِ وَالوُضُوءِ فِي المِخْضَبِ والقَدَحِ والخَشَبِ والحِجَارَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. قَالَ ابْن سَيّده: المخضب شبه الإجانة، وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : هُوَ المركن. وَقَالَ ابو هِلَال العسكري فِي كتاب (التَّلْخِيص) : إِنَاء يغسل فِيهِ. وَفِي (مجمع الغرائب) هُوَ إجانة تغسل فِيهِ الثِّيَاب وَيُقَال لَهُ المركن. قَوْله: (والقدح) وَاحِد الأقداح الَّتِي للشُّرْب(3/87)
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقدح الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ، وَأكْثر مَا يكون من الْخشب مَعَ ضيف فِيهِ. قَوْله: (والخشب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع خَشَبَة، وَكَذَلِكَ: الْخشب، بِضَمَّتَيْنِ وبسكون الشين أَيْضا، وَمرَاده: الْإِنَاء الْخشب، وَكَذَلِكَ الْإِنَاء الْحِجَارَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَوَانِي تكون من الْخشب وَالْحجر وَسَائِر جَوَاهِر الأَرْض كالحديد والصفر والنحاس وَالذَّهَب وَالْفِضَّة. فَقَوله: (والخشب) يتَنَاوَل سَائِر الأخشاب. وَقَوله: (وَالْحِجَارَة) يتَنَاوَل سَائِر الْأَحْجَار من الَّتِي لَهَا قيمَة، وَالَّتِي لَا قيمَة لَهَا، وَالْحِجَارَة حمع حجر وَهُوَ جمع نَادِر: كالجمالة جمع جمل، وَكَذَلِكَ: حجار، بِدُونِ الْهَاء، وهما جمع كَثْرَة، وَجمع الْقلَّة أَحْجَار. فَإِن قلت: مَا وَجه عطف: الْخشب وَالْحِجَارَة، على: الخضب والقدح؟ قلت: من بَاب عطف التَّفْسِير، لِأَن المخضب والقدح قد يكونَانِ من الْخشب، وَقد يكونَانِ من الْحِجَارَة، وَقد صرح فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بمخضب من حِجَارَة كَمَا يَأْتِي عَن قريب، وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك مَا قد وَقع فِي بعض النّسخ الصَّحِيحَة: فِي المخضب والقدح الْخشب وَالْحِجَارَة، بِدُونِ حرف الْعَطف. وَقَالَ بَعضهم: وَعطف: الْخشب وَالْحِجَارَة، على: المخضب والقدح، لَيْسَ من عطف الْعَام على الْخَاص فَقَط، بل بَين هذَيْن وهذين عُمُوم وخصوص من وَجه. قلت: قصارى فهم هَذَا الْقَائِل أَنه لَيْسَ من عطف الْعَام على الْخَاص، ثمَّ أضْرب عَنهُ إِلَى بَيَان الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه بَين هَذِه الْأَشْيَاء، وَلم يبين وَجه الْعَطف مَا هُوَ وَقد وَقع فِي بعض النّسخ بعد قَوْله: وَالْحِجَارَة. (والتور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، قَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ إِنَاء يشرب فِيهِ، زَاد المطرزي: صَغِير، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: هُوَ إِنَاء يشبه إجانة من صفر، أَو حِجَارَة يتَوَضَّأ فِيهِ ويؤكل. وَقَالَ ابْن قر قَول: هُوَ مثل قدح من الْحِجَارَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
والمناسبة بَين هَذَا الْبَاب والأبواب الَّتِي قبله ظَاهِرَة، لِأَن الْكل فِيمَا يتَعَلَّق بِالْوضُوءِ.
195 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ بَكْرٍ حدّثنا حُمَيْدٌ عنْ أَنَسٍ قالَ حَضَرَت الصَّلاَةُ فَقامَ مَنْ كانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَقِيَ قَوْمٌ فَاُتِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ ماءٌ فَصَغُرَ المِخْضَبُ اَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ كُلُّهُمْ قُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَمَانِينَ وزِيادَةً..
مُطَابق الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (بمخضب من حِجَارَة) إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رواء، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: ابْن الْمُنِير، بِالْألف وَاللَّام. قلت: يجوز كِلَاهُمَا كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَقد يلتبس هَذَا: بِابْن الْمُنِير، الَّذِي لَهُ كَلَام فِي تراجم البُخَارِيّ وَفِي غَيرهَا، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن ذَلِك بزهاء أَرْبَعمِائَة سنة، وَهُوَ: أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ابي الْمَعَالِي مُحَمَّد كَانَ قَاضِي اسكندرية وخطيبها، وَعبد الله بن مُنِير الْحَافِظ الزَّاهِد السَّهْمِي الْمروزِي، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن بكر أَبُو وهب الْبَصْرِيّ، نزل بَغْدَاد وَتُوفِّي فِي خلَافَة الْمَأْمُون سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: حميد، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن ابي حميد الطَّوِيل، مَاتَ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، وَقد تقدم فِي بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن يزِيد بن هَارُون، وَأخرجه مُسلم وَلَفظه: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بالزوراء، والزوراء بِالْمَدِينَةِ عِنْد السُّوق وَالْمَسْجِد، دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَوضع كَفه فِيهِ فَجعل يَنْبع من بَين أَصَابِعه، فَتَوَضَّأ جَمِيع أَصْحَابه. قَالَ: قلت: كم كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَة؟ قَالَ: كَانُوا زهاء الثلاثمائة) . وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (حضرت الصَّلَاة) هِيَ صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (من كَانَ) فِي مَحل الرّفْع، لِأَنَّهُ فَاعل: قَامَ. قَوْله: (إِلَى أَهله) يتَعَلَّق بقوله: (فَقَامَ) ، وَذَلِكَ الْقيام كَانَ لقصد تَحْصِيل المَاء والتوضىء بِهِ. قَوْله: (وَبَقِي قوم) أَي: عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا غَابُوا عَن مَجْلِسه وَلم يَكُونُوا على الْوضُوء أَيْضا، وَإِنَّمَا توضؤوا من المخضب الَّذِي اتى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فأُتي) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (من حِجَارَة) كلمة: من. للْبَيَان. قَوْله: (فصغر المخضب) أَي: لم يسع بسط(3/88)
الْكَفّ فِيهِ لصغره، وَقد علم من ذَلِك أَن المخضب يكون من حِجَارَة وَغَيره، وَيكون صَغِيرا وكبيراً. قَوْله: (ان يبسط) اي: لِأَن يبسط، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: لبسط الْكَفّ فِيهِ. قَوْله: (فَتَوَضَّأ الْقَوْم) أَي: الْقَوْم الَّذين بقوا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك المخضب الصَّغِير. قَوْله: (فَقُلْنَا) وَفِي بعض النّسخ وَفِي بَعْضهَا: قلت. وَهُوَ من كَلَام حميد الطَّوِيل الرَّاوِي عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (كم كُنْتُم) ؟ مُمَيّز: كم، مَحْذُوف تَقْدِيره: كم نفسا كُنْتُم؟ وَكَذَلِكَ مُمَيّز ثَمَانِينَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر للكون الْمُقدر تَقْدِيره: كُنَّا ثَمَانِينَ نفسا وَزِيَادَة على الثَّمَانِينَ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على معْجزَة كَبِيرَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِي: فِيهِ التهيء للْوُضُوء عِنْد حُضُور الصَّلَاة. الثَّالِث: فِيهِ أَن الْأَوَانِي كلهَا، سَوَاء كَانَت من الْخشب أَو من جَوَاهِر الأَرْض طَاهِرَة، فَلَا كَرَاهَة فِي اسْتِعْمَالهَا، وَذكر أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) عَن ابْن سِيرِين: كَانَت الْخُلَفَاء يتوضأون فِي الطشت، وَعَن الْحسن رَأَيْت عُثْمَان يصب عَلَيْهِ من إبريق يعْنى نُحَاسا. قَالَ أَبُو عبيد: وعَلى هَذَا أَمر النَّاس فِي الرُّخْصَة والتوسعة فِي الْوضُوء فِي آنِية النّحاس وأشباهه من الْجَوَاهِر إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من الْكَرَاهَة. قلت: ذكر ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سليم عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة: كرهت أَن أتوضأ فِي النّحاس، وَفِي كتاب (الْأَشْرَاف) : رخص كثير من أهل الْعلم فِي ذَلِك، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَمَا علمت أَنِّي رَأَيْت أحدا كره الْوضُوء فِي آنِية الصفر والنحاس والرصاص وَشبهه، والأشياء على الْإِبَاحَة وَلَيْسَ يحرم مَا هُوَ مَوْقُوف على ابْن عمر. وَقَالَ ابْن بطال: وَقد وجدت عَن ابْن عمر أَنه تَوَضَّأ فِيهِ، وَهَذِه الرِّوَايَة أشبه للصَّوَاب، وَكَانَ الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يكْرهُونَ الْوضُوء فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَبِه نقُول. وَلَو تَوَضَّأ لَهُ متوضىء أَجزَأَهُ وَقد أَسَاءَ، وَعَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يكره الْأكل وَالشرب فِي آنِية الْفضة، وَكَانَ لَا يرى بَأْسا بالمفضض، وَكَانَ لَا يرى بِالْوضُوءِ مِنْهُ بَأْسا. قلت: أَبُو حنيفَة كَانَ يكره الْأكل فِي آنِية الذَّهَب أَيْضا، وَالْمرَاد من الْكَرَاهَة: كَرَاهَة التَّحْرِيم، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد، بِسَنَد ضَعِيف عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي تور من شبه) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بِسَنَد صَحِيح عَن زَيْنَب بنت جحش: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يتَوَضَّأ من مخضب من صفر) . الصفر، بِضَم الصَّاد: هُوَ النّحاس الْجيد. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كسر الصَّاد فِيهِ لُغَة وَلم يجزه غَيره، وَيُقَال لَهُ: الشّبَه، أَيْضا بِفتْحَتَيْنِ لِأَنَّهُ يشبه الذَّهَب.
196 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدّثنا أبُو أسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فيهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 188 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بِالْمُهْمَلَةِ وبالمد. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن اسامة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى، وَاسم أبي الْحَارِث، وَيُقَال: عَامر، وَيُقَال: اسْمه كنيته، وَأَبُو مُوسَى اسْمه عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم فِي بَاب فضل من علم وَعلم. وَلَا تفَاوت بَينهمَا إلاَّ فِي لفظ حَمَّاد، فَإِنَّهُ ذكر هُنَا بالكنية. وثمة بِالِاسْمِ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة مكيون.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (مج فِيهِ) أَي: صب فِيهِ، وَمِنْه: مج لعابه إِذا قذفه. قَوْله: (فِيهِ مَاء) ، جملَة إسمية فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لقدح. قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ) : الْفَاء، للْعَطْف على: دَعَا بِالْمُهْمَلَةِ، وَمعنى دَعَا طلب. قَوْله: (وَوَجهه) بِالنّصب عطف على قَوْله: (يَدَيْهِ) . وَقَوله: (وَمَج) عطف على (غسل) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ الْكرْمَانِي، هَذَا الحَدِيث يدل على الْغسْل فِي الْقدح، بِفَتْح الْغَيْن، لَا على الْغسْل، بِضَم الْغَيْن، وَلَا على الْوضُوء. الثَّانِي: قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ جَوَاز الْوضُوء بِمَاء قد مج فيهه. الثَّالِث: فِيهِ دلَالَة على جَوَاز الشّرْب مِنْهُ، وَكَذَا الإفراغ مِنْهُ على الْوُجُوه والنحور، لِأَن تَمام الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مُعَلّقا عَن أبي مُوسَى فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وَقد ذكرنَا بَقِيَّة الْكَلَام هُنَاكَ.(3/89)
197 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي سَلَمَة قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ قالَ أتَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاخْرَجْنا لَهُ مَاء فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْن وَمَسَحَ بِرَأسِهِ فَاقْبَلَ بِهِ وَأدْبَرَ وَغَسَلَ رِجلَيْه..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس، نسب إِلَى جده، تقدم فِي بَاب من قَالَ: الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل الصَّالح. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم، مر فِي بَاب السُّؤَال والفتيا عِنْد رمي الْجمار. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة. الْخَامِس: عبد الله بن زيد، وَقد تقدمُوا فِي بَاب غسل الرجلَيْن.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ اثْنَيْنِ وهما أَحْمد بن يُونُس وَعبد الْعَزِيز، وَكِلَاهُمَا منسوبان إِلَى جدهما، وَاسم أَب كل مِنْهُمَا: عبد الله، وكنية كل مِنْهُمَا: ابو عبد الله، وكل مِنْهُمَا: ثِقَة حَافظ فَقِيه.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (أَتَانَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) رِوَايَة الْكشميهني وابي الْوَقْت، وَرِوَايَة غَيرهمَا: (أَتَى رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَوْله: (فِي تور) صفة لقَوْله: (مَاء) ، وَمحله النصب، وَكلمَة: من فِي: (من صفر) للْبَيَان، وَتَفْسِير: التور، قد مر عَن قريب قَوْله: (فَغسل وَجهه) تَفْسِير لقَوْله: (فَتَوَضَّأ) وَفِيه حذف تَقْدِيره: فَمَضْمض واستنشق، كَمَا دلّت عَلَيْهِ الرِّوَايَات الْأُخَر، والمخرج مُتحد. قَوْله: (فِي تور من صفر) زِيَادَة عبد الْعَزِيز. قَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لم يذكر فِي التَّرْجَمَة لفظ: التور، وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي بعده. قلت: لَعَلَّ إِيرَاده فِي هَذَا الْبَاب من جِهَة أَن ذَلِك لتور كَانَ على شكل الْقدح، أَو من جملَة أَنه حجر، لِأَن الصفر من أَنْوَاع الْأَحْجَار، أَقُول: رَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة بِخَط المُصَنّف: والتور، بعد قَوْله: (والخشب وَالْحِجَارَة) .
198 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ لمَا ثَقُلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فاذِنَّ لهُ فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الارْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فاخبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابنَ عَبَّاسٍ فقالَ أتَدْرِي منِ الرَّجُلُ الآخَرُ قُلْتُ لَا قالَ هُوَ عَلِيٌّ وكانَتْ عائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا تُحَدِّثُ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ واشْتَدَّ وَجعُهُ هَرِيقُوا عَليَّ مِنْ سَبْع قِرَبٍ لمْ تُحْلَلْ اوْ كِيَتُهُنَّ لعَلِّي أَعْهَدُ إلَى النَّاسِ وأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لحَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ من تِلْكَ القِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إليْنَا أنْ قدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إلَى النَّاسِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه الحكم ابْن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة دِينَار، وَأَبُو بشر الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، وَالْكل تقدمُوا فِي كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار، وبصيغة الْإِفْرَاد وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بن حمصي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيَيْنِ جليلين: الزُّهْرِيّ وَعبيد الله.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي سبع مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الصَّلَاة فِي موضِعين، وَفِي حد الْمَرِيض يشْهد الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ مُخْتَصرا، وَفِي الْهِبَة، وَالْخمس، وَأجر الْمَغَازِي، وَفِي بَاب مَرضه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الطِّبّ. وَأخرجه مُسلم(3/90)
فِي الصَّلَاة عَن عبد بن حميد وَمُحَمّد بن رَافع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء، وَفِي الْوَفَاة عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَفِي الْوَفَاة أَيْضا عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس. أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن ابْن إِسْمَاعِيل عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لما ثقل) ، بِضَم الْقَاف، يُقَال: ثقل الشَّيْء ثقلاً، مِثَال صغر صغراً، فَهُوَ ثقيل. وَقَالَ ابو نصر: أصبح فلَان ثاقلاً إِذا أثقله الملاض، والثقل ضد الخفة، وَالْمعْنَى هَهُنَا: اشْتَدَّ مَرضه، ويفسره قَوْلهَا بعده: وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعه، وَأما: الثّقل، بِفَتْح الثَّاء وَسُكُون الْقَاف، فَهُوَ مصدر: ثقل، بِفَتْح الْقَاف: الشَّيْء فِي الْوَزْن يثقله ثقلاً، من بَاب: نصر ينصر، إِذا وَزنه. وَكَذَلِكَ: ثقلت الشَّاة إِذا رفعتها للنَّظَر مَا ثقلهَا من خفتها. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي الْقَامُوس: ثقل كفرح يعْنى بِكَسْر الْقَاف فَهُوَ ثاقل وثقيل: اشْتَدَّ مَرضه. قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نسبته إِلَى أحد من أَئِمَّة اللُّغَة الْمُعْتَمد عَلَيْهِم. قَوْله: (فِي أَن يمرض) على صِيغَة الْمَجْهُول، من: التمريض، يُقَال: مَرضه تمريضاً إِذا أَقمت عَلَيْهِ فِي مَرضه، يَعْنِي: خدمته فِيهِ. وَيحْتَمل أَن يكون التَّشْدِيد فِيهِ للسلب والإزالة كَمَا تَقول قردت الْبَعِير إِذا أزلت قراده، والمعني هُنَا: أزلت مَرضه بِالْخدمَةِ. قَوْله: (فَأذن) بتَشْديد النُّون لِأَنَّهُ جمَاعَة النِّسَاء، أَي: أَذِنت زَوْجَات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يمرض فِي بَيتهَا. قَوْله: (تخط رِجْلَاهُ) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة، و: رِجْلَاهُ، فَاعله أَي: يُؤثر بِرجلِهِ على الأَرْض كَأَنَّهَا تخط خطا، وَفِي بعض النّسخ: تخط، بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قَالَ عبيد الله) هُوَ الرَّاوِي لَهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور بِغَيْر وَاو الْعَطف. قَوْله: (وَكَانَت) مَعْطُوف أَيْضا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وعباس هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأخْبرت) أَي: بقول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. قَوْله: (بعد مَا دخل بَيته) وَفِي بعض النّسخ: (بَيتهَا) ، وأضيف إِلَيْهَا مجَازًا: بملابسة السُّكْنَى فِيهِ. قَوْله: (هريقوا عَليّ) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِدُونِ الْهمزَة فِي أَوله، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (أهريقوا) ، بِزِيَادَة الْهمزَة. وَفِي بعض النّسخ: (اريقوا) . إعلم أَن فِي هَذِه الْمَادَّة ثَلَاث لُغَات. الأولى: هراق المَاء يهرقه هراقة أَي: صب، وَأَصله: أراق يريق إِرَاقَة، من بَاب الإفعال، وأصل: أراق يريق على وزن أفعل، نقلت حَرَكَة الْيَاء إِلَى مَا قبلهَا، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها فِي الأَصْل وانفتاح مَا قبلهَا بعد النَّقْل، فَصَارَ أراق، وأصل: يريق يأريق على وزن: يؤفعل، مثل: يكرم، أَصله: يؤكرم، حذفت الْهمزَة مِنْهُ اتبَاعا لحذفها فِي الْمُتَكَلّم لِاجْتِمَاع الهمزتين فِيهِ، وَهُوَ ثقيل. اللُّغَة الثَّانِيَة: أهرق المَاء يهرقه إهراقاً على وزن: أفعل إفعالاً. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: قد أبدلوا من الْهمزَة الْهَاء ثمَّ لَزِمت فَصَارَت كَأَنَّهَا من نفس الْكَلِمَة حذفت الْألف بعد الْهَاء، وَتركت الْهَاء عوضا عَن حذفهم الْعين، لِأَن أصل أهرق: أريق. اللُّغَة الثَّالِثَة: أهراق يهريق إهراياقاً، فَهُوَ مهريق، وَالشَّيْء مهراق ومهراق أَيْضا بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا شَاذ، وَنَظِيره: اسطاع يسطيع اسطياعاً، بِفَتْح الْألف فِي الْمَاضِي، وَضم الْيَاء فِي الْمُضَارع وَهُوَ لُغَة فِي: اطاع يُطِيع، فَجعلُوا السِّين عوضا من ذهَاب حَرَكَة عين الْفِعْل، فَكَذَلِك حكم: الْهَاء، وَقد خبط بَعضهم خباطاً فِي هَذَا الْمَوْضُوع لعدم وقوفهم على قَوَاعِد علم الصّرْف. قَوْله: (من سبع قرب) جمع قربَة، وَهِي مَا يستقى بِهِ، وَهُوَ جمع الْكَثْرَة، وَجمع الْقلَّة: قربات، بِسُكُون الرَّاء وَفتحهَا وَكسرهَا. قَوْله: (أوكيتهن) الأوكية جمع: وكاء، وَهُوَ الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة. قَوْله: (أَعهد) بِفَتْح الْهَاء اي: أوصى من بَاب: علم يعلم، يُقَال عهِدت إِلَيْهِ أَي: أوصيته. قَوْله: (واجلس) على صِيغَة الْمَجْهُول اي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فاجلس) بِالْفَاءِ. و: المخضب، مر تَفْسِيره عَن قريب، وَزَاد ابْن خريمة من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة أَنه كَانَ من نُحَاس. قَوْله: (ثمَّ طفقنا نصب عَلَيْهِ) بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا، حَكَاهُ الْأَخْفَش، وَالْكَسْر أفْصح. وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، وَمَعْنَاهُ: جعلنَا نصب المَاء على رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (تِلْكَ) أَي: الْقرب السَّبع، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (تِلْكَ الْقرب) . وَهُوَ فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول نصب. قَوْله: (حَتَّى طفق) اي حَتَّى جعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِير إِلَيْنَا، وَفِي: طفق، معنى الِاسْتِمْرَار والمواصلة. قَوْله: (أَن قد فعلتن) أَي: بِأَن فعلتن مَا أمرتكن بِهِ من إهراق المَاء من الْقرب الموصوفة، و: فعلتن، بِضَم التَّاء وَتَشْديد النُّون، وَهُوَ جمع الْمُؤَنَّث الْمُخَاطب. قَوْله: (ثمَّ خرج إِلَى النَّاس) أَي: خرج من بَيت عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَزَاد البُخَارِيّ فِيهِ من طَرِيق عقيل عَن الزُّهْرِيّ: (فصلى بهم وخطبهم) ، على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ الدّلَالَة على وجوب الْقسم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإلاَّ لم يحْتَج إِلَى الاسْتِئْذَان عَنْهُن، ثمَّ(3/91)
وُجُوبه على غَيره بِالطَّرِيقِ الاولى. الثَّانِي: فِيهِ لبَعض الضرات أَن تهب نوبتها للضرة الْأُخْرَى. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْوَصِيَّة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الإجلاس فِي المخضب وَنَحْوه لأجل صب المَاء عَلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من خشب أَو حجر أَو نُحَاس، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر كَرَاهَة الْوضُوء فِي النّحاس، وَقد ذَكرْنَاهُ وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: أَنا أتوضأ بِالنُّحَاسِ وَمَا يكره مِنْهُ شَيْء إلاَّ رَائِحَته فَقَط. وَقيل: الْكَرَاهَة فِيهِ لِأَن المَاء يتَغَيَّر فِيهِ، وَرُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة تكره ريح النّحاس. وَقيل: يحْتَمل أَن تكون الْكَرَاهَة فِيهِ لِأَنَّهُ مستخرج من معادن الأَرْض شَبيه بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَالصَّوَاب: جَوَاز اسْتِعْمَاله بِمَا ذكرنَا من رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأسوة الْحَسَنَة وَالْحجّة الْبَالِغَة. الْخَامِس: فِيهِ إِرَاقَة المَاء على الْمَرِيض بنية التَّدَاوِي وَقصد الشِّفَاء. السَّادِس: فِيهِ دلَالَة على فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لتمريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا. السَّابِع: فِيهِ إِشَارَة إِلَى جَوَاز الرقي والتداوي للعليل، وَيكرهُ ذَلِك لمن لَيْسَ بِهِ عِلّة. الثَّامِن: فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشْتَد بِهِ الْمَرَض ليعظم الله أجره بذلك، وَفِي الحَدِيث الآخر: (إِنِّي أوعك كَمَا يوعك رجلَانِ مِنْكُم) . التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ. الْعَاشِر: فِيهِ أَن الْمَرِيض تسكن نَفسه لبَعض أَهله دون بعض.
الأسئلة والاجوبة: الأول: مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي طلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فِي مَرضه؟ أُجِيب: بِأَن الْمَرِيض إِذا صب عَلَيْهِ المَاء الْبَارِد ثَابت إِلَيْهِ قوته، لَكِن فِي مرض يَقْتَضِي ذَلِك، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم ذَلِك فَلذَلِك طلب المَاء، وَلذَلِك بعد اسْتِعْمَال المَاء قَامَ وَخرج إِلَى النَّاس. الثَّانِي: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين الْعدَد بالسبعة فِي الْقرب؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك، وَفِي عدد السَّبع بركَة، لِأَن لَهُ دُخُولا كثيرا فِي كثير من أُمُور الشَّرِيعَة، وَلِأَن الله تَعَالَى خلق كثيرا من مخلوقاته سبعا. قلت: نِهَايَة الْعدَد عشرَة، وَالْمِائَة تتركب من العشرات، والالوف من المئات، والسبعة من وسط الْعشْرَة، وَخير الْأُمُور أوساطها، وَهِي وتر، وَالله تَعَالَى يحب الْوتر، بِخِلَاف السَّادِس وَالثَّامِن، وَأما التَّاسِع فَلَيْسَ من الْوسط وَإِن كَانَ وترا. الثَّالِث: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين الْقرب؟ أُجِيب: بِأَن المَاء يكون فِيهَا مَحْفُوظًا وَفِي مَعْنَاهَا مَا يشاكلها مِمَّا يحفظ فِيهِ المَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي هَذَا الحَدِيث من آبار شَتَّى. الرَّابِع: مَا الْحِكْمَة فِي شَرطه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْقرب عدم حل أوكيتهن؟ أُجِيب: بِأَن أولى المَاء أطهره وأصفاه، لِأَن الْأَيْدِي لم تخالطه وَلم تدنسه بعد، والقرب إِنَّمَا توكى وَتحل على ذكر الله تَعَالَى، فَاشْترط أَن يكون صب المَاء عَلَيْهِ من الأسقية الَّتِي لم تحلل ليَكُون قد جمع بركَة الذّكر فِي شدها وحلها مَعًا. الْخَامِس: مَا الْحِكْمَة فِي أَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: (وَرجل آخر) وَلم تعينه، مَعَ أَنه كَانَ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي قَلبهَا مِنْهُ مَا يحصل فِي قُلُوب الْبشر مِمَّا يكون سَببا فِي الْإِعْرَاض عَن ذكر اسْمه، وَجَاء فِي رِوَايَة: (بَين الْفضل ابْن عَبَّاس) ، وَفِي أُخْرَى: (بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة) ، وَطَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا، وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم أخذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، لِأَنَّهُ كَانَ أدومهم لَهَا إِكْرَاما لَهُ واختصاصاً بِهِ، وَعلي وَأُسَامَة وَالْفضل يتناوبون الْيَد الْأُخْرَى، فعلى هَذَا يُجَاب بِأَنَّهَا صرحت بِالْعَبَّاسِ وأبهمت الآخر لكَوْنهم ثَلَاثَة، وَهَذَا الْجَواب أحسن من الاول. السَّادِس: قَالَ الْكرْمَانِي: أَيْن ذكر الْخشب فِي هَذِه الاحاديث الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب؟ ثمَّ أجَاب بقوله: لَعَلَّ الْقدح كَانَ من الْخشب.
46 - (بابُ الوُضُوء مِنَ التَّوْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء من التور، وَقد مر تَفْسِير التور مُسْتَوفى، وَوَقع فِي حَدِيث شريك عَن أنس فِي الْمِعْرَاج فَأتى بطشت من ذهب فِيهِ تور من ذهب، فَدلَّ هَذَا أَن التور غير الطشت، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون التور إبريقاً وَنَحْوه، لِأَن الطشت لَا بُد لَهُ من ذَلِك. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
199 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمانُ قالَ حدّثنى عَمْرُو بنُ يَحْيَ عَنْ أبِيهِ قالَ كانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنَ الوُضُوءِ قَالَ لَعَبْدِ اللَّهِ بن زَيْدٍ أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأيْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوضَّأُ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مِرَارٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ واحِدَةٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فاغْتَرَفَ بِها فَغَسَلَ وَجْهَهُ(3/92)
ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِهِ مَاء فَمَسَحَ رَأْسَهُ فأدْبَرَ بِهِ وأقْبَلَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فقالَ هَكَذَا رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام: الْقَطوَانِي البَجلِيّ، مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو مُحَمَّد، مر فِي أول كتاب الْإِيمَان. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى. الرَّابِع: يحيى بن عمَارَة. الْخَامِس: عَم يحيى هُوَ عَمْرو بن أبي حسن، كَمَا تقدم.
وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ وَفِيمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ مر فِي بَاب مسح الرَّأْس كُله، ولنذكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) وَفِي رِوَايَة: (ثَلَاث مَرَّات) ، فَإِن قلت: حكم الْعدَد فِي ثَلَاثَة إِلَى عشرَة أَن يُضَاف إِلَى جمع الْقلَّة، فَلم أضيف إِلَى جمع الْكَثْرَة مَعَ وجود الْقلَّة وَهُوَ: مَرَّات؟ قلت: هما يتعاوضان فيستعمل كل مِنْهُمَا مَكَان الآخر كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثَلَاثَة قُرُوء} (الْبَقَرَة: 228) . قَوْله: (ثمَّ ادخل يَده فِي التور فَمَضْمض) فِيهِ حذف تَقْدِيره: ثمَّ أخرجهَا فَمَضْمض، وَقد صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَته. قَوْله: (واستنثر) قد مر تَفْسِير الاستنثار هُنَاكَ. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الِاسْتِنْشَاق؟ قلت: الاستنثار مُسْتَلْزم للاستنشاق لِأَنَّهُ إِخْرَاج المَاء من الْأنف، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَا يَتَأَتَّى هَذَا على قَول من يَقُول: الاستنثار وَالِاسْتِنْشَاق وَاحِد، فعلى قَول هَذَا يكون هَذَا من بَاب الِاكْتِفَاء أَو الِاعْتِمَاد على الرِّوَايَة الاخرى. قَوْله: (من غرفَة وَاحِدَة) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (مضمض) ، وَالْمعْنَى: مضمض ثَلَاث مَرَّات واستنثر ثَلَاث مَرَّات حَال كَونه مغترفاً بغرفة وَاحِدَة وَهُوَ أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة للشَّافِعِيَّة. وَقَالَ بَعضهم قَوْله (من غرفَة وَاحِدَة) يتَعَلَّق بقوله: (فَمَضْمض واستنثر) ، وَالْمعْنَى جمع بَينهمَا بِثَلَاث مَرَّات من غرفَة وَاحِدَة كل مرّة بغرفة. قلت: يكون الْجَمِيع ثَلَاث غرفات، والتركيب لَا يدل على هَذَا، وَهُوَ يُصَرح بغرفة وَاحِدَة. نعم، جَاءَ فِي حَدِيث عبد الله بن زيد: بِثَلَاث غرفات، وَفِي رِوَايَة ابي دَاوُد وَمُسلم: (فَمَضْمض واستنشق من كف وَاحِدَة، يفعل ذَلِك ثَلَاثًا) . يَعْنِي: بِفعل الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق كل مرّة مِنْهُمَا بغرفة، فَتكون المضامض الثَّلَاث والاستنشاقات الثَّلَاث بِثَلَاث غرفات، وَهُوَ أحد الْوُجُوه للشَّافِعِيَّة وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم قَوْله: (فَغسل وَجهه ثَلَاث مَرَّات) لفظ: ثَلَاث مَرَّات، مُتَعَلق بالفعلين اي: اغترف ثَلَاثًا فَغسل ثَلَاثًا، وَهُوَ على سَبِيل تنَازع العاملين، وَذَلِكَ لِأَن الْغسْل ثَلَاثًا لَا يُمكن باغتراف وَاحِد. قَوْله: (فَأَدْبَرَ بيدَيْهِ وَأَقْبل) ، احْتج بِهِ الْحسن بن حَيّ على أَن الْبدَاءَة بمؤخر الرَّأْس، وَالْجَوَاب أَن: الْوَاو، لَا تدل على التَّرْتِيب، وَقد سبقت الرِّوَايَة بِتَقْدِيم الإقبال حَيْثُ قَالَ: (فَأقبل بِيَدِهِ وَأدبر بهَا) ، وَإِنَّمَا اخْتلف فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّأْخِير والتقديم ليري أمته السعَة فِي ذَلِك والتيسير لَهُم. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: عبد الله بن زيد.
200 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنا حَمَّادٌ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أنَسٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا بِاناءٍ مِنْ ماءٍ فُاتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيءٌ مِنْ ماءٍ فَوَضَعَ أصَابِعَهُ فِيهِ قَالَ أنَسٌ فَجَعَلْتُ أنْظُرُ إلَى المَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِه قالَ أنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوضَّأَ مِنْهُ مَا بَيْنَ السَّبْعِين إِلَى الثَّمَانِينِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة بَاب الْوضُوء من التور، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا أطلق اسْم التور على الْقدح.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: مُسَدّد بن مسهرد. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم كِلَاهُمَا. فَإِن قلت: فَلِمَ لَا يجوز أَن يكون حَمَّاد هَذَا هُوَ حَمَّاد ابْن سَلمَة؟ قلت: لِأَن مُسَددًا لم يسمع من حَمَّاد بن سَلمَة. الثَّالِث: ثَابت الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، مر فِي بَاب الْقِرَاءَة الْعرض. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي.
بَيَان الْمَعْنى قَوْله: (رحراح) ، بِفَتْح الرَّاء وبالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: وَاسع، وَيُقَال: رحرح أَيْضا بِحَذْف الْألف. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرحراح: الْإِنَاء الْوَاسِع الْفَم الْقَرِيب القعر، وَمثله لَا يسع المَاء الْكثير، فَهُوَ أدل على المعجزة. وروى ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بن زيد، فَقَالَ بدل رحراح: زجاج، بزاي مَضْمُومَة وجيمين،(3/93)
وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْوضُوء من آنِية الزّجاج، وَفِي مُسْنده عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمُقَوْقس أهْدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدحاً من زجاج، لَكِن فِي إِسْنَاده مقَال. قَوْله: (فِيهِ شَيْء من مَاء) أَي: قَلِيل من مَاء، لِأَن التَّنْوِين للتقليل، وَمن، للتَّبْعِيض. قَوْله: (يَنْبع) يجوز فِيهِ فتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَضمّهَا وَكسرهَا. قَوْله: (فحزرت) من الحزر، بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَهُوَ: الْخرص. وَالتَّقْدِير قَوْله: (من) . فِي مَحل النصب على المفعولية قَوْله (مَا بَين السّبْعين إِلَى الثَّمَانِينَ) وَتقدم من رِوَايَة حميد أَنهم كَانُوا ثَمَانِينَ وَزِيَادَة، وَالْجمع بَينهمَا أَن أنسا لم يكن يضْبط الْعدة بل كَانَ يتَحَقَّق أَنَّهَا تنيف على السّبْعين، ويشك هَل بلغت العقد الثَّامِن أَو جاوزته، كَذَا قَالَ بَعضهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ورد أَيْضا عَن جَابر ثمَّة: (كُنَّا خَمْسَة عشر وَمِائَة) ، وَهَذِه قضايا مُتعَدِّدَة فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة وأحوال مُتَغَايِرَة، وَهَذَا أوجه من ذَاك، وَيُسْتَفَاد من هَذَا بلاغه معجزته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أبلغ من تفجير المَاء من الْحجر لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن فِي طبع الْحِجَارَة أَن يخرج مِنْهَا المَاء الغدق الْكثير، وَلَيْسَ ذَلِك فِي طباع أَعْضَاء بني آدم.
47 - (بابُ الوُضُوءِ بالمُدِّ)
أَي: هَذَا بَاب الْوضُوء بِالْمدِّ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الدَّال: وَالْمدّ، اخْتلفُوا فِيهِ. فَقيل: الْمَدّ رَطْل وَثلث بالعراقي، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وفقهاء الْحجاز. وَقيل: هُوَ رطلان، وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وفقهاء الْعرَاق. وَقَالَ بَعضهم: وَخَالف بعض الحنيفة، فَقَالَ: الْمَدّ رطلان. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة أَن الْمَدّ رطلان، وَهَذَا الْقَائِل لم يبين الْمُخَالف من هُوَ، وَمَا خَالف أَبُو حنيفَة أصلا لِأَنَّهُ يسْتَدلّ فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ جَابر، قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَوَضَّأ بِالْمدِّ رطلين ويغتسل بالصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال) . أخرجه ابْن عدي، وَبِمَا رَوَاهُ عَن أنس، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَوَضَّأ بِمد رطلين ويغتسل بالصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال) ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ.
201 - حدّثنا أبُو نعَيْمٍ قالَ حدّثنا مِسْعَرٌ قالَ حدّثنى ابنُ جَبْرٍ قالَ سَمِعْتُ أنَساً يَقُولُ كَانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْسِلُ أوْ كانَ يغْتسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بالمُدِّ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة الأول: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، تقدم فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ فِي كتاب الْإِيمَان. الثَّالِث: مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة: ابْن كدام، بِكَسْر الْكَاف وبالدال الْمُهْملَة. وَقَالَ أَبُو نعيم: كَانَ مسعر شكاكاً فِي حَدِيثه. وَقَالَ شُعْبَة: كُنَّا نسمي مسعرَ المصحفَ لصدقه. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد: كَانَ شُعْبَة وسُفْيَان إِذا اخْتلفَا فِي شَيْء. قَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى الْمِيزَان: مسعر. مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَة. الثَّالِث: ابْن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْمرَاد بِهِ: سبط جبر لِأَنَّهُ عبد الله بن عبد الله جبر بن عتِيك، تقدم فِي بَاب عَلامَة الايمان حب الْأَنْصَار، وَمن قَالَ بِالتَّصْغِيرِ فقد صحف، لِأَن ابْن جُبَير، وَهُوَ ابْن سعيد لَا رِوَايَة لَهُ عَن أنس فِي هَذَا الْكتاب، وَقد روى هَذَا الحَدِيث الاسماعيلي من طَرِيق ابي نعيم، شيخ البُخَارِيّ، قَالَ: حَدثنَا مسعر، قَالَ: حَدثنِي شيخ من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: ابْن جبر، وَيُقَال لَهُ: جَابر ابْن عتِيك. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كوفيان: أَبُو نعيم ومسعر، وبصريان: ابْن جبر وَأنس. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من ينْسب إِلَى جده.
بَيَان اللُّغَات وَالْمعْنَى قَوْله: (أنسا) بِالتَّنْوِينِ، لِأَنَّهُ منصرف وقعع مَفْعُولا. قَالَ الْكرْمَانِي فِي بَعْضهَا: أنس، بِدُونِ الْألف، وَجوز حذف الْألف مِنْهُ فِي الْكِتَابَة للتَّخْفِيف. قلت: لَا بُد من التَّنْوِين وَإِن كَانَت الْألف لَا تكْتب. قَوْله: (يغسل) أَي: يغسل جسده. قَوْله: (أَو يغْتَسل) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من ابْن جبر أَنه ذكر لفظ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو لم يذكر، وَفِي أَنه قَالَ: يغسل أَو يغْتَسل، من بَاب الافتعال، وَالْفرق بَين الْغسْل والاغتسال مثل الْفرق بَين الْكسْب والاكتساب. وَقَالَ غَيره: وَالشَّكّ فِيهِ من البُخَارِيّ، اَوْ من أبي نعيم لما حَدثهُ بِهِ، فقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ م طَرِيق ابي نعيم وَلم يشك، فَقَالَ: يغْتَسل. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا من النَّاسِخ لِأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ لم يروه بِالشَّكِّ، فنسبته إِلَى البُخَارِيّ، أَو إِلَى شَيْخه أَو إِلَى ابْن جبر تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَلم لَا ينْسب إِلَى مسعر. قَوْله: (بالصاع) قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّاع هُوَ الَّذِي يُكَال بِهِ، وَهُوَ: أَرْبَعَة أَمْدَاد(3/94)
إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد. وَقَالَ ابْن سَيّده: الصَّاع مكيال لأهل الْمَدِينَة، يَأْخُذ أَرْبَعَة أَمْدَاد، يذكر وَيُؤَنث، وَجمعه: أصوع وأصواع وصيعان وصواع، كالصاع. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّاع مكيال يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ مُخْتَلف فِيهِ، وَفِي (الْجَامِع) : تصغيره صويع، فِيمَن ذكَّر، وصويعة فِيمَن أنَّث، وَجمع التَّذْكِير أصواع وأصوع فِي التَّذْكِير، وأصوع فِي التَّأْنِيث. وَفِي (الجمهرة) : أصوع فِي أُذُنِي الْعدَد. وَقَالَ ابْن بري فِي (تَلْخِيص اغلاط الْفُقَهَاء) : الصَّوَاب فِي جمع صَاع أصوع. وَقَالَ ابْن قرقول: جَاءَ فِي أَكثر الرِّوَايَات: آصَع. قلت: أصل الصَّاع صوع، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: صَاع، وصوع على الأَصْل، وصواع؛ وَالْجمع: أصوع، وَإِن شِئْت أبدلت من الْوَاو المضمومة همزَة. قَوْله: (وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ) ، وَهُوَ ربع الصَّاع، وَيجمع على أَمْدَاد ومدد ومداد، وَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ الْآن، وَقد مر بعضه عَن قريب.
بَيَان استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ حكمان.
الأول: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع فَيقْتَصر عَلَيْهِ وَرُبمَا يزِيد عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد، فَدلَّ ذَلِك أَن مَاء الْغسْل غير مُقَدّر بل يَكْفِي فِيهِ الْقَلِيل وَالْكثير إِذا أَسْبغ وَعم، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: وَقد يرفق الْفَقِيه بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي، ويخرق الأخرق فَلَا يَكْفِي، وَلَكِن الْمُسْتَحبّ أَن لَا ينقص فِي الْغسْل وَالْوُضُوء عَمَّا ذكر فِي الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَن أنسا لم يطلع على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَعْمل فِي الْغسْل أَكثر من ذَلِك، لِأَنَّهُ جعلهَا النِّهَايَة. وَسَيَأْتِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنَّهَا كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد وَهُوَ: الْفرق، وروى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل من إِنَاء يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد. قلت: أنس، رَضِي الله عَنهُ، لم يَجْعَل مَا ذكره نِهَايَة لَا يتَجَاوَز عَنْهَا، وَلَا ينقص عَنْهَا وَإِنَّمَا حكى مَا شَاهده، وَالْحَال تخْتَلف بِقدر اخْتِلَاف الْحَاجة، وَحَدِيث الْفرق لَا يدل على أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَا يغتسلان بِجَمِيعِ مَا فِي الْفرق. وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يدل أَنَّهُمَا يغتسلان من إِنَاء وَاحِد يُسمى: فرقا، وكونهما يغتسلان مِنْهُ لَا يسْتَلْزم اسْتِعْمَال جَمِيع مَا فِيهِ من المَاء، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: ثَلَاثَة أَمْدَاد. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَفِيه رد على من قدر الْوضُوء وَالْغسْل بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب: كَابْن شعْبَان من الْمَالِكِيَّة، وَكَذَا من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة مَعَ مخالفتهم لَهُ فِي مِقْدَار الْمَدّ والصاع. قلت: لَا رد فِيهِ على من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة، لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك بطرِيق الْوُجُوب، كَمَا قَالَ ابْن شعْبَان بطرِيق الْوُجُوب، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجزىء أقل من ذَلِك. وَأما من قَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة فَهُوَ مُحَمَّد بن الْحسن، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: إِن المغتسل لَا يُمكن أَن يعم جسده بِأَقَلّ من مدر، وَهَذَا يخْتَلف باخْتلَاف أجساد الْأَشْخَاص، وَلِهَذَا جعل الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام للمتوضىء والمغتسل ثَلَاث أَحْوَال. أَحدهَا: أَن يكون معتدل الْخلق كاعتدال خلقه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيقتدي بِهِ فِي اجْتِنَاب النَّقْص عَن الْمَدّ والصاع. الثَّانِيَة: أَن يكون ضئيلاً ونحيف الْخلق بِحَيْثُ لَا يعادل جسده جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيُسْتَحَب لَهُ أَن يسْتَعْمل من المَاء مَا يكون نسبته إِلَى جسده كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى جسده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة: أَن يكون متفاحش الْخلق طولا وعرضاً وَعظم الْبَطن وثخانة الْأَعْضَاء، فَيُسْتَحَب أَن لَا ينقص عَن مِقْدَار يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى بدنه كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى بدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ثمَّ إعلم أَن الرِّوَايَات مُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب، فَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ) . وَمن حَدِيث جَابر كَذَلِك، وَمن حَدِيث أم عمَارَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَأتى بِإِنَاء فِيهِ مَاء قدر ثُلثي الْمَدّ) . وَفِي رِوَايَته عَن أنس: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ بِإِنَاء يسع رطلين ويغتسل الصَّاع) . وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي (صَحِيحَيْهِمَا) ، وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِثُلثي مد من مَاء فَتَوَضَّأ، فَجعل يدلك ذِرَاعَيْهِ) . وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الثَّوْريّ: حَدِيث أم عمَارَة حسن. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنَاء وَاحِد يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد) . وَفِي رِوَايَة: (من إِنَاء وَاحِد تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة (فدعَتْ بأناء قدر الصَّاع فاغتسلت فِيهِ) وَفِي آخِره كَانَت تَغْتَسِل بِخَمْسَة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وَفِي اخرى: (تغسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصاع وتوضئه بِالْمدِّ) . وَفِي أُخْرَى: (يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (بِنَحْوِ من صَاع) ، وَفِي لفظ: (من قدح يُقَال لَهُ: الْفرق) ، وَعند النَّسَائِيّ فِي كتاب (التَّمْيِيز) : نَحْو ثَمَانِيَة أَرْطَال) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن منيع: (حزرته ثَمَانِيَة أَو تِسْعَة أَو عشرَة أَرْطَال) .(3/95)
وَعند ابْن مَاجَه، بِسَنَد ضَعِيف عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يجزىء من الْوضُوء مد، وَمن الْغسْل صَاع) . وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَعند أبي نعيم فِي (معرفَة الصَّحَابَة) من حَدِيث أم سعد بنت زيد بن ثَابت ترفعه: (الْوضُوء مد وَالْغسْل صَاع) . وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَيْسَ معنى الحَدِيث على التَّوْقِيت أَنه لَا يجوز أَكثر من وَلَا أقل، بل هُوَ قدر مَا يَكْفِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي وَغَيره من الْعلمَاء الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات: إِنَّهَا كَانَت اغتسالات فِي أَحْوَال وجدفيها أَكثر مَا اسْتَعْملهُ وَأقله، فَدلَّ على أَنه لَا حدَّ فِي قدر مَاء الطَّهَارَة يجب اسْتِيفَاؤهُ. قلت: الْإِجْمَاع قَائِم على ذَلِك، فالقلة وَالْكَثْرَة بِاعْتِبَار الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال. فَافْهَم.
وَالْفرق، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء، وَقَالَ ابو زيد: بِفَتْح الرَّاء وسكونها، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْفَتْح أفْصح، وَزعم الْبَاجِيّ أَنه الصَّوَاب، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بل هما لُغَتَانِ. وَقَالَ ابْن الاثير: الْفرق، بِالتَّحْرِيكِ: يسع سِتَّة عشر رطلا، وَهُوَ ثَلَاثَة أصوع. وَقيل: الْفرق خَمْسَة أقساط، وكل قسط نصف صَاع. وَأما الْفرق، بِالسُّكُونِ، فمائة وَعِشْرُونَ رطلا، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: الْفرق سِتَّة عشر رطلا، والمكوك إِنَاء يسع الْمَدّ، مَعْرُوف عِنْدهم. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المكوك: الْمَدّ، وَقيل: الصَّاع، وَالْأول أشبه، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث مُفَسرًا بِالْمدِّ. وَقَالَ أَيْضا: المكوك اسْم للمكيال، وَيخْتَلف مِقْدَاره باخْتلَاف اصْطِلَاح النَّاس عَلَيْهِ فِي الْبِلَاد، وَيجمع على مكاكي بإبدال الْيَاء بِالْكَاف الاخيرة، ويجىء أَيْضا على مكاكيك.
الحكم الثَّانِي: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمدِّ، وَهُوَ رطلان عِنْد أبي حنيفَة. وَعند الشَّافِعِي: رَطْل وَثلث بالعراقي، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَأما الصَّاع: فَعِنْدَ أبي يُوسُف خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل عراقية، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ ابو حنيفَة وَمُحَمّد: الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَحجَّة أبي يُوسُف مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة، وَأخرج إِلَى من أَثِق بِهِ صَاعا، وَقَالَ: هَذَا صَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَسمعت ابْن عمرَان يَقُول: الَّذِي أخرجه لأبي يُوسُف هُوَ مَالك. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: سَمِعت عَليّ بن الْمَدِينِيّ يَقُول: عبرت صَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بِحَدِيث جَابر وَأنس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب.
48 - (بابُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْن)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكمٍ من أَحْكَام الْوضُوء.
202 - حدّثنا أصْبَغُ بنُ الفَرَجِ المِصْرِيُّ عَنِ ابنِ وهْبٍ قالَ حدّثنى عمْرٌ وقَالَ حدّثنا أبُو النَّضْرِ عَنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ وأنّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ سَألَ عُمرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ إذَا حَدَّثكَ شَيْئاً سَعْدٌ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أصبغ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره عين مُعْجمَة: ابو عبد الله بن وهب الْقرشِي الْمصْرِيّ، وَلم يكون فِي المصريين أحد أَكثر حَدِيثا مِنْهُ، وَأصبغ كَانَ وراقاً لَهُ، مر فِي بَاب من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين. الثَّالِث: عَمْرو، بِالْوَاو و: ابْن الْحَارِث أَبُو امية الْمُؤَدب الْأنْصَارِيّ الْمصْرِيّ القارىء الْفَقِيه، مَاتَ بِمصْر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: سَالم بن أبي أُميَّة الْقرشِي الْمدنِي، مولى عمر بن عبد الله التَّيْمِيّ وكاتبه، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الْفَقِيه الْمدنِي، مر فِي كتاب الْوَحْي. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّابِع: سعد بن أبي وَقاص، مر فِي بَاب: إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة.(3/96)
بينان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من رُوَاته مصريون، وهم: أصبغ وَابْن وهب وَعَمْرو، وَثَلَاثَة مدنيون وهم: أَبُو النَّضر وَأَبُو سَلمَة وَابْن عمر. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: أَبُو النَّصْر عَن أبي سَلمَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن مُعظم الروَاة قرشيون فُقَهَاء أَعْلَام. وَمِنْهَا: أَن هَذَا من مُسْند سعد بِحَسب الظَّاهِر، وَكَذَا جعله أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَيحْتَمل أَن يكون من مُسْند عمر أَيْضا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو أَيُّوب الإفْرِيقِي عَن أبي النَّضر عَن أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن عمر وَسعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالصَّوَاب قَول عَمْرو بن الْحَارِث عَن أبي النَّضر عَن أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن سعد.
بَيَان من أخرجه غَيره لم يُخرجهُ البُخَارِيّ إلاَّ هَهُنَا، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلم يخرج مُسلم فِي الْمسْح إلاَّ لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد، والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (وَأَن عبد الله بن عمر) عطف على قَوْله: (عَن عبد الله بن عمر) فَيكون مَوْصُولا إِن حمل على أَن أَبَا سَلمَة سمع ذَلِك من عبد الله، وإلاَّ فَأَبُو سَلمَة لم يدْرك الْقِصَّة، وَعَن ذَلِك قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِمَّا كَلَام أبي سَلمَة، وَالظَّاهِر هُوَ الثَّانِي. قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: عَن مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخُفَّيْنِ. قَوْله: (شَيْئا) نكرَة عَام، لِأَن الْوَاقِع فِي سِيَاق الشَّرْط كالواقع فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم. وَقَوله: (حَدثَك) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. وَقَوله: (سعد) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (فَلَا تسْأَل عَنهُ) أَي: عَن الشَّيْء الَّذِي حَدثهُ سعد. قَوْله: (غَيره) أَي: غير سعد، وَذَلِكَ لقُوَّة وثوقه بنقله.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَلَا يُنكره إلاَّ المبتدع الضال. وَقَالَت الخوراج: لَا يجوز. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عامفة الْفُقَهَاء، وَعَامة الصَّحَابَة إلاَّ شَيْئا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة كلهم يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من شَرَائِط أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. فَقَالَ: نَحن نفضل الشَّيْخَيْنِ، ونحب الخنتين، ونرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَلَا نحرم نَبِيذ الْجَرّ. يَعْنِي: المثلث؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا على كبار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ، فَكَانَ بِدعَة، وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَالْأمة لم تخْتَلف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا جَاءَ كَرَاهَة ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. فَأَما الرِّوَايَة عَن عَليّ سبق الْكتاب بِالْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ فَلم يرو ذَلِك عَنهُ بِإِسْنَاد مَوْصُول يثبت مثله. وَأما عَائِشَة فَثَبت عَنْهَا أَنَّهَا أحالت بِعلم ذَلِك على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّمَا كرهه حِين لم يثبت مسح النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْمَائِدَة، فَلَمَّا ثَبت رَجَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْجَوْز قاني فِي (كتاب الموضوعات) : إِنْكَار عَائِشَة غير ثَابت عَنْهَا. وَقَالَ الكاشاني: وَأما الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس فَلم تصح لِأَن مَدَاره على عِكْرِمَة، وَرُوِيَ أَنه لما بلغ عَطاء قَالَ: كذب عِكْرِمَة، وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يُخَالف النَّاس فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فَلم يمت حَتَّى تَابعهمْ، وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: قَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي قلبِي من الْمسْح شَيْء، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رفعوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا لم يرفعوا؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْمسْح أفضل، يَعْنِي من الْغسْل، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِنَّمَا طلبُوا الْفضل، وَهَذَا مَذْهَب الشّعبِيّ وَالْحكم وَإِسْحَاق. وَفِي (هِدَايَة الْحَنَفِيَّة) : الْأَخْبَار فِيهِ مستفيضة حَتَّى إِن من لم يره كَانَ مبتدعاً، لَكِن من رَآهُ ثمَّ لم يمسح أَخذ بالعزيمة، وَكَانَ مأجوراً. وَحكى الْقُرْطُبِيّ مثل هَذَا عَن مَالك أَنه قَالَ عِنْد مَوته: وَعَن مَالك فِيهِ أَقْوَال. أَحدهمَا: أَنه لَا يجوز الْمسْح أصلا. الثَّانِي: أَنه يجوز وَيكرهُ. الثَّالِث، وَهُوَ الْأَشْهر: يجوز أبدا بِغَيْر تَوْقِيت. الرَّابِع: أَنه يجوز بتوقيت. الْخَامِس: يجوز للْمُسَافِر دون الْحَاضِر. السَّادِس: عَكسه. وَقَالَ إِسْحَاق وَالْحكم وَحَمَّاد الْمسْح أفضل من غسل الرجلَيْن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن احْمَد. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: هما سَوَاء، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْغسْل أفضل من الْمسْح بِشَرْط أَن لَا يتْرك الْمسْح رَغْبَة عَن السّنة، وَلَا يشك فِي جَوَازه وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا من الْفُقَهَاء رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار الْمسْح إلاَّ مَالِكًا، وَالرِّوَايَات الصِّحَاح عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك. قلت: فِيهِ نظر لما فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة من أَن مُجَاهدًا وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة كرهوه، وَكَذَا حكى أَبُو الْحسن النسابة عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَأبي إِسْحَاق السبيعِي وَقيس بن الرّبيع، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب عَن(3/97)
أبي بكر بن أبي دَاوُد والخوارج وَالرَّوَافِض. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد: فِيهِ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابياً، وَفِي رِوَايَة الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ أَرْبَعُونَ، وَكَذَا قَالَه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَقَالَ ابْن حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: مسح على الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة وَغَيرهم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْمُسلمين، وَقد أَشَرنَا إِلَى رِوَايَة وَخمسين من الصَّحَابَة فِي الْمسْح فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَليرْجع إِلَيْهِ.
الثَّانِي: فِيهِ تَعْظِيم لسعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الثَّالِث: فِيهِ أَن الصَّحَابِيّ الْقَدِيم الصُّحْبَة قد يخفى عَلَيْهِ من الْأُمُور الجليلة فِي الشَّرْع مَا يطلع عَلَيْهِ غَيره، لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أنكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مَعَ قدم صحبته وَكَثْرَة رِوَايَته.
الرَّابِع: فِيهِ أَن خبر الْوَاحِد إِذا حُف بالقرائن يُفِيد الْيَقِين، وَقد تكاثرت الرِّوَايَات بالطرق المتعددة من الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا لَا يفارقون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَضَر وَلَا فِي السّفر، فَجرى ذَلِك مجْرى التَّوَاتُر. وَحَدِيث الْمُغيرَة كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك، فَسقط بِهِ من يَقُول آيَة الْوضُوء مَدَنِيَّة، وَالْمسح مَنْسُوخ بهَا، لِأَنَّهُ مُتَقَدم، إِذْ غَزْوَة تَبُوك آخر غَزْوَة كائنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نزلت قبلهَا، وَمِمَّا يدل على أَن الْمسْح غير مَنْسُوخ حَدِيث جرير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ، وَهُوَ أسلم بعد الْمَائِدَة، وَكَانَ الْقَوْم يعجبهم ذَلِك. وَأَيْضًا فَإِن حَدِيث الْمُغيرَة فِي الْمسْح كَانَ فِي السّفر فيعجبهم اسْتِعْمَال جرير لَهُ فِي الْحَضَر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لما كَانَ إِسْلَام جرير مُتَأَخِّرًا علمنَا أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين أَن المُرَاد بِآيَة الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون السّنة مخصصة لِلْآيَةِ.
الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَنهم كَانُوا يرَوْنَ نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، قَالَه الْخطابِيّ.
وقالَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ: أخْبَرَنِي أبُو النَّضْرِ أنّ أَبَا سَلَمَةَ أخْبَرَهُ أنَ سَعْداً حَدَّثَهُ فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.
مُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: التَّابِعِيّ، صَاحب الْمَغَازِي، مَاتَ سنة إِحْدَى واربعين وَمِائَة. وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: مُوسَى، وَأَبُو النَّضر سَالم، وَأَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وهم على الْوَلَاء مدنيون. وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، فالإسماعيلي عَن أبي يعلى: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج حَدثنَا وهيب عَن مُوسَى بن عقبَة عَن عُرْوَة ابْن الزبير أَن سَعْدا وَابْن عمر اخْتلفَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، فَلَمَّا اجْتمعَا عِنْد عمر قَالَ سعد لِابْنِ عمر: سل أَبَاك عَمَّا أنْكرت عَليّ! فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر: نعم، وَإِن ذهبت إِلَى الْغَائِط. قَالَ مُوسَى: وَأَخْبرنِي سَالم أَبُو النَّضر عَن أبي سَلمَة بِنَحْوِ من هَذَا عَن سعد وَابْن عمر وَعمر، وَقَالَ عمر لِابْنِهِ، كَأَنَّهُ يلومه: إِذا حدث سعد عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا تَبْغِ وَرَاء حَدِيثه شَيْئا. وَالنَّسَائِيّ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد. والْحَارث بن مِسْكين عَن ابْن وهب، وَعَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث وهيب بن خَالِد عَن مُوسَى، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَرِوَايَة عُرْوَة وَأبي سَلمَة عَن سعد وَابْن عمر فِي حَيَاة عمر مُرْسلَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: حَدِيث أبي سَلمَة عَن ابْن عمر فِي الْمسْح صَحِيح، قَالَ: وَسَأَلت البُخَارِيّ عَن حَدِيث ابْن عمر فِي الْمسْح مَرْفُوعا فَلم يعرفهُ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، ابْن عمر يُنكر على سعد الْمسْح. قلت: إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ مَسحه فِي الْحَضَر، كَمَا هُوَ مُبين فِي بعض الرِّوَايَات، وَأما السّفر فقد كَانَ ابْن عمر يُعلمهُ. وَرَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن ابي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه الْكَبِير) ، وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة عَاصِم عَن سَالم عَنهُ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح على الْخُفَّيْنِ بِالْمَاءِ فِي السّفر) .
وَاعْلَم أَن خبر: إِن، فِي قَوْله: (إِن سَعْدا) مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِن سَعْدا حدث أَبَا سَلمَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ. وَقَوله: (فَقَالَ) : الْفَاء، عطف على ذَلِك الْمُقدر. قَوْله: (نَحوه) مَنْصُوب بِأَنَّهُ مقول القَوْل، أَي: نَحْو إِذا حَدثَك سعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا تسْأَل عَنهُ غَيره.
203 - حدّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ الحَرَّانِيُّ قالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بنِ إبْراهِيمَ عَنْ نافِعِ بنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ المُغِيرَةِ عَنْ أبِيهِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْه عَنْ(3/98)
رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فاتَّبَعَهُ المُغيرةُ بِادَاوَةٍ فِيها ماءٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حاجَتِهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَمْرو، بِالْوَاو: ابْن خَالِد بن فروخ، بِالْفَاءِ الْمَفْتُوحَة وَضم الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة: ابو الْحسن الْحَرَّانِي، ونسبته إِلَى حران، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وَبعد الالف نون. قَالَ الْكرْمَانِي: مَوضِع بالجزيرة بَين الْعرَاق وَالشَّام. قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَه، بل هِيَ مَدِينَة قديمَة بَين دجلة والفرات كَانَت تعدل ديار مصر، وَالْيَوْم خراب. وَقيل: هِيَ مولد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ويوسف وَإِخْوَته، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: لما خرج نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السَّفِينَة بناها. وَقيل: إِنَّمَا بناها ران، خَال يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فأبدلت الْعَرَب الْهَاء حاء فَقَالُوا: احران. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. تقدما فِي كتاب الْوَحْي. الرَّابِع: سعد، بِسُكُون الْعين؛ إِبْنِ ابراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس: نَافِع بن جُبَير بن مطعم. السَّادِس: عُرْوَة بن الْمُغيرَة بن شُعْبَة. السَّابِع: أَبُو الْمُغيرَة بن شُعْبَة.
بَيَان لطائف اسناده الاول: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة الْكَثِيرَة. وَالثَّانِي: أَن رُوَاته مَا بَين حراني ومصري ومدني. وَالثَّالِث: فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين على الْوَلَاء، وهم: يحيى وَسعد وَنَافِع وَعُرْوَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعَن عَمْرو ابْن خَالِد عَن اللَّيْث، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعد، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن نَافِع بن جُبَير بن مطعم عَنهُ بِهِ، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا، وَفِي اللبَاس عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَزَاد فِي قصَّة الصَّلَاة خلف عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن صَالح، وَلم يذكر قصَّة الصَّلَاة، وَعَن مُسَدّد عَن عِيسَى بن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد والْحَارث بن مِسْكين وَعَن قُتَيْبَة مُخْتَصرا وَعَن عبد الله بن سعد ابْن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَنه خرج لِحَاجَتِهِ) وَفِي الْبَاب الَّذِي بعد هَذَا أَنه كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك على تردد فِي ذلم من بعض رُوَاته ولمالك وَأحمد وَأبي دَاوُود من طَرِيق عباد بن زيد عَن عُرْوَة بن الْمُغيرَة أَنه كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك بِلَا تردد وَأَن ذَلِك كَانَ عِنْد صَلَاة الْفجْر قَوْله: (فَأتبعهُ الْمُغيرَة) . من الِاتِّبَاع؛ بتَشْديد التَّاء: من بَاب الافتعال، ويروى: فَاتبعهُ، من الِاتِّبَاع بِالتَّخْفِيفِ من بَاب الإفعال. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ من طَرِيق مَسْرُوق عَن الْمُغيرَة فِي الْجِهَاد وَغَيره: أَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهُوَ الَّذِي أمره أَن يتبعهُ بِالْإِدَاوَةِ. وَزَاد: (حَتَّى توارى عني فَقضى حَاجته، ثمَّ أقبل فَتَوَضَّأ) . وَعند أَحْمد من طَرِيق أُخْرَى عَن الْمُغيرَة أَن المَاء الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ أَخذه الْمُغيرَة من أعرابية صبته لَهُ من قربَة كَانَت جلد ميتَة، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: سلها إِن كَانَت دبغتها فَهُوَ طهُور مَاؤُهَا. قَالَ: إِنِّي وَالله دبغتها. قَوْله: (بإداوة) بِكَسْر الْهمزَة، أَي بمطهرة. قَوْله: (فَتَوَضَّأ) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد زِيَادَة وَهِي: (وَعَلِيهِ جُبَّة شامية) . وَفِي رِوَايَة ابي دَاوُد: (من صوف من جبات الرّوم) . وللبخاري فِي رِوَايَته الَّتِي مَضَت فِي بَاب الرجل يوضىء صَاحبه: (فَغسل وَجهه وَيَديه) ، وَذهل الْكرْمَانِي عَن هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ: فَإِن قلت الْمَفْهُوم من قَوْله: (فَتَوَضَّأ وَمسح) أَنه غسل رجلَيْهِ وَمسح خفيه، لِأَن التَّوَضُّؤ لَا يُطلق إلاَّ على غسل تَمام أَعْضَاء الْوضُوء، ثمَّ قَالَ: قلت: المُرَاد بِهِ هَهُنَا غسل غير الرجلَيْن بِقَرِينَة عطف مسح الْخُفَّيْنِ عَلَيْهِ للْإِجْمَاع على عدم وجوب الْجمع بَين الْغسْل وَالْمسح، أَقُول: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (إِنَّه تمضمض واستنشق وَغسل وَجهه) . زَاد أَحْمد فِي (مُسْنده) (ثَلَاث مَرَّات، فَذهب يخرج يَدَيْهِ من كميه فَكَانَا ضيقين، فأخرجهما من تَحت الْجُبَّة) . وَلمُسلم من وَجه آخر: (وَألقى الْجُبَّة على مَنْكِبَيْه) . وَلأَحْمَد: (فَغسل يَده الْيُمْنَى ثَلَاث مَرَّات، وَيَده الْيُسْرَى ثَلَاث مَرَّات) . وللبخاري، فِي رِوَايَة أُخْرَى: (وَمسح بِرَأْسِهِ) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَمسح بناصيته على الْعِمَامَة وعَلى الْخُفَّيْنِ) ، وَلَو تَأمل الْكرْمَانِي هَذِه الرِّوَايَات لما التجأ إِلَى هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب.(3/99)
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة، كَمَا مر فِي بَابه. الثَّالِث: فِيهِ الِانْتِفَاع بجلود الميتات إِذا كَانَت مدبوغة. الرَّابِع: فِيهِ الِانْتِفَاع بِثِيَاب الْكفَّار حَتَّى يتَحَقَّق نجاستها لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لبس الْجُبَّة الرومية، وَاسْتدلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيّ على أَن الصُّوف لَا يَتَنَجَّس بِالْمَوْتِ، لِأَن الْجُبَّة كَانَت شامية، وَكَانَ الشَّام إِذْ ذَاك دَار كفر، ومأكول أَهلهَا الميتات. الْخَامِس: فِيهِ الرَّد على من زعم أَن الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء الَّتِي فِي الْمَائِدَة لِأَنَّهَا نزلت فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة فِي غَزْوَة تَبُوك وَهِي بعْدهَا بِلَا خلاف. السَّادِس: فِيهِ التشمير فِي السّفر وَلبس الثِّيَاب الضيقة فِيهِ لكَونهَا أعون على ذَلِك. السَّابِع: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد فِي الْأَحْكَام وَلَو كَانَت امْرَأَة، سَوَاء كَانَ ذَلِك فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى ام لَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبل خبر الأعرابية. الثَّامِن: فِيهِ اسْتِحْبَاب التواري عَن أعين النَّاس عِنْد قَضَاء الْحَاجة والإبعاد عَنْهُم. التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز خدمَة السادات بِغَيْر إذْنهمْ. الْعَاشِر: فِيهِ اسْتِحْبَاب الدَّوَام على الطَّهَارَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، امْر الْمُغيرَة أَن يتبعهُ بِالْمَاءِ لأجل الْوضُوء. الْحَادِي عشر: فِيهِ أَن الِاقْتِصَار على غسل مُعظم الْمَفْرُوض غسله لَا يجوز لإخراجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ من تَحت الْجُبَّة، وَلم يكتف بِمَا بَقِي.
204 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قالَ حدّثنا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيىَ عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ جعْفَرِ بنِ عَمرٍ وبنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أنّ أباهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ رَأَى النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْسَحُ عَلَى الخفَّيْنِ.
(الحَدِيث 204 طرفه فِي: 205) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير التَّابِعِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، تقدمُوا فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. الْخَامِس: جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، بالضاد الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة: أَخُو عبد الْملك بن مَرْوَان من الرضَاعَة، من كبار التَّابِعين، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين. السَّادِس: عَمْرو بن أُميَّة، شهد بَدْرًا وأُحداً مَعَ الْمُشْركين، وَأسلم حِين انْصَرف الْمُشْركُونَ عَن أحد، وَكَانَ من رجال الْعَرَب نجدة وجراءة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا حديثان، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: يحيى وابو سَلمَة وجعفر. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن عَبَّاس الْعَنْبَري عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن حَرْب بن شَدَّاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن مُصعب عَن الْأَوْزَاعِيّ.
بَيَان الحكم: وَهُوَ مَشْرُوعِيَّة الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
وتابَعَهُ حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ وأبَانُ عَنْ يَحْيىَ
اي: تَابع شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور حَرْب بن شَدَّاد. فَقَوله: (حَرْب) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: تَابعه، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى شَيبَان، وَقد وَصله النَّسَائِيّ عَن عَبَّاس الْعَنْبَري عَن عبد الرَّحْمَن عَن حَرْب عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة. قَوْله: (وَأَبَان) عطف على حَرْب، وَهُوَ أبان بن يزِيد الْعَطَّار، وَحَدِيثه وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) عَن مُحَمَّد ابْن يحيى بن الْمُنْذر الْقَزاز، حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أبان بن يزِيد عَن يحيى فَذكره. ثمَّ إعلم أَن أبان، عِنْد من صرفه، الْألف فِيهِ أَصْلِيَّة، ووزنه: فعال، وَمن مَنعه عَكسه. فَقَالَ: الْهمزَة زَائِدَة وَالْألف بدل من الْيَاء، لِأَن أَصله بَين.
205 - حدّثنا عَبْدَانُ قالَ أخْبرنا عَبْدُ اللَّهُ قَالَ أخْبرنا الاَوْزاعِيُّ عَنْ يَحْيىَ عَن أبي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بنِ عَمْرٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْسَحُ عَلى عِمَامَتِهِ وخُفَّيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 204) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: لقب عبد الله بن عُثْمَان الْعَتكِي الْحَافِظ. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي، شيخ الْإِسْلَام، تقدما فِي كتاب الْوَحْي. الثَّالِث: الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن، تقدم فِي كتب الْعلم فِي بَاب الْخُرُوج فِي طلب الْعلم. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّادِس: جَعْفَر بن عَمْرو. السَّابِع: أَبوهُ عَمْرو بن أُميَّة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وشامي ومدني.(3/100)
بَيَان الْمَعْنى قَوْله: (على عمَامَته وخفيه) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ وَهُوَ مَشْهُور عَنهُ، وَأسْقط بعض الروَاة عَنهُ جعفراً من الْإِسْنَاد هُوَ خطأ، قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ الْأصيلِيّ: ذكر الْعِمَامَة فِي هَذَا الحَدِيث من خطأ الْأَوْزَاعِيّ، لِأَن شَيبَان رَوَاهُ عَن يحيى وَلم يذكرهَا، وَتَابعه حَرْب وَأَبَان، وَالثَّلَاثَة خالفوا الْأَوْزَاعِيّ، لِأَن شَيبَان رَوَاهُ عَن يحيى، فَوَجَبَ تَغْلِيب الْجَمَاعَة على الْوَاحِد. أَقُول: على تَقْدِير تفرد الْأَوْزَاعِيّ بِذكر الْعِمَامَة لَا يسْتَلْزم ذَلِك تخطئته، لِأَنَّهُ زِيَادَة من ثِقَة غير مُنَافِيَة لرِوَايَة غَيره فَتقبل.
بَيَان الحكم وَهُوَ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: الْمسْح على الْعِمَامَة. وَالْآخر: على الْخُفَّيْنِ. أما الأول: فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب الإِمَام أَحْمد إِلَى جَوَاز الِاقْتِصَار على الْعِمَامَة بِشَرْط الاعمام بعد كَمَال الطَّهَارَة، كَمَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَاحْتج المانعون بقوله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) وَمن مسح على الْعِمَامَة لم يمسح على رَأسه، وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يجوز مسح الْوَجْه فِي التَّيَمُّم على حَائِل دونه، فَكَذَلِك الرَّأْس. وَقَالَ الْخطابِيّ: فرض الله مسح الرَّأْس، والْحَدِيث فِي مسح الْعِمَامَة مُحْتَمل للتأويل، فَلَا يتْرك الْمُتَيَقن للمحتمل. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ مسح على الْعِمَامَة: أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبِه قَالَ عمر وَأنس وَأَبُو أُمَامَة، وَرُوِيَ عَن سعد بن مَالك وَأبي الدارداء. وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَمَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ وابو ثَوْر. وَقَالَ عُرْوَة وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم وَمَالك وَالشَّافِعِيّ واصحاب الرَّأْي: لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهَا؛ وَفِي (المغنى) : وَمن شَرَائِط جَوَاز الْمسْح على الْعِمَامَة شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَن تكون تَحت الحنك، سَوَاء أرْخى لَهَا ذؤابة أم لَا، قَالَه القَاضِي، وَلَا فرق بَين الصَّغِيرَة والكبيرة إِذا وَقع عَلَيْهَا الِاسْم. وَقيل: إِنَّمَا لم يجز الْمسْح على الْعِمَامَة الَّتِي لَيْسَ لَهَا حنك، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالتلحي وَنهى عَن الاقتعاط. قَالَ أَبُو عبيد: الاقتعاط: أَن لَا يكون تَحت الحنك مِنْهَا شَيْء. وَرُوِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى رجلا لَيْسَ تَحت حنكه من عمَامَته شَيْء، فحنكه بكور مِنْهَا، وَقَالَ: مَا هَذِه الفاسقية؟ الشَّرْط الثَّانِي: أَن تكون ساترة لجَمِيع الرَّأْس إلاَّ مَا جرت الْعَادة بكشفه، كمقدم الرَّأْس والأذنين، وَيسْتَحب أَن يمسح على مَا ظهر من الرَّأْس مَعَ الْمسْح على الْعِمَامَة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَلَا يجوز الْمسْح على القلنسوة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قَالَ بِالْمَسْحِ على القلنسوة إلاَّ أنسا مسح على قلنسوته. وَفِي جَوَاز الْمسْح للْمَرْأَة على الْخمار رِوَايَتَانِ: احداهما: يجوز، وَالثَّانيَِة: لَا يجوز. قَالَ نَافِع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، وَلَا يجوز الْمسْح على الْوِقَايَة قولا وَاحِدًا، وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا لِأَنَّهُ لَا يشق نَزعهَا. وَأما الحكم الثَّانِي: للْحَدِيث فقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
وتابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيىَ عَنْ أبي سَلَمَة عَنْ عَمْرٍ وَقَالَ رَأَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِه وخُفَّيْهِ.
أَي: تَابع الْأَوْزَاعِيّ معمر بن رَاشد. فَقَوله: (معمر) بِالرَّفْع فَاعل لقَوْله: (تَابعه) ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ للأوزاعي، وَهَذِه الْمُتَابَعَة مُرْسلَة وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الْعِمَامَة، لما روى عَنهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن عمر، وَقَالَ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح على خفيه) ، هَكَذَا وَقع فِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق، وَلم يذكر الْعِمَامَة. وَأَبُو سَلمَة لم يسمع من عَمْرو، وَإِنَّمَا سمع من أَبِيه جَعْفَر، فَلَا حجَّة فِيهَا. قَالَه الْكرْمَانِي، قلت: وَقع فِي كتاب الطَّهَارَة لِابْنِ مُنْذر من طَرِيق معمر: وَفِيه إِثْبَات ذكر الْعِمَامَة، وَقَالَ بَعضهم: سَماع أبي سَلمَة من عَمْرو مُمكن، فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ، وَأَبُو سَلمَة مدنِي، وَقد سمع من خلق مَاتُوا قبل عمر. وَقلت: كَونه مدنياً وسماعه من خلق مَاتُوا قبله لَا يسْتَلْزم سَمَاعه من عَمْرو، وبالاحتمال لَا يثبت ذَلِك.
49 - (بابٌ إِذا أدْخَلَ رِجْلَيْهِ وهُمَا طَاهِرَتانِ)
قَوْله: (بَاب) إِذا قطع عَمَّا بعده لَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ فِي جُزْء الْمركب، وَإِذا أضيف إِلَى مَا بعده بِتَأْوِيل: بَاب فِي بَيَان إِدْخَال الرجل رجلَيْهِ فِي خفيه وهما طاهرتان، أَي: وَالْحَال أَن رجلَيْهِ طاهرتان، عَن الْحَدث بِأَن يكون الْبَاب معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِدْخَال الرجل ... إِلَى آخِره.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا فِي حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.(3/101)
206 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قالَ حدّثنا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بن المُغِيرَةِ عَنْ أبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فأهْوَيْتُ لاَنْزِعَ خُفَّيْهِ فقالَ دَعْهُمَا فَانِّي أدْخَلْتُهُمَا طَاهرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهمَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: ذكريا بن أبي زَائِدَة الْكُوفِي. الثَّالِث: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ التَّابِعِيّ، قَالَ: ادركت خَمْسمِائَة صَحَابِيّ أَو أَكثر يَقُولُونَ: عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فِي الْجنَّة، تقدم هُوَ وزَكَرِيا فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ. الرَّابِع: عُرْوَة بن الْمُغيرَة. الْخَامِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر عَن قريب.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فِي سفر) : هُوَ سفرة غَزْوَة تَبُوك كَمَا ورد مُبينًا فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي (الصَّحِيح) وَكَانَت فِي رَجَب سنة تسع. قَوْله: (فَأَهْوَيْت) أَي: مددت يَدي، وَيُقَال: أَي أَشرت إِلَيْهِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال أَهْوى إِلَيْهِ بيدَيْهِ ليأخذه. قَالَ الْأَصْمَعِي: اهويت الشَّيْء إِذا أَوْمَأت بِهِ. وَقَالَ التَّيْمِيّ: أهويت أَي: قصدت الْهوى من الْقيام إِلَى الْقعُود. وَقيل: الإهواء: الإمالة. قَوْله: (لأنزع) ، بِكَسْر الزَّاي من بَاب: ضرب يضْرب، فَإِن قلت: فِيهِ حرف الْحلق، وَمَا فِيهِ حرف من حُرُوف الْحلق، يكون من بَاب: فعل يفعل بِالْفَتْح، فيهمَا. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَإِنَّمَا إِذا وجد فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا، فَالشَّرْط فِيهِ أَن يكون فِيهِ حرف من حُرُوف الْحلق، وَأما إِذا كَانَت كلمة فِيهَا حرف حلق لَا يلْزم أَن تكون من بَاب فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا. قَوْله: (خُفْيَة) أَي: خَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (دعهما) اي: دع الْخُفَّيْنِ. فَقَوله: (دع) أَمر مَعْنَاهُ: أترك، وَهُوَ من الْأَفْعَال الَّتِي أماتوا ماضيها. قَوْله: (فَإِنِّي أدخلتهما) أَي: الرجلَيْن. قَوْله: (طاهرتين) أَي من الْحَدث، وَهُوَ مَنْصُوب على الْحَال، وَهَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وهما طاهرتان) ، وَهِي جملَة أسمية حَالية. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَإِنِّي أدخلت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وهما طاهرتان) . وللحميدي فِي (مُسْنده) : (قلت يَا رَسُول الله: أيمسح أَحَدنَا على خفيه؟ قَالَ: نعم، إِذا أدخلهما وهما طاهرتان) . وَلابْن خُزَيْمَة من حَدِيث صَفْوَان بن غَسَّان: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نمسح على الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن أدخلناهما على طهر ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا) . قَوْله: (فَمسح عَلَيْهِمَا) أَي: على الْخُفَّيْنِ، وَفِيه إِضْمَار تَقْدِيره: فأحدث فَمسح عَلَيْهِمَا، لِأَن وَقت جَوَاز الْمسْح بعد الْحَدث. وَالْوُضُوء، وَلَا يجوز قبله، لِأَنَّهُ على طَهَارَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَبَيَان مشروعيته. الثَّانِي: احتجت بِهِ الشَّافِعِيَّة على أَن شَرط جَوَاز الْمسْح لبسهما على طَهَارَة كَامِلَة قبل لبس الْخُف، لِأَن الحَدِيث جعل الطَّهَارَة قبل لبس الْخُف شرطا لجَوَاز الْمسْح، وَالْمُعَلّق بِشَرْط لَا يَصح إلاَّ بِوُجُود ذَلِك الشَّرْط. وَقَالَ بَعضهم: قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من الْحَنَفِيَّة: شَرط إِبَاحَة الْمسْح لبسهما على طَهَارَة كَامِلَة. قَالَ وَالْمرَاد بالكاملة وَقت الْحَدث لَا وَقت اللّبْس. انْتهى. فَقَالَ: والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَذكر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن الشَّافِعِيَّة. قلت: نقُول أَولا مَا قَالَه صَاحب (الْهِدَايَة) ، ثمَّ نرد على هَذَا الْقَائِل مَا قَالَه. أما عبارَة صَاحب الْهِدَايَة فَهِيَ قَوْله: إِذا لبسهما على طَهَارَة كَامِلَة، لَا يُفِيد اشْتِرَاط الْكَمَال وَقت اللّبْس، بل وَقت الْحَدث، وَهُوَ الْمَذْهَب عندنَا حَتَّى لَو غسل رجلَيْهِ وَلبس خفيه ثمَّ أكمل الطَّهَارَة ثمَّ أحدث يجْزِيه الْمسْح، وَهَذَا لِأَن الْخُف مَانع حُلُول الْحَدث بالقدم، فيراعى كَمَال الطَّهَارَة وَقت الْمَنْع وَهُوَ وَقت الْحَدث، حَتَّى لَو كَانَت نَاقِصَة عِنْد ذَلِك كَانَ الْخُف رَافعا. وَأما بَيَان الرَّد على هَذَا الْقَائِل: بِأَن الحَدِيث الْمَذْكُور لَيْسَ بِحجَّة على صَاحب (الْهِدَايَة) ، فَهُوَ إِنَّا نقُول أَولا: إِن اشْتِرَاط اللّبْس على طَهَارَة كَامِلَة لَا خلاف فِيهِ لأحد، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَنه هَل يشْتَرط الْكَمَال عِنْد اللّبْس أَو عِنْد الْحَدث؟ فعندنا عِنْد الْحَدث، وَعند الشَّافِعِي عِنْد اللّبْس. وَتظهر ثَمَرَته فِيمَا إِذا غسل رجلَيْهِ أَولا وَلبس خفيه، ثمَّ أتم الْوضُوء قبل أَن يحدث، ثمَّ أحدث جَازَ لَهُ الْمسْح عندنَا، خلافًا لَهُ. وَكَذَا لَو تَوَضَّأ فرتب. لَكِن غسل إِحْدَى رجلَيْهِ وَلبس الْخُف، ثمَّ غسل الْأُخْرَى وَلبس الْخُف الآخر يجوز عندنَا خلافًا لَهُ، ثمَّ قَوْله: الْمُعَلق بِشَرْط لَا يَصح إلاَّ بِوُجُود ذَلِك الشَّرْط، سلمناه، وَلَكِن لَا نسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرط كَمَال الطَّهَارَة وَقت اللّبْس، لِأَنَّهُ لَا يفهم من نَص الحَدِيث غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه أخبر أَنه لبسهما وَقَدمَاهُ كَانَتَا طاهرتين، فأخذنا من هَذَا اشْتِرَاط الطَّهَارَة لأجل جَوَاز الْمسْح، سَوَاء كَانَت الطَّهَارَة حَاصِلَة وَقت اللّبْس أَو وَقت(3/102)
الْحَدث، وتقييده بِوَقْت اللّبْس أَمر زَائِد لَا يفهم من الْعبارَة. فَإِذا تقرر هَذَا على هَذَا لم يكن الحَدِيث حجَّة على صَاحب (الْهِدَايَة) ، بل هُوَ حجَّة لَهُ، حَيْثُ اشْترط الطَّهَارَة لأجل جَوَاز الْمسْح، وَحجَّة عَلَيْهِ حَيْثُ يَأْخُذ مِنْهُ مَا لَيْسَ يدل على مدعاه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أدخلتهما طاهرتين، يجوز أَن يُقَال: غسلتهما، وَإِن لم يكمل الطَّهَارَة صلى رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يتم صلَاته، وَيحْتَمل أَن يُرِيد: طاهرتان من جَنَابَة أَو خبث. وَلَو قلت: دَخَلنَا الْبَلَد وَنحن ركبان، يشْتَرط أَن يكون كل وَاحِد رَاكِبًا عِنْد دُخُوله، وَلَا يشْتَرط افترانهم فِي الدُّخُول، فَتكون كل وَاحِدَة من رجلَيْهِ عِنْد إدخالها الْخُف طَاهِرَة إِذا لم يدخلهما الْخُفَّيْنِ مَعًا، وهما طاهرتان، لِأَن إدخالهما مَعًا غير مُتَصَوّر عَادَة، وَإِن أَرَادَ إِدْخَال كل وَاحِدَة الْخُف وَهِي طَاهِرَة بعد الْأُخْرَى فقد وجد الْمُدَّعِي، وَمَعَ هَذَا فَإِن هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على أَن التَّرْتِيب شَرط عِنْد الشَّافِعِي وَلَيْسَ بِشَرْط عندنَا، وَقَالَ: هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَلابْن خُزَيْمَة، من حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نمسح على الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن أدخلناهما على طهر ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا) . قَالَ ابْن خُزَيْمَة: ذكرته للمزني فَقَالَ لي: حدث بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ أقوى حجَّة للشَّافِعِيّ. قلت: فَإِن كَانَ مُرَاده من قَوْله: فَإِنَّهُ من أقوى حجَّة، كَون مُدَّة الْمسْح للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة، فَمُسلم. وَنحن نقُول بِهِ، وَإِن كَانَ مُرَاده اشْتِرَاط الطَّهَارَة وَقت اللّبْس فَلَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يفهم ذَلِك من نَص الحَدِيث على مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَقَالَ أَيْضا: وَحَدِيث صَفْوَان، وَإِن كَانَ صَحِيحا، لكنه لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ، لَكِن حَدِيث الْبَاب مُوَافق لَهُ فِي الدّلَالَة على اشْتِرَاط الطَّهَارَة عِنْد اللّبْس. قلت: بعد أَن صَحَّ حَدِيث صَفْوَان عِنْد جمَاعَة من الْمُحدثين لَا يلْزم أَن يكون على شَرط البُخَارِيّ. وَقَوله: مُوَافق لَهُ فِي الدّلَالَة. إِلَى آخِره، غير مُسلم فِي كَون الطَّهَارَة عِنْد اللّبْس. نعم، مُوَافق لَهُ فِي مُطلق اشْتِرَاط الطَّهَارَة لَا غير، فَإِن ادّعى هَذَا الْقَائِل أَنه يدل على كَونهَا عِنْد اللّبْس، فَعَلَيهِ الْبَيَان بِأَيّ نوع من أَنْوَاع الدّلَالَة. الثَّالِث: من الْأَحْكَام، فِيهِ: خدمَة الْعَالم، وللخادم أَن يقْصد إِلَى مَا يعرف من خدمته دون أَن يَأْمر بهَا. الرَّابِع: فِيهِ إِمْكَان الْفَهم عَن الْإِشَارَة ورد الْجَواب بِالْعلمِ على مَا يفهم من الْإِشَارَة، لِأَن الْمُغيرَة أَهْوى لينزع الْخُفَّيْنِ، ففهم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَرَادَ، فَأجَاب بِأَنَّهُ يجْزِيه الْمسْح. الْخَامِس: فِيهِ: أَن من لبس خفيه على غير طَهَارَة انه لَا يمسح عَلَيْهِمَا بِلَا خلاف.
50 - (بابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ والسَّوِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم من لم يتَوَضَّأ من أكل لحم الشَّاة، قيد بِلَحْم الشَّاة ليندرج مَا هُوَ مثلهَا وَمَا هُوَ دونهَا فِي حكمهَا. قَوْله: (والسويق) بِالسِّين وَالصَّاد، لُغَة فِيهِ لمَكَان المضارعة، وَالْجمع: أسوقة. وَسمي بذلك لانسياقه فِي الْخلق، والقطعة من السويق سويقة، وَعَن أبي حنيفَة: الجذيذة السويق، لِأَن الْحِنْطَة جذت لَهُ. يُقَال: جذذت الْحِنْطَة للسويق. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِذا أَرَادوا أَن يعملوا الفريصة، وَهِي ضرب من السويق، ضربوا من الزَّرْع مَا يُرِيدُونَ حِين يستفرك، ثمَّ يسهمونه، وتسهيمه أَن يسخن على المقلى حَتَّى ييبس، وَإِن شاؤا جعلُوا مَعَه على المقلى الفودنج، وَهُوَ أطيب الْأَطْعِمَة. وَعَابَ رجل السويق بِحَضْرَة أَعْرَابِي فَقَالَ: لَا تَعبه، فَإِنَّهُ عدَّة الْمُسَافِر، وَطَعَام العجلان، وغذاء المبتكر، وبلغة الْمَرِيض، وَهُوَ يسر فؤاد الحزين، وَيرد من نفس المحرور، وجيد فِي التسمين، ومنعوت فِي الطِّبّ، وفقارة لحلق البلغم، وملتوته يصفي الدَّم؛ وَإِن شِئْت كَانَ شرابًا، وَإِن شِئْت كَانَ طَعَاما، وَإِن شِئْت ثريداً وَإِن شِئْت خبيصاً. وثريت السويق: صببت عَلَيْهِ مَاء ثمَّ لتيته، وَفِي (مجمع الغرائب) : ثرى يثري ثرية: إِذا بل التُّرَاب، وَإِنَّمَا بل السويق لما كَانَ لحقه من اليبس والقدم، وَهُوَ شَيْء يتَّخذ من الشّعير أَو الْقَمْح، يدق فَيكون شبه الدَّقِيق إِذا احْتِيجَ إِلَى أكله خلط بِمَاء، أَو لبن أَو رب أَو نَحوه. وَقَالَ قوم: الكعك. قَالَ السفاقسي: قَالَ بَعضهم: كَانَ ملتوتاً بِسمن. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ دَقِيق الشّعير والسلت المقلو، وَيرد قَول من قَالَ: إِن السويق هُوَ الكعك قَول الشَّاعِر:
(يَا حبذا الكعك بِلَحْم مثرود ... وخشكنان مَعَ سويق مقنود.)
وَقَالَ ابْن التِّين لَيْسَ فِي حَدِيثي الْبَاب ذكر السويق، وَقَالَ بَعضهم: أُجِيب بِأَنَّهُ دخل من بَاب أولى، لِأَنَّهُ إِذا لم يتَوَضَّأ من اللَّحْم مَعَ دسومته، فعدمه من السويق أولى، وَلَعَلَّه أَشَارَ بذلك إِلَى الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي بعد. قلت: وَإِن سلمنَا مَا قَالَه،(3/103)
فتخصيص السويق بِالذكر لماذا؟ وَقَوله: وَلَعَلَّه ... إِلَى آخِره، أبعد من الْجَواب الأول، لِأَنَّهُ عقد على السويق بَابا، فَلَا يذكر إلاَّ فِي بَابه، وَذكره إِيَّاه هَهُنَا لَا طائل تَحْتَهُ. لِأَنَّهُ لَا يُفِيد شَيْئا زَائِدا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن أَكثر هَذِه الْأَبْوَاب فِي أَحْكَام الْوضُوء.
وأكَلَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ رَضِي الله عَنْهُم فَلَمْ يَتَوَضَّؤوُا
لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لَحْمًا، وَإِنَّمَا روى: أكل أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم يتوضؤوا، وَوجد ذَلِك فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَالْأولَى أَعم، لِأَن فِيهَا حذف الْمَفْعُول، وَهُوَ يتَنَاوَل أكل كل مَا مسته النَّار لَحْمًا أَو غَيره، وَكَذَا وصل هَذَا التَّعْلِيق الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) بِإِسْنَاد حسن من طَرِيق سُلَيْمَان بن عَامر، قَالَ: (رَأَيْت أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان أكلُوا مِمَّا مست النَّار وَلم يتوضؤوا) وروى ابْن أبي شيبَة عَن هَيْثَم: أخبرنَا عَليّ بن زيد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (أكلت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَ أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان خبْزًا وَلَحْمًا فصلوا وَلم يتوضؤوا) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة حَدثنَا ابْن عقيل فَذكره مطولا، وَرَوَاهُ ابْن حبَان عَن عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَبُو عَلْقَمَة عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي فَرْوَة حَدثنِي مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة حَدثنَا مُوسَى بن سهل حَدثنَا عَليّ بن عَبَّاس حَدثنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن ابْن الْمُنْكَدر، وروى الطَّحَاوِيّ عَن أبي بكرَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا رَبَاح بن أبي مَعْرُوف عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: (أكلنَا مَعَ ابي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خبْزًا وَلَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من عشر طرق، وروى أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، نَحوه. قَوْله: (فَلم يتوضؤوا) : غَرَضه مِنْهُ بَيَان الْإِجْمَاع السكوتي.
70 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن عبد الله بن عَبَّاس أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل كتف شَاة ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. كلهم ذكرُوا. وَمن لطائف إِسْنَاده التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك. (بَيَان الْمَعْنى) قَوْله " أكل كتف شَاة " أَي أكل لَحْمه وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة " تعرق " أَي أكل مَا على الْعرق بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَهُوَ الْعظم وَيُقَال لَهُ الْعرَاق بِالضَّمِّ أَيْضا وَفِي لفظ " انتشل عرقا من قدر " وَعند مُسلم " أَنه أكل عرقا أَو لَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ وَلم يمس مَاء " وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق السراج فِي مُسْنده بِزِيَادَة " وَلم يمضمض " وَفِي مُسْند أَحْمد " انتهش من كتف " وَعند ابْن ماجة " ثمَّ مسح يَده بمسح كَانَ تَحْتَهُ " وَفِي الْمنصف " أكل من عظم أَو تعرق من ضلع " وَفِي سنَن أبي دَاوُد " فرأيته يسيل على لحيته أمشاج من دم دَمًا ثمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاة " وَفِي مُسْند القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق كَانَ ذَلِك فِي بَيت ضباعة بنت الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَهِي بنت عَم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. (بَيَان الحكم) وَهُوَ أكل مَا مسته النَّار لَا يُوجب الْوضُوء وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد واسحق وَأبي ثَوْر وَأهل الشَّام وَأهل الْكُوفَة وَالْحسن بن الْحسن وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو عبيد وَدَاوُد بن عَليّ وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَّا أَن أَحْمد يرى الْوضُوء من لحم الْجَزُور فَقَط وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وعامر بن ربيعَة وَأَبُو أُمَامَة وَأبي بن كَعْب وَأَبُو الدَّرْدَاء لَا يرَوْنَ الْوضُوء مِمَّا مست النَّار وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَأَبُو قلَابَة وَأَبُو مجلز وَعمر بن عبد الْعَزِيز يجب الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت وَأبي طَلْحَة وَأبي مُوسَى وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ وَأبي أَيُّوب وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا حَدِيث أبي طَلْحَة صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أكل ثَوْر أقط فَتَوَضَّأ مِنْهُ قَالَ عمر والثور الْقطعَة " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " توضؤا مِمَّا غيرت النَّار " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث أم حَبِيبَة قَالَت " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ(3/104)
توضؤا مِمَّا مست النَّار " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأحمد فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " توضؤا مِمَّا غيرت النَّار وَلَو من ثَوْر أقط " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَأحمد فِي مُسْنده وَأخرجه التِّرْمِذِيّ والسراج فِي مُسْنده وَمِنْهَا حَدِيث سهل بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أكل لَحْمًا فَليَتَوَضَّأ " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد حسن واحتجت الْجَمَاعَة الأولى بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس وَحَدِيث عَمْرو بن أُميَّة وَغَيرهمَا وَأَحَادِيث هَؤُلَاءِ مَنْسُوخَة بِمَا روى عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ " كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار " أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقَالُوا أَيْضا يجوز أَن يكون المُرَاد من الْوضُوء فِي الْأَحَادِيث الأول غسل الْيَد لَا وضوء الصَّلَاة فَإِن قلت روى تَوَضَّأ وروى وَلم يتَوَضَّأ قلت هُوَ دائر بَين الْأَمريْنِ فَحَدِيث جَابر بَين أَن المُرَاد الْوضُوء الَّذِي هُوَ غسل الْيَد
208 - حدّثنا يَحْيىَ بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قالَ أخْبرَنِي جَعْفَرُ بنُ عَمْرِ وابِن أُمَيَّةَ أنّ أخْبَرهُ أَبَاهُ أنَّهُ رأى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فألْقى السِّكِّينَ فَصَلَّى ولَمْ يَتَوضَّأْ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير الْمصْرِيّ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: بن خَالِد الْأَيْلِي الْمصْرِيّ، سبقوا فِي كتاب الْوَحْي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة. السَّادِس: أَبوهُ عَمْرو بن امية.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن ثَلَاثَة من رُوَاته مصريون وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فيهم إمامين كبيرين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْجِهَاد كَذَلِك، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الْيَمَان، وفيهَا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن أَحْمد بن عِيسَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن مَحْمُود بن غيرن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن أَحْمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن دُحَيْم.
بَيَان الْمَعْنى وَغَيره قَوْله: (يحتز) بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي اي: يقطع، يُقَال احتزه اي: قطعه. وَزَاد البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: (يَأْكُل مِنْهَا) ، وَفِي الصَّلَاة من طَرِيق صَالح عَن الزُّهْرِيّ: (يَأْكُل ذِرَاعا يحتز مِنْهَا) ، وَفِي أُخْرَى: (يحتز من كتف يَأْكُل مِنْهَا) . قَوْله: (من كتف شَاة) قَالَ ابْن سَيّده: الْكَتف الْعَظِيم بِمَا فِيهِ، وَهِي أُنْثَى، وَالْجمع أكتاف. يُقَال: كتف، بِفَتْح الْكَاف وَكسر التَّاء، و: كتف، بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون التَّاء، وَقيل: هِيَ عظم عريض خلف الْمنْكب، وَهِي تكون للنَّاس وَغَيرهم، والكتف من الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَغَيرهَا: مَا فَوق الْعَضُد. وَقيل: الكتفان أَعلَى الْيَدَيْنِ، وَالْجمع أكتاف. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: لم يجاوزوا بِهِ هَذَا الْبناء، وَحكى اللحياني فِي جمعه: كتفه. قَوْله: (فالقى السكين) زَاد فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: (فألقاها) . و: السكين، على وزن: فعيل، كشريب يذكر وَيُؤَنث. وَحكى الْكسَائي: سكينَة، وَلَعَلَّه سمى بِهِ لِأَنَّهُ يسكن حَرَكَة الْمَذْبُوح بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ دلَالَة على أَن أكل مَا مسته النَّار لَا يُوجب الْوضُوء، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز قطع اللَّحْم بالسكين. فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن ذَلِك فِي (سنَن ابي دَاوُد) . قلت: حَدِيث ضَعِيف، فَإِذا ثَبت خص بِعَدَمِ الْحَاجة الداعية إِلَى ذَلِك لما فِيهِ من التَّشَبُّه بالأعاجم وَأهل الترف. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز دُعَاء الْأَئِمَّة إِلَى الصَّلَاة، وَكَانَ الدَّاعِي فِي الحَدِيث بِلَالًا، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: فِيهِ قبُول الشَّهَادَة على النَّفْي محصوراً، مثل هَذَا أعنى قَوْله: (وَلم يتَوَضَّأ) .
51 - (بابُ مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ ولَمْ يَتَوَضَّأْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من مضمض من أكل السويق وَلم يتَوَضَّأ. وَفِي رِوَايَة: (لم يتَوَضَّأ) يجوز وَجْهَان. أَحدهمَا: إِثْبَات(3/105)
الْهمزَة الساكنة، عَلامَة للجزم. وَالْآخر: حذفهَا. تَقول: لم يتوضَّ، كَمَا تَقول: لم يخشَ، بِحَذْف الْألف، وَالْأول هُوَ الْأَشْهر. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: يجوز فِي: (لم يتَوَضَّأ) رِوَايَتَانِ. قلت: لَا يُقَال فِي مثل هَذَا رِوَايَتَانِ، بل يُقَال: وَجْهَان، أَو لُغَتَانِ، أَو طَرِيقَانِ، أَو نَحْو ذَلِك.
209 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالِكٌ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشيْرِ بنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حارِثَةَ أنّ سُوَيْدَ بن النُّعْمانِ أخْبرَهُ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام خَيْبَرَ حتَّى إذَا كانُوا بالصَّهْبَاءِ وَهْيَ أدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى العَصْرَ ثُمَّ دَعا بِالاَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إلاَّ بِالسَّوِيق فأمرَ بِهِ فَتُرِّي فَأكَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكلْنَا ثُمَّ قامَ إلَى المَغْرِبِ فمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا ثُمَّ صلي ولَمْ يَتَوَضَّأ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الثَّلَاثَة الأُول تكَرر ذكرهم، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن يسَار بِفَتْح، الْيَاء آخر الْحُرُوف: كَانَ شَيخا كَبِيرا فَقِيها فَقِيها أدْرك عَامَّة الصَّحَابَة، وسُويد بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو سُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن النُّعْمَان، بِضَم النُّون: الْأنْصَارِيّ الأوسي الْمدنِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان، رُوِيَ لَهُ سَبْعَة أَحَادِيث للْبُخَارِيّ مِنْهَا حَدِيث وَاحِد، وَهُوَ هَذَا الحَدِيث.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع، والإخبار كَذَلِك والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، كِلَاهُمَا من أكَابِر التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء فُقَهَاء كبار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي سَبْعَة مَوَاضِع من الْكتاب فِي الطَّهَارَة فِي موضِعين، وَفِي أَحدهمَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الآخر عَن خَالِد بن مخلد، وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الْجِهَاد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي موضِعين فِي الْأَطْعِمَة أَحدهمَا: عَن عَليّ بن عبد الله، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (عَام خَيْبَر) ، عَام: مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. و: خَيْبَر، بَلْدَة مَعْرُوفَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة نَحْو أَربع مراحل. وَقَالَ ابو عبيد: ثَمَانِيَة برد، وَسميت باسم رجل من العماليق نزلها وَكَانَ اسْمه خَيْبَر بن فانية بن مهلائل، وَكَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مصَّرها، وَهِي غير منصرف للعلمية والتأنيث، فتحهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ عِيَاض: اخْتلفُوا فِي فتحهَا، فَقيل: فتحت عنْوَة، وَقيل: صلحا، وَقيل: جلا أَهلهَا عَنْهَا بِغَيْر قتال، وَقيل: بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة وَبَعضهَا جلاء أَهلهَا بِغَيْر قتال. قَوْله: (بالصبهاء) بِالْمدِّ، مَوضِع على رَوْحَة من خَيْبَر، كَذَا رَوَاهُ فِي الْأَطْعِمَة، وَقَالَ الْبكْرِيّ: على بريد، على لفظ تَأْنِيث أصهب. قَوْله: (وَهِي أدنى خَيْبَر) أَي: اسفلها وطرفها جِهَة الْمَدِينَة. قَوْله: (فصلى الْعَصْر) ، الْفَاء: فِيهِ لمحض الْعَطف وَلَيْسَت للجزاء إِذْ قَوْله: إِذا لَيست جزائية بل هِيَ ظرفية. قَوْله: (بالأزواد) جمع زَاد، وَهُوَ طَعَام يتَّخذ للسَّفر. قَوْله: (فَأمر بِهِ) أَي: بالسويق. قَوْله: (فثرى) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، من التثرية، وَمَعْنَاهُ: بلَّ، وَقد مر مَعْنَاهُ عَن قريب مُسْتَوفى. قَوْله: (فَأكل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: مِنْهُ. قَوْله: (وأكلنا) زَاد فِي رِوَايَة سُلَيْمَان: (وشربنا) ؛ وَفِي الْجِهَاد من رِوَايَة عبد الْوَهَّاب: (فأكلنا وشربنا) . قَوْله: (فَمَضْمض) اي: قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الْمَضْمَضَة مِنْهُ وَلَا دسم لَهُ؟ قلت: يحتبس مِنْهُ شَيْء فِي أثْنَاء الْأَسْنَان وجوانب الْفَم فيشغله تتبعه عَن أَحْوَال الصَّلَاة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب الْمَضْمَضَة بعد الطَّعَام، للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على جَوَاز صَلَاتَيْنِ فَأكْثر بِوضُوء وَاحِد. قلت: البُخَارِيّ لم يضع الْبَاب لذَلِك، وَإِن كَانَ يفهم مِنْهُ ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ دلَالَة على عدم وجوب الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن الْوضُوء مِمَّا مست النَّار مَنْسُوخ لِأَنَّهُ مُتَقَدم، وخيبر كَانَت سنة سبع، وَقَالَ بَعضهم: لَا دلَالَة فِيهِ لِأَن أَبَا هُرَيْرَة حضر بعد فتح خَيْبَر. قلت: لَا يستبعد ذَلِك، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة رُبمَا يروي حَدِيثا عَن صَحَابِيّ كَانَ ذَلِك قبل أَن يسلم فيسنده إِلَى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لِأَن(3/106)
الصَّحَابَة كلهم عدُول. الثَّالِث: فِيهِ دلَالَة على جمع الرفقاء على الزَّاد فِي السّفر، لِأَن الْجَمَاعَة رَحْمَة وَفِيهِمْ الْبركَة. الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ الملهب على أَن للْإِمَام أَن يَأْخُذ المحتكرين بِإِخْرَاج الطَّعَام عِنْد قلته ليبيعوه من أهل الْحَاجة. الْخَامِس: فِيهِ الدّلَالَة على أَن على الإِمَام أَن ينظر لأهل الْعَسْكَر فَيجمع الزَّاد ليصيب مِنْهُ من مَا لَا زَاد لَهُ.
210 - حدّثنا أصْبَغُ قالَ أخْبرنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبرني عَمْرٌ وعَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكلَ عِندها كتِفاً ثُمَّ صلَّى ولَمْ يَتَوضَّأْ..
كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله لمطابقة التَّرْجَمَة، وَلَا مُطَابقَة لَهُ للتَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب، وَكَذَا سَأَلَ الْكرْمَانِي بقوله: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا يتَعَلَّق بالترجمة، ثمَّ أجَاب بقوله: قلت: الْبَاب الأول من هذَيْن الْبَابَيْنِ هُوَ أصل التَّرْجَمَة، لَكِن لما كَانَ فِي الحَدِيث الثَّالِث حكم آخر سوى عدم التوضىء، وَهُوَ الْمَضْمَضَة، أدرج بَين أَحَادِيثه بَابا آخر مترجماً بذلك الحكم، تَنْبِيها على الْفَائِدَة الَّتِي فِي ذَاك الحَدِيث الزَّائِدَة على الأَصْل، أَو هُوَ من قلم الناسخين، لِأَن النُّسْخَة الَّتِي عَلَيْهَا خطّ الْفربرِي هَذَا الحَدِيث مِنْهَا فِي الْبَاب الأول، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ الحَدِيث الأول مِنْهُمَا، وَهُوَ ظَاهر. أَقُول: هَذَا بِلَا شكّ من النساخ الجهلة، لِأَن غَالب من يستنسخ هَذَا الْكتاب يسْتَعْمل نَاسِخا حسن الْخط جدا، وغالب من يكون خطه حسنا لَا يَخْلُو عَن الْجَهْل، وَلَو كتب كلَّ فن أَهله لقل الْغَلَط والتصحيف، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: أصبغ، وَعبد الله بن وهب، وَعَمْرو بن الْحَارِث تقدمُوا قَرِيبا. وَبُكَيْر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مُصَغرًا: ابْن عبد الله الاشج الْمدنِي التَّابِعِيّ، وكريب مُصَغرًا تقدما. ومَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ تقدّمت فِي بَاب السمر بِالْعلمِ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن النّصْف الأول مصريون، وَالنّصف الثَّانِي مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إسمين مصغَّرين وهما تابعيان.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن احْمَد بن عِيسَى عَن ابْن وهب.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (كَتفًا) اي: كتف لحم. وَفِيه عدم الْوضُوء عِنْد أكل اللَّحْم، أَي لحمٍ كَانَ.
(بَاب هَل يمضم من اللَّبن)
بَاب، بِالسُّكُونِ: غير مُعرب، لِأَن الْإِعْرَاب يَقْتَضِي التَّرْكِيب، فَإِن قدر شَيْء قبله نَحْو: هَذَا بَاب، يكون معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. قَوْله: (يمضمض) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَفِي بعض النّسخ: (هَل يتمضمض) ، وَكلمَة: هَل، للاستفهام على سَبِيل الاستفسار.
211 - حدّثنا يَحْيىَ بنُ بُكَيرٍ وقُتَيْبَةُ قالاَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عتْبَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرِبَ لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إنّ لَهُ دَسمَاً.
(الحَدِيث 211 طرفه فِي: 5609) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة تقدم ذكرهم، وَبُكَيْر بِضَم الْبَاء، وَعقيل بِضَم الْعين، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله بن عبيد الله بتصغير الابْن وتكبير الاب، وَعتبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الثَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ شيخين للْبُخَارِيّ وهما: ابْن بكير وقتيبة بن سعيد، كِلَاهُمَا يرويان عَن اللَّيْث بن سعد، وَهَذَا أحد الْأَحَادِيث الَّتِي أخرجهَا الْأَئِمَّة السِّتَّة غير ابْن مَاجَه عَن شيخ وَاحِد وَهُوَ قُتَيْبَة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَاللَّيْث وَعقيل، وبلخي وَهُوَ قُتَيْبَة ومدني وَهُوَ ابْن شهَاب وَعبيد الله.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى، وَعَن أَحْمد بن عِيسَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم(3/107)
عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (دسماً) مَنْصُوب لِأَنَّهُ إسم: إِن، وَقدم عَلَيْهِ خَبره. و: الدسم، بِفتْحَتَيْنِ: الشَّيْء الَّذِي يظْهر على اللَّبن من الدّهن. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ من دسم الْمَطَر الأَرْض إِذا لم يبلغ أَن يبل الثرى، و: الدسم، بِضَم الدَّال وَسُكُون السِّين: الشَّيْء الْقَلِيل.
وَأما الحكم فَفِيهِ دلَالَة على اسْتِحْبَاب تنظيف الْفَم من أثر اللَّبن وَنَحْوه. ويستنبط مِنْهُ أَيْضا اسْتِحْبَاب تنظيف الْيَدَيْنِ.
تابَعَهُ يُونُسُ وصالِحُ بنُ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع عقيلاً يُونُس بن يزِيد. وَقَوله: (يُونُس) فَاعل: (تَابع) ، وَالضَّمِير يرجع إِلَى: عقيل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يرويهِ عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَوَصله مُسلم عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب بِهِ. قَوْله: (وَصَالح بن كيسَان) اي: تَابع عقيلاً أَيْضا صَالح بن كيسَان، وَوَصله أَبُو الْعَبَّاس السراج فِي (مُسْنده) وَتَابعه أَيْضا الْأَوْزَاعِيّ. أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي عَاصِم عَنهُ بِلَفْظ حَدِيث الْبَاب. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق الْوَلِيد بن مُسلم، قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، فَذكره بِصِيغَة الْأَمر: (مضمضوا من اللَّبن) الحَدِيث. وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن اللَّيْث بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَأخرج ابْن مَاجَه من حَدِيث أم سَلمَة وَسَهل بن سعد مثله. وَإسْنَاد كل مِنْهُمَا حسن. وَفِي (التَّهْذِيب) لِابْنِ جرير الطَّبَرِيّ: هَذَا خبر عندنَا صَحِيح وَإِن كَانَ عِنْد غَيرنَا فِيهِ نظر لاضطراب ناقليه فِي سَنَده، فَمن قَائِل: عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، من غير إِدْخَال: عبيد الله، بَينهمَا؛ وَمن قَائِل: عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غير ذكر: ابْن عَبَّاس.
وَبعد فَلَيْسَ فِي مضمضته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وجوب مضمضة وَلَا وضوء على من شربه، إِذا كَانَت أَفعاله غير لَازِمَة الْعَمَل بهَا لأمته، إِذا لم تكن بَيَانا عَن حكم فرض فِي التَّنْزِيل. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن ابْن مَاجَه رَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم ... الحَدِيث ذَكرْنَاهُ الْآن. وَفِي حَدِيث مُوسَى بن يَعْقُوب عِنْده ايضاً، وَهُوَ بِسَنَد صَحِيح، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن زَمعَة عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة مَرْفُوعا: (إِذا شربتم اللَّبن فمضمضوا فَإِن لَهُ دسماً) ، وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث عبد المهين بن عَبَّاس بن سهل بن سعد عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مضمضوا من اللَّبن فَإِن لَهُ دسما) . وَعند ابْن أبي حَاتِم فِي (كتاب الْعِلَل) من حَدِيث أنس: (هاتوا مَاء، فَمَضْمض بِهِ) . وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ من عِنْد ابْن شاهين: (فَمَضْمض من دسمه) . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو جَعْفَر الْبَغْدَادِيّ: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن زيد بن حباب عَن مُطِيع بن رَاشد عَن تَوْبَة الْعَنْبَري، سمع أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (شرب لَبَنًا فَلم يمضمض وَلم يتَوَضَّأ وَصلى) ، يدل على نسخ الْمَضْمَضَة. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يخدش فِيهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد بن منيع فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ يمضمض من اللَّبن ثَلَاثًا) ، فَلَو كَانَ مَنْسُوخا لما فعله بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قلت: لَا يلْزم من فعله هَذَا، وَالصَّوَاب فِي هَذَا أَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْأَمر بالمضمضة أَمر اسْتِحْبَاب لَا وجوب، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الْمَذْكُور آنِفا، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، بِإِسْنَاد حسن عَن أنس: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شرب لَبَنًا فَلم يتمضمض وَلم يتَوَضَّأ) . فَإِن قلت: ادّعى ابْن شاهين أَن حَدِيث أنس نَاسخ لحَدِيث ابْن عَبَّاس. قلت: لم يقل بِهِ أحد، وَمن قَالَ فِيهِ بِالْوُجُوب حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَعْوَى النّسخ؟ .
53 - (بابُ الوُضُوءِ مِنَ النوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوضُوء من النّوم. هَل يجب أَو يسْتَحبّ؟
والمناسبة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
وَمَنْ لمْ يَرَ مِنَ النَّعْسِةِ والنَّعْسَتَيْنِ أوِ الخَفْقَةِ وُضُوءًا(3/108)
هَذَا عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: وَبَاب من لم ير من النعسة ... إِلَى آخِره، والنعسة: على وزن فعلة: مرّة من النعس، من بَاب: نعس، بِفَتْح الْعين، يَنْعس: بضَمهَا من بَاب: نصر ينصر؛ وَمن قَالَ: نعس، بِضَم الْعين فقد أَخطَأ. وَفِي (الموعب) : وَبَعض بني عَامر يَقُول: يَنْعس، بِفَتْح الْعين. يُقَال: نعس يَنْعس نعساً ونعاساً فَهُوَ ناعس ونعسان. وَامْرَأَة نعسى. وَقَالَ ابْن السّكيت وثعلب: لَا يُقَال: نعسان، وَحكى الزّجاج عَن الْفراء أَنه قَالَ: قد سَمِعت: نعسان، من أَعْرَابِي من عنزة، قَالَ: وَلَكِن لَا أشتهيه. وَعَن صَاحب (الْعين) أَنه قَالَ: وسمعناهم يَقُولُونَ: نعسان ونعسى، حملوه على: وَسنَان ووسنى. وَفِي (الْمُحكم) : النعاس النّوم. وَقيل: ثقلته، وَامْرَأَة نعسانة وناعسة ونعوس، وَفِي (الصِّحَاح) و (الْمُجْمل) : النعاس: الوسن. وَقَالَ كرَاع: وَسنَان أَي: ناعس، وَالسّنة، بِكَسْر السِّين، أَصْلهَا: وَسنة، مثل: عدَّة أَصْلهَا وعدة، حذفت الْوَاو تبعا لحذفها فِي مضارعه، ونقلت فتحتها إِلَى عين الْفِعْل: وَزنهَا عِلّة. قَوْله: (والنعستين) تَثْنِيَة نعسة. قَوْله: (اَوْ الخفقة) عطف على قَوْله: (النعسة) وَهُوَ أَيْضا على وزن فعلة: مرّة، من الخفق، يُقَال: خَفق الرجل، بِفَتْح الْفَاء، يخْفق خفقاً إِذا حرك رَأسه وَهُوَ ناعس؛ وَفِي (الغريبين) : معنى تخفق رؤوسهم: تسْقط أذقانهم على صُدُورهمْ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: خَفق إِذا نعس، والخفوق الِاضْطِرَاب، وخفق اللَّيْل إِذا ذهب. وَقَالَ ابْن التِّين: الخفقة النعسة، وَإِنَّمَا كرر لاخْتِلَاف اللَّفْظ، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه من ذكر الْخَاص بعد الْعَام قلت: على قَول ابْن التِّين بَين النعس والخفقة مُسَاوَاة، وعَلى قَول بَعضهم: عُمُوم وخصوص بِمَعْنى أَن كل خفقة نعسة، وَلَيْسَ كل نعسة خفقة، وَيدل عَلَيْهِ مَا قَالَ أهل اللُّغَة: خَفق رَأسه إِذا حركها وَهُوَ ناعس. وَقَالَ ابو زيد: خَفق بِرَأْسِهِ من النعاس: أماله، وَمِنْه قَول الْهَرَوِيّ فِي (الغريبين) : تخفق رؤوسهم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِيه: الخفق مَعَ النعاس. وَقَوله: هَذَا من حَدِيث أخرجه مُحَمَّد بن نصر فِي قيام اللَّيْل بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينتظرون الصَّلَاة فينغسون حَتَّى تخفق رؤوسهم، ثمَّ يقومُونَ الى الصَّلَاة) . وَقَالَ بَعضهم: ظَاهر كَلَام البُخَارِيّ: النعاس يُسمى نوماً، وَالْمَشْهُور التَّفْرِقَة بَينهمَا، أَن من فترت حواسه بِحَيْثُ يسمع كَلَام جليسه وَلَا يفهم مَعْنَاهُ فَهُوَ ناعس، وَإِن زَاد على ذَلِك فَهُوَ نَائِم، وَمن عَلَامَات النّوم الرُّؤْيَا، طَالَتْ أَو قصرت. قلت: لَا نسلم أَن ظَاهر كَلَام البُخَارِيّ يدل على عدم التَّفْرِقَة، فَإِنَّهُ عطف قَوْله: (وَمن لم ير من النعسة) إِلَى آخِره على قَوْله: (النّوم والنعس) فِي قَوْله: (بَاب النّوم) .
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن مَعنا ثَلَاثَة أَشْيَاء: النّوم والنعسة والخفقة. أما النّوم: فَمن قَالَ: إِن نفس النّوم حدث يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء من النعاس، وَمن قَالَ: إِن نفس النّوم لَيْسَ بِحَدَث لَا يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء على الناعس؛ وَأما الخفقة: فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: وَجب الْوضُوء على كل نَائِم إلاَّ من خَفق خفقة. فَالْبُخَارِي أَشَارَ إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة، فَأَشَارَ إِلَى النّوم بقوله: (بَاب النّوم) . وَالنَّوْم فِيهِ تَفْصِيل كَمَا نذكرهُ عَن قريب، وَأَشَارَ بقوله: (النعسة والنعستين) إِلَى القَوْل بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء فِي النعسة والنعستين، وَيفهم من هَذَا أَن النعسة إِذا زَادَت على النعستين وَجب الْوضُوء، لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ نَائِما مُسْتَغْرقا، وَأَشَارَ إِلَى من يَقُول بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء على من يخْفق خفقة وَاحِدَة، كَمَا روى عَن ابْن عَبَّاس بقوله: (اَوْ الخفقة) ، وَيفهم من هَذَا أَن الخفقة إِذا زَادَت على الْوَاحِدَة يجب الْوضُوء، وَلِهَذَا قيد ابْن عَبَّاس الخفقة بالواحدة.
واما النّوم فَفِيهِ أَقْوَال. الأول: إِن النّوم لَا ينْقض الْوضُوء بِحَال، وَهُوَ محكي عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب، وَأبي مجلز وَحميد بن عبد الرَّحْمَن والأعرج، وَقَالَ ابْن حزم: وَإِلَيْهِ ذهب الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول صَحِيح عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم، مِنْهُم: ابْن عمر وَمَكْحُول وَعبيدَة السَّلمَانِي. الثَّانِي: النّوم ينْقض الْوضُوء على كل حَال وَهُوَ مَذْهَب الْحسن والمزني وابي عبد الله الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول غَرِيب عَن الشَّافِعِي، قَالَ: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَأبي هُرَيْرَة، وَقَالَ ابْن حزم: النّوم فِي ذَاته حدث ينْقض الْوضُوء، سَوَاء قل أَو كثر، قَاعِدا أَو قَائِما فِي صَلَاة أَو غَيرهَا أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا أَو مُتكئا أَو مُضْطَجعا، أَيقَن من حواليه أَنه لم يحدث أَو لم يوقنوا. الثَّالِث: كثير النّوم ينْقض وقليله لَا ينْقض بِكُل حَال، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعند التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ بَعضهم: إِذا نَام حَتَّى غلب على عقله وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء، وَبِه يَقُول إِسْحَاق. الرَّابِع: إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّي: كالراكع والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْقض وضوءه، سَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، فَإِن نَام مُضْطَجعا أَو مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَدَاوُد، وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَقَالَهُ أَيْضا حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان(3/109)
وسُفْيَان. الْخَامِس: لَا يقنقص إلاَّ نوم الرَّاكِع، وَهُوَ قَول عَن أَحْمد ذكره ابْن التِّين. السَّادِس: لَا ينْقض إلاَّ نوم الساجد، رُوِيَ أَيْضا عَن أَحْمد. السَّابِع: من نَام سَاجِدا فِي مُصَلَّاهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وضوء. وَإِن نَام سَاجِدا فِي غير صَلَاة تَوَضَّأ، وَإِن تعمد النّوم فِي الصَّلَاة فَعَلَيهِ الْوضُوء، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك. الثَّامِن: لَا ينْقض النّوم الْوضُوء فِي الصَّلَاة، وينقض خَارج الصَّلَاة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. التَّاسِع: إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم ينْقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى؛ وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: تتبع عُلَمَاؤُنَا مسَائِل النّوم الْمُتَعَلّقَة بالأحاديث الجامعة لتعارضها، فوجدوها أحد عشر حَالا: مَاشِيا، وَقَائِمًا، ومستنداً، وراكعاً، وَقَاعِدا متربعاً، ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً. وَهَذَا فِي حَقنا، فَأَما سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَصَائِصه أَنه لَا ينْتَقض وضوؤه بِالنَّوْمِ، مُضْطَجعا وَلَا غير مُضْطَجع.
212 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ وَهْوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عنهُ النَّوْمُ فانَّ أحَدَكُمْ إذَ صَلَّى وَهْوَ ناعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده للتَّرْجَمَة تفهم من معنى الحَدِيث، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أوجب قطع الصَّلَاة، وَأمر بالرقاد دلّ ذَلِك على أَنه كَانَ مُسْتَغْرقا فِي النّوم، فَإِنَّهُ علل ذَلِك بقوله: (فان أحدكُم) الخ، وَفهم من ذَلِك أَنه إِذا كَانَ النعاس أقل من ذَلِك، وَلم يغلب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْفُو عَنهُ، وَلَا وضوء فِيهِ: وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله: (وَمن لم من النعسة) الخ، وَلَا غَلَبَة فِي النعسة والنعستين، فَإِذا زَادَت يغلب عَلَيْهِ النّوم فينتقض وضوؤه، كَمَا ذكرنَا، وَكَذَلِكَ لَا غَلَبَة فِي الخفقة الْوَاحِدَة كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ عَن قريب، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: فان قلت: كَيفَ مخرج التَّرْجَمَة من الحَدِيث ومضمونها أَن لَا يتَوَضَّأ من النعاس الْخَفِيف، ومضمون الحَدِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة مَعَ النعاس؟ قلت: إِمَّا أَن يكون البُخَارِيّ تلقاها من مَفْهُوم تَعْلِيل النَّهْي عَن الصَّلَاة حِينَئِذٍ بذهاب الْعقل الْمُؤَدِّي إِلَى أَن ينعكس الْأَمر: (يُرِيد أَن يَدْعُو فيسب نَفسه) ، فَإِنَّهُ دلّ أَنه إِن لم يبلغ هَذَا الْمبلغ صلى بِهِ، وَإِمَّا أَن يكون تلقاها من كَونه إِذا بَدَأَ بِهِ النعاس، وَهُوَ فِي النَّافِلَة اقْتصر على إتْمَام مَا هُوَ فِيهِ وَلم يسْتَأْنف أُخْرَى، فتماديه على مَا كَانَ فِيهِ يدل على أَن النعاس الْيَسِير لَا يُنَافِي الطَّهَارَة، وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الحَدِيث، بل يحْتَمل قطع الصَّلَاة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيحْتَمل النَّهْي عَن اسْتِئْنَاف شَيْء آخر، وَالْأول أظهر.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم غير مرّة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ صرح بِذكر عُرْوَة، والرواة كلهم مدنيون غير شيخ البُخَارِيّ.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فليرقد) أَي: فلينم، وللنسائي من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام: (فلينصرف) ، وَالْمرَاد بِهِ الْخُرُوج من الصَّلَاة بِالتَّسْلِيمِ، فان قلت: فقد جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، فِي نَومه فِي بَيت مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا: (فَجعلت إِذا غفيت يَأْخُذ بشحمتي أُذُنِي) ، وَلم يَأْمُرهُ بِالنَّوْمِ. قلت: لِأَنَّهُ جَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَة ليتعلم مِنْهُ فَفعل ذَلِك ليَكُون أثبت لَهُ. فان قلت: الشَّرْط هُوَ سَبَب للجزاء، فههنا النعاس سَبَب للنوم أَو لِلْأَمْرِ بِالنَّوْمِ؟ قلت: مثله مُحْتَمل للأمرين، كَمَا يُقَال فِي نَحْو: اضربه تاديباً، لِأَن التَّأْدِيب مفعول لَهُ، إِمَّا لِلْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَإِمَّا للْمَأْمُور بِهِ، وَالظَّاهِر الأول. قَوْله: (وَهُوَ ناعس) جملَة اسمية وَقعت حَالا. فَإِن قلت: مَا الْفَائِدَة فِي تَغْيِير الأسلوب حَيْثُ قَالَ: ثمَّة وَهُوَ يُصَلِّي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهَهُنَا: وَهُوَ ناعس، بِلَفْظ إسم الْفَاعِل؟ قلت: ليدل على أَنه لَا يَكْفِي تجدّد أدنى نُعَاس وتقضيه فِي الْحَال، بل لَا بُد من ثُبُوته بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى عدم درايته بِمَا يَقُول. وَعدم علمه بِمَا يقْرَأ. فَإِن قلت: هَل فرق بَين نعس وَهُوَ يُصَلِّي، وَصلى وَهُوَ ناعس؟ قلت: الْفرق الَّذِي بَين ضرب قَائِما، وَقَامَ ضَارِبًا، وَهُوَ احْتِمَال الْقيام بِدُونِ الضَّرْب فِي الأول، وَاحْتِمَال الضَّرْب بِدُونِ الْقيام فِي الثَّانِي. وَإِنَّمَا اخْتَار ذَلِك ثمَّة وَهَذَا هُنَا لِأَن الْحَال قيد وفضلة، وَالْأَصْل فِي الْكَلَام هُوَ مَاله الْقَيْد، فَفِي الأول: لَا شكّ أَن النعاس هُوَ عِلّة الْأَمر بالرقاد لَا الصَّلَاة فَهُوَ(3/110)
الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ فِي التَّرْكِيب، وَفِي الثَّانِي: الصَّلَاة عِلّة للاستغفار، إِذْ تَقْدِير الْكَلَام: فَإِن أحدكُم إِذا صلى وَهُوَ ناعس يسْتَغْفر. وَقَوله: (لَا يدْرِي) وَقع موقع الْجَزَاء إِذا كَانَت كلمة: إِذا، شَرْطِيَّة. وَإِن لم تكن شَرْطِيَّة يكون خَبرا: لَان، فَافْهَم. قَوْله: (لَعَلَّه يسْتَغْفر) أَي: يُرِيد الاسْتِغْفَار، (فيسب) يَعْنِي: يَدْعُو على نَفسه، وَصرح بِهِ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام؛ وَفِي بعض النّسخ: (يسب) ، بِدُونِ الْفَاء. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَينهمَا؟ قلت: بِدُونِ الْفَاء تكون الْجُمْلَة حَالا، وبالفاء عطفا على: (يسْتَغْفر) ؛ وَيجوز فِي: (يسب) الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فباعتبار عطف الْفِعْل على الْفِعْل، وَأما النصب فباعتبار أَنه جَوَاب لكلمة: لَعَلَّ، الَّتِي للترجي، فَإِنَّهَا مثل: لَيْت. فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَهُنَا معنى الترجي؟ قلت: الترجي فِيهِ عَائِد إِلَى الْمُصَلِّي لَا إِلَى الْمُتَكَلّم بِهِ، أَي: لَا يدْرِي أمستغفر أم سَاب مترجياً للاسغفار، فَهُوَ فِي الْوَاقِع بضد ذَلِك. أَو اسْتعْمل بِمَعْنى التَّمَكُّن بَين الاسْتِغْفَار والسب، لِأَن الترجى بَين حُصُول المرجو وَعَدَمه، فَمَعْنَاه: لَا يدْرِي أيستغفر أم يسب؟ وَهُوَ مُتَمَكن مِنْهُمَا على السوية.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم عَلَيْهِ، وَأَن وضوءه ينْتَقض حِينَئِذٍ. الثَّانِي: أَن النعاس إِذا كَانَ أقل من ذَلِك يُعْفَى عَنهُ، فَلَا ينْتَقض وضوؤه، وَقد أَجمعُوا على أَن النّوم الْقَلِيل لَا ينْقض الْوضُوء، وَخَالف فِيهِ الْمُزنِيّ فَقَالَ: ينْقض قَلِيله وَكَثِيره، لما ذكرنَا. وَقَالَ الْمُهلب وَابْن بطال وَابْن التِّين وَغَيرهم: إِن الْمُزنِيّ خرق الْإِجْمَاع. قلت: هَذَا تحامل مِنْهُم عَلَيْهِ، لِأَن الَّذِي قَالَه نقل عَن بعض الصَّحَابَة التَّابِعين، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: فِيهِ الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ علل بِأَمْر مُحْتَمل. الرَّابِع: فِيهِ الدُّعَاء فِي الصَّلَاة من غير تعْيين بِشَيْء من الْأَدْعِيَة. الْخَامِس: فِيهِ الْحَث على الْخُشُوع وَحُضُور الْقلب فِي الْعِبَادَة، وَذَلِكَ لِأَن الناعس لَا يحضر قلبه، والخشوع إِنَّمَا يكون بِحُضُور الْقلب.
213 - حدّثنا أبْو مَعْمَرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِث قَالَ حدّثنا أيُّوبُ عَنْ أبي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقرَأُ.
وَجه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور بالمقعد، تقدم ذكره فِي بَاب قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) . الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التنوري، تقدم فِي الْبَاب الْمَذْكُور. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، سبق ذكره فِي بَاب حلاوة الْإِيمَان. الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف اللَّام: واسْمه عبد الله بن زيد الحرمي، سبق ذكره فِي الْبَاب الْمَذْكُور. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وهما: أَيُّوب وَأَبُو قلَابَة، رحمهمَا الله تَعَالَى.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي عَن أَيُّوب.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (إِذا نعس أحدكُم) لَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: احدكم، بل الْمَوْجُود: إِذا نعس، فَقَط اي: إِذا نعس الْمُصَلِّي، وَحذف فَاعله للْعلم بِهِ بِقَرِينَة ذكر الصَّلَاة، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِذا نعس احدكم) ، وَفِي (مُسْند) مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب: (فلينصرف) . قَوْله: (فلينم) قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا هَذَا فِي صَلَاة اللَّيْل، لِأَن الْفَرِيضَة لَيست فِي أَوْقَات النّوم، وَلَا فِيهَا من التَّطْوِيل مَا يُوجب ذَلِك. قُلْنَا: الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب. قَوْله: (فِي الصَّلَاة) وَفِي بعض النّسخ لَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة. قَوْله: (حَتَّى يعلم) بِالنّصب لَا غير، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل معنى: (فلينم) ؛ فليتجوز فِي الصَّلَاة ويتمها وينام. قَوْله: (مَا يقْرَأ) كلمة: مَا، مَوْصُولَة، والعائد الْمَفْعُول مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: مَا يَقْرَؤُهُ، وَيحْتَمل أَن تكون استفهامية. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب، لِأَن حَمَّاد بن زيد رَوَاهُ فَوَقفهُ، وَقَالَ فِيهِ: قرىء عَليّ كتاب عَن أبي قلَابَة، فعرفته. وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب فَلم يذكر أنسا. وَأجِيب: بِأَن هَذَا لَا يُوجب الِاضْطِرَاب، لِأَن رِوَايَة عبد الْوَارِث أرجح بموافقة وهيب والطفاوي لَهُ عَن أَيُّوب. قَوْله: (قرىء على) لَا يدل على أَنه لم يسمعهُ من أبي قلَابَة، بل يحمل على أَنه عرف أَنه فِيمَا سَمعه من أبي قلَابَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم. الثَّانِي: أَن قَلِيل النّوم مَعْفُو كَمَا ذكرنَا(3/111)
فِي الحَدِيث السَّابِق، لِأَن ذَلِك يُوضح معنى هَذَا. الثَّالِث: فِيهِ الْحَث على الخضوع والخشوع، وَذَلِكَ بطرِيق الِالْتِزَام.
54 - (بابُ الوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء من غير حدث، وَالْمرَاد بِهِ وضوء المتوضىء يَعْنِي: يكون على ظهرة ثمَّ يتَطَهَّر ثَانِيًا من غير حدث بَينهمَا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لكَون كل مِنْهُمَا من تعلقات الْوضُوء.
214 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قالَ حدّثنا سُفْيانُ عَنْ عَمْرِو بنِ عامِرٍ قالَ سَمِعْتُ أنَساً ح قالَ وحدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيىَ عَنْ سُفْيانَ قالَ حدّثنى عَمْرُو بنُ عامِرٍ عَنْ أنَسٍ قالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قالَ يُجْزِيءُ أحَدَنَا الوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة؛ وَلِلْحَدِيثِ إِسْنَاد ان: أَحدهمَا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ مر فِي بَاب: لَا يمسك ذكره بِيَمِينِهِ، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ تقدم فِي بَاب عَلامَة الْمُنَافِق عَن عَمْرو، بِالْوَاو، ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ الثِّقَة الصَّالح، روى لَهُ الْجَمَاعَة عَن أنس بن مَالك. وَالْآخر عَن مُسَدّد بن مسرهد، تكَرر ذكره عَن يحيى الْقطَّان، مر ذكره، وَهَذَا تَحْويل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر، وَفِي بعض النّسخ بعد قَوْله: سَمِعت أنسا صُورَة: ح، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل، أَو إِلَى الْحَائِل أَو إِلَى: صَحَّ، أَو إِلَى الحَدِيث، وَقد مر تَحْقِيقه.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِي الْإِسْنَاد الأول التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَفِي الثَّانِي: التحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي الْإِسْنَاد الأول: بَين البُخَارِيّ وَبَين سُفْيَان رجل. وَفِي الثَّانِي: بَينهمَا رجلَانِ. وَمِنْهَا: أَن فِي الْإِسْنَاد الثَّانِي: صرح بِسَمَاع سُفْيَان عَن عَمْرو حَيْثُ قَالَ: حَدثنِي عمر، وَفِي الاول: قَالَ عَن عَمْرو، وسُفْيَان من المدلسين، والمدلس لَا يحْتَج بعنعنته إِلَّا أَن يثبت سَمَاعه من طَرِيق آخر. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين فريابي وكوفي وبصري. وَمِنْهَا: أَن الْإِسْنَاد الأول عَال، وَالثَّانِي نَازل، وَذَلِكَ بِكَوْن سُفْيَان الثَّوْريّ أَتَى بِالْحَدِيثِ عَن عَمْرو، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه هُوَ الثَّوْريّ لأَنا لم نجد لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عمر رِوَايَة.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطَّهَارَة عَن ابْن بشار عَن يحيى وَعبد الرَّحْمَن، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن شُعْبَة عَنهُ بِمَعْنَاهُ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن سُوَيْد ابْن سعيد عَن شريك نَحوه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَلمَة بن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن حميد عَن أنس: (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِكُل صَلَاة، طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر. قَالَ: قلت لأنس: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ) ؟ الحَدِيث، وَقَالَ: حَدِيث حميد عَن أنس غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَالْمَشْهُور عِنْد أهل الْعلم حَدِيث عَمْرو، وَفِي (الْعِلَل) قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا ادري مَا سَلمَة هَذَا؟ وَلم يعرف مُحَمَّد هَذَا من حَدِيث حميد.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ) هَذِه الْعبارَة تدل على أَنه كَانَ عَادَة لَهُ. قَوْله: (عِنْد كل صَلَاة) أَرَادَ بهَا الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة من الْأَوْقَات الْخَمْسَة. قَوْله: (قلت كَيفَ تَصْنَعُونَ) ؟ الحَدِيث. الْقَائِل عَمْرو بن عَامر، وَالْخطاب للصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، وَكلمَة: كَيفَ، يسْأَل بهَا عَن الْحَال. قَوْله: (يجزىء) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، أَي: يَكْفِي من أجزأني الشَّيْء أَي: كفاني، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: يكْتَفى، وفاعله الْوضُوء بِالرَّفْع. قَوْله: (أَحَدنَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يجزىء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب، فَذَهَبت طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة والشيعة إِلَى وجوب الْوضُوء لكل صَلَاة فِي حق المقيمين دون الْمُسَافِرين، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث بُرَيْدَة بن الْحصيب؛ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ لكل صَلَاة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح صلى الصَّلَوَات الْخمس بِوضُوء وَاحِد) . أخرجه الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة وابو يعلى، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد.(3/112)
.) ، الحَدِيث، وَذَهَبت طَائِفَة، الى أَن الْوضُوء وَاجِب لكل صَلَاة مُطلقًا من غير حدث، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي مُوسَى وَجَابِر أَن عبد الله، وَعبيدَة السَّلمَانِي، وَأبي الْعَالِيَة، وَسَعِيد بن الْمسيب وابراهيم وَالْحسن.
وَحكى ابْن حزم فِي (كتاب الْإِجْمَاع) هَذَا الْمَذْهَب عَن عَمْرو بن عبيد، قَالَ: وروينا عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه لَا يُصَلِّي بِوضُوء واحدٍ أَكثر من خمس صلوَات، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث وَغَيرهم: أَن الْوضُوء لَا يجب إلاَّ من حدث. وَقَالُوا: لِأَن آيَة الْوضُوء نزلت فِي إِيجَاب الْوضُوء من الْحَدث عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة، لِأَن معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون، وَاسْتدلَّ الدَّارمِيّ على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا وضوء إِلَّا من حدث) . وَحكى الشَّافِعِي عَمَّن لقِيه من أهل الْعلم أَن التَّقْدِير: إِذا قُمْتُم من النّوم. فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي التّكْرَار، لِأَن الحكم الْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: {فَاغْسِلُوا} (الْمَائِدَة: 6) مُعَلّق بِالشّرطِ، وَهُوَ {إِذا قُمْتُم الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) فَيَقْتَضِي تكْرَار الحكم عِنْد تكْرَار الشَّرْط، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَة عِنْدهم. قلت: الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه لَا يَقْتَضِيهِ لفظا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يُوجب الْوضُوء على كل قَائِم إِلَى الصَّلَاة، مُحدث وَغير مُحدث، فَمَا وَجهه؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون الْأَمر للْوُجُوب، فَيكون الْخطاب للمحدثين خَاصَّة. وَأَن يكون للنَّدْب. فان قلت: هَل يجوز أَن يكون الامر شَامِلًا للمحدثين وَغَيرهم، لهَؤُلَاء على وَجه الْإِيجَاب ولهؤلاء على وَجه النّدب؟ قلت: لَا، لِأَن تنَاول الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لمعنيين مُخْتَلفين من بَاب الإلغاز والعمية. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: قد يجوز أَن يكون وضوؤه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لكل صَلَاة على مَا روى بُرَيْدَة، كَانَ ذَلِك على التمَاس الْفضل لَا على الْوُجُوب، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي عطيف الْهُذلِيّ، قَالَ: (صليت مَعَ عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الظّهْر فَانْصَرف فِي مجْلِس فِي دَاره، فَانْصَرَفت مَعَه حَتَّى إِذا نُودي بالعصر دَعَا بوضؤ فَتَوَضَّأ، فَقلت لَهُ: أَي شَيْء هَذَا يَا ابا عبد الرَّحْمَن الْوضُوء عِنْد كل صَلَاة؟ فَقَالَ: وَقد فطنت لهَذَا مني، لَيست بِسنة، إِن كَانَ لكافياً وضوئي لصَلَاة الصُّبْح وصلواتي كلهَا مَا لم أحدث، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من تَوَضَّأ على طهر كتب الله لَهُ بذلك عشر حَسَنَات، فَفِي ذَلِك رغبت يَا ابْن أخي) .
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد رُوِيَ عَن أنس بن مَالك مَا يدل على مَا ذكرنَا، يَعْنِي اكْتِفَاء الْمُصَلِّي بِوضُوء وَاحِد لصلوات كَثِيرَة مَا لم يحدث، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد علم حكم مَا ذكرنَا من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم ير ذَلِك فرضا، بل كَانَ ذَلِك لإصابة الْفضل، وإلاَّ لما كَانَ وَسعه، وَلَا لغيره، أَن يخالفوه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: وَيجوز أَن يكون ذَلِك فرضا أَولا ثمَّ نسخ، ثمَّ اسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أَسمَاء ابْنة زيد بن الْخطاب ابْن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر حَدثنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْوضُوءِ لكل صَلَاة طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر، فَلَمَّا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر بِالسِّوَاكِ لكل صَلَاة فَهَذَا دلّ على النّسخ.
وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : فَلَمَّا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة، وَوضع عَنهُ الْوضُوء إلاَّ من حدث. وَيُقَال فِي الْجَواب: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن شاهين: لم يبلغنَا أَن أحدا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يتعمدون الْوضُوء لكل صَلَاة إلاَّ ابْن عمر، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ روى ابْن ابي شيبَة. حَدثنَا وَكِيع عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين: كَانَ الحلفاء يتوضؤون لكل صَلَاة. وَفِي لفظ: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان يتوضؤون لكل صَلَاة. وَقَالَ بَعضهم: يُمكن حمل الْآيَة على ظَاهرهَا من غير نسخ، وَيكون الْأَمر فِي حق الْمُحدثين على الْوُجُوب، وَفِي حق غَيرهم للنَّدْب. قلت: هَذَا لَا يَصح لما ذكرنَا عَن قريب أَنه على هَذَا يكون من بَاب الإلغاز، فَلَا يجوز.
الثَّانِي من الاحكام: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة الْوضُوء لكل صَلَاة وَحدهَا.
الثَّالِث: يجوز الِاكْتِفَاء بِوضُوء وَاحِد مَا لم يحدث.
الرَّابِع: فِيهِ دلَالَة على وجوب الْوضُوء عِنْد الْحَدث لمن يُرِيد الصَّلَاة.
215 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمانُ قَالَ حدّثنا يحْيى ابنُ سَعِيدٍ قالَ أَخْبرنِي بُشَيْرُ بنُ يَسَارٍ قَالَ أخْبرني سُوَيْدُ بنُ النُّعْمانِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ خَيْبَرَ حَتَّى إذَا كُنَّا بالصَّهْباءِ صَلي لَنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَصْرَ فَلَمَّا صلى دَعَا بالاَطْعِمَةِ فَلَم يُوتَإلاَّ بالسَّويقِ فأكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قامَ النَّبيُّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إلَى المَغْرِبِ فَمضْمَضَ(3/113)
ثُمَّ صلَّى لنَا المغْرِبَ ولَمْ يَتوَضأ..
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي بَاب: من مضمض من السويق وَلم يتَوَضَّأ عَن قريب، وتكلمنا هُنَاكَ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَهَهُنَا ذكره ثَانِيًا لفوائد. مِنْهَا: أَن هُنَاكَ رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف بِالتَّحْدِيثِ عَن مَالك بالإخبار عَن يحيى بن سعيد بالعنعنة، وَهَهُنَا رُوِيَ عَن خَالِد بن مخلد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع عَن يحيى بن سعيد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْإِفْرَاد صَرِيحًا مِنْهُ وَمن شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَعَن شيخ شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة الْجمع. وَمِنْهَا: أَن هُنَاكَ قَالَ: عَن بشير بن يسَار، مولى بني حَارِثَة، أَن سُوَيْد بن النُّعْمَان أخبرهُ، بالإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهَهُنَا: أَخْبرنِي بشير بن يسَار، قَالَ: أخبرنَا سُوَيْد بن النُّعْمَان، بِصِيغَة الْجمع. وَهُنَاكَ: أَنه خرج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَهُنَا: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهُنَاكَ: عَام خَيْبَر حَتَّى إِذا كَانُوا بالصهباء. وَهِي ادنى خَيْبَر، وَهَهُنَا: حَتَّى إِذا كُنَّا بالصبهاء، وَلم يقل: وَهِي أدني خَيْبَر. وَهُنَاكَ: فصلى الْعَصْر، وَهَهُنَا: صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر. وَهُنَاكَ: ثمَّ دَعَا بالأزواد، وَهَهُنَا: فَلَمَّا صلى دَعَا بالأطعمة. وَهُنَاكَ بعد قَوْله: فَلم يُؤْت إلاَّ بالسويق فَأمر بِهِ فثرى فاكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واكلنا، وَهَهُنَا: فَلم يُؤْت إلاَّ بالسويق فاكلنا وشربنا. وَهُنَاكَ: ثمَّ قَامَ إِلَى الْمغرب فَمَضْمض ومضمضنا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ، وَهَهُنَا: فَمَضْمض ثمَّ صلى لنا الْمغرب وَلم يتَوَضَّأ.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ حَدِيث لسويد بن النُّعْمَان إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد. وَقد أخرجه فِي مَوَاضِع كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْصَارِي حارثي، شهد بيعَة الرضْوَان، وَذكر ابْن سعد أَنه شهد قبل ذَلِك أحدا وَمَا بعْدهَا، وَالله اعْلَم.
55 - (بَاب)
بَاب بِالسُّكُونِ، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بِالْعقدِ والتركيب، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا قدر شَيْء فَيكون حِينَئِذٍ معرباً نَحْو مَا تَقول: هَذَا بَاب، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون خبر مُبْتَدأ. وَقَالَ بَعضهم: بَاب، بِالتَّنْوِينِ هُوَ غلط.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول ذكر الْوضُوء من غير حدث، وَله فضل كَبِير إِذا كَانَ المتوضىء محترزاً عَن إِصَابَة الْبَوْل بدنه أَو ثَوْبه، وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر الْوَعيد فِي حق من لَا يحْتَرز مِنْهُ.
مِنَ الكَبَائِر أنْ لاَ يَسْتَتَرَ مِنْ بَوْلهِ
كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. قَوْله: (من الْكَبَائِر) ، مقدما خَبره، وَالتَّقْدِير: ترك استتار الرجل من بَوْله من الْكَبَائِر، وَهُوَ جمع: كَبِيرَة، وَهِي: الفعلة القبيحة من الذُّنُوب الْمنْهِي عَنْهَا شرعا، الْعَظِيم أمرهَا: كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَغير ذَلِك، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة، يَعْنِي: صَار إسما لهَذِهِ الفعلة القيبحة. وَفِي الأَصْل هِيَ صفة، وَالتَّقْدِير: الفعلة الْكَبِيرَة. وَاخْتلفُوا فِي الْكَبَائِر فَقيل: سبع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اجتنبوا السَّبع الموبقات، فَقيل: يَا رَسُول الله وَمَا هن؟ قَالَ: الاشراك بِاللَّه، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات الْغَافِلَات) . وَقيل: الْكَبَائِر تسع، وروى الْحَاكِم فِي حَدِيث طَوِيل: (والكبائر تسع) فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، وَزَاد عَلَيْهَا: (عقوق الْوَالِدين الْمُسلمين، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام) . وَقيل: الْكَبِيرَة كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل ذَنْب قرن بِنَار أَو لعنة أَو غضب أَو عَذَاب، وَقَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعمِائة. قلت: الْكَبِيرَة أَمر نسبي، فَكل ذَنْب فَوْقه ذَنْب فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَغِيرَة، وبالنسبة إِلَى مَا تَحْتَهُ كَبِيرَة.
216 - حدّثنا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ مَرَّ النَّبيُّ صلَّى الله عَلَيْهِ وسلمِ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ أوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهمَا فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَان فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ بَلى كانَ أحَدُهُمَا(3/114)
لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وكانَ الآخَرُ يَمْشِيِ بالنَّميمَةِ ثمَّ دَعَا بِجَرِيدةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَع عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً لهُ يَا رسولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذا قالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَم يَيْبسَا أوْ أنْ يَيْبَسَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفي.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة الْكُوفِي. الثَّانِي: جرير ابْن عبد الحميد. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، الثَّلَاثَة تقدمُوا فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: الإِمَام فِي التَّفْسِير، تقدم فِي أول كتاب الْإِيمَان. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ورازي ومكي. وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، فَادْخُلْ بَينه وَبَين ابْن عَبَّاس طاوساً، لما يَأْتِي عَن قريب أَن البُخَارِيّ أخرجه هَكَذَا، وَإِخْرَاج البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي أَن كليهمَا صَحِيح عِنْده، فَيحمل على أَن مُجَاهدًا سَمعه من طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، وسَمعه أَيْضا من ابْن عَبَّاس بِلَا وَاسِطَة. أَو الْعَكْس، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي سِيَاق: مُجَاهِد عَن طَاوس زِيَادَة على مَا فِي رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس، وَصرح ابْن حبَان بِصِحَّة الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رِوَايَة الْأَعْمَش أصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا: أَيهمَا أصح؟ فَقَالَ: رِوَايَة الْأَعْمَش أصح، فَإِن قيل: إِذا كَانَ حَدِيث الْأَعْمَش أصح فلِمَ لم يُخرجهُ وَخرج الَّذِي غير صَحِيح؟ قيل لَهُ: كِلَاهُمَا صَحِيح؟ قيل لَهُ: كِلَاهُمَا صَحِيح، فَحَدِيث الْأَعْمَش أصح، فَالْأَصَحّ يسْتَلْزم الصَّحِيح على مَا لَا يخفى، وَيُؤَيِّدهُ أَن شُعْبَة بن الْحجَّاج رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش كَمَا رَوَاهُ مَنْصُور وَلم يذكر طاوساً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة وَغَيرهم، وَالْبُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع هُنَا عَن عُثْمَان، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى فِي موضِعين، وَفِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَدَب عَن يحيى، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْحَج عَن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي سعيد الْأَشَج، وَأبي كريب، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُوسُف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب، وهناد بن السّري، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وهناد وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَفِي الْجَنَائِز عَن هناد عَن مُعَاوِيَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.
بَيَان لغاته قَوْله: (بحائط) أَي: بُسْتَان من النّخل إِذا كَانَ عَلَيْهِ جِدَار، وَيجمع على: حيطان وحوائط، وَأَصله: حاوط بِالْوَاو، قلبت الْوَاو: يَاء، لِأَنَّهُ من الحوط، وَهُوَ الْحِفْظ والحراسة، والبستان إِذا عمل حواليه جدران يحفظ من الدَّاخِل، وَلَا يُسمى الْبُسْتَان حَائِطا إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهِ جدران. فان قلت: أخرج البُخَارِيّ فِي هَذَا الْأَدَب، وَلَفظه: (خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بعض حيطان الْمَدِينَة) ، وَهنا: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط) . وَبَينهمَا تنافٍ. قلت: مَعْنَاهُ أَن الْحَائِط الَّذِي خرج مِنْهُ غير الْحَائِط الَّذِي مر بِهِ، وَفِي (أَفْرَاد) الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر: أَن الْحَائِط كَانَت لأم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة. قَوْله: (أَو مَكَّة) الشَّك من جرير بن عبد الحميد. وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (من حيطان الْمَدِينَة) ، بِالْجَزْمِ من غير شكّ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، لِأَن حَائِط أم مُبشر كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا عرف: الْمَدِينَة، وَلم يعرف: مَكَّة، لِأَن: مَكَّة، علم فَلَا تحْتَاج إِلَى التَّعْرِيف، ومدينة اسْم جنس، فَعرفت بِالْألف وَاللَّام ليَكُون معهوداً عَن مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يعذبان فِي قبورهما) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش: (مر بقبرين) ، وَزَاد ابْن مَاجَه فِي رِوَايَته: (بقبرين جديدين فَقَالَ: إنَّهُمَا يعذبان) فان قلت: المعذب مَا فِي القبرين، فَكيف أسْند الْعَذَاب إِلَى القبرين؟ قلت: هَذَا من بَاب ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون الضَّمِير عَائِدًا على غير مَذْكُور، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الَّذِي يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير مَوْجُود، وَهُوَ: القبران، وَلَو لم يكن مَوْجُودا لَكَانَ لكَلَامه وَجه، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ. فَافْهَم. قَوْله: (لَا يسْتَتر) هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَكسر الثَّانِيَة، من: الستْرَة، وَمَعْنَاهُ: لَا يستر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة الْبَوْل، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (لَا يستبرىء) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة(3/115)
الساكنة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَفْتُوحَة، من: الِاسْتِبْرَاء، وَهُوَ طلب الْبَرَاءَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد فِي حَدِيث الْأَعْمَش: (لَا يستنزه) ، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وزاي مَكْسُورَة بعْدهَا هَاء، من: النزه. وَهُوَ الإبعاد. وَرُوِيَ: (لَا يستنثر) ، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وثاء مُثَلّثَة مَكْسُورَة، من: الاستنثار، وَهُوَ طلب النثر، يَعْنِي: نثر الْبَوْل عَن الْمحل. وَرُوِيَ: (لَا ينتتر) ، بتائين مثناتين من فَوق بعد النُّون الساكنة، من: النتر، وَهُوَ جذب فِيهِ قُوَّة وحفوة، وَفِي الحَدِيث: (إِذا بَال أحدكُم فينتتر) . قَوْله: (بالنميمة) : هِيَ نقل كَلَام النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ نقل كَلَام الْغَيْر بِقصد الْإِضْرَار، وَهُوَ من أقبح القبائح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا لَا يَصح على قَاعِدَة الْفُقَهَاء، لأَنهم يَقُولُونَ: الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجبَة للحد، وَلَا حد على الْمَاشِي بالنميمة إلاَّ أَن يُقَال: الِاسْتِمْرَار الْمُسْتَفَاد مِنْهُ يَجعله كَبِيرَة، لِأَن الْإِصْرَار على الصَّغِيرَة حكمه حكم الْكَبِيرَة أَو لَا يُرِيد بالكسرة الْكَبِيرَة مَعْنَاهَا الاصطلاحي. وَقَالَ بَعضهم: وَمَا نَقله عَن الْفُقَهَاء لَيْسَ هُوَ قَول جَمِيعهم، لَكِن كَلَام الرَّافِعِيّ يشْعر بترجيحه حَيْثُ حكى فِي تَعْرِيف الْكَبِيرَة وَجْهَيْن: أَحدهمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد. قَالَ: وهم إِلَى الأول أميل، وَالثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر. قلت: لَا وَجه لتعقيبه على الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لم يُمَيّز قَول الْجَمِيع عَن قَول الْبَعْض حَتَّى يعْتَرض على قَوْله على قَاعِدَة الْفُقَهَاء، على أَن الذَّنب المستمر عَلَيْهِ صَاحبه، وَإِن كَانَ صَغِيرَة، فَهُوَ كَبِيرَة فِي الحكم، وَفِيه وَعِيد. لقَوْله: (لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار) . قَوْله (ثمَّ دَعَا بجريدة) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش: (بعسيب رطب) ، وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْملَة على وزن فعيل نَحْو كريم: وَهِي الجريدة الَّتِي لم ينْبت فِيهَا خوص، وَإِن نبت فَهِيَ: السعفة، وَعلم من هَذَا أَن الجريدة هِيَ الْغُصْن من النّخل بِدُونِ الْوَرق. قَوْله: (فَوضع) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش، وَهِي تَأتي: (فغرز) ، فالغرز يسْتَلْزم الْوَضع بِدُونِ الْعَكْس. قَوْله: (فَقيل لَهُ) ، وَفِي رِوَايَة: (قَالُوا) ، أَي: الصَّحَابَة، وَلم يعلم الْقَائِل من هُوَ. قَوْله: (مَا لم ييبسا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة من: يبس ييبس، من بَاب: علم يعلم، وَفِيه لُغَة يبس ييبس بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَهِي شَاذَّة، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ أَن ييبسا) بِحرف الِاسْتِثْنَاء، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (إِلَى أَن ييبسا) ، بِكَلِمَة: إِلَى، الَّتِي للغاية. وَيجوز فِيهِ التَّأْنِيث والتذكير، أماالتأنيث فباعتبار رُجُوع الضَّمِير فِيهِ إِلَى الكسرتين، وَأما التَّذْكِير فباعتبار رُجُوعه إِلَى العودين، لِأَن الكسرتين هما العودان، والكسرتان بِكَسْر الكافية، تَثْنِيَة كسرة، وَهِي الْقطعَة من الشَّيْء المكسور، وَقد تبين من رِوَايَة الْأَعْمَش أَنَّهَا كَانَت نصفا، وَفِي رِوَايَة جرير عَنهُ بِاثْنَتَيْنِ، وَقَالَ النووى: الْبَاء، زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَهُوَ مَنْصُوب على الْحَال.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (يعذبان) جملَة وَقعت حَالا (من إنسانين) ، وَكَذَا قَوْله: (فِي قبورهما) أَي: حَال كَونهمَا يعذبان وهما فِي قبريهما. وَإِنَّمَا قَالَ: (فِي قبورهما) ، مَعَ أَن لَهما قبرين، لِأَن فِي مثل هَذَا اسْتِعْمَال التَّثْنِيَة قَلِيل، وَالْجمع أَجود كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) والاصل فِيهِ أَن الْمُضَاف إِلَى الْمثنى إِذا كَانَ جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ يجوز فِيهِ التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَلَكِن الْجمع أَجود نَحْو: أكلت راسي شَاتين، وَإِن كَانَ غير جزئه، فالأكثر مَجِيئه بِلَفْظ التَّثْنِيَة نَحْو: سل الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن من اللّبْس جَازَ جعل الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي قَوْله: (فِي قبورهما) ، وَقد تجمع التَّثْنِيَة وَالْجمع كَمَا فِي قَوْله.
ظهراهما مثل ظُهُور الترسين.
قَوْله: (لَعَلَّه ان يُخَفف عَنْهُمَا) شبه: لَعَلَّ بعسى، فَأتى بِأَن فِي خَبره، وَقَالَ الْمَالِكِي الرِّوَايَة: أَن يُخَفف عَنْهَا على التَّوْحِيد، والتأنيث وَهُوَ ضمير النَّفس، فَيجوز إِعَادَة الضميرين فِي: لَعَلَّه، وعنها إِلَى الْمَيِّت بِاعْتِبَار كَونه إنْسَانا، وَكَونه نفسا، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: لَعَلَّه، ضمير الشان، وَفِي: عَنْهَا، للنَّفس، وَجَاز تَفْسِير الشَّأْن بِأَن وصلتها، مَعَ أَنَّهَا فِي تَقْدِير مصدر، لِأَنَّهَا فِي حكم جملَة لاشتمالها على مُسْند ومسند إِلَيْهِ، وَلذَلِك سدت مسد مفعولي: حسب وَعَسَى، فِي قَوْله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 214، وَآل عمرَان: 142) وَيجوز فِي قَول الْأَخْفَش أَن تكون: أَن، زَائِدَة مَعَ كَونهَا ناصبة كزيادة الْبَاء، وَمن كَونهمَا جارتين، وَمن تَفْسِير ضمير الشَّأْن: بِأَن وصلتها، قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَمَا هُوَ إلاَّ أَن سَمِعت أَبَا بكر تَلَاهَا فعقرت حَتَّى مَا تقلبني رجلاي. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ الظَّاهِر أَن يكون الضَّمِير مُبْهما يفسره مَا بعده، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن هِيَ إلاَّ حياتنا الدُّنْيَا} (الْأَنْعَام: 29) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا ضمير لَا يعلم مَا يَعْنِي بِهِ إلاَّ مَا يتلوه من بَيَانه، وَأَصله: أَن لَا حَيَاة إلاَّ الْحَيَاة الدُّنْيَا، ثمَّ وضع: هِيَ، مَوضِع: الْحَيَاة، لِأَن الْخَبَر يدل عَلَيْهَا ويبينها، وَمِنْه: هِيَ النَّفس تتحمل مَا حملت، وَالرِّوَايَة بتثنية الضَّمِير فِي: عَنْهُمَا، لَا يَسْتَدْعِي إلاَّ هَذَا التَّأْوِيل. قَوْله: (مَا لم ييبسا) كلمة: مَا، هُنَا مَصْدَرِيَّة زمانية، وَأَصله: مُدَّة دوامها إِلَى زمن اليبس.(3/116)
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَو بِمَكَّة) شكّ من الرواي. وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (إنسانين) أَي: بشرين، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْإِنْس الْبشر، الْوَاحِد أنسي وأنسي بِالتَّحْرِيكِ، وَالْجمع: أناسي، وَإِن شِئْت جعلته إنْسَانا، ثمَّ جمعته إناسي، فَتكون الْيَاء عوضا عَن النُّون، وَقَالَ قوم: أصل الْإِنْسَان: إنسيان، على إفعلان، فحذفت: الْيَاء، اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَة مَا يجْرِي على ألسنتهم، وَإِذا صغروها ردوهَا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سمي إنْسَانا لِأَنَّهُ عهد إِلَيْهِ فنسي. وَيُقَال: من الْأنس، خلاف: الوحشة. وَيُقَال للْمَرْأَة أَيْضا إِنْسَان، وَلَا يُقَال: إنسانة، والعامة تَقوله. قَوْله: (يعذبان فِي قبورهما) وَقد ورد فِي حَدِيث أبي بكرَة من (تَارِيخ البُخَارِيّ) بِسَنَد جيد: مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقبرين فَقَالَ: (إنَّهُمَا ليعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير، أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل، وَأما الآخر فيعذب فِي الْغَيْبَة) . وَفِي حَدِيث ابي هُرَيْرَة من (صَحِيح ابْن حبَان) : (مر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِقَبْر فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ: ائْتُونِي بجريدتين، فَجعل أحداهما عِنْد رَأسه وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ. وَقَالَ: (لَعَلَّه يُخَفف عَنهُ بعض عَذَاب الْقَبْر) . وَهُوَ عِنْد أبي مُوسَى بِلَفْظ: (قبرين، رجل لَا يتَطَهَّر من الْبَوْل، وَامْرَأَة تمشي بالنميمة) . وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث يعلى بن شَبابَة: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبْر يعذب صَاحِبَة فَقَالَ: (إِن هَذَا الْقَبْر يعذب صَاحبه فِي غير كَبِير) ، وَذكره البرقي فِي (تَارِيخه) قَالَ: (قبرين أَحدهمَا يَأْكُل لُحُوم النَّاس ويغتابهم، وَكَانَ هَذَا لَا يَتَّقِي بَوْله) . وَفِي (تَارِيخ بحشل) من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر: (دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِطا لأم مُبشر، فَإِذا بقبرين، فَدَعَا بجريدة رطبَة فَشَقهَا ثمَّ وضع وَاحِدَة على أحد القبرين، وَالْأُخْرَى على الآخر، ثمَّ قَالَ: لَا يرفعان عَنْهُمَا حَتَّى يجفا، أما أَحدهمَا فَكَانَ يمشي بالنميمة، وَالْآخر كَانَ لَا يتنزه من الْبَوْل) . وَفِي حَدِيث أنس: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقبرين من بني النجار يعذبان فِي النميمة وَالْبَوْل، فَأخذ سعفة رطبَة فَشَقهَا، وَجعل على ذَا نصفا وعَلى ذَا نصفا، وَقَالَ: لَا يزَال يُخَفف عَنْهُمَا الْعَذَاب مَا دامتا رطبتين) . وَفِي (كتاب ابْن الْجَوْزِيّ) : (مر بِرَجُل يعذب فِي الْغَيْبَة وبآخر يعذب فِي الْبَوْل) .
وَورد فِي عَذَاب الْقَبْر أَحَادِيث كَثِيرَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مِنْهَا: حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عِنْد الْبَزَّار. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد وَزيد بن ثَابت عِنْد مُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث شُرَحْبِيل بن حَسَنَة. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عِنْد أبي دَاوُد. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة وَأبي رَافع، ذكرهمَا ابو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب والترهيب) . وَمِنْهَا: حَدِيث مَيْمُونَة، ذكره ابْن مَنْدَه فِي كتاب الطَّهَارَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد اللالكائي.
قَوْله: (وَمَا يعذبان فِي كَبِير) أَي: بكبير تَركه عَلَيْهِمَا، إلاَّ أَنه كَبِير من حَيْثُ الْمعْصِيَة. وَقيل: يحمل كَبِير على أكبر، تَقْدِيره: لَيْسَ هُوَ أكبر الذُّنُوب، إِذْ الْكَبَائِر مُتَفَاوِتَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّه غير كَبِير عنْدكُمْ لقَوْله تَعَالَى {وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} (النُّور: 15) وَذَلِكَ أَن عدم التَّنَزُّه من الْبَوْل يلْزم مِنْهُ بطلَان الصَّلَاة، وَتركهَا كَبِيرَة. وَفِي (شرح السّنة) معنى: (مَا يعذبان فِي كَبِير) : أَنَّهُمَا لَا يعذبان فِي أَمر كَانَ يكبر ويشق عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَاز مِنْهُ إِذْ لَا مشقة فِي الاستتار عِنْد الْبَوْل وَترك النميمة وَلم يرد أَنَّهُمَا غير كَبِير فِي أَمر الدّين وَقَالَ الْمَازرِيّ [/ قع: الذُّنُوب تَنْقَسِم إِلَى مَا يشق تَركه طيبا كالملاذ الْمُحرمَة وَإِلَى مَا بنفرد مِنْهُ طبعا كتارك السمُوم، وَإِلَى مَا لَا يشق تَركه طبعا: كالغيبة وَالْبَوْل. قَوْله: (لَعَلَّه ايْنَ يُخَفف عَنْهُمَا) أَي: لَعَلَّه يُخَفف ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك بأثر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ودعائه بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا، فَكَأَن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل مُدَّة بَقَاء النداوة فيهمَا حدا لما وَقعت لَهُ الْمَسْأَلَة من تَخْفيف الْعَذَاب عَنْهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِك من أجل أَن فِي الرطب معنى لَيْسَ فِي الْيَابِس، قَالَه الْخطابِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: هُوَ مَحْمُول على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهما فاجيبت شَفَاعَته بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى أَن ييبسا. وَقيل: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو لَهما تِلْكَ الْمدَّة، وَقيل: لِكَوْنِهِمَا يسبحان مَا دامتا رطبتين وَلَيْسَ لليابس بتسبيح، قَالُوا: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إلاَّ يسبح بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاء: 44) مَعْنَاهُ: وَإِن من شَيْء حَيّ، ثمَّ حَيَاة كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحياة الْخَشَبَة مَا لم يتبس وحياة الْحجر مَا لم يقطع، وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه على عُمُومه، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يسبح حَقِيقَة أم فِيهِ دلَالَة على الصَّانِع، فَيكون مسبحاً منزهاً بِصُورَة حَاله، وَأهل التَّحْقِيق على أَنه يسبح حَقِيقَة، وَإِذا كَانَ الْعقل لَا يحِيل جعل التَّمْيِيز فِيهَا وَجَاء النَّص بِهِ، وَجب الْمصير إِلَيْهِ. وَاسْتحبَّ الْعلمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقَبْر لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى التَّخْفِيف لتسبيح الجريد، فتلاوة الْقُرْآن أولى. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي كَونهمَا مَا داما رطبين يمنعان الْعَذَاب، بعد دَعْوَى الْعُمُوم فِي تَسْبِيح كل شَيْء؟ قلت: يُمكن أَن يكون معرفَة هَذَا كمعرفة عدد الزَّبَانِيَة فِي أَنه تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَص بهَا. قَوْله:(3/117)
(ثمَّ قَالَ: بلَى) مَعْنَاهُ أَي: أَنه لكبير وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ، من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد عَن مَنْصُور فَقَالَ: وَمَا يعذبان فِي كَبِير، وَإنَّهُ لكبير؛ وَهَذَا من زيادات رِوَايَة مَنْصُور على الْأَعْمَش، وَمُسلم لَمْ يذكر الرواتين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: بلَى، مُخْتَصّ بِإِيجَاب النَّفْي، فَمَعْنَاه: بلَى إنَّهُمَا ليعذبان فِي كَبِير، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينه وَبَين: مَا يعذبان فِي كَبِير؟ قلت: قَالَ ابْن بطال: (وَمَا يعذبان بكبير) يَعْنِي: عنْدكُمْ وَهُوَ كَبِير، يَعْنِي: عِنْد الله تَعَالَى، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ عبد الْملك الْبونِي فِي معنى قَوْله: (وانه لكبير) ، يحْتَمل أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظن أَن ذَلِك غير كَبِير، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي الْحَال بِأَنَّهُ كَبِير، وَفِيه نظر.
بَيَان استنباط الاحكام الاول: فِيهِ أَن عَذَاب الْقَبْر حق يجب الْإِيمَان بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وعَلى ذَلِك أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خلافًا للمعتزلة، وَلَكِن ذكر القَاضِي عبد الْجَبَّار رَئِيس الْمُعْتَزلَة فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه: إِن قيل مذهبكم أداكم إِلَى إِنْكَار عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قد أطبقت عَلَيْهِ الْأمة. قيل: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا أنكرهُ أَولا ضرار بن عمر وَلما كَانَ من أَصْحَاب وَاصل ظنُّوا أَن ذَلِك مِمَّا أنكرته الْمُعْتَزلَة، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل الْمُعْتَزلَة رجلَانِ: أَحدهمَا: يجوز ذَلِك كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَالثَّانِي: يقطع بذلك. وَأكْثر شُيُوخنَا يقطعون بذلك، وَإِنَّمَا يُنكرُونَ قَول جمَاعَة من الجهلة: إِنَّهُم يُعَذبُونَ وهم موتى، وَدَلِيل الْعقل يمْنَع من ذَلِك، وبنحوه ذكره أَبُو عبيد الله المرزباني فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن الملحدة وَمن يذهب مَذْهَب الفلاسفة انكروه أَيْضا، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب لَازم حسب مَا أخبر بِهِ الصَّادِق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن الله يحيى العَبْد وَيرد الْحَيَاة وَالْعقل، وَهَذَا نطقت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَكَذَلِكَ يكمل الْعقل للصغار ليعلموا مَنْزِلَتهمْ وسعادتهم، وَقد جَاءَ أَن الْقَبْر يَنْضَم عَلَيْهِ كالكبير، وَصَارَ أَبُو الْهُذيْل وَبشر إِلَى أَن من خرج عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين، وَإِنَّمَا المساءلة إِنَّمَا تقع فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَأثبت الْبَلْخِي والجبائي وَابْنه عَذَاب الْقَبْر، وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه للْكَافِرِينَ والفاسقين. وَقَالَ بَعضهم: عَذَاب الْقَبْر جَائِز، وَإنَّهُ يجْرِي على الْمَوْتَى من غير رد روحهم إِلَى الْجَسَد، وَإِن الْمَيِّت يجوز أَن يتألم ويحس، وَهَذَا مَذْهَب جمَاعَة من الكرامية. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: إِن الله تَعَالَى يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ، فَإِذا حشروا وجدوا تل الآلام كَالسَّكْرَانِ والمغشي عَلَيْهِ إِن ضُربوا لم يَجدوا ألماً، فَإِذا عَاد عقلهم إِلَيْهِم وجدوا تِلْكَ الآلام، وَأما بَاقِي الْمُعْتَزلَة مثل ضرار بن عمر وَبشر المريسي وَيحيى بن كَامِل وَغَيرهم فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا عَذَاب الْقَبْر أصلا، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا فَاسِدَة تردها الْأَحَادِيث الثَّابِتَة، وَإِلَى الانكار أَيْضا ذهب الْخَوَارِج وَبَعض المرجئة. ثمَّ المعذب عِنْد أهل السّنة الْجَسَد بِعَيْنِه أَو بعضه بعد إِعَادَة الرّوح إِلَى جسده أَو إِلَى جزئه، وَخَالف فِي ذَلِك مُحَمَّد بن جرير وَطَائِفَة فَقَالُوا: لَا يشْتَرط إِعَادَة الرّوح، وَهَذَا أَيْضا فَاسد.
الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الأبوال مُطلقًا، قليلها وكثيرها، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَسَهل بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشعْبِيّ، وَصَارَ أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى الْعَفو عَن قدر الدِّرْهَم الْكَبِير اعْتِبَارا للْمَشَقَّة وَقِيَاسًا على المخرجين. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يرخصون فِي الْقَلِيل من الْبَوْل، وَرخّص الْكُوفِيُّونَ فِي مثل رُؤُوس الأبر من الْبَوْل، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية: إِن الْبَوْل والعذرة من بني آدم الآكلين الطَّعَام نجسان، وطاهران من كل حَيَوَان مُبَاح الأول، ومكروهان من الْمَكْرُوه أكله. وَقيل: بل نجسان. وَعَامة الْفُقَهَاء لم يخففوا فِي شَيْء من الدَّم إلاَّ فِي الْيَسِير من دم الْحيض، وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِي مِقْدَار الْيَسِير، فَقيل: قدر الدارهم الْكَبِير.
الثَّالِث: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف بتسبيح الشّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء وبركة. قلت: اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْمَسْأَلَة، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى وُصُول ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت، لما روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من مر بَين الْمَقَابِر فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، أحد عشر مرّة، ثمَّ وهب أجرهَا للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات) . وَفِي (سنَنه) أَيْضا عَن أنس يرفعهُ: (من دخل الْمَقَابِر فَقَرَأَ سُورَة: يس، خفف الله عَنْهُم يَوْمئِذٍ) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زار قبر وَالدية. أَو أَحدهمَا، فَقَرَأَ عِنْده، أَو عِنْدهمَا يس، غفر لَهُ) . وروى أَبُو حَفْص بن شاهين عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين رب السَّمَوَات، وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين، وَله(3/118)
العظمة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم هُوَ الْملك رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض وَرب الْعَالمين، وَله النُّور فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، مرّة وَاحِدَة، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا لوالدي لم يبْق لوَالِديهِ حق إلاَّ أَدَّاهُ إِلَيْهِمَا) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَجَمَاعَة: أَن قِرَاءَة الْقُرْآن لَا تصل إِلَى الْمَيِّت، وَالْأَخْبَار الْمَذْكُورَة حجَّة عَلَيْهِم، وَلَكِن أجمع الْعلمَاء على أَن الدُّعَاء يَنْفَعهُمْ ويصلهم ثَوَابه، لقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بالايمان} (الْحَشْر: 59) وَغير ذَلِك من الْآيَات، وبالاحاديث الْمَشْهُورَة مِنْهَا: قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع الْغَرْقَد) ، وَمِنْهَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا) ، وَغير ذَلِك. فان قلت: هَل يبلغ ثَوَاب الصَّوْم أَو الصَّدَقَة أَو الْعتْق؟ قلت: روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الْعَاصِ بن وَائِل كَانَ نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَإِن هِشَام بن الْعَاصِ نحر حِصَّته خمسين، أفيجزىء عَنهُ؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن أَبَاك لَو كَانَ أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت عَنهُ أَو تَصَدَّقت عَنهُ أَو أعتقت عَنهُ بلغه ذَلِك) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ: (قَالَ رجل: يَا رَسُول الله كَيفَ أبر أَبَوي بعد مَوْتهمَا؟ فَقَالَ: إِن من الْبر بعد الْمَوْت أَن تصلي لَهما مَعَ صَلَاتك، وَأَن تَصُوم لَهما مَعَ صيامك، وَأَن تصدق عَنْهُمَا مَعَ صدقتك) . وَفِي كتاب القَاضِي الإِمَام أبي الْحُسَيْن بن الْفراء، عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِذا نتصدق عَن مَوتَانا ونحج عَنْهُم وندعو لَهُم فَهَل يصل ذَلِك اليهم؟ قَالَ: نعم، ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالطبق إِذا أهدي إِلَيْهِ) . وَعَن سعد: (أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله إِن أبي مَاتَ، أفاعتق عَنهُ؟ قَالَ: نعم) . وَعَن ابي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن: (أَن الْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يعتقان عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . وَفِي (الصَّحِيح) (قَالَ رجل: يَا رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت، أينفعها أَن أَتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم) .
فان قلت: قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 39) وَهُوَ يدل على عدم وُصُول ثَوَاب الْقُرْآن للْمَيت؟ قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة على ثَمَانِيَة أَقْوَال: أَحدهمَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} (الطّور: 21) أَدخل الْآبَاء الْجنَّة بصلاح الأبناي، قَالَه ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. الثَّانِي: إِنَّهَا خَاصَّة بِقوم إِبْرَاهِيم ومُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأما هَذِه الْأمة فَلهم مَا سعوا، وَمَا سعى لَهُم غَيرهم، قَالَه عِكْرِمَة. الثَّالِث: المُرَاد بالإنسان هَهُنَا الْكَافِر، قَالَه الرّبيع بن أنس. الرَّابِع: لَيْسَ للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى من طَرِيق الْعدْل، فَأَما من بَاب الْفضل فَجَائِز أَن يزِيد الله تَعَالَى مَا شَاءَ، قَالَه الْحُسَيْن بن فضل. الْخَامِس: إِن معنى: مَا سعى: مَا نوى، قَالَه أَبُو بكر الْوراق. السَّادِس: لَيْسَ للْكَافِرِ من الْخَيْر إِلَّا مَا عمله فِي الدُّنْيَا فيثاب عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ فِي الْآخِرَة شَيْء، ذكره الثَّعْلَبِيّ. السَّابِع إِن: اللَّام، فِي: الْإِنْسَان، بِمَعْنى: على، تَقْدِيره: لَيْسَ على الْإِنْسَان إلاَّ مَا سعى. الثَّامِن: إِنَّه لَيْسَ لَهُ إلاَّ سَعْيه، غير أَن الْأَسْبَاب مُخْتَلفَة فَتَارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَتارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل سَببه، مثل سَعْيه فِي تَحْصِيل قِرَاءَة ولد يترحم عَلَيْهِ، وصديق يسْتَغْفر لَهُ، وَتارَة يسْعَى فِي خدمَة الدّين وَالْعِبَادَة فيكتسب محبَّة أهل الدّين، فَيكون ذَلِك سَببا حصل بسعيه، حَكَاهُ أَبُو الْفرج عَن شَيْخه ابْن الزغواني.
الرَّابِع: فِيهِ وجوب الِاسْتِنْجَاء إِذْ هُوَ المُرَاد بِعَدَمِ الاستتار من الْبَوْل، فَلَا يَجْعَل بَينه وَبَينه حِجَابا من مَاء أَو حجر، وَيبعد أَن يكون المُرَاد: الاستتار عَن الْأَعْين. وَقَالَ ابْن بطال مَعْنَاهُ: وَلَا يسْتَتر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة الْبَوْل، وَلما عذب على استخفافه بِغسْلِهِ، وبالتحرز عَنهُ دلّ على أَن من ترك الْبَوْل فِي مخرجه وَلم يغسلهُ أَنه حقيق بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: فِيهِ وجوب الاستتار عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن أعين النَّاس عِنْد الْقَضَاء. قلت: هَذَا رد على من قَالَ: وَيبعد أَن يكون المُرَاد الاستتار عَن الْأَعْين، وَلَكِن كِلَاهُمَا وَاجِب على مَا لَا يخفى، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْكَلَام أَن معنى رِوَايَة الاستتار إِذا حمل على حَقِيقَته يلْزم مِنْهُ أَن يكون سَبَب الْعَذَاب مُجَرّد كشف الْعَوْرَة، وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَن للبول خُصُوصِيَّة فِي عَذَاب الْقَبْر يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (أَكثر عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تعين أَن يكون معنى الاستتار على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، لتتفق أَلْفَاظ الحَدِيث على معنى وَاحِد وَلَا تخْتَلف، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة ابي بكرَة عِنْد أَحْمد، وَابْن مَاجَه: (أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل) . وَمثله عِنْد الطَّبَرَانِيّ عَن أنس، وَكلمَة: فِي، للتَّعْلِيل أَي: يعذب أَحدهمَا بِسَبَب الْبَوْل.
الْخَامِس: فِيهِ حُرْمَة النميمة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.(3/119)
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، فعلى تَقْدِير كَون هَذَا فِي مَكَّة على مَا دلّ عَلَيْهَا السَّنَد، كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس عِنْد هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَكَّة ابْن ثَلَاث سِنِين؟ فَكيف ضبط مَا وَقع بِمَكَّة؟ الْجَواب: من ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَنه يحْتَمل وُقُوع هَذِه الْقَضِيَّة بعد مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة سنة الْفَتْح، أَو سنة الْحَج. الثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَنه سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك. الثَّالِث: أَنه يكون مَا رَوَاهُ من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، كَذَا قيل. قلت: لَهُ وَجه رَابِع: وَهُوَ أَن يكون ابْن عَبَّاس سمع ذَلِك من صَحَابِيّ، فاسقط ذكره من بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ونظائره كَثِيرَة. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَاخل فِي الْوَجْه الثَّالِث.
وَمِنْهَا: أَن فِي متن هَذَا الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا بجريدة فَكَسرهَا كسرتين) يَعْنِي: أُتِي بهَا فَكَسرهَا، وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ مُسلم
أَنه الَّذِي قطع الغصنين، فَهَل هَذِه قَضِيَّة وَاحِدَة ام قضيتان؟ الْجَواب: أَنَّهُمَا قضيتان، والمغايرة بَينهمَا من أوجه. الأول: أَن هَذِه كَانَت فِي الْمَدِينَة، وَكَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة، وَقَضِيَّة جَابر كَانَت فِي السّفر وَكَانَ خرج لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابر وَحده. الثَّانِي: أَن فِي هَذِه الْقَضِيَّة أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غرس الجريدة بعد أَن شقها نِصْفَيْنِ، كَمَا فِي رِوَايَة الْأَعْمَش الْآتِيَة فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَفِي حَدِيث جَابر: أَمر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جَابِرا، فَقطع غُصْنَيْنِ من شجرتين كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استتر بهما عِنْد قَضَاء حَاجته، ثمَّ أَمر جَابِرا فَألْقى غُصْنَيْنِ عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، حَيْثُ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا، وَأَن جَابِرا سَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْت بقبرين يعذبان، فَأَحْبَبْت بشفاعتي أَن يرفع عَنْهُمَا مَا دَامَ الغصنان رطبين. الثَّالِث: لم يذكر فِي قصَّة جَابر مَا كَانَ السَّبَب فِي عذابهما. الرَّابِع: لم يذكر فِيهِ كلمة: الترحبي، فَدلَّ ذَلِك كُله على أَنَّهُمَا قضيتان مُخْتَلِفَتَانِ، بل روى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن أبي هُرَيْرَة: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِقَبْر فَوقف عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بجريدتين فَجعل إِحْدَاهمَا عِنْد رَأسه، وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ) فَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن هَذِه قَضِيَّة ثَالِثَة، فَسقط بِهَذَا كَلَام من ادّعى أَن الْقَضِيَّة وَاحِدَة، كَمَا مَال إِلَيْهِ النَّوَوِيّ والقرطبي.
وَمِنْهَا: أَن مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي عدم بَيَان إسمي المقبورين وَلَا أَحدهمَا؟ الْجَواب: أَنه يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبين ذَلِك قصدا للستر عَلَيْهِمَا، خوفًا من الافتضاح، وَهُوَ عمل مستحسن، وَلَا سِيمَا من حَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي شَأْنه الرَّحْمَة والرأفة على عباد الله تَعَالَى، وَيحْتَمل أَن يكون قد بَينه ليحترز غَيره من مُبَاشرَة مَا بَاشر صَاحب القبرين، وَلَكِن الرَّاوِي أبهمه عمدا لما ذكرنَا. فان قلت: قد ذكر الْقُرْطُبِيّ عَن بَعضهم أَن أَحدهمَا كَانَ سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: هَذَا قَول فَاسد لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَمِمَّا يدل على فَسَاده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جنَازَته كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح، وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيداً حَيْثُ قَالَ لأَصْحَابه: (قومُوا إِلَى سيدكم) . وَقَالَ: إِن حكمه وَافق حكم الله تَعَالَى، وَقَالَ: إِن عرش الرَّحْمَن اهتز لمَوْته، وَغير ذَلِك من مناقبه الْعَظِيمَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقد حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفن المقبورين، دلّ عَلَيْهِ حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ أَحْمد، وَلَفظه: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: من دفنتم الْيَوْم هَهُنَا) ؟ وَلم ينْقل عَنهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا ذكره الْقُرْطُبِيّ عَن الْبَعْض، فَدلَّ ذَلِك على بُطْلَانه فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن هذَيْن المقبورين هَل كَانَا مُسلمين أَو كَافِرين؟ الْجَواب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: كَانَا كَافِرين، وَبِه جزم أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه (التَّرْغِيب والترهيب) وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أُسَامَة بن زيد عَن أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (مر نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قبرين من بني النجار هلكا فِي الجاهيلة، فسمعهما يعذبان فِي الْبَوْل والنميمة) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا مُسلمين لما كَانَ لشفاعته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما إِلَى أَن ييبسا معنى، وَلكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرمانهما من ذَلِك، فشفع لَهما إِلَى الْمدَّة الْمَذْكُورَة، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قُبُور نسَاء من بني النجار هلكن فِي الْجَاهِلِيَّة فسمعهن يعذبن فِي النميمة) . قَالَ: لم يروه عَن أُسَامَة إلاَّ ابْن لَهِيعَة، وَقيل: كَانَا مُسلمين وَجزم بِهِ بَعضهم، لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا كَافِرين لم يدع، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَهما بتَخْفِيف الْعَذَاب وَلَا ترجاه لَهما، وَيُقَوِّي هَذَا مَا فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: (مر بقبرين من قُبُور الْأَنْصَار جديدين) . فَإِن تعدّدت الطّرق، وَهُوَ الْأَقْرَب لاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ، فَلَا بَأْس. وَإِن لم تَتَعَدَّد فَهُوَ بِالْمَعْنَى إِذْ بَنو النجار من الْأَنْصَار، وَهُوَ لقب إسلامي لقبوا بِهِ لنصرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يعرف بهَا مُسَمّى فِي الْجَاهِلِيَّة، ويقويه أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (فاجبت بشفاعتي) ، والشفاعة لَا تكون إلاَّ لمُؤْمِن، وَمَا فِي رِوَايَة أَحْمد الْمَذْكُورَة: (فَقَالَ من دفنتم الْيَوْم هَهُنَا) ؟ فَهَذَا أَيْضا(3/120)
يدل على أَنَّهُمَا كَانَا مُسلمين، لِأَن البقيع مَقْبرَة الْمُسلمين، وَالْخطاب لَهُم. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يَكُونَا كَافِرين، كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى، وَكَانَ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما من خَصَائِصه كَمَا فِي قصَّة أبي طَالب؟ قلت: لَو كَانَ ذَلِك من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبينه، على أَنا نقُول: إِن هَذِه الْقَضِيَّة مُتعَدِّدَة كَمَا ذكرنَا، فَيجوز تعدد حَال المقبورين. فَإِن قلت: ذكر الْبَوْل والنميمة يُنَافِي ذَلِك، لِأَن الْكَافِر، وَإِن عذب على أَحْكَام الاسلام، فَإِنَّهُ يعذب مَعَ ذَلِك على الْكفْر بِلَا خلاف. قلت: لم يبين فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور سَبَب الْعَذَاب مَا هُوَ، وَلَا ذكر فِيهِ الترجي لرفع الْعَذَاب، كَمَا فِي حَدِيث غَيره، وَظهر من ذَلِك صِحَة مَا ذكرنَا من تعدد الْحَال، ورد بَعضهم احتجاج ابي مُوسَى بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور: بِأَنَّهُ ضَعِيف، كَمَا اعْترف بِهِ. وَقد رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر سَبَب التعذيب، فَهُوَ من تَخْلِيط ابْن لَهِيعَة. قلت: هَذَا من تَخْلِيط هَذَا الْقَائِل لِأَن أَبَا مُوسَى لم يُصَرح بِأَنَّهُ ضَعِيف، بل قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِقَوي، وَلم يعلم هَذَا الْقَائِل الْفرق بَين الْحسن والضعيف، لِأَن بَعضهم عد الْحسن من الصَّحِيح لَا قسيمه، وَلذَلِك يُقَال للْحَدِيث الْوَاحِد: إِنَّه حسن صَحِيح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْحسن مَا لَيْسَ فِي إِسْنَاده من يتهم بِالْكَذِبِ، وَعبد الله بن لَهِيعَة الْمصْرِيّ لَا يتهم بِالْكَذِبِ، على أَن طَائِفَة مِنْهُم قد صححوا حَدِيثه ووثقوه، مِنْهُم: أَحْمد، رَضِي الله عَنهُ.
وَمِنْهَا: أَنه قيل: هَل للجريد معنى يَخُصُّهُ فِي الغرز على الْقَبْر لتخفيف الْعَذَاب؟ الْجَواب: أَنه لَا لِمَعْنى يَخُصُّهُ، بل الْمَقْصُود أَن يكون مَا فِيهِ رُطُوبَة من أَي شجر كَانَ، وَلِهَذَا أنكر الْخطابِيّ وَمن تبعه وضع الجريد الْيَابِس، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَله أَكثر النَّاس من وضع مَا فِيهِ رُطُوبَة من الرياحين والبقول وَنَحْوهمَا على الْقُبُور لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا السّنة الغرز
. فَإِن قلت: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: فَوضع على كل قبر مِنْهُمَا كسرة. قلت: فِي رِوَايَة الْأَعْمَش: (فغرز) ، فَيَنْبَغِي أَن يغرز، لِأَن الْوَضع يُوجد فِي الغرز بِخِلَاف الْوَضع فَافْهَم.
وَمِنْهَا أَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل غرزهما على الْقَبْر بِأَمْر معِين من الْعَذَاب، وَنحن لَا نعلم ذَلِك مُطلقًا؟ الْجَواب: أَنه لَا يلْزم من كوننا لَا نعلم أيعذب ام لَا؟ أَن نَتْرُك ذَلِك. أَلاَ ترى أَنا نَدْعُو للْمَيت بِالرَّحْمَةِ، وَلَا نعلم أَنه يرحم أم لَا؟ .
وَمِنْهَا: أَنه هَل لأحد أَن يَأْمر بذلك لأحد أم الشَّرْط أَن يباشره بِيَدِهِ؟ الْجَواب: أَنه لَا يلْزم ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن بُرَيْدَة بن الْحصيب، رَضِي الله عَنهُ، أوصى أَن يوضع على قَبره جريدتان، كَمَا يَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يقطع على أَنه بَاشر الْوَضع بِيَدِهِ الْكَرِيمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل يحْتَمل أَن يكون أَمر بِهِ. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ جدا، وَكَيف يَقُول ذَلِك وَقد صرح فِي الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا بجريدتين فكسرهما فَوضع على كل قبر مِنْهُمَا كسرة) ؟ . وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضعه بيدَيْهِ الْكَرِيمَة، وَدَعوى احْتِمَال الْأَمر لغيره بِهِ بعيدَة، وَهَذِه كدعوى احْتِمَال مَجِيء غُلَام زيد فِي قَوْلك: جَاءَ زيد، وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال لَا يعْتد بِهِ.
56 - (بابُ مَا جاءَ فِي غَسْلِ البَوْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الحَدِيث فِي حكم غسل الْبَوْل.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْبَوْل الَّذِي كَانَ سَببا لعذاب صَاحبه فِي قَبره، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان غسل ذَلِك الْبَوْل: الْألف وَاللَّام، فِيهِ للْعهد الْخَارِجِي. وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ إِلَى أَن المُرَاد من الْبَوْل هُوَ: بَوْل النَّاس، لأجل إِضَافَة الْبَوْل إِلَيْهِ فِي الحَدِيث السَّابِق، لَا جَمِيع الأبوال على مَا يَأْتِي تَعْلِيقه الدَّال على ذَلِك، فلأجل هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَا حجَّة فِيهِ لمن حمله على جَمِيع الأبوال، ليحتج بِهِ فِي نَجَاسَة بَوْل سَائِر الْحَيَوَانَات. وَفِي كَلَامه رد على الْخطابِيّ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الأبوال كلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الأبوال غير أَبْوَال النَّاس على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: نَجِسَة مثل بَوْل النَّاس يلْتَحق بِهِ لعدم الْفَارِق، وَالْآخر: طَاهِرَة عِنْد من يَقُول بطهارتها، وَلَهُم أَدِلَّة أُخْرَى فِي ذَلِك.
وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِصاحبِ القَبْرِ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ
هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِسْنَاده فِي الْبَاب السَّابِق، وَقد قُلْنَا: إِنَّه أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد من الْبَوْل الْمَذْكُور هُوَ بَوْل النَّاس لَا سَائِر الأبوال، فَلذَلِك قَالَ: (وَلم يذكر سوى بَوْل النَّاس) ، وَهُوَ من كَلَامه، نبه بِهِ على مَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي:(3/121)
اللَّام فِي قَوْله: (لصَاحب الْقَبْر) بِمَعْنى: لأجل، وَقَالَ بَعضهم: أَي، عَن صَاحب الْقَبْر. قلت: مجىء: اللَّام، بِمَعْنى: عَن، ذكره ابْن الْحَاجِب، وَاحْتج عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} (الْأَحْقَاف: 11) وَغَيره لم يقل بِهِ، بل قَالُوا: إِن: اللَّام، فِيهِ: لَام التَّعْلِيل، فعلى هَذَا الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب، وَيجوز أَن تكون: اللَّام، هُنَا بِمَعْنى: عِنْد، كَمَا فِي قَوْلهم: كتبته لخمس خلون.
217 - حدّثنا يَعْقُوبُ بن إبْراهِيمَ قالَ حدّثنا إسْماعيلُ بنُ إبْراهِيمَ قالَ حدّثنى رَوْحُ بنُ الْقاسِمِ قَالَ حدّثنى عَطَاءُ بنُ أبي مَيْمُونَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا تَبَرَّزمَ لِحَاجَتِهِ أتَيْتُهُ بِمَاءٍ بِهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، هُوَ ابْن علية، وَلَيْسَ هُوَ أَخا يَعْقُوب، وَقد مر ذكره فِي الْبَاب الْمَذْكُور. الثَّالِث: روح بن الْقَاسِم التَّمِيمِي الْعَنْبَري من ثِقَات الْبَصرِيين، ويكنى بِأبي الْقَاسِم وبأبي غياث، بالغين الْمُعْجَمَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة؛ وروح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَنقل ابْن التِّين: أَنه قرىء، بِضَم الرَّاء، وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَقيل: هُوَ بِالْفَتْح لَا نعلم فِيهِ خلافًا. الرَّابِع: عَطاء بن أبي مَيْمُونَة الْبَصْرِيّ مولى أنس بن معَاذ، تقدم فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْإِخْبَار. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ العنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب كَمَا ذكر، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا، وَعَن ابي الْوَلِيد وَسليمَان بن حَرْب، وَعَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بزيغ عَن أسود بن عَامر شَاذان، أربعتهم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر عَن وَكِيع وغندر، وَعَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى عَن خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ عَن خَالِد، هُوَ الْحذاء عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد الوَاسِطِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة بِهِ.
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (إِذا تبرز) ، على وزن: تفعل، بتَشْديد الْعين. وتبرز الرجل: إِذا خرج إِلَى البرَاز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، للْحَاجة. وَالْبرَاز إسم للفضاء الْوَاسِع، فكنوا بِهِ عَن قَضَاء الْغَائِط، كَمَا كنوا عَنهُ بالخلاء، لأَنهم كَانُوا يتبرزون فِي الْأَمْكِنَة الخالية من النَّاس. قَالَ الْخطابِيّ: المحدثون يَرْوُونَهُ بِالْكَسْرِ وَهُوَ خطأ، لِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ مصدر من المبارزة فِي الْحَرْب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي بِخِلَافِهِ، وَهَذَا لَفظه: البرَاز المبارزة فِي الْحَرْب، وَالْبرَاز أَيْضا كِنَايَة عَن ثقل الْغذَاء وَهُوَ الْغَائِط، ثمَّ قَالَ: وَالْبرَاز، بِالْفَتْح: الفضاء الْوَاسِع. قَوْله: (لِحَاجَتِهِ) أَي: لأَجلهَا وَيجوز أَن تكون: اللَّام، بِمَعْنى: عِنْد قَضَاء حَاجته. قَوْله: (فَيغسل بِهِ) أَي: فَيغسل ذكره بِالْمَاءِ، وَحذف الْمَفْعُول لظُهُوره، أَو للاستحياء عَن ذكره، كَمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: مَا رَأَيْت مِنْهُ وَلَا رأى مني، تعنى: الْعَوْرَة؛ وَيغسل، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر السِّين، هَذِه رِوَايَة الْعَامَّة. وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: (فتغسل بِهِ) ، من بَاب: تفعل، بِالتَّشْدِيدِ. يُقَال: تغسل يتغسل تغسلاً، وَهَذَا الْبَاب للتكلف وَالتَّشْدِيد فِي الْأَمر، ويروى: (فيغتسل بِهِ) ، من بَاب: الافتعال، وَهَذَا الْبَاب إِنَّمَا هُوَ للاعتمال لنَفسِهِ، يُقَال: سوى لنَفسِهِ وَلغيره واستوى لنَفسِهِ، وَكسب لأَهله ولعياله واكتسب لنَفسِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب التباعد من النَّاس لقَضَاء الْحَاجة. الثَّانِي: أَن فِيهِ الاستتار عَن أعين النَّاس. الثَّالِث: أَن فِيهِ جَوَاز اسْتِخْدَام الصغار. الرَّابِع: أَن فِيهِ جَوَاز الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ واستحبابه ورجحانه على الِاقْتِصَار على الْحجر، وَقد اخْتلف النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف أَن الْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر، فَإِن اقْتصر، اقْتصر على أَيهمَا شَاءَ، لَكِن المَاء أفضل لأصالته فِي التنقية. وَقد قيل: ان الْحجر أفضل. وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي: لَا يجوز الْحجر إلاَّ لمن عدم المَاء، ويستنبط مِنْهُ حكم آخر وَهُوَ: اسْتِحْبَاب خدمَة الصَّالِحين وَأهل الْفضل والتبرك بذلك.(3/122)
(بَاب)
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقد ذكرنَا أَنه على هَذِه الصُّورَة غير مُعرب، بل حكمه حكم تعدد الْأَسْمَاء، لِأَن الْإِعْرَاب إِنَّمَا يكون بعد العقد والتركيب، فَإِذا قُلْنَا: هَذَا بَاب، أَو: بَاب فِي حكم كَذَا، يكون معرباً. وَمن قَالَ: بَاب، بِالتَّنْوِينِ من غير وصل بِشَيْء فقد غلط.
218 - حدّثنا مُحَمَّدُ بن المُثَنَّى قَالَ حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ خازِمٍ قَالَ حَدثنَا الاْعمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طاووُسٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبْرَيْنِ فقالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبيرٍ أمَّا أحَدُهُمَا فكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ وَأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّها نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قَالُوا يَا رسولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَبْبَسَا..
هَذَا الحَدِيث فِي نفس الْأَمر هُوَ الحَدِيث الَّذِي ترْجم لَهُ البُخَارِيّ بقوله: (بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله) ، لِأَن مخرجهما وَاحِد، غير أَن الِاخْتِلَاف فِي السَّنَد وَبَعض الْمَتْن: لِأَن هُنَاكَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا عَن مُجَاهِد عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَقد قُلْنَا هُنَاكَ: إِن إِخْرَاج البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيح عِنْده، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن مُجَاهدًا سَمعه تَارَة عَن ابْن عَبَّاس وَتارَة عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا يحْتَاج إِلَى طلب تَرْجَمَة هَذَا الحَدِيث لهَذَا الْبَاب، على تَقْدِير وجود لَفظه: بَاب، لِأَن وَجه التَّرْجَمَة ومطابقة الحَدِيث لَهَا قد ذكر هُنَاكَ، فان قلت: بَينهمَا بَاب آخر، وَهُوَ قَوْله: (بَاب مَا جَاءَ فِي غسل الْبَوْل) . قلت: هَذَا تَابع للباب الأول. لِأَنَّهُ فِي بَيَان حكم من أَحْكَامه، وَلَيْسَ للتابع اسْتِقْلَال فِي شَأْنه، فعلى هَذَا قَول الْكرْمَانِي: فان قلت: كَيفَ دلَالَته على التَّرْجَمَة؟ قلت: من جِهَة إِثْبَات الْعَذَاب على ترك استتار جسده من الْبَوْل وَعدم غسله غير سديد مُسْتَغْنى عَنهُ، لِأَنَّهُ إِن اعْتبر فِيمَا قَالَه لَفظه بَاب مُفردا فَلَيْسَ فِيهِ تَرْجَمَة، وَإِن لم يعْتَبر ذَلِك فَيكون الحَدِيث فِي بَاب: مَا جَاءَ فِي غسل الْبَوْل، وَلَيْسَ لَهُ مُنَاسبَة ظَاهرا، وَالتَّحْقِيق مَا ذكرته. فَافْهَم.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِضَم الْمِيم وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد النُّون: الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزَّمِن، تقدم فِي بَاب حلاوة الايمان. الثَّانِي: مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ وَالزَّاي المعجمتين: أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، عمي وعمره أَربع سِنِين، وَقد تقدم فِي بَاب الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من يَده. الثَّالِث: الْأَعْمَش وَهُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان الْكُوفِي التَّابِعِيّ، تقدم فِي بَاب ظلم دون ظلم. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جبر. الْخَامِس: طَاوس بن كيسَان، تقدم فِي بَاب من لم ير الْوضُوء إلاَّ من المخرجين. السَّادِس: عبد الله ابْن عَبَّاس.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع ثَلَاث مَرَّات. وَفِيه: العنعنة ثَلَاث مَرَّات. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومكي ويماني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي مَوَاضِع أخر ذَكرنَاهَا فِي بَاب: من الْكَبَائِر ان لَا يسْتَتر من بَوْله. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة أَيْضا، ذَكرنَاهَا هُنَاكَ.
وَأما ذكر لغته وَإِعْرَابه واستنباط الْأَحْكَام مِنْهُ فقد مرت مستوفاة.
وَقَوله: (فغرز) ، وَفِي رِوَايَة وَكِيع فِي الْأَدَب: (فغرس) ، وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَبَين الزَّاي وَالسِّين تناوب؛ وَكَانَ غرزه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد رَأس الْقَبْر، قَالَه سعد الدّين الْحَارِثِيّ، وَقَالَ: إِنَّه ثَبت بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَقد ذَكرْنَاهُ. قلت: فِيهِ: (فَجعل إِحْدَاهمَا عِنْد رَأسه وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ) . قَوْله: (لم فعلت هَذَا) ، وَلَيْسَ لَفظه: هَذَا، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي.
قَالَ ابْن المُثَنَّى وحدّثنا وَكيعٌ قَالَ حَدثنَا الاْعمشُ قَالَ سَمِعْتُ مُجاهِداً مِثْلَهُ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن الْمثنى وَحدثنَا وَكِيع بن الْجراح، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد بن خازم) ، وَوَقع للأصيلي هَكَذَا: بواو الْعَطف، وَلذَلِك ظن بَعضهم أَنه مُعَلّق، وَقد وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق مُحَمَّد بن الْمثنى هَذَا عَن وَكِيع وَمُحَمّد بن خازم عَن الْأَعْمَش، والنكتة فِي هَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي أفرده التقوية للإسناد الأول، وَلِهَذَا صرح بِلَفْظ: سَمِعت لِأَن(3/123)
الْأَعْمَش مُدَلّس، وعنعنة المدلس لَا تعْتَبر إلاَّ إِذا علم سَمَاعه، فَأَرَادَ التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ، إِذْ الْإِسْنَاد الأول مُعَنْعَن. فَإِن قلت: قَالَ فِي الأول حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، وَقَالَ هَهُنَا: قَالَ ابْن الْمثنى، هَل بَينهمَا فرق؟ قلت: بلَى أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن قَالَ: أحط دَرَجَة من حدث كَمَا يَقُول فِي بعض الْمَوَاضِع فِي إِسْنَاد وَاحِد: حَدثنِي، بِالْإِفْرَادِ و: حَدثنَا، بِالْجمعِ. فان قلت: مُجَاهِد فِي هَذِه الطَّرِيقَة يروي عَن طَاوُوس أَو عَن ابْن عَبَّاس؟ قلت: الظَّاهِر أَنه يروي عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، لِأَنَّهُ قَالَ مثله وَمثل الشَّيْء غَيره.
57 - (بابُ تَرْكِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالناس الاَعْرابيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِه فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس الْأَعرَابِي الَّذِي قدم الْمَدِينَة وَدخل مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبال فِيهِ، فَلم يتَعَرَّض إِلَيْهِ أحد بِإِشَارَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى فرغ من بَوْله، كَمَا يَأْتِي كل ذَلِك مُفَسرًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَقَوله: (وَالنَّاس) ، بِالْجَرِّ عطف على لفظ: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ مجرور بِالْإِضَافَة، وَالتَّقْدِير: وتكر الناسِ، وَيجوز: النَّاس، بِالرَّفْع عطفا على الْمحل، لِأَن لفظ التّرْك مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، والأعرابي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُم، وهم سكان الْبَادِيَة، والعربي نِسْبَة إِلَى الْعَرَب، وهم أهل الْأَمْصَار وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا للْعَرَب، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِيمَا تقدم، وَالْألف وَاللَّام فِي: الْأَعرَابِي، وَفِي: الْمَسْجِد، للْعهد الذهْنِي، وَعَن قريب يَأْتِي مَن الْأَعرَابِي مَعَ الْخلال فِيهِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب، وَالْبَاب الَّذِي قبله هُوَ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على أَن حكم الْبَوْل إِزَالَته، فَذكر فِي الْبَاب السَّابِق الْغسْل، وَفِي هَذَا الْبَاب صب المَاء عَلَيْهِ، وَحكمه حكم الْغسْل.
219 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعيلَ قَالَ حَدثنَا هَمَّامٌ قَالَ أخبرنَا إسْحاقُ عنْ أنَسِ بن مالِكٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى أعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ دَعُوهُ حَى إِذا فَرَغَ دَعا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي الْبَصْرِيّ، مر فِي كتاب الْوَحْي. الثَّانِي: همام بن يحيى بن دِينَار العوذي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالذال الْمُعْجَمَة: كَانَ ثِقَة ثبتاً فِي كل الْمَشَايِخ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة بن سهل الْأنْصَارِيّ، تقدم فِي بَاب من قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاث مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن عَمْرو بن يُونُس عَن عِكْرِمَة بن عمار الْيَمَانِيّ عَن إِسْحَاق عَن أنس. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: سَمِعت أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى بن الْقطَّان، وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة، وَكِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفَاتَ الْمزي هَذَا فِي الْأَطْرَاف. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر وَعَن قُتَيْبَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابي هُرَيْرَة فِي الطَّهَارَة هَهُنَا، كَمَا يَأْتِي عَن قريب. وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَدَب عَن ابي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن دُحَيْم عَن عَمْرو بن عبد الْوَاحِد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ نَحوه. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن أَعْرَابِيًا دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمداً، وَلَا ترحم مَعنا أحدا. فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقد تحجرت وَاسِعًا، ثمَّ لم يلبث أَن بَال فِي نَاحيَة الْمَسْجِد، فأسرع النَّاس إِلَيْهِ فنهاهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: إِنَّمَا بعثتم ميسرين وَلم تبعثوا معسرين، صبوا عَلَيْهِ سجلاً من مَاء، أَو قَالَ؛ ذنوباً من مَاء) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي آخر الطَّهَارَة، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة، وَلم يذكر قصَّة الْبَوْل. وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث ابي سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن حَدِيث عَليّ ابْن مسْهر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (دخل أَعْرَابِي الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس، فَقَالَ: اللَّهُمَّ(3/124)
اغْفِر لي ولمحمد) الحَدِيث. وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذِه الْقِصَّة أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن معقل بن المقرن قَالَ: (صلى أَعْرَابِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيهِ: وَقَالَ، يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فألقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) . ثمَّ قَالَ ابو دَاوُد: وَهُوَ مُرْسل ابْن معقل لم يدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو دَاوُد وَضَعفه، وَقَالَ: مُرْسل. قلت: لم يقل أَبُو دَاوُد: هَذَا ضَعِيف، وَإِنَّمَا قَالَ: مُرْسل، وَهُوَ مُرْسل من طَرِيقين: أَحدهمَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْآخر مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين مسندين أَيْضا: أَحدهمَا: عَن سمْعَان بن مَالك عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَأمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بمكانه فاحتفر وصب عَلَيْهِ دلو من مَاء) ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) . . وَالثَّانِي: أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن أنس: (أَن أَعْرَابِيًا بَال فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: احفروا مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوباً من مَاء) .
بَيَان لغته قَوْله: (فَصَبَّهُ) الصب: السكب، يُقَال: صببت المَاء فانصب أَي سكبته فانسكب وَالْمَاء ينصب من الْجَبَل أَي يتخذر وَيُقَال ماصب وَهُوَ كَقَوْلِك مَا سكب ويروى فصب، بِدُونِ الضَّمِير الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: (فَلَمَّا قضى بَوْله أمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من مَاء فأهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر رجلا من الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) ، بِالسِّين الْمُهْملَة، ويروى بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَالْفرق بَينهمَا أَن: السِّين، بِالْمُهْمَلَةِ: الصب الْمُتَّصِل، وبالمعجمة: الصب الْمُنْقَطع. قَالَه ابْن الاثير: والذنُوب، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: الدَّلْو الْعَظِيمَة، وَقيل: لَا يُسمى ذنوباً إلاَّ إِذا كَانَ فِيهَا مَاء. قَوْله: (اهريقوا) أَصله: (أريقوا) من الإراقة، فالهاء زَائِدَة، ويروى: (هريقوا) ، فَتكون الْهَاء بَدَلا من الْهمزَة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (رأى) بِمَعْنى: أبْصر، و (أَعْرَابِيًا) مَفْعُوله، وَقَوله: (يَبُول) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لأعرابياً، وَالتَّقْدِير: أبْصر أَعْرَابِيًا بائلاً. وَقَالَ الْكرْمَانِي؛ و: يَبُول، إِمَّا صفة وَإِمَّا حَال. قلت: لَا يَقع الْحَال عَن النكرَة إلاَّ إِذا كَانَ مقدما على ذِي الْحَال، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
بَيَان مَعْنَاهُ قَوْله: (دَعوه) اي: اتركوه، وَهُوَ أَمر بِصِيغَة الْجمع من: يدع، تَقول: دع دَعَا دعوا بِضَم الْعين، وَالْعرب أماتت ماضيه إلاَّ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَة شَاذَّة فِي قَوْله تَعَالَى {مَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا تزرموه وَدعوهُ) ، وَهُوَ بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء الْمُهْملَة، يَعْنِي: لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله. يُقَال: أزرم الدمع وَالدَّم: انقطعا، وأزرمته أَنا؛ وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْأَعرَابِي، وَعَن عبد الله بن نَافِع الْمدنِي أَن هَذَا الْأَعرَابِي كَانَ: الْأَقْرَع بن حَابِس، حَكَاهُ أَبُو بكر التاريخي. وَأخرج أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحَابَة من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: اطلع ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، وَكَانَ رجلا جَافيا، فَذكر الحَدِيث تَاما بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة، وَلكنه مُرْسل، وَفِي إِسْنَاده أَيْضا مُبْهَم، وَلَكِن فهم مِنْهُ أَن الْأَعرَابِي الْمَذْكُور هُوَ: ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، وَلَا يبعد ذَلِك مِنْهُ بجلافته وَقلة أدبه. قَوْله: (حَتَّى إِذا فرغ من كَلَام أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) اي: حَتَّى إِذا فرغ من بَوْله، وَكلمَة: حَتَّى، للغاية، وَالْمعْنَى: فَتَرَكُوهُ إِلَى أَن فرغ من بَوْله. قَوْله: (دُعَاء بِمَاء) أَي: دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: طلب مَاء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ، الْآتِيَة عَن قريب: (فَلَمَّا قضى بَوْله أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من مَاء فهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر رجلا من الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فَلَمَّا فرغ دَعَا بِدَلْو فصب عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (دَعَا بِدَلْو مَاء فصب عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (ثمَّ أَمر بسجل من مَاء فأفرغ على بَوْله) . وَفِي رِوَايَة ابْن صاعد، عَن عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَن أنس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أحفروا مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء) . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن عبد الله بن معقل بن مقرن: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فالقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) .
بَيَان استنباط الاحكام من هَذَا الحَدِيث، من جَمِيع أَلْفَاظه وَالرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة فِيهِ، وَهُوَ على وُجُوه. الأول: استنبط الشَّافِعِي مِنْهُ على أَن الأَرْض إِذا أصابتها نَجَاسَة وصب عَلَيْهَا المَاء تطهر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا يشْتَرط حفرهَا. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِذا أَصَابَت الأَرْض نَجَاسَة فصب عَلَيْهَا من المَاء مَا يغمرها، وتستهلك فِيهَا النَّجَاسَة طهرت بعد نضوب المَاء وَقَبله، فِيهِ وَجْهَان: إِن قُلْنَا: إِن الغسالة طَاهِرَة وَالْعصر لَا يجب فَنعم، وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا نَجِسَة وَالْعصر وَاجِب فَلَا، وعَلى هَذَا فَلَا يتَوَقَّف(3/125)
الحكم بِالطَّهَارَةِ على الْجَفَاف، بل يَكْفِي أَن يفاض المَاء كَالثَّوْبِ المعصر فَلَا يشْتَرط فِيهِ الْجَفَاف والتصوب كالعصر، وَفِيه وَجه: أَن يكون المَاء المصبوب سَبْعَة أَضْعَاف الْبَوْل، وَوجه آخر: يجب أَن يصب على بَوْل الْوَاحِد ذنُوب، وعَلى بَوْل الْإِثْنَيْنِ ذنوبان، وعَلى هَذَا أبدا. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا أَصَابَت الأَرْض نَجَاسَة رطبَة. فَإِن كَانَت الأَرْض رخوة صب عَلَيْهَا المَاء حَتَّى يتسفل فِيهَا، وَإِذا لم يبْق على وَجههَا شَيْء من النَّجَاسَة، وتسفل المَاء، يحكم بطهارتها، وَلَا يعْتَبر فِيهِ الْعدَد، وَإِنَّمَا هُوَ على اجْتِهَاده. وَمَا هُوَ فِي غَالب ظَنّه أَنَّهَا طهرت، وَيقوم التسفل فِي الأَرْض مقَام الْعَصْر فِيمَا لَا يحْتَمل الْعَصْر، وعَلى قِيَاس ظَاهر الرِّوَايَة يصب عَلَيْهِ المَاء ثَلَاث مَرَّات، ويتسفل فِي كل مرّة، وَإِن كَانَت الأَرْض صلبة، فَإِن كَانَت صعُودًا يحْفر فِي أَسْفَلهَا حفيرة وَيصب المَاء عَلَيْهَا ثَلَاث مَرَّات، ويتسفل إِلَى الحفيرة، ثمَّ تكبس الحفيرة. وَإِن كَانَت مستوية بِحَيْثُ لَا يَزُول عَنْهَا المَاء لَا يغسل لعدم الْفَائِدَة فِي الْغسْل، بل تحفر، وَعَن أبي حنيفَة: لَا تطهر الأَرْض حَتَّى تحفر إِلَى الْموضع الَّذِي وصلت إِلَيْهِ النداوة وينقل التُّرَاب، وَدَلِيلنَا على الْحفر الحديثان اللذآن أخرجهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ: أَحدهمَا: عَن عبد الله، وَالْآخر: عَن أنس. وَقد ذكرناهما عَن قريب. وَقد ذكرنَا أَيْضا مَا قَالَه الْخطابِيّ، وَذكرنَا جَوَابه أَيْضا. وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو ابْن دِينَار عَن طَاوس قَالَ: (بَال أَعْرَابِي فِي الْمَسْجِد، فأرادوا أَن يضربوه فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أحفروا مَكَانَهُ واطرحوا عَلَيْهِ دلواً من مَاء، علِّموا ويسِّروا وَلَا تعسِّروا) . وَالْقِيَاس أَيْضا يَقْتَضِي هَذَا الحكم، لِأَن الغسالة نَجِسَة فَلَا يطهر الأَرْض مَا لم تحفر وينقل التُّرَاب. فَإِن قلت: قد تركْتُم الحَدِيث الصَّحِيح، واستدللتم بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف وبالمرسل. قلت: قد عَملنَا بِالصَّحِيحِ فِيمَا إِذا كَانَت الأَرْض صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم لَا على زَعمنَا فِيمَا إِذا كَانَت الأَرْض رخوة، وَالْعَمَل بِالْكُلِّ أولى من الْعَمَل بالبغض وإهمال الْبَعْض. وَأما الْمُرْسل فَهُوَ مَعْمُول بِهِ عندنَا، وَالَّذِي يتْرك الْعَمَل بالمرسلات يتْرك الْعَمَل باكثر الاحاديث وَفِي اصْطِلَاح الْمُحدثين ان مرسلين صَحِيحَيْنِ اذا عارضا حَدِيثا صَحِيحا مُسْندًا كَانَ الْعَمَل بِالْمُرْسَلين أولى، فَكيف مَعَ عدم الْمُعَارضَة؟
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن المَاء مُتَعَيّن فِي إِزَالَة النَّجَاسَة، وَمنعُوا غَيره من الْمَائِعَات المزيلة، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَن ذكر المَاء هُنَا لَا يدل على نفي غَيره، لِأَن الْوَاجِب هُوَ الْإِزَالَة، وَالْمَاء مزيل بطبعه، فيقاس عَلَيْهِ كل مَا كَانَ مزيلاً لوُجُود الْجَامِع، على أَن هَذَا الِاسْتِدْلَال يشبه مَفْهُوم مُخَالفَة وَهُوَ لَيْسَ بِحجَّة.
الثَّالِث: استدلت بِهِ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم أَن غسالة النَّجَاسَة الْوَاقِعَة على الأَرْض طَاهِرَة، وَذَلِكَ لِأَن المَاء المصبوب لَا بُد أَن يتدافع عِنْد وُقُوعه على الأَرْض ويصل إِلَى مَحل لم يصبهُ الْبَوْل مِمَّا يجاوره، فلولا أَن الغسالة طَاهِرَة لَكَانَ الصب ناشراً للنَّجَاسَة، وَذَلِكَ خلاف مَقْصُود التَّطْهِير، وَسَوَاء كَانَت النَّجَاسَة على الأَرْض أَو غَيرهَا، لَكِن الْحَنَابِلَة فرقوا بَين الأَرْض وَغَيرهَا، وَيُقَال: إِنَّه رِوَايَة وَاحِدَة عِنْد الشَّافِعِيَّة. إِن كَانَت على الأَرْض، وَإِن كَانَت غَيرهَا فَوَجْهَانِ. قلت: رُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا بعد صب المَاء عَلَيْهَا لَا تطهر حَتَّى تدلك وتنشف بصوف أَو خرقَة، وَفعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، وَإِن لم يفعل ذَلِك لَكِن صب عَلَيْهَا مَاء كثيرا حَتَّى عرف أَنه أَزَال النَّجَاسَة، وَلم يُوجد فِيهِ لون وَلَا ريح، ثمَّ ترك حَتَّى نشفت كَانَت طَاهِرَة.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة أَن الْعَصْر فِي الثَّوْب المغسول من النَّجَاسَة لَا يجب، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد وَقِيَاس بالفارق، لِأَن الثَّوْب ينعصر بالعصر بِخِلَاف الأَرْض.
الْخَامِس: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض أَن الأَرْض إِذا اصابتها نَجَاسَة فجفت بالشمس أَو بالهواء لَا تطهر، وَهِي محكي عَن أبي قلَابَة أَيْضا، وَهَذَا أَيْضا فَاسد، لِأَن ذكر المَاء فِي الحَدِيث لوُجُوب الْمُبَادرَة إِلَى تَطْهِير الْمَسْجِد وَتَركه إِلَى الْجَفَاف تَأْخِير لهَذَا الْوَاجِب، وَإِذا تردد الْحَال بَين الْأَمريْنِ لَا يكون دَلِيلا على أَحدهمَا بِعَيْنِه.
السَّادِس: فِيهِ دَلِيل على وجوب صِيَانة الْمَسَاجِد وتنزيهها عَن الأقذار والنجاسات، أَلاَ ترى إِلَى تَمام الحَدِيث فِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَاهُ) أَي: الْأَعرَابِي، (فَقَالَ لَهُ: إِن هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا الْبَوْل، وَلَا القذر، وَإِنَّمَا هِيَ لذكر الله وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ؟
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَسَاجِد لَا يجوز فِيهَا إلاَّ ذكر الله وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن بقوله: (وَإِنَّمَا هِيَ لذكر الله) ، من قصر الْمَوْصُوف على الصّفة، وَلَفظ الذّكر عَام يتَنَاوَل قِرَاءَة الْقُرْآن وَقِرَاءَة الْعلم، وَوعظ النَّاس وَالصَّلَاة أَيْضا عَام، فَيتَنَاوَل الْمَكْتُوبَة والنافلة، وَلَكِن النَّافِلَة فِي الْمنزل أفضل، ثمَّ غير هَذِه الْأَشْيَاء: ككلام الدُّنْيَا والضحك واللبث فِيهِ بِغَيْر نِيَّة الِاعْتِكَاف مشتغلاً بِأَمْر من أُمُور الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَن لَا يُبَاح، وَهُوَ قَول بعض الشَّافِعِيَّة، وَالصَّحِيح أَن الْجُلُوس فِيهِ لعبادة أَو قِرَاءَة علم أَو درس أَو سَماع موعظة أَو انْتِظَار صَلَاة أَو نَحْو ذَلِك مُسْتَحبّ، ويثاب على ذَلِك، وَإِن لم يكن(3/126)
لشَيْء من ذَلِك كَانَ مُبَاحا، وَتَركه أولى. واما النّوم فِيهِ فقد نَص الشَّافِعِي فِي (الْأُم) أَنه يجوز، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رخص فِي النّوم فِي الْمَسْجِد ابْن المسيت وَالْحسن وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تتخذوه مرقداً. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: إِن كَانَ ينَام فِيهِ لصَلَاة فَلَا بَأْس. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يكره النّوم فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس بذلك للغرباء، وَلَا أرى ذَلِك للحاضر. وَقَالَ احْمَد: إِن كَانَ مُسَافِرًا أَو شبهه فَلَا بَأْس، وَإِن اتَّخذهُ مقيلاً أَو مبيتاً فَلَا، وَهُوَ قَول إِسْحَاق. وَقَالَ الْيَعْمرِي، وَحجَّة من أجَاز نوم عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأهل الصّفة، وَالْمَرْأَة صَاحِبَة الوشاح، والعرنية، وثمامة بن أَثَال، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَهِي أَخْبَار صِحَاح مَشْهُورَة. واما الْوضُوء فِيهِ فَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ الْعلم الْوضُوء فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن يتَوَضَّأ فِي مَكَان يبله ويتأذى النَّاس بِهِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوه. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا مَنْقُول عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْقَاسِم صَاحب مَالك، وَذكر عَن ابْن سِيرِين وَسَحْنُون أَنَّهُمَا كرهاه تَنْزِيها لِلْمَسْجِدِ، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِن كَانَ فِيهِ مَوضِع معد للْوُضُوء فَلَا بَأْس، وإلاَّ فَلَا. وَفِي شرح التِّرْمِذِيّ لليعمري: إِذا اقتصد فِي الْمَسْجِد، فان كَانَ فِي غير الْإِنَاء فَحَرَام، وَإِن كَانَ فِي الْإِنَاء فمكروه، وَإِن بَال فِي الْمَسْجِد فِي إِنَاء فَوَجْهَانِ أصَحهمَا أَنه حرَام، وَالثَّانِي أَنه مَكْرُوه. وَيجوز الاستلقاء فِي الْمَسْجِد، وَمد الرجل، وتشبيك الْأَصَابِع للأحاديث الثَّابِتَة فِي ذَلِك.
الثَّامِن: فِيهِ الْمُبَادرَة لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
التَّاسِع: فِيهِ مبادرة الصَّحَابَة إِلَى الْإِنْكَار بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير مُرَاجعَة لَهُ. فَإِن قلت: أَلَيْسَ هَذَا من بَاب التَّقَدُّم بَين يَدي الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لَا، لِأَن ذَلِك مُقَرر عِنْدهم فِي الشَّرْع من مُقْتَضى الْإِنْكَار، فَأمر الشَّارِع مُتَقَدم على مَا وَقع مِنْهُم فِي ذَلِك، وَإِن لم يكن فِي هَذِه الْوَاقِعَة الْخَاصَّة إِذن فَدلَّ على أَنه لَا يشْتَرط الْإِذْن الْخَاص، ويكتفي بِالْإِذْنِ الْعَام.
الْعَاشِر: فِيهِ دفع أعظم المفسدتين بِاحْتِمَال أيسرهما، وَتَحْصِيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فَإِن الْبَوْل فِيهِ مفْسدَة، وقطعه على البائل مفْسدَة أعظم مِنْهَا، فَدفع أعظمها بأيسر المفسدتين، وتنزيه الْمَسْجِد عَنهُ مصلحَة وَترك البائل إِلَى الْفَرَاغ مصلحَة أعظم مِنْهَا، فَحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
الْحَادِي عشر: فِيهِ مُرَاعَاة التَّيْسِير على الْجَاهِل والتألف للقلوب.
الثَّانِي عشر: فِيهِ الْمُبَادرَة إِلَى إِزَالَة الْمَفَاسِد عِنْد زَوَال الْمَانِع، لَان الْأَعرَابِي حِين فرغ أَمر بصب المَاء.
الثَّالِث عشر: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (أهريقوا عَلَيْهِ سجلاً من مَاء، أَو دلواً من مَاء) اعْتِبَار الْأَدَاء بِاللَّفْظِ، وَإِن كَانَ الْجُمْهُور على عدم اشْتِرَاطه، وَأَن الْمَعْنى كافٍ، وَيحمل: أَو، هَهُنَا على الشَّك، وَلَا معنى للتنويع وَلَا للتَّخْيِير وَلَا للْعَطْف، فَلَو كَانَ الرَّاوِي يرى جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لاقتصر على أَحدهمَا، فَلَمَّا تردد فِي التَّفْرِقَة بَين الدَّلْو والسجل، وهما بِمَعْنى، علم أَن ذَلِك التَّرَدُّد لموافقة اللَّفْظ، قَالَه الْحَافِظ الْقشيرِي، وَلقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا يتم هَذَا أَن لَو اتَّحد الْمَعْنى فِي السّجل والدلو لُغَة، لكنه غير مُتحد، فالسجل: الدَّلْو الضخمة المملوءة، وَلَا يُقَال لَهَا فارغة: سجل.
58 - (بابُ صَبِّ المَاءِ عَلَى البَوْلِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صب المَاء على بَوْل البائل فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الله تَعَالَى، وَإِذا جعلنَا: الْألف وَاللَّام، فِيهِ للْعهد يكون الْمَعْنى فِي: مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكون حِكَايَة عَن ذَلِك، وعَلى الأول الحكم عَام سَوَاء كَانَ فِي مَسْجِد النَّبِي اَوْ غَيره.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لَا تخفى، وَلَيْسَ لذكر الْبَاب زِيَادَة فَائِدَة، وبدونه يحصل الْمَقْصُود.
220 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْريِّ قَالَ أخْبرني عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ أنَّ أبَا هُريْرَةَ قَالَ قامَ أعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِه سَجْلاً مِنْ ماءٍ أَو ذَنُوباً مِنْ ماءٍ فانَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرينَ ولمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرينَ.
(الحَدِيث 220 طرفه فِي: 6217) .(3/127)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم: هُوَ الحكم بن نَافِع، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبيد الله إِلَى آخِره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، وَالْكل تقدمُوا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْمُفْرد. وَفِيه: العنعنة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني وبصري. وَفِيه: أَخْبرنِي عبيد الله عِنْد أَكثر الروَاة عَن الزُّهْرِيّ، وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سعيد بن الْمسيب، بدل: عبيد الله، وَتَابعه سُفْيَان بن حُسَيْن، قَالَ طَاهِر: إِن الرِّوَايَتَيْنِ صحيحتان.
وَأما بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وَكَذَلِكَ بَيَان لغاته وَإِعْرَابه.
بَيَان معانية قَوْله: (قَامَ أَعْرَابِي) ، زَاد ابْن عُيَيْنَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَغَيره فِي أَوله: (أَنه، صلى ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمداً وَلَا ترحم مَعنا أحدا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، عله الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقد تحجرت وَاسِعًا، فَلم يلبث أَن بقال فِي الْمَسْجِد) . وَسَتَأْتِي هَذِه الزِّيَادَة عِنْد المُصَنّف فِي الْأَدَب من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرج هَذَا الحَدِيث الْجَمَاعَة مَا خلا مُسلما، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه: (احتصرت وَاسِعًا) . وَأخرج ابْن مَاجَه حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع أَيْضا، وَلَفظه: (لقد حصرت وَاسِعًا وَيلك أوويحك) . قَوْله: (لقد تحجرت) أَي: ضيقت مَا وَسعه الله، وخصصت بِهِ نَفسك دون غَيْرك، ويروى: احتجرت بِمَعْنَاهُ، ومادته حاء مُهْملَة ثمَّ جِيم ثمَّ رَاء. وَقَوله: (احتصرت) ، بالمهملتين من الْحصْر، وَهُوَ الْحَبْس وَالْمَنْع. قَوْله: (فَبَال فِي الْمَسْجِد) أَي: مَسْجِد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فتناوله النَّاس) أَي: تناولوه بألسنتهم، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، تَأتي: (فثار إِلَيْهِ النَّاس) وَله فِي رِوَايَة عَن، أنس: (فَقَامُوا إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة أنس أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب: (فزجره النَّاس) . وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عبد ان شيخ البُخَارِيّ، وَفِيه: (فصاح النَّاس بِهِ) . وَكَذَا للنسائي من طَرِيق ابْن الْمُبَارك، وَلمُسلم من طَرِيق إِسْحَاق عَن أنس: (فَقَالَ الصَّحَابَة: مَه مَه) ، قَوْله: (مَه) ، كلمة بنيت على السّكُون، وَهُوَ اسْم يُسمى بِهِ الْفِعْل، وَمَعْنَاهُ: أكفف، لِأَنَّهُ زجر. فَإِن وصلت نونته، فَقلت: مَه مَه. ومه الثَّانِي تَأْكِيد، كَمَا تَقول: صه صه، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: (فَمر عَلَيْهِ النَّاس فأقاموه، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعوه، عَسى أَن يكون من أهل الْجنَّة، فصبوا على بَوْله المَاء) . قَوْله: (وهريقوا) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (واهريقوا) ، وَقد ذكرنَا أَن أصل: أهريقوا، أريقوا. قَوْله: (أَو ذنوبا من مَاء) قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ: من، زَائِدَة، وزيدت تَأْكِيدًا، وَكلمَة: أَو، يحْتَمل أَن تكون من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتكون للتَّخْيِير، وَأَن تكون من الرواي فَتكون للترديد. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَقد قُلْنَا الصَّوَاب فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (ميسرين) حَال، فَإِن قلت: الْمَبْعُوث هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف هَذَا؟ قلت: لما كَانَ المخاطبون مقتدين بِهِ ومهتدين بهذاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا مبعوثين أَيْضا، فَجمع اللَّفْظ بِاعْتِبَار ذَلِك، وَالْحَاصِل أَنه على طَريقَة الْمجَاز، لأَنهم لما كَانُوا فِي مقَام التَّبْلِيغ عَنهُ فِي حُضُوره وغيبته أطلق عَلَيْهِم ذَلِك، أَو لأَنهم لما كَانُوا مأمورين من قبله بالتبليغ فكأنهم مبعوثون من جِهَته. قَوْله: (وَلم تبعثوا معسرين) ، مَا فَائِدَته وَقد حصل المُرَاد من قَوْله: (بعثتم) إِلَى آخِره؟ قلت: هَذَا تَأْكِيد بعد تَأْكِيد، دلَالَة على أَن الْأَمر مَبْنِيّ على الْيُسْر قطعا.
221 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يحْيىَ بنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا.
(انْظُر الحَدِيث: 219 وطرفه) .
عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ لقب عبد الله الْعَتكِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الإِمَام، تقدما فِي كتاب الْوَحْي. وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ تقدم أَيْضا. وَأخرج الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عَبْدَانِ هَذَا، وَلَفظه: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قضى حَاجته قَامَ إِلَى نَاحيَة الْمَسْجِد فَبَال، فصاح بِهِ النَّاس، فكفهم عَنهُ ثمَّ قَالَ: صبوا عَلَيْهِ دلواً من مَاء) .
وحدّثنا خالِدٌ وَحدثنَا سُلَيْمانُ عنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ قالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ جاءَ أعْرَابيٌّ فَبَالَ فِي طائِفَةِ الَمسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا قَضَى(3/128)
بوْلَهُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذَنُوبٍ مِنْ ماءٍ فأُهْرِيقَ عَليْهِ.
قد تقدم أَن لَفظه: الْحَاء، عَلامَة التَّحْوِيل من إِسْنَاد الى إِسْنَاد. وَقَوله: (وَحدثنَا) بواو الْعَطف على قَوْله: (حَدثنَا عَبْدَانِ) وَرِوَايَة كَرِيمَة بِلَا: وَاو. و: مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام، وَسليمَان بن بِلَال وَكِلَاهُمَا تقدما فِي بَاب طرح الامام الْمَسْأَلَة. قَوْله: (من طَائِفَة الْمَسْجِد) أَي: قِطْعَة من أَرض الْمَسْجِد. قَوْله: (فهريق) ، بِضَم الْهَاء وَكسر الرَّاء: على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْنَاهُ: أريق، وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر. وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (فأهريق عَلَيْهِ) ، بِزِيَادَة الْهمزَة فِي أَوله. وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا إِنَّمَا يَصح على مَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ لِأَنَّهُ فعل ماضٍ وهاؤه سَاكِنة، وَأما على الأَصْل فَلَا تَجْتَمِع الْهمزَة وَالْهَاء فِي الْمَاضِي. قَالَ: ورويناه بِفَتْح الْهَاء، وَلَا أعلم لذَلِك وَجها.
وفوائد هَذَا الحَدِيث قد مرت. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: تعْيين المَاء لإِزَالَة النَّجَاسَة لِأَن الْجَفَاف بِالرِّيحِ أَو الشَّمْس لَو كَانَ يَكْفِي لما حصل التَّكْلِيف بِطَلَب الدَّلْو. قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لِأَن ذكر المَاء لَا يَنْفِي غَيره، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق. وَكَذَا قَوْله: وَفِيه أَن الأَرْض تطهر بصب المَاء عَلَيْهَا وَلَا يشْتَرط حفرهَا، خلافًا للحنفية، فَاسد، لأَنا ذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب أَنه ورد الْأَمر بِالْحفرِ فِي حديثين مسندين وحديثين مرسلين، والمراسيل حجَّة عِنْدهم.
59 - (بابُ بَوْلِ الصِّبْيَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بَوْل الصّبيان، وَهُوَ، بِكَسْر الصَّاد: جمع صبي. قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّبِي: الْغُلَام، وَالْجمع: صبية وصبيان، وَهُوَ من الواوي. وَفِي (الْمُخَصّص) : ذكر بن سَيّده عَن ثَابت: يكون صبيان مَا دَامَ رضيعاً، وَفِي (الْمُنْتَخب) للكراع: أول مَا يُولد الْوَلَد يُقَال لَهُ: وليد، وطفل، وَصبي. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: صبي وصبيان وصبوان، وَهَذِه أضعفها. وَقَالَ ابْن السّكيت: صبية وصبوة، وَفِي (الْمُحكم) صبية وصبية وصبوان وصبوان. وَقَالَ بَعضهم: الصّبيان، بِكَسْر الصَّاد، وَيجوز ضمهَا، جمع: صبي. قلت: فِي الضَّم لَا يُقَال إلاَّ صبوان بِالْوَاو، وَقد وهم هَذَا الْقَائِل حَيْثُ لم يعلم الْفرق بَين الْمَادَّة الواوية والمادة اليائية، وأصل: صبيان، بِالْكَسْرِ: صبوان، لِأَن الْمَادَّة واوية، فقلبت الْوَاو يَاء، لانكسار مَا قبلهَا.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى.
222 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبرنا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ أمِّ المُؤْمِنينَ أنَّها قالَتْ اُتِيَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَبيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِه فَدَعا بِماءٍ فَأتْبَعَهُ إيَّاهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَالْكل قد تقدمُوا، وَعبد الله هُوَ التنيسِي، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (بصبي) ، قد مر تَفْسِير الصَّبِي الْآن وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة: أَن هَذَا الصَّبِي هُوَ عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (وَأَنَّهَا قَالَت: فَأَخَذته أخذا عنيفاً، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه لم يَأْكُل الطَّعَام فَلَا يضر بَوْله) . وَفِي لفظ: (فَإِنَّهُ لم يطعم الطَّعَام فَلم يقذر بَوْله) . وَقد قيل: إِنَّه الْحسن، وَقيل: إِنَّه الْحُسَيْن. وَقَالَ بَعضهم: يظْهر لي أَن المُرَاد بِهِ ابْن ام قيس الْمَذْكُور بعده. قلت: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر أصلا، وَالظَّاهِر أحد الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وأظهرها مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْله: (فَاتبعهُ إِيَّاه) أَي: فَاتبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَوْل الَّذِي على الثَّوْب المَاء، وَذَلِكَ بصبه عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة مُسلم زَاد: (وَلم يغسلهُ) ، وَلابْن الْمُنْذر من طَرِيق الثَّوْريّ عَن هِشَام: (فصب عَلَيْهِ المَاء) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من طَرِيق زَائِدَة الثَّقَفِيّ عَن هِشَام: (فنضحه عَلَيْهِ) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الشَّافِعِيَّة احْتَجُّوا بِهَذَا على أَن بَوْل الصَّبِي يُكتفى فِيهِ بِاتِّبَاع المَاء إِيَّاه، وَلَا(3/129)
يحْتَاج إِلَى الْغسْل لظَاهِر رِوَايَة مُسلم. وَلم يغسلهُ، وَعَن هَذَا قَالَ بَعضهم بِطَهَارَة بَوْله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْخلاف فِي كَيْفيَّة تَطْهِير الشَّيْء الَّذِي بَال عَلَيْهِ الصَّبِي، وَلَا خلاف فِي نَجَاسَته، وَقد نقل بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع الْعلمَاء على نَجَاسَة بَوْل الصَّبِي، وَأَنه لم يُخَالف فِيهِ إلاَّ دَاوُد. وَأما مَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن بن بطال، ثمَّ القَاضِي عِيَاض عَن الشَّافِعِي وَغَيره أَنهم قَالُوا: بَوْل الصَّبِي طَاهِر وينضح، فحكايته بَاطِلَة قطعا. قلت: هَذَا إِنْكَار من غير برهَان، وَلم ينْقل هَذَا عَن الشَّافِعِي وَحده، بل نقل عَن مَالك أَيْضا أَن بَوْل الصَّغِير الَّذِي لَا يطعم طَاهِر، وَكَذَا نقل عَن الْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ وَكَيْفِيَّة طَهَارَة بَوْل الصَّبِي وَالْجَارِيَة على ثَلَاثَة مَذَاهِب: وفيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمُخْتَار أَنه يَكْفِي النَّضْح فِي بَوْل الصَّبِي وَلَا يَكْفِي فِي بَوْل الْجَارِيَة، بل لَا بُد من غسله كَغَيْرِهِ من النَّجَاسَات. وَالثَّانِي: أَنه يَكْفِي النَّضْح فيهمَا. وَالثَّالِث: لَا يَكْفِي النَّضْح فيهمَا، وهما شَاذان ضعيفان. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْفرقِ: عَليّ بن أبي طَالب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن وهب من أَصْحَاب مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، قلت: علم من ذَلِك أَن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي هُوَ التَّفْرِيق بَين حكم بَوْل الصَّبِي وَبَوْل الصبية قبل أَن يَأْكُل الطَّعَام، وَأَنه يدل على أَن بَوْل الصَّبِي طَاهِر، وَبَوْل الصبية نجس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر.
وَاحْتَجُّوا على ذَلِك باحاديث مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، الْمَذْكُور. لِأَن إتباع المَاء الْبَوْل هُوَ النَّضْح دون الْغسْل، وَلِهَذَا صرح فِي رِوَايَة مُسلم: (وَلم يغسلهُ) ، وَعدم الْغسْل دلّ على طَهَارَة بَوْل الصَّبِي. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الرَّضِيع: (يغسل بَوْل الْجَارِيَة وينضح بَوْل الْغُلَام) ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَمِنْهَا: حَدِيث لبَابَة بنت الْحَارِث، أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (كَانَ الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَال عَلَيْهِ، فَقلت: إلبس ثوبا وَأَعْطِنِي إزارك حَتَّى أغسله. قَالَ: إِنَّمَا يغسل من بَوْل الْأُنْثَى وينضح من بَوْل الذّكر) ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) والكبحي فِي (سنَنه) وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي (سنَنه) من وُجُوه كَثِيرَة، والطَّحَاوِي أَيْضا من وَجْهَيْن. وَمِنْهَا: حَدِيث أم قيس على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله. وَمِنْهَا: حَدِيث زَيْنَب بنت جحش، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: (أَنه يصب من الْغُلَام وَيغسل من الْجَارِيَة) ، وَفِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم وَهُوَ ضَعِيف. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي السَّمْح، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالَ: (كنت أخدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... .) الحَدِيث، وَفِيه: (يغسل من بَوْل الْجَارِيَة ويرش من بَوْل الْغُلَام) ، وَأَبُو السَّمْح، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، وَلَا يعرف لَهُ اسْم وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث، كَذَا قَالَه ابو زرْعَة الرَّازِيّ، وَقيل: اسْمه إياد. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بصبي فَبَال عَلَيْهِ، فنضحه وَأتي بِجَارِيَة فبالت عَلَيْهِ فَغسله) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ، قَالَ: (أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو، جلده، بَوْل صبي وَهُوَ صَغِير، فصب عَلَيْهِ من المَاء بِقدر الْبَوْل) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس بن مَالك أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: (يصب على بَوْل الْغُلَام وَيغسل بَوْل الْجَارِيَة) . وَفِي إِسْنَاده نَافِع بن هُرْمُز، وَأَجْمعُوا على ضعفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه أَيْضا فِي (الْكَبِير) : (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بالحسين فَجعل يقبله، فَبَال عَلَيْهِ، فَذَهَبُوا ليتناولوه فَقَالَ: ذرْوَة، فَتَركه حَتَّى فرغ من بَوْله) . وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن معدان، وَأَجْمعُوا على ضعفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْده أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) أَن الْحسن، أَو الْحُسَيْن، بَال على بطن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَا تزرموا ابْني أَو، لَا تستعجلوه، فَتَرَكُوهُ حَتَّى قضى بَوْله، فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم كرز، أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَوْل الْغُلَام ينضح وَبَوْل الْجَارِيَة يغسل) ، وَمذهب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك أَنه لَا يفرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالصَّغِيرَة فِي نَجَاسَته، وجعلوهما سَوَاء فِي وجوب غسله مِنْهُمَا، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد ابْن الْمسيب وَالْحسن بن حَيّ وَالثَّوْري.
وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن النَّضْح هُوَ صب المَاء لِأَن الْعَرَب تسمي ذَلِك نضحاً، وَقد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، وَكَذَلِكَ الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل.
أما الأول: فَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره: (عَن الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن عَليّ بن ابي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أمره أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل إِذا دنا من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: عَليّ: فَأن(3/130)
عِنْدِي ابْنَته وانا استحي أَن اسأله. قَالَ الْمِقْدَاد: فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة) ، ثمَّ الَّذِي يدل على أَنه أُرِيد بالنضح هَهُنَا الْغسْل، مَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فامرت الْمِقْدَاد بن الْأسود فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) . والقصة وَاحِدَة، والراوي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحِد، وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن سهل بن حنيف قَالَ: (كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة، وَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل، فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّمَا يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء. قلت: يَا رَسُول الله فَكيف بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من مَاء فتنضح بِهِ من ثَوْبك حَيْثُ يرى أَنه أَصَابَهُ) . وَأَنه أَرَادَ بالنضح هَهُنَا الْغسْل.
واما الثَّانِي: وَهُوَ أَن الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل، فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه لما حكى وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ غرفَة من مَاء فرش على رجله الْيُمْنَى حَتَّى غسلهَا، وَأَرَادَ بالرش هَهُنَا صب المَاء قَلِيلا قَلِيلا، وَهُوَ الْغسْل بِعَيْنِه.
وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما الْغسْل قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي حَدِيث أَسمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (تَحْتَهُ ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ ثمَّ تنضحه ثمَّ تصلي فِيهِ) . مَعْنَاهُ: تغسله، هَذَا فِي رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (حتيه ثمَّ اقرضيه ثمَّ رشيه وَصلي فِيهِ) . أَرَادَ: اغسليه، قَالَه الْبَغَوِيّ، فَلَمَّا ثَبت أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما الْغسْل، وَجب حمل مَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَاب من النَّضْح والرش على الْغسْل بِمَعْنى إسالة المَاء عَلَيْهِ من غير عَرك، لِأَنَّهُ مَتى صب المَاء عَلَيْهِ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى تقاطر وسال حصل الْغسْل، لِأَن الْغسْل هُوَ الإسالة. فَافْهَم.
فَإِن قلت: قد صرح فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره: (فَاتبعهُ بَوْله وَلم يغسلهُ) ، فَكيف يحمل النَّضْح والرش على الْغسْل؟ قلت: مَعْنَاهُ وَلم يغسلهُ بالعرك كَمَا يغسل الثِّيَاب إِذا أصابتها النَّجَاسَة، وَنحن نقُول بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَأما حَقِيقَة النَّضْح هَهُنَا فقد اخْتلف اصحابنا فِيهَا، فَذهب الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ إِلَى أَن مَعْنَاهُ أَن الشَّيْء الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل يغمر بِالْمَاءِ كَسَائِر النَّجَاسَات، بِحَيْثُ لَو عصر لانعصر، وَذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ والمحققون إِلَى أَن النَّضْح أَن يغمر ويكاثر بِالْمَاءِ مكاثرة لَا يبلغ جَرَيَان المَاء وتقاطره، بِخِلَاف المكاثرة فِي غَيره، فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهَا أَن يكون بِحَيْثُ يجْرِي بعض المَاء ويتقاطر من الْمحل، وَإِن لم يشْتَرط عصره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، ثمَّ إِن النَّضْح إِنَّمَا يجزىء مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر بِهِ على الرَّضَاع، أما إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب الْغسْل بِلَا خلاف، وسنقول معنى النَّضْح مِمَّا قَالَه أهل اللُّغَة فِي الحَدِيث الْآتِي، وَلَا فرق بَين النَّضْح وَالْغسْل فِيمَا قَالَه الْبَغَوِيّ والجويني. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، أَرَادَ أَن الْحَنَفِيَّة اتبعُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الْقيَاس، يَعْنِي: تركُوا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وذهبوا إِلَى الْقيَاس، وَقَالُوا: المُرَاد من قَوْلهمَا، أَي: من قَول أم قيس، وَلم يغسلهُ، أَي: غسلا مبالغاً فِيهِ، وَهُوَ خلاف الظَّاهِر.
ويبعده مَا ورد فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر الَّتِي فِيهَا التَّفْرِقَة بَينهمَا أوجه: مِنْهَا: مَا هُوَ رَكِيك، وَأقوى ذَلِك مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور مِنْهَا بالإناث، يَعْنِي: فحصت الرُّخْصَة فِي الذُّكُور لِكَثْرَة الْمَشَقَّة. قلت: نقل عَن بَعضهم للغمز على الْحَنَفِيَّة، وَلَكِن هَذَا لَا يشفي غلتهم، فَقَوله: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، غير صَحِيح، لأَنهم مَا اتبعُوا فِي ذَلِك إلاَّ الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج خصمهم بهَا، وَلَكِن على غير الْوَجْه الَّذِي ذكرُوا، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن محرراً، على أَنه قد رُوِيَ عَن بعض الْمُتَقَدِّمين من التَّابِعين مَا يدل على أَن الأبوال كلهَا سَوَاء فِي النَّجَاسَة، وَأَنه لَا فرق بَين بَوْل الذّكر والانثى، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلهَا. حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن حميد عَن الْحسن أَنه قَالَ: بَوْل الْجَارِيَة يغسل غسلا وَبَوْل الْغُلَام يتبع بِالْمَاءِ، أَفلا يرى أَن سعيداً قد سوى بَين حكم الأبوال كلهَا، من الصّبيان وَغَيرهم، فَجعل مَا كَانَ مِنْهُ رشاً يطهر بالرش، وَمَا كَانَ مِنْهُ صبا يطهر بالصب، لَيْسَ لِأَن بَعْضهَا عِنْده طَاهِر وَبَعضهَا غير طَاهِر، وَلكنهَا كلهَا عِنْده نَجِسَة، وَفرق بَين التَّطْهِير من نجاستها عِنْده بِضيق مخرجها وسعته إنتهى كَلَام الطَّحَاوِيّ وَمعنى قَوْله: وَفرق ... إِلَى آخِره، أَن مخرج الْبَوْل من الصَّبِي ضيق فيرش الْبَوْل، وَمن الْجَارِيَة وَاسع فَيصب الْبَوْل صبا، فيقابل الرش بالرش والصب بالصب.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النّدب إِلَى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وَغَيرهم.
وَمِنْهَا اسْتِحْبَاب حمل الاطفال إِلَى أهل الْفضل للتبرك بهم، وَسَوَاء فِي هَذَا الِاسْتِحْبَاب الْمَوْلُود حَال وِلَادَته أَو بعْدهَا.(3/131)
223 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شهابٍ عنْ عُبيْدٍ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ عنْ أمِّ قَيْسٍ بنْتِ مِحْصَنٍ أنَّها أتَتْ بِابن لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكلِ الطَّعَامَ إِلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأجْلَسَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فدَعا بِماءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
(الحَدِيث 223 طرفه فِي: 5693) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة تقدمُوا كلهم، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأم قيس، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. ومحصن، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون، وَهِي أُخْت عكاشة ابْن مُحصن، أسلمت بِمَكَّة قَدِيما، وبايعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَاجَرت إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُوِيَ لَهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، فِي الصَّحِيحَيْنِ. مِنْهَا إثنان، وَهِي من المعمرات. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اسْمهَا جذامفة، بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ السُّهيْلي: اسْمهَا آمِنَة، وَذكرهَا الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) فِي الكنى، وَلم يذكرهَا لَهَا اسْما.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والعنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا فَقَط. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة: فَمُسلم فِي الطِّبّ عَن ابْن أبي عمر، وَفِيه وَفِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن ابي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَأبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب، خمستهم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن رمح عَن اللَّيْث بن سعد وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأحمد بن منيع، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (بابنٍ لَهَا) الإبن: لَا يُطلق إلاَّ على الذّكر بِخِلَاف: الْوَلَد. قَوْله: (صَغِير) هُوَ ضد: الْكَبِير، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ: الرَّضِيع، لِأَنَّهُ فسره بقوله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) ، فَإِذا أكل يُسمى: فطيماً، وَغُلَامًا أَيْضا إِلَى سبع سِنِين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْغُلَام هُوَ الصَّغِير إِلَى حد الالتحاء. وَقَالَ بَعضهم من أهل اللُّغَة: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ: جَنِين، فاذا وَلدته يُسمى: صَبيا مَا دَامَ رضيعاً، فَإِذا فطم يُسمى غُلَاما إِلَى سبع سِنِين، فَمن هَذَا عرفت أَن الصَّغِير يُطلق إِلَى حد الالتحاء من حِين يُولد، فَلذَلِك قيد فِي الْحَدث بقوله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) ، وَالطَّعَام فِي اللُّغَة مَا يُؤْكَل، وَرُبمَا خص الطَّعَام بِالْبرِّ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (كُنَّا نخرج صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير) . والطعم، بِالْفَتْح: مَا يُؤَدِّيه الذَّوْق، وَيُقَال: طعمه مر، والطعم، بِالضَّمِّ: الطَّعَام: وَقد طعم يطعم طعماً فَهُوَ طاعم إِذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم، الذَّوْق، يُقَال: طعمه مر، والطعم، بِالضَّمِّ: الطَّعَام. وَقد طعم يطعم طعماً فَهُوَ طاعم إِذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم، قَالَ تَعَالَى: {فاذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} (الْأَحْزَاب: 53) وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن لم يطعمهُ فانه منى} (الْبَقَرَة: 249) اي: من لم يذقه، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا: وَمن لم يطعمهُ وَمن لم يذقه، من طعم الشَّيْء إِذا ذاقه. وَمِنْه: طعم الشَّيْء لمذاقه، قَالَ:
(وان شِئْت لم اطعم نقاخا وَلَا بردا)
أَلاَ ترى كَيفَ عطف عَلَيْهِ الْبرد وَهُوَ النّوم؟ قلت: أَو الْبَيْت.
(وان شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم.)
والنقاخ، بِضَم النُّون وبالقاف وَالْخَاء الْمُعْجَمَة: المَاء العذب، وَقَالَ بَعضهم: وَقد أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ: المُرَاد من الطَّعَام مَا عدا اللَّبن الَّذِي يرتضعه، وَالتَّمْر الَّذِي يحنك بِهِ، وَالْعَسَل الَّذِي يلعقه للمداواة وَغَيرهَا. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذِه التقديرات، لِأَن المُرَاد من قَوْله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) لم يقدر على مضغ الطَّعَام وَلَا على دَفعه إِلَى بَاطِنه، لِأَنَّهُ رَضِيع لَا يقدر على ذَلِك، أما اللَّبن فَإِنَّهُ مشروب غير مَأْكُول فَلَا يحْتَاج إِلَى استثنائه لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي. قَوْله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) حَتَّى يسْتَثْنى مِنْهُ، وَأما التَّمْر الَّذِي يحنك بِهِ، أَو الْعَسَل الَّذِي يلعقه، فَلَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، بل بعنف من فَاعله قصدا للتبرك أَو المداواة، فَلَا حَاجَة أَيْضا لاستثنائهما، فَعلم مِمَّا ذكرنَا أَن المُرَاد من قَوْله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) أَي: قصدا أَو اسْتِقْلَالا أَو تقوياً فَهَذَا شَأْن الصَّغِير الرَّضِيع، وَقد علمت من هَذَا أَن الَّذِي نَقله الْقَائِل الْمَذْكُور من النَّوَوِيّ، وَمن نكت التَّنْبِيه صادر من غير روية وَلَا تَحْقِيق، وَكَذَلِكَ لَا يحْتَاج إِلَى سُؤال الْكرْمَانِي وَجَوَابه هَهُنَا، بقوله: فان قلت: اللَّبن طَعَام، فَهَل يخص الطَّعَام بِغَيْر اللَّبن أم لَا؟ قلت: الطَّعَام هُوَ مَا يُؤْكَل، وَاللَّبن مشروب لَا مَأْكُول فَلَا يخصص، قَوْله: (فأجلسه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الابْن.(3/132)
قَالَ بَعضهم: أَي وَضعه. إِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ كَمَا ولد، وَيحْتَمل أَن يكون الْجُلُوس حصل مِنْهُ على الْعَادة. إِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ فِي سنّ من يحبو. قلت: لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك لِأَن الْجُلُوس يكون عَن نوم أَو اضطجاع، وَإِذا كَانَ قَائِما كَانَت الْحَال الَّتِي يُخَالِفهَا الْقعُود، وَالْمعْنَى هَهُنَا: أَقَامَهُ عَن مضجعه، لِأَن الظَّاهِر أَن أم قيس أَتَت بِهِ وَهُوَ فِي قماطة مُضْطَجع، فأجلسه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: أَقَامَ فِي حجره، وَإِن كَانَت اتت بِهِ وَهُوَ فِي يَدهَا، بِأَن كَانَ عمره مِقْدَار سنة أَو جاوزها قَلِيلا، وَالْحَال أَنه رَضِيع، يكون الْمَعْنى: تنَاوله مِنْهَا وَأَجْلسهُ فِي حجره وَهُوَ يمسِكهُ لعدم مسكته، لِأَن أصل تركيب هَذِه الْمَادَّة يدل على ارْتِفَاع فِي الشَّيْء، و: الْحجر، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَسُكُون الْجِيم، لُغَتَانِ مشهورتان. قَوْله: (فَبَال على ثَوْبه) الظَّاهِر أَن الضَّمِير فِي ثَوْبه يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قيل: إِنَّه يرجع إِلَى الابْن اي: بَال الابْن على الثَّوْب نَفسه، وَهُوَ فِي حجره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فنضح عَلَيْهِ المَاء خوفًا أَن يكون طَار على ثَوْبه مِنْهُ شَيْء. قلت: هَذَا مِمَّا يُؤَيّد قَول الْحَنَفِيَّة، وَقد نسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن شعْبَان. قَوْله: (فنضحه) ، قد ذكرنَا أَن النَّضْح هُوَ الرش، وَقَالَ ابْن سَيّده: نضح المَاء عَلَيْهِ ينضحه نضحاً إِذا ضربه بِشَيْء فَأَصَابَهُ مِنْهُ رشاش، ونضح عَلَيْهِ المَاء: رش. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النَّضْح مَا كَانَ على اعْتِمَاد، والنضح مَا كَانَ على غير اعْتِمَاد. وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى، وَكله: رش. قلت: الأول: بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَالثَّانِي: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَفِي (الواعي) لأبي مُحَمَّد، و (الصِّحَاح) لأبي نصر، و (الْمُجْمل) لِابْنِ فَارس، و (الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد، وَابْن القطوية وَابْن القطاع وَابْن طريف فِي (الافعال) والفارابي فِي (ديوَان الادب) وكراع فِي (الْمُنْتَخب) وَغَيرهم: النَّضْح الرش، وَقد استقصينا الْكَلَام بِهِ فِي الحَدِيث السَّابِق مستقصىً. قَوْله: (وَلم يغسلهُ) ، وَلمُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَن ابْن شهَاب: (فَلم يزدْ على أَن نضح بِالْمَاءِ) ، وَله من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب: فرشَّه. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ بَين نضح ورش، لِأَن المُرَاد بِهِ أَن الِابْتِدَاء كَانَ بالرش وَهُوَ بتنقيط المَاء. فَانْتهى إِلَى النَّضْح، وَهُوَ صب المَاء، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عَائِشَة من طَرِيق جرير عَن هِشَام: (فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) ، وَلأبي عوَانَة: (فَصَبَّهُ على الْبَوْل يتبعهُ إِيَّاه) . قلت: عدم التخالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ من الْوَجْه الَّذِي ذكره، بل بِاعْتِبَار أَن النَّضْح والرش بِمَعْنى، كَمَا ذكرنَا عَن الْكتب الْمَذْكُورَة، وَالْوَجْه الَّذِي ذكره لَيْسَ بِوَجْه على مَا لَا يخفى، وَأما رِوَايَة مُسلم فَإِنَّهَا تثبت أَن النَّضْح بِمَعْنى: الصب، لِأَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب، باخْتلَاف ألفاظها، تَنْتَهِي إِلَى معنى وَاحِد، دفعا للتضاد. أَلا ترى أَن أم الْفضل، لبَابَة بنت الْحَارِث، قد رُوِيَ عَنْهَا حديثان: أَحدهمَا فِيهِ النَّضْح، وَالثَّانِي: فِيهِ الصب، فَحمل النَّضْح على الصب دفعا للتضاد، وَعَملا بِالْحَدِيثين على أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي حكم وَاحِد باخْتلَاف ألفاظها يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَمن الدَّلِيل على أَن النَّضْح هُوَ صب المَاء وَالْغسْل من غير عَرك قَول الْعَرَب: غسلني السَّمَاء، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِك عِنْد انصباب الْمَطَر عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ يُقَال غسلني التُّرَاب: إِذا انصب عَلَيْهِ. فَإِن قلت: يُعَكر على هَذَا قَوْله: (فنضحه وَلم يغسلهُ) قلت: قد مر جَوَابه فِي تَفْسِير الحَدِيث السَّابِق، على أَن الْأصيلِيّ ادّعى أَن قَوْله: (وَلم يغسلهُ) من كَلَام ابْن شهَاب رَاوِي الحَدِيث، وَأَن الْمَرْفُوع انْتهى عِنْد قَوْله: (فنضحه) . قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معمر عَن ابْن شهَاب، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة، قَالَ: فرشه، وَلم يزدْ على ذَلِك.
وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: (لَهَا) : جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لِابْنِ، وَكَذَلِكَ، قَوْله: (صَغِير) بِالْجَرِّ صفة ابْن، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) ، وَقَوله: (إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: إِلَى، تتَعَلَّق بقوله: (اتت) ، و: الْفَا آتٍ، الْأَرْبَعَة للْعَطْف بَين الْكَلَام، بِمَعْنى التعقيب.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: حكم بَوْل الْغُلَام الرَّضِيع وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى. وَمِنْهَا: الرِّفْق بالصغار والشفقة عَلَيْهِم، أَلا ترى أَن سيد الْأَوَّلين والآخرين كَيفَ كَانَ يَأْخُذهُمْ فِي حجره ويتلطف بهم؟ حَتَّى إِن مِنْهُم من يَبُول على ثَوْبه فَلَا يُؤثر فِيهِ ذَلِك، وَلَا يتَغَيَّر، وَلِهَذَا كَانَ يُخَفف الصَّلَاة عِنْد سَمَاعه بكاء الصَّبِي وَأمه وَرَاءه، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: من لم يرحم صَغِيرنَا فَلَيْسَ منا. وَمِنْهَا: حمل الْأَطْفَال إِلَى أهل الْفضل وَالصَّلَاح ليدعوا لَهُم، سَوَاء كَانَ عقيب الْولادَة أَو بعْدهَا، وَقَالَ بَعضهم: حمل الاطفال حَال الْولادَة. قلت: حملهمْ حَال الْولادَة غير مُتَصَوّر، فَهَذَا كَلَام صادر عَن غير ترو، وَأَيْضًا قَالَ هَذَا الْقَائِل: فِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد كَذَا وَكَذَا، وعدَّ مِنْهَا: تحنيك الْمَوْلُود، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك صَرِيحًا، وَإِن كَانَ جَاءَ هَذَا فِي أَحَادِيث أخر لِأَن ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن أم قيس إِنَّمَا أَتَت بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل التَّبَرُّك، ولدعائه لَهُ، لِأَن من(3/133)
دَعَا لَهُ هَذَا النَّبِي الْكَرِيم يسْعد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن كَانَ فِيهِ احْتِمَال التحنيك.
60 - (بابُ البَوْلِ قائِماً وقاعِداً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل حَال كَونه قَائِما وَحَال كَونه قَاعِدا. قيل: دلَالَة الحَدِيث على الْقعُود بطرِيق الأولى لِأَنَّهُ إِذا جَازَ قَائِما فقاعداً أجوز. وَأجَاب بَعضهم بقوله: وَيحْتَمل أَن يكون أَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا، فَإِن فِيهِ: (بَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا، فَقُلْنَا: انْظُرُوا، اليه يَبُول كَمَا تبول الْمَرْأَة) . قلت: قَوْله: دلَالَة الحَدِيث ... إِلَى آخِره، غير مُسلم، لِأَن أَحَادِيث الْبَاب كلهَا فِي الْبَوْل قَائِما، وَجَوَاز الْبَوْل قَائِما حكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ جَوَاز الْبَوْل قَاعِدا بطرِيق الْعقل؟ وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: لما ورد فِي هَذَا الْبَاب جوز الْبَوْل قَائِما وجوازه قَاعِدا بِأَحَادِيث كَثِيرَة، أورد البُخَارِيّ أَحَادِيث الْفَصْل الأول فَقَط؛ وَفِي التَّرْجَمَة أَشَارَ إِلَى الْفَصْلَيْنِ إِمَّا اكْتِفَاء لشهرة الْفَصْل الثَّانِي، وَعمل أَكثر النَّاس عَلَيْهِ، وَإِمَّا إِشَارَة إِلَى أَنه وقف عل أَحَادِيث الْفَصْلَيْنِ، وَلكنه اقْتصر على أَحَادِيث الْفَصْل الأول لكَونهَا على شَرطه.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلا مِنْهُمَا فِي أَحْكَام الْبَوْل، وَكَذَلِكَ بَينه وَبَين الْبَاب الَّذِي يَأْتِي، وَالَّذِي يَأْتِي بعده أَيْضا، وَالْحَاصِل أَن هُنَا تِسْعَة أَبْوَاب كلهَا فِي أَحْكَام الْبَوْل، والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة لَا تخفى.
224 - حدّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الاَعْمَشِ عنْ أبي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ قالَ أتَى النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُباطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قائِماً ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لَا يُقَال: التَّرْجَمَة أَعم، لأَنا ذكرنَا فِيمَا مضى مَا يَكْفِي فِي رده.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة تقدمُوا كلهم، وآدَم: هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَالْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَأَبُو وَائِل: هُوَ شَقِيق الْكُوفِي، وَحُذَيْفَة: هُوَ ابْن الْيَمَان.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين خراساني وكوفي. وَفِيه: عَن أبي وَائِل، وَلأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش أَنه: سمع أَبَا وَائِل، وَلأَحْمَد عَن يحيى الْقطَّان عَن الْأَعْمَش: حَدثنِي أَبُو وَائِل.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم عَن شُعْبَة، وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب مُخْتَصرا كَمَا هَهُنَا، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عرْعرة، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير، وَأول حَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة: كَانَ أَبُو مُوسَى يشدد على الْبَوْل، وعَلى مَا سَيَأْتِي عَن قريب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن أبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ وَفِيه ذكر الْمسْح، وَعَن يحيى بن يحيى عَن جرير نَحْو حَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر وَمُسلم ابْن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة، وَعَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع عَن الْأَعْمَش بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن يحيى بن يُونُس، وَعَن المؤمل بن هِشَام عَن ابْن علية عَن شُعْبَة، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَعَن ابْن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بِهِ، وَعَن سُلَيْمَان بن عبد الله الغيلاني عَن بهز عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش وَمَنْصُور بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمسْح إلاَّ فِي حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، وَفِي حَدِيث بهز. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن شريك وهشيم ووكيع، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش بِهِ من غير ذكر الْمسْح.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (سباطة قوم) السباطة: على وزن فعالة بِالضَّمِّ، وَهُوَ: الْموضع الَّذِي يرْمى فِيهِ التُّرَاب بالأفينة مرفعاً. وَقيل: السباطة: الكناسة نَفسهَا، وَكَانَت بِالْمَدِينَةِ، ذكره مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن الْأَعْمَش. قَوْله: (قَائِما) نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (فَبَال) .
بَيَان الْمَعْنى إِضَافَة السباطة إِلَى الْقَوْم إِضَافَة اخْتِصَاص لَا ملك، لِأَنَّهَا كَانَت بِفنَاء دُورهمْ للنَّاس كلهم، فاضيف إِلَيْهِم لقربها مِنْهُم، وَلِهَذَا بَال، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، عَلَيْهَا، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من قَالَ: إِن الْبَوْل يوهن الْجِدَار وَفِيه ضَرَر، فَكيف هَذَا من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ وَقد يُقَال: إِنَّمَا بَال فَوق(3/134)
السباطة لَا فِي أصل الْجِدَار، وَقد صرح بِهِ فِي رِوَايَة أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) ، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون علم أذنهم فِي الْجِدَار بالتصريح أَو غَيره، أَو لكَونه مِمَّا يتَسَامَح النَّاس بِهِ، أَو لعلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإيثارهم إِيَّاه بذلك، يجوز لَهُ التَّصَرُّف فِي مَالك أمته دون غَيره، وَلِأَنَّهُ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وَأَمْوَالهمْ. قلت: هَذَا كُله على تَقْدِير أَن تكون السباطة ملكا لأحد أَو لجَماعَة مُعينين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأظْهر الْوُجُوه أَنهم كَانُوا يؤثرون ذَلِك وَلَا يكرهونه بل يفرحون بِهِ، وَمن كَانَ هَذَا حَاله جَازَ الْبَوْل فِي أرضه وَالْأكل من طَعَامه. قلت: هَذَا أَيْضا على تَقْدِير أَن تكون السباطة ملكا لقوم. فَإِن قلت: كَانَ من عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التباعد فِي الْمَذْهَب، وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا ذهب الْمَذْهَب أبعد) . وَالْمذهب، بِالْفَتْح: الْموضع الَّذِي يتغوط فِيهِ. وَأخرجه بَقِيَّة الْأَرْبَعَة أَيْضا. قلت: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَشْغُولًا فِي ذَلِك الْوَقْت بِأُمُور الْمُسلمين وَالنَّظَر فِي مصالحهم، فَلَعَلَّهُ طَال عَلَيْهِ الْأَمر، فَأتى السباطة حِين لم يُمكنهُ التباعد، وَأَنه لَو أبعد لَكَانَ تضرر. فان قلت: روى ابو دَاوُد من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه قَالَ: (كنت مَعَ رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم، فَأَرَادَ ان يَبُول فَأتى دمثا فِي أصل جِدَار فَبَال) الحَدِيث، فَهَذَا يُخَالف مَا ذكرت فِيمَا مضى عَن قريب. قلت: يجوز أَن يكون الْجِدَار هَهُنَا عادياً غير مَمْلُوك لأحد، أَو يكون قعوده متراخيا عَن جرمه فَلَا يُصِيبهُ الْبَوْل. قَوْله: (ثمَّ دَعَا بِمَاء) زَاد مُسلم وَغَيره من طرق الْأَعْمَش: (فتنحيت فَقَالَ: ادنه، فدنوت حَتَّى قُمْت عِنْد عقبه) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (أَتَى سباطة قوم فتباعدت مِنْهُ، فأدناني حَتَّى صرت قَرِيبا من عقبه، فَبَال قَائِما، ودعا بِمَاء فَتَوَضَّأ بِهِ وَمسح على خفيه) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الاول: فِيهِ جَوَاز الْبَوْل قَائِما فقاعداً أجوز لِأَنَّهُ أمكن، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا فأباحه قوم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن عمر وَابْنه وَزيد بن ثَابت وَسَهل بن سعد أَنهم بالوا قيَاما، وأباحه سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة ومحمدابن سِيرِين وَزيد بن الْأَصَم وَعبيدَة السَّلمَانِي وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَالشعْبِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ، وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ فِي مَكَان لَا يتطاير عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء فَلَا بَأْس بِهِ، وإلاَّ فمكروه. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء: الْبَوْل قَائِما مَكْرُوه إلاَّ لعذر، وَهِي كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، وَكَذَلِكَ رُوِيَ وَالْبَوْل قَائِما عَن أنس وَعلي بن أبي طَالب وابي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم وَكَرِهَهُ ابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم لَا يُجِيز شَهَادَة من بَال قَائِما، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: الْبَوْل جَالِسا أحب إِلَيّ، وَقَائِمًا مُبَاح، وكل ذَلِك ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قلت: رويت أَحَادِيث ظَاهرهَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب. مِنْهَا: حَدِيث الْمِقْدَاد عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (من حَدثَك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما فَلَا تصدقه، أَنا رَأَيْته يَبُول قَاعِدا) ، أخرجه البستي فِي (صَحِيحه) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث عَائِشَة أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأَصَح. وَأخرج أَبُو عوَانَة الإسفرائيني فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (مَا بَال قَائِما مُنْذُ أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن) . وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة، رَوَاهُ الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد حَدثنَا سعيد بن عبيد الله حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ثَلَاث من الْجفَاء: أَن يَبُول الرجل قَائِما) الحَدِيث، وَقَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إلاَّ سعيد بن عبد الله، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحَدِيث بُرَيْدَة فِي هَذَا غير مَحْفُوظ، وَقَول التِّرْمِذِيّ يرد بِهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن جريج: أخبرنَا عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبول قَائِما، فَقَالَ: يَا عمر! لَا تبل قَائِما. قَالَ: فَمَا بلت قَائِما بعد) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عدي بن الْفضل عَن عَليّ بن الحكم عَن أبي نَضرة عَن جَابر: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبُول الرجل قَائِما) .
قلت: أما الْجَواب عَن حَدِيث عَائِشَة إِنَّه مُسْتَند إِلَى علمهَا فَيحمل على مَا وَقع مِنْهُ فِي الْبيُوت، وَأما فِي غير الْبيُوت فَلَا تطلع هِيَ عَلَيْهِ، وَقد حفظه حُذَيْفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ من كبار الصَّحَابَة، وَأَيْضًا يُمكن أَن يكون قَول عَائِشَة: (مَا بَال قَائِما) ، يَعْنِي فِي منزله، وَلَا اطلَاع لَهَا مَا فِي الْخَارِج. فان قلت: قَالَ أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَابْن شاهين: إِن حَدِيث حُذَيْفَة مَنْسُوخ بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قلت: الصَّوَاب أَنه لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن كلاًّ من عَائِشَة وَحُذَيْفَة أخبر بِمَا شاهدة، فَدلَّ على أَن الْبَوْل قَائِما وَقَاعِدا يجوز، وَلَكِن كرهه الْعلمَاء قَائِما لوُجُود أَحَادِيث النَّهْي، وَإِن كَانَ أَكْثَرهَا غير ثَابت. وَأما حَدِيث بُرَيْدَة فِي هَذَا غير مَحْفُوظ، وَلَكِن فِيهِ نظر، لِأَن الْبَزَّار أخرجه بِسَنَد صَحِيح كَمَا ذكرنَا. وَأما(3/135)
حَدِيث عمر فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فَحَدِيث ضَعِيف، لِأَن ابْن جريج رَوَاهُ عَن عبد الْكَرِيم بن الْمخَارِق أَبُو امية وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّمَا رَفعه عبد الْكَرِيم، وَقد ضعفه أَيُّوب، وَتكلم فِيهِ، وروى عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: قَالَ: عمر: مَا بلت قَائِما مُنْذُ أسلمت، هَذَا أصح من حَدِيث عبد الْكَرِيم. وَأما حَدِيث جَابر، فَفِي رُوَاته: عدي بن الْفضل وَهُوَ ضَعِيف. فان قلت: قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أَحْمد بن مَحْمُود الْبَلْخِي فِي كِتَابه الْمُسَمّى (بِقبُول الْأَخْبَار وَمَعْرِفَة الرِّجَال) : حَدِيث حُذَيْفَة يَعْنِي هَذَا حَدِيث فَاحش مُنكر لَا نراهه إلاَّ من قبل بعض الزَّنَادِقَة. قلت: هَذَا كَلَام سوء لَا يُسَاوِي سَمَاعه، وَهُوَ فِي غَايَة الصِّحَّة. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن مَاجَه من طَرِيق شُعْبَة أَن عَاصِمًا روى لَهُ عَن أبي وَائِل عَن الْمُغيرَة: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتى سباطة قوم فَبَال قَائِما) . قَالَ عَاصِم: وَهَذَا الاعمش يرويهِ عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي وَائِل عَن حديفة أصح، يَعْنِي من حَدِيثه عَن الْمُغيرَة، وَأَيْضًا لَا يبعد أَن يكون أَبُو وَائِل رَوَاهُ عَن رجلَيْنِ، وَالرجلَانِ شَاهدا ذَلِك من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن أَبَا وَائِل أدّى الْحَدِيثين عَنْهُمَا، فَسَمعهُ مِنْهُ جمَاعَة فَأدى كلٌّ مَا سمع، وَدَلِيله أَن غَيرهمَا حكى ذَلِك عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا، مِنْهُم: سهل بن سعد، رَضِي الله عَنهُ. وَفِي حَدِيثه فِي (صَحِيح ابْن خزيمه) وَأَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج حَدِيثه الْحَاكِم ثمَّ الْبَيْهَقِيّ عَن حَمَّاد بن غَسَّان الْجعْفِيّ: حَدثنَا معن عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما من جرح كَانَ بمآبضه) ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: هَذَا مُنكر، وَضَعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه (مَجْمُوع الرغائب فِي ذكر أَحَادِيث مَالك الغرائب) .
ثمَّ إِن الْعلمَاء تكلمُوا فِي سَبَب بَوْله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فَقَالَ الشَّافِعِي، لما سَأَلَهُ حَفْص الْفَرد عَن الْفَائِدَة فِي بَوْله قَائِما: الْعَرَب تستشفي لوجع الصلب بالبول قَائِما، فنرى أَنه كَانَ بِهِ ذَاك. قلت: يُوضح ذَلِك حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْمَذْكُور آنِفا.
والمآبض جمع: مأبض، بِسُكُون الْهمزَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة ثمَّ ضاد مُعْجمَة، وَهُوَ: بَاطِن الرّكْبَة، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا فعله لشغله بِأُمُور الْمُسلمين، فَلَعَلَّهُ طَال عَلَيْهِ الْمجْلس حَتَّى حصرة الْبَوْل وَلم يُمكن التباعد كعادته، وَأَرَادَ السباطة لدمثها، وَأقَام حُذَيْفَة يستره عَن النَّاس. وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (الْعلم) : فعل ذَلِك لِأَنَّهَا حَالَة يُؤمن فِيهَا خُرُوج الْحَدث من السَّبِيل الآخر، بِخِلَاف الْقعُود، وَمِنْه قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الْبَوْل قَائِما أحصن للدبر. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجد مَكَانا للقعود فاضطر إِلَى الْقيام لكَون الطّرف الَّذِي يَلِيهِ السباطة عَلَيْهَا مرتفعاً. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّه كَانَت فِي السباطة نجاسات رطبَة، وَهِي رخوة، فخشي أَن يتطاير عَلَيْهِ. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن الْقَائِم أَجْدَر بِهَذِهِ الخشية من الْقَاعِد. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لكَون ذَلِك سهلاً ينحدر فِيهِ الْبَوْل فَلَا يرْتَد على البائل، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بَيَان للْجُوَاز فِي هَذِه الْمرة، وَكَانَت عَادَته المستمرة الْبَوْل قَاعِدا.
الحكم الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْبَوْل بِالْقربِ من الديار.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن مدافعة الْبَوْل ومصابرته مَكْرُوهَة لما فِيهِ من الضَّرَر.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز طلب البائل من صَاحبه المَاء للْوُضُوء.
الْخَامِس: فِيهِ خدمَة الْمَفْضُول للفاضل، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
61 - (بابُ البَوْلِ عنْدَ صاحبِهِ والتَّسَتُّرِ بالحَائِطِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بَوْل الرجل عِنْد صَاحبه، وَبَيَان حكم تستره بِالْحَائِطِ، فالألف وَاللَّام فِي: الْبَوْل، بدل من الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَدرنَا، فَالضَّمِير فِي صَاحبه يرجع إِلَى الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمُقدر، وَهُوَ: الرجل البائل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
225 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عَن أبي وَائِلٍ عَنْ حذَيْفَةَ قَالَ رَأَيْتُنِي أنَا والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نتَمَاشَى فَاتَى سبُاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حائِطٍ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ فَاشَارَ إليَّ فَجِئْتُهُ فَقمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَقد تقدمُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا، وَجَرِير: هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور: هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل: شَقِيق، وَحُذَيْفَة: ابْن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي الْمَوْضِعَيْنِ، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين كُوفِي ورازي.(3/136)
وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر بَيَانهَا فِي الْبَاب السَّابِق.
بَيَان لغته قَوْله: (حَائِط) أَي: جِدَار، ويجيىء بِمَعْنى: الْبُسْتَان فِي غير هَذَا الْموضع، وَأَصله واوي، من: الحوط. قَوْله: (فانتبذت) ، أَي: تنحيت، ومادته: نون وباء مُوَحدَة وذال مُعْجمَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جلس فلَان نبذة، بِفَتْح النُّون وَضمّهَا، أَي: نَاحيَة، وانتبذ فلَان أَي: ذهب ناحيته، وَقَالَ الخاطبي: فانتبذت مِنْهُ، اي تنحيت عَنهُ حَتَّى كنت مِنْهُ على نبذه. قَوْله: (عقبه) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الْقَاف: وَهُوَ مُؤخر الْقدَم، وَهِي مُؤَنّثَة، وعقب الرجل أَيْضا وَلَده وَولد وَلَده، وفيهَا لُغَتَانِ: كسر الْقَاف وسكونها، وَهِي أَيْضا مُؤَنّثَة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (رَأَيْتنِي) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت نَفسِي، وَبِهَذَا التَّقْدِير ينْدَفع سُؤال من يَقُول: كَيفَ جَازَ أَن يكون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول عبارَة عَن شَيْء وَاحِد، وَهَذَا التَّرْكِيب جَائِز فِي أَفعَال الْقُلُوب، لِأَنَّهُ من خصائصها، وَلَا يجوز فِي غَيرهَا. قَوْله: (أَنا) للتَّأْكِيد لصِحَّة عطف لفظ النَّبِي على الضَّمِير الْمَنْصُوب على المفعولية، وَالتَّقْدِير: رَأَيْت نَفسِي وَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي بِنصب: النَّبِي، لِأَنَّهُ عطف على الْمَفْعُول لَا على الْفَاعِل، وَعَلِيهِ الرِّوَايَة. قلت: وَيجوز رفع: النَّبِي، أَيْضا لصِحَّة الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَلَكِن إِن صحت رِوَايَة النصب يقْتَصر عَلَيْهَا. قَوْله: (نتماشى) جملَة فِي مَحل لنصب على الْحَال، تَقْدِيره: وَرَأَيْت نَفسِي وَالنَّبِيّ حَال كوننا متماشين. قَوْله: (فَأَشَارَ) أَي: أَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إليّ بعد أَن بَعدت مِنْهُ، وَلَكِن لم أبعد مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يرَاهُ. وَفِي رِوَايَة مُسلم: ادنه، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة البُخَارِيّ هَذِه بيّنت أَن رِوَايَة مُسلم: أدنه، كَانَ بِالْإِشَارَةِ لَا بِاللَّفْظِ. قلت: يرد عَلَيْهِ رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عصمَة بن مَالك، قَالَ: (خرج علينا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وسلمفي بعض سِكَك الْمَدِينَة، فَانْتهى إِلَى سباطة قوم فَقَالَ: يَا حُذَيْفَة استرني) الحَدِيث، فَهَذَا صَرِيح بِأَن إِعْلَامه كَانَ بِاللَّفْظِ، وَيُمكن أَن يجمع بَين الروايتني بِأَن يكون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَشَارَ أَولا بِيَدِهِ أَو بِرَأْسِهِ، ثمَّ قَالَ: استرني. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَلَيْسَت فِيهِ دلَالَة على جَوَاز الْكَلَام فِي حَال الْبَوْل. قلت: هَذَا الْكَلَام من غير رِوَايَة إِذْ إِشَارَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى حُذَيْفَة أَو قَوْله: (استرني) ، لم يكن إلاَّ قبل شُرُوعه فِي الْبَوْل، فَكيف يظنّ من ذَلِك مَا قَالَه حَتَّى يَنْفِي ذَلِك؟ .
ويستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام مَا استنبط من الحَدِيث السَّابِق. وَفِيه أَيْضا: جَوَاز طلب البائل من صَاحبه الْقرب مِنْهُ ليستره. وَفِيه: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ إِذا أَرَادَ قَضَاء حَاجَة الْإِنْسَان توارى عَن أعين النَّاس بِمَا يستره من حَائِط أَو نَحوه، وَقَالَ ابْن بطال: من السّنة أَن يقرب من البائل إِذا كَانَ قَائِما، هَذَا إِذا أَمن أَن يرى مِنْهُ عَورَة، وَأما إِذا كَانَ قَاعِدا فَالسنة الْبعد مِنْهُ، وَإِنَّمَا انتبذ حُذَيْفَة مِنْهُ لِئَلَّا يسمع شَيْئا مِمَّا جرى فِي الحَدِيث، فَلَمَّا بَال، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَائِما، وَأمن، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا خشيه حُذَيْفَة أمره بِالْقربِ مِنْهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَإِنَّمَا بعد مِنْهُ وعينه ترَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْرُسهُ، اي: يحرس النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: هَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى قبل نزُول قَوْله تَعَالَى: {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} (الْمَائِدَة: 67) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَحْرُسهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة قبل نزُول هَذِه الْآيَة، فَلَمَّا نزلت ترك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحرس.
62 - (بابُ البَوْلِ عِنْدَ سُباطَةِ قوْمٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل عِنْد جمَاعَة من النَّاس، وَهَذَا الْبَاب، والبابان اللَّذَان قبله، حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ، غير أَن كلاًّ مِنْهَا عَن شيخ، وَترْجم لكل وَاحِد مِنْهَا تَرْجَمَة تناسب معنى من مَعَاني الحَدِيث الْمَذْكُور.
والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة لَا تطلب.
226 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ منْصُورٍ عنْ أبي وَائِلٍ قَالَ كانَ أبُو مُوسَى الاشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي البَوْلِ ويَقُولُ إنَّ بَني إسْرَائِيلَ كانَ إِذا أَصابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ فَرَضَهُ فقالَ حُذَيْفَةُ لَيْتَهُ اَمْسَكَ أَتَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُباطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قائِماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قيل: إتْيَان حَدِيث وَاحِد من شخص وَاحِد فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب لَيْسَ لَهُ زِيَادَة فَائِدَة. قلت: فَائِدَته تنادي بِأَعْلَى صَوته، وَلَكِن قَاصِر الْفَهم بمعزل من هَذِه الْفَائِدَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة، كلهم قد تقدمُوا، وَتقدم ذكر أبي(3/137)
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي بَاب: أَي: الْإِسْلَام أفضل، واسْمه عبد الله بن قيس، وَأَبُو وَائِل شَقِيق.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضعي، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين، وَرُوَاته مَا بَين شَامي ومصري وكوفي.
وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: تقدم فِي بَاب الْبَوْل قَائِما.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (يشدد) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنه خبر: كَانَ، وَمَعْنَاهُ: كَانَ يحْتَاط عَظِيما فِي الِاحْتِرَاز عَن رشاشاته، حَتَّى كَانَ يَبُول فِي القارورة خوفًا أَن يُصِيبهُ من رشاشاته شَيْء. وَأخرج ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه أَنه سمع أَبَا مُوسَى، وَرَأى رجلا يَبُول قَائِما، قَالَ: وَيحك أَفلا قَاعِدا، ثمَّ ذكر قصَّة بني اسرائيل، وَبَنُو اسرائيل بَنو يَعْقُوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، واسرائيل لقبه. قَوْله: (كَانَ إِذا أصَاب ثوب احدهم) الضَّمِير فِي: كَانَ، ضمير الشَّأْن، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة خَبره، وَبِهَذَا لَا يرد سُؤال الْكرْمَانِي بقوله: فان قلت: بَنو، جمع فَلم أفرد ضمير: كَانَ، الرَّاجِع إِلَيْهِ؟ وَبَنُو إِسْرَائِيل أَصله بنُون لإسرائيل، فَلَمَّا أضيف إِلَى إِسْرَائِيل سَقَطت نون الْجمع.
فان قلت: مَا وَجه تلقيب يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِم السَّلَام، بإسرائيل؟ قلت: كَانَ يَعْقُوب وعيصو أَخَوَيْنِ، كَانَا فِي بطن أمهما مَعًا. فَلَمَّا جَاءَ وَقت وضعهما اقتتلا فِي بَطنهَا لأجل الْخُرُوج أَولا، فَقَالَ عيصو: وَالله لَئِن خرجت قبلي الاعترض فِي بطن أُمِّي لأقتلها، فَتَأَخر يَعْقُوب وَخرج عيصو قبله، فَسمى: عيصو، لِأَنَّهُ عصى، وسمى: يَعْقُوب، لِأَنَّهُ خرج آخِذا بعقب عيصو. وَكَانَ يَعْقُوب أكبرهما فِي الْبَطن، وَكَانَ أحبهما إِلَى أمه، وَكَانَ: عيصو، أحبهما إِلَى أَبِيه، وَكَانَ صَاحب صيد، فَلَمَّا كبر أَبوهُمَا إِسْحَاق وَعمي قَالَ لعيصو: يَا بني أَطْعمنِي لحم صيد أدعُ لَك بِدُعَاء كَانَ ابي دَعَا لي بِهِ، وَكَانَ أشعر، وَكَانَ يَعْقُوب أجرد، فَخرج عيصو إِلَى الصَّيْد، وَقَالَت أمه ليعقوب: خُذ شَاة واشوها والبس جلدهَا، وقدمها إِلَى أَبِيك، وَقل لَهُ: أَنا ابْنك عيصو، فَفعل، فمسه إِسْحَاق فَقَالَ: المسّ مسّ عيصو، وَالرِّيح ريح يَعْقُوب، فَقَالَت أمه: ابْنك عيصو فَادع لَهُ، فَأكل مِنْهَا ودعا لَهُ بِأَن الله يَجْعَل فِي ذُريَّته الْأَنْبِيَاء والملوك، ثمَّ جَاءَ عيصو بالصيد فَقَالَ إِسْحَاق: يَا بني قد سَبَقَك أَخُوك، فَغَضب وَقَالَ: وَالله لاقتلنه. فَقَالَ اسحاق: يَا بني قد بقيت دَعْوَة، فَدَعَا لَهُ: بِأَن تكون ذُريَّته عدد التُّرَاب وَلَا يملكهم أحد. وَقَالَت أم يَعْقُوب: إلحق بخالك فَكُن عِنْده، خشيَة أَن يقْتله عيصو، فَانْطَلق يَعْقُوب إِلَى خَاله لابان، وَكَانَ بِبَابِل، وَقيل: بحرَّان، فَكَانَ يسير بِاللَّيْلِ ويكمن بِالنَّهَارِ، فَلذَلِك سمي إِسْرَائِيل، فَأخذ من: السرى وَاللَّيْل، قَالَه السّديّ. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ عبد الله، لِأَن: ايل، اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى بالسُّرْيَانيَّة، كَمَا يُقَال: جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل.
قَوْله: (اذا اصاب) اي: الْبَوْل (و: ثوب أحدهم) ، بِالنّصب مَفْعُوله، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (إِذا أصَاب جلد أحدهم) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مُرَاده بِالْجلدِ: وَاحِد الْجُلُود الَّتِي كَانُوا يلبسونها، وَحمله بَعضهم على ظَاهره، وَزعم أَنه من الإصر الَّذِي حملوه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابي دَاوُد، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُسَدّد، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَن عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَعَمْرو بن العَاصِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرج وَمَعَهُ دورقة ثمَّ استتر بهَا ثمَّ بَال، فَقُلْنَا: انْظُرُوا إِلَيْهِ يَبُول كَمَا تبول الْمَرْأَة، فَسمع ذَلِك، فَقَالَ: ألم تعلمُوا مَا لَقِي صَاحب بني اسرائيل؟ كَانُوا إِذا أَصَابَهُم الْبَوْل قطعُوا مَا أَصَابَهُ الْبَوْل مِنْهُم، فنهاهم، فعذب فِي قَبره. قَالَ مَنْصُور عَن ابي وَائِل عَن ابي مُوسَى: جلد أحدهم، وَقَالَ عَاصِم عَن ابي وَائِل عَن ابي مُوسَى: جَسَد أحدهم. قَوْله: (انْظُرُوا اليه يَبُول كَمَا تبول الْمَرْأَة) ، وَهَذَا القَوْل مِنْهُمَا من غير قصد، أَو وَقع بطرِيق التَّعَجُّب، أَو بطرِيق الاستفسار عَن هَذَا الْفِعْل، فَلذَلِك قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بقوله: (الم تعلمُوا) الخ، ولِمَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْل بطرِيق الِاسْتِهْزَاء وَالِاسْتِخْفَاف، لِأَن الصَّحَابَة برَاء من هَذَا الْكَلَام: وَأَرَادَ بِصَاحِب بني اسرائيل: مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فان قلت: كَيفَ يَتَرَتَّب قَوْله: (فعذب) على قَوْله: (فنهاهم) ؟ قلت: فِيهِ حذف تَقْدِيره: فنهاهم عَن إِصَابَة الْبَوْل وَلم ينْتَهوا، فعذب الله تَعَالَى. و: الْفَاء، فِي: فعذب، فَاء السَّبَبِيَّة نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) قَوْله: (قرضه) بِالْقَافِ أَي: قطعه، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (قرضه بالمقراض) ، وَهَذِه الرِّوَايَة ترد قَول من يَقُول: المُرَاد بالقرض: الْغسْل بِالْمَاءِ. قَوْله: (ليته أمسك) ، قَول حُذَيْفَة أَي: لَيْت أَبَا مُوسَى أمسك نَفسه عَن هَذَا التَّشْدِيد، أَو لِسَانه عَن هَذَا القَوْل، أَو كليهمَا عَن كليهمَا، ومقصوده: أَن هَذَا التَّشْدِيد خلاف السّنة، فَإِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَال قَائِما، وَلَا شكّ فِي كَون الْقَائِم معرضًا للرشاش، وَلم يلْتَفت، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى هَذَا الِاحْتِمَال، وَلم يتَكَلَّف الْبَوْل فِي القارورة؛ وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ حجَّة لمن رخص فِي يسير الْبَوْل، لِأَن الْمَعْهُود مِمَّن بَال قَائِما أَن(3/138)
يتطاير إِلَيْهِ مثل رُؤُوس الأبر، وَفِيه يسر وسماحة على هَذِه الْأمة حَيْثُ لم يُوجب الْقَرْض كَمَا أوجب على بني إِسْرَائِيل، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار رُؤُوس الأبر من الْبَوْل فَقَالَ مَالك: يغسلهَا اسْتِحْبَابا وتنزهاً، وَالشَّافِعِيّ: يغسلهَا وجوبا وَأَبُو حنيفَة سهل فيهمَا كَمَا فِي يسير كل النَّجَاسَات، وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يرخصون فِي الْقَلِيل من الْبَوْل.
63 - (بابُ غَسْلِ الدَّمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الدَّم، بِفَتْح الْغَيْن، وَأَرَادَ بِهِ دم الْحيض.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا فِي بَيَان إِزَالَة النَّجَاسَة، فَفِي الأول عَن الْبَوْل، وَفِي الثَّانِي عَن الدَّم، وَكِلَاهُمَا فِي النَّجَاسَة سَوَاء.
227 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المثَنَّي قَالَ حَدثنَا يَحْيىَ عنْ هِشامٍ قَالَ حدثَتْنِي فاطِمَةُ عنْ أَسْمَاءَ قالَتْ جاءَتِ امْرأَةٌ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ أرأَيْتَ إحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحتهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بالمَاءِ وتنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ.
(الحَدِيث 227 طرفه فِي: 307) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون: وَهُوَ الْمَعْرُوف بالزَّمن، وَيحيى هُوَ: ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ: ابْن عُرْوَة بن الزبير، وَقد تقدمُوا فِي بَاب: أحب الدّين إِلَى الله أَدْوَمه، وَفَاطِمَة هِيَ: بنت الْمُنْذر بن الزبير زَوْجَة هِشَام الْمَذْكُور، تروي عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَعْرُوفَة: بِذَات النطاقين، تقدمتا فِي بَاب: من أجَاب الْفتيا بِإِشَارَة.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الْأُنْثَى؛ وَرُوَاته مَا بَين شَامي ومصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد ابْن حَاتِم عَن يحيى، وَعَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح، وَعَن ابْن وهب عَن يحيى بن عبد الله ابْن سَالم وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد وَعِيسَى بن يُونُس، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن سُفْيَان، عشرتهم عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يحيى بن حبيب عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (تَحْتَهُ) من: حت الشي عَن الثَّوْب وَغَيره يحته حتاً: فركه وقشره فانحت، وتحات. وَفِي (الْمُنْتَهى) : الحت: حتك الْوَرق من الشّجر، والمني وَالدَّم وَنَحْوهمَا من الثَّوْب وَغَيره، وَهُوَ دون النحت. وَعند ابْن طريف: حت الشَّيْء: نفضه. وَقيل: مَعْنَاهُ تحكه، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة. قَوْله: (تقرصه) قَالَ فِي (الْمغرب) : الحت: القرص بِالْيَدِ، والقرص بأطراف الْأَصَابِع. وَفِي (الْمُحكم) القرص التخميش والغمز بالأصبع، والمقرص: المقطع الْمَأْخُوذ من شَيْئَيْنِ، وَقد قرضه وقرصه. وَفِي (الْجَامِع) كل مقطع مقرض. وَفِي (الصِّحَاح) : أقرصيه بِمَاء أَي: اغسليه بأطراف أصابعك، ويروى: قرضيه، بِالتَّشْدِيدِ. وَقَالَ ابو عبيد: أَي: قطعيه. وَقَالَ فِي (مجمع الغرائب) : هُوَ أبلغ فِي إذهاب الْأَثر عَن الثَّوْب. وَقَالَ عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْقَاف وَضم الرَّاء وبضم التَّاء وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة. قَالَ: وَهُوَ الدَّلْك بأطراف الْأَصَابِع مَعَ صب المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره. قَوْله: (وتنضحه) أَي: تغسله، قَالَه الْخطابِيّ: وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِهِ الرش، وَهُوَ من بَاب: فتح يفتح، بِفَتْح عين الْفِعْل فيهمَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: تنضحه، بِكَسْر الضَّاد: وَكَذَا قَالَ مغلطاي فِي شَرحه، وَهُوَ غلط. قَوْله: (إحدانا) مُبْتَدأ وَقَوله: (تحيض) خَبره، قَوْله: (كَيفَ تصنع) ؟ يتَعَلَّق بقوله: (أَرَأَيْت) .(3/139)
بَيَان معانية قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) وَقع رِوَايَة الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث: أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، وَأنكر النَّوَوِيّ هَذَا، وَضعف هَذِه الرِّوَايَة، وَلَا وَجه لإنكاره، لِأَنَّهُ لَا يبعد أَن يبهم الرَّاوِي اسْم نَفسه، وَقد وَقع مثل هَذَا فِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله عَنهُ، فِي قصَّة الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَفِيه تجوز لإِطْلَاق الرُّؤْيَة، وَإِرَادَة الْإِخْبَار، لِأَن الرُّؤْيَة سَبَب الْإِخْبَار، وَجعل الِاسْتِفْهَام بِمَعْنى الْأَمر بِجَامِع الطّلب. قَوْله: (تحيض فِي الثَّوْب) أَي: يصل دم الْحيض إِلَى الثَّوْب، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي. قلت: الْمَعْنى: تحيض حَال كَونهَا فِي الثَّوْب، وَمن ضَرُورَة ذَلِك وُصُول الدَّم إِلَى الثَّوْب. وللبخاري، من طَرِيق مَالك عَن هِشَام: إِذا أصَاب ثوبها الدَّم من الْحيض، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أَسمَاء: (سَمِعت امْرَأَة تسْأَل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: كَيفَ تصنع إحدانا بثوبها إِذا رَأَتْ الطُّهْر أتصلى فِيهِ؟ قَالَ: تنظر، فَإِن رَأَتْ فِيهِ دَمًا فلتقرصه بِشَيْء من مَاء، ولتنضح مَا لم تَرَ ولتصل
فِيهِ) . وَعند مُسلم: (الْمَرْأَة تصيب ثوبها من دم الْحَيْضَة) ، وَعند التِّرْمِذِيّ: (إقرصيه بِمَاء ثمَّ رشيه) . وَعند ابْن خُزَيْمَة: (كَيفَ تصنع بثيابها الَّتِي كَانَت تلبس؟ فَقَالَ إِن رَأَتْ فِيهَا شَيْئا فلتحكه ثمَّ لتقرصه بِشَيْء من مَاء، وتنضح فِي سَائِر الثَّوْب بِمَاء، ولتصل فِيهِ) . وَفِي لفظ: (إِن رَأَيْت فِيهِ دَمًا فحكيه) . وَفِي لفظ: (رشيه وَصلي فِيهِ) . وَفِي لفظ: (ثمَّ تنضحه وَتصلي فِيهِ) . وَعند أبي نعيم: (لتحته ثمَّ لتقرصه ثمَّ لتنضحه ثمَّ لتصل فِيهِ) . وَفِي حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة البُخَارِيّ: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم قَالَت بريقها، فمعنعته بظفرها) . أَي: عركته. وَاخْتلف فِي سَماع مُجَاهِد عَن عَائِشَة، فَأنكرهُ ابْن حبَان وَيحيى بن معِين وَيحيى بن سعيد وَشعْبَة وَآخَرُونَ، وأثبته البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَمُسلم وَآخَرُونَ، وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث الْقَاسِم عَنْهَا: (ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عِنْد طهرهَا فتغسله وتنضح على سائره ثمَّ تصلي فِيهِ) . وَفِي حَدِيث أم قيس بنت مُحصن، عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان: (إغسليه بِالْمَاءِ والسدر وحكيه وَلَو بضلع) ، زَاد ابْن حبَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسليه بِالْمَاءِ) ، أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر ندب وإرشاد. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ حَدِيث فِي غَايَة الصِّحَّة، وَعَابَ على أبي أَحْمد قَوْله: الْأَحَادِيث الصِّحَاح لَيْسَ فِيهَا ذكر الضلع والسدر، وَعند أبي أَحْمد العسكري: (حكيه بضلع واتبعيه بِمَاء وَسدر) . وَعند أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (إِن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: يَا رَسُول الله لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد، وَأَنا أحيض فِيهِ، قَالَ: فَإِذا طهرت فاغسلي مَوضِع حيضك ثمَّ صلي فِيهِ، قَالَت: يَا رَسُول الله أرى لم يخرج اثره، قَالَ: يَكْفِيك المَاء وَلَا يَضرك أَثَره) . وَلما ذكره ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه الْكَبِير) جعله من مُسْند خَوْلَة، وَكَذَلِكَ الطَّبَرَانِيّ، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن امْرَأَة من غفار: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى ثِيَابهَا من الدَّم، قَالَ: أصلحي من نَفسك، ثمَّ خذي إِنَاء من مَاء واطرحي فِيهِ ملحاً، ثمَّ اغسلي مَا أصَاب حقيبة الرجل من الدَّم، ثمَّ عودي لمركبك) . وَعند الدَّارمِيّ، بِسَنَد فِيهِ ضعف عَن أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا: (إِن إِحْدَاهُنَّ تسبقها القطرة من الدَّم. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أصَاب إحداكن بذلك فلتقصعه بريقها. وَعند ابْن خُزَيْمَة: وَقيل لَهَا: كَيفَ كنتن تصنعن بثيابكن إِذا طمثن على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت: إِن كُنَّا لنطمث فِي ثيابنا أَو فِي دروعنا، فَمَا نغسل مِنْهُ إلاَّ أثر مَا أَصَابَهُ الدَّم. قَوْله: (تَحْتَهُ) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ، وَفِي قَوْله: (ثمَّ تقرصه) يرجع إِلَى الثَّوْب. وَفِي قَوْله: و (تنضحه) يرجع إِلَى المَاء، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الخاطبي قَالَ: تنضحه أَي: تغسله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِهِ الرش، لِأَن غسل الدَّم اسْتُفِيدَ من قَوْله: (تقرصه بِالْمَاءِ) ، وَأما النَّضْح فَهُوَ لما شكّ فِيهِ من الثَّوْب. وَقَالَ بَعضهم: فعلى هَذَا الضَّمِير فِي قَوْله: (تنضحه) يعود على الثَّوْب، بِخِلَاف: تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ يعود على الدَّم، فَيلْزم مِنْهُ إختلاف الضمائر، وَهُوَ على خلاف الأَصْل. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن لفظ: الدَّم، غير مَذْكُور صَرِيحًا، وَالْأَصْل فِي عود الضَّمِير أَن يكون إِلَى شَيْء صَرِيح، وَالْمَذْكُور هُنَا صَرِيحًا: الثَّوْب وَالْمَاء، فالضميران الْأَوَّلَانِ يرجعان إِلَى الثَّوْب لِأَنَّهُ الْمَذْكُور قبلهمَا، وَالضَّمِير الثَّالِث يرجع إِلَى: المَاء، لِأَنَّهُ الْمَذْكُور قبله، وَهَذَا هُوَ الأَصْل. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: ثمَّ إِن الرش على الْمَشْكُوك فِيهِ لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَنَّهُ إِن كَانَ طَاهِرا فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ متنجساً لم يتَطَهَّر بذلك، فَالْأَحْسَن مَا قَالَه الخاطبي. قلت: الَّذِي قَالَه الْقُرْطُبِيّ هُوَ الْأَحْسَن لِأَنَّهُ يلْزم التّكْرَار من قَول الخاطبي بِلَا فَائِدَة، لأَنا ذكرنَا أَن الحت هُوَ الفرك، والقرص هُوَ الدَّلْك بأطراف الاصابع مَعَ صب المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره، لما نَقَلْنَاهُ عَن القَاضِي عِيَاض،(3/140)
ففهم الْغسْل من لَفْظَة القرص، فَإِذا قُلْنَا: الرش بِمَعْنى الْغسْل يلْزم التّكْرَار، ثمَّ قَوْله: ثمَّ إِن الرش ... إِلَى آخِره، كَلَام من غير رُوِيَ، لِأَن الرش هَهُنَا لإِزَالَة الشَّك المتردد فِي الخاطر، كَمَا جَاءَ فِي رش المتوضىء المَاء على سراويله بعد فَرَاغه من الْوضُوء، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: مَا قَالَه الخاطبي: إِن فِيهِ دَلِيلا على أَن النَّجَاسَات إِنَّمَا تَزُول بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات، لَان جَمِيع النَّجَاسَات بِمَثَابَة الدَّم، لَا فرق بَينه وَبَينهَا إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) على أَصْحَابنَا فِي وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات الطاهرة. قلت: هَذَا خرج مخرج الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23) وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن المَاء أَكثر وجودا من غَيره، أَو نقُول: تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، أَو نقُول: إِنَّه مَفْهُوم لقب، وَلَا يَقُول بِهِ إمامنا.
وَمِنْهَا: أَنه يدل على وجوب غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب، وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير، لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره. وَقَالَ مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات. وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر الدِّمَاء، وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار الدِّرْهَم وَلَا دونه. قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (قَالَت بريقها فمصعته) ، يدل على الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ، وَأما الْكثير مِنْهُ فصح عَنْهَا. أَي: عَن عَائِشَة. أَنَّهَا كَانَت تغسله، فَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير من النَّجَاسَة، وعَلى الشَّافِعِي أَيْضا فِي قَوْله: (إِن يسير الدَّم يغسل كَسَائِر الأنجاس إلاَّ دم الراغيث، فَإِنَّهُ لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ) . وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَا يرى بالقطرة والقطرتين بَأْسا فِي الصَّلَاة، وعصر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بثرة فَخرج مِنْهَا دم فمسحه بِيَدِهِ وَصلى، فالشافعية لَيْسُوا بإكثر إحتياطاً من أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، وَلَا أَكثر رِوَايَة عَنْهُمَا حَتَّى خالفوهما، حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْقَلِيل وَالْكثير، على أَن قَلِيل الدَّم مَوضِع ضَرُورَة، لِأَن الْإِنْسَان لَا يَخْلُو فِي غَالب حَاله من بثرة أَو دمل أَو برغوث، فعفى عَنهُ، وَلِهَذَا حرم الله المسفوح مِنْهُ، فَدلَّ أَن غَيره لَيْسَ بِمحرم، وَأما تَقْدِير أَصْحَابنَا الْقَلِيل بِقدر الدِّرْهَم، فَلَمَّا ذكره صَاحب (الاسرار) عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قدرا النَّجَاسَة بالدرهم، وكفي بهما حجَّة فِي الِاقْتِدَاء. وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أَنه قدره بظفره، وَفِي (الْمُحِيط) : وَكَانَ ظفره قَرِيبا من كفنا، فَدلَّ على أَن مَا دون الدِّرْهَم لَا يمْنَع. وَقَالَ فِي (الْمُحِيط) أَيْضا: الدِّرْهَم الْكَبِير مَا يكون مثل عرض الْكَفّ، وَفِي صَلَاة الأَصْل: الدِّرْهَم الْكَبِير المثقال يَعْنِي: يبلغ مِثْقَالا. وَعند السَّرخسِيّ: يعْتَبر بدرهم زَمَانه، وَأما الحَدِيث الَّذِي روايه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن روح بن غطيف عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تُعَاد الصَّلَاة من قدر دِرْهَم من الدَّم) ، وَفِي لفظ: (إِذا كَانَ فِي الثَّوْب قدر الدِّرْهَم من الدَّم غسل الثَّوْب وأعيدت الصَّلَاة) . وَإِن اصحابنا لم يحتجوا بِهِ، لِأَنَّهُ حَدِيث مُنكر، بل قَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه بَاطِل. فَإِن قلت: النَّص وَهُوَ قَوْله: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) لم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، فَلَا يُعْفَى الْقَلِيل. قلت: الْقَلِيل غير مُرَاد مِنْهُ بِالْإِجْمَاع بِدَلِيل عَفْو مَوضِع الِاسْتِنْجَاء فَتعين الْكثير، وَقد قدر الْكثير بالآثار.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الدَّم نجس بِالْإِجْمَاع.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بل المُرَاد الإنقاء.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا إِذا لم تَرَ فِي ثوبها شَيْئا من الدَّم ترش عَلَيْهِ مَاء وَتصلي فِيهِ.
228 - حدّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا أبُو مُعاويَةَ قَالَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ جاءَتْ فاطِمَةُ ابْنةُ أبي حُبَيْشٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأةٌ(3/141)
اُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ فَقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إنَّما ذلِكِ عِرْقٌ ولَيْسَ بِحَيْضٍ فاذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ وَإِذا أَدْبَرتْ فاغْسلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أبي ثُمَّ تَوَضَّئِي لكُلِّ صَلاةٍ حتَّى يَجىءَ ذلكِ الوَقْتُ..
هَذَا الحَدِيث أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف: اللَّام، البيكندي، تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا أعلمكُم بِاللَّه) ، وَقد وَقع فِي أَكثر النّسخ عِنْد الْأَكْثَرين: حَدثنَا مُحَمَّد، غير مَنْسُوب، وللأصيلي: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام وَلأبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد، وَهُوَ ابْن سَلام.
الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير: مُحَمَّد بن خازم، بالمعجمتين، وَقد تقدم عَن قريب. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير، وَقد مر أَيْضا غير مرّة. الرَّابِع: أَبُو عُرْوَة، كَذَلِك. الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق. السَّادِس: فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: القرشية الأَسدِية، وَاسم أبي حُبَيْش: قيس بن الْمطلب، وَقَالَ بَعضهم: قيس بن عبد الْمطلب. قَالَ بعض الشَّارِحين: وَقع فِي أَكثر نسخ مُسلم: عبد الْمطلب، وَهُوَ غلط. قلت: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : قيس بن الْمطلب بن أَسد، وَهُوَ الْمطلب بن أَسد، وَهِي غير: فَاطِمَة بنت قيس، الَّتِي طلقت ثَلَاثًا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: ذكر أبي مُعَاوِيَة هُنَا بالكنية، وَفِي بَاب غسل الْبَوْل بِالِاسْمِ، رِعَايَة للفظ الشُّيُوخ. وَفِيه: حِكَايَة الصحابية عَن سُؤال الصحابية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَهُنَا عَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عِنْد الْأَكْثَرين كَمَا ذكرنَا، وَصرح بِهِ فِي النِّكَاح بقوله: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ... وَذكر الكلاباذي أَن البُخَارِيّ روى عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي مُعَاوِيَة، وَذكر أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى، وَالتِّرْمِذِيّ عَن هناد بن السّري، وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس، وَعبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه أَيْضا من مُسْند فَاطِمَة الْمَذْكُور.
بَيَان لغته قَوْله: (استحاض) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون السِّين وَفتح التَّاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: استحيضت الْمَرْأَة أَي: اسْتمرّ بهَا الدَّم بعد أَيَّامهَا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَة. وَفِي الشَّرْع: الْحيض عبارَة عَن الدَّم الْخَارِج من الرَّحِم، وَهُوَ مَوضِع الْجِمَاع والولادة لَا تعقب ولادَة مُقَدرا فِي وَقت مَعْلُوم، وَقَالَ الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير الْمَرْأَة بَالِغَة بابتداء خُرُوجه، والاستحاضة اسْم لما نقص من أقل الْحيض أَو زَاد على أَكْثَره. فان قلت: مَا وَجه بِنَاء الْفِعْل للْفَاعِل فِي الْحيض، وللمفعول فِي الِاسْتِحَاضَة؟ فَقيل: استحيضت؟ قلت: لما كَانَ الأول: مُعْتَادا مَعْرُوفا نسب إِلَيْهَا، وَالثَّانِي: لما كَانَ نَادرا غير مَعْرُوف الْوَقْت، وَكَانَ مَنْسُوبا إِلَى الشَّيْطَان، كَمَا ورد أَنَّهَا ركضة من الشَّيْطَان، بني لما لم يسم فَاعله. فَإِن قلت: يجوز أَن تكون للتحول، كَمَا فِي: استحجر الطين، وَهنا أَيْضا تحول دم الْحيض إِلَى غير دَمه، وَهُوَ دم الأستحاضة. فَافْهَم. قَوْله: (عرق) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ الْمُسَمّى بالعادل، بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة، وَحكي إهمالها. قَوْله: (وَلَيْسَ بحيض) لِأَن الْحيض يخرج من قَعْر الرَّحِم كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (حيضتك) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، وَهُوَ بِالْفَتْح: الْمرة، وبالكسر: اسْم للدم، والخرقة الَّتِي تستثفر بهَا الْمَرْأَة وَالْحَالة. وَقَالَ الْخطابِيّ: المحدثون يَقُولُونَ بِالْفَتْح، وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب الْكسر، لِأَن المُرَاد بهَا الْحَالة، ورده القَاضِي وَغَيره، وَقَالُوا: الْأَظْهر الْفَتْح، لِأَن المُرَاد إِذا أقبل الْحيض. قَوْله: (وَإِذا أَدْبَرت) من: الإدبار وَهُوَ انْقِطَاع الْحيض.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (إِنِّي امْرَأَة) ، قد علم أَن كلمة: لَا تسْتَعْمل إلاَّ عِنْد إِنْكَار الْمُخَاطب لِلْقَوْلِ أَو التَّرَدُّد فِيهِ، وَمَا كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار لاستحاضتها وَلَا تردد فِيهَا، فَوجه إستعمالها هَهُنَا يكون لتحقيق نفس الْقَضِيَّة، إِذْ كَانَت بعيدَة الْوُقُوع نادرة الْوُجُود، فَلذَلِك أكدت قَوْلهَا بِكَلِمَة: إِن قَوْله: (أفأدع) أَي: أفأترك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: الْهمزَة(3/142)
تَقْتَضِي عدم المسبوقية بِالْغَيْر، وَالْفَاء تَقْتَضِي المسبوقية بِهِ، فيكف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: هُوَ عطف على مُقَدّر أَي: ايكون لي حكم الْحَائِض فَادع الصَّلَاة، أَو الْهمزَة مقحمة، أَو توسطها جَائِز بَين المعطوفين إِذا كَانَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة لعدم انسحاب ذكر الأول على الثَّانِي، أَو الْهمزَة بَاقِيَة على صرافة الاستفهامية، لِأَنَّهَا للتقرير هُنَا، فَلَا يَقْتَضِي الصدارة. انْتهى كَلَامه. قلت: هَذَا سُؤال عَن اسْتِمْرَار حكم الْحَائِض فِي حَالَة دوَام الدَّم وإزالته، وَهُوَ كَلَام من تقرر عِنْده أَن الْحَائِض مَمْنُوعَة من الصَّلَاة. قَوْله: (لَا أَي: لَا تَدعِي الصَّلَاة. قَوْله: (ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف. قَوْله: (عرق) أَي: دم عرق، لِأَن الْخَارِج لَيْسَ بعرق. قَوْله: (فَإِذا أَقبلت) أَي: الْحَيْضَة، (فدعي الصَّلَاة) اي: اتركيها، (وَإِذا أَدْبَرت) أَي: إِذا انْقَطَعت. فَإِن قلت: مَا عَلامَة إدبار الْحيض وإنقطاعه، والحصول فِي الطُّهْر. قلت: أما عِنْد أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه: الزَّمَان وَالْعَادَة هُوَ الفيصل بَينهمَا، فَإِذا أضلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ، وَأما عِنْد الشَّافِعِي وَأَصْحَابه اخْتِلَاف الألوان هُوَ الفيصل، فالأسود أقوى من الْأَحْمَر، والأحمر أقوى من الْأَشْقَر، والأشقر أقوى من الْأَصْفَر، والأصفر أقوى من الأكدر إِذا جعلا حيضا، فَتكون حَائِضًا فِي أَيَّام القوى، مُسْتَحَاضَة فِي أَيَّام الضعْف، والتمييز عِنْده بِثَلَاثَة شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يزِيد الْقوي على خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَالثَّانِي: أَن لَا ينقص عَن يَوْم وَلَيْلَة ليمكن جعله حيضا. وَالثَّالِث: أَن لَا ينقص الضَّعِيف عَن خَمْسَة عشر يَوْمًا، ليمكن جعله طهرا بَين الحيضتين، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَقَالَ الثَّوْريّ: عَلامَة إنقطاع الْحيض والحصول فِي الطُّهْر أَن يَنْقَطِع خُرُوج الدَّم والصفرة والكدرة، سَوَاء خرجت رُطُوبَة بَيْضَاء أَو لم يخرج شَيْء أصلا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَابْن الصّباغ: الترية رُطُوبَة خَفِيفَة لَا صفرَة فِيهَا وَلَا كدرة، تكون على القطنة أثر لَا لون، وَهَذَا يكون بعد انْقِطَاع الْحيض. قلت: الترية، بِفَتْح الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، قَالَ ابْن الْأَثِير: الترية، بِالتَّشْدِيدِ: مَا ترَاهُ الْمَرْأَة بعد الْحيض والاغتسال مِنْهُ من كدرة أَو صفرَة. وَقيل: هُوَ الْبيَاض ترَاهُ عِنْد الطُّهْر. وَقيل: هِيَ الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا. و: التَّاء، فِيهَا زَائِدَة، لِأَنَّهُ من الرُّؤْيَة، وَالْأَصْل فِيهَا الْهَمْز لكِنهمْ تَرَكُوهُ وشددوا الْيَاء، فَصَارَت اللَّفْظَة كَأَنَّهَا فعلية، وَبَعْضهمْ يشدد الرَّاء. قَوْله: (فاغسلي عَنْك الدَّم ثمَّ صلي) ظَاهره مُشكل لِأَنَّهُ لم يذكر الْغسْل وَلَا بُد بعد انْقِضَاء الْحيض من الْغسْل، وَأجِيب، عَنهُ: بِأَن الْغسْل، وَإِن لم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة، فقد ذكر فِي رِوَايَة أُخْرَى صَحِيحَة، قَالَ فِيهَا: فاغتسلي ... ، والْحَدِيث يُفَسر بعضه بَعْضًا، وَجَوَاب آخر هُوَ: بِأَن يحمل الإدبار على انْقِضَاء أَيَّام الْحيض والاغتسال. وَقَوله: (واغسلي عَنْك الدَّم) مَحْمُول على: دم، يَأْتِي بعد الْغسْل، وَالْأول أوجه وَأَصَح، وَأما قَول بَعضهم: فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي، أَي: فاغتسلي، فَغير موجه أصلا. قَوْله: (قَالَ: وَقَالَ أبي) أَي: قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: قَالَ أبي، وَهُوَ عُرْوَة ابْن الزبير. قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل صَلَاة) جملَة مقول القَوْل، وَادّعى قوم أَن قَوْله: (ثمَّ توضيء) من كَلَام عُرْوَة مَوْقُوفا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: (توضئي) الخ مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو هُوَ مَوْقُوف على الصَّحَابِيّ؟ قلت: السِّيَاق يَقْتَضِي الرّفْع، وَقَالَ بَعضهم: لَو كَانَ هَذَا كَلَام عُرْوَة لقَالَ: ثمَّ تتوضأ، بِصِيغَة الْإِخْبَار، فَلَمَّا أَتَى بِهِ بِصِيغَة الْأَمر شاكل الْأَمر الَّذِي فِي الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله: (فاغسلي) . قلت: كَلَام كل من الْكرْمَانِي وَهَذَا الْقَائِل احْتِمَال، فَلَا يَقع بِهِ الْقطع وَلَا يلْزم من مشاكلة الصيغتين الرّفْع.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ جَوَاز استفتاء الْمَرْأَة بِنَفسِهَا ومشافهتها الرِّجَال فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر من أُمُور الدّين.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز اسْتِمَاع صَوت الْمَرْأَة عِنْد الْحَاجة الشَّرْعِيَّة.
الثَّالِث: فِيهِ نهي للمستحاضة عَن الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَهُوَ نهي تَحْرِيم، وَيَقْتَضِي فَسَاد الصَّلَاة هُنَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْفَرْض وَالنَّفْل لظَاهِر الحَدِيث، ويتبعها الطّواف وَصَلَاة الْجِنَازَة وَسجْدَة التِّلَاوَة وَسجْدَة الشُّكْر.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الدَّم.
الْخَامِس: فِيهِ أَن الصَّلَاة تجب بِمُجَرَّد انْقِطَاع دم الْحيض. وَأعلم أَنَّهَا إِذا مضى زمن حَيْضهَا وَجب عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل فِي الْحَال لأوّل صَلَاة تدركها، وَلَا يجوز لَهَا بعد ذَلِك أَن تتْرك صَلَاة أَو صوما، وَيكون حكمهَا حكم الطاهرات، فَلَا تستظهر بِشَيْء أصلا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَعَن مَالك ثَلَاث رِوَايَات: الأولى: تستظهر ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا بعد ذَلِك اسْتِحَاضَة. وَالثَّانيَِة: تتْرك الصَّلَاة إِلَى انْتِهَاء خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهِي أَكثر مُدَّة الْحيض عِنْده. وَالثَّالِثَة: كمذهبنا.
السَّادِس: اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا فِي إِيجَاب الْوضُوء من خُرُوج الدَّم من غير السَّبِيلَيْنِ، لِأَنَّهُ(3/143)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل نقض الطَّهَارَة بِخُرُوج الدَّم من الْعرق، وكل دم يبرز من الْبدن فَإِنَّمَا يبرز من عرق، لِأَن الْعُرُوق هِيَ مجاري الدَّم من الْجَسَد. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَلَيْسَ معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مُرَاد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك مَا توهموه، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن هَذِه الْعلَّة إِنَّمَا حدثت بهَا من تصدع الْعرق، وتصدع الْعرق عِلّة مَعْرُوفَة عِنْد الْأَطِبَّاء يحدث ذَلِك عِنْد غَلَبَة الدَّم فتتصدع الْعُرُوق إِذا امْتَلَأت تِلْكَ الأوعية. قلت: لَيْسَ معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قيد إِطْلَاق الحَدِيث وخصص عُمُومه من غير مُخَصص، وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَهُوَ بَاطِل.
السَّابِع: قَوْله: (لكل صَلَاة) فِيهِ خلاف بَين الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة، وَهُوَ أَن الْمُسْتَحَاضَة وَمن بمعناها من أَصْحَاب الْأَعْذَار هَل يتوضؤون لكل صَلَاة، أَو لكل وَقت صَلَاة، وَهُوَ مَذْكُور فِي كتب الْفِقْه.
64 - (بابُ غسْلِ المَنِيِّ وفَرْكِهِ وغَسْل مَا يُصِيبُ مِنَ المَرْأَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَنِيّ عِنْد كَونه رطبا، وَبَيَان حكم فركه عِنْد كَونه يَابسا، والفرك هُوَ الدَّلْك حَتَّى يذهب أَثَره. والمني، بتَشْديد الْيَاء؛ مَاء خاثر أَبيض يتَوَلَّد مِنْهُ الْوَلَد، وينكسر بِهِ الذّكر، ورائحته رَائِحَة الطّلع. قَوْله: (وَغسل مَا يُصِيب) أَي: وَفِي بَيَان غسل مَا يُصِيب الثَّوْب أَو الْجَسَد من الْمَرْأَة عِنْد مخالطته إِيَّاهَا. وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَحْكَام، وَلم يذكر فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ حكم غسل الْمَنِيّ، وَذكر الحكم الثَّالِث فِي أَوَاخِر كتاب الْغسْل من حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: لم يخرج البُخَارِيّ حَدِيث الفرك، بل اكْتفى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة على عَادَته، لِأَنَّهُ ورد من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا. قلت: هَذَا اعتذار بَارِد، لِأَن الطَّرِيقَة أَنه إِذا ترْجم الْبَاب بِشَيْء يَنْبَغِي أَن يذكرهُ، وَقَوله: بل أكتفي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ كَلَام واهٍ، لِأَن الْمَقْصُود من التَّرْجَمَة معرفَة حَدِيثهَا، وإلاَّ فمجرد ذكر التَّرْجَمَة لَا يُفِيد شَيْئا، والْحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب لَا يدل على الفرك، وَلَا على غسل مَا يُصِيب من الْمَرْأَة، وَاعْتذر الْكرْمَانِي عَنهُ بقوله: وَاكْتفى بإيراد بعض الحَدِيث، وَكَثِيرًا يَقُول مثل ذَلِك، أَو كَانَ فِي قَصده أَن يضيف إِلَيْهِ مَا يتَعَلَّق بِهِ وَلم يتَّفق لَهُ، أَو لم يجد رُوَاته بِشَرْطِهِ. قلت: كل هَذَا لَا يجدي، وَلَكِن حبك للشَّيْء يعمي ويصم، ثمَّ إِن بَعضهم ذكر فِي أول هَذَا الْبَاب كلَاما لَا يذكرهُ من لَهُ بَصِيرَة وروية، وَفِيه رد لما ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة، وَمَعَ هَذَا أَخذ كَلَامه هَذَا من كَلَام الْخطابِيّ مَعَ تَغْيِير، وَهُوَ أَنه قَالَ: وَلَيْسَ بَين حَدِيث الْغسْل وَحَدِيث الفرك تعَارض، لِأَن الْجمع بَينهمَا وَاضح على القَوْل بِطَهَارَة الْمَنِيّ، بِأَن يحمل الْغسْل على الِاسْتِحْبَاب للتنظيف لَا على الْوُجُوب، وَهَذِه طَريقَة الشَّافِعِي وَأحمد وَأَصْحَاب الحَدِيث، وَكَذَا الْجمع مُمكن على القَوْل بِنَجَاسَتِهِ بِأَن يحمل الْغسْل على مَا كَانَ رطبا، والفرك على مَا كَانَ يَابسا، وَهَذِه طَريقَة، والطريقة الأولى أرجح، لِأَن فِيهَا الْعَمَل بالْخبر وَالْقِيَاس مَعًا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ نجسا لَكَانَ الْقيَاس وجوب غسله دون الِاكْتِفَاء بفركه كَالدَّمِ وَغَيره، وهم لَا يكتفون فِيمَا لَا يُعْفَى عَنهُ من الدَّم بالفرك. قلت: من هُوَ الَّذِي ادّعى تَعَارضا بَين الْحَدِيثين الْمَذْكُورين حَتَّى يحْتَاج إِلَى التَّوْفِيق، وَلَا نسلم التَّعَارُض بَينهمَا أصلا، بل حَدِيث الْغسْل يدل على نَجَاسَة الْمَنِيّ بِدلَالَة غسله، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْقيَاس أَيْضا فِي يابسه، وَلَكِن خص بِحَدِيث الفرك، وَقَوله بِأَن يحمل الْغسْل على الِاسْتِحْبَاب للتنظيف لَا على الْوُجُوب كَلَام واه، وَهُوَ كَلَام من لَا يدْرِي مَرَاتِب الْأَمر الْوَارِد من الشَّرْع، فأعلى مَرَاتِب الْأَمر الْوُجُوب وَأَدْنَاهَا الْإِبَاحَة، وَهنا لَا وَجه للثَّانِي، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتْركهُ على ثَوْبه أبدا، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة من بعده، ومواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فعل شَيْء من غير ترك فِي الْجُمْلَة يدل على الْوُجُوب بِلَا نزاع فِيهِ، وَأَيْضًا الأَصْل فِي الْكَلَام الْكَمَال، فَإِذا أطلق اللَّفْظ ينْصَرف إِلَى الْكَامِل، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن ينْصَرف ذَلِك بِقَرِينَة تقوم فتدل عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ فحوى كَلَام أهل الْأُصُول إِن الْأَمر الْمُطلق أَي: الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، يدل على الْوُجُوب. ثمَّ قَوْله: والطريقة الأولى أرجح ... الخ غير رَاجِح، فضلا أَن يكون أرجح بل هُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: الْعَمَل بالْخبر، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن من يَقُول بطهرة الْمَنِيّ يكون غير عَامل بالْخبر، لِأَن الْخَبَر يدل على نَجَاسَته، كَمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ قَوْله فِيهَا: الْعَمَل بِالْقِيَاسِ غير صَحِيح، لِأَن الْقيَاس وجوب غسله مُطلقًا، وَلَكِن خص بِحَدِيث الفرك لما ذكرنَا. فان قلت: مَا لَا يجب غسل يابسه لَا يجب غسل رطبه كالمخاط. قلت: لَا نسلم أَن الْقيَاس صَحِيح، لِأَن المخاط لَا يتَعَلَّق بِخُرُوجِهِ حدث مَا أصلا، والمنى مُوجب لأكبر الحدثين، وَهُوَ الْجَنَابَة. فان قلت: سُقُوط الْغسْل فِي يابسه يدل(3/144)
على الطَّهَارَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك كَمَا فِي مَوضِع الِاسْتِنْجَاء.
قَوْله: كَالدَّمِ وَغَيره ... إِلَى آخِره، قِيَاس فَاسد، لِأَنَّهُ لم يَأْتِ نَص بِجَوَاز الفرك فِي الدَّم وَنَحْوه، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي يَابِس الْمَنِيّ على خلاف الْقيَاس، فَيقْتَصر على مورد النَّص. فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا} (الْفرْقَان: 54) سَمَّاهُ: مَاء، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ بِمَاء، فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيه فِي الحكم، وَمن حكم المَاء أَن يكون طَاهِرا. قلت: أَن تَسْمِيَته: مَاء، لَا تدل على طَهَارَته، فَإِن الله تَعَالَى سمى مني الدَّوَابّ: مَاء، بقوله: {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء} (النُّور: 45) فَلَا يدل ذَلِك على طَهَارَة مَاء الْحَيَوَان. فان قلت: إِنَّه أصل الْأَنْبِيَاء والأولياء، فَيجب أَن يكون طَاهِرا. قلت: هُوَ أصل الْأَعْدَاء أَيْضا: كنمرود وَفرْعَوْن وهامان وَغَيرهم، على أَنا نقُول: الْعلقَة أقرب إِلَى الْإِنْسَان الْمَنِيّ، وَهُوَ أَيْضا أصل الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَ هَذَا لَا يُقَال: إِنَّهَا طَاهِرَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَترد الطَّرِيقَة الثَّانِيَة أَيْضا مَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق أُخْرَى عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَ يَسْلت الْمَنِيّ من ثَوْبه بعرق الْإِذْخر ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَتَحْته من ثَوْبه يَابسا، ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن ترك الْغسْل فِي الْحَالَتَيْنِ. قلت: رد الطَّرِيقَة الثَّانِيَة بِهَذَا غير صَحِيح، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على طَهَارَته، وَقد يجوز أَن يكون كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يفعل بذلك فيطهر الثَّوْب، وَالْحَال أَن الْمَنِيّ فِي نَفسه نجس، كَمَا قد رُوِيَ فِيمَا أصَاب النَّعْل من الْأَذَى، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وطىء الْأَذَى بخفيه فطهورهما التُّرَاب) . وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا وطىء أحدكُم الْأَذَى بخفيه أَو نَعله فطهورهما التُّرَاب) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَكَانَ ذَلِك التُّرَاب يجزىء من غسلهمَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على طَهَارَة الْأَذَى فِي نَفسه، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ فِي الْمَنِيّ. فان قلت: فِي سَنَده مُحَمَّد بن كثير الصَّنْعَانِيّ، وَقد تكلمُوا فِيهِ. قلت: وَثَّقَهُ ابْن حبَان وروى حَدِيثه فِي (صَحِيحه) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي (الْخُلَاصَة) : وَرَوَاهُ ابو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول ابْن الْقطَّان: وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق لَا يظنّ بهَا الصِّحَّة. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِمَعْنَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضا نَحوه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا. وَالْمرَاد من الْأَذَى: النَّجَاسَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَالك فَلم يعرف الفرك، وَالْعَمَل عِنْدهم على وجوب الْغسْل كَسَائِر النَّجَاسَات. قلت: لَا يلْزم من عدم معرفَة الفرك أَن يكون الْمَنِيّ طَاهِرا عِنْده، فَإِن عِنْده الْمَنِيّ نجس كَمَا هُوَ عندنَا، وَذكر فِي (الْجَوَاهِر) للمالكية: الْمَنِيّ نجس وَأَصله دم، وَهُوَ يمر فِي ممر الْبَوْل، فَاخْتلف فِي سَبَب التَّنْجِيس: هَل هُوَ رده إِلَى أَصله، أَو مروره فِي مجْرى الْبَوْل؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَقَالَ بَعضهم: الثَّوْب الَّذِي اكتفت فِيهِ بالفرك ثوب النّوم، وَالثَّوْب الَّذِي غسلته ثوب الصَّلَاة، وَهُوَ مَرْدُود أَيْضا بِمَا فِي إِحْدَى رِوَايَات مُسلم من حَدِيثهَا أَيْضا: (لقد رَأَيْتنِي أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فركاً، فَيصَلي فِيهِ) . وَهَذَا التعقيب: بِالْفَاءِ، يَنْفِي احْتِمَال تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة؛ وأصرح مِنْهُ. رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة أَنَّهَا كَانَت تحكه من ثَوْبه وَهُوَ يُصَلِّي.
قلت: أَرَادَ بقوله: وَقَالَ بَعضهم، الْحَافِظ أَبَا جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (مَعَاني الْآثَار) : حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا بشر بن عمر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن الحكم عَن همام بن الْحَارِث أَنه كَانَ نازلاً على عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَاحْتَلَمَ، فرأته جَارِيَة لعَائِشَة وَهُوَ يغسل أثر الْجَنَابَة من ثَوْبه، أَو يغسل ثَوْبه، فاخبرت بذلك عَائِشَة، فَقَالَت عَائِشَة: لقد رَأَيْتنِي، وَمَا أَزِيد على أَن أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا من أَرْبَعَة عشر طَرِيقا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا، ثمَّ قَالَ: فَذهب ذاهبون إِلَى أَن الْمَنِيّ طَاهِر، وَأَنه لَا يفْسد المَاء، وَإِن وَقع فِيهِ وَإِن حكمه فِي ذَلِك حكم النخامة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْآثَار. وَأَرَادَ بهؤلاء الذاهبين: الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل هُوَ نجس. وَأَرَادَ بالآخرين: الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَأَصْحَابه ومالكاً وَاللَّيْث بن سعد وَالْحسن بن حَيّ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقَالُوا لاحجة لكم فِي هَذِه الْآثَار لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت فِي ذكر ثِيَاب ينَام فِيهَا، وَلم يَأْتِ فِي ثِيَاب يُصَلِّي فِيهَا، وَقد رَأينَا أَن الثِّيَاب النَّجِسَة بالغائط وَالْبَوْل وَالدَّم لَا بَأْس بِالنَّوْمِ فِيهَا، وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهَا، فقد يجوز أَن يكون الْمَنِيّ كَذَلِك، وَإِنَّمَا يكون هَذَا الحَدِيث حجَّة علينا وَلَو كُنَّا نقُول: لَا يصلح النّوم فِي الثَّوْب النَّجس، فَأَما إِذا كُنَّا نُبيح ذَلِك ونوافق مَا رويتم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، ونقول من بعد: لَا يصلح الصَّلَاة فِي ذَلِك، فَلم نخالف شَيْئا مِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد جَاءَت عَن عَائِشَة فِيمَا كَانَت تفعل بِثَوْب رَسُول الله(3/145)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ إِذا اصابه الْمَنِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن الْمُبَارك وَبشر بن الْمفضل عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كنت أغسل الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيخرج إِلَى الصَّلَاة وَإِن بقع المَاء لفي ثَوْبه) . وَإِسْنَاده صَحِيح على شَرط مُسلم. وَأخرجه الْجَمَاعَة أَيْضا على مَا يأتى بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَكَذَا كَانَت تفعل عَائِشَة بِثَوْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، تغسل الْمَنِيّ مِنْهُ وتفركه من وثبه الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي فِيهِ، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل اسْتدلَّ فِي رده على الطَّحَاوِيّ فِيمَا ذَكرْنَاهُ بِأَن قَالَ: وَهَذَا التعقيب بِالْفَاءِ يَنْفِي ... الخ، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَن كَون الْفَاء للتعقيب لَا يَنْفِي احْتِمَال تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة، لِأَن أهل الْعَرَبيَّة قَالُوا: إِن التعقيب فِي كل شَيْء بِحَسبِهِ، أَلا ترى أَنه يُقَال: تزوج فلَان فولد لَهُ إِذا لم يكن بَينهمَا إلاَّ مُدَّة الْحمل، وَهُوَ مُدَّة متطاولة، فَيجوز على هَذَا أَن يكون معنى قَول عَائِشَة: لقد رَأَيْتنِي أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادَت بِهِ ثوب النّوم، ثمَّ تغسله فَيصَلي فِيهِ، وَيجوز أَن تكون: الْفَاء، بِمَعْنى: ثمَّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الغظام لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) . فالفاآت، فِيهَا بِمَعْنى: ثمَّ، لتراخى معطوفاتها، فَإِذا ثَبت جَوَاز التَّرَاخِي فِي الْمَعْطُوف يجوز أَن يَتَخَلَّل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ مُدَّة يجوز وُقُوع الْغسْل فِي تِلْكَ الْمدَّة، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) والطَّحَاوِي فِي (مَعَاني الْآثَار) عَن عَائِشَة، قَالَت: كنت أفرك الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ. قَوْله: وأصرح مِنْهُ رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة ... الخ لَا يساعده أَيْضا فِيمَا ادَّعَاهُ، لِأَن قَوْله: وَهُوَ يُصَلِّي، جملَة إسمية وَقعت حَالا منتظرة، لَان عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَا كَانَت تحك الْمَنِيّ من ثوب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَال كَونه فِي الصَّلَاة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يحْتَمل تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة.
229 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ المُبارَكِ قَالَ أخبرنَا عَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ الجَزَريُّ عنْ سلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ كنْتُ أَغْسِلُ الجنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ وإنَّ بُقَعَ المَاءِ فِي ثوْبِهِ..
لم يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة إلاَّ فِي غسل الْمَنِيّ فَقَط، وَقد ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب الْوَحْي، وَعبد الله بن الْمُبَارك كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَعبد الله، أَي: ابْن الْمُبَارك فَكَأَنَّهُ وَقع فِي نسخته الَّتِي ينْقل عَنْهَا: عبد الله، مَنْسُوبا إِلَى الْأَب بالتفسير من البُخَارِيّ، فَلذَلِك قَالَ: اي ابْن الْمُبَارك، ثمَّ قَالَ: وَقَالَهُ على سَبِيل التَّعْرِيف إشعاراً بِأَنَّهُ لَفظه لالفظة نسخته، وَعَمْرو بن مَيْمُون الْجَزرِي مَنْسُوب إِلَى الجزيرة، وَكَانَ مَيْمُون بن مهْرَان وَالِد عَمْرو نزلها فنسب إِلَيْهَا وَلَده، وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده: الْجَوْزِيّ، بواو، سَاكِنة بعْدهَا: زَاي، وَهُوَ غلط مِنْهُ. قلت: الظَّاهِر أَن الْغَلَط من النَّاقِل أَو الْكَاتِب، فدور رَأس: الزَّاي، ونقط: الرَّاء، فَصَارَ: الْجَوْزِيّ. وَقد يَقع من الناقلين وَالْكتاب الجهلة أَكثر من هَذَا وأفحش. وَالرَّابِع: سُلَيْمَان بن يسَار، ضد الْيَمين، مولى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ، فَقِيه الْمَدِينَة العابد الْحجَّة، توفّي عَام سَبْعَة وَمِائَة. وَالْخَامِس: عَائِشَة الصديقة.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي ورقي ومدني، فعبدان وَابْن الْمُبَارك مروزيان، وعبدان لقب واسْمه عبد الله بن عُثْمَان، وَقد ذَكرْنَاهُ غير مرّة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عَبْدَانِ وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد وَعَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن خَالِد، كَمَا يَأْتِي ذكر الْجَمِيع هَهُنَا. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي كَامِل وَعَن أبي كريب وَيحيى بن أبي زَائِدَة، أربعتهم عَن عَمْرو بن مَيْمُون بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النُّفَيْلِي عَن زُهَيْر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبيد الْبَصْرِيّ عَن سليم بن أحصد عَن عَمْرو بن مَيْمُون بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي مُعَاوِيَة عَن عَمْرو بن مَيْمُون نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ.(3/146)
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عَمْرو بن مَيْمُون. قَالَ: سَأَلت سُلَيْمَان بن يسَار ... فَذكره.
بَيَان لغته وَمَا يستنبط مِنْهُ قَوْله: (أغسل الْجَنَابَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الْجَنَابَة معنى لَا عين، فَكيف يغسل؟ قلت: الْمُضَاف مَحْذُوف أَي: أثر الْجَنَابَة، أَو موجوبه أَو هِيَ مجَاز عَنهُ، وَيُقَال: المُرَاد من الْجَنَابَة: الْمَنِيّ، من بَاب تَسْمِيَة الشَّيْء باسم سَببه، وان وجوده سَبَب لبعده عَن الصَّلَاة وَنَحْوهَا. قلت: يجوز أَن تكون عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، أطلقت على: الْمَنِيّ، اسْم الْجَنَابَة، فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير بالحذف أَو بالمجاز. قَوْله: (وَإِن بقع المَاء) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْقَاف وبالعين الْمُهْملَة: جمع بقْعَة، كالنطف والنطفة، والبقعة فِي الأَصْل قِطْعَة من الأَرْض يُخَالف لَوْنهَا لون مَا يَليهَا، وَفِي بعض النّسخ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْقَاف، جمع بقْعَة: كتمرة وتمر، مِمَّا يفرق بَين الْجِنْس الْوَاحِد مِنْهُ بِالتَّاءِ. وَقَالَ التَّيْمِيّ: بريد بالبقعة الْأَثر. قَالَ أهل اللُّغَة: البقع اخْتِلَاف اللونين، يُقَال: غراب أبقع. وَقَالَ ابْن بطال: البقع بقع الْمَنِيّ وطبعه. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن فِي الحَدِيث صرح: وَإِن بقع المَاء، وَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه: وَأَنا أرى أثر الْغسْل فِيهِ، يَعْنِي لم يجِف.
وَمن أَحْكَام هَذَا الحَدِيث: أَنه حجَّة للحنفية فِي قَوْلهم: إِن الْمَنِيّ نجس، لقَوْل عَائِشَة: كنت أغسل الْجَنَابَة من ثوب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَوْلها: كنت، يدل على تكْرَار هَذَا الْفِعْل مِنْهَا، فَهَذَا أدل دَلِيل على نَجَاسَة الْمَنِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَالْحَدِيث حجَّة لمن قَالَ بِنَجَاسَة الْمَنِيّ. قلت: لَا حجَّة لَهُ لاحْتِمَال أَن يكون غسله بِسَبَب أَن مَمَره كَانَ نجسا، أَو بِسَبَب اخْتِلَاطه برطوبة فرجهَا، على مَذْهَب من قَالَ بِنَجَاسَة رُطُوبَة فرجهَا. انْتهى. قلت بلَى: لَهُ حجَّة، وتعليله بِهَذَا لدعواه لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَن المشرحين من الْأَطِبَّاء الأقدمين قَالُوا: إِن مُسْتَقر الْمَنِيّ فِي غير مُسْتَقر الْبَوْل، وَكَذَلِكَ مخرجاهما، وَأما نَجَاسَة رُطُوبَة فرج الْمَرْأَة فَفِيهَا خلاف عِنْدهم.
وَمن أَحْكَامه: خدمَة الْمَرْأَة لزَوجهَا فِي غسل ثِيَابه وَنَحْو ذَلِك، خُصُوصا إِذا كَانَ من أَمر يتَعَلَّق بهَا، وَهُوَ من حسن الْعشْرَة وَجَمِيل الصُّحْبَة.
وَمِنْهَا: نقل أَحْوَال المقتدى بِهِ، وَإِن كَانَ يستحي من ذكرهَا عَادَة.
وَمِنْهَا: خُرُوج الْمُصَلِّي إِلَى الْمَسْجِد بِثَوْبِهِ الَّذِي غسل مِنْهُ الْمَنِيّ قبل جفافه.
230 - حدّثنا قتَيْبةُ قَالَ حَدثنَا يَزيدُ قَالَ حدّثنا عَمْرٌ وعنْ سُلَيْمانَ بِنْ يَسارٍ قالَ سمِعْتُ عائِشَةَ ح وحدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا عَمروُ بنُ مَيْمُونٍ عنْ سْلَيْمانَ بنِ يسارٍ قَالَ سَألْتُ عائِشةَ عَن المَنِيِّ يُصِيبُ الثِّوْبَ فَقالَتْ كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَخْرُجُ إِلَيّ الصَّلاةِ وأثَرُ الغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ المَاءِ.
اخْرُج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث عَن خَمْسَة أنفس، ثَلَاثَة مِنْهُم فِي هَذَا الْبَاب، وهم: عَبْدَانِ وقتيبة ومسدد، وإثنان مِنْهُم فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وهما: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَمْرو بن خَالِد، وَقد ذكرُوا عَن قريب، وَذكرنَا أَيْضا من أخرجه غَيره.
وَرِجَاله هَهُنَا سَبْعَة: قُتَيْبَة بن سعيد، وَقد تقدم فِي بَاب السَّلَام من الاسلام. وَالثَّانِي: يزِيد، من الزِّيَادَة، وَذكره البُخَارِيّ غير مَنْسُوب مُجَردا، وَاخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ يزِيد بن زُرَيْع، وَقيل: يزِيد بن هَارُون، وَكِلَاهُمَا رويا عَن عَمْرو بن مَيْمُون، وَوَقع فِي رِوَايَة الْفربرِي: ابْن حَمَّاد بن شَاكر: هَكَذَا حَدثنَا يزِيد، غير مَنْسُوب، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن، أحد الروَاة عَن الْفربرِي: حَدثنَا يزِيد، يَعْنِي ابْن زُرَيْع. وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ الكلاباذي، وَرجح الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي شَرحه أَنه ابْن هَارُون، قَالَ: لِأَنَّهُ لم يُوجد من رِوَايَة ابْن زُرَيْع، وَوجد من رِوَايَة ابْن هَارُون، وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من عدم الوجدان عدم الْوُجُود، وَقد جزم أَبُو مَسْعُود بِأَنَّهُ رَوَاهُ، فَدلَّ على وجدانه. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَبَا مَسْعُود مَا جزم بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يُقَال: هُوَ ابْن هَارُون: لَا إِبْنِ زُرَيْع؛ وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الدَّوْرَقِي، وَأحمد بن منيع ويوسف بن مُوسَى قَالُوا: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث الْحَارِث بن أبي أُسَامَة أخبرنَا يزِيد بن هَارُون وَرَوَاهُ أَبُو نصر السجْزِي فِي (فَوَائده) من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ، حَدثنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ أَبُو نصر: أخرجه البُخَارِيّ عَن قُتَيْبَة عَن يزِيد بن هَارُون. وَقَالَ الجياني: حَدثنَا أَبُو عمر النمري حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك حَدثنَا ابْن الْأَعرَابِي أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا عَمْرو. انْتهى. وَرجح هَذَا الْقَائِل كَلَامه فِي كَون يزِيد هَذَا ابْن زُرَيْع لَا ابْن هَارُون بشيئين لَا ينْهض كَلَامه بهما. أَولهمَا: بقوله: وَقد خرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ(3/147)
وَغَيره من حَدِيث يزِيد بن هَارُون بِلَفْظ مُخَالف للسياق الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ، وَهَذَا من مرجحات كَونه ابْن زُرَيْع. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه حجَّة عَلَيْهِ ورد لكَلَامه، لِأَن مُخَالفَة لفظ من روى هَذَا الحَدِيث لسياق البُخَارِيّ لَيست مرجحة لكَون يزِيد هَذَا هُوَ ابْن زُرَيْع مَعَ، صَرَاحَة ذكر ابْن هَارُون فِي الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة. وَالثَّانِي: قَالَ: وقتيبة مَعْرُوف بالرواية عَن يزِيد بن زُرَيْع دون ابْن هَارُون. قلت: هَذَا أَيْضا حجَّة عَلَيْهِ ومردود عَلَيْهِ، لِأَن كَون قُتَيْبَة مَعْرُوفا بالرواية عَن يزِيد بن زُرَيْع لَا يُنَافِي رِوَايَته عَن يزِيد بن هَارُون، بعد أَن ثَبت أَن قُتَيْبَة روى عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَلَقَد غره فِي هَذَا مَا قَالَه الْمزي: الصَّحِيح أَنه يزِيد بن زُرَيْع، فَإِن قُتَيْبَة مَشْهُور بالرواية عَن ابْن زُرَيْع دون ابْن هَارُون. انْتهى. قَالُوا: فِيهِ نظر، وَوَجهه مَا ذكرنَا، وَكَانَ قصد هَذَا الْقَائِل توهية كَلَام الشَّيْخ قطب الدّين، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ذكره إِيَّاه بِمَا ذكره، وَلَا يخفى ذَلِك على من لَهُ فطانة. قَوْله: (حَدثنَا عَمْرو عَن سُلَيْمَان) ، كَذَا وَقع: عَمْرو، غير مَنْسُوب عِنْد الْأَكْثَرين، وَوَقع عِنْد ابي ذَر يَعْنِي: ابْن مَيْمُون، وَهُوَ: عَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان، وَقد تقدم. قَوْله: (حَدثنَا عبد الْوَاحِد) ، هُوَ: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَفِي طبقته عبد الْوَاحِد بن زيد الْبَصْرِيّ، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ شَيْئا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي سِتَّة مَوَاضِع، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: فِي الْإِسْنَاد الأول: سَمِعت، وَفِي الثَّانِي: سَأَلت، إِشَارَة إِلَى الرَّد على من زعم أَن سُلَيْمَان بن يسَار لم يسمع عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل وَالْبَزَّار، وَقد صرح البُخَارِيّ بِسَمَاعِهِ مِنْهَا، وَكَذَا هُوَ فِي (صيحح مُسلم) قلت: فِي سَمِعت وَسَأَلت، لَطِيفَة أُخْرَى لم تأت صوبها الشُّرَّاح، وَهِي: أَن كل وَاحِدَة من هَاتين اللفظتين لَا تَسْتَلْزِم الاخرى لَان السماع لَا يسْتَلْزم السُّؤَال وَلَا السُّؤَال يسْتَلْزم السماع فَلذَلِك ذكرهمَا فِي الْإِسْنَاد ليدل على صِحَة السُّؤَال وَصِحَّة السماع فَافْهَم. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني. وَفِيه: وَقعت صُورَة (ح) إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد قبل ذكر متن الحَدِيث إِلَى اسناد آخر لَهُ، وَفِيه: فِي الْإِسْنَاد الثَّانِي وَقع: قَالَ: حَدثنَا عَمْرو، يعْنى ابْن مَيْمُون، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن شَيْخه لم ينْسبهُ، وَهَذَا تَفْسِير لَهُ من تِلْقَاء نَفسه. فان قلت: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور فِي: يزِيد، هَل هُوَ: يزِيد ابْن زُرَيْع، أَو: يزِيد ابْن هَارُون التباس، وَهُوَ يقْدَح فِي الحَدِيث. قلت: لَا، لِأَن أياً كَانَ فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا كَانَ يقْدَح لَو كَانَ أَحدهمَا على غير شَرطه.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (عَن الْمَنِيّ) أَي: عَن حكم الْمَنِيّ، هَل يشرع غسله أم لَا؟ قَالَ بَعضهم: فَحصل الْجَواب بِأَنَّهَا كَانَت تغسله وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يَقْتَضِي إِيجَابه. قلت: قد ذكرت فِيمَا مضى أَن قَوْله: كنت، يدل على تكْرَار الْغسْل مِنْهَا، وَهُوَ عَلامَة الْوُجُوب مَعَ وُرُود الامر فِيهِ بِالْغسْلِ، وَالْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب، وَهَذَا الْقَائِل يُرِيد تمشية مذْهبه من غير دَلِيل نقلي وَلَا عَقْلِي. قَوْله: (فَيخرج إِلَى الصَّلَاة) أَي: يخرج من الْحُجْرَة إِلَى الْمَسْجِد للصَّلَاة. قَوْله: (بقع المَاء) ، قد مر تَفْسِير البقع، وَهُوَ مَرْفُوع على جَوَاب سُؤال مُقَدّر، تَقْدِيره، أَن يُقَال: مَا ذَلِك الْأَثر؟ فَأجَاب: بقع المَاء. اي: هُوَ بقع المَاء، وَفِي الْحَقِيقَة يكون خَبرا لمبتدأ مَحْذُوف؛ وَقَالَ بَعضهم: هُوَ بدل وَلَيْسَ بِشَيْء، وَيجوز النصب فِيهِ على الِاخْتِصَاص أَي: أَعنِي بقع المَاء.
65 - (بابُ إِذا غَسَلَ الجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَها فَلمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَنِيّ أَو غَيره، وَلم يذهب أَثَره، وَمرَاده أَن الْأَثر إِذا كَانَ بَاقِيا لَا يضرّهُ، وَقَالَ بَعضهم: الْأَثر أثر الشَّيْء المغسول، وَفِيه نظر، لِأَن على قَوْله يكون الْبَاقِي أثر الْمَنِيّ وَنَحْوه، وَهَذَا يضرّهُ، بل المُرَاد الْأَثر المرئي للْمَاء لَا للمني، وَلَفظ حَدِيث الْبَاب يدل على هَذَا، وَهُوَ قَوْله: واثر الْغسْل فِي ثَوْبه بقع المَاء. قَوْله: (اَوْ غَيرهَا) أَي غير الْجَنَابَة، نَحْو: دم الْحيض، وَلم يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا يدل على هَذِه التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: وَذكر فِي الْبَاب حَدِيث الْجَنَابَة وَألْحق غَيرهَا قِيَاسا، وَأَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: يَا رَسُول الله! لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد وَأَنا أحيض، فَكيف أصنع؟ قَالَ: إِذا طهرت فاغسليه. قَالَت: فان لم يخرج الدَّم؟ قَالَ: يَكْفِيك المَاء وَلَا يَضرك أَثَره) انْتهى. قلت: البُخَارِيّ يذكر مَسْأَلَة ثمَّ يقيس عَلَيْهَا غَيرهَا، أَو يسْرد حَدِيثا فِي بَاب مترجم دَالا على التَّرْجَمَة، وَلَا فَائِدَة فِي ذكر تَرْجَمَة بِدُونِ ذكر حَدِيث مُوَافق لَهَا مُشْتَمل عَلَيْهَا، وَلم نَعْرِف مَا مُرَاده من هَذَا الْقيَاس، هَل هُوَ لغَوِيّ أَو اصطلاحي شَرْعِي أَو منطقي؟ وَمَا هَذَا إلاَّ قِيَاس(3/148)
فَاسد. وَأَيْضًا من أَيْن عرفنَا أَنه أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؟ وَمن أَيْن عرفنَا أَنه وقف على هَذَا أَو لم يقف؟ وَلَكِن كل ذَلِك تخمين بتخبيط. قَوْله: (فَلم يذهب اثره) : الْفَاء، فِيهِ للْعَطْف لَا للجزاء. لقَوْله: (إِذا غسل) ، لِأَن جزاءه مَحْذُوف تَقْدِيره: صَحَّ صلَاته، أَو نَحْو ذَلِك، وَالضَّمِير فِي: أَثَره، يرجع إِلَى كل وَاحِد من غسل الْجَنَابَة وَغَيرهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَلم يذهب أَثَره: أَي أثر الْغسْل. وَقَالَ بَعضهم، وَأعَاد الضَّمِير مذكراً على المعني أَي: فَلم يذهب أثر الشَّيْء المغسول. قلت: كَلَام الْكرْمَانِي أوجه، لِأَن الْمَعْنى على أَن بَقَاء أثر الْغسْل لَا يضر لإبقاء المغسول، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا عسر إِزَالَة أثر المغسول، فَلَا يضر حِينَئِذٍ للْحَرج، وَهُوَ مَدْفُوع شرعا. وَقَالَ الْكرْمَانِي؛ فِي بعض النّسخ: أَثَرهَا، اي: أثر الْجَنَابَة. قلت: إِن صحت هَذِه النُّسْخَة فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل الْمَذْكُور، وَلَكِن تَفْسِيره بقوله: أَي، أثر الْجَنَابَة يرجع إِلَى تَفْسِير الْقَائِل الْمَذْكُور، وفساده ظَاهر.
231 - حدّثنا مُوسَى بِنْ إسْماعِيلَ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا عَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ قَالَ سَأَلْتُ سُلَيْمانَ بن يَسارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الجَنَابَةُ قَالَ قالَتْ عائِشَةُ كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيّ الصَّلاةِ وأَثَرُ الغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ المَاءِ.
مُطَابقَة الحَدِيث لإحدى الترجمتين، وَهِي أولاهما ظَاهِرَة، والمنقري بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْقَاف: نِسْبَة إِلَى بني منقر، بطن من تَمِيم، وَهُوَ أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي. عبد الْوَاحِد هُوَ: ابْن زِيَاد الْمَذْكُور عَن قريب. قَوْله: (سَمِعت سُلَيْمَان بن يسَار) ، هَكَذَا هُوَ عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (سَأَلت سُلَيْمَان بن يسَار) . قَوْله: (فِي الثَّوْب) مَعْنَاهُ على رِوَايَة: سَمِعت، أَي: سَمِعت سُلَيْمَان يَقُول فِي حكم الثَّوْب الَّذِي تصيبة الْجَنَابَة، وعَلى رِوَايَة: سَأَلت، الْمَعْنى: قلت لِسُلَيْمَان: مَا تَقول فِي الثَّوْب الَّذِي تصيبة الْجَنَابَة؟ وعَلى هَذِه الرِّوَايَة يجوز أَن تكون كلمة: فِي بِمَعْنى: من، كَمَا فِي قَوْله.
(وَهل يعمن من كَانَ فِي الْعَصْر الْخَالِي)
قَوْله: (كنت أغسله) ، أَي: كنت أغسل أثر الْجَنَابَة، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، لِأَن مَعْنَاهُ: كنت أغسل الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ الْمَعْنى: أغسل أثر الْمَنِيّ، فعلى هَذَا تذكير الضَّمِير يكون بِاعْتِبَار معنى الْجَنَابَة، لِأَن مَعْنَاهَا: الْمَنِيّ هَهُنَا، وَبَاقِي الْكَلَام فِيهِ قد مر فِيمَا قبله.
232 - حدّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ قَالَ حَدثنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدثنَا عمْرُو بنُ مَيْمُونِ بنِ مِهْرانَ عنْ سُلَيْمانَ بنِ يسارٍ عنْ عائشَةَ أنَّهَا كانَتْ تَغْسِلُ الَمنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعةً اوْ بُقَعاً.
عَمْرو بن خَالِد، بِفَتْح الْعين، وَلَيْسَ فِي شُيُوخ البُخَارِيّ عمر بن خَالِد بِضَم الْعين. قَوْله: (زُهَيْر) هُوَ ابْن مُعَاوِيَة. قَوْله: (عَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان) ، بِكَسْر الْمِيم غير منصرف، وَلم يذكر جد عَمْرو فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن عَائِشَة من خَمْسَة أوجه إلاَّ فِي هَذَا الْوَجْه، وَفِي هَذَا الْوَجْه نُكْتَة أُخْرَى وَهِي أَن فِيهِ الْإِخْبَار عَن سُلَيْمَان عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت تغسل على سَبِيل الْغَيْبَة، وَفِي الْأَوْجه الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة الْإِخْبَار عَنْهَا على سَبِيل التَّكَلُّم عَنْهَا. قَوْله: (من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي بعض النّسخ: (من ثوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (ثمَّ أرَاهُ) من رُؤْيَة الْعين أَي: أبصره، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الثَّوْب، وَفِي بعض النّسخ: (ثمَّ أرى) ، بِدُونِ الضَّمِير، فعلى هَذَا مفعول: أرى، مَحْذُوف على مَا يَجِيء الْآن. فان قلت: كَيفَ التئام هَذَا بِمَا قبله، لِأَن مَا قبله إِخْبَار عَن سُلَيْمَان وَقَوله: ثمَّ أرَاهُ، نقل عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا قلت فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره قَالَت ثمَّ أرَاهُ وَهَذَا الْوَجْه من كَلَام الْكرْمَانِي أَن أول الْكَلَام نقل بِالْمَعْنَى عَن لفظ عَائِشَة وَآخره نقل للفظها بِعَيْنِه. قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي الثَّوْب، هَذَا على تَقْدِير أَن يكون: أرى، بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب، وَالتَّقْدِير: ثمَّ أرى فِي الثَّوْب بقْعَة، فَيكون انتصاب بقْعَة على المفعولية. وَأما على تَقْدِير: أرَاهُ، بالضمير الْمَنْصُوب، فمرجعه يكون الْأَثر الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَقَوله: (تغسل الْمَنِيّ من ثوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أرى أثر الْغسْل فِي الثَّوْب بقْعَة. قَوْله: (أَو بقعاً) ، الظَّاهِر أَنه من كَلَام عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون شكا من سُلَيْمَان أَو من أحد الروَاة. وَالله تَعَالَى أعلم.(3/149)
66 - (بابُ أَبْوَالِ الابِلِ والدَّوابِّ والغَنَمِ ومَرَابِضهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أَبْوَال الْإِبِل ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا جمع الأبوال لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد ذكر حكم بَوْل الْإِبِل فَقَط، بل المُرَاد بَيَان حكم بَوْل الْإِبِل وَبَوْل الدَّوَابّ وَبَوْل الْغنم، وَلَكِن لَيْسَ فِي البا إلاَّ ذكر بَوْل الْإِبِل فَقَط، وَلَا وَاحِد لِلْإِبِلِ من لَفظهَا، وَهِي مُؤَنّثَة لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، إِذا كَانَت لغير الْآدَمِيّين، فالتأنيث لَهَا لَازم. وَقد تسكن الْبَاء فِيهِ للتَّخْفِيف، وَالْجمع آبال. وَالدَّوَاب: جمع دبة، وَهِي فِي اللُّغَة: اسْم لما يدب على وَجه الأَرْض، فَيتَنَاوَل سَائِر الْحَيَوَانَات. وَفِي الْعرف: اسْم لذِي الْأَرْبَع خَاصَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد هَهُنَا مَعْنَاهُ الْعرفِيّ، وَهُوَ ذَوَات الحوافر، يَعْنِي: الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ الْعرفِيّ منحصراً فِي هَذِه، بل يُطلق على كل ذِي أَربع، وَالْبُخَارِيّ لم يذكر فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ حديثين: أَحدهمَا يفهم مِنْهُ حكم بَوْل الْإِبِل. وَالْآخر: يفهم مِنْهُ جَوَاز الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم، فعلى هَذَا ذكر لَفظه الدَّوَابّ لَا فَائِدَة فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون من عطف الْعَام على الْخَاص. قلت: هُوَ كَذَلِك، فَأَي شَيْء ذكر الِاحْتِمَال فِيهِ، وَفِيه عطف الْخَاص على الْعَام أَيْضا، وَهُوَ عطف الْغنم على الدَّوَابّ. قَوْله: (ومرابضها) بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (وَالْغنم) وَهُوَ جمع: مربض، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: من ربض بِالْمَكَانِ يربض، من بَاب: ضرب يضْرب، إِذا ألصق بِهِ، وَأقَام ملازماً لَهُ، والمربض: الْمَكَان الَّذِي يربض فِيهِ، والمرابض للغنم كالمعاطن لِلْإِبِلِ، وربوض الْغنم كبروك الْجمل. وَقَالَ بَعضهم: المربض، بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْمُوَحدَة؛ قلت: هُوَ غلط صَرِيح لَيْسَ لقائله مس بالعلوم الادبية، وَالضَّمِير فِي: مرابضها، يرجع إِلَى الْغنم. وَقَالَ بعضم: الضَّمِير يعود على أقرب مَذْكُور. قلت: هَذَا قريب مِمَّا قُلْنَا.
فان قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة هَذَا الْبَاب بِمَا قبله؟ قلت: يجوز أَن يكون من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على شَيْء، وَهُوَ نجس فِي نَفسه، على قَول من يَقُول بِنَجَاسَة الْمَنِيّ ونجاسة بَوْل الْإِبِل، وعَلى قَول من يَقُول بطهارتهما يكون وَجه الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي كَونهمَا على السوَاء فِي الطَّهَارَة.
وصلَّى أبُو مُوسَي رَضِي الله عَنهُ فِي دَارِ البرهيده والسِّرْقِيْنُ والبَرِّيةُ إِلَى جنْبه فَقَالَ هَهُنا وثَمَّ سَوَاءٌ
هَذَا الاثر وَصله أَبُو نعيم، شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب (الصَّلَاة) لَهُ، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث هُوَ السّلمِيّ الْكُوفِي، عَن أَبِيه، قَالَ: صلى بِنَا أَبُو مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد، وَهُنَاكَ سرقين الدَّوَابّ والبرية على الْبَاب، فَقَالُوا: لَو صليت على الْبَاب ... فَذكره. وَهَذَا تَفْسِير لما ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث عَن أَبِيه قَالَ، كُنَّا مَعَ أبي مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلى بِنَا على رَوْث وتبن. فَقُلْنَا: لَا نصلي هَهُنَا والبرية إِلَى جَنْبك. فَقَالَ: الْبَريَّة وَهَهُنَا سَوَاء. وَقَالَ ابْن حزم: روينَا من طَرِيق شُعْبَة وسُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث عَن أَبِيه قَالَ: صلى بِنَا أَبُو مُوسَى على مَكَان فِيهِ سرقين، وَهَذَا لفظ سُفْيَان، وَقَالَ شُعْبَة: رَوْث الدَّوَابّ. قَالَ: ورويناه من طَرِيق غَيرهمَا: والصحراء أَمَامه. وَقَالَ: هَهُنَا وَهُنَاكَ سَوَاء، وَأَبُو مُوسَى الاشعري اسْمه: عبد الله بن قيس، تقدم فِي بَاب: أَي: الْإِسْلَام أفضل. قَوْله: (فِي دَار الْبَرِيد) وَهِي دَار ينزلها من يَأْتِي برسالة السُّلْطَان، وَالْمرَاد من: دَار الْبَرِيد، هَهُنَا مَوضِع بِالْكُوفَةِ كَانَت الرُّسُل تنزل فِيهِ إِذا حَضَرُوا من الْخُلَفَاء إِلَى الْأُمَرَاء، وَكَانَ أَبُو مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمِيرا على الْكُوفَة فِي زمن عمر، وَفِي زمن عُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَكَانَ الدَّار فِي طرف الْبَلَد، وَلِهَذَا كَانَت الْبَريَّة إِلَى جنبها، و: الْبَرِيد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْمُرَتّب، وَالرَّسُول، وإثنا عشر ميلًا، قَالَه الْجَوْهَرِي. قَوْله: (والسرقين) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء هُوَ: الزبل، وَحكى فِيهِ ابْن سَيّده فتح أَوله، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَيُقَال لَهُ، السرجين، بِالْجِيم، وَهُوَ فِي الأَصْل حرف بَين الْقَاف وَالْجِيم يقرب من الْكَاف. قَوْله: (والبرية) بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الصَّحرَاء. قَالَ صَاحب (الْمُحكم) : هِيَ منسوبة إِلَى الْبر، وَالْجمع: البراري. قَوْله: (جنبه) الْجنب والجانب والجنبة: النَّاحِيَة. وَيُقَال: قعدت إِلَى جنب فلَان، وَإِلَى جَانب فلَان بِمَعْنى. قَوْله: (وَثمّ) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، نَحْو: {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا: لرأيت فِي قَوْله: تَعَالَى {واذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان: 20) قَوْله: (سَوَاء) ، يَعْنِي فِي صِحَة الصَّلَاة، ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: (والسرقين) يجوز أَن يكون مَعْطُوفًا على: الدَّار، وعَلى: الْبَرِيد، قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِالرَّفْع، وَلم يذكر وَجهه. قلت: وَجه أَن يكون مُبْتَدأ. وَقَوله: والبرية، بِالرَّفْع عطف عَلَيْهِ،(3/150)
وَقَوله: الى جنبه، خَبره وَيكون مَحل الْجُمْلَة النصب على الْحَال، وعَلى تَقْدِير جر: السرقين، يكون ارْتِفَاع: الْبَريَّة، على الِابْتِدَاء. وَمَا بعده خَبره، وَالْجُمْلَة حَال أَيْضا وفاعل: قَالَ، أَبُو مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (هَهُنَا) اسْم مَوضِع، وَمحله رفع على الِابْتِدَاء، و: ثمَّ، عطف عَلَيْهِ، وَخَبره قَوْله: سَوَاء، يَعْنِي: أَنَّهُمَا متساويان فِي صِحَة الصَّلَاة. قَالَ ابْن بطال: قَوْله: أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب، وَافق البُخَارِيّ فِيهِ أهل الظَّاهِر، وقاس بَوْل مَا يكون مَأْكُولا لَحْمه على بَوْل الْإِبِل، وَلذَلِك قَالَ: وَصلى أَبُو مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد والسرقين، ليدل على طَهَارَة أرواث الدَّوَابّ وَأَبْوَالهَا، وَلَا حجَّة لَهُ فِيهَا، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون صلى على ثوب بَسطه فِيهِ أَو فِي مَكَان يَابِس لَا تعلق بِهِ نَجَاسَة. وَقد قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء: إِن من بسط على مَوضِع نجس بساطاً وَصلى فِيهِ إِن صلَاته جَائِزَة، وَلَو صلى على السرقين بِغَيْر بِسَاط لَكَانَ مذهبا لَهُ، وَلم تجز مُخَالفَة الْجَمَاعَة بِهِ. وَقَالَ بَعضهم نصْرَة للْبُخَارِيّ وردا على ابْن بطال: وَأجِيب بِأَن الأَصْل عَدمه، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (جَامعه) عَن الْأَعْمَش بِسَنَدِهِ، وَلَفظه: صلى بِنَا أَبُو مُوسَى على مَكَان فِيهِ سرقين، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه بِغَيْر حَائِل. قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِحَائِل، لِأَن شَأْنه يَقْتَضِي أَن يحْتَرز عَن الصَّلَاة على عين السرقين، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد روى سعيد بن مَنْصُور عَن سعيد بن الْمسيب وَغَيره: أَن الصَّلَاة على الطنفسة مُحدث، إِسْنَاده صَحِيح. قلت: أَرَادَ بِهَذَا تأييد مَا قَالَه، وَلكنه لَا يجديه، لِأَن كَون الصَّلَاة على الطنفسة محدثة لَا يسْتَلْزم أَن يكون على الْحَصِير وَنَحْوه كَذَلِك، فَيحْتَمل أَن يكون أَبُو مُوسَى قد صلى فِي دَار الْبَرِيد والسرقين على حَصِيرا وَنَحْوه، وَهُوَ الظَّاهِر، على أَن الطنفسة، بِكَسْر الطَّاء وَفتحهَا: بِسَاط لَهُ خمل رَقِيق، وَلم يَكُونُوا يستعملونها فِي حَالَة الصَّلَاة كاستعمال المترفين إِيَّاهَا، فكرهوا ذَلِك فِي الصَّدْر الأول، واكتفوا بالدون من السجاجيد تواضعاً، بل كَانَ أَكْثَرهم يُصَلِّي على الْحَصِير، بل كَانَ الْأَفْضَل عِنْدهم الصَّلَاة على التُّرَاب تواضعاً ومسكنة.
233 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ أبي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ قالَ قدِمَ انَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَأمَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلِقاحٍ وأنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوالِها وأَلْبَانِها فانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قتَلُوا رَاعِيَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْتَاقُوا النَّعَمَ فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أوَّلِ النَّهارِ فَبَعَثَ فِي آثارِهِمْ فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهارُ جِىءَ بهِمْ فَأَمَرَ فَقَطَع أيْدِيْهُمْ وأرْجُلَهُمْ وسُمِر تْ أَعْيُنُهُمْ وَالْقُوافي الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَونَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي بَوْل الْإِبِل فَقَط، وَالْمَذْكُور فِيهَا أَرْبَعَة أَشْيَاء.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، فسليمان بن حَرْب فِي بَاب من كره أَن يعود فِي الْكفْر، وَحَمَّاد فِي بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ التَّابِعِيّ فِي بَاب حلاوة الْإِيمَان، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله، كَذَلِك. وَكلهمْ أَعْلَام ائمة بصريون. (بَيَان لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَالْبَاقِي عنعنة فِي أبعة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن الروَاة بصريون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع: هُنَا عَن سلمَان بن حَرْب، وَفِي الْمُحَاربين عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْجِهَاد عَن مُعلى بن اسد، وَفِي الْمُحَاربين عَن مُوسَى بن اسماعيل، وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَمُحَمّد بن الصَّلْت، وَفِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم، وَفِي الدِّيات عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن هَارُون بن عبد الله بن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَعَن الْحسن بن أَحْمد، وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن أَحْمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَعَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان، وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن احْمَد بن سُلَيْمَان، وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَأعَاد حَدِيث عَمْرو بن عُثْمَان فِي التَّفْسِير، وَفِي رِوَايَة مُسلم أَدخل بَين أَيُّوب وَأبي قلَابَة أَبَا رَجَاء، مولى أبي قلَابَة، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن رِوَايَة حَمَّاد بن زيد إِنَّمَا هِيَ عَن أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن أبي قلَابَة. وَقَالَ: سُقُوط أبي رَجَاء وثبوته صَوَاب، وَيُشبه أَن يكون أَيُّوب سمع من(3/151)
ابي قلَابَة عَن أنس قصَّة العرنيين مُجَرّدَة، وَسمع من ابي رَجَاء عَن ابي قلَابَة حَدِيثه مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْقسَامَة، وَفِي آخرهَا قصَّة العرنيين، فحفظ عَنهُ حَمَّاد بن زيد الْقصَّتَيْنِ عَن أبي رَجَاء عَن ابي قلَابَة، وَحفظ الْآخرُونَ عَن ابي قلَابَة عَن أنس قصَّة العرنيين حسب.
بَيَان لغاته قَوْله: (من عكل) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف، وَفِي آخِره لَام: وعكل خمس قبائل، وَذَلِكَ أَن عَوْف بن عبد منَاف ولد قيسا، فولد قيس وائلاً وعوانة، فولد وَائِل عوفاً وثعلبة، فولد عَوْف بن وَائِل الْحَارِث وجشماً وسعداً وعلياً وقيساً، وأمهم بنت ذِي اللِّحْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ مطائلاً لحيته، فحضنتهم أمة سَوْدَاء يُقَال لَهَا: عكل، كَذَا قَالَه الْكَلْبِيّ وَغَيره، وَيُقَال: عكل امْرَأَة حضنت ولد عَوْف بن إِيَاس بن قيس بن عَوْف بن عبد مَنَاة ابْن اد بن طابخة. وَزعم السَّمْعَانِيّ: أَنهم بطن من غنم، ورد ذَلِك عَلَيْهِ أَبُو الْحسن الْجَزرِي بِأَن عكل امْرَأَة من حمير يُقَال لَهَا: بنت ذِي اللِّحْيَة، تزَوجهَا عَوْف بن قيس بن وَائِل بن عَوْف بن عبد مَنَاة بن اد، فَولدت لَهُ سَعْدا وجشماً وعلياً، ثمَّ هَلَكت الحميرية، فحضنت عكل وَلَدهَا وهم من جملَة الربَاب، تحالفوا على بني تَمِيم. قَوْله: (اَوْ عرينة) ، بِضَم الْعين وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون، وعرينة بن نَذِير بن قيس بن عبقر بن أَنْمَار بن الْغَوْث بن طي بن أدد، وَزعم الْيَشْكُرِي أَن عرينة بن عَزِيز بن نَذِير. قَوْله: (فاجتووا الْمَدِينَة) أَي: أَصَابَهُم الجوى، بِالْجِيم: وَهُوَ دَاء الْجوف إِذا تطاول، وَيُقَال الاجتواء كَرَاهِيَة الْمقَام. يُقَال: اجتويت الْبَلَد: إِذا كرهتها وَإِن كَانَت مُوَافقَة لَك فِي بدنك، واستوبلتها إِذا لم توافقك فِي بدنك وَإِن أحببتها. قَوْله: (بلقاح) بِكَسْر اللَّام، وَهِي: الْإِبِل، الْوَاحِدَة: لقوح، وَهِي الحلوب مثل: قلُوص وقلاص، قَالَ ابو عَمْرو: إِذا انتجت فَهِيَ لقوح شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة، ثمَّ هِيَ لبون بعد ذَلِك. قَوْله: (فَاسْتَاقُوا النعم) : استاقوا، من الاستياق، وَهُوَ السُّوق. و: النعم، بِفتْحَتَيْنِ: وَاحِد الْأَنْعَام، وَهِي المَال الراعية، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الِاسْم على الْإِبِل. قَوْله: (فِي آثَارهم) الْآثَار جمع: اثر، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، يُقَال: خرجت فِي أَثَره إِذا خرجت وَرَاءه. قَوْله: (وسمرت) ، بِضَم السِّين وَتَخْفِيف الْمِيم وتشديدها، وَمعنى سمرت أَعينهم: كحلت بمسامير محماة. وَفِي رِوَايَة: سملت، بِاللَّامِ مَوضِع الرَّاء، يُقَال: سلمت عينه، بِصِيغَة الْمَجْهُول ثلاثياً، إِذا فقئت بحديدة محماة. وَقيل: هما بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (فِي الْحرَّة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: وَهِي الأَرْض ذَات الْحِجَارَة السود، وَيجمع على: حر وحرار وحرات وحرين وأحرين، وَهُوَ من الجموع النادرة: كثبين وقلين، فِي جمع: ثبة وَقلة. وَالْمرَاد من الْحرَّة هَذِه: حرَّة بِظَاهِر مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بهَا حِجَارَة سود كَثِيرَة، وَكَانَت بهَا الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة أَيَّام يزِيد بن مُعَاوِيَة. قَوْله: (يستسقون) من الاسْتِسْقَاء، وَهِي طلب السَّقْي وَطلب السقياء أَيْضا، وَهُوَ الْمَطَر.
بَيَان إعرابه قَوْله: (فاجتووا الْمَدِينَة) : الْفَاء، فِيهِ للْعَطْف. قَوْله: (وان يشْربُوا) عطف على: لقاح، وَكلمَة: ان، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: فَأَمرهمْ بالشرب من أَلْبَانهَا. قَوْله: (قتلوا) جَوَاب: لما، قَوْله: (فَبعث) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومفعوله مَحْذُوف أَي: الطّلب، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ. قَوْله: (فَقطع أَيْديهم إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجَاز، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: (فَأمر بِقطع أَيْديهم) . وَالْأَيْدِي جمع: يَد، فإمَّا أَن يُرَاد بهَا أقل الْجمع الَّذِي هُوَ إثنان عِنْد بعض الْعلمَاء، لِأَن لكل مِنْهُم يدين، وَإِمَّا أَن يُرَاد التَّوْزِيع. قَوْله: (وألقوا) ، بِصِيغَة الْمَجْهُول من: الْإِلْقَاء. قَوْله: (يستسقون) جملَة وَقعت حَالا.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (قدم أنَاس) أَي: على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بلقاح أَي: فَأَمرهمْ أَن يلْحقُوا بهَا. قَوْله: (فَلَمَّا صحوا) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَشَرِبُوا من أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا، فَلَمَّا صحوا، قَوْله: (فَلَمَّا ارْتَفع النَّهَار) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: فأدركوا فِي ذَلِك الْيَوْم فَأخذُوا، فَلَمَّا ارْتَفع جِيءَ بهم، أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم أُسَارَى. قَوْله: (وَلَا يسقون) ، بِضَم الْيَاء وَفتح الْقَاف.
بَيَان اخْتِلَاف أَلْفَاظه قَوْله: (عَن أنس) زَاد الْأصيلِيّ: ابْن مَالك قَوْله: (قدم أنَاس) بِالْهَمْزَةِ المضمومة عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند الْأصيلِيّ والكشميهني والسرخسي: (نَاس) ، بِلَا همزَة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الدِّيات من طَرِيق أبي رَجَاء عَن أبي قلَابَة: (قدم أنَاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَوله: (من عكل أَو عرينة) الشَّك فِيهِ من حَمَّاد، قَالَه بَعضهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ: أَو، ترديد من أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ شكّ من الرَّاوِي، وَالَّذِي قَالَ: إِنَّه حَمَّاد لَا يدْرِي أَي شَيْء وَجه تعيينة بذلك، وللبخاري فِي الْمُحَاربين: عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد: (أَن رهطا من عكل، أَو قَالَ: من عرينة) . وَله فِي الْجِهَاد: عَن وهيب(3/152)
عَن أَيُّوب: (أَن رهطا من عكل) ، وَلم يشك، وَكَذَا فِي الْمُحَاربين: عَن يحيى بن أبي كثير، وَفِي الدِّيات: عَن أبي رَجَاء، كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة، وَله فِي الزَّكَاة عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس: أَن نَاسا من عرينة، وَلم يشك أَيْضا، وَكَذَا لمُسلم من رِوَايَة أبي عوَانَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أنس، وَفِي الْمَغَازِي: عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة: (أَن نَاسا من عكل وعرينة) ، بِالْوَاو العاطفية. قيل: هُوَ الصَّوَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة، وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث قَتَادَة عَن أنس قَالَ: (كَانُوا أَرْبَعَة من عرينة وَثَلَاثَة من عكل) . قلت: هَذَا يُخَالف مَا عِنْد البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب، وَفِي الدِّيات من طَرِيق حجاج الصَّواف عَن أبي رَجَاء، كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة عَن أنس: (أَن رهطا من عكل ثَمَانِيَة) ، وَجه ذَلِك أَنه صرح بِأَن الثَّمَانِية من عكل، وَلم يذكر عرينة قلت: يُمكن التَّوْفِيق بِأَن احداً من الروَاة طوى ذكر عرينة لِأَنَّهُ روى عَن أنس تَارَة من عكل أَو عرينة، وَتارَة من عرينة بِدُونِ ذكر عكل، وَتارَة من عكل وعرينة، كَمَا بَينا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي عوَانَة والطبري: (كَانُوا سَبْعَة) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: ثَمَانِيَة، فَهَذَا مُخَالف. قلت: لَا مُخَالفَة أصلا لاحْتِمَال أَن يكون الثَّامِن من غير القبيلتين، وَكَانَ من أتباعهم. قَوْله: (فاجتووا الْمَدِينَة) وَفِي رِوَايَة: (استوخموها) ، وللبخاري من رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة فِي هَذِه الْقِصَّة: (فَقَالُوا: يَا نَبِي الله إِنَّا كُنَّا أهل ضرع وَلم نَكُنْ أهل ريف) ، وَله فِي الطِّبّ من رِوَايَة ثَابت عَن أنس: (أَن نَاسا كَانَ بهم سقم قَالُوا: يَا رَسُول الله أرونا وأطعمنا، فَلَمَّا صحوا قَالُوا: إِن الْمَدِينَة وخمة) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من رِوَايَة غيلَان عَن أنس: (كَانَ بهم هزال شَدِيد) . وَعِنْده من رِوَايَة ابْن سعد عَنهُ: (مصفر ألوانهم) بعد أَن صحت أَجْسَادهم، فَهُوَ من حمى الْمَدِينَة كَمَا عِنْد أَحْمد من رِوَايَة حميد عَن أنس. قَوْله: (فامرهم بلقاح) وللبخاري فِي رِوَايَة همام عَن قَتَادَة: (فَأَمرهمْ أَن يلْحقُوا براعية) ، وَله عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد: (فَأمر لَهُم بلقاح) بِزِيَادَة الَّلام، وَوَجهه أَن تكون الَّلام زَائِدَة أَو للاختصاص، وَلَيْسَت للتَّمْلِيك. وَعند أبي عوَانَة من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة الَّتِي أخرج مُسلم إسنادها: أَنهم بدؤوا بِطَلَب الْخُرُوج إِلَى اللقَاح، (فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، قد وَقع هَذَا الوجع، فَلَو أَذِنت لنا فخرجنا إِلَى الْإِبِل) ، وللبخاري من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب: (أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله إبغنار سلاً، أَي: أطلب لَبَنًا. قَالَ: مَا أجد لكم إلاَّ أَن تلحقوا بالذود) ، وَفِي رِوَايَة ابي رَجَاء: (هَذِه نعم لنا نخرج فاخرجوا فِيهَا) . وَله فِي الْمُحَاربين: عَن مُوسَى عَن وهيب بِسَنَدِهِ فَقَالَ: (إلاَّ أَن تلحقوا بِإِبِل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَله فِيهِ من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: عَن يحيى بن أبي كثير بِسَنَدِهِ: (فَأَمرهمْ أَن يَأْتُوا إبل الصَّدَقَة) ، وَكَذَا فِي الزَّكَاة من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة. فان قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: طَريقَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ إبل من نصِيبه من الْمغنم، وَكَانَ يشرب لَبنهَا، وَكَانَت ترعى مَعَ إبل الصَّدَقَة. فَأخْبرهُ مرّة عَن إبِله، وَمرَّة عَن إبل الصَّدَقَة لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي مَوضِع وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم: وَالْجمع بَينهَا أَن إبل الصَّدَقَة كَانَت ترعى خَارج الْمَدِينَة، وصادف بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلقاحه إِلَى المرعى طلب هَؤُلَاءِ النَّفر الْخُرُوج إِلَى الصَّحرَاء لشرب ألبان الْإِبِل، فَأَمرهمْ أَن يخرجُوا مَعَه فَخَرجُوا مَعَه إِلَى الْإِبِل، فَفَعَلُوا مَا فعلوا. قَوْله: (وَأَن يشْربُوا) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَن أبي رَجَاء: (فأخرجوا فَاشْرَبُوا من أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا) ، بِصِيغَة الْأَمر. وَفِي رِوَايَة شُعْبَة عَن قَتَادَة: (فَرخص لَهُم أَن يَأْتُوا الصَّدَقَة فيشربوا) . قَوْله: (فَلَمَّا صحوا) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَجَاء: (فَانْطَلقُوا فَشَرِبُوا من أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَلَمَّا صحوا) ، وَفِي رِوَايَة وهيب: (وسمنوا) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة ثَابت: (وَرجعت إِلَيْهِم ألوانهم) . قَوْله: (فجَاء الْخَبَر) ، وَفِي رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب: الصَّرِيخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ على وزن: فعيل، بِمَعْنى: فَاعل، أَي صرخَ بالإعلام بِمَا وَقع مِنْهُم، وَهَذَا الصَّارِخ هُوَ أحد الراعيين، كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح أبي عوَانَة) من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أنس. وَقد أخرج مُسلم إِسْنَاده وَلَفظه: (فَقتلُوا أحد الراعيين وَجَاء الآخر وَقد حزع، فَقَالَ: قد قتلوا صَاحِبي وذهبوا بِالْإِبِلِ) . قَوْله: (فَذهب فِي آثَارهم) زَاد فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: الطّلب، وَفِي حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع: (خيلاً من الْمُسلمين أَمِيرهمْ كرز بن جَابر الفِهري) . وَكَذَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَالْأَكْثَرُونَ، وكرز، بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة، وللنسائي من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: (فَبعث فِي طَلَبهمْ قافة) ، وَهُوَ جمع: قائف، وَلمُسلم من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أنس: (أَنهم شباب من الْأَنْصَار قريب من عشْرين رجلا، وَبعث مَعَهم قائفاً يقتفي آثَارهم) . قَوْله: (قطع أَيْديهم) ، كَذَا هُوَ للأكثرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَالْمُسْتَمْلِي والسرخسي: (فَأمر بِقطع أَيْديهم) ، وَقَالَ: الدَّاودِيّ: يَعْنِي قطع يَدي كل وَاحِد وَرجلَيْهِ، وهذ يردهُ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من خلاف، وَكَذَا ذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْفرْيَابِيّ عَن الْأَوْزَاعِيّ بِسَنَدِهِ، وللبخاري من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا. قَوْله:(3/153)
(وسمرت) ، لم تخْتَلف رِوَايَات البُخَارِيّ كلهَا بالراء، وَوَقع لمُسلم من رِوَايَة عبد الْعَزِيز: (وسلمت) ، بِالتَّخْفِيفِ وَاللَّام، وللبخاري من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب، وَمن رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى، كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة: (ثمَّ أَمر بمسامير فأحميت فكحلهم بهَا) . وَلَا يُخَالف ذَلِك رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، لِأَنَّهُ فَقَأَ الْعين بِأَيّ شَيْء كَانَ. قَوْله: (يستسقون فَلَا يسقون) زَاد وهيب وَالْأَوْزَاعِيّ: حَتَّى مَاتُوا، وَفِي رِوَايَة سعيد: (يعضون الْحِجَارَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَجَاء: (ثمَّ نبذهم فِي الشَّمْس حَتَّى مَاتُوا) وَفِي الطِّبّ فِي رِوَايَة ثَابت، قَالَ أنس: (فَرَأَيْت رجلا مِنْهُم يكدم الأَرْض بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوت) ، وَلأبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: (يعَض الأَرْض ليجد بردهَا مِمَّا يجد من الْحر والشدة) ، وَزعم الْوَاقِدِيّ أَنهم صلبوا، وَلم يثبت ذَلِك فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة.
بَيَان مَا فِيهِ من تَفْسِير الْمُبْهم وَغير ذَلِك قَوْله: (قدم أنَاس من كل أَو عرينة) وَفِي رِوَايَة ابي عوَانَة والطبري بإسنادهما إِلَى انس، قَالَ: (كَانُوا أَرْبَعَة عَن عرينة وَثَمَانِية عَن عكل) . وَفِي (طَبَقَات) ابْن سعد: أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إثرهم كرز بن جَابر الفِهري وَمَعَهُ عشرُون فَارِسًا، وَكَانَ العرنيون ثَمَانِيَة، وَكَانَت اللقَاح ترعى بِذِي الحدر، نَاحيَة بقيا قَرِيبا من نمير، على سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة، فَلَمَّا غدوا على اللقَاح أدركهم يسَار مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ نفر فَقَاتلهُمْ فَقطعُوا يَده وَرجله وغرز والشوك فِي لِسَانه وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَفعل بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك، وَأنزل عَلَيْهِ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الارض فَسَادًا ... } (الْمَائِدَة: 33) الْآيَة. فَلم يسمل بعد ذَلِك عينا. انْتهى. وَكَانَ يسَار نوبياً أَصَابَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة محَارب، فَلَمَّا رَآهُ يحسن الصَّلَاة أعْتقهُ، وَقَالَ ابْن عقبَة كَانَ أَمِير السّريَّة سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وخمل يسَار مَيتا فَدفن بقباء وَزعم الرشاطي أَنهم من غير عرينة الَّتِي فِي قضاعة، وَفِي (مُصَنف عبد الرَّزَّاق) : كَانُوا من بني فَزَارَة، وَفِي كتاب ابْن الطلاع: أَنهم كَانُوا من بني سليم، وَفِيه نظر، لِأَن هَاتين القبيلتين لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ العرنيين. وَفِي (مُسْند الشاميين) للطبراني عَن أنس: كَانُوا سَبْعَة: أربة من عرينة وَثَلَاثَة من عكل، فَقيل العرنيين لِأَن أَكْثَرهم كَانَ من عرينة، وَذكرنَا عَن الطَّبَرِيّ نَحوه، ثمَّ إِن قدومه كَانَ فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق من الْمَغَازِي فِي جمادي الْآخِرَة سنة سِتّ، وَذكره البُخَارِيّ بعد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَت فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا، وَذكر الْوَاقِدِيّ أَنَّهَا كَانَت فِي شَوَّال مِنْهَا، وَتَبعهُ ابْن سعد وَابْن حبَان وَغَيرهمَا، وَذكر الْوَاقِدِيّ أَن السّريَّة كَانَت عشْرين، وَلم يقل من الْأَنْصَار، وسمى مِنْهُم جمَاعَة من الْمُهَاجِرين، مِنْهُم: بريد بن الْحصيب وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع الأسلميان وجندب وَرَافِع ابْنا مكيث الجهنيان وَأَبُو زر وَأَبُو رهم الغفاريان وبلال بن الْحَارِث وَعبد الله بن عَمْرو بن عَوْف المزنيان، وَقَالَ بَعضهم: الْوَاقِدِيّ لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد، فَكيف إِذا خَالف؟ قلت: مَا لِلْوَاقِدِي وَهُوَ إِمَام وَثَّقَهُ جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد؟ وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل، إِنَّه يَقع فِيهِ وَهُوَ أحد مَشَايِخ إِمَامه. وَقَالَ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جرير بن عبد الله البَجلِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قدم قوم من عرينة حُفَاة، فَلَمَّا صحوا واشتدوا قتلوا رُعَاة اللقَاح، ثمَّ خَرجُوا القاح، فَبَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أدركناهم بعد مَا أشرفوا على بِلَادهمْ ... فَذكره إِلَى أَن قَالَ: فَجعلُوا يَقُولُونَ: المَاء المَاء، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: النَّار النَّار. انْتهى. قلت: هَذَا مُشكل، لِأَن قصَّة العرنيين كَانَت فِي شَوَّال سنة سِتّ كَمَا ذكرنَا، وَإِسْلَام جرير كَانَ فِي السّنة الْعَاشِرَة، وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين إلاَّ أَن الطَّبَرَانِيّ وَابْن قَانِع قَالَا: أسلم قَدِيما. فان صَحَّ مَا قَالَاه فَلَا إِشْكَال، وَذكر ابْن سعد أَن عدد اللقَاح كَانَ خمس عشرَة، وَأَنَّهُمْ نحرُوا مِنْهُم وَاحِدَة يُقَال لَهَا: الحنا.
بييان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن مَالِكًا اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه، وَبِه قَالَ أَحْمد وَمُحَمّد بن الْحسن والإصطخري وَالرُّويَانِيّ الشافعيان، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين وَالْحكم الثَّوْريّ، وَقَالَ ابو دَاوُد بن علية: بَوْل كل حَيَوَان وَنَحْوه، وَإِن كَانَ لَا يُؤْكَل لَحْمه، طَاهِر غير بَوْل الْآدَمِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ: الأبوال كلهَا نَجِسَة إلاَّ مَا عُفيَ عَنهُ، وَأَجَابُوا عَنهُ بِأَن مَا فِي حَدِيث العرنيين قد كَانَ للضَّرُورَة، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَنه يُبَاح فِي غير حَال الضَّرُورَة، لِأَن ثمَّة أَشْيَاء أبيحت فِي الضرورات وَلم تبح فِي غَيرهَا، كَمَا فِي لبس الْحَرِير فَإِنَّهُ حرَام على الرِّجَال وَقد ابيح لبسه فِي الْحَرْب أَو للحكة أَو لشدَّة الْبرد إِذا لم يجد غَيره، وَله أَمْثَال كَثِيرَة فِي الشَّرْع، وَالْجَوَاب الْمقنع فِي ذَلِك أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف بطرِيق الْوَحْي شفاهم، والاستشفاء بالحرام جَائِز عِنْد التيقن(3/154)
بِحُصُول الشِّفَاء، كتناول الْميتَة فِي المخصمة، وَالْخمر عِنْد الْعَطش، وإساغة اللُّقْمَة، وَإِنَّمَا لَا يُبَاح مَا لَا يستيقن حُصُول الشِّفَاء بِهِ. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ يَقِينا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَمرهم بذلك على سَبِيل التَّدَاوِي من السقم الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ، وَأَنَّهُمْ صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلَة ضَرُورَة. وَقد قَالَ عز وَجل: {إلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} (الْأَنْعَام: 119) فَمَا اضْطر الْمَرْء إِلَيْهِ فَهُوَ غير محرم عَلَيْهِ من المآكل والمشارب. وَقَالَ شمس الائمة: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد رَوَاهُ قَتَادَة عَنهُ أَنه رخص لَهُم فِي شرب ألبان الْإِبِل. وَلم يذكر الأبوال، وَإِنَّمَا ذكره فِي رِوَايَة حميد الطَّوِيل عَنهُ، والْحَدِيث حِكَايَة حَال، فَإِذا دَار بَين أَن يكون حجَّة أَو لَا يكون حجَّة سقط الِاحْتِجَاج بِهِ، ثمَّ نقُول: خصهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك لِأَنَّهُ عرف من طَرِيق الْوَحْي أَن شفاءهم فِيهِ وَلَا يُوجد مثله فِي زَمَاننَا، وَهُوَ كَمَا خص الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلبْس الْحَرِير لحكة كَانَت بِهِ، أَو للقمل، فَإِنَّهُ كَانَ كثير الْقمل، أَو لأَنهم كَانُوا كفَّارًا فِي علم الله تَعَالَى وَرَسُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، علم من طَرِيق الْوَحْي أَنهم يموتون على الرِّدَّة، ولايبعد أَن يكون شِفَاء الْكَافِر بِالنَّجسِ. انْتهى. فَإِن قلت: هَل لأبوال الْإِبِل تَأْثِير فِي الِاسْتِشْفَاء حَتَّى أَمرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك؟ قلت: قد كَانَت إبِله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الْإِبِل الَّتِي ترعى ذَلِك وَأَلْبَانهَا تدخل فِي علاج نوع من أَنْوَاع الِاسْتِشْفَاء، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي هَذَا أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف من طَرِيق الْوَحْي كَون هَذِه للشفاء، وَعرف أَيْضا مرضهم الَّذِي تزيله هَذِه الأبوال، فَأَمرهمْ لذَلِك، وَلَا يُوجد هَذَا فِي زَمَاننَا، حَتَّى إِذا فَرضنَا أَن أحدا عرف مرض شخص بِقُوَّة الْعلم، وَعرف أَنه لَا يُزِيلهُ إلاَّ بتناول الْمحرم، يُبَاح لَهُ حِينَئِذٍ أَن يتَنَاوَلهُ، كَمَا يُبَاح شرب الْخمر عِنْد الْعَطش الشَّديد، وَتَنَاول الْميتَة عِنْد المخمصة، وَأَيْضًا التَّمَسُّك بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) . أولى لِأَنَّهُ ظَاهر فِي تنَاول جَمِيع الأبوال، فَيجب اجتنابها لهَذَا الْوَعيد، والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره مَرْفُوعا.
وَمن الاحكام نظر الإِمَام فِي مصَالح قدوم الْقَبَائِل والغرباء إِلَيْهِ، وَأمره لَهُم بِمَا يُنَاسب حَالهم وَإِصْلَاح أبدانهم.
وَمِنْهَا: جَوَاز التطبب وطب كل جَسَد بِمَا اعتاده، وَلِهَذَا أفرد البُخَارِيّ بَابا لهَذَا الحَدِيث وَترْجم عَلَيْهِ: الدَّوَاء بأبوال الْإِبِل وَأَلْبَانهَا.
وَمِنْهَا: ثُبُوت أَحْكَام الْمُحَاربَة فِي الصَّحرَاء، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث فِي طَلَبهمْ لما بلغه فعلهم بالرعاء، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي ثُبُوت أَحْكَامهَا فِي الْأَمْصَار، فنفاه أَبُو حنيفَة، وأثبته مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَمِنْهَا: شَرْعِيَّة الْمُمَاثلَة فِي الْقصاص. وَمِنْهَا: جَوَاز عُقُوبَة الْمُحَاربين، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {انما جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ... } (الْمَائِدَة: 33) الْآيَة، وَهل كلمة: أَو، فِيهَا للتَّخْيِير أَو للتنويع قَولَانِ. وَمِنْهَا: قتل الْمُرْتَد من غير اسْتِتَابَة، وَفِي كَونهَا وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة خلاف مَشْهُور، وَقيل: هَؤُلَاءِ حَاربُوا، وَالْمُرْتَدّ إِذا حَارب لَا يستناب لِأَنَّهُ يجب قَتله، فَلَا معنى للاستتابة.
الاسئلة والاجوبة الأول: لَو كَانَت أَبْوَال الْإِبِل مُحرمَة الشّرْب لما جَازَ التَّدَاوِي بهَا لما روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شِفَاء امتي فِيمَا حرم عَلَيْهَا) . وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار، وَأما حَالَة الِاضْطِرَار فَلَا يكون حَرَامًا: كالميتة للْمُضْطَر، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا حَدِيث بَاطِل، لِأَن فِي مُسْنده سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ وَهُوَ مَجْهُول. قلت: أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَصَححهُ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْمثنى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة، قَالَ: حَدثنَا جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن حسان بن الْمخَارِق قَالَ: (قَالَت أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: اشتكت ابْنة لي، فنبذت لَهَا فِي كوز، فَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يغلي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقلت: اشتكت ابْنَتي فنبذنا لَهَا هَذَا: فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِي حرَام) . وَقَول ابْن حزم: أَن فِي سَنَده سلمَان وهم، وَإِنَّمَا هُوَ: سُلَيْمَان، بِزِيَادَة الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ أحد الثِّقَات، أخرج عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) فَإِن قلت: يرد عَلَيْهِ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخمر: إِنَّهَا لَيست بدواء وَإِنَّهَا دَاء، فِي جَوَاب من سَأَلَ عَن التَّدَاوِي بهَا. قلت: هَذَا رُوِيَ عَن سُوَيْد بن طَارق: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخمر فَنَهَاهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَنَهَاهُ، فَقَالَ يَا نَبِي الله: إِنَّهَا دَوَاء! فَقَالَ: لَا، وَلكنهَا دَاء) . وَأجَاب ابْن حزم عَن ذَلِك فَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن فِي سَنَده: سماك بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك شُعْبَة وَغَيره، وَلَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَن فِيهِ: أَن الْخمر لَيْسَ بدواء، وَلَا خلاف بَيْننَا فِي أَنَّهَا لَيْسَ بداوء فَلَا يحل تنَاوله، وَقد أجَاب بَعضهم بِأَن ذَلِك خَاص بِالْخمرِ، ويلتحق بهَا غَيرهَا من المسكرات. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن دَعْوَى(3/155)
الخصوصية بِلَا دَلِيل لَا تسمع، وَالْجَوَاب الْقَاطِع أَن هَذَا مَحْمُول على حَالَة الِاخْتِيَار كَمَا ذكرنَا. فان قلت: رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد فَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا) ، وَرُوِيَ عَن جَابر والبراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَا أكل لَحْمه فَلَا بَأْس ببوله) . وَحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي ذكره فِي بَاب: إِذا القى على ظهر الْمُصَلِّي قذر أَو جيفة لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته، والْحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي ورد فِي غَزْوَة تَبُوك: (فَكَانَ الرجل ينْحَر بعيره فيعصر فرثه فيشربه وَيجْعَل مَا بَقِي على كبده) . قلت: أما حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَغير مُسْند، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، علم بذلك. وَأما حَدِيث جَابر والبراء فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعفه. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَلِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّة قيل وُرُود الحكم بِتَحْرِيم النجو وَالدَّم، وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ مَنْسُوخ بِلَا شكّ. وَأما حَدِيث غَزْوَة تَبُوك فقد قيل: إِنَّه كَانَ للتداوي، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَو كَانَ الفرث إِذا عصره نجسا لم يجز للمرء أَن يَجعله على كبده.
السُّؤَال الثَّانِي: مَا وَجه تعذيبهم بالنَّار وَهُوَ تسمير أَعينهم بمسامير محمية، كَمَا ذكرنَا، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التعذيب بالنَّار؟ الْجَواب: أَنه كَانَ قبل نزُول الْحُدُود، وَآيَة الْمُحَاربَة وَالنَّهْي عَن الْمثلَة، فَهُوَ مَنْسُوخ. وَقيل: لَيْسَ بمنسوخ، وَإِنَّمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فعل قصاصا لأَنهم فعلوا بالرعاة مثل ذَلِك. وَقد رَوَاهُ مُسلم فِي بعض طرقه، وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ. قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا لم يذكرهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطه. وَيُقَال: فَلذَلِك بوب البُخَارِيّ فِي كِتَابه، وَقَالَ: بَاب إِذا حرق الْمُشرك هَل يحرق؟ وَوَجهه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمل أَعينهم، وَهُوَ تحريق بالنَّار، اسْتدلَّ بِهِ أَنه لما جَازَ تحريق أَعينهم بالنَّار، وَلَو كَانُوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أَنه أولى بِالْجَوَازِ بتحريق الْمُشرك إِذا أحرق الْمُسلم. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: وَكَانَ البُخَارِيّ جمع بَين حَدِيث: (لَا تعذبوا بِعَذَاب الله) ، وَبَين هَذَا، بِحمْل الأول على غير سَبَب، وَالثَّانِي على مُقَابلَة السَّيئَة بِمِثْلِهَا من الْجِهَة الْعَامَّة، وَإِن لم يكن من نوعها الْخَاص، وإلاَّ فَمَا فِي هَذَا الحَدِيث أَن العرنيين فعلوا ذَلِك بالرعاة. وَقيل: النَّهْي عَن الْمثلَة نهي تَنْزِيه لَا نهي تَحْرِيم.
السُّؤَال الثَّالِث: إِن الْإِجْمَاع قَامَ على أَن من وَجب عَلَيْهِ الْقَتْل فَاسْتَسْقَى المَاء إِنَّه لَا يمْنَع مِنْهُ لِئَلَّا يجْتَمع عَلَيْهِ عذابان؟ الْجَواب: أَنه إِنَّمَا لم يسقوا هُنَاكَ معاقبة لجنايتهم، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَعَا عَلَيْهِم، فَقَالَ: عطَّش الله من عطَّش آل مُحَمَّد اللَّيْلَة. أخرجه النَّسَائِيّ: فَأجَاب الله دعاءه، وَكَانَ ذَلِك بِسَبَب أَنهم منعُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إرْسَال مَا جرت بِهِ الْعَادة من اللَّبن الَّذِي كَانَ يراح بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لقاحه فِي كل لَيْلَة، كَمَا ذكره ابْن سعد، وَلِأَنَّهُم ارْتَدُّوا فَلَا حُرْمَة لَهُم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يَقع نهي من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سقيهم وَفِيه نظر لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اطلع على ذَلِك، وسكوته كافٍ فِي ثُبُوت الحكم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُحَارب لَا حُرْمَة لَهُ فِي سقِِي المَاء وَلَا فِي غَيره، وَيدل عَلَيْهِ أَن من لَيْسَ مَعَه مَاء إلاَّ لطهارته لَيْسَ لَهُ أَن يسْقِيه الْمُرْتَد وَيتَيَمَّم، بل يَسْتَعْمِلهُ وَلَو مَاتَ الْمُرْتَد عطشاً. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا فعل بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لِأَنَّهُ أَرَادَ بهم الْمَوْت بذلك، وَفِيه نظر لَا يخفى، وَقيل: إِن الْحِكْمَة فِي تعطيشهم لكَوْنهم كفرُوا بِنِعْمَة سقِِي ألبان الْإِبِل الَّتِي حصل لَهُم بهَا الشِّفَاء من الْجزع والوخم، وَفِيه ضعف.
قالَ أبُو قِلاَبَةَ فَهَؤُلاءِ سَرَقُوا وقتَلُوا وَكَفَرُوا بَعد إيمانِهِمْ وَحارَبُوا الله وَرَسُولَهُ.
ابو قلَابَة: عبد الله، وَقَوله هَذَا إِن كَانَ دَاخِلا فِي قَول أَيُّوب بِأَن يكون مقولاً لَهُ يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد، وَإِن كَانَ مقول البُخَارِيّ يكون تَعْلِيقا مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا قَالَه أَبُو قلَابَة استنباطاً، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مَوْقُوفا على أبي قلَابَة كَمَا توهمه بَعضهم. قلت: كَلَامه متناقض لَا يخفى. قَوْله: (سرقوا) إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِم سراقاً لِأَن أَخذهم اللقَاح سَرقَة لكَونه من حرز بِالْحَافِظِ. قَوْله: (وحاربوا الله وَرَسُوله) وَأطلق عَلَيْهِم محاربين لما ثَبت عِنْد أَحْمد من رِوَايَة حميد عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أصل الحَدِيث، وهربوا محاربين.
234 - حدّثنا آدَمُ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخبرنَا أبُو النَّيَّاحِ يَزِيدُ بنُ حُمَيْدٍ أَنَسٍ قالَ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي قَبْلَ أنْ يُبْنَى المَسْجِدُ فِي مَرَابِض الغَنَمِ..
هَذَا أحد حَدِيثي الْبَاب، وَهُوَ مُطَابق لآخر التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة: آدم بن أبي اياس، وَشعْبَة بن(3/156)
الْحجَّاج، تقدما فِي كتاب الْإِيمَان، وابو التياح؛ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد، تقدم فِي بَاب: مَا كَانَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يتخولهم.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وكوفي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُخْتَصرا، كَمَا هَهُنَا عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى الْقطَّان، وَعَن آدم فِي الْمَغَازِي عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر عَن عبيد بن سعيد، وَعَن مُحَمَّد ابْن الْوَلِيد عَن غنْدر، خمستهم عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن بنداربه.
بَيَان لغته قد مر فِي أول الْبَاب، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إلاَّ الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا إِكْرَاه الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إِذا كَانَ سليما من أبعارها وَأَبْوَالهَا، وَمِمَّنْ روى عَنهُ إجَازَة ذَلِك، وَفعله ابْن عمر وَجَابِر وَأَبُو ذَر وَالزُّبَيْر وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث الْبَاب حجَّة على الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص مَوضِع من آخر، وَمَعْلُوم أَن مرابضها لَا تسلم من البعر وَالْبَوْل، فَدلَّ على الْإِبَاحَة وعَلى طَهَارَة الْبَوْل والبعر. قلت: قد اسْتدلَّ بِهِ من يَقُول بِطَهَارَة بَوْل الْمَأْكُول لَحْمه وروثه، وَقَالُوا: لِأَن المرابض لَا تَخْلُو عَن ذَلِك، فَدلَّ على أَنهم كَانُوا يباشرونها فِي صلواتهم فَلَا تكون نَجِسَة. وَأجَاب مخالفوهم بِاحْتِمَال وجود الْحَائِل، ورد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا يصلونَ على حَائِل دون الأَرْض، ورد عَلَيْهِم بِأَنَّهُ شَهَادَة على النَّفْي وَأَيْضًا فقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على حَصِير فِي دَارهم، وَصَحَّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث الْبَاب مَنْسُوخ لِأَن فِيهِ أَن ذَلِك كَانَ قبل أَن يَبْنِي الْمَسْجِد، فَاقْتضى أَنه فِي أول الْهِجْرَة، ورد عَلَيْهِ بِمَا صَحَّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (امرهم بِبِنَاء الْمَسَاجِد فِي الدّور، وَأَن تطيب وتنظف) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأحمد وَغَيرهمَا، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره، وَلأبي دَاوُد نَحوه من حَدِيث سَمُرَة، وَزَاد: وَإِن تطهرها، قَالَ: وَهَذَا بعد بِنَاء الْمَسْجِد، وَمَا ادَّعَاهُ من النّسخ يَقْتَضِي الْجَوَاز ثمَّ الْمَنْع، وَيرد هَذَا أُذُنه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم. وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن لم تَجدوا إلاَّ مرابض الْغنم وأعطان الْإِبِل فصلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل. قَالَ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَفِي (تَارِيخ نيسابور) من حَدِيث أبي حبَان عَن ابي زرْعَة عَنهُ مَرْفُوعا: (الْغنم من دَوَاب الْجنَّة فامسحوا رغامها وصلوا فِي مرابضها) . وَعند الْبَزَّار فِي (مُسْنده) : (أَحْسنُوا إِلَيْهَا وأميطوا عَنْهَا الْأَذَى) . وَفِي حَدِيث عبد الله بن الْمُغَفَّل: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ) كَذَا رَوَاهُ جمَاعَة. وَقَالَ بضعهم: كُنَّا نؤمر، وَلم يذكر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي لفظ: (إِذا أدركتكم الصَّلَاة وَأَنْتُم فِي مراح الْغنم فصلوا فِيهَا، فَإِنَّهَا سكينَة وبركة، وَإِذا أدركتكم الصَّلَاة وَأَنْتُم فِي أعطان الْإِبِل فاخرجوا مِنْهَا فَإِنَّهَا جن خلقت من الْجِنّ. أَلا ترى أَنَّهَا إِذا نفرت كَيفَ تشمخ بأنفها) . وَفِي مُسْند عبد الله بن وهب الْبَصْرِيّ عَن سعيد بن أبي أَيُّوب عَن رجل حَدثهُ عَن ابْن الْمُغَفَّل: (نهى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يُصَلِّي فِي معاطن الْإِبِل، وَأمر أَن يُصَلِّي فِي مراح الْبَقر وَالْغنم) . وَعند ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة عَن أَبِيه عَن جده، مَرْفُوعا: (لَا يُصَلِّي فِي أعطان الْإِبِل، وَيُصلي فِي مراح الْغنم) . وَعند ابي الْقَاسِم بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عقبَة بت عَامر: (صلوا فِي مرابض الْغنم) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْن عمر وَأسيد بن حضير، وَعند ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث الرَّاء: (سُئِلَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم؟ فَقَالَ: صلوا فِيهَا فَإِنَّهَا بركَة) . وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يجوز الصَّلَاة أَيْضا فِي مراح الْبَقر لعُمُوم قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَيْنَمَا أَدْرَكتك الصَّلَاة فصلِّ) . وَهُوَ قَول عَطاء وَمَالك. قلت: ذهل ابْن الْمُنْذر عَن حَدِيث عبد الله بن وهب الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا حَتَّى اسْتدلَّ بذلك، فَلَو وقف عَلَيْهِ لاستدل بِهِ. وَالله تَعَالَى أعلم.(3/157)
67 - (بابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسات فِي السِّمْنِ والمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وُقُوع النَّجَاسَة فِي السّمن وَالْمَاء، فكلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَكلمَة: من بَيَانِيَّة. وَقَالَ بَعضهم: بَاب مَا يَقع ... الخ. أَي: هَل ينجسهما أم لَا؟ أَو: لَا ينجس المَاء إلاَّ إِذا تغير دون غَيره. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّفْسِير، فَكَأَنَّهُ لما خَفِي عَلَيْهِ الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ قدر مَا قدره.
فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: من حَيْثُ إِن فِي هَذَا الْبَاب السَّابِق ذكر بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه، وَالْبَوْل فِي نَفسه نجس، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْبَاب ذكر الْفَأْرَة الَّتِي هِيَ نجس، وَذكر الدَّم كَذَلِك وَالْإِشَارَة إِلَى أحكامهما على مَا جَاءَ من السّلف وَمن الحَدِيث.
وَقَالَ الزُّهْري لاَ بأْسَ بالمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أوْ رِيحٌ أوْلَوْنٌ
الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الْفَقِيه الْمدنِي، نزيل الشَّام، ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَلكنه مَوْصُول عَن عبد الله بن وهب فِي مُسْند: حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهار أَنه قَالَ: كل مَا فضل مِمَّا يُصِيبهُ من الْأَذَى حَتَّى لَا يُغير ذَلِك طعمه وَلَا لَونه وَلَا رِيحه، فَلَا بَأْس أَن يتَوَضَّأ بِهِ. وَورد فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيث عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إلاَّ مَا غلب على رِيحه وطعمه ولونه) . روايه ابْن مَاجَه: حَدثنَا مَحْمُود ابْن خَالِد وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد الدمشقيان قَالَ: حَدثنَا مَرْوَان بن مُحَمَّد حَدثنَا رشدين، أخبرنَا مُعَاوِيَة بن صَالح عَن رَاشد ابْن سعد عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ الدراقطني: إِنَّمَا يَصح هَذَا من قَول رَاشد بن سعد وَلم يرفعهُ غير رشدين. قلت: وَفِيه نظر، لِأَن أَبَا أَحْمد بن عدي رَوَاهُ فِي (الْكَامِل) من طَرِيق أَحْمد بن عمر عَن حَفْص بن عمر حَدثنَا ثَوْر بن يزِيد عَن رَاشد بن سعد عَن أبي أُمَامَة فرفعه. وَقَالَ: لم يروه عَن ثَوْر إلاَّ حَفْص. قلت: وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ من حَدِيث ابي الْوَلِيد عَن الساماني عَن عَطِيَّة بن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن ثَوْر، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: والْحَدِيث غير قوي إلاَّ أَنا لَا نعلم فِي نَجَاسَة المَاء إِذا تغير بِالنَّجَاسَةِ خلافًا.
النَّوْع الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا بَأْس) أَي: لَا حرج فِي اسْتِعْمَال مَاء مُطلقًا مَا لم يُغَيِّرهُ طعم أَو ريح أَو لون. وَقَوله: (لم يُغَيِّرهُ) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. وَقَوله: (طعم) بِالرَّفْع فَاعله، وَحَاصِل الْمَعْنى: كل مَاء طَاهِر فِي نَفسه وَلَا يَتَنَجَّس بِإِصَابَة الْأَذَى، أَي: النَّجَاسَة إلاَّ إِذا تغير أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مِنْهُ، وَهِي: الطّعْم وَالرِّيح واللون. فان قلت: الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن هُوَ المغير، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، لَا المغير على صِيغَة الْفَاعِل، والمغير، بِالْكَسْرِ هُوَ الشَّيْء النَّجس الَّذِي يخالطه، فَكيف يَجْعَل الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن مغيراً على صِيغَة الْفَاعِل على مَا وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأما الَّذِي فِي عبارَة عبد الله بن وهب فَهُوَ على الأَصْل. قلت: المغير فِي الْحَقِيقَة هُوَ المَاء، وَلَكِن تَغْيِيره لما كَانَ لم يعلم إلاَّ من جِهَة الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن فَكَأَنَّهُ صَار هُوَ المغير، وَهُوَ من قبيل ذكر السَّبَب، وَإِرَادَة الْمُسَبّب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا بَأْس، أَي لَا يَتَنَجَّس المَاء بوصول النَّجس إِلَيْهِ قَلِيلا أَو كثيرا، بل لَا بُد من تغير أحد الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة فِي تنجسه، وَالْمرَاد من لفظ: مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه، مَا لم يتَغَيَّر طعمه. فَنَقُول: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد بالطعم، الْمَذْكُور فِي لفظ الزُّهْرِيّ، طعم المَاء أَو طعم الشَّيْء المنجس، فعلى الأول مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء عَن حَاله الَّتِي خلق عَلَيْهَا طعمه، وتغيره طعمه لَا بُد أَن يكون بِشَيْء نجس، إِذا الْبَحْث فِيهِ. وعَلى الثَّانِي مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء طعم النَّجس، وَيلْزم مِنْهُ تغير طعم المَاء، إِذْ لَا شكّ أَن الطّعْم هُوَ المغير للطعم، واللون للون، وَالرِّيح للريح، إِذْ الْغَالِب أَن الشَّيْء يُؤثر فِي الملاقي بِالنِّسْبَةِ، وَجعل الشَّيْء متصفاً بِوَصْف نَفسه، وَلِهَذَا يُقَال: لَا يسخن إلاَّ الْحَار، وَلَا يبرد إلاَّ الْبَارِد، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا لم يُغير طعم المَاء طعم الملاقي النَّجس، أَو لَا بَأْس، مَعْنَاهُ: لَا يَزُول طهوريته مَا لم يُغَيِّرهُ طعم من الطعوم الطاهرة اَوْ النَّجِسَة. نعم، إِن كَانَ المغير طعماً نجسا يُنجسهُ، وَإِن كَانَ طَاهِرا يزِيل طهوريته لَا طَهَارَته، فَفِي الْجُمْلَة فِي اللَّفْظ تعقيد. انْتهى. قلت: تَفْسِيره هَكَذَا هُوَ عين التعقيد لِأَنَّهُ فسر قَوْله: (لَا بَأْس) بمعنيين: أَحدهمَا بقوله: (أَي لَا يَتَنَجَّس) إِلَى آخِره، وَالْآخر بقوله: (لَا يَزُول طهوريته) . وكلا المغنيين لَا يساعدهما اللَّفْظ، بل هُوَ خَارج عَنهُ. وَقَوله: (المغير للطعم هُوَ الطّعْم) غير سديد،(3/158)
لَان المغير للطعم، وَهُوَ الشَّيْء الملاقي لَهُ، وَكَذَلِكَ اللَّوْن وَالرِّيح، وَكَذَلِكَ قَوْله: (المُرَاد من لفظ مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه مَا لم يتَغَيَّر طعمه) غير موجه، لِأَنَّهُ تَفْسِير للْفِعْل الْمُتَعَدِّي بِالْفِعْلِ اللَّازِم، من غير وَجه، وَكَذَلِكَ ترديده بقوله: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد بالطعم الْمَذْكُور ... إِلَى آخِره، غير موجه لِأَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: لم يُغَيِّرهُ، يرجع إِلَى المَاء، فَيكون الْمَعْنى على هَذَا: لَا بَأْس بِالْمَاءِ مَا لم يُغَيِّرهُ طعم المَاء، وَطعم المَاء ذاتي، فَكيف يُغير ذَات المَاء؟ وَإِنَّمَا بِغَيْرِهِ طعم الشَّيْء الملاقي، وَالْفرق بَين الطعمين ظَاهر.
النَّوْع الثَّالِث فِي استنباط الحكم مِنْهُ استنبط مِنْهُ: أَن مَذْهَب الزُّهْرِيّ فِي المَاء الَّذِي يخالطه شَيْء نجس الِاعْتِبَار بتغيره بذلك من غير فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْعلمَاء، وشنع أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) على من ذهب إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن: من بَال فِي إبريق وَلم يُغير للْمَاء وَصفا إِنَّه يجوز لَهُ التطهر بِهِ، هُوَ مستشنع. قَالَ بَعضهم: وَلِهَذَا نصر قَول التَّفْرِيق بالقلتين. قلت: كَيفَ ينصر هَذَا بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ، وَقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَدَاره على علته، أَو مُضْطَرب فِي الرِّوَايَة، أَو مَوْقُوف، وحسبك أَن الشَّافِعِي رِوَايَة عَن الْوَلِيد بن كثير وَهُوَ إباضي. وَاخْتلفت رِوَايَته فَقيل: قُلَّتَيْنِ، وَقيل: قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ قلَّة، وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ فرقا، ووقف على أبي هُرَيْرَة وَعبيد الله بن عمر، وَقَالَ الْيَعْمرِي: حكم ابْن مَنْدَه بِصِحَّتِهِ على شَرط مُسلم من جِهَة الروَاة، وَلكنه أعرض عَن جِهَة الرِّوَايَة بِكَثْرَة الِاخْتِلَاف فِيهَا وَالِاضْطِرَاب، وَلَعَلَّ مُسلما تَركه لذَلِك. قلت: وَكَذَلِكَ لم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف وَقع فِي إِسْنَاده. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : مَا ذهب إِلَى الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر، غير ثَابت فِي الْأَثر، لِأَنَّهُ قد تكلم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ. وَقَالَ الدبوسي فِي كتاب (الْأَسْرَار) : هُوَ خبر ضَعِيف، وَمِنْهُم من لم يقبله، لِأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يعملوا بِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَمذهب الزُّهْرِيّ هُوَ قَول الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَمذهب أهل الْمَدِينَة، وَهِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن مَالك، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَن قَلِيل المَاء ينجس بِقَلِيل النَّجَاسَة، وَإِن لم يظْهر فِيهِ. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنى عَن عبد الله بن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَسَعِيد بن الْمسيب على اخْتِلَاف عَنهُ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَهُوَ قَول اللَّيْث وَابْن صَالح بن حَيّ وَدَاوُد بن عَليّ وَمن تبعه، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْبَصْرَة. وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ الصَّحِيح فِي النّظر، وثابت بالأثر من ذَلِك صب المَاء على بَوْل الْأَعرَابِي.
وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء، وَمذهب أَصْحَابنَا المَاء إِمَّا جارٍ أَو راكد، قَلِيل أَو كثير؛ فالجاري إِذا وَقعت فِيهِ النَّجَاسَة وَكَانَت غير مرئية كالبول وَالْخمر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا ينجس مَا لم يتَغَيَّر لَونه أَو طعمه أَو رِيحه، وَإِن كَانَت مرئية كالجيفة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ لَا ينجس. فَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا جَمِيع المَاء لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من أَسْفَلهَا، وان كَانَ يجْرِي أَكْثَرهَا عَلَيْهَا فَكَذَلِك اعْتِبَارا للْغَالِب، وَإِن كَانَ أَقَله يجْرِي عَلَيْهَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من اسفلها، وَإِن كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا النّصْف دون النّصْف فَالْقِيَاس جَوَاز التَّوَضُّؤ. وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يجوز احْتِيَاطًا. والراكد اخْتلفُوا فِيهِ: فَقَالَت الظَّاهِرِيَّة: لَا ينجس أصلا. وَقَالَت عَامَّة الْعلمَاء: إِن كَانَ المَاء قَلِيلا ينجس، وَإِن كثيرا لَا ينجس، لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي الْحَد الْفَاصِل بَينهمَا؛ فعندنا بالخلوص، فَإِن كَانَ يخلص بعضه إِلَى بعض فَهُوَ قَلِيل، وَإِلَّا فَهُوَ كثير. وَاخْتلف اصحابنا فِي تَفْسِير الخلوص بعد أَن اتَّفقُوا أَنه يعْتَبر الخلوص، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ: أَن يكون بِحَال لَو حرك طرف مِنْهُ يَتَحَرَّك الطّرف الآخر، فَهُوَ مِمَّا يخلص، وإلاَّ فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص. وَاخْتلفُوا فِي جِهَة التحريك، فَعَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: أَنه يعْتَبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وَعَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر بِالْوضُوءِ، وَرُوِيَ أَنه بِالْيَدِ من غير اغتسال وَلَا وضوء، وَأما اعتبارهم فِي تَفْسِير الخلوص: فَعَن أبي حَفْص الْكَبِير أَنه أعتبره بالصبغ، وَعَن أبي نصر مُحَمَّد بن سَلام أَنه اعْتَبرهُ بالتكدير، وَعَن أبي سُلَيْمَان الْجوزجَاني أَنه اعْتَبرهُ بالمساحة. فَقَالَ: إِن كَانَ عشرا فِي عشر فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص، وَإِن كَانَ دونه فَهُوَ مِمَّا يخلص. وَعَن ابْن الْمُبَارك أَنه اعْتَبرهُ بِالْعشرَةِ أَولا، ثمَّ بِخَمْسَة عشر، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي، فَقَالَ: إِن كَانَ خَمْسَة عشر فِي خَمْسَة عشر أَرْجُو أَن يجوز، وَإِن كَانَ عشْرين فِي عشْرين لَا أجد فِي قلبِي شَيْئا. وَعَن مُحَمَّد أَنه قدره بمسجده، وَكَانَ ثمانياً فِي ثمانٍ، وَبِه أَخذ مُحَمَّد بن سَلمَة. وَقيل: كَانَ مَسْجده عشرا فِي عشرٍ. وَقيل: كَانَ، دَاخله ثمانياً فِي ثمانٍ، وخارجه عشرا فِي عشرٍ. وَعَن الْكَرْخِي: لَا عِبْرَة للتقدير، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر هُوَ التَّحَرِّي، فَلَو كَانَ أَكثر رَأْيه أَن النَّجَاسَة خلصت إِلَى الْموضع(3/159)
الَّذِي يتَوَضَّأ مِنْهُ لَا يجوز، وَإِن كَانَ أَكثر رَأْيه أَنَّهَا لم تصل إِلَيْهِ يجوز. وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي، رَحمَه الله تَعَالَى.
وقالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ المَيْتَةِ
حَمَّاد: على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، هُوَ الإِمَام ابْن أبي سُلَيْمَان، شيخ الإِمَام ابي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بَاب قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث. قَوْله: (لَا بَأْس) أَي: لَا حرج (بريش الْميتَة) يَعْنِي: لَيْسَ بِنَجس، وَلَا ينجس المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ، سَوَاء كَانَ ريش الْمَأْكُول لَحْمه أَو غَيره؛ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه: حَدثنَا معمر عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان أَنه قَالَ: لَا بَأْس بصوف الْميتَة، وَلَكِن يغسل، وَلَا بَأْس بريش الْميتَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَأَصْحَابه.
وقالَ الزُّهْرِيُّ فِي عظامِ المَوْتَى نَحْوِ الفِيلِ وغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسا مِنْ سَلَفِ العُلمَاءِ يَمْتَشِطونَ بهَا ويَدَّهِنونَ فِيها لَا يَرَوْنَ بِهِ بَاساً
الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. قَوْله: (وَغَيره) أَي: غير الْفِيل مِمَّا لَا يُؤْكَل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (غَيره) يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ مَا هُوَ من جنسه من الَّذِي لَا تُؤثر الذَّكَاة فِيهِ، أَي: مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه، وَأَن يُرِيد أَعم من ذَلِك. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يمشي على مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعِنْدنَا جَمِيع أَجزَاء الْميتَة الَّتِي لَا دم فِيهَا: كالقرن وَالسّن والظلف والحافر والخف والوبر وَالصُّوف طَاهِر، وَفِي العصب رِوَايَتَانِ، وَذهب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق والمزني وَابْن الْمُنْذر: إِلَى أَن الشّعْر وَالصُّوف والوبر والريش طَاهِرَة لَا تنجس بِالْمَوْتِ، كمذهبنا، والعظم والقرن والظلف وَالسّن نَجِسَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: الْكل نجس إلاَّ الشّعْر، فَإِن فِيهِ خلافًا ضَعِيفا. وَفِي الْعظم أَضْعَف مِنْهُ. وَأما الْفِيل فَفِيهِ خلاف بَين أَصْحَابنَا، فَعِنْدَ مُحَمَّد هُوَ نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز بيع عظمه وَلَا يطهر جلده بالدباغ وَلَا بالذكاة، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف هُوَ كَسَائِر السباغ، فَيجوز الِانْتِفَاع بعظمه وَجلده بالدباغ. قَوْله: (أدْركْت نَاسا) التَّنْوِين فِيهِ للتكثير أَي نَاسا كثيرين. قَوْله: (يمتشطون بهَا) أَي: بعظام الْمَوْتَى، يَعْنِي يجْعَلُونَ مِنْهَا مشطاً ويستعملونه، فَهَذَا يدل على طَهَارَته، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا. قَوْله: (ويدَّهنون فِيهَا) اي: فِي عِظَام الْمَوْتَى، يَعْنِي: يجْعَلُونَ مِنْهَا مَا يحط فِيهِ الدّهن وَنَحْوه، وأصل: يدهنون: يتدهنون، لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، فقلبت التَّاء دَالا وادغمت الدَّال فِي الدَّال؛ وَقَالَ بَعضهم: يجوز ضم أَوله وَإِسْكَان الدَّال. قلت: فعلى هَذَا يكون من بَاب الادهان، فَلَا يُنَاسب مَا قبله إلاَّ إِذا جَاءَت فِيهِ رِوَايَة بذلك، وَذَلِكَ لِأَن مَعْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ هم يدهنون أنفسهم، وَإِذا كَانَ من بَاب الإفعال يكون الْمَعْنى: هم يدهنون غَيرهم، فَلَا منع من ذَلِك إلاَّ أَنه مَوْقُوف على الرِّوَايَة. وَنقل بعض الشُّرَّاح عَن السفاقسي فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: إثنان مِنْهَا مَا ذكرناهما الْآن، وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ بتَشْديد الدَّال وَتَشْديد الْهَاء، أَيْضا. قلت: لَا منع من ذَلِك من حَيْثُ قَاعِدَة التصريف، وَلَكِن رِعَايَة السماع أولى مَعَ رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا) أَي حرجاً، فَلَو كَانَ نجسا لما استعملوه امتشاطاً وادهاناً، وَعلم مِنْهُ أَنه إِذا وَقع مِنْهُ شَيْء فِي المَاء لَا يُفْسِدهُ. وَقَالَ ابْن بطال: ريش الْميتَة وَعظم الفيلة وَنَحْوهَا طَاهِر عِنْد ابي حنيفَة، كَأَنَّهُ تعلق بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَوْقُوف: إِنَّمَا حرم من الْميتَة مَا يُؤْكَل مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْم، فَأَما الْجلد وَالسّن والعظم وَالشعر وَالصُّوف فَهُوَ حَلَال. قَالَ يحيى بن معِين: تفرد بِهِ أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روى عبد الْجَبَّار بن مُسلم وَهُوَ ضَعِيف عَن الزُّهْرِيّ شَيْئا فِي مَعْنَاهُ، وَحَدِيث أم سَلمَة مَرْفُوعا: (لَا بَأْس بمسك الْميتَة إِذا دبغ، وَلَا بشعرها إِذا غسل بِالْمَاءِ) . إِنَّمَا رَوَاهُ يُوسُف بن أبي السّفر، وَهُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن بطال: عظم الفيلة وَنَحْوه نجس عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ، كِلَاهُمَا احتجا بِمَا روى الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكره أَن يدهن فِي مدهن من عِظَام الْفِيل، وَفِي (المُصَنّف) : وَكَرِهَهُ عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وطاووس، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: نهىَ مَالك عَن الِانْتِفَاع بِعظم الْميتَة والفيل، وَلم يُطلق تَحْرِيمهَا لِأَن عُرْوَة وَابْن شهَاب وَرَبِيعَة
أَجَازُوا الامتساط بهَا. وَقَالَ ابْن حبيب: أجَاز اللَّيْث وَابْن الْمَاجشون وَابْن وهب ومطرف.(3/160)
وَأصبغ الامتشاط بهَا والادهان فِيهَا. وَقَالَ مَالك إِذا زكى الْفِيل فَعَظمهُ طَاهِر وَالشَّافِعِيّ يَقُول الذَّكَاة لَا تعْمل فِي السبَاع وَقَالَ اللَّيْث وَابْن وهب أَن غلى الْعظم فِي مَاء سخن وطبخ جَازَ الإدهان مِنْهُ والامتشاط قلت حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي تعلق بِهِ أَبُو حنيفَة أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ ضَعِيف وَذكر فِي الإِمَام أَن غير الْهُذلِيّ أَيْضا رَوَاهُ وَحَدِيث أم سَلمَة أَيْضا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ يُوسُف بن أبي السّفر مَتْرُوك قُلْنَا لَا يُؤثر فِيهِ مَا قَالَ إِلَّا بعد بَيَان جِهَته وَالْجرْح الْمُبْهم غير مَقْبُول عِنْد الحذاق من الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ كَانَ كَاتب الْأَوْزَاعِيّ.
وقالَ ابْنُ سِيِرِينَ وإبْرَاهيمُ لَا بَأْسَ بِتِجارَةِ العَاجِ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد، تقدم فِي بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ تقدم فِي بَاب ظلم دون ظلم فِي كتاب الْإِيمَان.
أما التَّعْلِيق عَن ابْن سِيرِين فَذكره عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه عَن الثَّوْريّ عَن همامَ عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ لَا يرى التِّجَارَة بالعاج بَأْسا وَأما التَّعْلِيق عَن إِبْرَاهِيم فَلم يذكرهُ السَّرخسِيّ فِي رِوَايَته، وَلَا أَكثر الروَاة عَن الفريري، فالعاج، بتَخْفِيف الْجِيم، جمع عاجة. قَالَ الْجَوْهَرِي: العاج عظم الْفِيل وَكَذَا قَالَ فِي الْكتاب. ثمَّ قَالَ: والعاج أَيْضا الذبل وَهُوَ ظهر السلحفاة والبحرية يتَّخذ مِنْهُ السوار والخاتم وَغَيرهمَا قَالَ جرير:
(ترى العيس الحولى جَريا بكرعها ... لَهَا مسكا من غير عاج وَلَا ذبل)
فَهَذَا يدل على أَن العاج غيرالذبل وَفِي (الْمُحكم) والعاج أَنْيَاب الفيلة، وَلَا يُسمى غير الناب عاجاً وَقد أنكر الْخَلِيل أَن يُسمى عاجاً سوى أَنْيَاب الفيلة، وَذكر غَيره أَن الذبل يُسمى عاجاً وَكَذَا قَالَه الْخطابِيّ، وأنكروا عَلَيْهِ والذبل، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ الْأَزْهَرِي الذبل، الْقُرُون، فَإِذا كَانَ من عاج فَهُوَ مسك وعاج ووقف، إِذا كَانَ من ذبل فَهُوَ مسك لَا غير وَفِي (الْعباب) الذبل ظهر السلحفاة البحرية، كَمَا ذكرنَا الْآن وَقَالَ: بَعضهم، قَالَ القالي: الْعَرَب تسمي كل عظم عاجاً، فَإِن ثَبت هَذَا فَلَا حجَّة فِي الْأَثر الْمَذْكُور على طَهَارَة عظم الْفِيل. قلت مَعَ وجود النَّقْل عَن الْخَلِيل لَا يعْتَبر بِنَقْل القالي مَعَ مَا ذكرنَا من الدَّلِيل على طَهَارَة عظم الْميتَة مُطلقًا.
235 - حدّثناإسْمَاعِيلُ قَالَ حَدثنِي مَالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن ابْن عَبَّاسَ عنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلَ عنْ قَارَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقالَ أَلْقُوهًّ وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس تقدم فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان، وَعبيد الله هُوَ سبط عتبَة بن مَسْعُود وَهُوَ فِي قصَّة هِرقل، وَمَالك هُوَ ابْن أنس، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، ومَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ بنت الْحَارِث، خَالَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، تقدّمت فِي بَاب السمر بِالْعلمِ بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد، وَفِيه العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية.
بَيَان ذكر تعدده مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن مَالك بِهِ، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح وَالْحسن بن عَليّ، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن بزدويه عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَعْنَاهُ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَأبي عُثْمَان(3/161)
وَهُوَ الْحُسَيْن بن حَدِيث، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن يَعْقُوب ين إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى بن عبد لله النيسايوري، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك بِهِ، وَعَن خشيش بن أَصْرَم عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن بزدويه أَن معمراً ذكر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (فَأْرَة) بِهَمْزَة سَاكِنة وَجَمعهَا فأر بِالْهَمْز أَيْضا قَوْله: (سَقَطت فِي سمن) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب (فَمَاتَتْ) ، وَزَاد النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك، (فِي سمن جامد) قَوْله: (وألقوها) أَي. الْفَأْرَة أَي: أرموها وَمَا حولهَا أَي: وَمَا حول الْفَأْرَة من السّمن، وَيعلم من هَذِه الرِّوَايَة أَن السّمن كَانَ جَامِدا كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، لِأَن الْمَائِع لَا حوله لَهُ إِذْ الْكل حوله.
بَيَان ذكر استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ أَن السّمن الجامد أذا وَقعت فِيهِ فَأْرَة أَو نَحْوهَا تطرح الْفَأْرَة وَيُؤْخَذ مَا حولهَا من السّمن ويرمى بِهِ، وَلَكِن إِذا تحقق أَن شَيْئا مِنْهَا لم يصل إِلَى شَيْء خَارج عَمَّا حولهَا وَالْبَاقِي يُؤْكَل، وَيُقَاس على هَذَا نَحْو الْعَسَل والدبس إِذا كَانَ جَامِدا، وَأما الْمَائِع فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه ينجس كُله، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا. وَقد شَذَّ قوم فَجعلُوا الْمَائِع كُله كَالْمَاءِ، وَلَا يعْتَبر ذَلِك، وسلك دواد بن عَليّ فِي ذَلِك مسلكهم إلاَّ فِي السّمن الجامد والذائب. فَإِنَّهُ تبع ظَاهر هَذَا الحَدِيث، وَخَالف مَعْنَاهُ فِي الْعَسَل والخل وَسَائِر الْمَائِعَات، فَجَعلهَا كلهَا فِي لُحُوق النَّجَاسَة إِيَّاهَا بِمَا ظهر فِيهَا، فشذ أَيْضا ويزمه أَن لَا يتَعَدَّى الْفَأْرَة كَمَا لَا يتَعَدَّى السّمن. قَالَ أَبُو عَمْرو: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الاستصباح بِهِ بعد إِجْمَاعهم على نَجَاسَته، فَقَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء لَا يستصبح بِهِ وَلَا ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك، الْحسن بن صَالح وَأحمد بن حَنْبَل محتجين بالرواية الْمَذْكُورَة، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه، وبعموم النَّهْي عَن الْميتَة فِي الْكتاب الْعَزِيز. وَقَالَ الْآخرُونَ: يجوز الاستصباح بِهِ وَالِانْتِفَاع فِي كل شَيْء الْأكل وَالْبيع وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما وَالثَّوْري، وَأما الْأكل فمجمع على تَحْرِيمه إلاَّ الشذوذ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَأما الاستصباح فَروِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَنَّهُمَا أجازا ذَلِك، وَمن حجتهم فِي تَحْرِيم بَيْعه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعن الله الْيَهُود. حرمت عَلَيْهِم الشحوم فَبَاعُوهَا وأكلوا ثمنهَا أَن الله إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه) وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَفع بِهِ وَيجوز بَيْعه وَلَا يُؤْكَل، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد، وَقد رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالقَاسِم وَسَالم محتجين بالرواية الْأُخْرَى، وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ وانتفعوا وَالْبيع من بَاب الِانْتِفَاع وَأما قَوْله فِي حَدِيث عبد الرَّزَّاق وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه، فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْأكل، وَقد أجْرى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّحْرِيم فِي شحوم الْميتَة من كل وَجه وَمنع الِانْتِفَاع بهَا، وَقد أَبَاحَ فِي السّمن يَقع فِيهِ الْميتَة، الِانْتِفَاع بِهِ، فَدلَّ على جَوَاز وُجُوه الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا غير الْأكل، وَمن جِهَة النّظر أَن شحوم الْميتَة مُحرمَة الْعين والذات، وَأما الزَّيْت، وَنَحْوه يَقع فِيهِ الْميتَة فَإِنَّمَا ينجس بالمحاورة وَمَا ينجس بالمحاورة فبيعه جَائِز، كَالثَّوْبِ تصيبه النَّجَاسَة من الدَّم وَغَيره، وَأما قَوْله: إِن الله تَعَالَى (إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه) ، فَإِنَّمَا خرج على لُحُوم الْميتَة الَّتِي حرم أكلهَا وَلم يبح الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْخمر، وَأَجَازَ عبد الله بن نَافِع غسل الزَّيْت وَشبهه تقع فِيهِ الْميتَة، وَرُوِيَ عَن مَالك أَيْضا وَصفته، أَن يعمد إِلَى ثَلَاث أواني أَو أَكثر فَيجْعَل الزَّيْت النَّجس فِي وَاحِدَة مِنْهَا حَتَّى يكون نصفهَا أَو نَحوه، ثمَّ يصب عَلَيْهِ المَاء حَتَّى يمتلىء، ثمَّ يُؤْخَذ الزَّيْت من عَلَاء المَاء، ثمَّ يَجْعَل فِي آخر وَيعْمل بِهِ كَذَلِك، ثمَّ فِي آخر، وَهُوَ قَول لَيْسَ لقائله سلف، وَلَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس قلت: هَذَا مِمَّا لَا ينعصر بالعصر، وَفِيه خلاف بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يطهر مَا لَا ينعصر بالعصر بِغسْلِهِ ثَلَاثًا وتجفيفه فِي كل مرّة، وَذَلِكَ كالحنطة والخزفة الجديدة والحصير والسكين المموه بِالْمَاءِ النَّجس وَاللَّحم المغلي بِالْمَاءِ النَّجس فالطريق فِيهِ أَن تغسل الْحِنْطَة ثَلَاثًا وتجفف فِي كل مرّة، وَكَذَلِكَ الْحَصِير، وَيغسل الخزف حَتَّى لَا يبْقى لَهُ بعد ذَلِك طعم وَلَا لون وَلَا رَائِحَة، ويموه السكين بِالْمَاءِ الطَّاهِر ثَلَاث مَرَّات، ويطبخ اللَّحْم ثَلَاث مَرَّات، ويجفف فِي كل مرّة ويبرد من الطَّبْخ، وَأما الْعَسَل وَاللَّبن وَنَحْوهمَا إِذا مَاتَ فِيهَا الْفَأْرَة أَو نَحْوهَا يَجْعَل فِي الْإِنَاء وَيصب فِيهِ المَاء ويطبخ حَتَّى يعود إِلَى مَا كَانَ، وَهَكَذَا يفعل ثَلَاثًا وَقَالَ مُحَمَّد مَا لَا ينعصر بالعصر إِذا تنجس لَا يطهر أبدا، وَقد رُوِيَ عَن عَطاء قَوْله: تفرد بِهِ روى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريح عَنهُ، قَالَ: ذكرُوا أَنه يدهن بِهِ(3/162)
السفن وَلَا يمس ذَلِك وَلَكِن يُؤْخَذ بعوده فَقلت: يدهن بِهِ غير السفن؟ قَالَ لَا أعلم قلت وَابْن يدهن بِهِ من السفن قَالَ: ظُهُورهَا وَلَا يدهن بطونها. قلت: فَلَا بُد أَن يمس! قَالَ: يغسل يَدَيْهِ من مَسّه. وَقد رُوِيَ عَن جَابر الْمَنْع من الدّهن بِهِ وَعَن سَحْنُون. أَن مَوتهَا فِي الزَّيْت الْكثير غير ضار، وَلَيْسَ الزَّيْت كَالْمَاءِ وَعَن عبد الْملك. إِذا وَقعت فَأْرَة أَو دجَاجَة فِي زَيْت أَو بِئْر فَإِن لم يتَغَيَّر طعمه وَلَا رِيحه أزيل ذَلِك مِنْهُ وَلم يَتَنَجَّس، وَإِن مَاتَت فِيهِ تنجس وَإِن كثر وَوَقع فِي كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ: أَن الْفَأْرَة عِنْد مَالك طَاهِرَة خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم عندنَا حخلافاً فِي طَهَارَتهَا فِي حَال حَيَاتهَا.
236 - حدّثنا عَلِي بنُ عَبْدَ اللَّهِ قالحدثنا مالِكُ عَن ابنِ شِهابِ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَتْبَةَ بنِ مَسْعُودِ عَن ابنِ عَبَّاسِ عنْ مَيْمُونَةَ أنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ خُذُوها وَمَا حَوْلَها فَاطْرَحُوهُ
(انْظُر الحَدِيث رقم: 235) .
هَذَا هُوَ الطَّرِيق الثَّانِي لحَدِيث مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَدِينِيّ، تقدم فِي بَاب الْفَهم فِي الْعلم، ومعن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون بن عِيسَى أَبُو يحيى القزار، بِالْقَافِ والزايين المنقوطتين أولاهما مُشَدّدَة، الْمدنِي كَانَ لَهُ علمَان حاكة وَهُوَ يَشْتَرِي القز ويلقي إِلَيْهِم، كَانَ يتوسد عتبَة مَالك، قَرَأَ الْمُوَطَّأ على مَالك للرشيد وبنيه، وَكَانَ مَالك لَا يُجيب الْعِرَاقِيّين حَتَّى يكون هُوَ سائله، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة.
وفيهالتحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِي الطَّرِيق الأولى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ وَفِي هَذِه الطَّرِيق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن فَأْرَة، وَقَالَ بعضم السَّائِل عَن ذَلِك هِيَ مَيْمُونَة، وَوَقع فِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان وَجُوَيْرِية عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث أَن مَيْمُونَة استفتت رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره قلت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيقين تَصْرِيح بِأَن السَّائِل غير مَيْمُونَة، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن لَا يكون غَيرهَا، وَلَكِن لَا يُمكن الْجَزْم بِأَنَّهَا هِيَ السائلة كَمَا جزم بِهِ هَذَا الْقَائِل.
قَوْله: (خذوها) أَي الْفَأْرَة وَمَا حولهَا أَي: وَمَا حول الْفَأْرَة وَقد قُلْنَا إِنَّه يدل على أَن السّمن كَانَ جَامِدا قَوْله: (فاطرحوه) الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْمَأْخُوذ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ قَوْله: (خذوها) والمأخوذ هُوَ الْفَأْرَة وَمَا حولهَا ويرمى الْمَأْخُوذ ويؤكل الْبَاقِي كَمَا دلّت عَلَيْهِ الرِّوَايَة الأولى فَإِن قلت: من أَيْن يعلم من هَذِه الرِّوَايَة جَوَاز أكل الْبَاقِي؟ قلت: لِأَن الطرح لأجل عدم جَوَاز مأكوليته، وَيفهم مِنْهُ جَوَاز مأكولية الْبَاقِي بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
قَالَ مَعْنٌ حَدثنَا مَالِكٌ مَا لَا أحْصِيهِ يَقُولُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ مَيْمُونَةَ رِضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُم
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن الصَّحِيح فِي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس عَن ميمونةٍ وَإِن كَانَت هَذِه الطَّرِيقَة أنزل من الطَّرِيقَة الأولى وَذَلِكَ لِأَن فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اخْتِلَافا كثيرا بيَّنه الدَّارَقُطْنِيّ حَيْثُ رُوِيَ تَارَة بِإِسْقَاط مَيْمُونَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك من غير ذكر مَيْمُونَة وَكَذَا فِي رِوَايَة القعْنبِي عَن مَالك، وَتارَة بِإِسْقَاط ابْن عَبَّاس، كَمَا لم يذكر فِي رِوَايَة ابْن وهب عَن ابْن عَبَّاس، وَمِنْهُم من لم يذكر ابْن عَبَّاس وَلَا مَيْمُونَة كيحيى ابْن بكير وَأبي مُصعب وَرَوَاهُ عبد الْملك بن الْمَاجشون عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله عَن ابْن مَسْعُود، وَقَالَ: عبد الحبار عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، وَوهم عبد الْملك وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة وَلَفظه: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، قَالَ: إِذا كَانَ جَامِدا فالقوها، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه) وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا اضْطِرَاب شَدِيد من مَالك فِي سَنَد هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَفِي رِوَايَة: سُئِلَ الزُّهْرِيّ عَن الداربة تَمُوت فِي الزَّيْت وَالسمن وَهُوَ جامد أَو غير جامد: فَقَالَ: بلغنَا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بفأرة مَاتَت فِي سمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح، ثمَّ أكل. وَلما كَانَ الْأَمر كَذَلِك بَين البُخَارِيّ أَن الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة هِيَ الْأَصَح أَلا ترى أَن معن بن عِيسَى يَقُول: (حَدثنَا مَالك) يَعْنِي بِهَذَا الحَدِيث (مَا لَا أحصيه) يَعْنِي: أمراراً كَثِيرَة لَا يضبطها لكثرتها: يَقُول عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة: وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ معن: هُوَ كَلَام(3/163)
ابْن الْمَدِينِيّ، فَهُوَ دَاخل تَحت الْإِسْنَاد، وَيحْتَمل، وَإِن كَانَ احْتِمَالا بَعيدا، أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ قَالَ بَعضهم: هُوَ مُتَّصِل، وَأبْعد من قَالَ إِنَّه مُعَلّق قلت أحتمال التَّعْلِيق غير بعيد وَلَا يخفى ذَلِك.
237 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَّمَدٍ قَالَ أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرُ عَن هَمَّامِ بنِ مُنَبِهٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِا إذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَماً اللَّوْنُ لونُ الدَّمِ والعَرْفُ عَرْفُ لَمِسْكِ
ذكرُوا فِي مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أوجهاً كلهَا بعيدَة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَجه مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة الْمسك: فَإِن أَصله دم انْعَقَد وفضلة نَجِسَة من الغزال، فَيَقْتَضِي أَن يكون نجسا كَسَائِر الدِّمَاء، وكسائر الفضلات، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين طَهَارَته بمدح الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، كَمَا بَين طَهَارَة عظم الْفِيل بالأثر، فظهرت الْمُنَاسبَة غَايَة الظُّهُور، وَإِن استشكله الْقَوْم غَايَة الاستشكال انْتهى. قلت: لم تظهر الْمُنَاسبَة بِهَذَا الْوَجْه أصلا وظهورها غَايَة الظُّهُور بعيد جدا واستشكال الْقَوْم باقٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِيرَاد المُصَنّف لهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ لَا مدْخل لَهُ فِي طَهَارَة الدَّم وَلَا نَجَاسَته، وَإِنَّمَا ورد فِي فضل المطعون فِي سَبِيل الله تَعَالَى، قَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَن مَقْصُود المُصَنّف إِيرَاده تَأْكِيدًا لمذهبه فِي أَن المَاء لَا يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة مَا لم يتَغَيَّر، وَذَلِكَ لِأَن تبدل الصّفة يُؤثر فِي الْمَوْصُوف، فَكَمَا أَن تغير صفة الدَّم بالرائحة إِلَى طيب الْمسك أخرجه من النَّجَاسَة إِلَى الطَّهَارَة، فَكَذَلِك تغير صفة المَاء إِذا تغير بِالنَّجَاسَةِ، يُخرجهُ عَن صفة الطَّهَارَة إِلَى صفة النَّجَاسَة، فَإِذا لم يُوجد التَّغَيُّر لم تُوجد النَّجَاسَة. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ نَقله فِي شَرحه عَن بَعضهم، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب، بِأَن الْغَرَض إِثْبَات انحصار التنجس بالتغير، وَمَا ذكر يدل على أَن التنجس يحصل بالتغير وَهُوَ باقٍ إِلَّا أَنه لَا يحصل إلاَّ بِهِ، وَهُوَ مَوضِع النزاع أنْتَهى قلت: هَذَا أَيْضا كَلَام الْكرْمَانِي، وَلكنه سبكه فِي صُورَة غير ظَاهِرَة، وَقَول الْكرْمَانِي هَكَذَا، فَنَقُول للْبُخَارِيّ: لَا يلْزم من وجود الشَّيْء عِنْد الشَّيْء أَن لَا يُوجد عِنْد عَدمه لجَوَاز مُقْتَض آخر، وَلَا يلْزم من كَونه خرج بالتغير إِلَى النَّجَاسَة أَن لَا يخرج إلاَّ بِهِ لاحْتِمَال وصف آخر يخرج بِهِ عَن الطَّهَارَة بِمُجَرَّد الملاقاة، إنتهى حَاصِل هَذَا أَنه وَارِد على قَوْلهم: إِن مَقْصُود البُخَارِيّ من إِيرَاد هَذَا الحَدِيث تَأْكِيد مذْهبه فِي أَن المَاء لَا يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة.
وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطالإنما ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي بَاب نَجَاسَة المَاء لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا صَحِيح السَّنَد فِي المَاء، فاستدل على حكم الْمَائِع بِحكم الدَّم الْمَائِع، وَهُوَ الْمَعْنى الْجَامِع بَينهمَا انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا وَجه غير حسن لَا يخفى.
وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن رشد وَهُوَ أَن مُرَاده أَن انْتِقَال الدَّم إِلَى الرَّائِحَة الطّيبَة هُوَ الَّذِي نَقله من حَالَة الدَّم إِلَى حَالَة الْمَدْح، فَحصل من هَذَا تَغْلِيب وصف وَاحِد، وَهُوَ، الرَّائِحَة، على وصفين، وهما: الطّعْم واللون، فيستنبط مِنْهُ أَنه مَتى تغير أحد اللأوصاف الثَّلَاثَة بصلاح أَو فَسَاد تبعه الأصفان الباقيان انْتهى قلت هَذَا ظَاهر الْفساد لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِنَّه إِذا وصف وَاحِد بِالنَّجَاسَةِ أَن لَا يُؤثر حَتَّى يُوجد الوصفان الْآخرَانِ، وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن الْمُنِير: لما تَغَيَّرت صفته إِلَى صفة طَاهِرَة بَطل حكم النَّجَاسَة فِيهِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْقشيرِي: المراعاة فِي المَاء بِتَغَيُّر لَونه دون رَائِحَته، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى الْخَارِج من جرح الشَّهِيد دَمًا وَإِن كَانَ رِيحه ريح الْمسك، وَلم يقل مسكاً، وَغلب اسْم الْمسك لكَونه على رَائِحَته، فَكَذَلِك المَاء مَا لم يتَغَيَّر طعمه.
وكل هَؤُلَاءِ خارجون عَن الدائرة، وَلم يذكر أحد مِنْهُم وَجها صَحِيحا ظَاهرا لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، لِأَن هَذَا الحَدِيث فِي بَيَان فضل الشَّهِيد: على أَن الحكم الْمَذْكُور فِيهِ من أُمُور الْآخِرَة، وَالْحكم فِي المَاء بِالطَّهَارَةِ والنجاسة من أُمُور الدُّنْيَا، وَكَيف يلتثم هَذَا بِذَاكَ؟
ورعاية الْمُنَاسبَة فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء بِأَدْنَى وَجه يلمح فِيهِ كَافِيَة، والتكلفات بالوجوه الْبَعِيدَة غير مستملحة، وَيُمكن أَن يُقَال: وَجه الْمُنَاسبَة فِي هَذَا أَنه لما كَانَ مبْنى الْأَمر فِي المَاء بالتغير بِوُقُوع النَّجَاسَة، وَأَنه يخرج عَن كَونه صَالحا للاستعمال لتغير صفته الَّتِي خلق عَلَيْهَا أَو أورد لَهُ نظيراً بِتَغَيُّر دم الشَّهِيد. فَإِن مُطلق الدَّم نجس، وَلكنه تغير بِوَاسِطَة الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله، وَلِهَذَا لَا يغسل عَنهُ دَمه ليظْهر شرفه يَوْم الْقِيَامَة لأهل الْموقف بانتقال صفته المذمومة(3/164)
إِلَى الصّفة المحمودة حَيْثُ صَار انتشاره كرائحة الْمسك، فَافْهَم فَإِن هَذَا الْمِقْدَار كافٍ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: اخْتلفُوا فِيهِ أَنه أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي مُوسَى الْمروزِي الْمَعْرُوف بمردويه، هَكَذَا قَالَه الْحَاكِم: أَبُو عبد الله، والكلاباذي وَالْإِمَام أَبُو نصر حَامِد بن مَحْمُود بن عَليّ الْفَزارِيّ فِي كِتَابه (مُخْتَصر البُخَارِيّ) وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَنه، أَحْمد بن مُحَمَّد بن عدي عرف بشبويه، وَقَالَ: أَبُو أَحْمد بن عدي بن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن معمر، لَا يعرف، ومردويه مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ ومئتين وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ لَا بَأْس وشبويه مَاتَ سنة تسع وَعشْرين أَو ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَبُو دَاوُد الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بالراء، ابْن رَاشد تقدم فِي كتاب الْوَحْي هُوَ وَابْن الْمُبَارك. الرَّابِع: همام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن المنبه، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعد النُّون الْمَفْتُوحَة، تقدم فِي بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَالْأَخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد وَأخرجه ابْن عَسَاكِر مضعفاً عَن أبي أَمَامه يرفعهُ، (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يكلّم أحد فِي سَبِيل الله وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم) فَذكره وَفِي لفظ (مَا وَقعت قَطْرَة أحب إِلَى الله من قَطْرَة دم فِي سَبِيل الله، أَو قَطْرَة دمع فِي سَواد اللَّيْل لَا يَرَاهَا إلاَّ الله تَعَالَى) .
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (كلم) بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون اللَّام قَالَ الْكرْمَانِي: أَي جِرَاحَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْكَلم الْجرْح من كَلمه يكلمهُ، كلما إِذا جرحه، من بَاب: ضرب يضْرب، وَالْجمع: كلوم وَكَلَام، وَرجل كليم ومكلوم أَي: مَجْرُوح، وَمِنْه اشتقاق الْكَلَام من الِاسْم وَالْفِعْل والحرف. قَوْله: (يكلمهُ الْمُسلم) بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح اللَّام أَي يكلم بِهِ فَحذف الْجَار وأوصل الْمَجْرُور إِلَى الْفِعْل، وَالْمُسلم، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول مَا لم يسم فالعه. قَوْله: (فِي سَبِيل الله) قيد يخرج بِهِ مَا إِذا كلم الرجل فِي غير سَبِيل الله وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله) . قَوْله: (كهيئتها) أَي: كَهَيئَةِ الْكَلِمَة وأنث الضَّمِير بِاعْتِبَار الْكَلِمَة وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ بَعضهم تَأْنِيث الضَّمِير بِاعْتِبَار إِرَادَة الْجراحَة. قلت: لَيْسَ، كَذَلِك بل بِاعْتِبَار الْكَلِمَة لِأَن الْكَلم والكلمة مصدران، والجراحة اسْم لَا يعبر بِهِ عَن الْمصدر، مَعَ أَن بَعضهم قَالَ: ويوضحه، رِوَايَة القايسي عَن أبي زيد الْمروزِي عَن الفريري كل كلمة يكلمها وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر. قلت: هَذَا يُوضح مَا قلت لَا مَا قَالَه. فَافْهَم قَوْله: (إِذْ طعنت) أَي: حِين طعنت، وَفِي بعض النّسخ وَجَمِيع نسخ مُسلم: إِذا طعنت) بِلَفْظ: إِذا مَعَ الْألف، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذْ للاستقبال وَلَا يَصح الْمَعْنى عَلَيْهِ قلت: هُوَ هَاهُنَا لمجر، الظَّرْفِيَّة، إِذْ هُوَ بِمَعْنى إِذْ وَقد يتعاقبان أَو هُوَ لاستحضار صُورَة الطعْن، إِذْ الاستحضار كَمَا يكون بِصَرِيح لفظ الْمُضَارع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحاباً} (الرّوم: 248) يكون أَيْضا بِمَا فِي معنى الْمُضَارع، كَمَا نَحن فِيهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَيْضا مَا وَجه التَّأْنِيث فِي طعنت المطعون هُوَ الْمُسلم قلت أَصله طعن بهَا وَقد حذف الْجَار لم أصل الضَّمِير المجرود إِلَى الْفِعْل وَصَارَ الْمُنْفَصِل مُتَّصِلا قلت: هَذَا تعسف؟ بل التَّأْنِيث فِيهَا بِاعْتِبَار الْكَلِمَة، لما فِي هيئتها لِأَنَّهَا المطعونة فِي الْحَقِيقَة وَالَّذِي إِنَّمَا يُسمى مطعوناً بِاعْتِبَار الْكَلِمَة والطعنة. قَوْله: (تفجر) بتَشْديد الْجِيم لِأَن أَصله تنفجر، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي قَوْله: {نَار تلظى} (فاطر: 9) فعله تتلظى، وَقَالَ الْكرْمَانِي، تفجر، بِضَم الْجِيم من الثلاثي، وبفتح الْجِيم الْمُشَدّدَة، وحذفت التَّاء الأولى مِنْهُ من التفعل قلت: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى جوباز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ، وَلكنه مَبْنِيّ على مَجِيء الرِّوَايَة بهما قَوْله: (واللون) وَفِي بعض النّسخ (اللَّوْن) بِدُونِ الْوَاو، واللون من المبصرات وَهُوَ أظهر المحسومات حَقِيقَة ووجوداً، فَذَلِك اسْتغنى عَن تَعْرِيفه وإثباته بِالدَّلِيلِ، وَمن القدماء من زعم أَنه لَا حَقِيقَة للألوان أصلا وَمِنْهُم من ظن أَن اللَّوْن الْحَقِيقِيّ لَيْسَ إلاَّ السوَاد وَالْبَيَاض، وَمَا عداهما إِنَّمَا حصل من تركيبهما وَمِنْهُم من زعم أَن الألوان الْحَقِيقِيَّة خَمْسَة: السوَاد، وَالْبَيَاض، والحمرة، والخضرة، والصفرة. وَجعل فِي البوافي مركبة مِنْهَا. (وَالدَّم) أَصله: دم وبالتحريك، وَإِنَّمَا قَالُوا: دمي بدمي لأجل الكسرة الَّتِي قيل الْيَاء كَمَا لَو إرضى يرضى من الرضْوَان. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: أَصله: دمى، بِالتَّحْرِيكِ وَإِن جَاءَ جمعه مُخَالفا لنظائره، والذاهب مِنْهُ الْيَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهَا قَوْلهم فِي تَثْنِيَة دميان، وَبَعض الْعَرَب يَقُول فِي تثنيته دموان.(3/165)
قَوْله: (وَعرف المسلك) ، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ مُعرب، مشك، بالشين الْمُعْجَمَة وَضم الْمِيم، ويروى: عرف مسك، مُنْكرا وَكَذَلِكَ. الدَّم، يرْوى مُنْكرا قَوْله: (وَالْعرْف) ينْتج بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخه فَاء وَهِي الرَّائِحَة الطّيبَة والمنتنة أَيْضا.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد وَمِنْهَا: أَن الْحِكْمَة فِي كَون دم الشَّهِيد يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة على هَيْئَة إِنَّه يشْهد لصَاحبه بفضله، وعَلى ظالمه بِفِعْلِهِ وَمِنْهَا: كَونه على رَائِحَة الْمسك إِظْهَارًا لفضيلته لأهل الْمَحْشَر، وَلِهَذَا لَا يغسل دَمه وَلَا هُوَ يغسل خلافًا لسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَمِنْهَا: الدّلَالَة على فضل الْجراحَة فِي سَبِيل الله. وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (عرف الْمسك) لَا يسْتَلْزم أَن يكون مسكاً حَقِيقَة بل يَجعله الله شَيْئا يشبه هَذَا وَلَا كَونه دَمًا يسْتَلْزم أَن يكون دَمًا نجسا حَقِيقَة، وَيجوز أَن يحوله الله إِلَى مسك حَقِيقَة لقدرته على كل شَيْء كَمَا أَنه يحول أَعمال بني آدم من الْحَسَنَات والسيئات إِلَى جَسَد ليوزن فِي الْمِيزَان الَّذِي ينصبه يَوْم الْقِيَامَة وَالله أعلم.
68 - (بَاب البَولِ فِي الماءِ الدَّائِمِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل فِي المَاء الراكد، وَهُوَ الَّذِي لَا يجْرِي فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، بَاب لَا تبولوا فِي المَاء الراكد وَفِي بعض النّسخ: بَاب المَاء الدَّائِم، وَفِي بَعْضهَا، بَاب الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ الَّذِي لَا يجْرِي، وَتَفْسِير الدَّائِم هُوَ: الَّذِي لَا يجْرِي وَذكر قَوْله: بعد ذَلِك الَّذِي لَا يجْرِي يكون تَأْكِيدًا لمعناه وَصفَة مُوضحَة لَهُ، وَقيل: للِاحْتِرَاز عَن راكد لَا يجْرِي بعضه كالبرك وَنَحْوهَا. قلت: فِيهَا تعسف، وَالْألف وَاللَّام فِي المَاء، إِمَّا لبَيَان حَقِيقَة الْجِنْس أَو للْعهد الذهْنِي، وَهُوَ: المَاء الَّذِي يُرِيد الملكف التوضأ بِهِ والاغتسال مِنْهُ.
فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: ظَاهر لِأَن الْبَاب السَّابِق فِي بَيَان السّمن وَالْمَاء الَّذِي يَقع فِيهِ النَّجَاسَة، وَهَذَا أَيْضا فِي بَيَان المَاء الراكد الَّذِي يَبُول فِيهِ الرجل فيتقاربان فِي الحكم وَلم أجد مِمَّن اعتنى بشرح هَذَا الْكتاب أَن يذكر وُجُوه المناسبات بَين الْأَبْوَاب والكتب إلاَّ نَادرا.
238 - حدّثنا أَبُو الْيَمَان قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ إأخبرنا أبُو الزِّنادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهُ تَعَالَى أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول نحْنُ الآخَرُونَ السَّابِقُونَ
باسْنَادِهِ قَالَ لاَ يَبُولَنَّ احَدُكُمْ فِي الماءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسَلُ فِيهِ.
هَذَانِ حديثان مستقلان، ومطابقة الحَدِيث الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأما الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم الحَدِيث الأول فقد اخْتلفُوا فِيهَا فَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع ذَلِك من النَّبِي ت وَمَا بعده فِي نسق وَاحِد،. فَحدث بهما جَمِيعًا وَيحْتَمل أَن يكون همام فعل ذَلِك لِأَنَّهُ سَمعهَا من أبي هُرَيْرَة وإلاَّ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث مُنَاسبَة للتَّرْجَمَة. قيل: فِي الِاحْتِمَال الأول نظر لتعذره. وَلِأَنَّهُ مَا بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حفظ عَنهُ أحد فِي مجْلِس وَاحِد مِقْدَار هَذِه النُّسْخَة صَحِيحا إِلَّا أَن يكون من الْوَصَايَا الْغَيْر الصَّحِيحَة، وَلَا يقرب من الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: مَا حَاصله أَن هما مَا رَاوِيه، روى جملَة أَحَادِيث عَن أبي هُرَيْرَة استفتحها لَهُ أَبُو هُرَيْرَة بِحَدِيث نَحن الْآخرُونَ فَصَارَ همام كلما حدث عَن أبي هُرَيْرَة ذكر الْجُمْلَة من أَولهَا، وَتَبعهُ البُخَارِيّ فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ فِي مَوَاضِع أُخْرَى من كِتَابه فِي كتاب: الْجِهَاد والمغازي وَالْإِيمَان وَالنُّذُور وقصص الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، والاعتصام ذكر فِي أوائلها كلهَا نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ وَقَالَ ابْن الْمُنِير: هُوَ حَدِيث وَاحِد، فَإِذا كَانَ وَاحِدًا تكون الْمُطَابقَة فِي آخر الحَدِيث. وَفِيه نظر لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاحِدًا لما فَصله البُخَارِيّ بقوله: (وبأسناده) وَأَيْضًا فَقَوله: نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ طرف من حَدِيث مَشْهُور فِي ذكر يَوْم الْجُمُعَة لَو رَاعى البُخَارِيّ مَا ادَّعَاهُ لساق الْمَتْن بِتَمَامِهِ، وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي هَذَا أَن حَدِيث نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، أول الحَدِيث فِي صحيفَة همام عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَانَ همام إِذا رُؤِيَ الصَّحِيفَة استفتج بِذكر، ثمَّ سرد الْأَحَادِيث، فواقه البُخَارِيّ هَاهُنَا وَيُقَال: الْحِكْمَة فِيهِ أَن من عَادَة الْمُحدثين ذكر الحَدِيث جملَة لتَضَمّنه مَوضِع الدّلَالَة الْمَطْلُوبَة، وَلَا يكون مَا فِيهِ مَقْصُودا بالاستدلال، وَإِنَّمَا جَاءَ تبعا لموْضِع الدَّلِيل وَفِيه نظر، وَلَا يخفى.
وَقَالَ الْكرْمَانِي(3/166)
قَالَ بعض عُلَمَاء الْعَصْر: إِن قيل: مَا مُنَاسبَة صدر الحَدِيث لآخرة؟ قُلْنَا: وَجهه أَن هَذِه الْأمة آخر من يدْفن من الْأُمَم، وَأول من يخرج مِنْهَا لِأَن الأَرْض لَهُم وعَاء والوعاء آخر مَا يوضع فِيهِ، وَأول مَا يخرج مِنْهُ فَكَذَلِك المَاء الراكد. آخر مَا يَقع فِيهِ من الْبَوْل أول مَا يُصَادف أَعْضَاء المتطهر مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب ذَلِك وَلَا يَفْعَله قلت فِيهِ: جر الثقيل وَلَا يشفي العليل.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم: هُوَ الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة، وَكِلَاهُمَا تقدما فِي قصَّة هِرقل. الثَّالِث: والزناد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد لله بن ذكْوَان. الرَّابِع: الْأَعْرَج، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والأعرج صفته تقدما فِي بَاب: حب الرَّسُول من الْإِيمَان. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موصع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه: الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني. وَفِيه: فِي بعض النّسخ أخبرنَا أَبُو الزِّنَاد أَن الْأَعْرَج وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج وَفِيه: كَمَا ترى أَن شعيباً روى عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج وَوَافَقَهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن أبي الزِّنَاد. وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ. وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة عَنهُ عَن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَمن هَذَا الْوَجْه أخرجه النَّسَائِيّ، وَكَذَا أخرجه من طَرِيق النَّوَوِيّ عَن أبي الزِّنَاد، والطَّحَاوِي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه، والطريقان صَحِيحَانِ وَلأبي الزِّنَاد فِيهِ شَيْخَانِ وَلَفْظهمَا فِي سِيَاق الْمَتْن مُخْتَلف فِيهِ.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من عشر طرق: الأول: حَدثنَا صَالح عبد الرحمان بن عَمْرو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ، وَعلي بن شيبَة بن الصلات الْبَغْدَادِيّ قَالَا حَدثنَا عبد الله بن يزِيد المقرىء، قَالَ: سَمِعت ابْن عون يحدث عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: نهى أَو نهيّ أَن يَبُول الرجل فِي المَاء الدَّائِم، أَو الراكد ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يغْتَسل فِيهِ. الطَّرِيق الثَّانِي: حَدثنَا عَليّ بن سعيد بن نوح الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن بكر السَّهْمِي، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يَبُول أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل فِيهِ) وَأخرجه مُسلم بِنَحْوِهِ. الطَّرِيق الثَّالِث: حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبرنِي أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ عَن الْحَارِث بن أبي ذياب، وَهُوَ رجل من الأزد، عَن عَطاء بن مينا عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يشرب) وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ بِنَحْوِهِ إِسْنَادًا ومتناً. الطَّرِيق الرَّابِع: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج حَدثهُ أَن أَبَا السَّائِب، مولى هِشَام بن زهرَة؟ حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء، الدَّائِم وَهُوَ جنب فَقَالَ: كَيفَ تفعل يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ فَقَالَ: يتَنَاوَلهُ تناولاً) وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) نَحوه عَن عبد الله بن مُسلم عَن جرملة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب إِلَى آخِره. الطَّرِيق الْخَامِس: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن الحكم ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) وَلم يعرف قَاسم اسْم: أبي مُوسَى، الْمَذْكُور وَتَركه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الطَّرِيق السَّادِس وَالسَّابِع: حَدثنَا حسن بن نَص الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان (ح) وَحدثنَا فهر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد، الطَّرِيق الثَّامِن: حَدثنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان الْمرَادِي الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد بن مُوسَى قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن لهيفة قَالَ: فَذكر بِإِسْنَادِهِ مثله، حَدثنَا عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يَتَحَرَّك ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) . الطَّرِيق التَّاسِع: حَدثنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان الجيزي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة وَهبة الله بن رَاشد، قَالَ: أخبرنَا حَيْوَة بن شُرَيْح، قَالَ: سَمِعت ابْن عجلَان يحدث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الراكد وَلَا يغْتَسل فِيهِ) . الطَّرِيق الْعَاشِر: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن منقذ الْعُصْفُرِي؟ قَالَ: حَدثنِي إِدْرِيس بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن عَبَّاس عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، غير أَنه قَالَ: (وَلَا يغْتَسل فِيهِ جنب) .(3/167)
بَيَان تعدد مَوْضِعه من أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ كَمَا ترى عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: (نهى أَن يبال فِي المَاء الراكد) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الناقع) .
بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (وَنحن الْآخرُونَ) بِكَسْر الْحَاء جمع الآخر، بِمَعْنى الْمُتَأَخر، يذكر فِي مُقَابلَة الأول، وَبِفَتْحِهَا جمع الآخر، أفعل التَّفْصِيل، وَهَذَا الْمَعْنى أَعم من الأول، وَالرِّوَايَة بِالْكَسْرِ فَقَط، وَمَعْنَاهُ نَحن الْمُتَأَخّرُونَ فِي الدُّنْيَا المتقدمون فِي يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (وبإسناده) الضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث أَي: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قَوْله: (لَا يبولن) ، بِفَتْح اللَّام وبنون التَّأْكِيد الثَّقِيلَة. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (لَا يَبُول) ، بِغَيْر نون التَّأْكِيد. قَوْله: (فِي المَاء الدَّائِم) من دَامَ الشَّيْء يَدُوم ويدام، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا مي لَا غرو وَلَا ملاماً ... فِي الْحبّ أَن الْحبّ لن يداما)
وديماً ودواماً وديمومة قَالَه ابْن سَيّده وَأَصله الاستدارة، وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب الهندسة يَقُولُونَ إِن المَاء إِذا كَانَ بمَكَان فَإِنَّهُ يكون مستديراً فِي الشكل، وَيُقَال الدَّائِم الثَّابِت الْوَاقِف الَّذِي لَا يجْرِي. وَقَوله: (لَا يجْرِي) إِيضَاح لمعناه وتأكيد لَهُ وَيُقَال: الدَّائِم الراكد، جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: وَفِي (تَارِيخ نيسابور) المَاء الراكد الدَّائِم. وَيُقَال: احْتَرز بقوله: (الَّذِي لَا يجْرِي) عَن راكد يجْرِي بعضه، كالبرك وَقيل: احْتَرز بِهِ عَن المَاء الدائر لِأَنَّهُ جَار من حَيْثُ الصُّورَة، سَاكن من حَيْثُ الْمَعْنى. قَوْله: (ثمَّ يغْتَسل) يجوز فِيهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة الْجَزْم عطفا على: (لَا يبولن) لِأَنَّهُ مجزوم الْموضع بِلَا الَّتِي للنَّهْي، وَلكنه بني على الْفَتْح لتوكيده بالنُّون. وَالرَّفْع: تَقْدِير ثمَّ هُوَ يغْتَسل فِيهِ. وَالنّصب: على إِضْمَار أَن وَإِعْطَاء، ثمَّ حكم وَاو الْجمع وَنَظِيره فِي الْأَوْجه الثَّلَاثَة قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت} (النِّسَاء: 100) إغاثة قرىء بِالْجَزْمِ، وَهُوَ الَّذِي قرأنه السَّبْعَة، وبالرفع وَالنّصب على الشذوذ وَقَالَ النَّوَوِيّ لَا يجوز النصب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن الْمنْهِي عَنهُ الْجمع بَينهمَا دون إِفْرَاد أَحدهمَا. وَهَذَا لم يقلهُ أحد، بل الْبَوْل فِيهِ مَنْهِيّ عَنهُ سَوَاء أَرَادَ الِاغْتِسَال فِيهِ أَو مِنْهُ أم لَا، وَلَا يَقْتَضِي الْجمع إِذْ لَا يُرِيد بتشبيه، ثمَّ بِالْوَاو المشابهة من جَمِيع الْوُجُوه بل جَوَاز النصب بعده فَقَط سلمنَا لَكِن لَا يضر إِذْ كَون الْجمع يعلم من حَقنا وَكَون الْأَفْرَاد مَنْهِيّا من دَلِيل آخر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق} (الْبَقَرَة: 42) على تَقْدِير النصب. قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي، وَتفرد البُخَارِيّ بِلَفْظ فِيهِ، أَو فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد (ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) كَمَا فِي رِوَايَة غَيره مِنْهُ بِكَلِمَة من وَلَك وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ يُفِيد حكما بِالنَّصِّ، وَحكما بالاستنباط.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا. أَن المَاء الَّذِي لَا يبلغ الغدير الْعَظِيم إِذا وَقعت فِيهِ نَجَاسَة لم يجز الْوضُوء بِهِ، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا، وعَلى أَن الْقلَّتَيْنِ تحمل النَّجَاسَة لِأَن الحَدِيث مُطلق فبإطلاقه يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، والقلتين وَالْأَكْثَر مِنْهُمَا. وَلَو قُلْنَا: إِن الْقلَّتَيْنِ لَا تحمل النَّجَاسَة لم يكن للنَّهْي فَائِدَة على أَن هَذَا أصح من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ وَقَالَ ابْن قدامَة وَدَلِيلنَا حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَهَذَانِ نَص فِي خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة وَقَالَ أَيْضا بِئْر بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى الْحَد الَّذِي يمْنَع التنجس عِنْدهم قلت: لَا نسلم أَن هذَيْن الْحَدِيثين نصر فِي خلاف مَذْهَبنَا، أما حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فَلِأَنَّهُ وَإِن كَانَ بَعضهم صَححهُ فَإِنَّهُ مُضْطَرب سنداً ومتناً والقلة فِي نَفسهَا مَجْهُولَة وَالْعَمَل بِالصَّحِيحِ الْمُتَّفق عَلَيْهِ أقوى وَأقرب وَأما حَدِيث بِئْر بضَاعَة فَإنَّا نعمل بِهِ فَإِن ماءها كَانَ جَارِيا وَقَوله: وبئر بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى آخِره غير صَحِيح لِأَن الْبَيْهَقِيّ رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَن بِئْر بضَاعَة كَانَت كَثِيرَة المَاء وَاسِعَة، وَكَانَ يطْرَح فِيهَا من الأنجاس مَا لَا يُغير لَهَا لوناً وَلَا ريحًا وَلَا طعماً فَإِن قَالُوا: حديثكم عَام فِي كل مَاء، وحديثنا خَاص فِيمَا يبلغ الْقلَّتَيْنِ، وَتَقْدِيم الْخَاص على الْعَام مُتَعَيّن، كَيفَ وحديثكم لَا بُد من تَخْصِيصه، فَإِنَّكُم وافقتمونا على تَخْصِيص المَاء الْكثير الَّذِي يزِيد على عشرَة(3/168)
أَذْرع وَإِذا لم يكن بُد من التَّخْصِيص فالتخصيص بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ من غير أصل يرجع إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيل يعْتَمد عَلَيْهِ. قُلْنَا: لَا تسلمك أَن تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام مُتَعَيّن، بل الظَّاهِر من مهب أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ، كَمَا فِي حديثكم حَرِيم لئر الناضح فَإِنَّهُ رجح قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا حولهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا وَرجح قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر) على الْخَاص الْوَارِد بقوله: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صدقه) وَنسخ الْخَاص بِالْعَام، قَوْلهم: التَّخْصِيص بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الحَدِيث الْمُخَصّص غير مُخَالف للْإِجْمَاع، وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ خير آحَاد ورد مُخَالفا لإِجْمَاع الصَّحَابَة فَيرد بَيَانه أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم فتيا فِي زنجي وَقع فِي بِئْر زَمْزَم، بنزج المَاء كُله، وَلم يظْهر أَثَره فِي المَاء، وَكَانَ المَاء أَكثر من قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يُنكر عَلَيْهِمَا أحد مِنْهُم، فَكَانَ إِجْمَاعًا وَخبر الْوَاحِد إِذا ورد مُخَالفا للْإِجْمَاع يرد، يدل عَلَيْهِ أَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ قَالَ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكفى بِهِ قدوة فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ أَبُو دَاوُد، لَا يكَاد يَصح لوَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي تَقْدِير المَاء. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابنَا فِي التَّقْدِير إِلَى الدَّلَائِل الحسية دون الدَّلَائِل السمعية.
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو يُوسُف على نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل، فَإِنَّهُ قرن بَين الْغسْل فِيهِ وَالْبَوْل فِيهِ، وَأما الْبَوْل فِيهِ فينجسه، فَكَذَلِك الْغسْل فِيهِ وَفِي دلَالَة الْقرَان بَين الشَّيْئَيْنِ على استوائهما فِي الحكم خلاف بَين الْعلمَاء فالمذكور عَن أبي يُوسُف والمزني ذَلِك، وَخَالَفَهُمَا غَيرهمَا وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على تنجس المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَن الْبَوْل ينجس المَاء، فَكَذَلِك الِاغْتِسَال، وَقد نهى عَنْهُمَا مَعًا، وَهُوَ التَّحْرِيم، فَدلَّ على أَن النَّجَاسَة فيهمَا ثَابِتَة، ورد بِأَنَّهَا دلَالَة قرَان وَهِي ضَعِيفَة قلت: هَذَا عجب مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذا كَانَت دلَالَة الاقتران صَحِيحَة عِنْده، فبقوله: وَهِي ضَعِيفَة، يرد على قَائِله: على أَن مَذْهَب أَكثر أَصْحَاب إِمَامه مثل مَذْهَب بعض الْحَنَفِيَّة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وعَلى تَقْدِير تَسْلِيمهَا قد يلْزم التَّسْوِيَة، فَيكون النَّهْي عَن الْبَوْل لِئَلَّا يُنجسهُ، وَعَن الِاغْتِسَال فِيهِ لِئَلَّا يسلبه الطّهُورِيَّة قلت: هَذَا أعجب من الأول، لِأَنَّهُ تحكم حَيْثُ لَا يفهم هَذِه التَّسْوِيَة من نظم الْكَلَام، وَالَّذِي احْتج بِهِ فِي نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل يَقُول بالتسوية من نظم الْكَلَام.
الثَّالِث: النَّوَوِيّ زعم أَن النَّهْي الْمَذْكُور فِيهِ للتَّحْرِيم فِي بعض الْمِيَاه، وَالْكَرَاهَة فِي بَعْضهَا، فَإِن كَانَ المَاء كثيرا جَارِيا لم يحرم الْبَوْل فِيهِ لمَفْهُوم الحَدِيث، وَلَكِن الأولى اجتنابه، وَإِن كَانَ قَلِيلا جَارِيا فقد قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا: يكره، وَالْمُخْتَار أَنه يحرم، لِأَنَّهُ يقذره وينجسه على الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَإِن كَانَ كثيرا راكداً فَقَالَ أَصْحَابنَا يكره وَلَا يحرم وَلَو قيل يحرم لم يكن بَعيدا وَأما الراكد الْقَلِيل فقد أطلق جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَنه مَكْرُوه، وَالصَّوَاب الْمُخْتَار: أَنه حرَام، والتغوط فِيهِ كالبول فِيهِ، وأقبح، وَكَذَا أذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء قلت: زعم النَّوَوِيّ أَنه من بَاب اسْتِعْمَال اللَّفْظ اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْوَاحِد فِي مَعْنيين مُخْتَلفين، وَفِيه من الْخلاف مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْأُصُول.
الرَّابِع: أَن هَذَا الحَدِيث عَام فَلَا بُد من تَخْصِيصه اتِّفَاقًا بِالْمَاءِ المتبحر الَّذِي لَا يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحريك الطّرف الآخر، أَو بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وبالعمومات الدَّالَّة على طهورية المَاء مَا لم تَتَغَيَّر أحد أَوْصَافه الثَّلَاثَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك رَحمَه الله. وَقَالَ بَعضهم: الْفَصْل بالقلتين أقوى لصِحَّة الحَدِيث فِيهِ، وَقد اعْترف الطَّحَاوِيّ من الْحَنَفِيَّة بذلك، لكنه أعْتَذر عَن القَوْل بِهِ بِأَن الْقلَّة فِي الْعرف تطلق على الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، كالجرة وَلم يثبت فِي الحَدِيث تقديرهما، فَيكون مُجملا فَلَا يعْمل بِهِ، وَقواهُ ابْن دَقِيق الْعِيد. قلت: هَذَا الْقَائِل أدعى ثمَّ أبطل دَعْوَاهُ بِمَا ذكره فَلَا يحْتَاج إِلَى ود كَلَامه بِشَيْء آخر.
الْخَامِس: فِيهِ ذليل على تَحْرِيم الْغسْل وَالْوُضُوء بِالْمَاءِ النَّجس.
السَّادِس: فِيهِ التَّأْدِيب بالتنزه ومختص ببول نسفه، لغير البائل أَن يتَوَضَّأ بِمَا بَال فِيهِ غَيره، أَيْضا للبائل إِذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء أَو بَال بِقرب المَاء ثمَّ جرى إِلَيْهِ، وَهَذَا من أقبح مَا نقل عَنهُ.
السَّابِع: أَن الْمَذْكُور فِيهِ الْغسْل من الْجَنَابَة، فَيلْحق بِهِ الِاغْتِسَال من الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَكَذَلِكَ يحلق بِهِ اغتسال الْجُمُعَة، والاغتسال من غسل الْمَيِّت عِنْد من يُوجِبهَا. قلت: هَل يلْحق بِهِ الْغسْل الْمسنون أم لَا؟ قلت: من اقْتصر على اللَّفْظ فَلَا إِلْحَاق عِنْده كَأَهل الظَّاهِر، وَأما من يعْمل بِالْقِيَاسِ فَمن زعم أَن الْعلَّة(3/169)
الِاسْتِعْمَال فالإلحاق صَحِيح، وَمن زعم أَن الْعلَّة رفع الْحَدث فَلَا إِلْحَاق عِنْده، فَاعْتبر بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد فِي كَون المَاء مُسْتَعْملا.
الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الْبَوْل.
69 - (بابٌ إذَا أُلْقِيَ عَلى ظهْرِ المصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاتُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ألقِي على ظَهره نَجَاسَة وَهُوَ فِي الصَّلَاة. وَقَوله: (لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته) جَوَاب: إِذا، والقذر، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة ضد النَّظَافَة يُقَال: قذرت الشَّيْء، بِالْكَسْرِ، إِذا كرهته، (والجيفة:) جنَّة الْمَيِّت المريحة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول يشْتَمل على حكم وُصُول النَّجَاسَة إِلَى المَاء، وَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على حكم وصولها إِلَى الْمُصَلِّي وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَهَذَا الْمِقْدَار يتلمح بِهِ فِي وَجه التَّرْتِيب، وَإِن كَانَ حكم مَا مُخْتَلفا، فَإِن فِي الْبَاب الأول وُصُول الْبَوْل إِلَى المَاء الراكد يُنجسهُ. كَمَا ذكر المَاء فِيهِ مستقضىً بِمَا قَالَت الْعلمَاء فِيهِ، وَفِي هَذَا الْبَاب وُصُول النَّجَاسَة إِلَى الْمُصَلِّي لَا تفْسد صلَاته على مَا زعم البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ وضع هَذَا الْبَاب لهَذَا الْمَعْنى، وَلِهَذَا صرح بقوله: (لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته) وَهَذَا يمشي على مَذْهَب من يرى عدم اشْتِرَاط إِزَالَة النَّجَاسَة لصِحَّة الصَّلَاة، أَو على مَذْهَب من يَقُول: إِن من حدث لَهُ فِي صَلَاة مَا يمْنَع انْعِقَادهَا ابْتِدَاء لَا تبطل صلَاته وَقَالَ بَعضهم: (لم تفْسد) مَحَله مَا إِذا لم يعلم بذلك وَتَمَادَى، وَيحْتَمل الصِّحَّة مُطلقًا على قَول من يذهب إِلَى أَن اجْتِنَاب النَّجَاسَة فِي الصَّلَاة لَيْسَ بِفَرْض، وعَلى قَول من ذهب إِلَى منع ذَلِك فِي الِابْتِدَاء دون مَا يطْرَأ وَإِلَيْهِ ميل المُصَنّف انْتهى قلت: من أَيْن علم ميل المُصَنّف إِلَى القَوْل الثَّانِي، وَقد وضع هَذَا الْبَاب وَترْجم بِعَدَمِ الْفساد مُطلقًا وَلم يُقيد بِشَيْء. مِمَّا ذكره هَذَا الْقَائِل؟ على أَنه قد أكد مَا ذهب، إِلَيْهِ من الْإِطْلَاق بِمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر وَسَعِيد بن الْمسيب وعامر الشّعبِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على أَن فِيهِ نظرا على مَا تذكره عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا وَعَلِيهِ يخرج صَنِيع الصَّحَابِيّ الَّذِي اسْتمرّ فِي الصَّلَاة بعد أَن سَالَتْ مِنْهُ الدِّمَاء يَرْمِي من رَمَاه قلت: هَذَا الصَّحَابِيّ فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع الحَدِيث وَفِيه: (فَنزل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منزلا، وَقَالَ: من رجل يكلؤنا، فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَرجل من الْأَنْصَار، وَقَالَ: كونا بِفَم الشّعب، قَالَ: فَلَمَّا خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع الْمُهَاجِرِي وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، وأتى رجل، فَلَمَّا رأى شخصه عرفه أَنه ربيئة للْقَوْم، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه فِيهِ ونزعه حَتَّى قضى ثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع وَسجد) الحَدِيث وَتَخْرِيج هَذَا الْقَائِل صَنِيع هَذَا الصَّحَابِيّ على مَا ذكره غير صَحِيح، لِأَن هَذَا فعل وَاحِد من الصَّحَابَة، وَلَعَلَّه كَانَ ذهل عَنهُ، أَو كَانَ غير عَالم بِحكمِهِ، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الدَّم حِين خرج أصَاب بدنه وثوبه، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يخرج من الصَّلَاة وَلم يخرج، فَلَمَّا بدل مضيه فِي الصَّلَاة على جَوَاز الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة كَذَلِك، لَا بدل مضيه فِيهَا على أَن خُرُوج الدَّم لَا ينْقض الْوضُوء.
وكانَ ابنُ عُمَرَ إِذا رَأَى ثَوْبِهِ دَمًا يُصَلِّى وَضَعهُ وَمَضَى فِي صَلاتِهِ
هَذَا الْأَثر لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَن فِيهَا مَا إِذا أصَاب الْمُصَلِّي نَجَاسَة وَهُوَ فِي الصَّلَاة لَا تفْسد صلَاته، والأثر يدل على أَن ابْن عمر إِذا رأى فِي ثَوْبه دَمًا، وَهُوَ فِي الصَّلَاة وضع ثَوْبه يَعْنِي: أَلْقَاهُ، وَمضى فِي صلَاته، فَهَذَا صَرِيح على أَنه لَا يرى جَوَاز الصَّلَاة مَعَ إِصَابَة النَّجَاسَة فِي ثَوْبه وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق برد بن سِنَان عَن نَافِع عَنهُ: أَنه كَانَ إِذا كَانَ فِي الصَّلَاة فَرَأى فِي ثَوْبه دَمًا فاستطاع أَن يَضَعهُ وَضعه، وَإِن لم يسْتَطع خرج فَغسله ثمَّ جَاءَ يَبْنِي على مَا كَانَ صلى. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه كَانَ يرى التَّفْرِقَة بَين الِابْتِدَاء والدوام قلت: لَا يَقْتَضِي هَذَا أصلا وَإِنَّمَا يدل على أَنه كَانَ لَا يرى جَوَاز الصَّلَاة مَعَ وجود النَّجَاسَة مَعَ الْمُصَلِّي مُطلقًا وَهَذَا حجَّة قَوِيَّة لأبي يُوسُف فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من أَن الْمُصَلِّي إِذا كَانَ انتضح عَلَيْهِ الْبَوْل أَكثر.
من قدر الدِّرْهَم ينْصَرف وَيغسل وَيَبْنِي على صلَاته، وَكَذَلِكَ إِذا ضرب رَأسه أَو صدمه شَيْء فَسَالَ مِنْهُ الدَّم.(3/170)
وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبَ والشَّعْبِي إِذا صلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَو لِغَيْرِ القِبْلَةِ أَوْ تَيَمَمَ وصلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الماءَ فِي وَقْتِهِ لَا يُعيدُ
وَقع للأكثرين: (وَقَالَ ابْن الْمسيب:) وَوَقع للمستملي والسرخسي: وَكَانَ ابْن الْمسيب، يدل، قَالَ: فَإِن قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يثنى الضَّمِير، لِأَن الْمَذْكُور اثْنَان وهم: ابْن الْمسيب وَالشعْبِيّ. قلت: أَرَادَ كلَّ وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن ابْن الْمسيب هُوَ سعيد، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، وَهَذَا الْأَثر بِمَا يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا عمل بِظَاهِرِهِ على الْإِطْلَاق أما إِذا قيل: المُرَاد من قَوْله: دم أقل من قدر الدِّرْهَم عِنْد من يرى ذَلِك، أَو شَيْء يسير عِنْد من ذهب إِلَى أَن الْيَسِير عَفْو فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَكَذَلِكَ الْجَنَابَة لَا تطابق عِنْد من يرَاهُ طَاهِرا وَالْمرَاد من الْجَنَابَة أَثَرهَا وَهُوَ الْمَنِيّ، أَو فِيهِ إِطْلَاق الْجَنَابَة على الْمَنِيّ من قبيل ذكر الْمسيب، وَإِرَادَة السَّبَب. قَوْله: (أَو لغير الْقبْلَة) أَي: أَو صلى لغير الْقبْلَة على اجْتِهَاده، ثمَّ تبين الْخَطَأ قَوْله: (أَو تيَمّم) أَي: عِنْد عدم المَاء، وكل هَذِه قيود لَا بُد مِنْهَا على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَلَا يُعِيد) أَي: الصَّلَاة، وَذكر ابْن بطال عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَسَالم وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وَطَاوُس: أَنه إِذا صلى فِي ثوب نجس، ثمَّ علم بِهِ بعد الصَّلَاة، لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَعَن ربيعَة وَمَالك: يُعِيد فِي الْوَقْت، وَعَن الشَّافِعِي: يُعِيد أبدا، وَبِه قَالَ أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى.
240 - حدّثنا عَبْدانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عَن أبي إسْحَاقَ عنْ عَمْرو بنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ بَيْنا رسولُ الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدٌ ح قالَ وحَدثني أحمَدُ بنُ عُثْمانَ قَالَ حَدثنَا شُرَيْحُ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدثنَا إبْراهِيمُ بنُ يُوسُفَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي إسْحَاقَ قَالَحدثني عَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّى عنْدَ البَيْتَ وأبُو جَهْلٍ وَأصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيَّكُمْ يَجِىءُ بِسَلاً جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَضَعُهُ علَى ظهْرِ مُحَمَّدٍ إِذا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَر حَتَّى إذَا سَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضَعَهُ علَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وأنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئَاً لَوْ كَانَ لِي مَتَعةٌ قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ ويُحُيلُ بَعْضُهُمْ على بَعْضِ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجدُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عنْ ظَهْرِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشً ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إذْ دَعَا عَلَيْهِمْ قالَ وكَانُوا يَرْون أنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ البَلَدِ مُسْتَجَابَة ثُمَّ سَمَّى اللَّهُمَّ عَلَيْك بِأبي جهل وَعَلَيْك بِعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليدين عتبَة وَأُميَّة بن خلف وَعُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ وعَدَّ السابِعَ فَلَمْ تَحْفَظْهُ قالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرْعَى فِي القَلِيبٍ قَلِيبِ بَدْرٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن ظَاهره يدل على مَا ذهب إِلَيْهِ، وَلَكِن عَنهُ أجوبة تَأتي فِيهِ، بعون الله وتوفيقه.
(بَيَان رِجَاله) وهم عشرَة أنفس: الأول: عَبْدَانِ بن عُثْمَان بن حبلة، وَقد تقدم عَن قريب فِي بَاب: غسل الْمَنِيّ وفركه. الثَّانِي: أَبُو عُثْمَان بن جبلة، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة. الثَّالِثَة: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم مُرَاده الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي اسْمه: عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي التَّابِعِيّ، تقدم ذكره فِي بَاب: الصَّلَاة من الْإِيمَان، والسبيعي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة. الْخَامِس: عَمْرو بن مَيْمُون أَبُو عبد الله الْكُوفِي الأودي، بِفَتْح الْهمزَة وبالدال الْمُهْملَة، أدْرك زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلقه، وَحج مائَة حجَّة وَعمرَة، وَادي صدقته إِلَى عُمَّال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي رأى قردة زنت فِي(3/171)
الْجَاهِلِيَّة فاجتمعت القردة فرجموها، مَاتَ سنة خمس وَسبعين. السَّادِس: أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الْكَاف: الأودي الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. السَّابِع: شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف فِي آخِره حاء مُهْملَة، ابْن مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة الْكُوفِي التنوحي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وبالنون الْمُشَدّدَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَيُقَال بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ كَذَا ضَبطه الْكرْمَانِي والتنوح بالنُّون الْمُشَدّدَة وَقَالَ الْجَوْهَرِي، فِي مَادَّة، نوخ: وتنوخ، وَهِي حَيّ من الْيمن، وَلَا تشدد النُّون، الثَّامِن: إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَاق ابْن أبي إِسْحَاق السبيعِي، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة التَّاسِع: أَبوهُ يُوسُف الْمَذْكُور الْعَاشِر: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. بَيَان لطائف إِسْنَاده وَهنا إسنادان فِي الأول: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخابر بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة فِي أَرْبَعَة وَاضع. وَفِي الثَّانِي: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين، وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون غير عَبْدَانِ وَأَبِيهِ فَإِنَّهُمَا مروزيان. وَمن لطائف إِسْنَاده، أَنه قرن رِوَايَة عَبْدَانِ بِرِوَايَة أَحْمد بن عُثْمَان، مَعَ أَن اللَّفْظ لرِوَايَة أَحْمد تَقْوِيَة لروايته بِرِوَايَة عَبْدَانِ، لِأَن فِي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف مقَالا، فَقَالَ عَيَّاش عَن ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ الْجوزجَاني: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَمن لطائفه: أَن رِوَايَة أَحْمد صرحت بِالتَّحْدِيثِ لأبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون، ولعمرو بن مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود. وَمِنْهَا: أَن رِوَايَته عينت ابْن عبد الله الْمَذْكُور فِي رِوَايَة عَبْدَانِ: وَهُوَ عبد الله بن مَسْعُود. وَمِنْهَا: أَن الْمَذْكُور فِي رِوَايَة عَبْدَانِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي روياة أَحْمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الْجِزْيَة عَن عَبْدَانِ عَن أَبِيه، وَفِي مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن بشار، وَهَاهُنَا أَيْضا عَن أَحْمد بن عُثْمَان، وَفِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن إِسْحَاق، وَفِي الْجِهَاد عَن عبد الله ابْن أبي شيبَة، وَفِي الْمَغَازِي عَن عَمْرو بن خَالِد مُخْتَصرا وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد ابْن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار، وَعَن سَلمَة بن شبيب مُخْتَصرا، وَعَن عبد الله بن عمر بن آبان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن خَالِد بن مخلد، وَفِي السّير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان، وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَهَذَا الحَدِيث لَا يرْوى إلاّ بِإِسْنَاد أبي إِسْحَاق الْمَذْكُور.
بَيَان لغاته قَوْله: (سلا جزور بني فلَان) سلا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالقصر: هِيَ الْجلْدَة الَّتِي يكون فِيهَا الْوَلَد، وَالْجمع أسلا. وَخص الْأَصْمَعِي: السلا، بالماشية وَفِي النَّاس بالمشيمة. وَفِي (الْمُحكم) السلا بِكَوْن للنَّاس وَالْخَيْل وَالْإِبِل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ جلدَة رقيقَة إِن نزعت عَن وَجه الفصيل سَالِمَة يُولد وإلاّ قتلته، وَكَذَلِكَ إِذا انْقَطع السلا فِي الْبَطن. وَالثَّالِث: لفُ سلا، منقلبة عَن يَاء، ويقويه مَا حَكَاهُ أَبُو عبيد من أَن بَعضهم قَالَ: سليت الشَّاة، إِذا نزعت سلاها. وَالْجَزُور، بِفَتْح الْجِيم وَضم الزاء من الْإِبِل، يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهِي تؤنث، وَالْجمع: الجزر. وَتقول جزرت الْجَزُور أجزرها بِالضَّمِّ، واجتزرتها إِذا تحرتها. وَقَالَ بَعضهم: الْجَزُور من الْإِبِل مَا يجزر، أَي: يقطع قلت: لَا يدْرِي من أَي مَوضِع نقلهقوله: (فانبعث) أَي أسْرع وَهُوَ مُطَاوع بعث فانبعث بِمَعْنى: أرْسلهُ فانبعث. قَوْله: (مَنْعَة) بِفَتْح النُّون، وَحكى، إسكانها قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ شَاذ ضَعِيف قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذكره فِي كِتَابه (الْمُحكم) المنعة والمنعة والمنعة وَقَالَ يَعْقُوب فِي الْأَلْفَاظ مَنْعَة ومنعة، وَقَالَ القزار: فلَان فِي مَنْعَة من قومه وَمنعه أَي عز. وَفِي كتاب ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف: منع الْحصن مناعاً ومنعة. لم يرم، وَفِي (الغرييبين) فلَان فِي مَنْعَة، أَي: فِي تمنع على من رامه، وَفُلَان فِي مَنْعَة أَي: فِي قوم يمنعونه من الْأَعْدَاء. قَوْله: (صرعى) جمع صريع، كجرحى جمع جريح قَوْله: (فِي القليب) بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام، وَهُوَ: الْبِئْر قبل أَن يطوى، يذكر وَيُؤَنث. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة وَجمع الْقلَّة: أقلبة، وَالْكَثْرَة: قُلُب.
بَيَان اخْتِلَاف أَلْفَاظه قَوْله: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجد) بَقِيَّته من رِوَايَة عَبْدَانِ الْمَذْكُورَة (وَحَوله نَاس من قُرَيْش من الْمُشْركين) ثمَّ سَاق الحَدِيث مُخْتَصرا قَوْله: (إِن عبد الله) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (عَن عبد الله) قَوْله: (فيضعه)(3/172)
زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل: (فيعمد إِلَى فرثها ودمها وسلاها ثمَّ يمهله حَتَّى يسْجد) قَوْله: (فانبعث أَشْقَى الْقَوْم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي (أَشْقَى قوم) بالتنكير، وَلَا خلاف فِي أَن أفعل التَّفْضِيل، إِذا فَارق كلمة من أَنه يعرف بِاللَّامِ أَو بِالْإِضَافَة فَإِن قلت: أَي فرق فِي الْمَعْنى فِي إِضَافَته إِلَى الْمعرفَة والنكرة قلت: بالتعريف والتخصيص ظَاهر، وَأَيْضًا النكرَة لَهَا شيوع، مَعْنَاهُ: أَشْقَى قوم، أَي: قوم كَانَ من الأقوام، يَعْنِي: أَشْقَى كل قوم من أَقوام الدُّنْيَا فَفِيهِ مُبَالغَة لَيست فِي الْمعرفَة. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمقَام يَقْتَضِي الأول، يَعْنِي: أَشْقَى الْقَوْم، بالتعريف لِأَن الشَّقَاء هَاهُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولَئِكَ الأقوام فَقَط قلت: التنكير أولى لما قُلْنَا من الْمُبَالغَة، لِأَنَّهُ يدْخل هَاهُنَا دُخُولا ثَانِيًا بعد الأول، هَذَا الْقَائِل مَا أدْرك هَذِه النُّكْتَة، وَقد روى الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده هَذَا الحَدِيث من طَرِيق شُعْبَة نَحْو رِوَايَة يُوسُف الْمَذْكُورَة وَقَالَ فِيهِ: (فجَاء عقبَة بن أبي معيط فقذفه على ظَهره) قَوْله: (لَا أغْنى) م: الإغناء كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والمستملى: (لَا أغير) قَوْله: (فَجعلُوا يَضْحَكُونَ) وَفِي رِوَايَة (حَتَّى مَال بعضم على بعض من الضحك) قَوْله: (فاطمةٌ بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) زَاد إِسْرَائِيل) (وَهِي جوَيْرِية، فاقبلت تسْعَى وَثَبت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَاجِدا) قَوْله: (فَطَرَحته) بالضمير الْمَنْصُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وي رِوَايَة الْكشميهني: (فطرحت) بِحَذْف الضَّمِير: وَزَاد إِسْرَائِيل (وَأَقْبَلت عَلَيْهِم تسبهم) وَزَاد الْبَزَّار (فَلم يردوا عَلَيْهَا شَيْئا) قَوْله: (فَرفع رَأسه) (زَاد الْبَزَّار من رِوَايَة زيد بن أبي أنيسَة عَن إِسْحَاق) فَحَمدَ الله واثنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: (أما بعد: اللَّهُمَّ) قَالَ الْبَزَّار: تفرد بقوله: (أما بعد،) زيد قَوْله: (ثمَّ قَالَ) كَذَا بِكَلِمَة، ثمَّ، وَهُوَ يشْعر بمهلة بَين الرّفْع وَالدُّعَاء، وَفِي رِوَايَة الْأَجْلَح عِنْد الْبَزَّار (فَرفع رَأسه كَمَا كَانَ يرفعهُ عِنْد تَمام سُجُوده) . قَوْله: (فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ: اللَّهُمَّ) وَلمُسلم وَالنَّسَائِيّ نَحوه، وَالظَّاهِر من ذَلِك أَن دعاءه وَقع خَارج الصَّلَاة، لَكِن وَقع وَهُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة كَمَا ثَبت من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) كَرَّرَه إِسْرَائِيل فِي رِوَايَة لفظا لَا عددا، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا: (وَكَانَ إِذا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا) قَوْله: (فشق عَلَيْهِم) وَلمُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: (فَلَمَّا سمعُوا صَوته ذهب عَنْهُم الضحك وخافوا دَعوته) . قَوْله: (وَكَانُوا يرَوْنَ) بِفَتْح الْيَاء، ويروي بِالضَّمِّ قَوْله: (فِي ذَلِك الْبَلَد) وَهُوَ مَكَّة، وَوَقع فِي (مستخرج) أبي نعيم من الْوَجْه الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي الثَّانِيَة بدل قَوْله: (فِي ذَلِك الْبَلَد) . قَوْله: (بِأبي جهل)) وَفِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: (بِعَمْرو بن هِشَام) ، وَهُوَ اسْم أبي جهل: قَوْله: (والوليد بن عتبَة) بِضَم الْعين وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ بياء مُوَحدَة، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات فِيهِ أَنه كَذَا، إلاّ أَنه وَقع فِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: بِالْقَافِ، التَّاء، وَهُوَ وهم نبه عَلَيْهِ ابْن سُفْيَان الرَّاوِي عَن مُسلم، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق شيخ مُسلم على الصَّوَاب قَوْله: (وَأُميَّة بن خلف) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: أَو أبي بن خلف، شكّ شُعْبَة، وَالصَّحِيح أُميَّة، لِأَن المقتلو ببدر هُوَ، أُميَّة إطباق أَصْحَاب الْمَغَازِي عَلَيْهِ، وَأَخُوهُ أبي بن خلف. قتل بِأحد. قَوْله: (فَلم تحفظه) بنُون الْمُتَكَلّم، ويروي. بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. قَوْله: (قَالَ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ) أَي: قَالَ ابْن مَسْعُود ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (وَالَّذِي أنزل عَلَيْهِ الْكتاب) ، وَفِي بعض النّسخ. (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) . قَوْله: (صرعى فِي القليب) وَرِوَايَة إِسْرَائِيل من الزِّيَادَة. (لقد رَأَيْتهمْ صرعى يَوْم بدر ثمَّ سحبوا إِلَى القليب قليب بدر) .
بَيَان إعرابه قَوْله: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بَين، وَالْألف زيدت لإشباع الفتحة، وَهُوَ مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة بعده، وَالْعَامِل فِيهِ إِذْ قَالَ بَعضهم الَّذِي يَجِيء فِي الحَدِيث بعد التَّحْوِيل إِلَى الْإِسْنَاد الثَّانِي. قَوْله: (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُبْتَدأ وَخبر قَوْله: (ساجد) قَوْله: (وَأَبُو جهل) مُبْتَدأ (وَأَصْحَاب لَهُ) عطف عَلَيْهِ وَقَوله: (جُلُوس) خَبره، وَالْجُمْلَة نصب على الْحَال، ومتعلق، لَهُ مَحْذُوف أَي: أَصْحَاب كائنون لَهُ، أَي: لأبي جهل، وَيجوز أَن يكون، جُلُوس خبر أَصْحَاب، وَخبر أبي جهل مَحْذُوف كَقَوْل الشَّاعِر:
(نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك راضٍ والرأي مُخْتَلف)
وَالتَّقْدِير: نَحن راضون بِمَا عندنَا قَوْله: (رَأَيْت الَّذين) عد مَفْعُوله مَحْذُوف أَي: عدهم، ويروي، الَّذِي مُفردا، وَيجوز ذَلِك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذِين خَاضُوا} (سُورَة التَّوْبَة: 69) أَي: كَالَّذِين. قَوْله: (صرعى) مفعول ثانٍ لقَوْله: (رَأَيْت) قَوْله: (قليب بدر) بِالْجَرِّ بدل من قَوْله: (فِي القليب) وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب من جِهَة الْعَرَبيَّة، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ(3/173)
قليب بدر وَأما النصب فعلى تَقْدِير أَعنِي قليب بدر.
(بَيَان الْمعَانِي) (وَأَبُو جهل وَأَصْحَاب لَهُ) السَّبْعَة الْمَدْعُو عَلَيْهِم، بَينه الْبَزَّار من طَرِيق الْأَجْلَح عَن أبي إِسْحَاق. قَوْله: (إِذْ قَالَ بَعضهم) هُوَ أَبُو جهل، سَمَّاهُ مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا، وَزَاد فِيهِ. (وَقد نحرت جزور بالْأَمْس) وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم يُصَلِّي فِي ظلّ الْكَعْبَة، وَجمع من قُرَيْش فِي مجَالِسهمْ، إِذا قَالَ قَائِل مِنْهُم: أَلا تنظروا إِلَى هَذَا الْمرَائِي) ؟ قَوْله: (أَشْقَى الْقَوْم) هُوَ: عقبَة بن أبي معيط، ومعيط، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه أَبُو جهل فَقَوله: (وَإِنَّا أنظر) أَي: قَالَ عبد الله. وَأَنا شَاهد تِلْكَ الْحَالة. قَوْله: (لَا أغْنى) أَي: فِي كف شرهم، وَمعنى: لَا أغير، أَي: شَيْئا من فعلهم. قَوْله: (فَجعلُوا يَضْحَكُونَ) أَي: استهزاءً قَاتلهم الله. قَوْله: (ويحيل) بِالْحَاء الْمُهْملَة لَهُ يَعْنِي: ينْسب فعل ذَلِك بَعضهم إِلَى بعض، من قَوْلك: أحلّت الْغَرِيم إِذا جعلت لَهُ أَن يتقاضى المَال من غَيْرك، وَجَاء أحَال أَيْضا بِمَعْنى: وثب، وَفِي الحَدِيث: (أَن أهل خَيْبَر أحالوا إِلَى الْحصن) أَي: وَثبُوا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: (ويميل) بِالْمِيم، أَي؛ من كَثْرَة الضحك. وَفِي كتاب الصَّلَاة، فِي بَاب الْمَرْأَة تطرح على الْمُصَلِّي شَيْئا من الْأَذَى، وَلَفظه. (حَتَّى مَال بَعضهم على بعض) قَوْله: (فَاطِمَة) هِيَ: بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْكحهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب بعد وقْعَة أحد وسنها يَوْمئِذٍ خمس عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر، رُوِيَ لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَهَا حَدِيث وَاحِد. رَوَت عَنْهَا عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، توفيت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسِتَّة أشهر بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بِمِائَة يَوْم، وَقيل غير ذَلِك، وغسلها عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى عَلَيْهَا ودفنت لَيْلًا، وفضائلها لَا تحصى، وَكفى لَهَا شرفاً كَونهَا بضعَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِقُرَيْش) أَي: بِهَلَاك قُرَيْش. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ الدُّعَاء على كل قُرَيْش وَبَعْضهمْ كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين كالصديق وَغَيره؟ قلت: لَا عُمُوم للفظ، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ مَخْصُوص بالكفار مِنْهُم، بل بِبَعْض الْكفَّار، وهم أَبُو جهل وَأَصْحَابه بِقَرِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مستجابة) أَي: مجابة. يُقَال: اسْتَجَابَ وَأجَاب بِمَعْنى وَاحِد، وَمَا كَانَ اعْتِقَادهم إِجَابَة الدعْوَة من جِهَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هِيَ جِهَة الْمَكَان. قَوْله: (ثمَّ سمى) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتفصيل مَا أَرَادَ ذَلِك الْمُجْمل قَوْله (بِأبي جهل) واسْمه عمر بن هِشَام بن المغير كَانَت قُرَيْش تكنية أَبَا الْحَاكِم أَبَا جهل، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِر:
(النَّاس كنُّوه أَبَا حكم ... واللَّه كنَّاه أَبَا جهل)
وَيُقَال: كَانَ يكنى أَبَا الْوَلِيد، وَكَانَ يعرف بِابْن الحنظلية، وَكَانَ أَحول. وَفِي (المحير) كَانَ مأبوناً، وَيُقَال: إِنَّه أَخذ من قَول عتبَة بن ربيعَة سَيعْلَمُ مصعراً سِتَّة من انتفخ سحره وَفِي (الوشاح) لِابْنِ دُرَيْد هُوَ أول من حز رَأسه وَلما رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: هَذَا فِرْعَوْن هَذِه الْأمة. قَوْله: (وعد السَّابِع) فَاعل: عد، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو عبد الله بن مَسْعُود، وفاعل: فَلم نَحْفَظهُ، عبد الله، أَو عَمْرو بن مَيْمُون، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: قلت
؛ فَلَا أَدْرِي من أَيْن تهَيَّأ لَهُ الْجَزْم بذلك مَعَ أَن فِي رِوَايَة النَّوَوِيّ عِنْد مُسلم مَا يدل على أَن فَاعل: عد، عَمْرو بن مَيْمُون انْتهى. قلت: الْكرْمَانِي لم يجْزم بذلك، بل ذكره بِالشَّكِّ، فَكيف يُنكر عَلَيْهِ بِلَا وَجه؟ وَأما السَّابِع الَّذِي لم يذكر هُنَا فَهُوَ مَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر. وَهُوَ: عمَارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَكَذَا ذكره البرقاني وَغَيره. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَهُوَ مُشكل، لِأَن عمَارَة هَذَا ذكر ابْن إِسْحَاق وَغَيره لَهُ قصَّة طَوِيلَة مَعَ النَّجَاشِيّ إِذْ تعرض لامْرَأَته، فامر النَّجَاشِيّ ساحراً فَنفخ فِي إحليل عمَارَة من سحره عُقُوبَة لَهُ، فتوحش وَصَارَ مَعَ الْبَهَائِم إِلَى أَن مَاتَ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَرض الْحَبَشَة. قَالَ بَعضهم: وَالْجَوَاب أَن كَلَام ابْن مَسْعُود فِي أَنه رَآهُمْ صرعى فِي القليب مَحْمُول على الْأَكْثَر انْتهى. قلت: الْجَواب أَخذه هَذَا الْقَائِل من الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأجِيب بِأَن المُرَاد رأى أَكْثَرهم، بِدَلِيل أَن ابْن معيط لم يقتل ببدر بل حمل مِنْهَا أَسِيرًا فَقتله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد انْصِرَافه من بدر على ثَلَاثَة أَمْيَال مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة قلت: بِموضع يُسمى عرف الظبية وَهُوَ من الروحاء على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة. وَقيل: إِنَّه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتقتلني من بَين سَائِر قُرَيْش؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ: بَينا أَنا بِفنَاء الْكَعْبَة وَأَنا ساجد خلف الْمقَام إِذْ أَخذ بمنكبي فلف ثَوْبه على عنقِي فخنقني خنقاً شَدِيدا، ثمَّ جَاءَ مرّة أُخْرَى بسلاً جزور بني فلَان، وَكَانَ عقبَة من الْمُسْتَهْزِئِينَ أَيْضا، وَذكر مُحَمَّد بن حبيب أَنه من زنادقة قُرَيْش، وَاسم أبي معيط: أبان بن أبي عَمْرو، وَالَّذِي دَعَا عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أنفس كَمَا ذكرُوا، وهم أَبُو جهل وَعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة وَأُميَّة(3/174)
بن خلف، وَعقبَة بن أبي معيط، وَعمارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، أما أَبُو جهل فَقتله معَاذ بن عَمْرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء ذكره فِي الصَّحِيح (وَمر عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود وَهُوَ صريع، وَاحْترز رَأسه وأتى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَذَا رَأس عَدو الله، وَنَقله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيْفه، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْحَمد لله الَّذِي أخزاك يَا عَدو الله، هَذَا كَانَ فِرْعَوْن هَذِه الْأمة وَرَأس أَئِمَّة الْكفْر) وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (فخرَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدا) وَأما عتبَة بن ربيعَة فَقتله حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ. وَقيل: اشْترك حَمْزَة وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فِي قَتله. وَأما شيبَة بن ربيعَة بن عبد شمس أَخُو عتبَة بن ربيعَة فَقتله حَمْزَة أَيْضا. وَأما الْوَلِيد بن عتبَة، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق فَقتله عُبَيْدَة بن الْحَارِث، وَقيل: عَليّ. وَقيل: خمزة، وَقيل: اشْتَركَا فِي قَتله. وَأما أُميَّة بن خلف بن صَفْوَان بن أُميَّة. فقد اخْتلف أهل السّير فِي قَتله فَذكر مُوسَى بن عقبَة قلته رجل من الْأَنْصَار من بني مَازِن، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق إِن معَاذ بن عفراء وخارج بن زيد وحبِيب بن أساف اشْتَركُوا فِي قَتله، وَادّعى ابْن الْجَوْزِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله، وَفِي السّير، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَن بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج إِلَيْهِ وَمَعَهُ نفر من الْأَنْصَار فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ بَينا، فَلَمَّا قتل انتفخ فالقوا عَلَيْهِ التُّرَاب حَتَّى غيبه ثمَّ جر إِلَى القليب فتقطع قبل وُصُوله إِلَيْهِ، وَكَانَ من الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل همزَة لُمزَة} (سُورَة الهُمَزة: 1) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يعذب بِلَالًا فِي مَكَّة. وَأما عقبَة بن أبي معيط. فَقتله عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: عَاصِم بن ثَابت، وَالأَصَح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله بعرق الظبية، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَأما عمَارَة بن الْوَلِيد فقد ذكرنَا أمره مَعَ النَّجَاشِيّ. وَمَات زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَرض الْحَبَشَة.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام مِنْهَا: تَعْظِيم الدُّعَاء بِمَكَّة عِنْد الْكفَّار وَمَا أزداد عِنْد الْمُسلمين إلاَّ تَعْظِيمًا عَظِيما وَمِنْهَا: معرفَة الْكفَّار بِصدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخوفهم من دُعَائِهِ. وَلَكِن لأجل شفائهم الأزلي حملهمْ الْحَسَد والعناد على ترك الانقياد لَهُ. وَمِنْهَا: حلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن آداه. فَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث: أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لم أره دَعَا عَلَيْهِم إلاَّ يَوْمئِذٍ وأنما استحقوا الدُّعَاء حِينَئِذٍ لما أقدموا عَلَيْهِ من التهكم بِهِ حَال عِبَادَته لرَبه تَعَالَى. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب الدُّعَاء ثَلَاثًا. وَمِنْهَا: جَوَاز الدُّعَاء على الظَّالِم. وَقَالَ بَعضهم: مَحَله مَا إِذا كَانَ كَافِرًا، فَأَما الْمُسلم فَيُسْتَحَب الاسْتِغْفَار لَهُ وَالدُّعَاء بِالتَّوْبَةِ. وَمِنْهَا: أَن الْمُبَاشرَة أقوى من السَّبَب وآكد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي عقبَة: أَشْقَى الْقَوْم، مَعَ أَنه كَانَ فيهم أَبُو جهل، وَهُوَ أَشد مِنْهُ كفرا، وَلَكِن كَانَ عقبَة مباشراً على مَا مر بَيَانه. وَمِنْهَا: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ على أَن من حدث لَهُ فِي صلَاته مَا يمْنَع انْعِقَادهَا ابْتِدَاء لَا تبطل صلَاته وَلَو تَمَادى، وَأجَاب الْخطابِيّ عَن هَذَا بِأَن أَكثر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى أَن السلا نجس. وتأولوا معنى الحَدِيث على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن تعبد إِذْ ذَاك بِتَحْرِيمِهِ، كَالْخمرِ كَانُوا يلابسون الصَّلَاة وَهِي تصيب ثِيَابهمْ وأبدانهم، قبل نزُول التَّحْرِيم، فَلَمَّا حرمت لم تجز الصَّلَاة فِيهَا، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن بطال. بِأَنَّهُ لَا شكّ أَنَّهَا كَانَت بعد نزُول قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (سُورَة المدثر: 4) لِأَنَّهَا أول مَا نزل عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقُرْآن قبل كل صَلَاة، ورد عَلَيْهِ بِأَن الفرت ورطوبة الْبدن طاهران، والسلا من ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا ضَعِيف لِأَن رَوْث مَا يُؤْكَل لَحْمه لَيْسَ بطاهر، ثمَّ إِنَّه يتَضَمَّن النَّجَاسَة من حَيْثُ إِنَّه لَا يَنْفَكّ من الدَّم فِي الْعَادة، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَة عَبدة الْأَوْثَان فَهُوَ نجس، وَالْجَوَاب: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعلم مَا وضع على ظَهره فاستمر فِي سُجُوده استصحاباً للطَّهَارَة، وَمَا يدْرِي هَل كَانَت هَذِه الصَّلَاة فَرِيضَة فَتجب إِعَادَتهَا على الصَّحِيح، أَو غَيرهَا فَلَا يجب وَإِن وَجَبت الْإِعَادَة فالوقت موسع لَهَا فَلَعَلَّهُ أعَاد وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَو أعَاد لنقل وَلم ينْقل. قلت: لَا يلْزم من عدم النَّقْل عدم الْإِعَادَة فِي نفس الْأَمر. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ لَا يعلم بِمَا وضع على ظَهره، فَإِن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ذهبت بِهِ قبل أَن يرفع رَأسه قلت: لَا يلْزم من إِزَالَة فَاطِمَة إِيَّاه عَن ظَهره إحساسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، لِأَنَّهُ كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة استغرق باشتغاله بِاللَّه تَعَالَى، وَلَئِن سلمنَا إحساسه بِهِ فقد يحْتَمل أَنه لم يتَحَقَّق نَجَاسَته، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن شَأْنه أعظم من أَن يمْضِي فِي صلَاته وَبِه نَجَاسَة، وَقد يُقَال: إِن الفرث وَالدَّم كَانَ دَاخل السلا، وجلدته الظَّاهِرَة طَاهِرَة، فَكَانَ كحمل القارورة المرصصة وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ ذَبِيحَة وَثني، فَجمع أَجْزَائِهَا نَجِسَة لِأَنَّهَا ميتَة. وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ قبل التَّعَبُّد بِتَحْرِيم ذَبَائِحهم، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى تَارِيخ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَال. قلت: الِاحْتِمَال الناشىء عَن دَلِيل كافٍ وَلَا شكّ أَن تماديه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْحَالة قرينَة تدل على أَنه كَانَ قبل تَحْرِيم ذَبَائِحهم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقر على أَمر غير مَشْرُوع وَلَا يُقرر غَيره عَلَيْهِ لِأَن(3/175)
حَاله أجلّ من ذَلِك وَأعظم. وَمِنْهَا: أَن أَشهب الْمَالِكِي احْتج بِهِ على أَن إِزَالَة النَّجَاسَة لَيست بواجبة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: والدلائل القطعية توجب إِزَالَتهَا عَن ثوب الْمصلى وبدنه، وَالْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ يرد عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَمِنْهُم من فرق بَين ابْتِدَاء الصَّلَاة بِالنَّجَاسَةِ، فَقَالَ: لَا يجوز، وَبَين طرؤها على الْمُصَلِّي فِي نفس الصَّلَاة فيطرحها عَنهُ وَتَصِح صلَاته، وَالْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك قطع طرؤها للصَّلَاة إِذا لم يُمكن طرحها بِنَاء على أَن إِزَالَتهَا وَاجِبَة.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِنَّه كم كَانَ عدد الَّذين ألقوا فِي القليب؟ وَأجِيب: بِأَن قَتَادَة رُوِيَ عَن أنس عَن أبي طَلْحَة قَالَ: لما كَانَ يَوْم بدر، وَظهر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر ببضعة وَعشْرين رجلا. وَفِي رِوَايَة: بأَرْبعَة وَعشْرين رجلا من صَنَادِيد قُرَيْش، فَألْقوا فِي طوى من أطواء بدر. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن إلقاءهم فِي الْبِئْر دفن لَهُم، وَالْحَرْبِيّ وَيجب دَفنه بل يتْرك فِي الصَّحرَاء، وهم كَانُوا حَربًا؟ وَأجِيب: بِأَن إلقاءهم فِي الْبِئْر كَانَ تحقيراً لَهُم وَلِئَلَّا يتَأَذَّى النَّاس برائحتهم وَلم يكن ذَلِك دفناً فَإِن قلت: فِي (سنَن) الدَّارَقُطْنِيّ. أَن من سنَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مغازيه إِذا مر بجيفة إِنْسَان أَمر بدفنه، وَلَا يسْأَل عَنهُ مُؤمنا كَانَ أَو كَافِرًا. قلت: إِنَّمَا كَانَ لَا يسْأَل لِأَنَّهُ كَانَ يعلم بِالْوَحْي بِأَنَّهُ إِن كَانَ مُؤمنا كَانَ مُسْتَحقّ الدّفن لكرامته، وَإِن كَانَ كَافِرًا فلئلا يتَأَذَّى النَّاس برائحته، على أَن المُرَاد بدفنه لَيْسَ دفناً شَرْعِيًّا، بل صب التُّرَاب عَلَيْهِ للمواراة. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن صب التُّرَاب عَلَيْهِم كَانَ يقطع رائحتهم؟ قلت: كَانَ إلقاؤهم فِي الْبِئْر أيسر عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْوَقْت مَعَ زِيَادَة التحقير لَهُم لما ذكرنَا. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ كَانَ وَالنَّاس يَنْتَفِعُونَ بِمَائِهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن فِيهِ مَاء، وَكَانَت عَادِية مهجورة، وَيُقَال: وَافق أَنه كَانَ حفرهَا رجل من بني النَّار اسْمه بدر من قُرَيْش بن مخلد بن النَّضر بن كنَانَة الَّذِي سميت قُرَيْش بِهِ على أحد الْأَقْوَال، فَكَانَ فالاً مقدما لَهُم، وَالله تَعَالَى أعلم.
70 - بابُ البُرَاقِ والمُخاطِ وَنَحوهِ فِي الثَّوْبِ
إِن قُلْنَا إِن بَاب البصاق مُبْتَدأ يحْتَاج إِلَى خبر فَيكون تَقْدِيره: بَاب البصاق فِي الثَّوْب لَا يضر الْمُصَلِّي، وَإِن قُلْنَا: هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف فَيكون تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم البصاق فِي الثَّوْب هَل يضر أم لَا، والبصاق، بِضَم الْبَاء على وزن: فعال: مَا يسيل من الْفَم، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: بالصَّاد وَالزَّاي وَالسِّين، وأعلاها الزَّاي وأضعفها السِّين. قَوْله: (والمخاط) عطف على البصاق، وَهُوَ بِضَم الْمِيم، مَا يسيل من الْأنف. قَوْله: (وَنَحْوه) بِالْجَرِّ، عطف على مَا قبله. قَوْله: (فَأن قلت:) كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: وَنَحْوهمَا، لِأَن الْمَذْكُور شَيْئَانِ قلت: تَقْدِيره. وَنَحْو كل مِنْهُمَا، وَقَوله: (فِي الثَّوْب) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، أَي الْكَائِن، أَو كَائِنا. فَإِن قلت: مَا المُرَاد من قَوْله: وَنَحْوه؟ قلت: الْعرق، وعرق كل حَيَوَان يعْتَبر بسؤره الَّذِي يمتزج بلعابه، ويستثني مِنْهُ الْجمار على مَا عرف فِي الْفِقْه.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: وَجههَا ظَاهر على وضع البُخَارِيّ لِأَنَّهُ وضع الْبَاب الَّذِي قبله فِيمَا إِذا ألْقى على ظهر الْمصلى قذر، وَرَأى بِهِ عدم بطلَان الصَّلَاة فِي مثل هَذِه الصُّورَة، وَحكم هَذَا الْبَاب كَذَلِك، وَلَا خلاف فِيهِ وَقَالَ بَعضهم: وَدخُول هَذَا فِي أَبْوَاب الطَّهَارَة من جِهَة أَنه لَا يفْسد المَاء. قلت: هَذَا حكم الْبَاب فِي البصاق الَّذِي يُصِيب الثَّوْب، وَذكره عقيب الْبَاب الَّذِي قبله من هَذِه الْجِهَة، وَلَا ذكر للْمَاء فِي الْبَابَيْنِ نعم، إِذا كَانَ حكم البصاق لَا يفْسد الثَّوْب يكون كَذَلِك لَا يفْسد المَاء.
وقَالَ عُرْوَةُ عَن المسْوَرِ وَمرْوانَ خَرَجَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ وَمَا تَنَخمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُخامَةً إلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَذَلِكَ بِها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل سَاقه البُخَارِيّ بِطُولِهِ فِي صلح الْحُدَيْبِيَة، والشروط الْجِهَاد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَقد علق مِنْهُ قِطْعَة فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء(3/176)
النَّاس بَيَان حَاله وهم ثَلَاثَة: الأول: عُرْوَة بن الزبير التَّابِعِيّ، فَقِيه الْمَدِينَة، تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّانِي: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وبالراء، ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء، الصَّحَابِيّ، تقدم فِي بَاب اسْتِعْمَال وضوء النَّاس. الثَّالِث: مَرْوَان بن الحكم بِفَتْح الْخَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، الْأمَوِي، ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل حِين نفى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَبَاهُ الحكم إِلَيْهَا، وَكَانَ مَعَ أَبِيه بهَا حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فردهما إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ إِسْلَام الحكم يَوْم فتح مَكَّة، وطرده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الطَّائِف لِأَنَّهُ كَانَ يفشي سره، مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، وَلما توفّي مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة بَايع بعض النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، وَمَات بِدِمَشْق سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ. فَإِن قلت: مَرْوَان لم يسمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كَانَ بِالْحُدَيْبِية، وَكَيف روايتة. قلت: رِوَايَة الْمسور هِيَ الأَصْل لَكِن ضم إِلَيْهِ رِوَايَة مَرْوَان للتقوية والتأكيد.
ذكر لغاته قَوْله: (زمن حديبية) بِضَم الْخَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْيَاء الثَّانِيَة كَذَا قَالَه الشَّافِعِي: وبتشديد الْيَاء عِنْد أَكثر الْمُحدثين، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: أهل الْمَدِينَة يثقلونها، وَأهل العراف يخففونها قلت: هِيَ تَصْغِير: حدباء لِأَن حديبية قَرْيَة سميت بشجرة هُنَاكَ وَهِي حدباء وَكَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت هَذِه الشَّجَرَة، وَهِي تسمى: بيعَة الرضْوَان، وَقيل: هِيَ قَرْيَة، سميت ببئر هُنَاكَ، وعَلى كلاًّ التَّقْدِيرَيْنِ الصَّوَاب التَّخْفِيف، وَهِي على نَحْو مرحلة من مَكَّة. قَوْله: (وَمَا تنخم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نخامة) قَوْله: (تنخم) فعل مَاض من بَاب التفعل، يُقَال: تنخم الرجل إِذا دفع بِشَيْء من صَدره أوأنفه، قَالَ فِي (الْمُحكم) وَثَلَاثَة نخم نخماً وَفِي (الصِّحَاح) وَفِي (الْمُجْمل) : النخامة بالفم النخاعة، وَفِي (المغيث) و (الْمغرب) مَا يخرج من الخيشوم، وَزعم النَّوَوِيّ أَنَّهَا تخرج من الْفَم، بِخِلَاف النخاعة فَإِنَّهَا تخرج من الْحلق. وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء النخامة هِيَ الْخَارِج من الصَّدْر، والبلغم هُوَ النَّازِل من الدِّمَاغ، وَبَعْضهمْ عكسوا. قَوْله: (إِلَّا وَقعت) أَي: مَا تنخم فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ فِي حَال وُقُوعهَا فِي الْكَفّ، وَهُوَ إِمَّا عطف على: خرج، وَأما على الحَدِيث، ثمَّ إِمَّا أَن يُرَاد: أَنه مَا تنخم من الْحُدَيْبِيَة إلاَّ وَقعت فِي كف رجل، وَإِمَّا أَن يُرَاد إِنَّه مَا تنخم قطّ إلاَّ وَقعت فَلَا يخْتَص بِزَمن الْحُدَيْبِيَة. قَالَ الْكرْمَانِي، وَالْأول هُوَ الظَّاهِر. قلت: الثَّانِي هُوَ الْأَظْهر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر حَدِيث الْحُدَيْبِيَة هُنَا. قلت: إِمَّا لِأَن أَمر التنخم وَقع فِي الحَدِيث، وَإِمَّا لِأَن الرَّاوِي سَاق الْحَدِيثين سوقاً وَاحِدًا وذكرهما مَعًا وَكَثِيرًا مَا يَفْعَله المحدثون، كَمَا تقدم فِي حَدِيث نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، قلت لم يقطع الْكرْمَانِي على الْموضع الَّذِي سَاق البُخَارِيّ فِيهِ الحَدِيث، فَلذَلِك ردد فِي جَوَاب السُّؤَال فَلَو كَانَ أطلع عَلَيْهِ لم يتَرَدَّد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: الِاسْتِدْلَال على طَهَارَة البصاق والمخاط قَالَ ابْن بطال: وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ لَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ مَا لاوي سلمَان: أَنه جعله غير طَاهِر، وَأَن الْحسن بن حَيّ كرهه فِي الثَّوْب، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه كره أَن يدْخل سواكه فِي وضوئِهِ، وَذكر ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي (مُصَنفه) عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، أَنه لَيْسَ بِطهُور. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ عَن سلمَان الْفَارِسِي وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن اللعاب نجس إِذا فَارق الْفَم، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح. وَمَا ثَبت عَن الشَّارِع من خلافهم فَهُوَ المتبع، وَالْحجّة الْبَالِغَة، فَلَا معنى لقَوْل من خَالف وَقد أَمر الشَّارِع الْمُصَلِّي أَن يبزق عَن شِمَاله أَو تَحت قَدَمَيْهِ، وبزق الشَّارِع فِي طرف رِدَائه ثمَّ رد بعضه على بعض وَقَالَ: أَو تفعل هَكَذَا وَهَذَا ظَاهر فِي طَهَارَته، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقوم الْمُصَلِّي على نَجَاسَة، وَلَا أَن يُصَلِّي وَفِي ثَوْبه نَجَاسَة. قلت: أما بصاق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ أطيب من كل طيب، وأطهر من كل طَاهِر وَأما بصاق غَيره فَيَنْبَغِي أَن يكون بالتفصيل، وَهُوَ أَن البزاق طَاهِر إِذا كَانَ من فَم طَاهِر، وَأما إِذا كَانَ من فَم يشرب الْخمر فَيَنْبَغِي أَن يكون نجسا فِي حَالَة شربه، لِأَنَّهُ سؤره فِي ذَلِك الْوَقْت نجس، فَكَذَلِك بصاقه، وَكَذَا إِذا كَانَ من فَم من فِي فَمه جِرَاحَة أَو دمل يخرج مِنْهُ دم أَو قيح. وَقَالَ أَصْحَابنَا الدَّم الْمسَاوِي للريق ينْقض الْوضُوء اسْتِحْسَانًا كالغالب النَّاقِص، وَلَو كَانَ لون الرِّيق أَحْمَر ينْقض، وَإِن كَانَ أصفر لَا ينْقض، ثمَّ إِذا حكم بِطَهَارَة البزاق على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ يعلم مِنْهُ أَنه إِذا وَقع شَيْء مِنْهُ فِي المَاء لَا يُنجسهُ، وَيجوز الْوضُوء مِنْهُ، وَكَذَا إِذا وَقع فِي الطَّعَام لَا يُفْسِدهُ، غير أَن بعض الطباع يستقذر ذَلِك فَلَا يَخْلُو عَن الْكَرَاهَة. وَمن الاستنباط من(3/177)
هَذَا الحَدِيث التَّبَرُّك ببزاق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توقيراً لَهُ وتعظيماً.
241 - حدّثنا مُحَمَدْ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ حُمَيْد عنْ أَنَسٍ قالَ بَزَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَوْبِهِ قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ طَوَّلَهُ ابنُ مَرْيَمَ قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ قالَ حَدثنِي حُمَيْدُ قالَ سَمِعْتُ انَساً عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف قبل الْألف وبالياء الْمُوَحدَة فِي آخِره، تقدم مرَارًا الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ، كَمَا صرح بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ، فَإِنَّهُ لما ذكر رُوَاة هَذَا الحَدِيث قَالَ: رَوَاهُ سُفْيَان بن سعيد عَن حميد، وَلم يذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْفِرْيَابِي كثير الْمُلَازمَة لِسُفْيَان الثَّوْريّ. وَلما ذكر الجياني وَغَيره مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف البكندي عَن بن عبينة لم يذكرُوا هَذَا الحَدِيث مِنْهَا، وَابْن عُيَيْنَة مقل فِي حميد حَتَّى أَن البُخَارِيّ لم يخرج لَهُ إلاَّ حَدِيثا وَاحِدًا، وَهُوَ النواة فِي الصَدَاق وَكَذَا ذكره الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) الثَّالِث: حميد بِضَم الْحَاء الْمَشْهُور بالطويل فَإِن قلت: لَا يُقَال: إِن حميدا هَذَا هُوَ حميد بن هِلَال لِأَنَّهُ فِي طبقَة حميد الطَّوِيل، قلت: لِأَن الفياني لم يرويا عَن حميد بن هِلَال شَيْئا. الرَّابِع: أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. الْخَامِس: سعيد بن الحكم بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَله (وطأ) رَوَاهُ عَن مَالك وَهُوَ ثِقَة، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. السَّادِس: يحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ، مولى عمر بن الحكم بن مَرْوَان أَبُو الْعَبَّاس، مَاتَ سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَفِيه لين. وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. السَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: التَّصْرِيح بِسَمَاع حميد عَن أنس خلافًا لما روى يحيى الْقطَّان عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: حَدِيث حميد عَن أنس فِي البزاق إِنَّمَا سَمعه عَن ثَابت عَن أبي نَضرة، فَظهر من تَصْرِيح سَمَاعه أَنه لم يُدَلس فِيهِ، وَقَالَ يحيى الْقطَّان، وَلم يقل شَيْئا لِأَن هَذَا قد رَوَاهُ قَتَادَة عَن أنس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْقَوْل عندنَا قَول حَمَّاد بن سَلمَة لِأَن الَّذِي رَوَاهُ عَن قَتَادَة عَن أنس غير هَذَا، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: البزاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة وكفارتها دَفنهَا. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وبصري ومصري.
بَيَان مَعْنَاهُ قَوْله: (بزق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَوْبه) أَي: ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الظَّاهِر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل عود الضَّمِير إِلَى أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ بعيد. قلت: وَجه بعده، وَإِن كَانَ فِيهِ احْتِمَال، مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (مسخرجه) وَهُوَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْفرْيَابِيّ، وَزَاد فِي آخِره، وَهُوَ فِي الصَّلَاة. قَوْله: (طوله) أَي: طول هَذِه الحَدِيث شَيْخه سعيد بن الحكم بن أبي مَرْيَم يَعْنِي، ذكره مطولا فِي بَاب: حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (سَمِعت أنسا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور وَهُوَ مفعولة الثَّانِي حذف للْعلم بِهِ.
71 - (بابٌ لَا يَجُوزُ الوُضُوءُ بالنَّبِيذِ ولاٍ بالمُسْكِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ لَا يجوز الْوضُوء إِلَخ أَي: بَيَان عدم الْجَوَاز بالنيذ قَوْله: (وَلَا بالمسكر) أَي: وَلَا يجوز أَيْضا بالمسكر، قَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص. قلت: إِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا كَانَ المُرَاد بالنبيذ مَا لم يصل إِلَى حد الْإِسْكَار، وَأما إِذا وصل فَلَا يكون من هَذَا الْبَاب، وَتَخْصِيص النَّبِيذ بِالذكر من بَين المسكرات لِأَنَّهُ مَحل الْخلاف فِي جَوَاز التوضىء بِهِ، قَالَ ابْن سَيّده: النبذ، طرحك الشَّيْء، وكل طرح نبذ، والنبيذ الشَّيْء المنبوذ والنبيذ مَا نَبَذته من عصير وَنَحْوه، وَقد نبذ وانتبذ ونبذ، والانتبا: المعالجة وَفِي (الصِّحَاح) وَكتاب (الشَّرْح) لِابْنِ درسْتوَيْه الْعَامَّة تَقول: أنبذت انْتهى وَذكره اللحياني فِي (نوادره) وَمن حمض الحامض انبذت لُغَة وَلكنهَا قَليلَة، وَذكرهَا أَيْضا ثَعْلَب فِي كتاب (فعلت وأفعلت) وَفِي (الْجَامِع) للقزاز، أَكثر النَّاس يَقُولُونَ: نبذت النَّبِيذ، بِغَيْر الْألف، وَحكى الْفراء عَن الدوسي، قَالَ: وَكَانَ ثِقَة انبذت النَّبِيذ، وَلَا أسمعها أَنا من الْعَرَب. قلت: النَّبِيذ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَهُوَ المَاء الَّذِي ينتبذ فِيهِ تمرات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء. وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: النَّبِيذ مَا يعْمل من الْأَشْرِبَة(3/178)
من التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَغير ذَلِك، يُقَال: نبذت الشّعير وَالْعِنَب إِذا أنزلت عَلَيْهِ المَاء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إِلَى فعيل، وانتبذته، اتخذته نبيذاً سَوَاء كَانَ مُسكرا أَو غير مُسكر، وَهُوَ من بَاب فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُضَارع. كضرب ذكره صَاحب (الدستور) فِي هَذَا الْبَاب وَفِي (الْعباب) انبذت النَّبِيذ لُغَة عامية ونبذت الشَّيْء تنبيذاً شدّد للْمُبَالَغَة.
فَإِن قلت: مَا وَجه لمناسبة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: لَيست بَينهمَا مُنَاسبَة خَاصَّة لَكِن من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم وَيرجع إِلَى حَال الْمُكَلف من الصِّحَّة والفسادة.
وَكَرُهَه الحَسَنُ وَأَبُوا العَالِيَةِ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي بِكَسْر الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف المخففة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي أول كتاب الْعلم ورفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَأما الَّذِي علقه عَن الْحسن فَرَوَاهُ عَن الْحسن فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَمَّن سمع الْحسن يَقُول: (لَا يتَوَضَّأ بنبيذ وَلَا بِلَبن) وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه حدّثنا الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ عَن الْحسن قَالَ: (لَا يتَوَضَّأ بِلَبن وَلَا بنبيذ) وروى أَبُو عبيد من طَرِيق أُخْرَى عَن الْحسن أَنه لَا بَأْس بِهِ فعلى هَذَا كَرَاهَته عِنْده كَرَاهَة تَنْزِيه فَحِينَئِذٍ لَا يساعد التَّرْجَمَة وَأما الَّذِي علقه عَن أبي الْعَالِيَة فروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن أبي خلدَة فَقَالَ: قلت لأبي الْعَالِيَة رجل لَيْسَ عِنْده مَاء وَعِنْده نَبِيذ أيغتسل بِهِ من الْجَنَابَة قَالَ: لَا وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا مَرْوَان ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي خلدَة عَن أبي الْعَالِيَة أَنه كره أَن يغْتَسل بالنبيذ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن أبي خلدَة وَفِي رِوَايَة فكرهه. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا أَيْضا كَرَاهَة تَنْزِيه.
وقالَ عَطَاء التيَمُّمُ أَحَب إلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بالنَّبِيذِ واللبَنِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا يدل على أَن عَطاء يُجِيز اسْتِعْمَال النَّبِيذ فِي الْوضُوء، وَلَكِن التَّيَمُّم أحب إِلَيْهِ مِنْهُ، فعلى هَذَا هُوَ أَيْضا لَا يساعد التَّرْجَمَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه كره الْوضُوء بالنبيذ وَاللَّبن وَقَالَ: إِن التَّيَمُّم أعجب إِلَيّ مِنْهُ. قلت: أما التَّوَضُّؤ بِاللَّبنِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِنَفس اللَّبن، أَو بِمَاء خالطه لبن، فَالْأول لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَأما الثَّانِي فَيجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ. وَأما الْوضُوء بالنبيذ فَهُوَ جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَلَكِن بِشَرْط أَن يكون حلواً رَقِيقا يسيل على الْأَعْضَاء كَالْمَاءِ، وَمَا اشتده مِنْهَا صَار حَرَامًا لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ وَإِن غيرته النَّار، فَمَا دَامَ حلواً فَهُوَ على الْخلاف، وَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِمَا سواهُ من الأنبذة جَريا على قَضِيَّة الْقيَاس. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْوضُوء بالنبيذ، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز الْوضُوء بنيِّه ومطبوخة مَعَ عدم المَاء وجوده، تَمرا كَانَ أَو غَيره، فآن كَانَ مَعَ ذَلِك مشتداً فَهُوَ نجس لَا يجوز شربه وَلَا الْوضُوء بِهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْوضُوء بِهِ مَعَ وجود المَاء، فَإِذا عدم فَيجوز بمبطوح التَّمْر خَاصَّة. وَقَالَ الْحسن: جَازَ الْوضُوء بالنبيذ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: جَازَ بِسَائِر الأنبذة انْتهى. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالْوضُوءِ بنبيذ التَّمْر، وَبِه قَالَ الْحسن والأزاعي. وَقَالَ عِكْرِمَة: النَّبِيذ وضوء من لم يجد المَاء، وَقَالَ إِسْحَاق: النَّبِيذ الحلو أحب إِلَيّ من التَّيَمُّم، وجمعهما أحب إليَّ وَعَن أبي حنيفَة كَقَوْل عِكْرِمَة، وَقيل عَنهُ: يجوز الْوضُوء بنبيذ التَّمْر إِذا طبخ وَاشْتَدَّ عِنْد عدم المَاء فِي السّفر، لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) لأبي بكر الرَّازِيّ، عَن أبي حنيفَة فِي ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات. إِحْدَاهَا: يتَوَضَّأ بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، وَلَا يتَيَمَّم، وَهَذِه هِيَ الْمَشْهُورَة، وَقَالَ قاضيخان، وَهُوَ قَوْله الأول، وَبِه قَالَ زفر. وَالثَّانيَِة: يتَيَمَّم وَلَا يتَوَضَّأ، رَوَاهَا عَنهُ نوح ابْن أبي مَرْيَم، وَأسد بن عَمْرو، وَالْحسن بن زِيَاد قَالَ قاضيخان: وَهُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَالَّذِي رَجَعَ إِلَيْهَا وَبهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَأكْثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيّ هَذَا. وَالثَّالِثَة: رُوِيَ عَنهُ الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا قَول مُحَمَّد وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) صفة هَذَا النَّبِيذ أَن يلقى فِي المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر، فَإِن اشْتَدَّ حرم شربه، فَكيف الْوضُوء؟ وَإِن كَانَ مطبوخاً فَالصَّحِيح أَنه لَا يتَوَضَّأ بِهِ. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) إِذا ألْقى فِيهِ تمرات فحلا وَلم يزل عَنهُ اسْم المَاء وَهُوَ رَقِيق فَيجوز الْوضُوء بِهِ بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، وَلَا يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَهَذَا خلاف مَا قَالَه فِي (الْمَبْسُوط) أَنه يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ الْكَرْخِي: الْمَطْبُوخ أدنى طبخة يجوز الْوضُوء بِهِ إلاَّ عِنْد مُحَمَّد، وَقَالَ الدباس: لَا يجوز، وَفِي(3/179)
(الْبَدَائِع) وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي جَوَاز الِاغْتِسَال بنبيذ التَّمْر على أصل أبي حنيفَة، فَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز، لِأَن الْجَوَاز عرف بِالنَّصِّ، وَأَنه ورد بِالْوضُوءِ دون الِاغْتِسَال، فَيقْتَصر على مورد النَّص، وَقَالَ بَعضهم: يجوز لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنى.
ثمَّ لَا بُد من تَفْسِير نَبِيذ التَّمْر الَّذِي فِيهِ الْخلاف وَهُوَ أَن يلقى فِي المَاء شَيْء من التَّمْر لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء، وَهَكَذَا ذكر ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي تَفْسِير النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تمرات ألقيتها فِي المَاء، لِأَن من عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا تطرح التَّمْر فِي المَاء ليحلو فَمَا دَامَ رَقِيقا حلواً أَو قارصاً يتَوَضَّأ بِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِن كَانَ غليظاً كالرب لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، وَكَذَا إِذا كَانَ رَقِيقا لكنه غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد لِأَنَّهُ صَار مُسكرا، والمسكر حرَام، فَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ رَقِيقا حلواً، فَلَا يلْحق بِهِ الغليظ والنبيذ إِذا كَانَ نياً أَو كَانَ مطبوخاً أدنى طبخه، فَمَا دَامَ قارصاً أَو حلواً فَهُوَ على الْخلاف وَإِن غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد فَلَا، وَذكر الْقَدُورِيّ فِي (شَرحه مُخْتَصر الْكَرْخِي) الِاخْتِلَاف فِيهِ بَين الْكَرْخِي وَأبي طَاهِر الدباس، على قَول الْكَرْخِي: يجوز، وعَلى قَول أبي طَاهِر: لَا يجوز، ثمَّ الَّذين جوزوا التَّوَضُّؤ بِهِ احْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ: (مَاذَا فِي إداوتك؟ قَالَ: نَبِيذ قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وز اد، (فَتَوَضَّأ بِهِ وَصلى الْفجْر) وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث أطبق عُلَمَاء السّلف على تَضْعِيفه. قلت: إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ لِأَن فِي رُوَاته أَبَا زيد وَهُوَ رجل مَجْهُول لَا يعرف لَهُ رِوَايَة غير هَذَا الحَدِيث، قَالَه التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) أَبُو زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق، وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف فَيجوز أَن يكون التِّرْمِذِيّ أَرَادَ أَنه مَجْهُول الِاسْم.
على أَنه روى هَذَا الحَدِيث أَرْبَعَة عشر رجلا عَن ابْن مَسْعُود كَمَا رَوَاهُ أَبُو زيد. الأول: أَبُو رَافع عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْحَاكِم. الثَّانِي: رَبَاح أَبُو عَليّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . الثَّالِث: عبد الله بن عمر عِنْد أبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي (كتاب الصَّحَابَة) . الرَّابِع: عَمْرو الْبكالِي عِنْد أبي أَحْمد فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح. الْخَامِس: أَبُو عُبَيْدَة ابْن عبد الله. السَّادِس: أَبُو الْأَحْوَص، وحديثهما عِنْد مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي واهي الحَدِيث، والْحَدِيث بَاطِل. قلت: قَالَ البرقاني: فِيهِ ثِقَة لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ اللألكائي: صَالح لَيْسَ يدْفع عَن السماع. السَّابِع: عبد الله بن مسلمة عِنْد الْحَافِظ أبي الْحسن بن المظفر فِي كتاب (غرائب شُعْبَة) . الثَّامِن: قَابُوس بن ظبْيَان عَن أَبِيه عِنْد ابْن المظفر أَيْضا بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ. التَّاسِع: عبد الله بن عَمْرو بن غيلَان الثَّقَفِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن يحيى عَنهُ. الْعَاشِر: عبد الله بن عَبَّاس عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي. الْحَادِي عشر: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ. الثَّانِي عشر: ابْن عبد الله رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله عَن طَلْحَة بن عبد الله عَن أَبِيه أَن أَبَاهُ حَدثهُ. الثَّالِث عشر: أَبُو عُثْمَان ابْن سنه عِنْد أبي حَفْص بن شاهي فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) من طَرِيق جَيِّدَة، وخرجها الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) الرَّابِع عشر: أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ عِنْد الدَّوْرَقِي فِي (مُسْنده) بطرِيق لَا بَأْس بهَا. فَإِن قلت: صَحَّ عَن عبد الله إِنَّه قَالَ: لم أكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ قلت يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْل واستوقفه فِي الْبَاقِي ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، فصح أَنه لم يكن مَعَه عِنْد الْجِنّ، لَا نفس الْخُرُوج.
وَقد قيل: إِن لَيْلَة الْجِنّ كَانَت مرَّتَيْنِ. فَفِي أول مرّة خرج إِلَيْهِم لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مَسْعُود وَلَا غَيره، كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث مُسلم، ثمَّ بعد ذَلِك خرج إِلَيْهِم وَهُوَ مَعَه لَيْلَة أُخْرَى، كَمَا روى أَبُو حَاتِم فِي (تَفْسِيره) فِي أول سُورَة الْجِنّ، من حَدِيث ابْن جريح قَالَ: قَالَ ابْن عبد الْعَزِيز بن عمر: أما الْجِنّ الَّذين لقوه بنخلة فجن نيتوى، وَأما الْجِنّ الَّذين لقوه بِمَكَّة فجن نَصِيبين. وَقَالَ بَعضهم: على تَقْدِير صِحَّته، أَي: صِحَة حَدِيث ابْن مَسْعُود: إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة ونزول قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} (سُورَة النِّسَاء: 43) إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف. قلت: هَذَا الْقَائِل نقل هَذَا عَن ابْن الْقصار من الْمَالِكِيَّة، وَابْن حزم من كبار الظَّاهِرِيَّة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه، مَعَ علمه أَن هَذَا مَرْدُود، نقل هَذَا وَسكت عَلَيْهِ. وَجه الرَّد مَا ذكره الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَن جبري عَلَيْهِ السَّلَام، نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَعْلَى مَكَّة فهمز لَهُ بعقبه فأنبع المَاء وَعلمه الْوضُوء. وَقَالَ السُّهيْلي: الْوضُوء مكي، وَلكنه مدنِي التِّلَاوَة، وَإِنَّمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. آيَة التَّيَمُّم وَلم تقل: آيَة الْوضُوء، لِأَن الْوضُوء كَانَ مَفْرُوضًا قبل غير أَنه لم يكن قُرْآنًا يُتْلَى حَتَّى نزلت آيَة التَّيَمُّم، وَحكى عِيَاض عَن أبي الجهم: أَن الْوضُوء كَانَ سنة حَتَّى نزل فِيهِ الْقُرْآن بِالْمَدِينَةِ.(3/180)
242 - حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِي عَنْ أبي سلمَةَ عنْ عائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كعملُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بِالْجَرِّ الثقيل، وَكَانَ مَوْضِعه كتاب الْأَشْرِبَة، وَجه ذَلِك أَن الشَّرَاب إِذا كَانَ مُسكرا يكون شربه حَرَامًا، فَكَذَلِك لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لِخُرُوجِهِ عَن اسْم المَاء فِي اللُّغَة والشريعة، وَكَذَلِكَ النَّبِيذ غير الْمُسكر أَيْضا، هُوَ فِي معنى السكر من جِهَة أَنه لَا يَقع عَلَيْهِ إسم المَاء وَلَو جَازَ أَن يشمى النَّبِيذ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء، جَازَ أَن يُسمى الْخلّ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء انْتهى. قلت: كَون النَّبِيذ الْغَيْر مُسكر فِي معنى الْمُسكر غير صَحِيح، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي لَا يسكر إِذا كَانَ رَقِيقا وَقد ألقيت فِيهِ تُمَيْرَات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء لَيْسَ فِي معنى الْمُسكر أصلا وَلَا يلْزم أَن يكون النَّبِيذ الَّذِي كَانَ مَعَ ابْن مَسْعُود فِي معنى النَّبِيذ الْمُسكر، وَلم يقل بِهِ أحد، وَلَا يلْزم من عدم جَوَاز تَسْمِيَة الْخلّ مَاء عدم جَوَاز تَسْمِيَة النَّبِيذ الَّذِي ذكره ابْن مَسْعُود مَاء أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ قَالَ: (تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) ، حِين سَأَلَ ابْن مَسْعُود: مَا فِي إدواتك؟ قَالَ: نَبِيذ، وَقد أطلق عَلَيْهِ المَاء وَوَصفه بالطهورية، فَكيف ذهل الْكرْمَانِي عَن هَذَا حَتَّى قَالَ مَا قَالَه ترويجاً لما ذهب إِلَيْهِ، وَالْحق أَحَق أَن يتبع.
الْإِدَاوَة، بِكَسْر الْهمزَة، إِنَاء صَغِير يتَّخذ من جلد للْمَاء كَمَا كَمَا السطيحة وَنَحْوهَا، وَجَمعهَا: أداوي. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة، النَّبِيذ لَا يكون طَاهِرا، لِأَن الله تَعَالَى شَرط الطّهُور بِالْمَاءِ والصعيد وَلم يَجْعَل لَهما ثَالِثا والنبيذ لَيْسَ مِنْهُمَا. قلت: الْكَلَام مَعَ أبي عُبَيْدَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بِهِ مُطلق النَّبِيذ فَغير مُسلم لِأَن فِيهِ مصادمة الحَدِيث النَّبَوِيّ، وَإِن أَرَادَ بِهِ النَّبِيذ الْخَاص وَهُوَ الغليظ الْمُسكر فَنحْن أَيْضا نقُول بِمَا قَالَه.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة الأول: عَليّ بن عبد الله الْمدنِي، وَقد تقدم غير مرّة. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تقدم غير مرّة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة. بِفَتْح اللَّام، عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: عَائِشَة الصديفة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومكي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن عَليّ عَن سُفْيَان، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعمر والناقد وَزُهَيْر بن حَرْب وَسَعِيد بن مَنْصُور، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن أبي وهب عَن يُونُس وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب، وَعَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَفِي حَدِيث معمر: (كل شراب مُسكر حرَام) وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَفِيه عَن القعني عَن مَالك بِهِ، وَعَن يزِيد بن عبد ربه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ وَعَن يزِيد بن عبد ربه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ، وَعَن ابْن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن عَليّ بن مَيْمُونَة عَن بشر بن السّري عَن عبد الرَّزَّاق، وَفِيه وَفِي الْوَلِيمَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان مَعْنَاهُ وَحكمه قَوْله: (كل شراب) أَي: كل وَاحِد من أَفْرَاد الشَّرَاب الْمُسكر حرَام وَذَلِكَ لِأَن كلمة، كل إِذا أضيفت إِلَى النكرَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِفْرَاد، وَإِذا أضيفت إِلَى الْمعرفَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِجْزَاء وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (كل شراب أسكر) أَي: كَانَ من شَأْنه الْإِسْكَار سَوَاء حصل بشربه الْإِسْكَار أم لَا. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، لِأَن الشَّارِع أخبر بِحرْمَة الشَّرَاب عِنْد اتصافه بالإسكار، وَلَا يدل ذَلِك على أَنه يحرم إِذا كَانَ يسكر فِي المستقل، ثمَّ نقل عَن الْخطابِيّ، فَقَالَ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لِأَنَّهَا صِيغَة عُمُوم أُشير بهَا ألى جنس الشَّرَاب الَّذِي يكون مِنْهُ السكر، فَهُوَ كَمَا قَالَ: كل طَعَام أشْبع فَهُوَ حَلَال، فَإِنَّهُ يكون دَالا على حل كل طَعَام من شَأْنه الإشباع، وَإِن لم يحصل الشِّبَع بِهِ لبَعض. قلت: قَوْله، قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لَا يمشي فِي كل شراب، وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْخمر لما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس،(3/181)
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا (إِنَّمَا حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب) فَهَذَا يدل على أَن الْخمر حرَام قليلها وكثيرها أسكرت أَو لَا، وعَلى أَن غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِنَّمَا يحرم عِنْد الْإِسْكَار وَهَذَا ظَاهر. قلت: ورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام) قلت: طعن فِيهِ يحيى بن معِين وَلَئِن سلم فَالْأَصَحّ أَنه مَوْقُوف على ابْن عمر، وَلِهَذَا رَوَاهُ مُسلم بِالظَّنِّ، فَقَالَ: لَا أعلمهُ إلاّ مَرْفُوعا وَلَئِن سلم فَمَعْنَاه كل مَا أسكر كَثِيره فَحكمه حكم الْخمر.
72 - (بابُ غَسْلِ المَرّأةِ أَبَاهَا الدَّمَ عنْ وَجْهِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الْمَرْأَة الدَّم عَن وَجهه فَقَوله: (أَبَاهَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول الْمصدر أَعنِي: غسل المرإة، والمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله. قَوْله: (الدَّم) مَنْصُوب بدل من أَبَاهَا الاشتمال، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بالاختصاص، تَقْدِيره: أَعنِي الدَّم، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: بَاب غسل الْمَرْأَة عَن وَجه أَبِيهَا، وَهَذَا هُوَ الأجو،. قَوْله: (عَن وَجهه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من وَجهه) وَالْمعْنَى فِي رِوَايَة. عَن إِمَّا أَن يكون بِمَعْنى من وَإِمَّا أَن يتَضَمَّن الْغسْل معنى الْإِزَالَة ومحيء، عَن، بِمَعْنى من، وَقع فِي كَلَام الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} (سُورَة الشورى: 25) وَهَاهُنَا سؤالان: الأول: فِي وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ وَالثَّانِي: فِي وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْوضُوء. قلت: أما الأول فَيمكن أَن يُقَال إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم شَرْعِي. أما الأول: فَفِيهِ أَن اسْتِعْمَال النَّبِيذ لَا يجوز. وأماالثاني: فَلِأَن ترك النَّجَاسَة على الْبدن لَا يجوز، فهما متساويات فِي عدم الْجَوَاز، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي فَهُوَ أَن النُّسْخَة إِن كَانَت كتاب الطَّهَارَة بدل كتاب الْوضُوء فَلَا خَفَاء فِيهِ، وَأَن كَانَ كتاب الْوضُوء فَالْمُرَاد مِنْهُ إِمَّا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذ من الْوَضَاءَة وَهِي: الْحسن والنظافة، فَيتَنَاوَل حِينَئِذٍ رفع الْخبث، أَيْضا. وَأما مَعْنَاهُ الاصطلاحي فَيكون ذكر الطَّهَارَة عَن الْخبث فِي هَذَا الْكتاب بالتبعية لطهارة الْحَدث والمناسبة بَينهمَا كَونهمَا من شَرَائِط الصَّلَاة، وَمن بَاب النَّظَافَة وَغير ذَلِك فَهَذَا حَاصِل مَا ذكره الْكرْمَانِي وَلَكِن أحسن فِيهِ، وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن بعض التعسف.
وَقَالَ أبُو العَالِيةِ امْسَحُوا عَلى رِجْلِي فَإِنَّها مَرِيضَةٌ
مطاقة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا متضمنة جَوَاز الإستغاثة فِي الْوضُوء وَإِزَالَة النَّجَاسَة.
وَأَبُو الْعَالِيَة هُوَ رفيع بن مهْرَان الرباحي.
وَقد تقدم عَن قريب، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان قَالَ: (دَخَلنَا على أبي الْعَالِيَة وَهُوَ وجع فوضؤه، فَلَمَّا بقيت غسل إِحْدَى رجلَيْهِ قَالَ: إمسحوا على هَذِه فَإِنَّهَا مَرِيضَة. وَكَانَت بهَا جَمْرَة) وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَقَالَ بَعضهم وَزَاد بن أبي شيبَة أَنَّهَا كَانَت معصوبة قلت: لَيْسَ رِوَايَة ابْن أبي شيبَة هَكَذَا وَإِنَّمَا الْمَذْكُور فِي مضنفه: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم وَدَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة أَنه اشْتَكَى رجله فعصبها وَتَوَضَّأ وَمسح عَلَيْهَا وَقَالَ: إِنَّهَا مَرِيضَة. وَهَذَا غير الَّذِي ذكره البُخَارِيّ، على مَا لَا يخفي، وَالله تَعَالَى أعلم.
243 - حدّثنا مُحَمَّدُ قَالَ أخْبَرنا سُفْيانُ بنُ عُيَيُنَةَ عَن أبي حازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ مَا بَيْني وَبَيْنَهُ أَحَدٌ بِأَيَّ شَيْء دُووِىَ جُرْحُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كانَ عَليٌ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ ماءٌ وفاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْههِ الدَّمَ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأَحْرَقَ فَحُسِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، وَكَذَا جَاءَ فِي بعض النّسخ، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: لم ينْسبهُ أحد من الروَاة وَهُوَ عِنْدِي ابْن سَلام، وَبِذَلِك جزم أَبُو ت نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: حَدثنَا مُحَمَّد، يَعْنِي ابْن سَلام، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بِهِ. الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمَكْسُورَة، سَلمَة بن دِينَار الْمَدِينِيّ الْأَعْرَج الزَّاهِد المَخْزُومِي، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: سهل ابْن سعد(3/182)
الساغدي الْأنْصَارِيّ أَبُو الْعَبَّاس، وَكَانَ يُسمى حزنا فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سهلاً رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث وثمان وَثَلَاثُونَ حَدِيثا ذكر البُخَارِيّ تِسْعَة وَثَلَاثِينَ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن مائَة سنة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع والإسناد رباعي، والرواة مَا بَين ومدني.
بَين تعدد وَضعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن مُحَمَّد، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ ابْن عبد الله وَفِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن ابْن أبي عمر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار، تسعتهم عَنهُ بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
ذكر لغته وَإِعْرَابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (السَّاعِدِيّ) بتَشْديد الْيَاء المنصوبة لِأَنَّهُ صفة سهل، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول سمع. قَوْله: (وَسَأَلَهُ النَّاس) وَفِي بعض النسح. (وسألوه النَّاس) على لُغَة، أكلوني البراغيث، وَهَذِه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، ومحلها النصب على الْحَال. قَوْله: (مَا بيني وَبَينه أحد) يَعْنِي: عِنْد السُّؤَال عَنهُ. قَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ جملعة مُعْتَرضَة لَا مَحل لَهَا فِي الْإِعْرَاب. قلت: الْجُمْلَة المعترضة هِيَ الَّتِي تقع بَين الْكَلَامَيْنِ وَلَيْسَ لَهَا تعلق بِأَحَدِهِمَا. وَقد تقع فِي آخر الْكَلَام، وَيجوز أَن تكون جملَة حَالية أَيْضا، وَيكون محلهَا من الْإِعْرَاب النصب، وَلَكِن وَقعت بِلَا وَاو، وذز الْحَال، إِمَّا مفعول، سَأَلَ، فيكونان حَالين متداخلتين، وَأما مفعول سمع، فيكونان مترادفتين. قَوْله: (بِأَيّ شَيْء) الْيَاء فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: (وَسَأَلَهُ) وَكلمَة أَي للاستفهام. قَوْله (دووى) بِضَم الدام وَكسر الْوَاو، وَصِيغَة الْمَجْهُول من المداواة، وَقَالَ بَعضهم: حذفت إِحْدَى الواوين فِي الْكِتَابَة. قلت: بالواوين فِي أَكثر النّسخ، وَفِي بَعْضهَا بواو وَاحِدَة، فحذفت مِنْهَا إِحْدَى الواوين كَمَا حذفت من دَاوُد وَطَاوُس فِي الْخط. قَوْله: (أعلم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة، أحد، وَيجوز أَن مَنْصُوبًا على الْحَال، وَعرضه من هَذَا التَّرْكِيب أَنه، أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة، لِأَن مَوته بِأخر وَكَانَ آخر من بَقِي من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي النِّكَاح فِي رِوَايَته عَن تيبة عَن سُفْيَان، وَمثل هَذَا التَّرْكِيب لَا يسْتَعْمل بِحَسب الْعرف إِلَّا عِنْد انْتِفَاء الْمسَاوِي وَهَذَا ظَاهر، وَبِهَذَا يسْقط سُؤال من قَالَ: لَا يلْزم مِنْهُ مُنَافَاة مساوات غَيره لَهُ فِيهِ. قَوْله: (فَأخذ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَلِكَ قَوْله: (فاحرق فحشي) وَفِي رِوَايَة البخاي فِي الطِّبّ. (فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهَا، الدَّم تزيد على المَاء كَثْرَة، عُمْدَة إِلَى حصيرة فأحرقتها والصقتها على الخرج فرقي الدَّم) ، وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت بِأحد، وَزعم ابْن سعد عَن عتبَة بن أبي وَقاص، (شج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي وَجهه وَأصَاب رباعيته؛ فَكَانَ سَالم مولى أبي حُذَيْفَة يغسل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّم، والني، عَلَيْهِ السَّلَام، يَقُول: (كَيفَ يفلح قوم صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ؟ فَانْزِل الله تبَارك وَتَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (سُورَة آل عمرَان: 128) الْآيَة وَزعم السُّهيْلي: أَن عبد الله بن قمية هُوَ الَّذِي جرح وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ قل ابْن بطال: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز مُبَاشرَة الْمَرْأَة أَبَاهَا وَذَوي محارمها ومداواة أمراضهم، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: امسحوا على رجْلي فَإِنَّهَا مَرِيضَة، وَلم يخص بَعضهم دون بعض، بل عمهم جَمِيعًا. وَفِيه: إِبَاحَة التَّدَاوِي، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم داوى جرحه. وَفِيه: جَوَاز المداواة بالحصير المحرق لِأَنَّهُ يقطع الدَّم، وَفِيه: إِبَاحَة الاستغاثة فِي المداواة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: وُقُوع الِابْتِلَاء والأنتقام بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لينالوا جزيل الْأجر، ولتعرف أممهم وَغَيرهم مَا أَصَابَهُم ويأنسوا بِهِ، وليعلموا أَنهم من الْبشر يصيبهم محن الدُّنْيَا ويطرؤ على أَجْسَادهم مَا يطرؤ على أجسام الْبشر ليتيقنوا أَنهم مخلوقون مربوبون وَلَا يفتدون بِمَا ظهر على أَيْديهم من المعجزات كَمَا افْتتن النَّصَارَى. وَفِيه: أَن المداواة لَا تنَافِي التَّوَكُّل. وَفِيه: سُؤال من لَا يعلم عَمَّن يعلم عَن أَمر خَفِي عَلَيْهِ.
73 - (بابُ السِّواكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام السِّوَاك. قَالَ ابْن سَيّده: السِّوَاك، يذكر وَيُؤَنث، والسواك كالمسواك، الْجمع: سوك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رُبمَا همز فَقيل: سؤك، وَأنْشد الْخَلِيل لعبد الرَّحْمَن بن حسان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أغر الثنايا أَحْمَر اللثات سؤك الأسحل.
بِالْهَمْز، يُقَال: ساك الشَّيْء سوكاً دلكه وساك فيمه بِالْعودِ وَاسْتَاك، مُشْتَقّ مِنْهُ، وَفِي الْجَامِع،
السِّوَاك والمسواك مَا يدلك(3/183)
بِهِ الْأَسْنَان من الْعود والتذكير أَكثر، وَهُوَ نفس الْعود الَّذِي يستاك بِهِ، وَأَصله الْمَشْي الضَّعِيف يُقَال: جَاءَت الْغنم وَالْإِبِل تستاك هزالًا أَي: لَا تحرّك رؤسها وَفِي (الصِّحَاح) بِجمع على سوك مثل: كتاب وَكتب، وَيُقَال: ساك فَمه، وَإِذا لم يذكر الْفَم يُقَال: استاك وَهَاهُنَا سؤالان. الأول: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله؟ . وَالثَّانِي: مَا وَجه مَا ذكره بَين الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة هَاهُنَا؟ . الْجَواب عَن الأول: أَن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على الأزالة غير أَن الْبَاب الأول يشْتَمل على إِزَالَة الدَّم، وَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على إِزَالَة رَائِحَة الْفَم، وَهَذَا الْقدر كَاف. وَعَن الثَّانِي: ظَاهر، وَهُوَ أَن الْأَبْوَاب كلهَا فِي أَحْكَام الْوضُوء، وَإِزَالَة النَّجَاسَات وَنَحْوهَا، وَبَاب السِّوَاك من أَحْكَام الْوضُوء عِنْد الْأَكْثَرين.
وقالَ ابنُ عَبَّاسِ بِتُّ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْنَن
هَذَا التَّعْلِيق لَيْسَ فِي رِوَايَة المستعلي، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل فِي قصَّة مبيت عبد الله بن عَبَّاس عِنْد خَالَته مَيْمُونَة، أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ليشاهد صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ وَصله البُخَارِيّ من طرق، وَتقدم بعضه وَيَأْتِي الْبَاقِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (فاستن) من الاستنان، وَهُوَ الاستياك، وَهُوَ ذَلِك الْأَسْنَان وَحكمهَا بِمَا يجلوها، مَأْخُوذ من السن، وَهُوَ إمرار الشَّيْء الَّذِي فِيهِ خشونة على شَيْء آخر، وَمِنْه المسن الَّذِي يشحذ بِهِ الْحَدِيد، وَنَحْوه وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الاستنان: اسْتِعْمَال السِّوَاك، افتعال من الْأَسْنَان وَهُوَ الإمرار على شَيْء.
244 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ قَالَ حدّثنا حَمَّادْ بنْ زَيْدٍ عنْ غَيْلانَ بن جَرِيرٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبيهِ قَالَ أتَيْتُ النَّبيِّ لله فَوَجَدْتَهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ اعْ أُعْ والسِّوَاكُ فِي فِيهِ كأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان، بِضَم النُّون. مُحَمَّد بن الْفضل الْمَشْهُور بعارم، تقدم فِي آخر كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم فِي بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة. الثَّالِث: غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَسُكُون الْيَاء آخرالحروف. ابْن جرير، بِفَتْح الْجِيم وبالراء الْمَكْسُورَة المكررة، المعولي، بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، وَأما الْمِيم فَقَالَ الغسائي: بِفَتْحِهَا مَنْسُوبا إِلَى بطن من الأزد، وَقَالَ ابْن الْأَثِير بِكَسْرِهَا، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه عَامر. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ابْن عبد الله بن قيس، وَقد تقدم ذكرهمَا فِي بَاب: أَي الْإِسْلَام أفضل.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، وَأَبُو بردة الْكُوفِي القَاضِي بكوفة، وَقيل: اسْمه الْحَارِث.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَقَوله: (أعْ أُعْ) من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن حبيب، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَأبي الرّبيع وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة، خمستهم عَن حَمَّاد بن زيد.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه وَتَفْسِير: الاستنان، قد مر قَوْله: (أَعْ أُعْ) ، بِضَم الْهمزَة وبالعين الْمُهْملَة، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَذكر ابْن التِّين أَن غَيره رَوَاهُ بِفَتْح الْهمزَة، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بِتَقْدِيم الْعين على الْهمزَة، وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل القَاضِي عَن عَارِم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَعَن أبي دَاوُد (أَهْ أُهْ) ، بِضَم الْهمزَة وَقيل: بِفَتْحِهَا وَالْهَاء سَاكِنة وَعند ابْن خُزَيْمَة (عاعا) وَفِي (صَحِيح الجوزقي) (أَحْ أُحْ) بِكَسْر الْهمزَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَفِي (مُسْند أَحْمد) (وَاضع طرف السِّوَاك على لِسَانه يستن إِلَى فَوق) فوصفه حَمَّاد (كَانَ يرفع لِسَانه) ووضفه غيلَان (كَانَ يستن طولا) وَكلهَا عبارَة عَن إبلاغ السِّوَاك إِلَى أقْصَى الْحلق، اع فِي الأَصْل حِكَايَة الصَّوْت، وَفِي بعض النّسخ: بالغين الْمُعْجَمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (يتهواع) أَي: يتقيأ، وَهُوَ من بَاب التفعل الَّذِي للتكلف، يُقَال: هاع يهوع إِذا قاء من غير تكلّف، فَإِذا تكلّف يُقَال تهوع. وَفِي (الموعب) هاع الرجل يهوع هوعاً وهواعاً، جَاءَ القييء من غير تكلّف، وَأنْشد:
(مَا هاعَ عمروٌ حِين أَدخل حلقه ... يَا صَاح، ريش حمامة، بل قاءَ)(3/184)
وَالَّذِي يخرج من الْحلق يُسمى هواعةٍ، وهوعت مَا أَكلته إِذا استخرجته من حلقك. وَعَن إِسْمَاعِيل: الهوعاء، مثل. عشراء، من التهوع. وَعَن قطرب: الهيعوعة من الهواع وَقَالَ ابْن سَيّده: الهيعوعة من بَنَات، الْوَاو، وَلَا يتَوَجَّه اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يكون محذوفاً قَوْله: (يستن) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان، لوحدته، ووحد من أَفعَال الْقُلُوب، لِأَن مَعْنَاهُ قَائِم بِالْقَلْبِ، وَيَأْتِي: وجد بِمَعْنى أصَاب أَيْضا، فَإِن جعل وجدته من هَذَا الْمَعْنى تكون الْجُمْلَة مَنْصُوبَة على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي وجدته، قَوْله: (بِيَدِهِ) الْيَاء فِيهِ تتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره، بسواك كَائِن بِيَدِهِ، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (يَقُول) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على الْحَال. وَقَوله: (أَعْ أُعْ) فِي مَحل النصب على مقول القَوْل. وَقَوله: (والسواك فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه، وَمحل هَذِه الْجُمْلَة النصب على الْحَال.
بَيَان استنباط الحكم وَهُوَ: أَنه يدل على أَن السِّوَاك سنة مؤكذة لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ لَيْلًا نَهَارا أَو قَامَ الْإِجْمَاع كَونه مَنْدُوبًا حَتَّى قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ شطر الْوضُوء، وَقد جَاءَ أَحَادِيث كَثِيرَة تدل على مواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، وَلَكِن أَكْثَرهَا فِيهِ كَلَام، وَأقوى مَا يدل على الْمُوَاظبَة وأصحه محافظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ حَتَّى عِنْد وَفَاته، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: (دخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مسندته إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عبد الرَّحْمَن سواك رطب يستن بِهِ فأمده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببصره، فَأخذت السِّوَاك فقضمته وطيبته ثمَّ دَفعته إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستن) . الحَدِيث وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه من سنة الْوضُوء وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه من سنة الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه من سنة الدّين، وَهُوَ الْأَقْوَى، نقل ذَلِك عَن أبي حنيفَة. وَفِي (الْهِدَايَة) أَن الصَّحِيح اسْتِحْبَابه، وَكَذَا هُوَ عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ سنة وَلَو أمكن لكل صَلَاة لَكَانَ أفضل، وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة فرض لَازم وَحكى أَبُو حَامِد الإسفرائيني وَالْمَاوَرْدِيّ عَن أهل الظَّاهِر وُجُوبه، وَعَن إِسْحَاق أَنه وَاجِب إِنَّه تَركه عمدا بطلت صلَاته، وَزعم النَّوَوِيّ أَن هَذَا لم يَصح عَن إِسْحَاق وكيفيته عندنَا أَن يستاك عرضا لَا طولا عِنْد مضمضة الْوضُوء وَأخرج أَبُو نعيم من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك عرضا لَا طولا) وَفِي (الْمُغنِي) ويستاك على أَسْنَانه وَلسَانه، وَلَا تَقْدِير فِيهِ، يستاك إِلَى أَن يطمئن قلبه بِزَوَال النكهة واصفرار السن، وَيَأْخُذ السِّوَاك باليمنى، وَالْمُسْتَحب فِيهِ ثَلَاث مياه، وَيكون فِي غلط الْخِنْصر وَطول الشبر وَالْمُسْتَحب أَن شَاك بِعُود من أَرَاك وبيابس قد ندى بِالْمَاءِ وَيكون لينًا محرما وَفِي (الْمُحِيط) العلك للْمَرْأَة يقوم مقَام السِّوَاك، وَإِذا لم يجد السِّوَاك يعالج بإصبعه فِي حَدِيث أنس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يجزىء من السِّوَاك الْأَصَابِع، وَضَعفه وفضائلة كَثِيرَة، وَقد ذكرنَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي مَا ورد فِيهِ عَن أَكثر من خمسين صحابياً.
245 - حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورِ عنْ أبي وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قامِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ بالِسِّوَاكِ..
هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: عُثْمَان: بن أبي شيبَة أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَجَرِير بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق الْحَضْرَمِيّ، تقدمُوا فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان صَاحب سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن عُثْمَان، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي صَلَاة اللَّيْل عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَأبي مُعَاوِيَة كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش وَعَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ وَفِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَمُحَمّد بن الْمثنى، كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن سعيد وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير بِهِ، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع.
بَيَان لغته قَوْله: (يشوص) بالشين الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة: قَالَ ابْن سَيّده: شاص الشَّيْء مشوصاً غسله، وشاص فَاه(3/185)
بِالسِّوَاكِ شوصاً غسله وَقيل: امْرَهْ على أَسْنَانه من سفل إِلَى علو. وَقيل: هُوَ أَن يطعن بِهِ فِيهَا وَقد شاصه شوصاً وشوصاناً وشاص الشَّيْء شوصاً دلكه وشاص الشَّيْء زعزعه وَفِي (الْجَامِع) كل شَيْء غسلته فقدت شصته. وَقَالَ أَبُو عبيد: شصته نقيته وَفِي (الغريبين) كل شَيْء غسلته فقد شصته ومصته. وَقَالَ ابْن عبد الْبر هُوَ الحك. وَقَالَ الْخطابِيّ: الشوص ذَلِك الْأَسْنَان عرضا وَقيل: الشوص غسل الشَّيْء فِي لين ورفق.
وَمِمَّا يستنبط من هَذَا مَا قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: فِيهِ: اسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْد الْقيام من النّوم، لِأَن النّوم مُقْتَض لتغير الْفَم لما يتصاعد إِلَيْهِ من أبخرة الْمعدة، والسواك آلَة تنظيفه فَيُسْتَحَب عِنْد مُقْتَضَاهُ، وَقَالَ: ظَاهر قَوْله: (من اللَّيْل) عَام فِي كل حَالَة، وَيحْتَمل أَن يخص بِمَا إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة انْتهى وَيدل على هَذَا الِاحْتِمَال رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة بِلَفْظ (إِذا قَامَ للتهجد) وَلمُسلم نَحوه وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يشْهد لَهُ.
74 - (بابُ دَفْعُ السَّوَاكِ إِلَى الأكْبَرَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دفع السِّوَاك إِلَى الْأَكْبَر. والمناسبة بِي الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
246 - وقالَ عَفَّانُ حدّثنا صَخْرُ بنُ جُرَيْرِيَةَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمْرَ أَنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ أَرَاني أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكِ فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ أَحَدَهُمًّ أَكْبَرِ مِنَ الآخَرِ مِنَ الآخَرِ فَناوَلَتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِيَ كَبِّرْ فَدَفَعْتْهُ إِلَيّ الأكْبَرَ مِنْهُمَا قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ اخْتَصَرَهُ نُعَيْمٌ عنِ ابنِ المُبَارَكِ عنْ أُسَامَةِ عنْ نَافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالَى عَنْهُمَا.
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِلَا رِوَايَة، وَلَكِن وَصله غَيره مِنْهُم: أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصفاني، وَغَيره عَن عَفَّان وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ عَن أبي أَحْمد، حَدثنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس الْجُوَيْنِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا عَفَّان، وَحدثنَا أَبُو إِسْحَاق حَدثنَا عبد الله بن فحطية حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا أبي، قَالَا: حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية وَقَالَ مُسلم فِي (صَحِيحه) حَدثنَا نصر بن عَليّ عَن أَبِيه عَن صَخْر والإسماعيلي من طَرِيق وهب بن جرير وَسَعِيد بن حَرْب، قَالَا: حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية فَذكره.
بَيَان رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَفَّان بن مُسلم الصفار الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ، أَبُو عُثْمَان، سُئِلَ عَن الْقُرْآن زمن المحنة فَأبى أَن يَقُول: الْقُرْآن مَخْلُوق، وَكَانَ من حكام الْجرْح وَالتَّعْدِيل، جعل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار على أَن يقف عَن تَعْدِيل رجل، وَلَا يَقُول: عدل أَو غير عدل، قَالُوا: قف فِيهِ وَلَا تقل شَيْئا، فَقَالَ: لَا أبطل حَقًا من الْحُقُوق، وَلم يَأْخُذهَا. مَاتَ بِبَغْدَاد سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: صَخْر بن جوَيْرِية، تَصْغِير الْجَارِيَة بِالْجِيم، الْبَصْرِيّ أَبُو نَافِع التَّمِيمِي الثِّقَة. الثَّالِث: نَافِع مولى ابْن عمر الْقرشِي الْعَدوي، تقدم فِي آخر كتاب الْعلم. الرَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب الْخَامِس: أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. السَّادِس: نعيم، بِضَم النُّون بن حَمَّاد الْمروزِي الْخُزَاعِيّ الْأَعْوَر، سكن مصر. قَالَ أَحْمد: كُنَّا نُسَمِّيه الفارض، كَانَ من أعلم النَّاس بالفرائض، وَسُئِلَ عَن الْقُرْآن فَلم يجب بِمَا أرادوه مِنْهُ، فحبس بسامرا حَتَّى مَاتَ فِي السجْن سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ زمن خلَافَة أبي إِسْحَاق بن هَارُون الرشيد. السَّابِع: عبد الله بن الْمُبَارك. تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّامِن: أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، بِالْمُثَلثَةِ الْمدنِي. وَقد تكلم فِيهِ، وَلِهَذَا ذكره البُخَارِيّ، رَحمَه الله اسْتِشْهَادًا، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ.
بَيَان لطائف الإسنادين وَفِي الْإِسْنَاد الأول: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِي الثَّانِي: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَانِي) بِفَتْح الْهمزَة أَي: أرى نفس فالفاعل وَالْمَفْعُول عبارتان عَن معبر وَاحِد، وَهَذَا من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بِضَم الْهمزَة، فَمَعْنَاه أَظن نَفسِي. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من ضمهَا. قلت: لَيْسَ بوهم، والعبارتان تستعملان وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (رَآنِي) بِتَقْدِيم الرَّاء، وَالْأول أشهر، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عَليّ ابْن نصر الْجَهْضَمِي عَن صَخْر: (أَرَانِي فِي الْمَنَام) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (رَأَيْت فِي الْمَنَام) ، فعلى هَذَا فَهُوَ من الرُّؤْيَا(3/186)
قَوْله: (فَقيل لي) الْقَائِل لَهُ. جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله: (كبر) أَي؛ قدم الْأَكْبَر فِي السن قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) أَي: البُخَارِيّ قَوْله: (اخْتَصَرَهُ نعيم) أَي: اختصر الْمَتْن نعيم، وَمعنى الِاخْتِصَار هَاهُنَا أَنه ذكر مُحَصل الحَدِيث وَحذف بعض مقدماته، وَرِوَايَة نعيم هَذِه وَصلهَا الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن بكر بن سهل عَنهُ بِلَفْظ (أَمرنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن أكبر) وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا حَدثنَا الْحسن بن عِيسَى حَدثنَا ابْن الْمُبَارك أَنبأَنَا أُسَامَة، وَحدثنَا الْحسن حَدثنَا حبَان أَنبأَنَا ابْن الْمُبَارك فَذكره وَفِيه قَالَ: (إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَمرنِي أَن أدفَع إِلَى أكبرهم) وَأخرجه أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستن فَأعْطَاهُ أكبر الْقَوْم، ثمَّ قَالَ: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَمرنِي أَن أكبره) فَإِن قلت هَذَا: يَقْتَضِي أَن تكون الْقَضِيَّة وَقعت فِي الْيَقَظَة، وَتلك الرِّوَايَة صَرِيحَة أَنَّهَا كَانَت فِي الْمَنَام فَكيف التَّوْفِيق؟ قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا أَن رِوَايَة الْيَقَظَة لما وَقعت أخْبرهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا رَآهُ فِي النمد فحفط بعض الروَاة مَا لم يحفظ آخَرُونَ، وَمِمَّا يشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُحَمَّد بن عِيسَى حَدثنَا عَنْبَسَة بن عبد الْوَاحِد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستن وَعِنْده رجلَانِ أَحدهمَا أكبر من الآخر فَأوحى إِلَيْهِ فِي فضل السِّوَاك أَن كبر، أعْط السِّوَاك أكبرهما) وَإِسْنَاده صَحِيح.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: تَقْدِيم حق الأكابر من جمَاعَة الْحُضُور وتبديته على من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ، وَهُوَ السّنة أَيْضا فِي السَّلَام والتحية وَالشرَاب وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور، وَفِي هَذَا الْمَعْنى تَقْدِيم ذِي السن بالركوب وَشبهه من الأرقاق. وَفِيه: أَن اسْتِعْمَال سواك الْغَيْر مَكْرُوه إلاَّ أَن السّنة فِيهِ أَن يغسلهُ ثمَّ يَسْتَعْمِلهُ. وَفِيه: مَا يدل على فَضِيلَة السِّوَاك. وَقَالَ الْمُهلب: تَقْدِيم ذِي السن أولى فِي كل شَيْء مَا لم يَتَرَتَّب الْقَوْم فِي الْجُلُوس، فَإِذا ترتبوا فَالسنة تَقْدِيم ذِي الْأَيْمن فالأيمن.
75 - (بابِ فَضْلِ مَنْ بَاتَ علَى الوُضوُءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من بَات على الْوضُوء وَبَات من البيتوتة يُقَال: بَات يبيت، وَبَات، بيات بيتوتة، وَبَات يفعل كَذَا إِذا فعله لَيْلًا كَمَا يُقَال: ظلّ يفعل كَذَا إِذا فعله بِالنَّهَارِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على بَيَان اكْتِسَاب فَضِيلَة وَأجر، وَأما إِدْخَاله هَذَا الْبَاب فِي الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة فَظَاهر، لِأَنَّهُ من تعلقات الْوضُوء قَوْله: (على الْوضُوء) بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره (على وضوء) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام.
247 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أخبرنَا سُفْيَان عنْ مَنْصُورِ عنْ سَعْدٍ ابنِ عُبَيْدَةَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قَالَ قَالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَيْتُ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقَكَ الأَيْمَنِ ثُمَّ قلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلَجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فإنْ مُتِّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ علَى الفِطْرَةِ وَاجْعَلْنِي آخِرَ مَا تَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فرددتها على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا بلغت الْفَهم آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت قلت وَرَسُولك قَالَ لَا بنبيك الَّذِي أرْسلت..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة طَاهِرَة.
بَين رجالهوهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل، بِضَم الْمِيم، أَبُو الْحسن الْمروزِي، تقدم فِي بَاب مَا يذكر فِي المناولة. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقيل: يحْتَمل سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَيْضا، لِأَن عبد الله يروي عَنْهُمَا، وهما يرويات عَن مَنْصُور، لَكِن الظَّاهِر أَنه الثَّوْريّ لأَنهم قَالُوا: أثبت النَّاس فِي مَنْصُور هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الْخَامِس: سعيد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين، مصغر عَبدة بن حَمْزَة، بالزاي، الْكُوفِي كَانَ يرى رأى الْخَوَارِج ثمَّ تَركه وَهُوَ ختن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، مَاتَ فِي ولَايَة ابْن هُبَيْرَة على الْكُوفَة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة، سعد بن عُبَيْدَة، سواهُ. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.(3/187)
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِخْبَار بِصُورَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي، وَخَالف إِبْرَاهِيم بن طهْمَان أَصْحَاب مَنْصُور، فَأدْخل بَين مَنْصُور وَسعد الحكم بن عتيبة وَانْفَرَدَ الْفرْيَابِيّ بِإِدْخَال الْأَعْمَش بَين الثَّوْريّ وَمَنْصُور.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه فِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الدُّعَاء عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن ابْن الْمثنى وَعَن بنْدَار، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْملك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن سُفْيَان بن وَكِيع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن بنْدَار، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع، وَعَن عَمْرو بن عَليّ، وَعَن قُتَيْبَة، وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني.
بَيَان لغاته قَوْله: (إِذا أثبت مضجعك) ، بِفَتْح الْجِيم من، ضجع من بَاب: منع يمْنَع ويروي: مضجعك أَصله مضتجعك، من بَاب الافتعال، لَكِن قتل التَّاء طاء وَالْمعْنَى: إِذا أردْت أَن يَأْتِي مضجعك فَتَوَضَّأ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} (سُورَة النَّحْل: 98 أَي إِذا أردْت الْقِرَاءَة قَوْله: (وجهت وَجْهي أليك) أَي: استسلمت، كَذَا فسره، وَلَيْسَ بِوَجْه. وَالْأَوْجه أَن يُفَسر: أسلمت ذاتي إِلَيْك منقادة لَك، طالعة لحكمك، لِأَن المُرَاد من الْوَجْه الذَّات. قَوْله: (وفوضت) من التَّفْوِيض وَهُوَ التَّسْلِيم: قَوْله: (والجأت ظَهْري إِلَيْك) أَي: أسندت. يُقَال: لجأت إِلَيْهِ لَجأ بِالتَّحْرِيكِ، وملجأ والتجأت إِلَيْهِ بِمَعْنى: والموضع أَيْضا، لَجأ وملجأ وألجأته إِلَى الشَّيْء اضطررته إِلَيْهِ، وَالْمعْنَى هُنَا، توكلت عَلَيْك واعتمدتك فِي أَمْرِي كَمَا يعْتَمد الْإِنْسَان بظهره إِلَى مَا يسْندهُ. قَوْله: (رَغْبَة) أَي: طَمَعا فِي ثوابك. قَوْله: (وَرَهْبَة) أَي: خوفًا من عقابك. قَوْله: (لَا ملْجأ) بِالْهَمْزَةِ وَيجوز التَّخْفِيف. قَوْله: (وَلَا منجأ) مَقْصُور من: نجى ينجو، والمنجأ مفعل مِنْهُ، وَيجوز همزَة للإزدواج قَوْله: (على الْفطْرَة) أَي: على دين الْإِسْلَام، وَقد تكون الْفطْرَة بِمَعْنى الْخلقَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} (سُورَة الرّوم: 30) وَبِمَعْنى السّنة كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من الْفطْرَة) وقا الطيني: أَي: مت على الدّين القويم مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أسلم واستسلم، وَقَالَ: {} أسلمت لرب الْعَالمين (سُورَة الْبَقَرَة: 131) {وجار ربه بقلب سليم} (سُورَة الصافات: 84) .
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فَتَوَضَّأ) وَقد روى الشَّيْخَانِ هَذَا الحَدِيث من طرق عَن الْبَراء بن عَازِب، وَلَيْسَ لَهَا ذكر الْوضُوء، إلاَّ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ قَوْله: (أسلمت وَجْهي إِلَيْك) وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (أسلمت نَفسِي إِلَيْك) وَالْوَجْه وَالنَّفس هَاهُنَا بِمَعْنى الذَّات، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْوَجْه حَقِيقَة، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْقَصْد، فَكَأَنَّهُ يَقُول: قصدتك فِي طلب سلامتي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: معنى الْوَجْه الْقَصْد وَالْعَمَل الصَّالح، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَة: (اسلمت نَفسِي إِلَيْك ووجهت وَجْهي إِلَيْك) . فَجمع بَينهمَا، فَدلَّ على تغايرهما، وَمعنى: أسلمت: سلمت واستسلمت أَي: سلمتها لَك، إِذْ لَا قدرَة لي وَلَا تَدْبِير بجلب نفع وَلَا دفع ضرّ فَأمرهَا مفوض إِلَيْك تفعل بهَا مَا تُرِيدُ واستسلمت لما تفعل فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْك فِيهِ. قَوْله: (وفوضت أَمْرِي إِلَيْك) أَي: رددت أَمْرِي إِلَيْك، وبرئت من الْحول وَالْقُوَّة إلاَّ بك فَاكْفِنِي همه، وتولني سلاحه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ رَحمَه الله فِي هَذَا النّظم غرائب وعجائب لَا يعرفهَا إلاَّ النقاد من أهل الْبَيَان: قَوْله: (أسلمت نَفسِي) إِشَارَة إِلَى أَن جوارحه منقادة لله تَعَالَى فِي أوامره ونواهيه. وَقَوله: (وجهت وَجْهي) أَي: إِن ذَاته وَحَقِيقَته لَهُ مخلصة بريئة من النِّفَاق وَقَوله: (وفوضت أَمْرِي إِلَيْك) إِشَارَة إِلَى أَن أُمُوره الْخَارِجَة والداخلة مفوضة إِلَيْهِ لَا مُدبر لَهَا غَيره، وَقَوله: (ألجأت أليك) بعد قَوْله: (وفوضت أَمْرِي) إِشَارَة إِلَى أَن تفويضة أُمُوره الَّتِي يفْتَقر إِلَيْهَا وَبهَا معاشه وَعَلَيْهَا مدَار أمره يلتجأ إِلَيْهِ، مِمَّا يضرّهُ ويؤذيه من الْأَسْبَاب الدَّاخِلَة وَالْخَارِج، قَوْله: (آخر مَا تكلم) بِحَذْف إِحْدَى التائين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من آخر مَا تكلم) قَوْله: (فَردَّتهَا) أَي: رددت هَذِه الْكَلِمَات لأحفظن قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: لَا تقبل: وَرَسُولك، بل قل: وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت، وَذكروا فِي هَذَا أوجها مِنْهَا: أَنه أمره أَن يجمع بَين صفتيه وهما: الرَّسُول وَالنَّبِيّ، صَرِيحًا وَإِن كَانَ وصف الرسَالَة يسْتَلْزم وصف النُّبُوَّة. وَمِنْهَا: أَن أَلْفَاظ الْأَذْكَار توقيفية فِي تعْيين اللَّفْظ وَتَقْدِير الثَّوَاب، فَرُبمَا كَانَ فِي اللَّفْظ زِيَادَة تَبْيِين لَيْسَ فِي(3/188)
الآخر، أَن كَانَ يرادفه فِي الظَّاهِر. وَمِنْهَا: أَنه لَعَلَّه أوحى إِلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ. فَرَأى أَن يقف عِنْده. وَمِنْهَا: أَن ذكره احْتِرَازًا عَمَّن أرسل من غَيره نبوة، كجبريل وَغَيره من الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم السَّلَام، لأَنهم رسل الْأَنْبِيَاء. وَمِنْهَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون رده دفعا للتكرار، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الأول: (وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت) ، وَمِنْهَا: أَن النَّبِي. فعيل، بِمَعْنى فَاعل من النبأ، وَهُوَ الْخَبَر لِأَنَّهُ أنبأ عَن الله تَعَالَى، أَي: أخبر. وَقيل: إِنَّه مُشْتَقّ من النُّبُوَّة. وَهُوَ الشَّيْء الْمُرْتَفع ورد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبَراء حِين قَالَ: (وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت) بِمَا رد عَلَيْهِ ليختلف اللفظان، وَيجمع البنائين معنى الِارْتفَاع والإرسال، وَيكون تعديداً للنعمة فِي الْحَالَتَيْنِ، وتعظيماً للمنة على الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ بَعضهم: وَلِأَن لفظ النَّبِي، أمدح من لفظ: الرَّسُول. قلت: هَذَا غير موجه. لِأَن لفظ النَّبِي، كَيفَ يكون أمدح وَهُوَ لَا يسْتَلْزم الرسَالَة بل لفظ الرَّسُول أمدح لِأَنَّهُ يسْتَلْزم النُّبُوَّة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (فَتَوَضَّأ) الْفَاء فِيهِ جَوَاب قَوْله: (رَغْبَة وَرَهْبَة) منصوبان على الْمَفْعُول لَهُ على طَريقَة اللف والنشر، أَي فوضت أموري إِلَيْك رَغْبَة، وألجأت ظَهْري عَن المكاره والشدائد إِلَيْك رهبة مِنْك، لِأَنَّهُ لَا ملْجأ وَلَا منجأ مِنْك إِلَّا إِلَيْك وَيجوز أَن يكون انتصابهما على الْحَال بِمَعْنى: رَاغِبًا وراهباً. قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يكون رَاغِبًا وراهباً فِي حَالَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ متنافيان؟ قلت: فِيهِ حذل تَقْدِيره رَاغِبًا إِلَيْك، وراهباً مِنْك. فَإِن قلت: إِذا كَانَ التَّقْدِير: رَاهِبًا مِنْك، كَيفَ اسْتعْمل بِكَلِمَة إِلَى، والرهبة لَا تسْتَعْمل إلاَّ بِكَلِمَة. من؟ قلت: إِلَيْك مُتَعَلق برغبة، وَأعْطِي للرهبة حكمهَا، وَالْعرب تفعل ذَلِك كثيرا، كَقَوْل بَعضهم.
(وَرَأَيْت بعلك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحاً)
وَالرمْح لَا يتقلد، وكقول الآخر.
علفتها تبناً وَمَاء بَارِدًا
وَالْمَاء لَا يعلف. قَوْله: (لَا ملْجأ وَلَا منجأ) إعرابهما مثل إِعْرَاب عصى، وَفِي التَّرْكِيب خَمْسَة أوجه لِأَنَّهُ مثل: لَا حول وَلَا قُوَّة إلاَّ بِاللَّه، وَالْفرق بَين نَصبه وفتحه بِالتَّنْوِينِ، وَعند التَّنْوِين تسْقط الْألف، ثمَّ إنَّهُمَا كَانَا مصدري يتنازعان فِي مِنْك، وَإِن كَانَا مكانين فَلَا إِذْ اسْم الْمَكَان لَا يعْمل، وَتَقْدِيره، لَا ملْجأ مِنْك إِلَى أحد إلاَّ إِلَيْك، وَلَا منجأ إلاَّ إِلَيْك. قَوْله: (آمَنت بكتابك) أَي: صدقت أَنه كتابك. وَقَوله: (الَّذِي أنزلت) صفته، وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف، وَالْمرَاد بِالْكتاب الْقُرْآن، وَإِنَّمَا خصص الْكتاب بِالصّفةِ لتنَاوله جَمِيع الْكتب المنزّلة فَإِن قيل أَيْن الْعُمُوم هَهُنَا حَتَّى يَجِيء التخصص قلت الْمُفْرد الْمُضَاف يقيدد الْعُمُوم لِأَن الْمعرفَة. بِالْإِضَافَة كالمعرف بِاللَّامِ يحْتَمل الْجِنْس والاستغراق والعهد، فَلفظ الْكتاب الْمُضَاف هَاهُنَا يحْتَمل لجَمِيع الْكتب ولجنس الْكتب ولبعضها كالقرآن، وَقَالُوا: جَمِيع المعارف كَذَلِك وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: رَحمَه الله تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم} (سُورَة الْبَقَرَة: 6) فِي أول الْبَقَرَة: يجوز أَن يكون للْعهد، وَأَن يُرَاد بهم نَاس بأعيانهم، كَأبي جهل وَأبي لَهب والوليد بن الْمُغيرَة وأضرابهم، وَأَن يكون للْجِنْس متناولاً مِنْهُم كل من صمم على كفره انْتهى. قلت: التَّحْقِيق أَن الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس مَعْنَاهُ جمَاعَة الأحاد، وَهِي أَعم من أَن يكون جَمِيع الْآحَاد أَو بَعْضهَا، فَهُوَ إِذا أطلق احْتمل الْعُمُوم والاستغراق، وَاحْتمل الْخُصُوص، وَالْحمل على وَاحِد مِنْهُمَا يتَوَقَّف على الْقَرِينَة كَمَا فِي الْمُشْتَرك، هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ، وَصَاحب (الْمِفْتَاح) وَمن تبعهما وَهُوَ خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ أَئِمَّة الْأُصُول.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام. مِنْهَا مَا قَالَه الْخطابِيّ: فِيهِ: حجَّة لمن منع رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَغَيره، وَكَانَ يذهب هَذَا الْمَذْهَب: أَبُو الْعَبَّاس النَّحْوِيّ، وَيَقُول: مَا من لَفظه من الْأَلْفَاظ المتناظرة فِي كَلَامهم إلاَّ وَبَينهَا وَبَين صاحبتها فرق، وَإِن دق ولطف كَقَوْلِه: بلَى وَنعم قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْمُحدثين، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَلَكِن لَا حجَّة فِي هَذَا للمانعين لِأَنَّهُ يحْتَمل الْأَوْجه الَّتِي ذَكرنَاهَا بِخِلَاف غَيره. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطال: فِيهِ أَن الْوضُوء عِنْد النّوم مَنْدُوب إِلَيْهِ مَرْغُوب فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاء، لِأَنَّهُ قد تقبض روحه فِي نَومه فَيكون قد ختم عمله بِالْوضُوءِ وَالدُّعَاء الَّذِي هُوَ أفضل الْأَعْمَال، ثمَّ إِن هَذَا الْوضُوء مُسْتَحبّ وَإِن كَانَ متوضئاً كَفاهُ ذَلِك الْوضُوء، لِأَن الْمَقْصُود النّوم على طَهَارَة مَخَافَة أَن يَمُوت فِي ليلته، وَيكون أصدق لرؤياه وَأبْعد من تلعب الشَّيْطَان بِهِ فِي مَنَامه.(3/189)
وَمِنْهَا: النّوم على الشق الْأَيْمن لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يحب التَّيَامُن، وَلِأَنَّهُ أسْرع إِلَى الانتباه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَقُول: وَإِلَى انحدار الطَّعَام كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي الْكتب الطّيبَة. قلت: الَّذِي ذكره الْأَطِبَّاء خلاف هَذَا فَإِنَّهُم قَالُوا النّوم على الْأَيْسَر روح للبدن وَأقرب إِلَى انهضام الطَّعَام، وَلَكِن اتِّبَاع السّنة أَحَق وَأولى. وَمِنْهَا: ذكر الله تَعَالَى لتَكون خَاتِمَة عمله ذَلِك اللَّهُمَّ اختم لنا بِالْخَيرِ.
(كتاب الغسْلِ)
بِسم الله الرحمن الرَّحِيم
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْغسْل، هُوَ بِضَم الْغَيْن لِأَنَّهُ اسْم للاغتسال، وَهُوَ: إسالة المَاء وإمراه على الْجِسْم، وبفتح الْغَيْن مصدر. وَفِي (الْمُحكم) غسل الشَّيْء يغسلهُ غسلا وغسلاً، وَهَذَا لم يفرق بَين الْفَتْح وَالضَّم وَجعل كِلَاهُمَا مصدرا وَغَيره يَقُول بِالْفَتْح مصدر، وبالضم اسْم، وبالكسر اسْم لما يَجْعَل مَعَ المَاء كالأسنان وَنَحْوه، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بَاب الْغسْل وَهَذَا أوجه لِأَن الْكتاب يجمع الْأَنْوَاع وَالْغسْل نوع وَاحِد من أَنْوَاع الطَّهَارَة وَإِن كَانَ فِي نَفسه يَتَعَدَّد: وَكَذَا حذفت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة غَيره الْبَسْمَلَة. ثمَّ كتاب الْغسْل. ثمَّ إِنَّه لما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة الصُّغْرَى بأنواعها شرع فِي بَيَان الطَّهَارَة الْكُبْرَى بأنواعها، وَتَقْدِيم الصُّغْرَى ظَاهر لِكَثْرَة دوراتها بِخِلَاف الْكُبْرَى.
وَقَول اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّرُوا وَإِنْ تتُمْ مَرْضَى إِوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعيِداً طَيِباً فامْسَحُوا بِوُوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يِرِيدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدْ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَلَلَّكُمْ تَشْكَرُونَ} . وقوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ علَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءَ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُواً غَفُوراً} (سُورَة النِّسَاء: 43) .
افْتتح كتاب الْغسْل بالآيتين الكريمتين إشعاراً بِأَن وجوب الْغسْل على الْجنب بِنَصّ الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) أَي: إغسلوا أبدانكم على وَجه الْمُبَالغَة، وَالْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والإثنان وَالْجمع والمذكر والمؤنث لِأَنَّهُ اسْم جرى مجْرى الْمصدر الَّذِي هُوَ الإجناب، يُقَال: أجنب يجنب إجناباً، والجنابة الِاسْم، وَهُوَ فِي اللُّغَة الْبعد، وَسمي الْإِنْسَان جنبا لِأَنَّهُ نهي أَن يقرب من مَوَاضِع الصَّلَاة مَا لم يتَطَهَّر، وَيجمع على أجناب وجنبين. وَقَوله: {فاطهروا} الْقَاعِدَة تَقْتَضِي أَن يكون أَصله، تطهروا فَلَمَّا قصدُوا الْإِدْغَام قلبت التَّاء طاء فأدغم فِي الطَّاء، واجتلبت همزَة الْوَصْل، وَمَعْنَاهُ: طهروا أبدانكم. قلت: أَصله من بَاب التفعل ليدل على التَّكَلُّف والاعتمال، وَكَذَلِكَ بَاب الافتعال يدل عَلَيْهِ، نَحْو: اطهر أَصله من: طهر يطهر، فَنقل طهر، إِلَى بَاب الافتعال، فَصَارَ: أطهر، على وزن افتعل فقلبت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء وَفِيه من التَّكَلُّف مَا لَيْسَ فِي طهر، وَتَمام الْآيَة {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} (سُورَة النِّسَاء:) وفيهَا من الْأَحْكَام مَا استنبط مِنْهَا الْفُقَهَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي سُورَة النِّسَاء. {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إلاَّ عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا} (سُورَة النِّسَاء: 2) قَوْله: {وَلَا جنبا(3/190)
إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} (سُورَة النِّسَاء: 43) يدل على فَرضِيَّة الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة، فَقَالَ بَعضهم: قدم الْآيَة الَّتِي من سرة الْمَائِدَة على الْآيَة الَّتِي من سُورَة النِّسَاء لدقيقة. وَهِي أَن لَفظه. {فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) الَّتِي فِي الْمَائِدَة فِيهَا إجنال وَلَفظه {} حَتَّى تغتسلوا الَّتِي فِي النِّسَاء فِيهَا تَصْرِيح بالاغتسال، وَبَيَان للتطهر الْمَذْكُور. قلت: لَا إِجْمَال فِي {فاطهروا} لِأَن معنى {فاطهروا} أغسلوا أبدانكم كَمَا ذكرنَا، وتطهر الْبدن هُوَ الِاغْتِسَال فَلَا إِجْمَال لَا لُغَة وَلَا اصْطِلَاحا على مَا لَا يخفى.
1 - (بابُ الوُضوءِ قَبْلَ الغُسْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء قبل أَن يشرع فِي الِاغْتِسَال، هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ أم سنة؟ وَقَالَ بَعضهم: بَاب الْوضُوء قبل الْغسْل، أَي: اسْتِحْبَابه قَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) فرض الله تَعَالَى الْغسْل مُطلقًا لم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ قبل شَيْء فكيفما جَاءَ بِهِ المغتسل أَجزَأَهُ إِذا أَتَى بِغسْل جَمِيع بدنه. انْتهى قلت: إِن كَانَ النَّص مُطلقًا وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ فعائشة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ذكرت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة قبل غسله فَيكون سنة غير وَاجِب. أما كَونه سنة فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما كَونه غير وَاجِب فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي الْغسْل، كالحائض إِذا اجنبت يكفيها غسل وَاحِد، وَمِنْهُم من أوجبه إِذا كَانَ مُحدثا قبل الْجَنَابَة. وَقَالَ دَاوُد: يجب الْوضُوء وَالْغسْل فِي الْجَنَابَة الْمُجَرَّدَة بِأَن أَتَى الْغُلَام أَو الْبَهِيمَة أَو لف ذكره بِخرقَة فَأنْزل، وَفِي أحد قولي الشَّافِعِي: يلْزمه الْوضُوء فِي الْجَنَابَة مَعَ الْحَدث، وَفِي قَوْله الآخر: يقْتَصر على الْغسْل لَكِن يلْزم أَن يَنْوِي الْحَدث والجنابة، وَفِي قَول: يَكْفِي نِيَّة الْغسْل، وَمِنْهُم من أوجب الْوضُوء بعد الْغسْل، وَأنْكرهُ عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل) رَوَاهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
248 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا اغْتَسَل مِنَ الجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَوَضَّأ كمَا يَتَوَضأُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلِ أَصَابَعَهُ فِي الماءِ فَيُحَلِّلُ بِها أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاَث غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الماءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة طَاهِرَة ذكر رِجَاله ولطائف إِسْنَاده فرجا لَهُ خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا فِي كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ التنيسِي، وَأَبُو هِشَام هُوَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِيه التحديث صِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإحبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث مَوَاضِع. وَفِيه: التنيسِي والكوفي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا مثله فِي الطَّهَارَة، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام فَذكره، وَفِي آخِره. (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) قَالَ وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن هِشَام وَلَيْسَ فِي حَدِيثهمْ، غسل الرجلَيْن وَعند مُسلم، (فيفرغ بِيَمِينِهِ على مَاله شِمَاله فَيغسل فرجه) وَعند ابْن خُزَيْمَة وَيصب من الْإِنَاء على يَده الْيُمْنَى فيفرغ عَلَيْهَا فيغسلها، ثمَّ يصب على شِمَاله فَيغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، وَنحن نحث على رأْسنا ثَلَاث حثيات أَو قَالَت: ثَلَاثَة غرفات) وَفِي (الْمُوَطَّأ) سُئِلت عَن غسل الْمَرْأَة فَقَالَت لتحفن على رَأسهَا ثَلَاث حفنات، ولتضغث رَأسهَا بِيَدِهَا يَعْنِي تضمه وتجمعه وتعمه بِيَدِهَا لتدخله المَاء وَعند الْبَزَّار (كَانَ يخلل رَأسه مرَّتَيْنِ فِي غسل الْجَنَابَة) وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث رجل مِمَّن سَأَلَهُ عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغسل رَأسه الخطمي وَهُوَ جنب يجتزىء بذلك وَلَا يصب عَلَيْهِ المَاء) . وَفِي لفظ: (حَتَّى إِذا رأى أَنه قد أصَاب الْبشرَة) ، أَو أنقى الْبشرَة، أفرغ على رَأسه ثَلَاثًا، وَإِذا فضلت فضلَة صبها عَلَيْهِ) وَعند الطوسي مصححاً. (ثمَّ يشرب شعره المَاء ثمَّ يحثي على رَأسه ثَلَاث حثيات) وَفِي لفظ: (ثمَّ غسل مرافقه وأفاض عَلَيْهِ المَاء فَإِذا أنقاهما أَهْوى إِلَى حَائِط ثمَّ يسْتَقْبل الْوضُوء ثمَّ يفِيض المَاء على رَأسه) ، وَفِي لفظ: (إِن شِئْتُم لأريكم أثر يَده فِي الْحَائِط حَيْثُ كَانَ يغْتَسل من الْجَنَابَة) وَعند ابْن مَاجَه: (كَانَ يفِيض على كفيه ثَلَاث مَرَّات ثمَّ يدخلهَا الْإِنَاء، ثمَّ يغسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات، وَأما نَحن فنغسل رؤوسنا خمس مرَارًا من أجل الضفر) .
ذكر لغاته وَإِعْرَابه(3/191)
ومعانيه قَوْله: (كَانَ إِذا اغْتسل) أَي: كَانَ إِذا الثَّانِي: راد أَن يغْتَسل، وَكلمَة من فِي قَوْله: (من الْجَنَابَة) سبيبة يَعْنِي لأجل الْجَنَابَة فَإِن قلت: لم ذكر فِي ثَلَاث مَوَاضِع وَاضع بِلَفْظ الْمَاضِي وَهِي قَوْله: (بَدَأَ) و (فَغسل) و (ثمَّ تَوَضَّأ) وَذكر الْبَوَاقِي بِلَفْظ الْمُضَارع وَهِي قَوْله: (يدْخل) و (فيخال) و (يصب وَيفِيض) . قلت: النُّكْتَة فِيهِ أَن إِذا كَانَت شَرْطِيَّة الْمَاضِي بِمَعْنى الْمُسْتَقْبل، وَالْكل مُسْتَقْبل معنى، وَأما الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ فللإشعار بِالْفرقِ بِمَا هُوَ خَارج من الْغسْل وَمَا لَيْسَ كذكل، وَإِن كَانَتَا ظرفية فَمَا جَاءَ مَاضِيا فَهُوَ على أَصله، وَعدل عَن الأَصْل إِلَى الْمُضَارع لاستحضار صورته للسامعين. قَوْله: (بَدَأَ فَغسل يَدَيْهِ) هَذَا الْغسْل يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن يكون لأجل التَّنْظِيف مِمَّا بِهِ يكره. الثَّانِي: أَن يكون هُوَ الْغسْل الْمَشْرُوع عِنْد الْقيام من النّوم، وَيشْهد لَهُ مَا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام. (قبل أَن يدخلهما فِي الْإِنَاء) . قَوْله: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) احْتَرز بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ الَّذِي هُوَ غسل الْيَدَيْنِ فَقَط. فَإِن قلت: روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يمسح رَأسه فِي هَذَا الْوضُوء، وَهُوَ خلاف مَا فِي الحَدِيث. قلت: الصَّحِيح فِي الْمَذْهَب أَنه يمسحها، نَص عَلَيْهِ فِي (الْمَبْسُوط) لِأَنَّهُ أتم للْغسْل. قَوْله: (فيخلل بهَا) أَي بأصابعه الَّتِي أدخلها فِي المَاء قَوْله: (أصُول الشّعْر) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أصُول شعره، أَي شعر رَأسه، وتدل عَلَيْهِ رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام: (يحلل بهَا شقّ رَأسه الْأَيْمن فَيتبع بهَا أصُول الشّعْر، ثمَّ يفعل بشق رَأسه الْأَيْسَر) كَذَلِك رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (ثَلَاث غرف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، جمع غرفَة بِالضَّمِّ أَيْضا، وَهِي قدر مَا يغْرف من المَاء بالكف، وَفِي بعض النّسخ: غرفات وَالْأول رِوَايَة الْكشميهني، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح لِأَن مُمَيّز الثَّلَاثَة يَنْبَغِي أَن يكون من جموع الْقلَّة، وَلَكِن وَجه ذكر: الغرف، أَن جمع الْكَثْرَة يقوم مقَام جمع الْقلَّة وَبِالْعَكْسِ، وَعند الْكُوفِيّين. فعل: بِضَم الْفَاء وَكسرهَا من بَاب جموع الْقلَّة: لقَوْله تَعَالَى: {فَأتوا بِعشر سور} (سُورَة هود: 13) وَقَوله تَعَالَى: {وَثَمَانِية حجج} (سُورَة الْقَصَص: 27) قَوْله: (ثمَّ يفِيض) أَي: يسيل من الْإِفَاضَة وَهِي الإسالة. قَوْله: (على جلده كُله) هَذَا التَّأْكِيد بِلَفْظ، الْكل، يدل على أَنه عمم جَمِيع جسده بِالْغسْلِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن قَوْله (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يدل على الْمُلَازمَة والتكرار فَدلَّ ذَلِك على اسْتِحْبَاب غسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء، وَالْغسْل إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهَا شَيْء مِمَّا يجب إِزَالَته فَحِينَئِذٍ يكون وَاجِبا. وَمِنْهَا: أَن تَقْدِيم الْوضُوء قبل الْغسْل سنة، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب. وَمِنْهَا: أَن ظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) يدل على أَنه لَا يؤخلا غسل رجلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَح من قَول لشافعي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يُؤَخر عملا بِظَاهِر حَدِيث ميمونه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَله قَول ثَالِث: إِن كَانَ الْموضع نظيفاً فَلَا يُؤَخر، وَإِن كَانَ وسخاً أَو المَاء قَلِيلا أخر جمعا بَين الْأَحَادِيث، وَعند أَصْحَابنَا إِن كَانَ فِي مستنقع المَاء يُؤَخر وإلاَّ فَلَا وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا. وَمِنْهَا: التَّخْلِيل فِي شعر الرَّأْس واللحية لظَاهِر قَوْله: (فيخلل أصُول الشّعْر) وَهُوَ وَاجِب عِنْد أَصْحَابنَا، وَسنة فِي الْوضُوء، وَعند الشَّافِعِيَّة وَاجِب فِي قَول: وَسنة فِي قَول. وَقيل: وَاجِب فِي الرَّأْس وَفِي اللِّحْيَة قَولَانِ للماليكة، فروى ابْن الْقَاسِم عدم الْوُجُوب، وروى أَشهب الْوُجُوب، وَنقل ابْن بطال فِي بَاب: تَخْلِيل الشّعْر، الْإِجْمَاع على تَخْلِيل شعر الرَّأْس، وقاسوا اللِّحْيَة عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: أَنه يصب على رَأسه ثَلَاث غرف بيدَيْهِ كَمَا هُوَ فِي الحَدِيث، وَعَن الشَّافِعِيَّة اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي الرَّأْس، وَبَاقِي الْجَسَد مثله. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ والقرطبي من الماليكة: لَا يسْتَحبّ التَّثْلِيث فِي الْغسْل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذِه الثَّلَاث أَنه غسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات، لِأَن التّكْرَار فِي الْغسْل غير مَشْرُوع لما فِي ذَلِك من الْمَشَقَّة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك الْعدَد لِأَنَّهُ بَدَأَ بِجَانِب رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ على وسط رَأسه، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء نحوالحلاب، فَأخذ بكفه فَبَدَأَ بشق رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ أَخذ بكفيه، فَقَالَ بهما على رَأسه) رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد على مَا يَجِيء. وَمِنْهَا: أَن قَوْلهَا (ثمَّ يفِيض المَاء على جلده كُله) لَا يفهم مِنْهُ الدَّلْك، وَهُوَ مُسْتَحبّ عندنَا وَعند الشَّافِعِي وَعند أَحْمد وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَخَالف مَالك والمزني فذهبا إِلَى وُجُوبه بِالْقِيَاسِ على الوضو، وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا لَازم. قلت: لَيْسَ بِلَازِم، إِذْ لَا نسلم وجوب الدَّلْك فِي الْوضُوء وَمِنْهَا جَوَاز إِدْخَال الْأَصَابِع فِي المَاء.
249 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ عنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ تَوَضِّأَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُضُوءَ بِلصَّلاةِ غَيْرَ رَجْلَيهِ وَغَسَلَ فَرْجِهُ وَما أَصَابهُ مِنَ الأَذَى ثُمَّ أَفَاضَ(3/192)
عَلَيْهِ الماءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغسلَهُمَا هَذِهِ غُسْلَهُ مِنَ الجَنابَة..
هَذَا الثَّانِي من حَدِيثي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: مُحَمَّد بن يُوسُف اليكندي، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَسليمَان الْأَعْمَش ابْن مهْرَان، تقدمُوا مرَارًا، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. مر فِي بَاب التَّسْمِيَة. وَالْخَامِس: كريب، بِضَم الْكَاف، تقدم فِي بَاب التَّخْفِيف فِي الْوضُوء. وَالسَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس. وَالسَّابِع: ميمونه بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَالَة ابْن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع: وَفِيه: سُفْيَان غير مَنْسُوب، قَالَت جمَاعَة من الشُّرَّاح وَغَيرهم: إِنَّه سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي كِتَابه (الْأَطْرَاف) حَدِيث فِي غسل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجَنَابَة مِنْهُم من طوله، وَمِنْهُم من اختسره، ثمَّ وضع صُورَة (خَ) بالأحمر بِمَعْنى: أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَهَذَا دلّ على أَن سُفْيَان فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف الَّذِي هَاهُنَا هُوَ الثَّوْريّ، وَأما ابْن عُيَيْنَة فروايته عَن عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك، وَلم يُمَيّز الْكرْمَانِي ذَلِك فخلط. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن مَحْبُوب، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَاحِد، وَعَن مُوسَى عَن أبي عوَانَة، وَعَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه، وَعَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى، وَعَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة، سبعتهم عَن الْأَعْمَش عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس بِهِ، وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَن فِيهِ: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على التَّابِعِيّ عَن الْوَلَاء وَفِيه: صحابيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر الْآن أَن البُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع عشرَة أَو نَحْوهَا. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَأبي سعيد الْأَشَج، خمستهم عَن وَكِيع، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن إِدْرِيس، وَعَن عَليّ بن حجر، وَعَن عِيسَى بن يُونُس، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى القارىء عَن زَائِدَة، خمستهم عَن الْأَعْمَش بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن يُوسُف بن عِيسَى بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن مُحَمَّد بن يُوسُف بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير، وَعَن قُتَيْبَة عَن عُبَيْدَة بن حميد، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِقصَّة، نفض المَاء وَترك التنشيف.
ذكر بَيَان مَا فِيهِ لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (غير رجلَيْهِ) فِيهِ التَّصْرِيح بِتَأْخِير الرجلَيْن فِي وضوء الْغسْل، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، على أَن المغتسل إِذا تَوَضَّأ أَو لَا يُؤَخر رجلَيْهِ، وَلَكِن أَكثر أَصْحَابنَا حملوه على أَنَّهُمَا إِن كَانَت فِي مُجْتَمع المَاء تَوَضَّأ ويؤخرهما وَإِن لم تَكُونَا فِيهِ لَا يؤخرهما، وكل مَا جَاءَ من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا مَحْمُول على مَا قُلْنَا: وَهَذَا هُوَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات الَّتِي فِي بَعْضهَا تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم، وَيُمكن الْجمع بِأَن تحمل رِوَايَة عَائِشَة على الْمجَاز وَأما على حَالَة أُخْرَى. قلت: هَذَا خطأ لِأَن الْمجَاز إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة وَمَا الدَّاعِي لَهَا فِي رِوَايَة عَائِشَة حَتَّى يحمل كَلَامهَا على الْمجَاز؟ وَمَا الصَّوَاب الَّذِي يرجع إِلَيْهِ إلاَّ مَا قُلْنَا: وَقَالَ الْكرْمَانِي: غير رجلَيْهِ. فَإِن قلت: بالتوفيق بَينه وَبَين رِوَايَة عَائِشَة؟ قلت: زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُول فَيحمل الْمُطلق على الْمُقَيد، فرواية عَائِشَة مَحْمُولَة على أَن المُرَاد بِوضُوء الصَّلَاة أَكْثَره، وَهُوَ مَا سوى الرجلَيْن. قلت: قد ذكرنَا الْآن مَا يرد مَا ذكره، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُقَال: إنَّهُمَا كَانَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا. قلت: هَذَا فِي الْحَقِيقَة حَاصِل مَا ذكرنَا عَن قريب عِنْد قَوْلنَا: لَكِن أَكثر أَصْحَابنَا إِلَخ. قَوْله: (وَغسل فرجه) أَي: ذكره فَدلَّ هَذَا على صِحَة إِطْلَاق الْفرج على الذّكر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: غسل الْفرج مقدم على التوضىء فَلم آخِره؟ قلت: لَا يجب التَّقْدِيم إِذْ الْوَاو، لَيْسَ للتَّرْتِيب، أَو أَنه للْحَال انْتهى. قلت: كَيفَ يَقُول: لَا يجب التَّقْدِيم وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَقَوله إِذْ الْوَاو وَلَيْسَ للتَّرْتِيب، حجَّة عَلَيْهِ لأَنهم يدعونَ أَن الْوَاو فِي الأَصْل للتَّرْتِيب، وَلم يقل بِهِ أحد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ؟ وَقَوله: أَو أَنه للْحَال، غير سديد وَلَا موجه، ونه كَيفَ يتَوَضَّأ فِي حَالَة غسل فرجه؟ وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، لِأَن غسل الْفرج كَانَ قبل الْوضُوء إِذْ الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب انْتهى. قلت:(3/193)
هَذَا تعسف وَهُوَ أَيْضا حجَّة عَلَيْهِ، مَعَ أَن مَا ذكره خلاف الأَصْل، وَالصَّوَاب أَن الْوَاو للْجمع فِي أصل الْوَضع، وَالْمعْنَى: أَنه جمع بَين الْوضُوء وَغسل الْفرج، وَهُوَ، وَإِن كَانَ لَا يَقْتَضِي تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر على التَّعْيِين، فقد بَين ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن الثَّوْريّ، فَذكر أَولا غسل الْيَدَيْنِ ثمَّ غسل الْفرج ثمَّ مسح يَده على الْحَائِط ثمَّ الْوضُوء غير رجلَيْهِ وَذكره ب ثمَّ، الدَّالَّة على التَّرْتِيب فِي جَمِيع ذَلِك، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا قَوْله: (وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى) أَي: المستقذر الطَّاهِر، وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى) لَيْسَ بِظَاهِر فِي النَّجَاسَة. قلت: هَذَا مُكَابَرَة فِيمَا قَالَه. قَوْله: (هَذَا غسله) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَهِي على الأَصْل، وَعند غَيره (هَذِه غسله) بالتأنيث، فَيكون إشار إِلَى الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة أَي: الْأَفْعَال الْمَذْكُور صفة غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَم الْغَيْن.
وَمِمَّا لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة، وَذكر فِي حَدِيث مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من الزِّيَادَة: تَأْخِير الرجلَيْن إِلَى الْفَرَاغ من الِاغْتِسَال، وَقد ذكرنَا عَن قريب. وَفِيه: التَّعَرُّض لغسل الْفرج. وَفِيه: غسل مَا أَصَابَهُ من الْأَذَى وَمِمَّا ذكره البُخَارِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة على مَا يَأْتِي: (ثمَّ ضرب بِشمَالِهِ الأَرْض فدلكها دلكا شَدِيدا، ثمَّ تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث حفنات ملْء كَفه) وَفِي آخِره: (ثمَّ أَتَى بالمنديل فَرده) ، وَفِي رِوَايَة (وَجعل يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا ينْقضه) . وَفِي لفظ. (ثمَّ غسر فرجه ثمَّ مَال بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض فمسحها بِالتُّرَابِ ثمَّ غسلهَا) وَفِي لفظ (وضعت لَهُ غسلا فَسترته بِثَوْب) وَفِي لفظ: (فأكفا بِيَمِينِهِ على شِمَاله مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَفِي لفظ: (ثمَّ أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله فَغسل مذاكيره) وَفِيه (ثمَّ غسل رَأسه ثَلَاثًا) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا فرغ من غسل غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي لفظ: (فَغسل كفيه مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَعند مُسلم: (فَغسل فرجه وَمَا أَصَابَهُ ثمَّ مسخ يَده بِالْحَائِطِ أَو الأَرْض) ، وَفِي (صَحِيح) الإسماعيل: (مسح يَده بالجدار، وَحين قضى غسله غسل رجلَيْهِ) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا أفرغ من غسل فرجه ذَلِك يَده بِالْحَائِطِ ثمَّ غسلهَا، فَلَمَّا فرغ من غسلهَا غسل قَدَمَيْهِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَقد بَين زَائِدَة أَن قَوْله: (من الْجَنَابَة) ، لَيْسَ من قَول مَيْمُونَة وَلَا ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا هُوَ عَن سَالم، وَعند ابْن خُزَيْمَة (ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث حفنات ملْء كفيه، فَأتى بمنديل فَأبى أَن يقبله) وَعند أبي عَليّ الطوسي فِي كتاب (الْأَحْكَام) مصححاً (فأنيته بِثَوْب فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا) وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ غسل سَائِر جسده قبل كفيه) وَعند أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ: (فأعطيته ملحفة فَأبى) قَالَ أَبُو مُحَمَّد: هَذَا أحب إِلَيّ من حَدِيث عَائِشَة. وَعند ابْن مَاجَه: (فأكفا الْإِنَاء بِشمَالِهِ على يَمِينه فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على فرجه ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ ثمَّ تمضمض واستنشق وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على سَائِر جسده، ثمَّ انتحى فَغسل رجلَيْهِ) .
وَفِي هَذِه الرِّوَايَات. إستحباب الإفراغ بِالْيَمِينِ على الشمَال للمغترف من المَاء. وفيهَا: مَشْرُوعِيَّة الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة. وَقَالَ بَعضهم: وَتمسك الْحَنَفِيَّة لِلْقَوْلِ: بوجوبهما، وَتعقب بِأَن الْفِعْل الْمُجَرّد لَا يدل على الْوُجُوب إلاَّ إِذا كَانَ بَيَانا لمجمل تعلق بِهِ الْوُجُوب، وَلَيْسَ الْأَمر هُنَا كَذَلِك. قلت: لَيْسَ الْأَمر هُنَا كَذَلِك لأَنهم أَنما أوجبوهما فِي الْغسْل بِالنَّصِّ لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) أَي: طهروا أبدانكم، وَهَذَا يَشْمَل الْأنف والفم، وَقد حققناه فِيمَا مضى. وفيهَا: اسْتِحْبَاب مسح الْيَد بِالتُّرَابِ فِي الْحَائِط وَفِي الأَرْض، وَقَالَ بَعضهم: وَأبْعد من اسْتدلَّ بِهِ على نجاس الْمَنِيّ أَو على نَجَاسَة رُطُوبَة الْفرج. قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أبعده، لِأَن من اسْتدلَّ بِنَجَاسَة الْمَنِيّ أَو على نَجَاسَة رُطُوبَة الْفرج مَا اكْتفى بِهَذَا فِي احتجاجه، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مستقصى. وفيهَا: اسْتِحْبَاب التستر فِي الْغسْل وَلَو كَانَ فِي الْبَيْت. وفيهَا: جَوَاز الِاسْتِعَانَة بإحضار مَاء الْغسْل أَو الْوضُوء. وفيهَا: خدمَة الزَّوْجَات للأزواج. وفيهَا: الصب بِالْيَمِينِ على الشمَال. وفيهَا: كَرَاهَة التنشيف بالمنديل وَنَحْوه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ على خَمْسَة أوجه أشهرها: أَن الْمُسْتَحبّ تَركه، وَقيل: مَكْرُوه وَقيل مُبَاح وَقيل مُسْتَحبّ وَقيل مَكْرُوه فِي الصَّيف مُبَاح فِي الشتَاء، وَيُقَال لَا حجَّة فِي الحَدِيث لكَرَاهَة التنشيف لاحْتِمَال أَن إباءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ مَا يتنشف بِهِ لأمر آخر يتَعَلَّق بالخرقة، أَو لكَونه كَانَ مستعجلاً أَو غير ذَلِك. وَقَالَ الْمُهلب: يحْتَمل تَركه الثوبة لإبقاء تَركه بَلل المَاء أَو للتواضع أَو لشَيْء رَآهُ فِي الثَّوْب من حَرِير أَو وسخ وَقد وَقع عِنْد أَحْمد والإسماعيلي من رِوَايَة أبي عوَانَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش، قَالَ فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَقَالَ: لَا بَأْس بالمنديل وَإِنَّمَا رده مَخَافَة أَن يصير عَادَة وَقَالَ التَّيْمِيّ فِي شَرحه لهَذَا الحَدِيث فِيهِ دَلِيل على أَنه كَانَ يتنشف، وَلَوْلَا ذَلِك لم يَأْته بالمنديل. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد، نفضه المَاء بِيَدِهِ يدل على أَن لَا كَرَاهَة فِي التنشيف، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا إِزَالَة قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على ذَلِك، لِأَن التنشيف من عَادَة المتكبرين ورده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّوْب لأجل التَّوَاضُع مُخَالفَة لَهُم.
وَقد ورد أَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب.(3/194)
مِنْهَا: حَدِيث أم هانىء عِنْد الشَّيْخَيْنِ: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غسله، فسترت عَلَيْهِ فَاطِمَة ثمَّ أَخذ ثَوْبه فالتحف بِهِ) هَذَا ظَاهر فِي التنشيف. وَمِنْهَا: حَدِيث قيس بن سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء فاغتسل ثمَّ أتيناه بملحفة ورسية فَاشْتَمَلَ بهَا، فَكَأَنِّي أنظر إِلَى أثر الورس عَلَيْهِ، وَصَححهُ ابْن حزم. وَمِنْهَا: حَدِيث الْوَضِين بن عطار رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة عَن سلمَان: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَقلب جُبَّة صوف كَانَت عَلَيْهِ فَمسح بهَا وَجهه وَهَذَا ضَعِيف عِنْد جمَاعَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَضَعفه، وَصَححهُ الْحَاكِم. وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ مسح وَجهه بِطرف ثَوْبه) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَضَعفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر: (كَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. وَقَالَ: إِسْنَاده غير قوي. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس مثله وَأعله. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مَرْيَم، إِيَاس بن جَعْفَر، عَن فلَان رجل من الصَّحَابَة: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ منديل أَو خرقَة يمسح بهَا وَجهه إِذا تَوَضَّأ) رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح. وَمِنْهَا: حَدِيث منيب ابْن مدرك الْمَكِّيّ الْأَزْدِيّ قَالَ) (رَأَيْت جَارِيَة تحمل وضوأ ومنديلاً فَأخذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فَتَوَضَّأ وَمسح بالمنديل وَجه) أسْندهُ الإِمَام مغلطاي فِي شَرحه، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَخذ المنديل بعد الْوضُوء عُثْمَان وَالْحسن بن عَليّ وَأَنِّي وَبشير بن أبي مَسْعُود، وَرخّص فِيهِ الْحسن، وَابْن سِيرِين وعلقمة وَالْأسود ومسروق وَالضَّحَّاك، وَكَانَ مَالك وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وَكره عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَمُجاهد وَأَبُو الْعَالِيَة. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة المَاء المتقاطر من أَعْضَاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الْحَنَفِيَّة، فَقَالَ بنجاستة: قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أَتَى بالغلو حَيْثُ لم يدْرك حَقِيقَة مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، لِأَن الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبهم: أَن المَاء الْمُسْتَعْمل طَاهِر حَتَّى يجوز شربه واستعماله فِي الطبيخ والعجين، وَالَّذِي ذهب إِلَى نَجَاسَته لم يقل بِأَنَّهُ نجس فِي حَالَة التقاطر، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا سَالَ من أَعْضَاء المتطهر، وَاجْتمعَ فِي مَكَان.
2 - (بابُ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرأَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الرجل مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين أَبْوَاب هَذَا الْكتاب. أَعنِي: كتاب الْغسْل، ظَاهر لِأَن كلهَا فِيمَا بتعلق بِالْغسْلِ وَمَا يتَعَلَّق بالجنب.
250 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسِ قالَ حدّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائشَةَ قالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَالنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إناءٍ واحدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقالُ لَهُ الفَرَقُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله خَمْسَة: وَقد ذكرُوا وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة، هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، وَالزهْرِيّ هُوَ ابْن مُسلم، وَعُرْوَة بن الزبير، بن الْعَوام. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
الحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن عَليّ، قَالَ: حدّثنا يحيى، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان. قَالَ: حَدثنِي مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِنَاء وَاحِد) .
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (من قدح) بِفتْحَتَيْنِ، وَاحِد الْأَقْدَام الَّتِي للشُّرْب، والقدم: بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال، السهْم قبل أَن يراش ويركب نصله. قَوْله: (الْفرق) بِفَتْح الْقَاف وَفتح الرَّاء، قَالَه القتني وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْأَفْصَح وَقَالَ ابْن التِّين بتسكين الرَّاء، وَحكى ذَلِك عَن أبي زيد وَابْن دُرَيْد وَغَيرهمَا من أهل اللُّغَة، وَعَن ثَعْلَب الْفرق بِالْفَتْح، والمحدثون يسكنونه، وَكَلَام الْعَرَب بِالْفَتْح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْفرق بِالْفَتْح، سِتَّة عشرَة رطلا، وبالإسكان مائ وَعِشْرُونَ رطلا وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ سُفْيَان؟ يَعْنِي ابْن عُيَيْنَة: الْفرق ثَلَاثَة آصَع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَعَلِيهِ الجماهير. وَقيل: صَاعَانِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْفرق مكيال مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ هُوَ سِتَّة عشر رطلا. وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ إسكان الرَّاء جَائِز، وَهُوَ لُغَة فِيهِ، وَهُوَ مِقْدَار ثَلَاثَة أصوع سِتَّة عشر رطلا عِنْد أهل الْحجاز.
ثمَّ الْإِعْرَاب، فَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي (شرح الْمشكاة) قَوْلهَا: (كنت أغتسب أَنا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أبرز الضَّمِير ليعطف عَلَيْهِ الْمظهر. فَإِن قلت: كَيفَ يَسْتَقِيم الْعَطف. إِذْ لَا يُقَال: اغْتسل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هُوَ على(3/195)
تقليب الْمُتَكَلّم على الْغَائِب كَمَا غلب الْمُخَاطب على الْغَائِب فِي قَوْله تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} (سُورَة الْبَقَرَة: 35) (سُورَة الْأَعْرَاف: 19) عطف زَوجك، على: أَنْت فَإِن قلت: الْفَائِدَة فِي تَغْلِيب: اسكن، هِيَ أَن تدم كَانَ أصلا فِي سُكْنى الْجنَّة وحواء عَلَيْهَا السَّلَام، تَابِعَة لَهُ، فَمَا الْفَائِدَة فِيمَا نَحن فِيهِ. قلت: الإيذان بِأَن النِّسَاء مَحل الشَّهَوَات وحاملات للاغتسال فَكُن أصلا فِي. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون التَّقْدِير: اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء مُشْتَرك بيني وَبَينه فيبادرني ويغتسل بِبَعْضِه وَيتْرك مَا بَقِي فاغتسل أَنا مِنْهُ. قلت: يُخَالِفهُ الحَدِيث الآخر، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تَغْتَسِل الْمَرْأَة بِفضل الرجل. انْتهى. وَعَكسه أَيْضا على مَا تقدم فِيمَا مضى. وَقد نقل الْكرْمَانِي فِي شَرحه مَا قَالَه الطَّيِّبِيّ، وَنَقله بَعضهم أَيْضا مُخْتَصرا من غير أيضاح قَوْله: (من إِنَاء وَاحِد من قدح) كلمة من الأولى ابتدائية وَالثَّانيَِة بَيَانِيَّة. قَالَ الْكرْمَانِي: الأولى: أَن يكون قدم بَدَلا من إِنَاء بتكرار حرف الْجَرّ فِي الْبدن. انْتهى وَنَقله بَعضهم فِي شَرحه، وَقَالَ: يحْتَمل أَن يكون. قدح. بَدَلا من إِنَاء. قلت: لَا يُقَال فِي مثل ذَلِك يحْتَمل: لِأَن الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْكرْمَانِي جائزان قطعا غَايَة مَا فِي الْبَاب يرجح أَحدهمَا بالأولوية. كَمَا نبه عَلَيْهِ، ثمَّ هَذَا الْإِنَاء الْمَذْكُور كَانَ من شبه يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَلَفظه. (تورمن شبه) بِفَتْح الشين المعمة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ نوع من النّحاس يُقَال: كوز شبه، وَشبه بِمَعْنى.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْوضُوء، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَفِيه: تطهر الْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَأما الْعَكْس فَجَائِز عِنْد الْجُمْهُور، سَوَاء خلت الْمَرْأَة بِالْمَاءِ أَو لم تخل. وَذهب الإِمَام أَحْمد إِلَى إِنَّهَا إِذا خلت بِالْمَاءِ واستعملته لَا يجوز للرجل اسْتِعْمَال فَضلهَا. فَإِن قلت: ذكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي أَن يغْتَسل الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. قلت: غَابَ عَنهُ الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. فَإِن قلت: ورد نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل الرجل بِفضل الْمَرْأَة. قلت: قَالَ الْخطابِيّ: أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لم يرفع وأطرق أَسَانِيد هَذَا الحَدِيث، وَلَو ثَبت فَهُوَ مَنْسُوخ، وَقد استقضينا الْكَلَام فِي بَاب وضوء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. وَفِيه: طَهَارَة فضل الْجنب وَالْحَائِض. قَالَ الدَّرَاورْدِي: وَفِيه: جَوَاز نظر الرجل إِلَى عَورَة امْرَأَته وَعَكسه، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى أَنه سُئِلَ عَن الرجل ينظر إِلَى فرج امْرَأَته، فَقَالَ: سَأَلت عَطاء فَقَالَ: سَأَلت عَائِشَة، فَذكرت هَذَا الحَدِيث.
3 - (بابُ الغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل بِالْمَاءِ قدر ملْء الصَّاع، لِأَن الصَّاع اسْم للخشبة، فَلَا يتَصَوَّر الْغسْل بِهِ. قَوْله: (وَنَحْوه) أَي: وَنَحْو الصَّاع من الْأَوَانِي الَّتِي يسع فِيهَا مَا يسع فِي الصَّاع، قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّاع الَّذِي يُكَال بِهِ وَهُوَ أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْجمع أصوع، وَإِن شِئْت أبدلت من الْوَاو المضمومة همزَة، والصواع لُغَة فِيهِ وَيُقَال: هُوَ إِنَاء يشرب فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّاع مكيال يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ مُخْتَلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ رَطْل وَثلث بالعراقي. وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وفقهاء الْحجاز. وفيل: هُوَ رطلان، وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة وفقهاء الْعرَاق، فَيكون الصَّاع خَمْسَة أَرْطَال وَثلثا، أَو ثَمَانِيَة أَرْطَال. وَقَالَ عِيَاض: جمع الصَّاع أصوِع وآصع، لَكِن الْجَارِي على الْعَرَبيَّة، أصوع، لَا غير. وَالْوَاحد: صَاع وصواع وصوع، وَيُقَال: أصؤع، بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ مكيال لأهل الْمَدِينَة مَعْرُوف يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد بِمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ الْخَلِيل: الصَّاع طاس يشرب فِيهِ. وَفِي (الْمطَالع) يجمع على أصوع وصيعان. وَقَالَ بَعضهم: قَالَ بعض الْفُقَهَاء من الْحَنَفِيَّة وَغَيرهمَا إِن الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال، وتمسكوا بِمَا روى مُجَاهِد عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: أَنه حرز المَاء ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَالصَّحِيح الأول فَإِن الْحِرْز لَا يُعَارض بِهِ التَّحْدِيد. انْتهى. قلت: هَذ الْعبارَة تدل على أَن هَذَا الْقَائِل لم يعرف أَنه مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة، إِذْ لَو عرف لم يَأْتِ بِهَذِهِ الْعبارَة وَلم ينْفَرد بِهَذَا بل ذهب إِلَيْهِ أَيْضا إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْحجاج بن أَرْطَأَة، وَالْحكم بن عتيبة وَأحمد فِي رِوَايَة، وتمسكوا فِي هَذَا بِمَا أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ حَدثنَا ابْن أبي عمرَان، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن شُجَاع وَسليمَان بن بكار وَأحمد بن مَنْصُور الزيَادي، قَالُوا حَدثنَا يعلى بن عبيد عَن مُوسَى الْجُهَنِيّ عَن مُجَاهِد. قَالَ: (دَخَلنَا على عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَاسْتَسْقَى بَعْضنَا فَأتي بعد، قَالَت عَائِشَة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بملء هَذَا، قَالَ مُجَاهِد، فحرزته فِيمَا أحرز ثَمَانِيَة أَرْطَال، تِسْعَة أَرْطَال،(3/196)
عشرَة أَرْطَال) وَابْن أبي عمرَان هُوَ: أَحْمد بن مُوسَى بن عِيسَى الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ نزيل مصر، وثقة ابْن يُونُس. وَمُحَمّد بن شُجَاع الْبَغْدَادِيّ أبوعبد الله الثَّلْجِي، بِالتَّاءِ الْمُثَلَّثَة، فلأجل التَّكَلُّم فِيهِ ذكر مَعَه شيخين آخَرين. أَحدهمَا: سُلَيْمَان بن بكار أَبُو الرّبيع الْمصْرِيّ. وَالْآخر: أَحْمد بن مَنْصُور الزِّيَادَة، شيخ ابْن مَاجَه، وَأَبُو عوَانَة الأسفراثني قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ ثِقَة، ويعلى بن عبيد الإبادي روى لَهُ الْجَمَاعَة، ومُوسَى بن عبد الله الْجُهَنِيّ الْكُوفِي روى لَهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن مُوسَى الْجُهَنِيّ قَالَ: (أَتَى مُجَاهِد بقدح فَقَالَ: حرزته ثَمَانِيَة أَرْطَال، فَقَالَ حدثنتي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل بِمثل هَذَا) ثمَّ قَالَ المتمسكون بِهِ مُجَاهِد لم يشك فِي ثَمَانِيَة، وَإِنَّمَا شكّ فِيمَا فَوْقهَا، فَثَبت الثَّمَانِية بِهَذَا الحَدِيث وانتفى مَا فَوْقهَا. قلت: الدَّلِيل على عدم شكّ مُجَاهِد فِي الثَّمَانِية رِوَايَة النَّسَائِيّ، ثمَّ قَول هَذَا الْقَائِل: وَالصَّحِيح الأول، غير صَحِيح لِأَن الأول فِيهِ ذكر الْفرق، وَهُوَ كَمَا ترى فِيهِ أَقْوَال، فَكيف يَقُول الْحِرْز لَا يُعَارض بِهِ التَّحْدِيد؟ فَفِي أَي مَوضِع التحدي الْمعِين وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فالمذكور فِيهِ الْفرق، الَّذِي كَانَ يغْتَسل مِنْهُ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يذكر مِقْدَار المَاء الَّذِي كَانَ يكون فِيهِ، هَل هُوَ ملؤه أَو أقل من ذَلِك.
251 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدّثني شُعْبَةُ قَالَ حدّثني أبِو بَكْرٍ بنُ حَفْصٍ قَالَ أَبَا سَلَمَةَ يَقُولُ دَخَلْتِ أَنا وَأَخُو عائِشَةَ فَسَأَلَها أَخُوها عَنْ غَسْلْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَتُ بِإِناء نَحْوٍ منْ صاعٍ فَاغْتَسَلَتْ وَأَفاضَتْ عَلَى رَأْسِها وَبَيْننَا وَبَيْنَا حِجابٌ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي، بِضَم الْمِيم، تقدم فِي بَاب الْإِيمَان. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث التنوري، مر فِي كتاب التَّعَلُّم فِي بَاب من أعَاد الحَدِيث ثلاثاَ الثَّالِث: شُعْبَة بن الحجاح، تكَرر ذكره. الرَّابِع: أَبُو بكر بن حَفْص بن عمر بن سعد بن أبي وَقاص، وهومشهور وبالكنية، وَقيل: اسْمه عبد الله. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مر فِي بَاب الْوَحْي، وَهُوَ ابْن أُخْت عَائِشَة من الرضَاعَة أَرْضَعَتْه أم كُلْثُوم بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، فعائشة حَالَته. السَّادِس: أَخُو عَائِشَة من الرضَاعَة، كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي (صَحِيح مُسلم) واسْمه فِيمَا قيل: عبد الله بن يزِيد، قَالَه النَّوَوِيّ: وَقَالَ مُسلم فِي (الطَّبَقَات) عبد الله بن يزِيد رَضِيع عَائِشَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي شَرحه: إِنَّه أَخُوهَا عبد الرَّحْمَن. قيل: إِنَّه وهم مِنْهُ، وَقيل: هُوَ أَخُوهَا لأمها، وَهُوَ الطُّفَيْل بن عبد الله. قيل: هُوَ غير صَحِيح، وَالدَّلِيل على فَسَاد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق معَاذ وَالنَّسَائِيّ من طريف خَالِد بن الْحَارِث، وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق يزِيد ابْن هَارُون، كلهم عَن شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث أَنه أَخُوهَا من الرضَاعَة، ثمَّ الَّذِي ادّعى أَنه عبد الله بن يزِيد اسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي قلَابَة عَن عبد الله بن يزِيد، رَضِيع عَائِشَة، فَذكر حَدِيثا غير هَذَا. قلت: لَا يلْزم من هَذَا أَن يكون هُوَ عبد الله بن يزِيد، لِأَن لَهَا أَخا آخر من الرضَاعَة، وَهُوَ كثير بن عبيد، رَضِيع عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، روى عَنْهَا أَيْضا، وَالظَّاهِر أَنه لم يتَعَيَّن، وَالْأَقْرَب أَنه عبد الرَّحْمَن وَلَا يلْزم من رِوَايَة مُسلم وَغَيره أَن يتَعَيَّن عبد الله بن زيزيد، لِأَن الَّذِي سَأَلَهَا عَن غسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يتَعَيَّن أَن يكون هُوَ الَّذِي روى عَنهُ أَبُو قلَابَة فِي الْجَنَائِز. السَّابِع: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع وَالسُّؤَال. وَفِيه: راويات كِلَاهُمَا بالكنية مشهوران ومشاركان فِي الِاسْم على قَول من يَقُول أَن اسْم أبي بكر: عبد الله. وَكِلَاهُمَا زهريان ومدنيان.
بَيَان الْمَعْنى واستنباط الْأَحْكَام قَوْله: (يَقُول) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، هَذَا هُوَ الصَّحِيح إِن: سَمِعت، لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وعَلى قَول من يَقُول: يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، مِنْهُم الْفَارِسِي، تكون الْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثانٍ قَوْله: (وأخو عَائِشَة) عطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بعد التوكيد بضمير مُنْفَصِل، وَهُوَ قَوْله: (أَنا) وَهَذِه الْقَاعِدَة(3/197)
أَنه لَا يحسن الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بإزار كَانَ أَو مستتراً. إلاَّ بعد توكيده بضمير مُنْفَصِل نَحْو: {لقد كُنْتُم أَنْتُم وآباؤكم} (سُورَة الْأَنْبِيَاء: 54) قَوْله: (نَحْو من صَاع) بِالْجَرِّ والتنوين فِي نَحْو لِأَنَّهُ صفة إِنَاء وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة (نَحوا) بِالنّصب، فَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: كَون موصوفه مَنْصُوب الْمحل لِأَنَّهُ مفعول قَوْله: (فدعَتْ) وَالْآخر: بإضمار: أَعنِي. وَنَحْوه. قَوْله: (وأفاضت) أَي: أسالت المَاء على رَأسهَا، وَهَذِه الْجُمْلَة كالتفسير لقَوْله: (فاغتسلت) قَوْله: (وبيننا وَبَينهَا حجاب) جملَة وَقعت حَالا.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنَّهُمَا رَأيا عَملهَا فِي رَأسهَا وأعالي جَسدهَا مِمَّا يحل للْمحرمِ نظره من ذَات الرَّحِم، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا شَاهدا ذَلِك لم يكن لاستدعائها المَاء وطهارتها بحضرتهما معنى، إِذْ لَو فعلت ذَلِك لكنه فِي ستر عَنْهُمَا لرجع الْحَال إِلَى وصفهَا لَهما وَإِنَّمَا فعلت السّتْر لستر أسافل الْبدن وَمَا لَا يحل للْمحرمِ النّظر إِلَيْهَا، وَفِي فعلهَا هَذَا دلَالَة على اسْتِحْبَاب الْعلم بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ أوقع فِي النَّفس من القَوْل، وأدل عَلَيْهِ وَقَالَ بَعضهم: وَلما كَانَ السُّؤَال مُحْتملا للكيفية والكمية فَأَتَت لَهما مَا يدل على الْأَمريْنِ مَعًا أما الْكَيْفِيَّة فبالاقتصار على إفَاضَة المَاء، وَأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. قلت: لَا نسلم أَن السُّؤَال عَن الكمية أَيْضا، وَلَئِن سلمنَا فَلم تبين إلاَّ الْكَيْفِيَّة وَلَا تعرض فِيهِ للكمية لِأَنَّهُ قَالَ: (فدعَتْ بِإِنَاء نَحْو من صَاع) فَلَا يدل ذَلِك على حَقِيقَة الكمية، لِأَنَّهَا طلبت إِنَاء مَاء مثل صَاع، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك المَاء ملْء الْإِنَاء أَو أقل مِنْهُ. وَفِيه: مَا يدل على أَن الْعدَد والتكرار فِي إفَاضَة المَاء لَيْسَ بِشَرْط، وَالشّرط وُصُول المَاء إِلَى جَمِيع الْبدن.
قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قالَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ وَبَهْزٌ والجُدِّيُّ عَنْ شُعْبَةَ قَدْرِ صاعٍ.
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه حَاصِل كَلَامه أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رووا عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه، (قدر صاعٍ) بدل: نَحْو من صَاع، وَيزِيد بن هَارُون مر فِي بَاب التبرز فِي الْبيُوت، ونهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة، ابْن أَسد أَبُو الْأسود الإِمَام الْحجَّة الْبَصْرِيّ، مَاتَ بمر وَفِي بضع وَتِسْعين وَمِائَة، والجدي، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الدَّال. نِسْبَة إِلَى جدة الَّتِي بساحل الْبَحْر من نَاحيَة مَكَّة، وَهُوَ عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم مَاتَ سنة خمس وَمِائَتَيْنِ، وَأَصله من جدة لكنه سكن الْبَصْرَة، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيّ مَقْرُونا بِغَيْرِهِ. قَوْله: (عَن شُعْبَة) مُتَعَلق بهؤلاء الثَّلَاثَة، وَهَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة ذكرهَا البُخَارِيّ تَعْلِيقا أما طريف يزِيد فرواها أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) عَن أبي بكر بن خَلاد عَن الْحَارِث بن مُحَمَّد عَنهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) وَأما طَرِيق بهز فرواها الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا المنيعي يَعْقُوب وَأحمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم قَالَا: حَدثنَا بهز بن أَسد حَدثنَا شُعْبَة. وَأما طَرِيق الْجد فَلم أَقف عَلَيْهِ. قَوْله: (قدر صَاع) تَقْدِيره: فدعَتْ بِإِنَاء قدر صَاع، وَيجوز الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَان فِي: نَحْو من صَاع، هَاهُنَا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد من الرِّوَايَتَيْنِ أَن الِاغْتِسَال وَقع بملء الصَّاع من المَاء تَقْرِيبًا لَا تحديداً. قلت: هَذَا الْقَائِل ذكر فِي الْبَاب السَّابِق من حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة أَنه حرز الْإِنَاء ثَمَانِيَة أَرْطَال، إِن الحزر لَا يُعَارض بِهِ التَّحْدِيد، وَنقض كَلَامه هَذَا بقوله: وَالْمرَاد من الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى آخِره.
5 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا يحيى بن آدم قَالَ حَدثنَا زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق قَالَ حَدثنَا أَبُو جَعْفَر أَنه كَانَ عِنْد جَابر بن عبد الله هُوَ وَأَبوهُ وَعِنْده قوم فَسَأَلُوهُ عَن الْغسْل فَقَالَ يَكْفِيك صَاع فَقَالَ رجل مَا يَكْفِينِي فَقَالَ جَابر كَانَ يَكْفِي من هُوَ أوفى مِنْك شعرًا وَخير مِنْك ثمَّ أمنا فِي ثوب) هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة. (بَيَان رِجَاله) وهم سَبْعَة الأول عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ تقدم عَن قريب الثَّانِي يحيى بن آدم الْكُوفِي مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ الثَّالِث زُهَيْر بِضَم الزَّاي بن مُعَاوِيَة الْكُوفِي ثمَّ الْجَزرِي الرَّابِع أَبُو اسحق السبيعِي بِفَتْح السِّين عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي الْخَامِس أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بالباقر دفن بِالبَقِيعِ فِي الْقبَّة الْمَشْهُورَة بِالْعَبَّاسِ تقدم فِي بَاب من لم ير الْوضُوء إِلَّا من المخرجين. السَّادِس أَبوهُ هُوَ زين العابدين. السَّابِع جَابر الصَّحَابِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع(3/198)
وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه السُّؤَال وَالْجَوَاب وَفِيه أَن بَين عبد الله بن مُحَمَّد وَبَين زُهَيْر يحيى بن آدم قَالَ الغساني قد سقط ذكر يحيى فِي بعض النّسخ وَهُوَ خطأ إِذْ لَا يتَّصل الْإِسْنَاد إِلَّا بِهِ وَفِيه أَن أَكثر الروَاة كوفيون والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ أخبرنَا قُتَيْبَة قَالَ أخبرنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي جَعْفَر قَالَ " تمار يُنَافِي الْغسْل عِنْد جَابر بن عبد الله فَقَالَ جَابر يَكْفِي فِي الْغسْل من الْجَنَابَة صَاع من مَاء قُلْنَا مَا يَكْفِي صَاع وَلَا صَاعَانِ قَالَ جَابر قد كَانَ يَكْفِي من كَانَ خيرا مِنْك وَأكْثر شعرًا ". (بَيَان مَعَانِيه وَإِعْرَابه) قَوْله " هُوَ وَأَبوهُ " أَي مُحَمَّد بن عَليّ وَأَبوهُ عَليّ بن الْحُسَيْن قَوْله " وَعِنْده قوم " هَكَذَا فِي أَكثر النّسخ وَفِي بَعْضهَا " وَعِنْده قومه " وَكَذَا وَقع فِي الْعُمْدَة قَوْله " فَسَأَلُوهُ عَن الْغسْل " أَي مِقْدَار مَاء الْغسْل وَفِي مُسْند اسحق بن رَاهَوَيْه أَن مُتَوَلِّي السُّؤَال هُوَ أَبُو جَعْفَر قَالَ الْكرْمَانِي الْقَوْم هم السائلون فَلم أفرد الْكَاف حَيْثُ قَالَ يَكْفِيك صَاع وَالظَّاهِر يَقْتَضِي أَن يُقَال يَكْفِي كل وَاحِد مِنْكُم صَاع (قلت) السَّائِل كَانَ شخصا وَاحِدًا من الْقَوْم وأضيف السُّؤَال إِلَيْهِم لِأَنَّهُ مِنْهُم كَمَا يُقَال النُّبُوَّة فِي قُرَيْش وَإِن كَانَ النَّبِي مِنْهُم وَاحِدًا أَو يُرَاد بِالْخِطَابِ الْعُمُوم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رُؤْسهمْ} وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بشر الْمَشَّائِينَ فِي ظلم اللَّيَالِي إِلَى الْمَسَاجِد بِالنورِ التَّام " أَي يَكْفِي لكل مَا يَصح الْخطاب لَهُ صَاع قَوْله " فَقَالَ رجل " المُرَاد بِهِ الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب الَّذِي يعرف أَبوهُ بِابْن الْحَنَفِيَّة مَاتَ فِي سنة مائَة أَو نَحْوهَا وَاسم الْحَنَفِيَّة خَوْلَة بنت جَعْفَر وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَقَالَ رجل مِنْهُم " أَي من الْقَوْم قَوْله " أوفى مِنْك شعرًا " ارتفاعه بالخبرية وشعرا مَنْصُوب على التَّمْيِيز وَأَرَادَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَخير مِنْك " روى بِالرَّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فبكونه عطفا على أوفى وَأما النصب فبكونه عطفا على الْمَوْصُول أَعنِي قَوْله من فَاتَهُ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يَكْفِي وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " وخبرا " بِالنّصب قَوْله " ثمَّ أمنا " أَي جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَيْهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله " ثمَّ أمنا " أما مقول جَابر فَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله " كَانَ يَكْفِي " فالإمام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما مقول أبي جَعْفَر فَهُوَ عطف على " فَقَالَ رجل " فالإمام جَابر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ بَعضهم فَاعل أمنا جَابر كَمَا سَيَأْتِي ذَلِك وَاضحا فِي كتاب الصَّلَاة وَلَا الْتِفَات إِلَى من جعله مقوله وَالْفَاعِل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلت أَرَادَ بِهَذَا الرَّد على الْكرْمَانِي فِيمَا ذكرنَا عَنهُ وَجزم بقوله أَن الإِمَام جَابر وَاحْتج عَلَيْهِ بِمَا جَاءَ فِي كتاب الصَّلَاة وَهُوَ مَا روى عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ " رَأَيْت جَابِرا يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب " فَإِن كَانَ استدلاله بِهَذَا الحَدِيث فِي رده على الْكرْمَانِي فَلَا وَجه لَهُ وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى. (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) فِيهِ بَيَان مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من الِاحْتِجَاج بِفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والانقياد إِلَى ذَلِك وَفِيه جَوَاز الرَّد على من يُمَارِي بِغَيْر علم إِذْ الْقَصْد من ذَلِك إِيضَاح الْحق والإرشاد إِلَى من لَا يعلم وَفِيه كَرَاهِيَة الْإِسْرَاف فِي اسْتِعْمَال المَاء وَفِيه اسْتِحْبَاب اسْتِعْمَال قدر الصَّاع فِي الِاغْتِسَال وَفِيه جَوَاز الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد
253 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍ وعَنْ جَابِرٍ بِنْ زَيْدٍ عَنِ ابنَ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَيْمُونةَ كَانَا يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة.
وَجه الْكرْمَانِي فِي ذَلِك بِثَلَاثَة أوجه بالتعسف. الأول: أَن يُرَاد بِالْإِنَاءِ الْفرق، الْمَذْكُور. الثَّانِي: أَن الْإِنَاء كَانَ معهوداً عِنْدهم أَنه هُوَ الَّذِي يسع الصَّاع وَالْأَكْثَر، فَترك تَعْرِيفه اعْتِمَادًا على الْعرف وَالْعَادَة. الثَّالِث: أَنه من بَاب اخْتِصَار الحَدِيث، وَفِي تَمَامه مَا يدل عَلَيْهِ، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. وَوَجهه بَعضهم بِأَن مناسبته للتَّرْجَمَة مستفادة من مُقَدّمَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن أوانيهم كَانَت صغَارًا، فَيدْخل هَذَا الحَدِيث تَحت قَوْله: وَنَحْوه، وَنَحْو الصَّاع، أَو يحمل الْمُطلق فِيهِ على الْمُقَيد فِي حَدِيث عَائِشَة، وَهُوَ: الْفرق لكَون كل مِنْهُمَا زَوْجَة لَهُ، وَاغْتَسَلت مَعَه، فَيكون حِصَّة كل مِنْهُمَا أَزِيد من صَاع، فَيدْخل تَحت التَّرْجَمَة بالتقريب. قلت: مقَال هَذَا الْقَائِل أَكثر تعسفاً وَأبْعد وَجها من كَلَام الْكرْمَانِي، لِأَن المُرَاد من هَذَا الحَدِيث جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد، وَهَذَا هُوَ مورد الحَدِيث، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ بَيَان مِقْدَار الْإِنَاء، وَالْبَاب فِي بَيَان الْمِقْدَار فَمن أَيْن يلتثم وَجه التطابق بَينه وَبَين الْبَاب؟ وَقَوله: لكَون كل مِنْهُمَا زَوْجَة لَهُ، كَلَام من لم(3/199)
يمس شَيْئا من الْأُصُول، وَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا امْرَأَة لَهُ، كَيفَ يكون وَجها لحمل الْمُطلق على الْمُقَيد؟ مَعَ أَن الأَصْل أَن يجْرِي الْمُطلق على إِطْلَاقه والمقيد على تَقْيِيده، وَالْحمل لَهُ مَوَاضِع عرفت فِي موَاضعهَا.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن تقدم فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد الْأَزْدِيّ، أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، وَفِي (مُسْند الْحميدِي) هَكَذَا حَدثنَا سُفْيَان. أخبرنَا عَمْرو. قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الشعْثَاء. وَهُوَ جَابر بن زيد الْمَذْكُور.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مواضعوفيه: عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه اخْتِلَاف، وَمِنْهُم من يَقُول: لَا فرق بَينهمَا، وَمِنْهُم من يَقُول: بَينهمَا فرق وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي وبصري.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة، وَأبي بكر بن أبي شيبَة، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى، وَابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة أربعتهم عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أبي الشعْثَاء عَن ابْن عَبَّاس بِهِ وَاللَّفْظ (كنت اغْتسل أَنا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد من الْجَنَابَة) .
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ كانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُول أخيراً عنِ ابنِ عبَّاسِ عنْ مَيْمُونَةَ والصَّحْيحُ مَا رواهِ أبُو نَعَيمٍ
أبوعبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (كَانَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَلم يقل: وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة، بل قَالَ. كَانَ ليدل على أَنه فِي الْأَخير، أَي: فِي آخر عمره كَانَ مُسْتَقرًّا على هَذِه الرِّوَايَة، فعلى هَذَا التَّقْدِير الحَدِيث من مسانيد مَيْمُونَة، وعَلى الأول من مسانيد ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَالصَّحِيح) أَي: فِي الرِّوَايَتَيْنِ، (مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم) الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه من مسانيد ابْن عَبَّاس، وَهَذَا من كَلَام البُخَارِيّ وَهُوَ الْمُصَحح لَهُ وَصَححهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَرجح الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا مَا صَححهُ البُخَارِيّ بِاعْتِبَار أَن هَذَا الْأَمر لَا يطلع عَلَيْهِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ مَيْمُونَة، فَدلَّ على أَنه أَخذه عَن خَالَته مَيْمُونَة، وَالْأَرْبَعَة المذكورون أَخْرجُوهُ عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والمستفاد من الحَدِيث جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد.
4 - (بابُ مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أَفَاضَ المَاء على رَأسه ثَلَاث مَرَّات.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة، لِأَن كلهَا فِي أَحْكَام الْغسْل وهيئته.
254 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا زُهَيْر عَنْ أبي إسْحَاقَ قَالَ حدّثني سُلَيْمانُ بنُ صُرْدِ قَالَ حَدثنِي يَبْرِ بنُ مُطْعِمٍ قَالَ رسولُ اللَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَّا أنَا فَافِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاثاً وأشارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِما.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي عَمْرو بن عبد الله، وَسليمَان بن صرد، بِضَم الصَّاد وَفتح الرَّاء بعدهمَا الدَّال المهملات من أفاضل الصَّحَابَة روى لَهُ خَمْسَة عشر حَدِيثا وَأخرج البُخَارِيّ مِنْهَا اثْنَيْنِ سكن الْكُوفَة أول مَا نزل بهَا الْمُسلمُونَ، خرج أَمِيرا فِي أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ دم الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سموا بالتوابين، وَهُوَ أَمِيرهمْ، فَقتله عَسْكَر عبيد الله بن زِيَاد بالجزيرة سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ، وَجبير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالرَّاء ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِطْعَام، الْقرشِي النَّوْفَلِي، رُوِيَ لَهُ سِتُّونَ حَدِيثا أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا تِسْعَة كَانَ من سَادَات قُرَيْش مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَخمسين.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن إِسْنَاده عَن أبي نعيم أَعلَى من إِسْنَاد حَدِيث الْبَاب الأول عَن. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الأقران.(3/200)
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن يحيى، وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي الْأَحْوَص. وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة. ثَلَاثَتهمْ عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النَّوْفَلِي عَن زُهَيْر بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَعَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (أما أَنا فأفيض) بِضَم الْهمزَة من الْإِفَاضَة، وَهِي الإسالة. قَالَ الْكرْمَانِي: أما للتفصيل فَإِنِّي قسيمه؟ قتل: اقْتِضَاء القسيم غير وَاجِب، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ السِّيَاق روى مُسلم فِي صَحِيحه (أَن الصَّحَابَة تماروا فِي صفة الْغسْل عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما أَنا فأفيض) أَي: وَأما غَيْرِي فَلَا يفِيض، أَو فَلَا أعلم حَاله كَيفَ يعلم، وَنَحْوه. انْتهى قلت: التَّحْقِيق وَفِي هَذَا الْموضع أَن كلمة أما بِالْفَتْح والتشدي حرف شَرط وتفصيل وتوكيد، وَالدَّلِيل على الشَّرْط لُزُوم الْفَاء بعْدهَا، نَحْو {فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون أَنه الْحق} (سُورَة الْبَقَرَة: 26) وَالتَّفْصِيل نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وأمَّا السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين وَأما الْغُلَام وَأما الْجِدَار} (سُورَة الْكَهْف: 79، 80) وَأما التوكيد فقد ذكره الزَّمَخْشَرِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: فَائِدَة أمَّا فِي الْكَلَام أَن تعطيه فضل توكيد تَقول: زيد ذَاهِب قصدت ذَلِك، وَإنَّهُ لَا محَالة ذَاهِب وَإنَّهُ بصدد الذّهاب وَإنَّهُ مِنْهُ فَإِذا عَزِيمَة قلت: أمَّا زيد فذاهب وَهنا أَيْضا للتَّأْكِيد فَلَا حَاجَة إِلَى القسيم، وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال: إِنَّه مَحْذُوف وأمَّا الَّذِي رَوَاهُ مُسلم فَهُوَ من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَن إِسْحَاق (تماروا فِي الْغسْل عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَقَالَ بعض الْقَوْم: أمَّا أَنا فأغسل رَأْسِي بِكَذَا وَكَذَا) فَذكر الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا هُوَ القسيم الْمَحْذُوف. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا لِأَن الْوَاجِب أَن يُعْطي حق كل كَلَام بِمَا يَقْتَضِيهِ، الْحَال فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء من حَدِيث رُوِيَ من طَرِيق، لأجل حَدِيث آخر فِي بَابه من طَرِيق آخر. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث أكف، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَالْمعْنَى: ثَلَاث حفنات كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بملء الْكَفَّيْنِ جَمِيعًا، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده: (فآخذ ملْء كفي ثَلَاثًا فأصب على رَأْسِي) وَمَا رَوَاهُ أَيْضا عَن أبي هرير: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصب بِيَدِهِ على رَأسه ثَلَاثًا) وَفِي (مُعْجم) الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِن وَفد ثَقِيف سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: إِن أَرْضنَا بَارِدَة فَكيف نَفْعل فِي الْغسْل؟ فَقَالَ: فأفرغ على رَأْسِي ثَلَاثًا) وَفِي (أَوسط) الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: (تفرغ بيمينك على شمالك، ثمَّ تدخل يدك فِي الْإِنَاء فتغسل فرجك وَمَا أَصَابَك ثمَّ تَوَضَّأ للصَّلَاة ثمَّ تفرغ على رَأسك ثَلَاث مَرَّات، تدلك رَأسك كل مرّة) وَقَالَ الدودي: الحفنة بِالْيَدِ الْوَاحِد. وَقَالَ غَيره: باليدين جَمِيعًا والْحَدِيث الْمَذْكُور يدل عَلَيْهِ، والحثية بِالْيَدِ الْوَاحِدَة، وَبِمَا ذكرنَا سقط قَول بَعضهم: إِن لَفظه ثَلَاثًا، مُحْتَملَة للتكرار، ومحتملة لِأَن يكون للتوزيع على جَمِيع الْبدن، قَوْله: (وَأَشَارَ بيدَيْهِ) من كَلَام جُبَير بن مطعم، أَي: أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيدَيْهِ الثِّنْتَيْنِ، كَمَا قُلْنَا: إِن كل حفْنَة ملْء الْكَفَّيْنِ. قَوْله: (كلتيهما) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني كِلَاهُمَا. وَحكى ابْن التِّين فِي بعض الرِّوَايَات (كلتاهما) . قلت: كَون كلا وكلتا عِنْد إِضَافَته إِلَى الضَّمِير فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة بِالْألف لُغَة من يراهما تَثْنِيَة وَإِن التَّثْنِيَة لَا تَتَغَيَّر كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا ... قد بلغا فِي الْمجد غابتاها)
وَأما وَجه رِوَايَة الْكشميهني كِلَاهُمَا بِدُونِ التَّاء فبالنظر إِلَى اللَّفْظ دون الْمَعْنى.
ويستنبط مِنْهُ أَن الْمسنون فِي الْغسْل أَن يكون ثَلَاث مَرَّات، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْعلمَاء. وَأما الْفَرْض مِنْهُ فَغسل سَائِر الْبدن بِالْإِجْمَاع، وَفِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق خلاف مَشْهُور. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة إستحباب صب المَاء على الرَّأْس ثَلَاثًا مُتَّفق عَلَيْهِ، وَألْحق بِهِ أَصْحَابنَا سَائِر الْجَسَد قِيَاسا على الرَّأْس، وعَلى أَعْضَاء الْوضُوء، وَهُوَ أولى بِالثلَاثِ من الْوضُوء فَإِن الْوضُوء مَبْنِيّ على التَّخْفِيف مَعَ تكراره، فَإِذا اسْتحبَّ فِيهِ الثَّلَاث فالغسل أولى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ مَا تفرد بِهِ الْمَاوَرْدِيّ حَيْثُ قَالَ: لَا يسْتَحبّ التّكْرَار فِي الْغسْل وَهُوَ شَاذ مَتْرُوك، ورد عَلَيْهِ بِأَن الشَّيْخ أباعلي السنجي قَالَه أَيْضا ذكره فِي (شرح الْفُرُوع) فَلم ينْفَرد بِهِ، وَنقل ابْن التِّين عَن الْعلمَاء أَنه يحْتَمل أَن يكون هَذَا على مَا شرع فِي الطَّهَارَة من التّكْرَار وَأَن يكون التَّمام الطَّهَارَة، لِأَن الغسلة الْوَاحِدَة لَا تجزىء فِي اسْتِيعَاب غسل الرَّأْس. قَالَ: وَقيل: ذَلِك مُسْتَحبّ، وَمَا أسغ أَجْزَأَ، وَكَذَا قَالَ ابْن بطال: الْعدَد فِي ذَلِك مُسْتَحبّ عِنْد الْعلمَاء، وَمَا هم وأسبغ أَجْزَأَ.(3/201)
255 - حدّثنا مُحَمَّدْ بنُ بَشِّارٍ قَالَ حدّثنا غُنْدَرُ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنْ مِحْوِلِ بِنِ رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلَيّ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ كانِ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْرِغُ عَلى رَأْسِهِ ثَلاثاً.
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة والملقب ببندار. الثَّانِي: غنْدر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّار الْمُهْملَة على الْأَصَح، واسْمه: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَكَانَ إِمَامًا وَكَانَ شُعْبَة زوج أمه. الثَّالِث: من الْحجَّاج. الرَّابِع: مخول، بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التخويل بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ويروي بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَن أبي ذَر، وَرِوَايَة الأكيرين، بِكَسْر الْمِيم، وَرِوَايَة ابْن عَسَاكِر بِضَم الْمِيم، ابْن رَاشد، بالشين الْمُعْجَمَة: النَّهْدِيّ، بالنُّون: الْكُوفِي روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو جَعْفَر المقلب بالباقر، تقدم ذكره. السَّادِس: جَابر بن عبدا لله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مُحَمَّد بن بشار غَيره، وَلَيْسَ المخول بن رَاشد فِي البُخَارِيّ غَيره، وَهُوَ عَزِيز، انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة. قَوْله: (يفرغ) بِضَم الْيَاء من إلاّ فرَاغ. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث غرفات، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ: أَظُنهُ من غسل الْجَنَابَة.
9 - (حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ حَدثنَا معمر بن يحيى بن سَام قَالَ حَدثنِي أَبُو جَعْفَر قَالَ قَالَ لي جَابر وأتاني ابْن عمك يعرض بالْحسنِ بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ كَيفَ الْغسْل من الْجَنَابَة فَقلت كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْخُذ ثَلَاثَة أكف ويفيضها على رَأسه ثمَّ يفِيض على سَائِر جسده فَقَالَ لي الْحسن إِنِّي رجل كثير الشّعْر فَقلت كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكثر مِنْك شعرًا) ظُهُور مُطَابقَة هَذَا أَيْضا للتَّرْجَمَة وَاضح. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي معمر بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة فِي أَكثر الرِّوَايَات وَبِه جزم الْحَافِظ الْمزي وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِضَم الْمِيم الأولى وَتَشْديد الْمِيم الثَّانِيَة على وزن مُحَمَّد وَبِه جزم الْحَاكِم وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَقد ينْسب إِلَى جده سَام فَيُقَال معمر ابْن سَام وَهُوَ بِالسِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم الثَّالِث أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر. الرَّابِع جَابر بن عبد الله الصَّحَابِيّ. الْخَامِس الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل من اثْنَيْنِ فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني. (ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه) قَوْله " ابْن عمك " فِيهِ مُسَامَحَة إِذْ الْحسن هُوَ ابْن عَم أَبِيه لَا ابْن عَمه قَوْله " يعرض بالْحسنِ " جملَة وَقعت حَالا من جَابر والتعريض خلاف التَّصْرِيح من حَيْثُ اللُّغَة وَمن حَيْثُ الِاصْطِلَاح هُوَ عبارَة عَن كِنَايَة مسوقة لأجل مَوْصُوف غير مَذْكُور وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ التَّعْرِيض أَن تذكر شَيْئا تدل بِهِ على شَيْء لم تذكره وَهَهُنَا سُؤال الْحسن بن مُحَمَّد عَن جَابر بن عبد الله عَن كَيْفيَّة الْغسْل من الْجَنَابَة وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب السُّؤَال عَن الْغسْل وَقع عَن جمَاعَة بِغَيْر لَفْظَة كَيفَ وَوَقع جَوَابه هُنَاكَ بقوله " يَكْفِيك صَاع " وَهَهُنَا جَوَابه بقوله " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْخُذ ثَلَاثَة أكف " الخ وَالسُّؤَال فِي موضِعين عَن الْكَيْفِيَّة غير أَنه لم يذكر لفظ كَيفَ هُنَاكَ اختصارا وَالْجَوَاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ بالكمية لِأَن هُنَاكَ قَالَ " يَكْفِيك صَاع " وَهَهُنَا قَالَ " ثَلَاثَة أكف " وكل مِنْهُمَا كم وَقَول بَعضهم السُّؤَال فِي الأول عَن الكمية أشعر بذلك قَوْله فِي الْجَواب يَكْفِيك صَاع لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ اغْترَّ بِظَاهِر قَوْله هَهُنَا كَيفَ الْغسْل وَقد ذكرنَا أَن لفظ كَيفَ هُنَاكَ مطوية لِأَن السُّؤَال فِي موضِعين عَن حَالَة الْغسْل وَصفته بِلَفْظ كَيفَ(3/202)
لِأَنَّهَا تدل على الْحَالة (فَإِن قلت) كَيفَ تَقول السُّؤَال فِي موضِعين عَن حَالَة الْغسْل وَالْجَوَاب بالكمية (قلت) الْحَالة هِيَ الْكَيْفِيَّة وللغسل حَقِيقَة وَحَالَة فحقيقته إسالة المَاء على سَائِر الْبدن وحالته اسْتِعْمَال مَاء نَحْو صَاع أَو ثَلَاث أكف مِنْهُ وَلم يكن السُّؤَال عَن حَقِيقَة الْغسْل وَإِنَّمَا كَانَ عَن حَاله فَوَقع الْجَواب بالكم فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِأَن كَيفَ وَكم من الْعَوَارِض المنحصرة فِي المقولات التسع فطابق الْجَواب السُّؤَال وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا بعث لبَيَان الْحَقَائِق وَإِنَّمَا بعث لبَيَان الْأَحْكَام وَالْأَحْكَام من عوارض الْحَقَائِق قَوْله " ثَلَاثَة أكف " هِيَ رِوَايَة كَرِيمَة بِالتَّاءِ وَفِي رِوَايَة غَيرهَا " ثَلَاث أكف " بِغَيْر التَّاء قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت الْكَفّ مُؤَنّثَة فَلم دخل التَّاء فِي الثَّلَاثَة (قلت) المُرَاد من الْكَفّ قدر الْكَفّ وَمَا فِيهَا فباعتباره دخلت أَو بِاعْتِبَار الْعُضْو (قلت) فِي الْجَواب الأول نظر وَالثَّانِي لَا بَأْس بِهِ وَالْأَحْسَن أَن يَقُول الْكَفّ يذكر وَيُؤَنث فَيجوز دُخُول التَّاء وَتَركه على الاعتبارين وَالْمرَاد أَنه يَأْخُذ فِي كل مرّة كفين لِأَن الْكَفّ اسْم جنس فَيجوز حمله على الِاثْنَيْنِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة اسحق ابْن رَاهَوَيْه من طَرِيق حسن بن صَالح عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ فِي آخر الحَدِيث (وَبسط يَدَيْهِ) وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث جُبَير بن مطعم الَّذِي فِي أول الْبَاب قَوْله " فيفيضها على رَأسه " وَفِي بعض النّسخ بِدُونِ على قَوْله " ثمَّ يفِيض " أَي المَاء (فَإِن قلت) لم لَا يكون مَفْعُوله الْمَحْذُوف ثَلَاثَة أكف بِقَرِينَة عطفه عَلَيْهِ (قلت) لِأَن الثَّلَاثَة الأكف لَا يَكْفِي لسَائِر جسده عَادَة قَوْله " كثير الشّعْر " أَي لَا يَكْفِي هَذَا الْقدر من المَاء فَقَالَ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكثر شعرًا مِنْك وَقد كَفاهُ. وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز الِاكْتِفَاء بِثَلَاث غرف على الرَّأْس وَإِن كَانَ كثير الشّعْر وَفِيه تَقْدِيم ذَلِك على إفَاضَة المَاء على جسده وَفِيه الْحَث على السُّؤَال عَن أَمر الدّين من الْعلمَاء وَفِيه وجوب الْجَواب عِنْد الْعلم بِهِ وَفِيه دلَالَة على مُلَازمَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ثَلَاثَة أكف فِي الْغسْل لِأَن لَفْظَة كَانَ تدل على الِاسْتِمْرَار
5 - (بابُ الغُسْل مَرَّةً وَاحِدَةً)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل مرّة وَاحِدَة.
257 - حدّثنا مُوسَى قالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسِ قالَ قالتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ للنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء لِلْغَسْلِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ علَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ..
تكلّف ابْن بطال لتطبيق الحَدِيث على التَّرْجَمَة. فَقَالَ: مَوضِع التَّرْجَمَة من الحَدِيث فِي لفظ: (ثمَّ أَفَاضَ على جسده) وَلم يذكر: مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ، فَحمل على أقل مَا يُسمى غسلا، وَهُوَ: مرّة وَاحِدَة، وَالْعُلَمَاء أَجمعُوا على أَنه لَيْسَ الشَّرْط فِي الْغسْل إلاَّ الْعُمُوم والإسباغ لَا عددا من المرات قلت: فِي هَذَا الحَدِيث عشرَة أَحْكَام على مَا ترى فَمَا وَجه وضع التَّرْجَمَة على حكم وَاحِد مِنْهَا وَمَا ثمَّ زِيَادَة فَائِدَة يعم لَو ذكر تراجم لبَقيَّة الْأَحْكَام وَلم يبْق إلاَّ هَذَا لَكَانَ لَهُ وَجه وَهَذَا الحَدِيث وَاحِد، وَإِنَّمَا قِطْعَة لوضع التراجم على أَن قَوْلهَا: (ثمَّ أَفَاضَ) ، يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، فَتكون مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل النبوذكي، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ. وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَهُوَ وَسَالم بن أبي الْجَعْد وكريب تقدمُوا فِي بَاب الْوضُوء قبل الْغسْل.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَالْقَوْل.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالْأَرْبَعَة أَيْضا، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب: الْوضُوء قبل الْغسْل.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ) بالتثنية فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره (يَده) بِالْإِفْرَادِ قَوْله: (أَو ثَلَاثًا) الشَّك من مَيْمُونَة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ بَعضهم: الشَّك من الْأَعْمَش، كَمَا سَيَأْتِي من رِوَايَة أبي عوَانَة عَنهُ وعقل الْكرْمَانِي فَقَالَ: الشَّك من مَيْمُونَة. قلت: هَذَا مر فِي بَاب من أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله فِي الْغسْل، وَلَفظه: (فغسلهما مرّة أَو مرَّتَيْنِ) ، قَالَ سُلَيْمَان: لَا أَدْرِي أذكر الثَّلَاثَة أم لَا، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَلَكِن الشَّك هَاهُنَا بَين مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَهُنَاكَ بَين مرّة أَو مرَّتَيْنِ،(3/203)
فعلى هَذَا تعين الشَّك من الْأَعْمَش، لَكِن مَوْضِعه مُخْتَلف. قَوْله: (فَغسل مذاكيره) هُوَ جمع ذكر على خلاف الْقيَاس كَأَنَّهُمْ فرقوا بَين الذّكر الَّذِي هُوَ خلاف الْأُنْثَى، وَالذكر الَّذِي هُوَ الْفرج فِي الْجمع، وَقَالَ الْأَخْفَش: هُوَ جمع لَا وَاحِد لَهُ، كأبابيل. قلت قيل: إِن الأبابيل جمع أبول: كعجاجيل جمع عجول. وَقيل: هُوَ جمع مذكار، وَلَكنهُمْ لم يستعملوه وتركوه، والنكتة فِي ذكره بِلَفْظ الْجمع الْإِشَارَة إِلَى تَعْمِيم غسل الخصيتين وحواليهما كَأَنَّهُ جعل كل جُزْء من هَذَا الْمَجْمُوع كذكر فِي حكم الْغسْل.
وَالْأَحْكَام الَّتِي تستنبط مِنْهَا قد مر ذكرهَا.
6 - (بابُ مَنْ بَدَأَ بالحِلابِ أَوْ الطِيّبِ عِنْدَ الغُسْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الَّذِي بَدَأَ بالحلاب إِلَى آخِره؛ اسْتشْكل الْقَوْم فِي مُطَابقَة هَذِه التَّرْجَمَة لحَدِيث الْبَاب، فافترقوا ثَلَاث فرق: الْفرْقَة الأولى: قد نسبوا البُخَارِيّ إِلَى الْوَهم والغلط، مِنْهُم الْإِسْمَاعِيلِيّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي (مستخرجه) رحم الله أَبَا عبد الله. يَعْنِي من ذَا الَّذِي يسلم من الْغَلَط، سبق إِلَى قلبه أَن الحلاب طيب، أَي: معنى للطيب عِنْد الِاغْتِسَال قبل الْغسْل، وَإِنَّمَا الحلاب إِنَاء يحلب فِيهِ وَيُسمى محلباً أَيْضا، وَهَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيق يتَأَمَّل المتأمل بَيَان ذَلِك حَيْثُ جَاءَ فِيهِ، كَانَ يغْتَسل من حلاب، رَوَاهُ هَكَذَا أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وروى أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن يزِيد بن سِنَان عَن أبي عَاصِم بِلَفْظ: (كَانَ يغْتَسل من حلاب، فَيَأْخُذ غرفَة بكفيه فيجعلها على شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر) كَذَا الحَدِيث بقوله: (يغْتَسل) وَقَوله: (غرفَة) أَيْضا مِمَّا يدل على أَن الحلاب إِنَاء المَاء وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان وَالْبَيْهَقِيّ: (ثمَّ صب على شقّ رَأسه الْأَيْمن) ، وَالطّيب لَا يغبر عَنهُ بالصب وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق بنْدَار عَن أبي عَاصِم بِلَفْظ: (كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء دون الحلاب، فَأخذ بكفه، فَبَدَأَ بالشق الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ أَخذ بكفيه مَاء فأفرغ على رَأسه) فلولا قَوْله: (مَاء) لأمكن حمله على الطّيب قبل الْغسْل، وَرِوَايَة أبي عوَانَة أصرح من هَذِه وَمن هَؤُلَاءِ الْفرْقَة ابْن الْجَوْزِيّ حَيْثُ قَالَ: غلط جمَاعَة فِي تَفْسِير الحلاب، مِنْهُم البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ظن أَن الحلاب شَيْء من الطّيب، الْفرْقَة الثَّانِيَة: مِنْهُم الْأَزْهَرِي، قَالُوا هَذَا تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ: جلاب، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ مَاء الْورْد فَارسي مُعرب. الْفرْقَة الثَّالِثَة: مِنْهُم الْمُحب الطَّبَرِيّ، قَالُوا لم يرد البُخَارِيّ بقوله: أَو الطّيب، مَا لَهُ عرف طيب، وَإِنَّمَا أَرَادَ تطييب الْبدن وَإِزَالَة مَا فِيهِ من وسخ، ودرن ونجاسة إِن كَانَت، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالحلاب الْإِنَاء الَّذِي يغْتَسل مِنْهُ، يبْدَأ بِهِ فَيُوضَع مَاء الْغسْل. قَالَ الْمُحب: وَكلمَة. أَو فِي قَوْله: أَو الطّيب بِمَعْنى الْوَاو، كَذَا اثْبتْ فِي بعض الرِّوَايَات أَقُول، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، لَا يظنّ أحد أَن البُخَارِيّ أَرَادَ بالحلاب ضربا من الطّيب لِأَن قَوْله: أَو الطّيب بِرَفْع ذَلِك، وَلم يرد إلاَّ إِنَاء يوضع فِيهِ مَاء قَالَ الْخطابِيّ: الحلاب إِنَاء يسع قدر حلبة نَاقَة، وَالدَّلِيل على أَن الحلاب ظرف قَول الشَّاعِر:
(صَاح هَل رَأَيْت أَو سَمِعت يراع ... رد فِي الضَّرع مَا بَقِي فِي الحلاب)
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الحلاب والمحلب بِكَسْر الْمِيم، وعَاء يملؤه قدر حلب النَّاقة، وَمن الدَّلِيل على أَن المُرَاد من الحلاب غير الطّيب عطف الطّيب، عَلَيْهِ بِكَلِمَة. أَو، وَجعله قسيماً لَهُ، وَبِهَذَا ينْدَفع مَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن البُخَارِيّ سبق إِلَى قلبه أَن الحلاب طيب، وَكَيف يسْبق إِلَى قلبه ذَلِك وَقد عطف، الطّيب، عَلَيْهِ والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْأَزْهَرِي التَّصْحِيف غير صَحِيحَة، لِأَن الْمَعْرُوف من الرِّوَايَة الْمُهْملَة، وَالتَّخْفِيف، وَكَذَلِكَ أنكر عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة الْهَرَوِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الحلاب بكر الْمُهْملَة لَا يَصح غَيرهَا وَقد وهم من طنه الطّيب وَكَذَا من قَالَه بِضَم الْجِيم على أَنه قَوْله بتَشْديد الللام غير صَحِيح.
لِأَن فِي اللُّغَة الفارسية، مَاء الْورْد، هُوَ جلاب بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام، أَصله: كلاب فَكل بِضَم الْكَاف الصماء وَسُكُون اللَّام، إسم للورد عِنْدهم، وآب، بِمد الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة اسْم المَاء، وَالْقَاعِدَة عِنْدهم إِن الْمُضَاف إِلَيْهِ يتَقَدَّم على الْمُضَاف وَكَذَلِكَ الصّفة تقدم على الْمَوْصُوف، وَإِنَّمَا الْجلاب بتَشْديد اللَّام فاسم للمشروب. فَإِن قلت: إِذا ثَبت أَن الحلاب اسْم للإناء، يكون الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة شَيْئَيْنِ: إحدهما: الْإِنَاء، وَالْآخر: الطّيب، وَلَيْسَ فِي الْبَاب ذكر الطّيب، فَلَا يُطَابق الحَدِيث الَّذِي فِيهِ إلاَّ بعض التَّرْجَمَة قلت: قد عقد الْبَاب لأحد الْأَمريْنِ حَيْثُ جَاءَ: أَو الفاصلة دون، الْوَاو الْوَاصِلَة فَوقِي بِذكر أَحدهمَا على أَنه كثيرا أما يذكر فِي التَّرْجَمَة شَيْئا وَلَا يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا مُتَعَلقا بِهِ لأمر يَقْتَضِي ذَلِك.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين ظرف المَاء وَالطّيب؟ قلت: من حَيْثُ إِن كلاًّ(3/204)
مِنْهُمَا يَقع فِي مُبْتَدأ الْغسْل، وَيحْتَمل أَيْضا أَنه بالحلاب الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ الطّيب، يَعْنِي بِهِ تَارَة وَيطْلب ظرف الطّيب، وَتارَة يطْلب نفس الطّيب، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَكِن يردهُ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مكي بن إِبْرَاهِيم عَن حَنْظَلَة فِي هَذَا الحَدِيث كَانَ يغْتَسل بقدح، بدل قَوْله: بحلاب، وَزَاد فِيهِ. كَانَ يغسل يَدَيْهِ ثمَّ يغسل وَجهه ثمَّ يَقُول بِيَدِهِ ثَلَاث غرف.
258 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قالَ حدّثنا أبُو عَاصِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ عنِ القَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قالتْ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ دَاَا بِشَيءٍ نَحْوَ الحِلاب فَأَخَذَ بِكَفَهِ فَبدأَ بِشِقِّ رَأسِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِما عَلَى وَسطِ رَأْسِهِ.
رِجَاله خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى وَقد مر، وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة الْبَصْرِيّ الْمُتَّفق عَلَيْهِ علما وَعَملا، ولقب بالنبيل لِأَن شُعْبَة حلف أَنه لَا يحدث شهرا فَبلغ ذَلِك، أَبَا عَاصِم فقصده فَدخل مَجْلِسه، فَقَالَ: حدث وَغُلَام الْعَطَّار عَن كَفَّارَة يَمِينك، فأعجبه ذَلِك، وَقَالَ: أَبُو عَاصِم النَّبِيل، فلقب بِهِ وَقيل لغير ذَلِك، وحَنْظَلَة ابْن أبي سُفْيَان الْقرشِي تقدم فِي بَاب دعاؤكم وإيمانكم، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق التَّيْمِيّ، أفضل أهل زَمَانه، كَانَ ثِقَة عَالما فَقِيها من الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، إِمَامًا ورعاً من خِيَار التَّابِعين مَاتَ سنة بضع وَمِائَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَبَا عَاصِم من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ: وَقد أَكثر عَنهُ فِي هَذَا الْكتاب، لكنه نزل فِي هَذَا الْإِسْنَاد فَأدْخل بَينه وَبَينه مُحَمَّد بن الْمثنى. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي عَاصِم عَن حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل) أَي: إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل. قَوْله: (دَعَا) أَي: طلب. قَوْله: (نَحْو الحلاب) أَي: إِنَاء مثل الْإِنَاء الَّذِي يُسمى الحلاب، وَقد وَصفه أَبُو عَاصِم بِأَنَّهُ أقل من شبر فِي شبر، أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَنهُ، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: وَأَشَارَ أَبُو عَاصِم بكفيه، حِكَايَة حلق شبريه، يصف بِهِ دوره الْأَعْلَى وَفِي رِوَايَة للبيهقي (كَقدْر كوز يسع ثَمَانِيَة أَرْطَال) وَفِي حَدِيث مكي عَن الْقَاسِم: (إِنَّه سُئِلَ كم يَكْفِي من غسل الْجَنَابَة، فَأَشَارَ إِلَى الْقدح والحلاب) ، فَفِيهِ بَيَان مِقْدَار مَا يحْتَمل من المَاء لَا الطّيب والتطيب، وَمن لَهُ ذوق من الْمعَانِي وَتصرف فِي التراكيب يعلم أَن الحلاب الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة إِنَّمَا هُوَ الْإِنَاء وَلم يقْصد البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا غير أَن الْقَوْم أَكْثرُوا الْكَلَام فِيهِ من غير زِيَادَة فَائِدَة، وَلَفظ الحَدِيث أكبر شَاهد على مَا ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ قَالَ: دَعَا بِشَيْء نَحْو الحلاب: فَلفظ: نَحْو: هَاهُنَا بِمَعْنى: الْمثل، وَمثل الشَّيْء غَيره، فَلَو كَانَ دَعَا بالحلاب كَانَ رُبمَا يشكل على أَن فِي بعض الْأَلْفَاظ دَعَا بِإِنَاء مثل الحلاب قَوْله: (فَأخذ بكفه) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بكفيه، بالتثنية، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله: (الْأَيْسَر) وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد قَوْله: (فَقَالَ بهما) أَي: بكفيه، وَهَذَا يدل على أَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، فَأخذ بكفيه، بالتثنية حَيْثُ أعَاد الضَّمِير بالتثنية. وَأما على رِوَايَة مُسلم فَظَاهر، لِأَنَّهُ زَاد فِي رِوَايَته بعد قَوْله: (الْأَيْسَر) (فَأخذ بكفيه) وَمعنى: قَالَ بهما. قلب بكفيه على وسط رَأسه وَالْعرب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال، وتطلقه أَيْضا على غير الْكَلَام فَتَقول: قَالَ بِيَدِهِ، أَي: أَخذ، وَقَالَ بِرجلِهِ، أَي: مَشى قَالَ الشَّاعِر:
(وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة)
أَي: أَوْمَأت وَجَاء فِي حَدِيث آخر: (فَقَالَ بِثَوْبِهِ) أَي: دَفعه، وكل ذَلِك على الْمجَاز والاتساع، وَيُقَال: إِن قَالَ: يَجِيء لمعان كَثِيرَة بِمَعْنى: أقبل وَمَال واستراح وَذهب وَغلب وَأحب وَحكم وَغير ذَلِك، وَسمعت أهل مصر يستعملون هَذَا فِي كثير من ألفاظهم، وَيَقُولُونَ: أَخذ الْعَصَا وَقَالَ بِهِ كَذَا أَي ضرب بِهِ، وَأخذ ثَوْبه وَقَالَ بِهِ عَلَيْهِ، أَي: لبسه وَغير ذَلِك، يقف على هَذَا من تتبع كَلَامهم قَوْله: (وسط رَأسه) بِفَتْح السِّين، وَقَالَ الْجَوْهَرِي بِالسُّكُونِ ظرف، وبالحركة اسْم، وكل مَوضِع صلح فِيهِ بَين فَهُوَ بِالسُّكُونِ، وَإِن لم يصلح فِيهِ فَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ المطرزي: سَمِعت ثعلباً يَقُول: استنبطنا من هَذَا الْبَاب أَن كل مَا كَانَ أَجزَاء ينْفَصل. قلت: فِيهِ وسط بالتسكين، وَمَا كَانَ لَا ينْفَصل وَلَا يتفرق، قلت: بِالتَّحْرِيكِ. تَقول من الأول: أجعَل هَذِه الحرزة وسط السبحة، وانظم هَذِه الياقوتة وسط القلادة، وَتقول أَيْضا مِنْهُ، لَا تقعد وسط الْحلقَة، ووسط الْقَوْم، هَذَا كُله(3/205)
يتَجَزَّأ ويتفرق وينفصل، فَيَقُول فِيهِ بالتسكين، وَتقول فِي الْقسم الثَّانِي، احْتجم وسط رَأسه، وَقعد وسط الدَّار، فقس على هَذَا وَفِي (الواعي) لأبي مُحَمَّد، قَالَ الْفراء: سَمِعت يُونُس يَقُول: وسط ووسط بِمَعْنى، وَفِي (الْمُخَصّص) عَن الْفَارِسِي: سوى بعض الْكُوفِيّين بَين وسط ووسط فَقَالَ: هما ظرفان وإسمان.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن المغتسل يسْتَحبّ لَهُ أَن يُجهز الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء ليغتسل مِنْهُ، وَيسْتَحب لَهُ أَن يبْدَأ بشقه الْأَيْمن ثمَّ بالشق الْأَيْسَر، ثمَّ على وسط رَأسه، ويستنبط من قَوْلهَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مداومته على ذَلِك لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تدل على الِاسْتِمْرَار والدوام، وَالله أعلم.
7 - (بابُ المَضْمَضَةِ والإِسْتِنْشَاقِ فِي الجَنَابَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم المضمة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة هَل هما واجبان أم سنتَانِ؟ وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ ابْن بطال وَغَيره إِلَى أنالبخاري استنبط عدم وجوبهما من هَذَا الحَدِيث، لِأَن فِي رِوَايَة الْبَاب الَّذِي بعده فِي هَذَا الحَدِيث، (ثمَّ تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) فَدلَّ على أَنَّهُمَا للْوُضُوء وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن الْوضُوء فِي غسل الْجَنَابَة غير وَاجِب. والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق من تَوَابِع الْوضُوء، فَإِذا اسقط الْوضُوء سقط توابعه، وَيحمل مَا روى من صفة غسله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْكَمَال وَالْفضل، قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ لَهُ تعلق بِالْحَدِيثِ الَّذِي يَأْتِي وَفِيه التَّصْرِيح بالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتركهما، فَدلَّ على الْمُوَاظبَة وَهِي تدل على الْوُجُوب. فَإِن قلت: مَا الدَّلِيل على الْمُوَاظبَة؟ قلت: عدم النَّقْل عَنهُ بِتَرْكِهِ إيَّاهُمَا، وَسُقُوط الْوضُوء القصدي لَا يسْتَلْزم سُقُوط الْوضُوء الضمني، وعَلى كل حَال لم ينْقل تَركهمَا، وَأَيْضًا النَّص يدل على وجوبهما، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
259 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غياثٍ قالَ حدّثنا أبي قَالَ الأَعْمَشُ قَالَ حدّثني سالِمُ عنْ كُرَيْبٍ عنِ ابنَ عَبَّاسِ قالَ حدَّثَنا مَيْمُونَةُ قالَتْ صَبَبْتُ للنِّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُسْلاً فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلهُما ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ قالَ بِيَدِهِ الأَرْضَ فَسَحَهَا بالترَابِ ثُمَّ غسَلَهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَتِيَ بِمَنْدِيلٍ فَلَم يَنْقُضُ بِها..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عمر بن حَفْص بن غياث؟ بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي. ولي الْقَضَاء بِبَغْدَاد أوثق أَصْحَاب الْأَعْمَش ثِقَة فَفِيهِ عفيف حَافظ، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: سَالم ابْن أبي الْجَعْد التَّابِعِيّ. الْخَامِس: كريب. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس. السَّابِع: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائفه إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَفِيه: حَدثنَا عمر بن حَفْص بن غياث فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا عمر بن حَفْص أَي: ابْن غياث.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (غسلا) بِالضَّمِّ أَي: مَاء للاغتسال. قَوْله: (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأَرْض) أَي: ضرب بِيَدِهِ الأَرْض، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الْعَرَب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال، وتطلقه على غير الْكَلَام، سيجىء فِي رِوَايَة فِي هَذَا الْموضع: (فَضرب بِيَدِهِ الأَرْض) قَوْله: (ثمَّ تنحى) أَي: بعد عَن مَكَانَهُ. قَوْله: (بمنديل) بِكَسْر الْمِيم، واشتقافه من الندل وَهُوَ الْوَسخ لِأَنَّهُ يندل بِهِ، وَيُقَال: تندلت بالمنديل. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَيُقَال أَيْضا تمندلت بِهِ وأنكرها الْكسَائي. وَيُقَال تمدلت: وَهُوَ لُغَة فِيهِ قَوْله: (فَلم ينفض بهَا) زَاد فِي رِوَايَة كَرِيمَة، قَالَ أَبُو عبد الله يَعْنِي لم يتمسح، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النفض التنشف، وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير لِأَن المنديل فِي معنى الْخِرْقَة، وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ خرقَة يتنشف بهَا) .
وَالْأَحْكَام المستنبطة مِنْهَا قد ذكرت عَن قريب.(3/206)
8 - (بابُ مَسْحِ اليَدِ بالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مسح المغتسل يَده بِالتُّرَابِ لتَكون أنقى أَي: أطهر، وَكلمَة. من محذوفة. أَي: (أنقى) من غير الممسوحة، وَذَلِكَ لِأَن أفعل التَّفْضِيل لَا يسْتَعْمل إِلَّا بِالْإِضَافَة أَو بِاللَّامِ أَو بِمن، وَالضَّمِير فِي: لتَكون، اسْم. كَانَ، وَخَبره قَوْله: أنقى، وَلَا مُطَابقَة بَينهمَا، مَعَ شَرط بَين اسْم كَانَ وَخَبره، وَجه ذَلِك أَن أفعل التَّفْضِيل إِذا كَانَ بِمن فَهُوَ مُفْرد مُذَكّر لَا غير.
260 - حدّثنا الحُمَيْدِي قالَ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ حدّثنا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسِ عَنْ مَيْمُونَةَ أنَّ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتَسَل مِنَ الجَنَابَةِ فَغَسَل فَرْجَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دّلَكَ بِهَا الحَائِطِ ثُمَّ غَسَلْهَا ثُمَّ تَوَضأَ وُضُوءَه لِلصَّلاَةِ فَلَمَا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ رِجْلَيْهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمَّ دلك الْحَائِط بهَا.
فَإِن قلت: هَذِه التَّرْجَمَة قد علمت من حَدِيث الْبَاب الْمُتَقَدّم فِي قَوْله: (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأَرْض فمسها بِالتُّرَابِ) فَمَا فَائِدَة التّكْرَار؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: عرض البُخَارِيّ من أمتا لَهُ الشُّعُور باخْتلَاف استخراجات الشُّيُوخ وتفاوت سياقاتهم، مثلا عمر بن حَفْص روى هَذَا الحَدِيث فِي معرض بَيَان الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة، والْحميدِي رَوَاهُ فِي بَيَان معرض مسح الْيَد بِالتُّرَابِ فحافظ على السِّيَاق وَمَا أستخرجه الشُّيُوخ فِيهِ مَعَ مَا فِيهِ من التقوية والتأكيد. قلت: هَاهُنَا فَائِدَة أُخْرَى. وَهِي: أَن فِي الْبَاب الأول دلك الْيَد على التُّرَاب، وَهَاهُنَا دلك الْيَد على الْحَائِط، وَبَينهمَا فرق.
ذكر رِجَاله وَمَا فِي السَّنَد من اللطائف أما رِجَاله فهم سَبْعَة مثل رجال الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق، فير أَن شَيْخه هَاهُنَا الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَبَقِيَّة الرِّجَال متحدة.
وَأما لطائفه فَفِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الْأَكْثَرين: حَدثنَا الْحميدِي، وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا عبد الله بن الزبير الْحميدِي، وَفِي بَعْضهَا حَدثنَا الْحميدِي، عبد الله بن الزبير. قَوْله: (فَغسل فرجه) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْفَاء للتعقيب، وَغسل الْفرج لَيْسَ متعقباً على الِاغْتِسَال بل مقدم عَلَيْهِ، وَكَذَا الدَّلْك وَالْوُضُوء. قلت: الْفَاء تفصيلية، لِأَن هَذَا كُله تَفْصِيل للاختصار الْمُجْمل، وَالتَّفْصِيل يعقب الْمُجْمل، وَأخذ مِنْهُ عبضهم وَقَالَ: هَذِه الْفَاء تفسيرية وَلَيْسَ بتعقيبية، لِأَن غسل الْفرج لم يكن بعد الْفَرَاغ انْتهى قلت: من دقق النّظر وَعرف أسرار الْعَرَبيَّة يَقُول: الْفَاء، هَاهُنَا عاطفة وَلكنهَا للتَّرْتِيب، وَمعنى الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل فرتب غسله، فَغسل فرجه ثمَّ تَوَضَّأ، وَكَون الْفَاء للتعقيب لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا عاطفة.
بَيَان الْأَحْكَام قد مر مستقصىً.
9 - (بابُ هَلْ يُدْهِلُ الجُنُبُ يَدَهُ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أنْ يَغْسِلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرُ غَيْرُ الجَنَابَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان هَل يدْخل الْجنب يَده؟ إِلَخ. قَوْله: (فِي الْإِنَاء) أَي الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء. قَوْله: (قذر) أَي: شَيْء مستكره من نَجَاسَة وَغَيرهَا. قَوْله: (غير الْجَنَابَة) يشْعر بِأَن الْجَنَابَة نجس وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الْمُؤمن لَا ينجس كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح، وَقَالَ بَعضهم: غير الْجَنَابَة أَي: حكمهَا، لِأَن أَثَرهَا مُخْتَلف فِيهِ، فَدخل فِي قَوْله: (قذر) قلت: لم يدْخل الْجَنَابَة فِي القذر أصلا لِأَنَّهَا أَمر معنوي لَا يُوصف بالقذر حَقِيقَة، فَمَا مُرَاد هَذَا الْقَائِل من قَوْله: أَي حكمهَا؟ فَإِن كَانَ الِاغْتِسَال، فَلَا دخل لَهُ هَاهُنَا وَإِن كَانَ النَّجَاسَة فقد قُلْنَا إِن الْمُؤمن لَا ينجس، وَكَذَا إِن كَانَ مُرَاده من قَوْله: لِأَن أَثَرهَا أَي: الْمَنِيّ وَهُوَ طَاهِر فِي زَعمه.
وأدْخَلَ ابنُ عُمَرَ والبَرَاءُ ابنُ عازِبٍ يَدَهُ فِي الطِّهُورِ وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن الْوَاو فِي قَوْله: (وَأدْخل) مَا هِيَ؟ قلت: ذ (قد ذكرت غير مرّة أَن هَذِه الْوَاو، تسمى: وَاو، الاستفتاح يستفتح بهَا كَلَامه، وَهُوَ السماع من الْمَشَايِخ الْكِبَار.
الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة على الْكَمَال، لِأَن التَّرْجَمَة مُقَيّدَة والأثر مُطلق.
الثَّالِث: أَن هَذَا مُعَلّق أما أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فقد وَصله سعيد بن مَنْصُور بِمَعْنَاهُ، وَأما أثر الْبَراء فقد وَصله ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ أَنه أَدخل يَده فِي المطهرة قبل أَن يغسلهَا. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) أخبرنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن أبي سِنَان ضرار، عَن محَارب عَن ابْن عمر قَالَ: من مَاء وَهُوَ جنب فَمَا بَقِي نجس(3/207)
وَهَذَا يُعَارض مَا ذكره من اعْترف. قلت: حملُوا هَذَا على مَا إِذا كَانَ بِيَدِهِ قدر، تَوْفِيقًا بَين الأثرين، وَقَالَ بَعضهم: لأ غسل للنَّدْب وَترك للْجُوَاز. قلت: كَيفَ يكون تَركه للْجُوَاز إِذا كَانَ بِيَدِهِ قذر؟ وَإِن لم يكن فَلَا يضر، فَلم يحصل التَّوْفِيق بَينهمَا بِمَا ذكره هَذَا الْقَائِل، وَهَذَا الْأَثر من أقوى الدَّلَائِل لمن ذهب من الْحَنَفِيَّة إِلَى نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل فَافْهَم.
الرَّابِع: فِي مَعْنَاهُ، فَقَوله: (يَده) أَي أَدخل كل وَاحِد مِنْهُمَا يَده وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت (يديهما) بالتثنية على الأَصْل وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض النّسخ يديهما.
بَينهمَا وَلم يغسلاهما ثمَّ تَوَضَّأ بالتثنية فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاث. قَوْله: (فِي الطّهُور) بِفَتْح الطَّاء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ فِي الْوضُوء والاغتسال.
الْخَامِس: فِي حكم هَذَا الْأَثر. وَهُوَ جَوَاز إِدْخَال الْجنب يَده فِي إِنَاء المَاء قبل أَن يغسلهما إِذا لم يكن عَلَيْهَا نَجَاسَة حَقِيقِيَّة. وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ الصَّحَابَة يدْخلُونَ أَيْديهم المَاء قبل أَن يغسلوها وهم جنب، وَكَذَلِكَ النِّسَاء، وَلَا يفْسد ذَلِك بَعضهم على بعض، وَرُوِيَ نَحوه عَن ابْن سِيرِين وَعَطَاء وَسَالم وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن أبي جُبَير وَابْن الْمسيب.
وَلَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ وَابنُ عَبَّاسٍ بَأْساً بِما يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ
وجد مُطَابقَة هَذَا الْأَثر بالتعسف كَمَا يَأْتِي، وَهُوَ من حَيْثُ إِن المَاء الَّذِي يدْخل الْجنب يَده فِيهِ لَا ينجس إِذا كَانَت طَاهِرَة فَكَذَلِك انتشار المَاء الَّذِي يغْتَسل بِهِ الْجنب فِي إنائه لِأَن فِي تنجيسه مشقة أَلا ترى كَيفَ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَمن يملك انتشار المَاء؟ فَإنَّا لنَرْجُو من رَحْمَة الله مَا هُوَ أوسع من هَذَا إِمَّا أثر ابْن عمر فوصله عبد الرَّزَّاق بِمَعْنَاهُ، وَأما أثر ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الْعَلَاء بن الْمسيب عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن عَبَّاس فِي الرجل يغْتَسل من الْجَنَابَة فينتضح فِي إناثه من غسله فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين إِبْرَاهِيم وَابْن عَبَّاس وَرُوِيَ مثله عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن فِيمَا حَكَاهُ ابْن بطال عَنْهُم، وَيقرب من ذَلِك مَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَن كَانَ يُصَلِّي فاناتضح عَلَيْهِ الْبَوْل أَكثر من قدر الدِّرْهَم، فَإِنَّهُ لَا يفْسد صلَاته بل يتَصَرَّف وَيغسل ذَلِك وَيَبْنِي على صلَاته.
261 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَة قَالَ أخبرنَا أَفْلَحُ عَن القاسِمِ عَن عائِشَةَ قالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَالنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاء وَاحدٍ تَخْتَلِفُ أَيْد ينَا فِيهِ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز إِدْخَال الْجنب فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهَا إِذا لم يكن عَلَيْهَا قذر يدل عَلَيْهِ من قَوْله عَائِشَة: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ وتلتقي) وَاخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء لَا يكون إلاَّ بعد الإدخال، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَا يفْسد المَاء فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مُقَيّدَة، وَهَذَا الحَدِيث مُطلق. قلت: الْقَيْد الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة مراعى فِي الحَدِيث للقرينة الدَّالَّة على ذَلِك، شَأْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشأن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أجل من أَن يدخلا أَيْدِيهِمَا فِي أناء المَاء، وعَلى أَيْدِيهِمَا مَا يفْسد المَاء، وَحَدِيث هِشَام الَّذِي يَأْتِي عَن قريب أقوى الْقَرَائِن على ذَلِك وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي الْموضع، لَا مَا ذكره الْكرْمَانِي، إِن ذَلِك ندب وَهُوَ جَائِز. ثمَّ اعْلَم أَن البُخَارِيّ أخرج فِي هَذَا الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث. فمطابقة الحَدِيث الأول: للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا. وَالثَّانِي: مُفَسّر للْأولِ على مَا نذكرهُ. وَالثَّالِث وَالرَّابِع: وَإِن لم يذكر فيهمَا غسل الْيَد، ولكنهما محمولان على معنى الحَدِيث الثَّانِي وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ للتطابق، وَلَا معنى لتطويل الْكَلَام بِدُونِ فَائِدَة نافعة، كَمَا ذكره غير مرّة، وَابْن الْمُنِير وَغَيرهمَا.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين. والقعنبي، وَقد تقدم ذكره غير مرّة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسملة بن قعنب. الثَّانِي: أَفْلح بن حميد بِضَم الْحَاء الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَقد وَقع فِي نسختنا الصَّحِيحَة هَكَذَا، أَفْلح بن حميد، بِذكر أَبِيه حميد، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَفِي أَكثر النّسخ: أَفْلح، غير مَنْسُوب، وَهُوَ ابْن حميد بِلَا خلاف، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ غَيره، وَأخرج بِهِ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَفِي مُسلم: أَفْلح بن سعيد، وأفلح عَن مَوْلَاهُ، وَفِي النَّسَائِيّ: أَفْلح الْهَمدَانِي، وَالأَصَح أَبُو أَفْلح بن سعيد السَّابِق، وَلَيْسَ فِي هَذِه الْكتب سواهُم. الثَّالِث: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الرَّابِع: عَائِشَة الصديقة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة فِي مَوضِع وَاحِد لِأَن فِي روايتهما حَدثنَا عبد الله بن مسلمة أخبرنَا أَفْلح. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كدنيون، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَابْن حبَان من(3/208)
طَرِيق ابْن وهب عَن أَفْلح أَنه سمع الْقَاسِم يَقُول: سَمِعت عاشة فَذكره.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عبد الله بن مسلمة نَحوه
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (وَالنَّبِيّ) بِالرَّفْع عطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي كنت، وأبرز الضَّمِير أَيْضا ليَصِح الْعَطف عَلَيْهِ، وَيجوز فِيهِ النصب على أَنه مفعول مَعَه، فَتكون الْوَاو للمصاحبة. قَوْله: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا حَال من قَوْله من إِنَاء وَاحِد، وَالْجُمْلَة بعد الْمعرفَة حَال، وَبعد النكرَة صفة، والإناء هُنَا مَوْصُوف، وَمعنى اخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء يَعْنِي من الإدخال فِيهِ والإخراج مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي آخِره (من الْجَنَابَة) أَي: لأجل الْجَنَابَة، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَابْن حبَان بعد قَوْله: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن سُلَيْمَان عَن أَفْلح، تخْتَلف فِيهِ أَيْدِينَا حَتَّى تلتقي، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، تخْتَلف أَيْدِينَا فيبادرني حَتَّى أَقُول: دع لي. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فِيهِ، يَعْنِي: وتلتقي وَفِيه إِشْعَار بِأَن قَوْله: تلتقي، مدرج وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم من طَرِيق معَاذ عَن عَائِشَة فيبادرني حَتَّى أَقُول: دع لي، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (وأبادره حَتَّى يَقُول دعِي لي) .
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: جَوَاز اعْتِرَاف الْجنب من المَاء الَّذِي فِي الْإِنَاء وَيجوز التطهر بذلك المَاء وَمِمَّا يفصل مِنْهُ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ دلَالَة على أَن النَّهْي عَن انغماس الْجنب فِي المَاء الدَّائِم إِنَّمَا هُوَ للتنزيه كَرَاهِيَة أَن يستقذر، لَا لكَونه يصير نجسا بانغماس الْجنب فِيهِ قلت: هَذَا الْكَلَام على إِطْلَاقه غير صَحِيح، لِأَن الْجنب إِذا انغمس فِي المَاء الدَّائِم لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ذَلِك المَاء كثيرا أَو قَلِيلا، فَإِن كَانَ كثيرا نَحْو الغدير الْعَظِيم الَّذِي لَا يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحريك الطّرف الآخر فَإِن الْجنب إِذا انغمس فِيهِ لَا يفْسد المَاء وَإِن كَانَ قَلِيلا لَا يبلغ الغدير الْعَظِيم فَإِن الْجنب إِذا انغمس فِيهِ فَإِنَّهُ يفْسد المَاء وَهل يطهر الْجنب أم لَا فِيهِ خلاف.
262 - حدّثنا مُسَدَّدُ قالحدّثنا حَمَّادُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتُ كانِ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 248 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث مُفَسّر للْحَدِيث السَّابِق، لِأَن فِي الحَدِيث السَّابِق اخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء، بِظَاهِرِهِ بتناول اليدي الطاهرة وَالْيَد الَّتِي عَلَيْهَا مَا يفْسد المَاء، وَبَين هَذَا أَنه إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة غسل يَده يَعْنِي: إِذا أَرَادَ الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة غسل يَده ثمَّ بعد ذَلِك لَا يضر إِدْخَاله فِي الْإِنَاء لَكِن هَذَا عِنْد خَشيته من أَن يكون بهَا أَذَى من أَذَى الْجَنَابَة أَو غَيرهَا وَأما عِنْد تيقنه ب (طَهَارَة) الْيَد فَلم يكن يغسلهَا فيهذا يَنْتَفِي التَّعَارُض بَينهمَا أَو يكون الحَدِيث السَّابِق مَحْمُولا على تيقنه بِعَدَمِ الْأَذَى، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَنه يغسلهَا قبل إدخالها فِي الْإِنَاء لعدم تيقنه بطهارتها.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: مُسَدّد بن مسرهد، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، لِأَن البُخَارِيّ لم يرو عَن حَمَّاد بن سَلمَة، وَهِشَام وَهُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَالْبُخَارِيّ أخرج هَذَا مُخْتَصرا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب ومسدد، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة، قَالَ سُلَيْمَان: يبْدَأ فيفرغ بِيَمِينِهِ، وَقَالَ مُسَدّد: غسل يَده، يصب الْإِنَاء على يَده الْيُمْنَى، ثمَّ اتفقَا فَيغسل فرجه، قَالَ مُسَدّد: يفرغ على شِمَاله، وَرُبمَا كنت عَن الْفرج ثمَّ يتَوَضَّأ كوضوئه للصَّلَاة، ثمَّ يدْخل يَده فِي الْإِنَاء فيخلل شعره حَتَّى إِذا رأى أَنه قد أصَاب الْبشرَة أَو أنقى الْبشرَة أفرغ على رَأسه ثَلَاثًا وَإِذا فضل فضلَة صبها عَلَيْهِ.
263 - حدّثنا أبُو الوَليدِ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي بَكْرِ بنِ حَفْصِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ كُنت أغْتَسُلُ أنَا والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ.
(انْظُر الحَدِيث أَطْرَافه) .
أَبُو الْوَلِيد هُوَ الطَّيَالِسِيّ، تقدم فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَأَبُو بكر ب ن حَفْص مرا فِي بَاب الْغسْل بالصاع،
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
قَوْله: (من جَنَابَة) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من الْجَنَابَة) وَهَاهُنَا كلمة من فِي موضِعين: الأولى: مُتَعَلقَة بمقدر كَقَوْلِك أخذين المَاء من إِنَاء وَاحِد وَالْأولَى(3/209)
ظرف مُسْتَقر. وَالثَّانيَِة: لقو، وَيجوز تعلق الجارين بِفعل وَاحِد إِذا كَانَا بمعنيين مُخْتَلفين، فَإِن الثَّانِيَة بِمَعْنى لأجل الْجَنَابَة وَالْأولَى لمحض الِابْتِدَاء.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحمنَ بنِ القاسِمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ
هَذَا مَعْطُوف على قَول شُعْبَة عَن أبي بكر بن حَفْص بِهَذَا أَن لشعبة باسنادين إِلَى عَائِشَة أَحدهمَا عَن عُرْوَة وَالْآخر عَن الْقَاسِم كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة وَلَا يُقَال أَن رِوَايَة عبد الرحمان معلقَة وَبَين اتصالها أَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي الْوَلِيد بِإِسْنَادَيْنِ وَقَالَ أخرجه البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد بالاسنادين جَمِيعًا وَكَذَا قَالَ أَبُو سعيد وَغَيره فِي الاطراف وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بهوزاد من الْجَنَابَة قَوْله (مثله) أَي مثل حَدِيث شُعْبَة عَن أبي بكر بن حَفْص وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِمثلِهِ بِزِيَادَة الْبَاء الْمُوَحدَة.
263 - حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الله بن عبد الله بن جبر قَالَ سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ يغتسلان من إِنَاء وَاحِد.
(انْظُر الحَدِيث أَطْرَافه) .
أَبُو الْوَلِيد هُوَ الطَّيَالِسِيّ الْمَذْكُور، وَعبد الله بن عبد الله، بالتكرير وَكِلَاهُمَا بِالتَّكْبِيرِ: ابْن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه ذكر فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان، لَكِن لمتن آخر، وَهُوَ ثَالِث الأسناد لشعبة فِي هَذَا الْمَتْن لَكِن من طَرِيق صَحَابِيّ آخر.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبٌ عنْ شُعْبَةَ مِنَ الجَنَابَةِ
مُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الْحَافِظ الثِّقَة الْمَأْمُون، وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ، ووهب هُوَ: ابْن جرير بن حَازِم، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت، ابْن جرير أبي حَازِم، وَبِذَلِك جزم أَبُو نعيم وَغَيره، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وهيب، بِالتَّصْغِيرِ، وَالظَّاهِر أَنه من الْكَاتِب. وَقَالَ بَعضهم فِي ظَنِّي أَنه وهم، وَمن جملَة أثبات الْوَهم أَن وهب بن جرير من الروَاة عَن شُعْبَة ووهيباً من أقرانه، قلت: كَونه من أقرانه لَا يَقْتَضِي منع الرِّوَايَة عَنهُ، وَنبهَ البُخَارِيّ بِهَذَا على أَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم ووهب بن جرير رويا هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ أَبُو الْوَلِيد، فَزَاد فِي آخِره من الْجَنَابَة، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: أَخْبرنِي ابْن نَاجِية، حَدثنَا زيد بن أحزم حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا شُعْبَة، وَقَالَ لم يذكر من الْجَنَابَة، وَذَلِكَ بعد أَن أخرجه بِغَيْر هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا من طَرِيق ابْن مهْدي. قإن قلت: هَل يعد هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم ووهب مُتَّصِلا أَو مُعَلّقا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه تَعْلِيق من البُخَارِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ حِين وَفَاة وهب كَانَ ابْن ثِنْتَيْ عشرَة سنة، وَيحْتَمل أَنه كَانَ قد سمع مِنْهُ، وإدخاله فِي سلك مُسلم يرد ذَلِك، وَقَالَ أَيْضا: فَإِن قلت: لم يذكر شيخ شُعْبَة فعلام نحمله؟ قلت: على الشَّيْخ الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الْمُتَقَدّم، وَهُوَ عبدا لله فَكَأَنَّهُ عَن شُعْبَة عَن عبد الله، قَالَ: سَمِعت أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
10 - (بابُ تَفْرِيقِ الغُسْلِ والوُضُوءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْرِيق الْغسْل وَالْوُضُوء هَل هُوَ جَائِز أم لَا؟ وَذهب البُخَارِيّ إِلَى أَنه جَائِز، وأيده بِفعل ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا نذكرهُ، ثمَّ إِن هَذَا الْبَاب وَقع فِي بعض النّسخ بعد الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي أَكْثَرهَا قبله كَمَا ترى هَاهُنَا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا على فعل جَائِز، أما فِي الْبَاب الَّذِي قبله فجواز إِدْخَال الْيَد فِي إِنَاء المَاء إِذا كَانَت طَاهِرَة، وَأما فِي هَذَا الْبَاب فجواز التَّفْرِيق فِي الْغسْل وَالْوُضُوء.
وَيُذْكَرُ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَ مَا جفَّ وَضُوؤُهُ
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الْوضُوء. وَقَوله: (وضوؤه) بِفَتْح الْوَاو، وَهَذَا تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض، لِأَن قَوْله: (يذكر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَلَو قَالَ: وَذكر ابْن عمر، على صِيغَة الْمَعْلُوم لأجل التَّصْحِيح لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ جزم بذلك، وَوَصله(3/210)
الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) حدث أَبُو زَكَرِيَّا وَأَبُو بكر وَأَبُو سعيد قَالُوا: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أخبرنَا الرّبيع أخبرنَا الشَّافِعِي أخبرنَا مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. (أَنه تَوَضَّأ بِالسوقِ فَغسل وَجهه وَيَديه وَمسح رَأسه، ثمَّ دعِي لجنازة فَدخل الْمَسْجِد ليُصَلِّي عَلَيْهِمَا فَمسح على خفيه ثمَّ صلى عَلَيْهِمَا) قَالَ الشَّافِعِي: وَأحب أَن يُتَابع الْوضُوء وَلَا يفرق، فَإِن قطعه فَأحب إِلَيّ أَن يسْتَأْنف وضوءه، وَلَا يتَبَيَّن لي أَن يكون عَلَيْهِ اسْتِئْنَاف وضوء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَوَاز التَّفْرِيق، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن الْمسيب وَعَطَاء وَطَاوُس وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وسُفْيَان بن سعيد وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وَعند الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم لَا يجْزِيه نَاسِيا كَانَ أَو عَامِدًا، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَابْن وهب، وَذَلِكَ إِذا فرقه حَتَّى جف، وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك، وَإِن فرقه يَسِيرا جَازَ، وَإِن كَانَ نَاسِيا، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجْزِيه وَعَن مَالك يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح دون المغسول، وَعَن ابْن أبي زيد، يجْزِيه فِي الرَّأْس خَاصَّة. وَقَالَ ابْن مسلمة فِي (الْمَبْسُوط) يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح رَأْسا كَانَ أَو خفاً وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: الْجَفَاف لَيْسَ بِحَدِيث فينقض كَمَا لَو جف جَمِيع أَعْضَاء الْوضُوء لم تبطل الطَّهَارَة.
265 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَحْبُوبٍ قالَ حَدثنَا عَبُدُ الوَاحِدِ قالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عَنْ سالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْن عَبَّاسٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ قالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِرسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء يَغْتَسِلُ بِهِ فَافْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلٍ هُمَا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثاً ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِنِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَل مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ يَدَهُ بالأرْضِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثَلاثاً ثُمَّ أفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغْسَلَ قَدَمَيْهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي تَفْرِيق غسل أَعْضَائِهِ بإفراغ المَاء على جسده والتنحي من مقَامه. فَإِن قلت هَذَا فِي تَفْرِيق الْغسْل فَأَبِنْ مَا يدل على تَفْرِيق الْوضُوء؟ قلت: دلّ على تفريقه ذكر مَيْمُونَة صفة وضوئِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِكَلِمَة: ثمَّ الَّتِي تدل على التَّرَاخِي مُطلقًا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: مُحَمَّد بن مَحْبُوب أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، قيل: مَحْبُوب لقبه واسْمه الْحسن، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم هَذَا الْمَتْن من رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَنهُ فِي بَاب الْغسْل مرّة وَاحِدَة، غير أَن فِي بعض ألفاظهما اخْتِلَاف فَهُنَا قَوْلهَا: (مَاء يغْتَسل بِهِ) وَهُنَاكَ (مَاء فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) وَهَاهُنَا (فأفرغ على يَدَيْهِ فغسلهما مرَّتَيْنِ) وَهُنَاكَ، (ثمَّ أفرغ على شِمَاله) وَهَاهُنَا (ثمَّ أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله) وَهُنَاكَ: (ثمَّ مسح يَده بِالْأَرْضِ) وَهَاهُنَا: (ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ) وَهُنَاكَ: (ثمَّ مضمض) وَهَاهُنَا: (ثمَّ تمضمض) وَهُنَاكَ: (ثمَّ أَفَاضَ على جسده) وَهَاهُنَا: (ثمَّ أفرغ على جسده) وَهُنَاكَ: (ثمَّ تحول من مَكَانَهُ) وَهَاهُنَا: (ثمَّ تنحى من مقَامه) أَي: بعد من مقَامه، بِفَتْح الْمِيم: اسْم مَكَان قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هُوَ مَكَان الْقيام، فَهَل يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل قَائِما؟ قلت: ذَلِك أَصله لكنه اشْتهر بعرف الِاسْتِعْمَال لمُطلق الْمَكَان قَائِما كَانَ أَو قَاعِدا فِيهِ.
وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ مَضَت هُنَاكَ.
11 - (بابُ مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِنِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الغُسْلِ)
أَي: هَذَا الْبَاب فِي بَيَان من أفرغ المَاء بيمنه على شِمَاله، وَهَذَا الْبَاب مقدم على الْبَاب الَّذِي قبله عِنْد ابْن عَسَاكِر والأصيلي، وعَلى كل تَقْدِير الْمُنَاسبَة بَينهمَا ظَاهر من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يتَعَلَّق بِالْوضُوءِ، وإفراغ المَاء بيمنه على شِمَاله فِي الِاسْتِنْجَاء فِي الْغسْل، وَهَذَا وَجه وَاحِد، وَلَا يجوز غَيره وَأما فِي غسل الْأَطْرَاف فَإِن كَانَ الْإِنَاء الَّذِي يتَوَضَّأ مِنْهُ إِنَّا وَاسِعًا يَضَعهُ عَن يَمِينه وَيَأْخُذ مِنْهُ المَاء بيمنه، وَإِن كَانَ ضيقا كالقماقم يَضَعهُ عَن يسَاره وَيصب المَاء مِنْهُ على يَمِينه، قَالَه الْخطابِيّ.
266 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعَيلَ قالَ حدّثنا أبُو عَوَانَةَ قالَ حدّثنا الأعْمَشُ عَنْ سَالِمَ بنِ أبي الجعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلِى ابنِ عَبَّاسٍ ابنِ عَبَّاسِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحارِثِ قالَتْ وَضَعْتُ لِرَسولِ(3/211)
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُسْلاً وَسَتَرْتَهُ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قالَ سُلَيْمَانُ لَا أدْرِي أذْكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لَا ثُمَّ أفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أوْ بِالحَائِطِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتَهُ خِرْقَةً فَقالَ بِيَدِهِ هَكَذًّ وَلَمْ يُرْدْها..
مطابقته لترجمة الْبَاب ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث تقدم من رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور أَيْضا فِي بَاب الْغسْل مرّة لَكِن شَيْخه هُنَاكَ عبد الْوَاحِد بن زِيَادَة، وَهَاهُنَا أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، واسْمه الوضَّاح البشكري، وَفِي ألفاظهما اخْتِلَاف. وَهَاهُنَا قَوْلهَا: وضعت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُنَاكَ: وضعت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَاهُنَا غسلا، وَهُنَاكَ مَاء غسل، وَهَاهُنَا بعد ذَلِك وسترته فصب على يَدَيْهِ فغسلهما مرّة أَو مرَّتَيْنِ، وَهُنَاكَ فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَهَاهُنَا، وَبعده قَالَ سُلَيْمَان لَا أَدْرِي أذكر الثَّالِثَة أم لَا ثمَّ أفرغ بيمنيه على شِمَاله فَغسل فرجه، وَهُنَاكَ فَغسل مذاكيره ثمَّ مسح يَده بِالْأَرْضِ أَو بِالْحَائِطِ. وَهَاهُنَا: ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ أَو بِالْحَائِطِ وَهَاهُنَا هم تمضمض وَهُنَاكَ ثمَّ مضمض وَهَاهُنَا ثمَّ صب على جسده وَهُنَاكَ ثمَّ أَفَاضَ جسده ثمَّ تحول من مَكَانَهُ فَغسل قَدَمَيْهِ وَهَاهُنَا: ثمَّ تنحى إِلَى آخر مَا ذكر. قَوْلهَا: (غسلا) بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ مَا يغْتَسل بِهِ، وبالفتح مصدرا، وبالكسر اسْم مَا يغسل بِهِ كالسدر وَنَحْوه. قَوْلهَا: (وسترته) زَاد ابْن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش: يثوب، أَي: غطيت رَأسه وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو فِيهِ حَالية. قلت: لَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: وضعت قَوْلهَا (فصب) مَعْطُوف على مَحْذُوف أَي: فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغسْل فكشف رَأسه فَأَخذه فصب على يَده، وَالْمرَاد من الْيَد الْجِنْس فصح، إِرَادَة كلتيهما مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَا حَاصله: أَن فصب، عطف علفى وضعت، وَالْمعْنَى: وضعت لَهُ مَاء فشرع فِي الْغسْل. قَوْله: (هَذَا تصرف من لَيْسَ لَهُ ذوق من مَعَاني التراكيب، وَكَيف يكون الصب معقباً بِالْوَضْعِ وَبَينهمَا إغسال آخر؟ وَلَا يجوز تَفْسِير: صب بِمَعْنى: شرع قَوْلهَا: (قَالَ سُلَيْمَان)) هُوَ ابْن مهْرَان الْأَعْمَش وَهَذَا مقول أبي عوَانَة، وفاعل قَوْله: (اذكر الثَّالِثَة) هُوَ سَالم بن أبي الْجَعْد، وَقد مر فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش، فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَلابْن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش: فصب على يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَلم يشك، أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) فَكَأَن الْأَعْمَش كَانَ يشك فِيهِ تذكر فَجزم، لِأَن سَماع ابْن فُضَيْل مِنْهُ مُتَأَخّر عَنهُ. قَوْلهَا: (فَغسل قَدَمَيْهِ) بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالْوَاو، وَقَوْلها: (فَقَالَ بِيَدِهِ) أَي: أَشَارَ بِيَدِهِ هَكَذَا أَي: لَا أتناولها. وَقد ذكرنَا أَن القَوْل يُطلق على الْفِعْل قَوْلهَا: (وَلم يردهَا) بِضَم الْيَاء، من الْإِرَادَة لَا من الرَّد، وَحكي فِي (الْمطَالع) أَن لم يردهَا بِالتَّشْدِيدِ رِوَايَة ابْن السكن، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ وهم لِأَن الْمَعْنى يفْسد حِينَئِذٍ، وَقد رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد عَن عَفَّان عَن أبي عوَانَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي آخِره: فَقَالَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن لَا أريدها وَفِي روياة أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش: فناولته ثوبا فَلم يَأْخُذهُ.
وَالْأَحْكَام المستنبطة مِنْهُ قد ذَكرنَاهَا.
12 - (بابٌ إذَا جامَعَ ثُمَّ عادَ وَمَنْ دَارَ علَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَامع امْرَأَته ثمَّ عَاد إِلَى جِمَاعهَا مرّة أُخْرَى، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا جَامع ثمَّ عَاد مَا يكون حكم , وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، عاود من المعاودة أَي: جَامع. قَوْله: (وَمن دَار) عطف على قَوْله: إِذا جَامع 7 أَي: بَاب أَيْضا يذكر فِيهِ من دَار على نِسَائِهِ فِي غسل وَاحِد، وَجَوَاب، من، محذوق أَيْضا، فَيقدر مثل ذَلِك وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: عَاد أَعم من أَن يكون فِي لَيْلَة المجامعة أَو غَيرهَا. قلت: الْجِمَاع فِي غير لَيْلَة فِيهَا لَا يُسمى عوداً عرفا وَعَادَة، وَالْمرَاد هَاهُنَا أَن يكون الِابْتِدَاء وَالْعود فِي لَيْلَة وَاحِدَة، أَو فِي يَوْم وَاحِد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي رَافع: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف ذَات يَوْم على نِسَائِهِ يغْتَسل عِنْد هَذِه وَعند هَذِه، فَقلت: يَا رَسُول الله أَلا نجعله غسلا وَاحِدًا , قَالَ: (هَذَا أزكي وَأطيب) وَعنهُ قَالَ: فَإِن قلت: ظَاهر هَذَا يدل على أَن الِاغْتِسَال بَين الجماين وَاجِب. قلت: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجب بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ حَتَّى إِن بَعضهم اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَابه، على أَن أَبَا دَاوُد روى هَذَا الحَدِيث، قَالَ: حَدِيث أنس أصح من هَذَا، وَحَدِيث أنس، رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَنهُ. قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوف على غسل وَاحِد) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ: حَدِيث(3/212)
حسن صَحِيح. وَضعف ابْن الْقطَّان حَدِيث أبي رَافع، وَصَححهُ ابْن حزم، وَعبارَة أبي دَاوُد أَيْضا تدل على صِحَّته.
وَأما الْوضُوء بَين الجماعين فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَعِنْدَ الْجُمْهُور لَيْسَ بِوَاجِب، قَوَّال ابْن حبيب الْمَالِكِي وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ: إِنَّه وَاجِب وَقَالَ ابْن جزم، وَهُوَ قَول عَطاء وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَابْن سِيرِين، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي سعيد قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود، فَليَتَوَضَّأ بَينهمَا وضوأً) أخرجه مُسلم من طَرِيق حَفْص بن عَاصِم عَن أبي المتَوَكل عَنهُ، وَحمل الْجُمْهُور الْأَمر بِالْوضُوءِ على النّدب والاستحباب، لَا للْوُجُوب، مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجَامع ثمَّ يعود وَلَا يتَوَضَّأ) قَالَ أَبُو عمر: مَا أعلم أحدا من أهل الْعلم أوجبه إلاَّ طَائِفَة من أهل الظَّاهِر. قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) حَدثنَا وَكِيع عَن مسعر عَن محَارب بن دثار، سَمِعت ابْن عمر يَقُول: إِذا أَرَادَ أَن يعود تَوَضَّأ وَحدثنَا وَكِيع عَن عمر بن الْوَلِيد سَمِعت ابْن مُحَمَّد يَقُول إِذا أَرَادَ أَن يعود تَوَضَّأ، وَحدثنَا وَكِيع عَن الْفضل بن عبد الْملك عَن عَطاء مثله، وَمَا نسب ابْن حزم من إِيجَاب الْوضُوء إِلَى الْحسن وَابْن سِيرِين فَيردهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن هِشَام عَن الْحسن أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يُجَامع الرجل امْرَأَته أَنه ثمَّ يعود قبل أَن يتَوَضَّأ قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين يَقُول: لَا أعلم بذلك بَأْسا إِنَّمَا قبل ذَلِك لِأَنَّهُ أجْرى أَن يعود. وَنقل عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه حمل الْوضُوء الْمَذْكُور على الْوضُوء اللّغَوِيّ، حَيْثُ نقل ابْن الْمُنْذر عَنهُ أَنه قَالَ: لَا بُد من غسل الْفرج إِذا أَرَادَ الْعود. قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن عَاصِم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فَليَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة؟ وَفِي لفظ عِنْده: فَهُوَ أنشط للعود، وصحيح الْحَاكِم لفظ: وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: هَذِه لَفْظَة تفرد بهَا شُعْبَة عَن عَاصِم، والتفرد من مثله مَقْبُول عِنْد الشَّيْخَيْنِ: فَإِن قلت: يُعَارض هَذِه الْأَخْبَار حَدِيث ابْن عَبَّاس (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا أمرت بِالْوضُوءِ إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة) قَالَه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) قلت قَيده أَبُو عوَانَة بقوله: إِن كَانَ صَحِيحا عِنْد أهل الحَدِيث. قلت: الحَدِيث صَحِيح، وَلَكِن قَالَ الطَّحَاوِيّ: الْعَمَل على حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي والثقفي، من حَدِيث فِي نصْرَة الصِّحَاح، هَذَا كُله مَشْرُوع جَائِز، من شَاءَ أَخذ بِهَذَا، وَمن شَاءَ أَخذ بِالْآخرِ.
267 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي عَدِىً وَيَحْيَى بنُ سَعِيدً عَنْ شُعَحبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ المُنْتَشِرٍ عَنْ أبِيهِ قالَ ذَكَرْتَهُ لِعَائِشَةَ فقالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ كُنْتُ أطيبُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَي عطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَحُ طيبا.
(الحَدِيث 267 طرفه فِي: 270) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيطوف على نِسَائِهِ) . فَإِن قلت: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْجِمَاع، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ تَجْدِيد الْعَهْد بِهن. قلت: الِاحْتِمَال الثَّانِي يُعِيد، وَالْمرَاد بِهِ الْجِمَاع، يدل عَلَيْهِ الحَدِيث الثَّانِي الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ أَنه أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ، وَيَطوف هَاهُنَا مثل: يَدُور، فِي الحَدِيث الثَّانِي. ثمَّ اعْلَم أَن نسخ البُخَارِيّ مُخْتَلفَة فِي تَقْدِيم حَدِيث أنس على حَدِيث عَائِشَة وَعَكسه، وَمَشى الدَّاودِيّ على تَقْدِيم حَدِيث عَائِشَة، وَكَذَا ابْن بطال فِي شَرحه.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة، الْمَعْرُوف ببندار، وَقد تقدم. الثَّانِي: ابْن أبي عدي، هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْقطَّان. تقدم. الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الْخَامِس: إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْمُنْتَشِر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الشين الْمُعْجَمَة. السَّادِس: أَبوهُ مُحَمَّد الْمَذْكُور. السَّابِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الذّكر وَالْقَوْل وَفِيه: قَوْله: وَيحيى بن سعيد، وَبَين شُعْبَة لَفْظَة: كِلَاهُمَا مقدرَة، لِأَن كلاًّ من ابْن أبي عدي وَيحيى روى عَن شُعْبَة هَذَا الحَدِيث، وحذفت من الْكِتَابَة للاصطلاح، وَلَكِن عِنْد الْقِرَاءَة يَنْبَغِي أَن تثبت. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره رجه البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ كَمَا يَجِيء عَن قريب، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور وَأبي كَامِل الجحدري، كلاهماعن أبي عوَانَة وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أبي كريب أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن هناد، وَعَن حميد بن مسْعدَة.(3/213)
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (ذكرته) أَي: ذكرت قَول ابْن عمر لعَائِشَة وَلَفظ فِي حَدِيث الآخر الَّذِي يَأْتِي: (سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكرت لَهَا قَول ابْن عمر: مَا أحب أَن أصبح محرما أنضخ طيبا، فَقَالَت عَائِشَة: أَنا طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث وَقد بَين مُسلم أَيْضا فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (سَأَلت ابْن عمر عَن الرجل يتطيب ثمَّ يصبح محرما) فَذكره وَزَاد، قَالَ ابْن عمر: (لِأَن اطلى بقطران أحب لي من أَن أفعل ذَلِك) وَكَذَا سَاقه الْإِسْمَاعِيلِيّ بِتَمَامِهِ عَن الْحسن بن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن بشار، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (ذكرته) أَي: قَول ابْن عمر: مَا أحب أَن أصبح محرما انضخ طيبا، وكنى بالضمي عَنهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُوم عِنْد أهل الشَّأْن قلت: هَذَا كَلَام عَجِيب، فالوقوف على مثل هَذَا مُخْتَصّ بِأَهْل الشَّأْن، فَإِذا وقف أحد من غير أهل الشَّأْن على هَذَا الحَدِيث يتحير فَلَا يدْرِي أَي شَيْء يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير فِي قَوْله (وذكرته) وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ، بل كَانَ الْمُتَعَيّن عَلَيْهِ أَن يقدم رِوَايَة أبي النُّعْمَان هَذَا الحَدِيث على رِوَايَة مُحَمَّد بن بشار، لِأَن رِوَايَة أبي النُّعْمَان ظَاهِرَة، وَالَّذِي يقف على رِوَايَة مُحَمَّد بن بشار بعد وُقُوفه على رِوَايَة أبي النُّعْمَان لَا يتَوَقَّف فِي مرجع الضَّمِير، وَيعلم أَنه يرجع إِلَى قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَن المُصَنّف اخْتَصَرَهُ لكَون الْمَحْذُوف مَعْلُوما عِنْد أهل الحَدِيث فِي هَذِه الْقِصَّة. قلت: هَذَا أعجب من ذَلِك، مَعَ أَنه أَخذ مَا قَالَه مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا أَو حَدثهُ بِهِ مُحَمَّد بن بشار مُخْتَصرا قلت: فعلى هَذَا كَانَ يتَعَيَّن ذكره بعد ذكر رِوَايَة أبي النُّعْمَان كَمَا ذكرنَا قَوْله: (فيطوف على نِسَائِهِ) قَالَ بَعضهم: هُوَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع. قلت: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ تَجْدِيد الْعَهْد بِهن، ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَن المُرَاد هُوَ الْجِمَاع، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أنس الَّذِي يَأْتِي: (كَانَ النَّبِي الله يَدُور على نِسَاءَهُ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من اللَّيْل وَالنَّهَار) قَوْله: (ينضخ) بِفَتْح الْيَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة بعْدهَا خاء مُعْجم، أَي: يفور، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} (سُورَة الرحمان: 66) وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَضَبطه بَعضهم بِالْحَاء الْمُهْملَة، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا ضَبطه عَامَّة من حَدثنَا وهما متقاربان فِي الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقد اخْتلف فِي أَيهمَا أَكثر، وَالْأَكْثَر بِالْمُعْجَمَةِ أقل من الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ الْأَثر يبْقى فِي الثَّوْب والجسد، وبالمهملة الْفِعْل نَفسه، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ مَا فعل مُتَعَمدا. وبالمهملة من غير تعمد وَذكر صَاحب (الْمطَالع) عَن ابْن كيسَان أَنه بِالْمُهْمَلَةِ لما رق كَالْمَاءِ، وبالمعجمة لما ثخن كالطيب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ أقل من المهلمة، عَكسه، وَقَالَ ابْن بطال: من رَوَاهُ بِالْحَاء فالنضخ، عِنْد الْعَرَب كاللطخ، يُقَال: نضح ثَوْبه بالطيب، هَذَا قَول الْخَلِيل، وَفِي كتاب (الْأَفْعَال) نضخت الْعين بِالْمَاءِ نضخاً إِذا فارت، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} وَمن رَوَاهُ بِالْحَاء فَقَالَ صَاحب (الْعين) نضخت الْعين بِالْمَاءِ إِذا رَأَيْتهَا تَفُور وَكَذَلِكَ الْعين الناطرة إِذا رَأَيْتهَا مغروقة وَفِي الصِّحَاح قَالَ أَبُو زيد النضخ بِلَا عجام الرش مثل النَّضْح، بالإهمال، وهما بِمَعْنى. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: أَصَابَهُ نضخ من كَذَا، وَهُوَ أَكثر من النضخ بِالْمُهْمَلَةِ. قَوْله: (طيبا) نصب على التميز.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة على اسْتِحْبَاب الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَإنَّهُ لَا بَأْس بِهِ إِذا استدام بعد الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا يحرم ابتداؤه فِي الْإِحْرَام وَهَذَا مَذْهَب الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَأحمد بن حَنْبَل وَدَاوُد وَغَيرهم، وَبِه قَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وجماهير الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء، فَمن الصَّحَابَة: سعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُعَاوِيَة وَعَائِشَة وَأم حَبِيبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعه مِنْهُم: الزُّهْرِيّ وَمَالك وَمُحَمّد بن الْحسن، وَحكي عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَادّعى بَعضهم أَن هَذَا التَّطَيُّب كَانَ للنِّسَاء لَا للْإِحْرَام، وَادّعى أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة تَقْدِيمًا وتأخيراً، التَّقْدِير: فيطوف على نِسَائِهِ ينضخ طيبا ثمَّ يصبح محرما وَجَاء ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، وَالطّيب يَزُول بِالْغسْلِ لَا سِيمَا أَنه ورد أَنه كَانَ يغْتَسل عِنْد كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وَكَانَ هَذَا الطّيب ذريرة كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي اللبَاس وَهُوَ مِمَّا يذهبه الْغسْل، وتقويه رِوَايَة البُخَارِيّ الْآتِيَة قَرِيبا: (طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ طَاف فِي نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما) وَرِوَايَته الْآتِيَة أَيْضا: (كَأَنِّي انْظُر إِلَى وبيص الطّيب فِي مفرقه وَهُوَ محرم) . وَفِي بعض الرِّوَايَات، بعد ثَلَاث، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الطّيب كَانَ دهناً لَهُ أثر فِيهِ مسك فَزَالَ وَبقيت رَائِحَته، وَادّعى بَعضهم خُصُوصِيَّة ذَلِك بالشارع، فَإِنَّهُ أَمر صَاحب الْجُبَّة بِغسْلِهِ. قَالَ الْمُهلب، رَحمَه الله تَعَالَى السّنة اتِّحَاد الطّيب للنِّسَاء وَالرِّجَال عِنْد الْجِمَاع فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم املك لاربه من سَائِر أمته فَلذَلِك كَانَ لَا يتَجَنَّب الطّيب.
فِي الْإِحْرَام. ونهانا عَنهُ لضعفنا عَن ملك الشَّهَوَات، إِذْ الطّيب أَسبَاب الْجِمَاع. وَفِيه: الِاحْتِجَاج لمن لَا يُوجب الدَّلْك فِي الْغسْل، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لم(3/214)
يتضخ مِنْهُ الطّيب. قلت: يجوز أَن يكون دلكه لكنه بَقِي وبيصه، وَالطّيب إِذا كَانَ كثيرا رُبمَا غسله فَيذْهب وَيبقى وبيصه. وَفِيه: عدم كَرَاهَة كَثْرَة الْجِمَاع عِنْد الطَّاقَة. وَفِيه: عدم كَرَاهَة التَّزَوُّج بِأَكْثَرَ من وَاحِدَة إِلَى أَربع. وَفِيه: أَن غسل الْجَنَابَة لَيْسَ على الْفَوْر، وَإِنَّمَا يتضيق على الْإِنْسَان عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. فَإِن قلت: مَا سَبَب وجوب الْغسْل قلت: الْجَنَابَة مَعَ إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة كَمَا أَن سَبَب الْوضُوء الْحَدث مَعَ إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَلَيْسَ الْجَنَابَة وَحدهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب بعض الشَّافِعِيَّة وإلاَّ يلْزم أَن يجب الْغسْل عقب الْجِمَاع، والْحَدِيث يُنَافِي هَذَا، وَلَا مُجَرّد إِرَادَة الصَّلَاة، وإلاَّ يلْزم أَن يجب الْغسْل بِدُونِ الْجَنَابَة.
268 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارَ قَالَ حدّثنا مُعَاذْ بنُ هِشَامٍ قالَحدّثني
أبي عَنْ قَتَادَةَ قالَ حدّثنا أنَسُ بنُ مالِكِ قالَ كانِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلَ والنَّهَارِ وَهُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ أوَ كانَ يُطِيقُهُ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ..
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَدُور على نِسَائِهِ) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، وَقد مر فِي الحَدِيث السَّابِق. الثَّانِي: معَاذ بن هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو عبد الله، تقدم فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه. الرَّابِع: قَتَادَة الأكمه السدُوسِي، مر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يحب لِأَخِيهِ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع واحده وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن الثَّالِث: براهيم عَن معَاذ بن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (يَدُور على نِسَائِهِ) دورانه، لله فِي ذَلِك يحْتَمل وُجُوهًا. الأول: أَن يكون ذَلِك عِنْد أقباله من السّفر، حَيْثُ لَا قسم يلْزم لِأَنَّهُ كَانَ إِذا سَافر أَقرع بَين نِسَائِهِ، فأيتهن خرج سهمها سَافر بهَا، فَإِذا انْصَرف اسْتَأْنف الْقسم بعد ذَلِك، وَلم تكن وَاحِدَة مِنْهُنَّ أولى من صاحبتها بالبداءة، فَلَمَّا اسْتَوَت حقوقهن جمعهن كُلهنَّ فِي وَقت ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم بعد ذَلِك. الثَّانِي: أَن ذَلِك كَانَ بإذنهن ورضاهن أَو بِإِذن صَاحِبَة النّوبَة ورضاها كنحو اسْتِئْذَانه مِنْهُنَّ أَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة. قَالَه أَبُو عبيد. الثَّالِث: قَالَ الْمُهلب: إِن ذَلِك كَانَ فِي يَوْم فَرَاغه من الْقسم بَينهُنَّ، فيقرع فِي هَذَا الْيَوْم لَهُنَّ أجمع، ويستأنف بعد ذَلِك. قلت: هَذَا التَّأْوِيل عِنْد من يَقُول بِوُجُوب الْقسم عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الدَّوَام كَمَا يجب علينا وهم الْأَكْثَرُونَ، وَأما من لَا يُوجِبهُ فَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الثَّالِث: أَن الله خص نبيه. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأَشْيَاء فِي النِّكَاح. وَمِنْهَا: أَنه اعطاه سَاعَة لَا يكون لأزواجه فِيهَا حق حَتَّى يدْخل فِيهَا جَمِيع أَزوَاجه، فيفعل مَا يُرِيد بِهن، ثمَّ يدْخل عِنْد الَّتِي يكون الدّور لَهَا. وَفِي كتاب مُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَن تِلْكَ السَّاعَة كَانَت بعد الْعَصْر. قَوْله: (فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة) المُرَاد بهَا: قدر من الزَّمَان، لَا السَّاعَة الزمانية الَّتِي هِيَ خمس عشرَة دَرَجَة. قَوْله: (وَالنَّهَار) الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى: أَو، الْهمزَة فِي قَوْله: (أَو كَانَ) للاستفهام، وفاعل (قلت) : هُوَ قَتَادَة، ومميز (ثَلَاثِينَ) مَحْذُوف أَي: ثَلَاثِينَ رجلا وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي مُوسَى عَن معَاذ بن هِشَام: أَرْبَعِينَ، بدل ثَلَاثِينَ، وَهِي شَاذَّة من هَذَا الْوَجْه، لَكِن فِي مَرَاسِيل طَاوُوس مثل ذَلِك وَزَاد فِي الْجِمَاع. قَوْله: (وَهن إِحْدَى عشرَة) قَالَ ابْن خُزَيْمَة، لم يقل أحد من أَصْحَاب قَتَادَة: إِحْدَى عشرَة إلاَّ معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه، وَقد روى البُخَارِيّ الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن أنس: تسع نسْوَة، وَجمع بَينهمَا بِأَن أَزوَاجه كن تسعا فِي هَذَا الْوَقْت كَمَا فِي رِوَايَة سعيد: وسريتاه مَارِيَة وَرَيْحَانَة، على رِوَايَة من روى أَن رَيْحَانَة كَانَت أمة، وروى بَعضهم أَنَّهَا كَانَت زَوْجَة، وروى أَبُو عبيد أَنه كَانَ مَعَ ريحانه فَاطِمَة بنت شُرَيْح. قَالَ ابْن حبَان: هَذَا الْفِعْل مِنْهُ فِي أول مُقَدّمَة الْمَدِينَة حَيْثُ كَانَ تَحْتَهُ تسع نسْوَة، وَلِأَن هَذَا الْفِعْل(3/215)
مِنْهُ كَانَ مرَارًا لَا مرّة وَاحِدَة. وَلَا يعلم أَنه تزوج نسَاء كُلهنَّ فِي وَقت وَاحِد، وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا إلاَّ فِي آخر أمره حَيْثُ اجْتمع عِنْده تسع نسْوَة وجاريتان، وَلم يعلم أَنه اجْتمع عِنْده إِحْدَى عشرَة امْرَأَة بِالتَّزْوِيجِ، فَإِنَّهُ تزوج بأحدى عشرَة أولهنَّ خَدِيجَة وَلم يتَزَوَّج عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَت، وَوَقع فِي شرح ابْن بطال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لَهُ من الْحَرَائِر غير تسع، وَالأَصَح عندنَا أَنه يحل لَهُ مَا شَاءَ من غير حصر. قلت: قَول ابْن حبَان: هَذَا الْفِعْل مِنْهُ كَانَ فِي أول مقدمه الْمَدِينَة حَيْثُ كَانَ تَحْتَهُ تسع نسْوَة، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لم يكن مَعَه حِين قدم الْمَدِينَة امْرَأَة سوى سَوْدَة، ثمَّ دخل على عَائِشَة بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ تزوج أم سَلمَة وَحَفْصَة وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، ثمَّ تزوج زَيْنَب بنت جحش فِي الْخَامِسَة، ثمَّ جوَيْرِية فِي السَّادِسَة ثمَّ حَفْصَة وَأم حَبِيبَة ومَيْمُونَة فِي السَّابِعَة، وَهَؤُلَاء جَمِيع من دخل بِهن من الزَّوْجَات بعد الْهِجْرَة على الْمَشْهُور.
وَاخْتلفُوا فِي عدَّة أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي ترتيبهن، وعدة من مَاتَ مِنْهُنَّ قبله، وَمن دخل بهَا وَمن لم يدْخل بهَا، وَمن خطبهَا وَلم ينْكِحهَا، وَمن عرضت نَفسهَا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِن أول امْرَأَة تزَوجهَا خَدِيجَة بنت خويلد، ثمَّ سَوْدَة بنت زَمعَة، ثمَّ عَائِشَة بنت أبي بكر، ثمَّ حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، ثمَّ أم سَلمَة اسْمهَا، هِنْد بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، ثمَّ جوَيْرِية بنت الْحَارِث، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة المربسيع، ثمَّ زَيْنَب بنت جحش ثمَّ زَيْنَب بنت خزمية، ثمَّ رَيْحَانَة بنت زيد من بني قُرَيْظَة، وَقيل: من بني النصير، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا فِي سنة سِتّ، وَمَاتَتْ بعد عوده من حجَّة الْوَدَاع، ودفنت بِالبَقِيعِ، وَقيل: مَاتَت بعده فِي سنة سِتّ عشرَة، وَالْأول أصح، ثمَّ أم حَبِيبَة وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان أُخْت مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان وَلَيْسَ فِي الصحابيات من اسْمهَا رَملَة غَيرهَا، ثمَّ صَفِيَّة بنت حيى بن أَخطب من سبط هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقعت فِي السَّبي يَوْم خَيْبَر سنة سبع فاصطفاها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع فِي عمْرَة الْقَضَاء بسرف على عشرَة أَمْيَال من مَكَّة، وَتزَوج أَيْضا فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَأَسْمَاء بنت النُّعْمَان.
وَأما بَقِيَّة نِسَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اللَّاتِي دخل بِهن أَو عقد وَلم يدْخل فهن ثَمَان وَعِشْرُونَ امْرَأَة. ريحانه بنت زيد، وَقد ذَكرنَاهَا. والكلابية، فَقيل اسْمهَا: عمْرَة بنت زيد، وَقيل: الْعَالِيَة بنت ظبْيَان، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَالِيَة بنت طبيان وَدخل بهَا وَطَلقهَا، وَقيل: لم يدْخل بهَا وَطَلقهَا، وَقيل: هِيَ فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تزَوجهَا فاستعاذت مِنْهُ فَطلقهَا، فَكَانَت تلقط البعر وَتقول: أَنا الشقية. وَأَسْمَاء بنت النُّعْمَان، تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعاها فَقَالَت: تَعَالَى أَنْت فَطلقهَا، وَقيل: هِيَ الَّتِي استعاذت مِنْهُ. وَقيل بنت قيس أُخْت الْأَشْعَث بن قيس، زوجه إِيَّاهَا أَخُوهَا ثمَّ انْصَرف إِلَى حَضرمَوْت فحملها إِلَيْهِ قبلغه وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَردهَا إِلَى بِلَاده فَارْتَد عَن الْإِسْلَام وارتدت مَعَه. ومليكة بنت كَعْب اللَّيْثِيّ، قيل: هِيَ استعاذت مِنْهُ، وَقيل: دخل بهَا فَمَاتَتْ عِنْده، وَالْأول أصح. وَأَسْمَاء بنت الصَّلْت السلمِيَّة، قيل: اسْمهَا سبا، قَالَه ابْن مَنْدَه، وَقيل: سناقا لَهُ ابْن عَسَاكِر ابْن عَسَاكِر، تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَاتَتْ قبل أَن يدْخل بهَا. وَأم شريك الْأَزْدِيَّة، وإسمها عزبة، طَلقهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يدْخل بهَا، وَهِي الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة. وَخَوْلَة بنت هُذَيْل تزَوجهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَلَكت قبل أَن تصل إِلَيْهِ. وشراف بنت خَالِد أُخْت حَيَّة الْكَلْبِيّ تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يدْخل بهَا وَفِي (عُيُون الْأَثر) فَمَاتَتْ قبله. وليلى بنت الخطيم. تزَوجهَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت غيوراً فاستقالته فأقالها. وَعمرَة بنت مُعَاوِيَة الكندية مَاتَ النَّبِي. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن تصل إِلَيْهِ. والجندعية بنت جُنْدُب، تزَوجهَا وَلم يدْخل عَلَيْهَا، وَقيل: لم يعْقد عَلَيْهَا. والغفارية. قيل: هِيَ السنإ تزَوجهَا النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَرَأى بكشحها بَيَاضًا فَقَالَ: إلحقي بأهلك. وَهِنْد بنت يزِيد، وَلم يدْخل نبها. وَصفِيَّة بنت بشامة أَصَابَهَا سبياً فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: (إِن شِئْت أَنا وَإِن شِئْت زَوجك) . فَقَالَت: زَوجي فأرسلها، فلعنتها بَنو تَمِيم. وَأم هانىء وَاسْمهَا: فَاخِتَة بنت أبي طَالب أُخْت عَليّ بن أبي طَالب، خطبهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت إِنِّي امْرَأَة مُصِيبَة واعتذرت إِلَيْهِ فأعذرها وضباعة بنت عَامر، خطبهَا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَبَلغهُ كبرها فَتَركهَا، وَحَمْزَة بنت عون الْمُزنِيّ خطبهَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَبوهَا إِن بهَا سوءا وَلم يكن بهَا شَيْء، فَرجع إِلَيْهَا أَبوهَا وَقد برصت، وَهِي أم شبيب بن البرصاء الشَّاعِر وَسَوْدَة القرشية، خطبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت مُصِيبَة. وَقَالَت أَخَاف أَن تضعف صبيتي عِنْد رَأسك، فَدَعَا لَهَا وَتركهَا وأمامة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب، عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هِيَ ابْنة أخي من الرضَاعَة، وَعزة بنت أبي سُفْيَان(3/216)
ابْن حَرْب، عرضتها أُخْتهَا أم حَبِيبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تحل لي لمَكَان أُخْتهَا أم حَبِيبَة تَحت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلبية لم يذكر اسْمهَا، فَبعث إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة فرأتها فَقَالَت: مَا رَأَيْت طائلاً فَتَركهَا. وَامْرَأَة من الْعَرَب لم يذكر لَهَا اسْم خطبهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركهَا ودرة بنت أم سَلمَة، قيل لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن يَأْخُذهَا قَالَ: إِنَّهَا بنت أخي من الرضَاعَة. وَأُمَيْمَة بنت شرَاحِيل، لَهَا ذكر فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) وحبيبة بنت سهل الْأَنْصَارِيَّة، أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَتَزَوَّجهَا ثمَّ تَركهَا وَفَاطِمَة بنت شُرَيْح ذكرهَا أَبُو عبيد فِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والعالية بنت ظبْيَان، تزَوجهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت عِنْده مَا شَاءَ الله ثمَّ طَلقهَا.
قَوْله: (كُنَّا نتحدث أَنه أعْطى قُوَّة ثَلَاثِينَ) كَذَا جَاءَ هَاهُنَا فِي (صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ) من حَدِيث أبي يعلى عَن أبي مُوسَى عَن معَاذ (قُوَّة أَرْبَعِينَ) وَفِي (الْحِلْية) لأبي نعيم عَن مُجَاهِد (أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا كل رجل من رجال أهل الْجنَّة) . وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) فِي صفة الْجنَّة من حَدِيث عمرَان لقطان عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُعْطي الْمُؤمن فِي الْجنَّة قُوَّة كَذَا وَكَذَا من الْجِمَاع، قيل: يَا رَسُول الله أَو يُطيق ذَلِك؟ فَقَالَ: يُعْطي قُوَّة مائَة رجل) ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب صَحِيح، لَا نعرفه من حَدِيث قَتَادَة إلاَّ من حَدِيث عمرَان الْقطَّان، وصحيح ابْن حبَان حَدِيث أنس أَيْضا، فَإِذا ضربنا أَرْبَعِينَ فِي مائَة صَارَت أَرْبَعَة آلَاف، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَنه كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُوَّة الظَّاهِرَة على الْخلق فِي الْوَطْء، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ لَهُ فِي الْأكل قناعة ليجمع الله لَهُ الفضيلتين فِي الْأُمُور الاعتبارية، كَمَا جمع لَهُ الفضيلتين فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة، حَتَّى يكون حَاله كَامِلا فِي الدَّاريْنِ.
وَقالَ سَعيدُ عَنْ قَتَادَةَ أنَّ أنسَاً حَدَّثَهُمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ
سعيد هُوَ ابْن عرُوبَة، كَذَا هُوَ عِنْد الْجَمِيع، وَقَالَ الْأصيلِيّ: إِنَّه وَقع فِي نُسْخَة شُعْبَة يدل سعيد قَالَ: وَفِي عرضنَا على أبي زيد بِمَكَّة سعيد قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: هُوَ الصَّوَاب قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام ابْن أبي عدي وَيحيى الْقطَّان لِأَنَّهُمَا يرويان عَن ابْن أبي عرُوبَة، وَأَن يكون من كَلَام معَاذ إِن صَحَّ سَمَاعه من سعيد. قلت: هُنَا تَعْلِيق بِلَا نزاع، وَلكنه وَصله فِي بَاب الْجنب يخرج وَيَمْشي فِي السُّوق، وَهُوَ الْبَاب الثَّانِي عشر من هَذَا الْبَاب، وَقَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع. قَالَ: حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة أَن أنس بن مَالك حَدثهمْ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يطوف على نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَة الْوَاحِدَة وَله يَوْمئِذٍ تسع نسْوَة) وَأما رِوَايَة شُعْبَة بِهَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة فقد وَصلهَا الإِمَام أحم،. قَوْله: (تسع نسْوَة) أَي: قَالَ بدل: إِحْدَى عشرَة نسْوَة تسع نسْوَة، وتسع مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر.
ذكر أَحْكَام لَيست فِيمَا مضى. مِنْهَا: مَا أعطي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقُوَّة على الْجِمَاع، وَهُوَ دَلِيل على كَمَال البنية. وَمِنْهَا: مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن التِّين لقَوْل مَالك بِلُزُوم الظِّهَار من الْإِمَاء بِنَاء على أَن المُرَاد بالزائدتين على التسع، مَارِيَة وَرَيْحَانَة، وَقد أطلق على الْجَمِيع لفظ نِسَائِهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الْإِطْلَاق الْمَذْكُور بطرِيق التغليب. وَمِنْهَا: مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن الْمُنِير على جَوَاز وَطْء الْحرَّة بعد الْأمة من غير غسل بَينهمَا، وَلَا غَيره للمنقول عَن مَالك إِنَّه يتَأَكَّد الِاسْتِحْبَاب فِي هَذِه الصُّورَة.
13 - (بابُ غَسْلِ المَذْىٍ وَالوُضُوءِ مِنْهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَذْي وَحكم الْوضُوء مِنْهُ، والمذي، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبكسر الذل وَتَشْديد الْيَاء، حُكيَ ذَلِك عَن ابْن الْأَعرَابِي: وَهُوَ مَا يخرج من الذّكر عِنْد الملاعبة والتقبيل، يُقَال مذي الرجل، بِالْفَتْح، وأمذى بِالْألف مثله، وَيُقَال: كل ذكر يمذي وكل أُنْثَى تقذي من قذت الشَّاة، إِذا أَلْقَت من رَحمهَا بَيَاضًا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَذْي البلل اللزح الَّذِي يخرج من الذّكر عِنْد ملاعبة النِّسَاء، وَرجل مذاه، فعال بِالتَّشْدِيدِ، للْمُبَالَغَة فِي كَثْرَة الْمَذْي وَفِي (الْمطَالع) هُوَ مَاء رَقِيق يخرج عِنْد التَّذَكُّر أَو الملاعبة يُقَال: مذى وأمذى ومذى، وَقد لَا يحس بِخُرُوجِهِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول بَيَان حكم الْمَنِيّ، وَفِي هَذَا الْبَاب بَيَان حكم الْمَذْي، وَهُوَ من تَوَابِع الْمَنِيّ، وَمثله فِي النجاسية غير أَن فِي الْمَنِيّ الْغسْل، وَفِي الْمَذْي الْوضُوء.
269 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حدّثنا زَائِدَةُ عَنْ أبي حَصِينٍ عَنْ أبي عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَليّ(3/217)
قالَ كُنْتُ رَجخلاً مَدَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً أنْ يَسْأَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَكانٍ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فقالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.
(انْظُر الحَدِيث 132 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هُنَا مَا محصله أَن الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب يدل على وجوب غسل الذّكر بِتَمَامِهِ. والترجمة تدل على غسل الْمَذْي، ومحصل الْجَواب أَنه رُوِيَ أَيْضا؛ (تَوَضَّأ وغسله) وَالضَّمِير يرجع إِلَى الْمَذْي، فَيظْهر من هَذَا أَن المُرَاد مِمَّا ورد وجوب غسل مَا ظهر من الْمَذْي لَا غير، على مَا يَجِيء تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام الطَّيَالِسِيّ، تكَرر ذكره. الثَّانِي: زَائِدَة بن قحدامة، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة الثَّقَفِيّ أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي، صَاحب سنة ورعاً صَدُوقًا مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة غازياً فِي الرّوم. الثَّالِث: أَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْكُوفِي التَّابِعِيّ، ثِقَة تقدم فِي آخر بَاب، ثمَّ من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الرَّابِع: أَبُو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن حبيب السّلمِيّ، بِضَم السِّين المهلمة وَفتح اللَّام مقرىء، الْكُوفَة أحد أَعْلَام التَّابِعين. صَامَ ثَمَانِينَ رمضاناً مَاتَ سنة خمس وَمِائَة. الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، فَأَبُو الْوَلِيد بَصرِي والبقية كوفيون.
بَيَان ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن أبي الْوَلِيد وَأخرجه مُسلم فِي الْعلم من مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد، وَفِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن جرير، قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَن مُنْذر الثَّوْريّ عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع وَأبي مُعَاوِيَة وهشيم ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَعَن يحيى بن حبيب عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث بِهِ.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث وطرقه والسائل الَّذِي فِيهِ. أما أَولا: فَهَذَا الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة فَلفظ البُخَارِيّ، مر الْآن بالسند الْمَذْكُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَقَالَ: أخبرنَا هناد بن السّري عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن. قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (كنت رجلا مذاء وَكَانَت ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتي، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله، فَقلت لرجل جَالس إِلَى جَنْبي: سَله فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء، قَالَ: حَدثنَا زاشئة بن قدامَة عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً وَكَانَت عِنْدِي ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: تَوَضَّأ واغسله) . وَفِي رِوَايَة للطحاوي عَن عَليّ، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: فِيهِ الْوضُوء، وَفِي الْمَنِيّ الْغسْل) وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن هانىء بن هانىء عَن عَليّ. قَالَ: (كنت رجلا مذاء وَكنت إِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَبِنَحْوِ إِسْنَاده رَوَاهُ أَحْمد وَلَفظه (كنت رجلا مذاءً فَإِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَضَحِك، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق زاشدة عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: من الْمَذْي الْوضُوء، وَمن الْمَنِيّ الْغسْل) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيه، قَالَ: كنت أجد مذياً فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله لِأَن ابْنَته عِنْدِي، فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن كل فَحل يمذي، فَإِذا كَانَ الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل، وَإِذا كَانَ الْمَذْي فَفِيهِ الْوضُوء) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا نَحوه عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، وَلَفظه: (فَكنت أستحي أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج. (أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر عماراً أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس. قَالَ: عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (قد كنت رجلا مذاءٍ فَأمرت رجلا فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (أرْسلت(3/218)
الْمِقْدَاد بن الْأسود إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَوَضَّأ وانضح فرجك) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ: (كنت رجلا مذاءً فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا رَأَيْت الْمَذْي فَتَوَضَّأ واغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ فاغتسل) وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً، فَجعلت اغْتسل حَتَّى تشقق ظَهْري قَالَ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو ذكر لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تفعل إِذا رَأَيْت الْمَذْي فاغسل ذكرك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة فَإِذا فضخت المَاء فاغتسل) الفضخ، بِالْفَاءِ وبالمعجمتين، الدفق، وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَة أَحْمد (فليغسل ذكره وأنثييه) وَأخرجه النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت هَذَا الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَلَكِن لَا خلاف فِي وجوب الْوضُوء، وَلَا خلاف فِي عدم وجوب الْغسْل.
وَأما الِاخْتِلَاف فِي السَّائِل فقد ذكر فِيمَا سقنا من الْأَحَادِيث أَن فِي بَعْضهَا السَّائِل هُوَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِنَفسِهِ وَفِي بَعْضهَا السَّائِل غَيره، وَلكنه حَاضر، وَفِي بَعْضهَا هُوَ الْمِقْدَاد، وَفِي بَعْضهَا هُوَ عمارد وَجمع ابْن حبَان بَين هَذَا الِاخْتِلَاف أَن عليا سَأَلَ عماراً أَن يسْأَل، ثمَّ أَمر الْمِقْدَاد بذلك. ثمَّ سَأَلَ بِنَفسِهِ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن عائش بن أنس قَالَ تَذَاكر عَليّ والمقداد وعمار الْمَذْي، فَقَالَ عَليّ: إِنَّنِي رجل مذاء فاسألا عَن ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن: وَقَالَ ابْن شكوال: إِن الَّذِي تولى السُّؤَال عَن ذَلِك هُوَ الْمِقْدَاد، وَصَححهُ وَقَالَ بَعضهم: وعَلى هَذَا فنسبه عمار إِلَى أَنه سَأَلَ عَن ذَلِك مَحْمُولَة على الْمجَاز لكَونه قَصده، لَكِن تولى الْمِقْدَاد الْخطاب. قلت: كِلَاهُمَا كَانَا مشتركين فِي هَذَا السُّؤَال غير أَن أَحدهمَا قد سبق بِهِ، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْمِقْدَاد، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ عماراً، وَتَصْحِيح ابْن شكوال على أَنه هُوَ الْمِقْدَاد يحْتَاج إِلَى برهَان، وَدلّ مَا ذكر فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة أَن كلاًّ مِنْهُمَا قد سَأَلَ، وَأَن عليا سَأَلَ، فَلَا يحْتَاج بعد هَذَا إِلَى زِيَادَة حَشْو فِي الْكَلَام فَافْهَم.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (مذاء) صِيغَة مُبَالغَة. يَعْنِي: كثير الْمَذْي. قَوْله: (فَأمرت رجلا) قَالَ الشُّرَّاح المُرَاد بِهِ الْمِقْدَاد قلت: يجوز أَن يكون عماراً وَيجوز أَن يكون غَيرهمَا قَوْله: (لمَكَان ابْنَته) أَي بِسَبَب أَن ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت تَحت نِكَاحه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن عَليّ من أجل فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام. قَوْله: (تَوَضَّأ) أَمر مجزوم، خطاب للرجل الَّذِي فِي قَوْله: (فَأمرت رجلا) على الِاخْتِلَاف فِي تَفْسِير الرجل. قَوْله: (واغسل ذكرك) هَكَذَا وَقع هَاهُنَا بِتَقْدِيم الْأَمر بِالْوضُوءِ على غسله، وَوَقع فِي الْعُمْدَة عَكسه مَنْسُوبا ألى البُخَارِيّ، وَاعْترض عَلَيْهِ، وَلَا يرد لِأَن، الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على أَنه قد وَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ تَقْدِيم الْغسْل على الْوضُوء فِي رِوَايَة رَافع بن خديج عَن عَليّ، وَقد ذَكرنَاهَا.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز الاستتابة فِي الاستفتاء، وَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز دَعْوَى الْوَكِيل بِحَضْرَة مُوكله. وَمِنْهَا: قبُول خبر الْوَاحِد، والاعتماد على الْخَبَر المظنون مَعَ الْقُدْرَة على الْمَقْطُوع بِهِ، فَإِن عليا اقْتصر على قَول الْمِقْدَاد مَعَ تمكنه من سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب حسن الْعشْرَة مَعَ الأصهار، وَأَن الزَّوْج يسْتَحبّ لَهُ أَن لَا يذكر شَيْئا يتَعَلَّق بجماع النِّسَاء والاستمتاع بِهن بِحَضْرَة أَبِيهَا وأخيها وَابْنهَا وَغَيرهم من أقاربها، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن عِنْدِي ابْنَته وَأَنا استحي. وَمِنْهَا: أَن الْمَذْي يُوجب الْوضُوء وَلَا يُوجب الْغسْل، والبا وضوع لَهُ. وَمِنْهَا: كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ من حفظ حُرْمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوقيره. وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي ترك المواجهة بِمَا يستحي مِنْهُ عرفا. وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (أغسل ذكرك) هَل يَقْتَضِي غسل جَمِيع الذّكر أَو مخرج الْمَذْي , فَهَذَا اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب بَعضهم، مِنْهُم الزُّهْرِيّ، إِلَى أَنه يجب غسل جَمِيع الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده.
وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة. اخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والأنثيين مَعَ الْوضُوء، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمَذْي: هَل يجزىء مِنْهُ الِاسْتِجْمَار كالبول أَو لَا بُد من المَاء؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يجب غسل جَمِيع الذّكر؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يفْتَقر إِلَى النِّيَّة فِي غسل ذكره أم لَا؟ وَقَالَ أَبُو عرم: الْمَذْي عِنْد جَمِيعهم يُوجب الْوضُوء مَا لم يكن خَارِجا عَن عِلّة أَو بردة أَو زمانة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَيْضا كالبول عِنْد جَمِيعهم، فَإِن كَانَ سلساً لَا يَنْقَطِع فَحكمه حكم سَلس(3/219)
الْبَوْل عِنْد جَمِيعهم أَيْضا إلاَّ أَن طَائِفَة توجب الْوضُوء على من كَانَت هَذِه حَاله لكل صَلَاة، قِيَاسا على الْمُسْتَحَاضَة عِنْدهم، وَطَائِفَة تستحبه وَلَا توجبه. وَأما الْمَذْي الْمَعْهُود الْمُتَعَارف، وَهُوَ الْخَارِج عِنْد ملاعبة الرجل أَهله لما يجْرِي من اللَّذَّة، أَو لطول عزبة، فعلى هَذَا الْمَعْنى خرج السُّؤَال فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ يَقع الْجَواب، وَهُوَ مَوضِع إِجْمَاع لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي إِيجَاب الْوضُوء مِنْهُ، وَإِيجَاب غسله لنجاسته انْتهى.
وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلي) الْمَذْي تَطْهِيره بِالْمَاءِ يغسل مخرجه من الذّكر وينضح بِالْمَاءِ مَا مَسّه من الثَّوْب انْتهى قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يكن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِغسْل ذكره لإِيجَاب غسله كُله، وَلكنه ليتقلص، أَي: لينزوي وينضم، وَلَا يخرج، كَمَا إِذا كَانَ لَهُ هدى وَله لين فَإِنَّهُ ينضح ضرعه بِالْمَاءِ ليتقلص ذَلِك فِيهِ فَلَا يخرج. قلت: من خاصية المَاء الْبَارِد أَن يقطع اللين وَيَردهُ إِلَى دَاخل الضَّرع، وَكَذَلِكَ إِذا أصَاب الْأُنْثَيَيْنِ رد الْمَذْي وكسره. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد جَاءَت الْآثَار متواترة فِي ذَلِك، فروى مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَعَن غير ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: فَلَا ترى أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما ذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أوجب عَلَيْهِ فِي ذَلِك ذكر وضوء الصَّلَاة فَثَبت بذلك أَن مَا كَانَ سوى وضوء الصَّلَاة مِمَّا أمره بِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لغير الْمَعْنى الَّذِي أوجب وضوء الصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: وَقد روى سهل بن حنيف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قد دلّ على هَذَا أَيْضا حَدثنَا نصر بن مَرْزُوق وَسليمَان بن شُعَيْب قَالَا: حَدثنَا يحيى بن حسان. قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن سعيد بن عبيد السباق عَن أَبِيه عَن سهل بن حنيف (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: فَأخْبر أَن مَا يجب فِيهِ هُوَ الْوضُوء، وَذَلِكَ يَنْفِي أَن يكون عَلَيْهِ مَعَ الْوضُوء غَيره وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق إِلَخ وَلَفظه (كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة وعناء، فَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء قلت: يَا رَسُول الله! كَيفَ بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من مَاء فتنضح بِهِ ثَوْبك حَيْثُ ترى أَنه أصَاب مِنْهُ) ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. (وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا بِنَحْوِهِ) فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ: (إِذا وجدت المَاء فاغسل فرجك وانثييك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة، قَالَه لِسُلَيْمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني عقيل، فَكَانَ يَأْتِيهَا فيلاعبها فيمذي، فَسَأَلَ ذَلِك عَنهُ) قلت: يحْتَمل جَوَاب ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث رَافع بن خديج، ثمَّ شيد الطَّحَاوِيّ مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ الْمَنِيّ والمذي والودي فَأَما الْمَذْي والودي فَإِنَّهُ يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وَأما الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين حسنين جَيِّدين وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه وَرُوِيَ أَيْضا عَن الْحسن أَنه، يغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: إِذا أمذى الرجل غسل الْحَشَفَة وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، ثمَّ اعْلَم أَن ابْن دَقِيق الْعِيد اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على تعين المَاء فِيهِ دون الْأَحْجَار وَنَحْوهَا، أخذا بِالظَّاهِرِ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك فِي (شرح مُسلم) وَخَالفهُ فِي بَاقِي كتبه، وَحمل الْأَمر بِالْغسْلِ على الِاسْتِحْبَاب.
وَمن أَحْكَام هَذَا الحَدِيث دلَالَته على نَجَاسَة الْمَذْي وَهُوَ ظَاهر، وَنقل عَن ابْن عقيل الْحَنْبَلِيّ أَنه خرج من قَول بَعضهم: أَن الْمَذْي من أَجزَاء الْمَنِيّ رِوَايَة بِطَهَارَتِهِ ورد عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ الْغسْل مِنْهُ.
14 - (بابُ مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أثرُ الطيِّبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من تطيب قبل الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة وَبَقِي أثر التَّطَيُّب فِي جسده، وَكَانُوا يتطيبون عِنْد الْجِمَاع لأجل النشاط وَقَالَ ابْن بطال: السّنة اتِّخَاذ الطّيب للرِّجَال وَالنِّسَاء عِنْد الْجِمَاع.
والمناسبة بَين الْحَدِيثين من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب السَّابِق يحصل الطّيب فِي الخاطر عِنْد غسل الْمَذْي، وَهَاهُنَا يحصل الطّيب فِي الْبدن والنشاط فِي الخاطر عَم التَّطَيُّب عِنْد الْجِمَاع.
270 - حدّثنا أبُو النعْمانِ قالَ حدّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ الثَّالِث: بْرَاهِيمَ بنِ مُحَمَّدَ بنِ المُنْتَشِرَ عَنْ أبِيهِ قالَ سَأَلْتُ عائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابنِ عُمَرَ مَا أحِبُّ إِنْ أَصْبِحَ مُحْرِماً أَنْضَحُ طَيباً فقالَتْ عائِشَةَ أَنَّا طَيَّبْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ طَافَ فِي نِسائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِماً.(3/220)
(انْظُر الحَدِيث 267) .
فَإِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة؟ قلت: هُنَا ترجمتان الأولى: الِاغْتِسَال، والمطابقة فِيهِ من قَوْله: (ثمَّ طَاف فِي نِسَائِهِ) وَهُوَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع وَمن لوازمه الِاغْتِسَال لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ لَا بُد مِنْهُ. التَّرْجَمَة الثَّانِيَة: بَقَاء أثر الطّيب، والمطابقة فِيهِ من قَول عَائِشَة، فَإِنَّهَا ردَّتْ على ابْن عمر، فَلَا بُد من تَقْدِير: ينضخ طيبا، بعد لفظ أصبح محرما حَتَّى يتم الرَّد وَبَقِيَّة الْكَلَام مَضَت فِي بَاب: إِذا جَامع ثمَّ عَاد وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَأَبُو عوَانَة الوضاح. قَوْله: (وَذكرت لَهَا) وَذكره هُوَ الَّذِي سَأَلَ عَن عَائِشَة. قَوْله: (أَن أصبح) بِضَم الْهمزَة، وَهُوَ إِخْبَار عَن نَفسه (طيبا نصب على التَّمْيِيز) قَوْله: (ثمَّ أصبح) على صِيغَة الْمَاضِي مُفردا أَي: ثمَّ أصبح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما.
وَفِيه: أَن التَّطَيُّب قبل الْإِحْرَام سنة وَفِيه: جَوَاز رد بعض الصَّحَابَة على بعض. وَفِيه: خدمَة الأزاج.
271 - حدّثنا آدَمُ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ قالَ حدّثنا الحَكَمُ عَنْ إبْراهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كأنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيص الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُحْرمُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة. وَهُوَ قَوْله: (وَبَقِي أثر الطّيب) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة، الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: الحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة مصغر العتبة. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: الْأسود، خَال إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، كلهم تقدمُوا. السَّادِس: عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وواسطي وكوفي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين كلهم كوفيون، وهم الحكم وَإِبْرَاهِيم وَالْأسود.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن آدم، وَأخرجه فِي اللبَاس عَن أبي الْوَلِيد، وَعبد الله بن رَجَاء وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن ابْن مثنى وَابْن بشار كِلَاهُمَا عَن غنْدر وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن بشر بن الْفضل، خمستهم عَن شُعْبَة.
ذكر لغاته قَوْله: (وبيص الطّيب) بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة بعْدهَا صَاد مُهْملَة، وَهُوَ البريق واللمعان وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وبيص الطّيب تلألؤه، وَذَلِكَ لعين قَائِمَة لَا للريح فَقَط وَقَالَ ابْن التِّين، وَهُوَ مصدر: وبص يبص. قَوْله: (فِي مفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء، وَهُوَ: مَكَان فرق الشّعْر من الجبين إِلَى دَائِرَة وسط الرَّأْس، وَجَاء فِيهِ، فتح الرَّاء.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن بَقَاء أثر الطّيب على بدن الْمحرم إِذا كَانَ قد تطيب بِهِ قبل الْإِحْرَام غَيره مُؤثر فِي إِحْرَامه، وَلَا يُوجب عَلَيْهِ كَفَّارَة، قَالَه الْخطابِيّ: وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَنعه مَالك قَائِلا: إِن التَّطَيُّب كَانَ لمباشرة النِّسَاء، ومؤوِّلاً قَوْله: بِأَنَّهُ يتضخ طيبا بِأَنَّهُ قبل غسله، وَقَوْلها: كَأَنِّي أنظر إِلَى وبيصه وَهُوَ محرم، بِأَن المُرَاد مِنْهُ أثر لَا جرمه. قَالَ وَهَذَا غير مَقْبُول مِنْهُ قَالَ: (كَيفَ أطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحرمه وحله) وَهُوَ ظَاهر أَن التَّطَيُّب للْإِحْرَام لَا للنِّسَاء، وَكَذَلِكَ تَأْوِيله، لِأَنَّهُ مُخَالفَة للظَّاهِر بِغَيْر ضَرُورَة قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف مثل مَا قَالَه الْخطابِيّ، وَكَرِهَهُ مُحَمَّد بِمَا يبْقى عينه بعد إِحْرَامه.
15 - (بابُ تَخْلِيلِ الشِّعَرِ حَتَّى إذَا أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ أفَاضَ عَلَيْهِ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تحلل الشّعْر، وَفِي بعض النّسخ تَحْلِيل الشّعْر، وَكِلَاهُمَا مصدر. فَالْأول: من التفعل؛ وَالثَّانِي: من التفعيل. قَوْله: (أروى) فعل مَاض من الإرواء يُقَال: أرواء إِذا جعله رياناً قَوْله: (بَشرته) أَي: ظَاهر جلده وَالْمرَاد بِهِ مَا تَحت الشّعْر. قَوْله: (أَفَاضَ) من الْإِفَاضَة وَهِي الإسالة قَوْله: (عَلَيْهَا) أَي: على بَشرته، وَفِي بعض النّسخ عَلَيْهِ أَي: على الشّعْر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ وجود التَّخْلِيل فيهمَا، أما فِي الأول فَلِأَن التَّطَيُّب يخلل شعر بالطيب، وَأما فِي هَذَا فَلِأَن المغتسل يخلله بِالْمَاءِ.
272 - حدّثنا عَبْدَانُ قالَه أخْبرنا عَبْدُ اللَّهِ قالَ أخْبرنا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةِ قالَتْ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ وَتَوَضأَ وُضُوءهُ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ يُخَللُ بِيَدِهِ شَعْرَهُ حَتَّى إِذا ظن أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتهُ أفَاضَ عَلَيْهِ الماءَ ثلاثَ مَرَّاتِ ثُمَّ غَسَلَ سائِرِ جَسَدِهِ.(3/221)
(انْظُر الحَدِيث 248 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم تقدمُوا وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع والعنعنة فِي موضِعين.
وَهَذَا الحَدِيث تقدم فِي أول كتاب الْغسْل عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (أَي إِذا أَرَادَ الِاغْتِسَال) قَوْله: (ثمَّ اغْتسل) أَي: ثمَّ أشتغل بالاغتسال قَوْله: (إِذا ظن أَنه قد أروى) وَفِي بعض النّسخ (حَتَّى إِذا ظن أَن قد أروى) فَأن بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف وَأَصلهَا بالتثقيل، وَيجب حذف ضمير الشَّأْن مَعَه، وَظن يجوز أَن يكون على أَصله فيكتفي يبالغلبة وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى تَيَقّن. قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي: على شعره، وَالْمرَاد على رَأسه، وَاخْتلفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ على عُمُومه، وخصص الْآخرُونَ بِشعر الرَّأْس قَوْله: (سَائِر جسده) أَي: بَقِيَّة جسده، وَقد تقدم فِي رِوَايَة مَالك عَن هِشَام فِي أول كتاب الْغسْل: على جلده كُله فَإِذا حملنَا لَفْظَة سائ، على معنى الْجَمِيع يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالَ ابْن بطال: أما تَخْلِيل شعر الرَّأْس فِي غسل الْجَنَابَة فمجمع عَلَيْهِ وقاسوا عَلَيْهِ شعر اللِّحْيَة، فَحكمه فِي التَّخْلِيل كمكمه إلاَّ إِنَّهُم اخْتلفُوا فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة فروى ابْن الْقَاسِم: أَنه لَا يجب تخليلها لَا فِي الْغسْل وَلَا فِي الْوضُوء وروى ابْن وهب عَنهُ تخليلها مُطلقًا وروى اشهب عَنهُ أَن تخليلها فِي الْغسْل وَاجِب، لهَذَا الحَدِيث، وَلَا يجب فِي الْوضُوء لحَدِيث عبد الله بن زيد فِي الْوضُوء لم يذكر فِيهِ تَخْلِيل اللِّحْيَة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد، وَقَالَ الشَّافِعِي: التَّخْلِيل مسنون، وإيصال المَاء إِلَى الْبشرَة مَفْرُوض فِي الْجَنَابَة. وَقَالَ الْمُزنِيّ: تخليلها وَاجِب فِي الْوضُوء وَالْغسْل.
273 - حدّثنا وَقالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعاً..
قَوْله: (وَقَالَت) عطف على: قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالضَّمِير فيهمَا يرجع إِلَى عَائِشَة فَيكون مُتَّصِلا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور قَوْله: (نغرف) جمَاعَة الْمُتَكَلّم من الغرف بالغين الْمُعْجَمَة وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام نشرع فِيهِ جَمِيعًا وَلَفظ جَمِيعًا يُؤَكد بِهِ، يُقَال جاؤا جَمِيعًا. أَي: كلهم، وَقد سلف بَيَان الحكم الَّذِي يدل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث.
16 - (بابُ مَنْ تَوَضَّلَ فِي الجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من تَوَضَّأ. قَوْله: (وَلم يعد) بِضَم الْيَاء من الْإِعَادَة قَوْله: (مِنْهُ) فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ لَيْسَ بموجود.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ وجود الْإِكْمَال فيهمَا، أما فِي الْبَاب السَّابِق فبالتخليل، وَفِي هَذَا الْبَاب بِالْوضُوءِ فِي الِاغْتِسَال.
274 - حدّثنا يُوسِف بنُ عِيسَى قالَ أخبرنَا الفَضْلُ بنُ مُوسَى قالَ أخْبرنا الأعْمَشُ عَنْ سالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ [/ ن مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قالَتْ وَضَعَ رولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضُوا لِلْجَنَابَة فأَكفأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَب يَدَهُ بالأرْضِ أَو الحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلَاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ علَى رَأْسِهِ المَاءَ ثُمَّ غَس جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ..
اخْتلف الشُّرَّاح فِي وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث عَائِشَة الَّذِي فِي الْبَاب قبله أليق فِي التَّرْجَمَة فَإِن فِيهِ: ثمَّ غسل سَائِر جسده، وَأما حَدِيث الْبَاب فَفِيهِ ثمَّ غسل جسده فَدخل فِي عُمُومه مَوَاضِع الْوضُوء، فَلَا يُطَابق قَوْله: (وَلم يعد غسل مَوَاضِع الْوضُوء) وَأجَاب ابْن الْمُنِير: بِأَن قرينَة الْحَال وَالْعرْف من سِيَاق الْكَلَام تخص أَعْضَاء الْوضُوء، وَذكر الْجَسَد بعد ذكر الْأَعْضَاء الْمعينَة يفهمعرفا بَقِيَّة الْجَسَد لَا جملَته، لِأَن الأَصْل عدم التّكْرَار. قلت: حَاصِل كَلَامه أَن اسْتِخْرَاج التَّرْجَمَة بعيد لُغَة ومحتمل عرفا إِذا لم يذكر إِعَادَة غسلهَا وَأجَاب ابْن التِّين بِأَن مُرَاد البُخَارِيّ أَن يبين أَن المُرَاد بقوله فِي هَذِه الرِّوَايَة ثمَّ غسل جسده.، أَي: مَا بَقِي من جسده، بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى. وَقَالَ السكرماني مَا ملخصه إِن لفظ جسده، فِي قَوْله: ثمَّ غسل جسده شَامِل لتَمام الْبدن أَعْضَاء الْوضُوء وَغَيره، وَكَذَا حكم الحَدِيث السَّابِق، إِذْ المُرَاد بِسَائِر جسده أَي: بَاقِي جسده شَامِل لتَمام الْبدن أَعْضَاء الْوضُوء وَغَيره وَقَالَ بَعضهم فِي كَلَام ابْن الْمِنْبَر كلفة وَفِي كَلَام ابْن التِّين نطر لِأَن هَذِه(3/222)
الْقِصَّة غير تِلْكَ الْقِصَّة. وَقَالَ: فِي كَلَام السكرماني لَازم هَذَا التَّقْدِير أَن الحَدِيث غير مُطَابق للتَّرْجَمَة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَالَّذِي يظْهر لي أَن البُخَارِيّ حمل قَوْله: ثمَّ غسل جسده على الْمجَاز أَي: مَا بَقِي، وَدَلِيل ذَلِك قَوْله بعد فَغسل رجلَيْهِ، إِذْ لَو كَانَ قَوْله: (غسل جسده) مَحْمُولا، على عُمُومه لم يحْتَج لغسل رجلَيْهِ ثَانِيًا، لِأَن غسلهمَا دخل فِي الْعُمُوم، وَهَذَا أشبه بتصرفات البُخَارِيّ، إِذْ من شَأْنه الاعتناء بالأخفى أَكثر من الأجلى. قلت: مَا ثمَّ فِي هَذَا الَّذِي ذكره هَؤُلَاءِ المذكورون أَكثر كلفة من كَلَام هَذَا الْقَائِل لِأَنَّهُ تصرف فِي كَلَامهم من غير تَحْقِيق وَأبْعد من هَذَا دَعْوَاهُ أَن البُخَارِيّ حمل لفظ الْجَسَد على الْمجَاز، فَلَا يعلم هُوَ أَن الْمجَاز لَا يُصَار أليه إلاَّ عِنْد تعذر الْحَقِيقَة أَو لنكة أُخْرَى، وَأي ضَرُورَة هَاهُنَا إِلَى الْمجَاز، وَمن قَالَ: إِن البُخَارِيّ قصد هَذَا وَأبْعد من ذَلِك أَنه علل مَا ادَّعَاهُ بِغسْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلَيْهِ ثَانِيًا؟ وَمَا ذَاك إِلَّا لكَون رجلَيْهِ فِي مستنقع المَاء، وَحَاصِل الْكَلَام، كَلَام ابْن الْمُنِير أقرب فِي وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: يُوسُف بن عِيسَى بن يَعْقُوب الْمروزِي، وَالْفضل بن مُوسَى أَبُو عبد الله السينَانِي، والبقية ذكرُوا عَن قريب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين عِنْد أبي ذَر فِي الثَّانِي، وَعند غَيره أخبرنَا وَكَذَا أخبرنَا الْأَعْمَش. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (وضوء للجنابة) بِفَتْح الْوَاو، فِي رِوَايَة كَرِيمَة وضوء لجنابة بلام وَاحِدَة فِي رِوَايَة الْكشميهني. وضوء الْجَنَابَة وَقَوله: (وضع) على بِنَاء الْمَعْلُوم، وَرَسُول الله فَاعله، ويروي على بِنَاء الْمَجْهُول، وضع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: لأَجله قَوْله: (فاكفأ) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَرِوَايَة أبي ذَر فكفأ، أَي: قلب قَوْله: (على يسَار) كَذَا هُوَ للأكثرين، ولكريمه وَالْمُسْتَمْلِي على شِمَاله قَوْله: (ضرب يَده بِالْأَرْضِ) كَذَا هُوَ للأكثرين وللكشميهني، بِيَدِهِ الأَرْض.
قالَتْ فاتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْها فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ
فَاعل. قَالَت مَيْمُونَة وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: قَالَت عَائِشَة، وَهُوَ غلط ظَاهر، وَبَيَان الْأَحْكَام قد تقدم فِيمَا مضى.
17 - (بابُ إذَا ذَكَرَ فِي المَسْجِدِ أنَّهُ جُنُبٌ يَخْرُجُ كَمَا هُوَ وَلَا يَتَيَمَّمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من إِذا ذكر فِي الْمَسْجِد أَنه جنب، وَحكمه أَنه يخرج على حَالَته وَلَا يحْتَاج إِلَى التَّيَمُّم قَوْله: (ذكر) من الْبَاب الَّذِي مصدره الذّكر بِضَم الذَّال، لَا من الْبَاب الَّذِي مصدره الذّكر بِالْكَسْرِ؟ وَهَذِه دقة لَا يفهمها إلاَّ من لَهُ ذوق من نكات الْكَلَام، فَلذَلِك فسر بَعضهم قَوْله: ذكر بقوله: تذكر فَلَو ذاق هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ لما احْتَاجَ إِلَى تَفْسِير، فعل يتفعل. قَوْله: (يخرج) رِوَايَة أبي ذَر وكريمة وَرِوَايَة غَيرهمَا. (خرج) قَوْله: (كَمَا هُوَ) أَي: على هَيئته وحاله جنياً وَقَوله: (وَلَا يتَيَمَّم) توضيح لقَوْله كَمَا هُوَ وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا مَوْصُولَة وموصوفة وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي كالأمر الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ أَو كحالة هُوَ عَلَيْهَا قلت على كل تَقْدِير هَذِه الْجُمْلَة محلهَا النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي يخرج وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا فَإِن قلت: تَسْمِيَة هَذِه الْكَاف، بكاف الْمُقَارنَة تصرف مِنْهُ، واصطلاح، بل الْكَاف، هُنَا للتشبيه على أَصله وَنظر ذَلِك قَوْلك لشخص: كن أَنْت عَلَيْهِ وَالْمعْنَى: على مَا أَنْت عَلَيْهِ، ثمَّ فِي هَذَا وُجُوه من الْإِعْرَاب. الأول: أَن تكون مَا مَوْصُولَة وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: كَالَّذي هُوَ عَلَيْهِ من الْجَنَابَة. الثَّانِي: أَن يكون هُوَ خَبرا مَحْذُوف الْمُبْتَدَأ، وَالتَّقْدِير: كَالَّذي هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} (سُورَة الْأَعْرَاف: 138) أَي: كَالَّذي هُوَ لَهُم آلِهَة. وَالثَّالِث: أَن تكون مَا زَائِدَة ملغاة عَن الْعَمَل وَالْكَاف، جَارة، وَهُوَ ضمير مَرْفُوع أنيب عَن الْمَجْرُور، كَمَا فِي قَوْله: مَا أَنا كَانَت وَالْمعْنَى: يخرج فِي الْمُسْتَقْبل مماثلاً لنَفسِهِ فِيمَا مضى. وَالرَّابِع: أَن تكون مَا، كَافَّة، وَهُوَ مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَي: عَلَيْهِ، أَو كَائِن. وَالْخَامِس: أَن تكون مَا كَافَّة، وه، فَاعل، وَالْأَصْل: يخرج كَمَا كَانَ، ثمَّ حذفت كَانَ فانفصل الضَّمِير، وعَلى هَذَا الْوَجْه يجوز أَن تكون مَا مَصْدَرِيَّة.
27 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا عُثْمَان بن عمر قَالَ أخبرنَا يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ أُقِيمَت الصَّلَاة وَعدلت الصُّفُوف قيَاما وَخرج إِلَيْنَا رَسُول الله(3/223)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ ذكر أَنه جنب فَقَالَ لنا مَكَانكُمْ ثمَّ رَجَعَ فاغتسل ثمَّ خرج إِلَيْنَا وَرَأسه يقطر فَكبر فصلينا مَعَه) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي تقدم فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان وَعُثْمَان بن عَمْرو بن فَارس أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ وَيُونُس بن يزِيد وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم وَأَبُو سَلمَة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف تقدمُوا فِي بَاب الْوَحْي (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وأيلي ومدني. (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق الكوسج عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ نَحوه وَعَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ مُخْتَصرا وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن الْفضل عَن الْوَلِيد بن مُسلم نَحْو حَدِيث زُهَيْر بن حَرْب فِي الصَّلَاة عَن مَحْمُود بن خَالِد وَدَاوُد بن رشيد كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بن مُسلم نَحْو حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُوسَى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو بن عُثْمَان الْحِمصِي عَن الْوَلِيد بن مُسلم نَحوه. (ذكر مَعَانِيه) قَوْله " أُقِيمَت الصَّلَاة " المُرَاد من الْإِقَامَة ذكر الْأَلْفَاظ الْمَخْصُوصَة الْمَشْهُورَة المشعرة بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاة وَهِي أُخْت الْأَذَان كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت مَعْنَاهُ إِذا نَادَى الْمُؤَذّن بِالْإِقَامَةِ فأقيم الْمُسَبّب مقَام السَّبَب قَوْله " وَعدلت " أَي سويت وتعديل الشَّيْء تقويمه يُقَال عدلته فاعتدل أَي قومته فاستقام وَفِي رِوَايَة فعدلت الصُّفُوف قبل أَن يخرج إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين البُخَارِيّ ذَلِك فِي الصَّلَاة فِي رِوَايَة صَالح بن كيسَان أَنه كَانَ قبل أَن يكبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للصَّلَاة قَوْله " قيَاما " جمع قَائِم كتجار بِكَسْر التَّاء جمع تَاجر وَيجوز أَن يكون مصدرا جَارِيا على حَقِيقَته وَقَالَ الْكرْمَانِي فَهُوَ تَمْيِيز أَو مَحْمُول على اسْم الْفَاعِل فَهُوَ حَال (قلت) إِذا كَانَ لفظ قيَاما مصدرا يكون مَنْصُوبًا على التَّمْيِيز لِأَن فِي قَوْله وَعدلت الصُّفُوف فِيهِ إِبْهَام فيفسره قَوْله قيَاما أَي من حَيْثُ الْقيام وَإِذا كَانَ جمعا لقائم يكون انتصابه على الحالية وَذُو الْحَال مَحْذُوف تَقْدِيره وَعدل الْقَوْم الصُّفُوف حَال كَونهم قَائِمين قَوْله " فِي مُصَلَّاهُ " بِضَم الْمِيم وَهُوَ مَوضِع صلَاته قَوْله " ذكر " من بَاب الذّكر بِضَم الذَّال وَهُوَ الذّكر القلبي فَلَا يحْتَاج إِلَى تَفْسِير ذكر بِمَعْنى تذكر كَمَا فسره بَعضهم هَكَذَا قَوْله " فَقَالَ لنا مَكَانكُمْ " بِالنّصب أَي الزموا مَكَانكُمْ وَقَالَ بَعضهم وَفِيه إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل فَإِن فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن مَكَانكُمْ (قلت) لَيْسَ فِيهِ إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل بل القَوْل على حَاله وَرِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ لَا تَسْتَلْزِم ذَلِك لاحْتِمَال الْجمع بَين الْكَلَام وَالْإِشَارَة (فَإِن قلت) إِذا كَانَ القَوْل على بَابه فَيكون وَاقعا فِي الصَّلَاة (قلت) لَيْسَ كَذَلِك بل كَانَ ذكره أَنه جنب قبل أَن يكبر وَقبل أَن يدْخل فِي الصَّلَاة كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح (فَإِن قلت) فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه (قَامَ إِلَى الصَّلَاة وَكبر ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِم فَمَكَثُوا ثمَّ انْطلق فاغتسل وَكَانَ رَأسه يقطر مَاء فصلى بهم فَلَمَّا انْصَرف قَالَ إِنِّي خرجت إِلَيْكُم جنبا وَإِنِّي أنسيت حَتَّى قُمْت فِي الصَّلَاة) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أنس (دخل فِي صَلَاة فَكبر وَكَبَّرْنَا مَعَه ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقَوْم كَمَا أَنْتُم) وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد من حَدِيث عَليّ (كَانَ قَائِما فصلى بهم إِذا انْصَرف) وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد من حَدِيث أبي بكرَة (دخل فِي صَلَاة الْفجْر فَأَوْمأ بِيَدِهِ أَن مَكَانكُمْ) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى (ثمَّ جَاءَ وَرَأسه يقطر فصلى بهم) وَفِي أُخْرَى لَهُ مُرْسلَة " فَكبر ثمَّ أَوْمَأ إِلَى الْقَوْم أَن اجلسوا " وَفِي مُرْسل ابْن سِيرِين وَعَطَاء وَالربيع بن أنس " كبر ثمَّ أَوْمَأ إِلَى الْقَوْم أَن اجلسوا " (قلت) هَذَا كُله لَا يُقَاوم الَّذِي فِي الصَّحِيح وَأَيْضًا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا " ثمَّ رَجَعَ فاغتسل فَخرج إِلَيْنَا وَرَأسه يقطر فَكبر " فَلَو كَانَ كبر أَولا لما كَانَ يكبر ثَانِيًا على أَنه اخْتلف فِي الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات فَقيل أُرِيد بقوله كبر أَرَادَ أَن يكبر عملا بِرِوَايَة الصَّحِيح قبل أَن يكبر وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي البُخَارِيّ فانتظرنا تكبيره وَقيل إنَّهُمَا قضيتان أبداه الْقُرْطُبِيّ احْتِمَالا وَقَالَ النَّوَوِيّ أَنه الْأَظْهر وأبداه ابْن حبَان فِي صَحِيحه فَقَالَ بعد أَن أخرج الرِّوَايَتَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَحَدِيث أبكر بكرَة وَهَذَانِ فعلان فِي موضِعين متباينين خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة فَكبر ثمَّ ذكر أَنه جنب فَانْصَرف فاغتسل ثمَّ جَاءَ فاستأنف بهم الصَّلَاة وَجَاء مرّة أُخْرَى فَلَمَّا وَقع ليكبر ذكر أَنه جنب قبل أَن يكبر فَذهب فاغتسل ثمَّ رَجَعَ فَأَقَامَ(3/224)
بهم الصَّلَاة من غير أَن يكون بَين الْخَبَرَيْنِ تضَاد وَلَا تهاتر وَقَول أبي بكرَة فصلى بهم أَرَادَ بذلك بَدَأَ بتكبير مُحدث لِأَنَّهُ رَجَعَ فَبنى على صلَاته إِذْ محَال أَنه يذهب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليغتسل وَيبقى النَّاس كلهم قيَاما على حالتهم من غير إِمَام إِلَى أَن يرجع انْتهى. وَلما رأى مَالك هَذَا الحَدِيث مُخَالفا لأصل الصَّلَاة قَالَ أَنه خَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى بعض أَصْحَابنَا أَن انتظارهم لَهُ هَذَا الزَّمن الطَّوِيل بعد أَن كبروا من قبيل الْعَمَل الْيَسِير فَيجوز مثله (فَإِن قلت) كَيفَ قلت كبروا (قلت) لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِأَن تَكْبِير الْمَأْمُومين يَقع عقيب تَكْبِير إمَامهمْ وَلَا يُؤَخر ذَلِك إِلَّا الْقَلِيل من أهل الوسوسة (فَإِن قلت) إِذا ثَبت أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكبر فَكيف كبروا وَأَيْضًا فَكيف أَشَارَ إِلَيْهِم وَلم يتَكَلَّم وَلم انتظروه قيَاما (قلت) أما تكبيرهم فعلى رِوَايَة تَكْبِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما قَوْلك وَلم يتَكَلَّم فَيردهُ مَجِيء قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَانكُمْ (فَإِن قلت) إِذا أثبت أَنه تكلم بِهَذِهِ اللَّفْظَة فالإشارة لماذا (قلت) يحْتَمل أَنه جمع بَين الْكَلَام وَالْإِشَارَة أَو يكون الرَّاوِي روى أَحدهمَا بِالْمَعْنَى (فَإِن قلت) هَل اقْتصر على الْإِقَامَة الأولى أَو أنشأ إِقَامَة ثَانِيَة (قلت) لم يَصح فِيهِ نقل وَلَو فعله لنقل قَوْله " ثمَّ رَجَعَ " أَي إِلَى الْحُجْرَة قَوْله " وَرَأسه يقطر " جملَة اسمية وَقعت حَالا على أَصْلهَا بِالْوَاو وَقَوله " يقطر " أَي من مَاء الْغسْل وَنسبَة الْقطر إِلَى الرَّأْس مجَاز من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال. (ذكر استنباط الْأَحْكَام) فِيهِ تَعْدِيل الصُّفُوف وَهُوَ مُسْتَحبّ بِالْإِجْمَاع وَقَالَ ابْن حزم فرض على الْمَأْمُومين تَعْدِيل الصُّفُوف الأول فَالْأول والتراص فِيهَا والمحاذاة بالمناكب والأرجل (فَإِن قلت) فِي رِوَايَة أُقِيمَت الصَّلَاة فقمنا فعدلنا الصُّفُوف قبل أَن يخرج فَكيف هَذَا وَقد جَاءَ " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا تقوموا حَتَّى تروني " (قلت) لَعَلَّه كَانَ مرّة أَو مرَّتَيْنِ لبَيَان الْجَوَاز أَو لعذر أول لَعَلَّ قَوْله " فَلَا تقوموا حَتَّى تروني " بعد ذَلِك (فَإِن قلت) مَا الْحِكْمَة فِي هَذَا النَّهْي (قلت) لِئَلَّا يطول عَلَيْهِم الْقيام وَلِأَنَّهُ قد يعرض لَهُ عَارض فَيتَأَخَّر بِسَبَب. وَقد اخْتلف الْعلمَاء من السّلف فَمن بعدهمْ مَتى يقوم النَّاس إِلَى الصَّلَاة وَمَتى يكبر الإِمَام فَذهب الشَّافِعِي وَطَائِفَة إِلَى أَنه يسْتَحبّ أَن لَا يقوم أحد حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة وَكَانَ أنس يقوم إِذا قَالَ الْمُؤَذّن قد قَامَت الصَّلَاة وَبِه قَالَ أَحْمد وَقَالَ أَبُو حنيفَة والكوفيون يقومُونَ فِي الصَّفّ إِذا قَالَ حَيّ على الصَّلَاة فَإِذا قَالَ قد قَامَت الصَّلَاة كبر الإِمَام وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَقيس بن أبي سَلمَة وَحَمَّاد وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف لَا يكبر الإِمَام حَتَّى يفرغ الْمُؤَذّن (قلت) مَذْهَب مَالك أَن السّنة عِنْده أَن يشرع الإِمَام فِي الصَّلَاة بعد فرَاغ الْمُؤَذّن من الْإِقَامَة وندائه باستواء الصَّفّ وَعِنْدنَا يشرع عِنْد التَّلَفُّظ بقوله قد قَامَت الصَّلَاة وَقَالَ زفر إِذا قَالَ قد قَامَت الصَّلَاة قَامُوا وَإِذا قَالَ ثَانِيًا افتتحوا وَعَن أبي يُوسُف أَنه يشرع عقيب الْفَرَاغ من الْإِقَامَة مُحَافظَة على القَوْل بِمثل مَا يَقُوله الْمُؤَذّن وَبِه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَفِيه أَن الإِمَام إِذا طَرَأَ لَهُ مَا يمنعهُ من التَّمَادِي اسْتخْلف بِالْإِشَارَةِ لَا بالْكلَام وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ لأَصْحَاب مَالك حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَفِيه جَوَاز الْبناء فِي الْحَدث وَهُوَ قَوْله أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِيه جَوَاز النسْيَان على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْعِبَادَات. وَفِيه كَمَا قَالَ ابْن بطال حجَّة لمَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة أَن تَكْبِير الْمَأْمُوم يَقع بعد تَكْبِير الإِمَام وَهُوَ قَول عَامَّة الْفُقَهَاء قَالَ وَالشَّافِعِيّ أجَاز تَكْبِير الْمَأْمُوم قبل إِمَامه أَي فِيمَا إِذا أحرم مُنْفَردا ثمَّ نوى الِاقْتِدَاء فِي أثْنَاء الصَّلَاة لِأَنَّهُ روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا رَوَاهُ مَالك عَن إِسْمَاعِيل بن أبي الحكم عَن عَطاء بن يسَار أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر فِي صَلَاة من الصَّلَوَات ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِم بِيَدِهِ أَن امكثوا فَلَمَّا قدم كبر وَالشَّافِعِيّ لَا يَقُول بالمرسل وَمَالك الَّذِي رَوَاهُ لم يعْمل بِهِ لِأَنَّهُ الَّذِي صَحَّ عِنْده أَنه لم يكبر انْتهى. (قلت) ذكر ابْن بطال أَن أَبَا حنيفَة مَعَ مَالك غير صَحِيح لِأَن مَذْهَب أبي حنيفَة أَن الْمَأْمُوم يجب عَلَيْهِ أَن يكبر مَعَ الإِمَام مُقَارنًا وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يكبر بعده ثمَّ قيل الْخلاف فِي الْأَفْضَلِيَّة. وَفِيه مَا اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على أَن الْجنب إِذا دخل فِي الْمَسْجِد نَاسِيا فَذكر فِيهِ أَنه جنب يخرج وَلَا يتَيَمَّم فَلذَلِك ذكر فِي التَّرْجَمَة بقوله يخرج كَمَا هُوَ وَلَا يتَيَمَّم وَقَالَ ابْن بطال من التَّابِعين من يَقُول أَن الْجنب إِذا نسي فَدخل الْمَسْجِد فَإِنَّهُ يتَيَمَّم وَيخرج قَالَ والْحَدِيث يرد عَلَيْهِم (قلت) من الَّذين ذَهَبُوا إِلَى التَّيَمُّم الثَّوْريّ واسحق قَالَ وَكَذَا قَول أبي حنيفَة فِي الْجنب الْمُسَافِر يمر على مَسْجِد فِيهِ عين مَاء فَإِنَّهُ يتَيَمَّم وَيدخل الْمَسْجِد فيستقي ثمَّ يخرج المَاء من الْمَسْجِد وَفِي نَوَادِر ابْن أبي زيد من نَام فِي الْمَسْجِد ثمَّ احْتَلَمَ يَنْبَغِي أَن يتَيَمَّم(3/225)
لِخُرُوجِهِ وَقَالَ الشَّافِعِي لَهُ العبور فِي الْمَسْجِد من غير لبث كَانَت لَهُ حَاجَة أَو لَا وَمثله عَن الْحسن وَابْن الْمسيب وَعَمْرو بن دِينَار وَأحمد وَعَن الشَّافِعِي لَهُ الْمكْث فِيهِ إِذا تَوَضَّأ وَقَالَ دَاوُد والمزني يجوز لَهُ الْمكْث فِيهِ مُطلقًا واعتبره بالمشرك وتعلقوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْمُؤمن لَا ينجس) وروى سعيد بن مَنْصُور فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن عَطاء " رَأَيْت رجَالًا من الصَّحَابَة يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِد وَعَلَيْهِم الْجَنَابَة إِذا توضؤوا للصَّلَاة " وَحَدِيث وَفد ثَقِيف وَإِنْزَالهمْ فِي الْمَسْجِد وَأهل الصّفة وَغَيرهم كَانُوا يبيتُونَ فِي الْمَسْجِد وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول يجلس الْجنب فِيهِ ويمر فِيهِ إِذا تَوَضَّأ ذكره ابْن الْمُنْذر وَاحْتج من أَبَاحَ العبور بقوله تَعَالَى {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل} قَالَ الشَّافِعِي قَالَ بعض الْعلمَاء الْقُرْآن مَعْنَاهُ لَا تقربُوا مَوَاضِع الصَّلَاة وَأجَاب من منع بِأَن المُرَاد بِالْآيَةِ نفس الصَّلَاة وَحملهَا على مَكَانهَا مجَازًا وَحملهَا على عمومها أَي لَا تقربُوا الصَّلَاة وَلَا مَكَانهَا على هَذِه الْحَال إِلَّا أَن تَكُونُوا مسافرين فَتَيَمَّمُوا وأقربوا ذَلِك وصلوا وَقد نقل الرَّازِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس أَن المُرَاد بعابري السَّبِيل الْمُسَافِر يعْدم المَاء يتَيَمَّم وَيُصلي وَالتَّيَمُّم لَا يرفع الْجَنَابَة فأبيح لَهُم الصَّلَاة تَخْفِيفًا. وَفِي طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل لِأَنَّهُ خرج وَرَأسه يقطر. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى ينطف وَهِي بمعناها
(تَابعه عبد الْأَعْلَى عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ) أَي تَابع عُثْمَان ابْن عمر عبد الْأَعْلَى السَّامِي بِالسِّين الْمُهْملَة عَن معمر بِفَتْح الْمِيم بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَهَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة وَهُوَ تَعْلِيق للْبُخَارِيّ وَهُوَ مَوْصُول عِنْد الإِمَام أَحْمد عَن عبد الْأَعْلَى قَوْله " وَرَوَاهُ " أَي روى هَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَرِوَايَته مَوْصُولَة عِنْد البُخَارِيّ فِي أَوَائِل أَبْوَاب الْإِمَامَة كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ بَعضهم ظن بَعضهم أَن السَّبَب فِي التَّفْرِقَة بَين قَوْله تَابعه وَبَين قَوْله وَرَوَاهُ كَون الْمُتَابَعَة وَقعت بِلَفْظِهِ وَالرِّوَايَة بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ كَمَا ظن بل هُوَ من التفنن فِي الْعبارَة انْتهى. (قلت) أَرَادَ بقوله ظن بَعضهم الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرحه فَإِن قلت لم قَالَ أَولا تَابعه وَثَانِيا رَوَاهُ قلت لم يقل وَتَابعه الْأَوْزَاعِيّ إِمَّا لِأَنَّهُ لم ينْقل لفظ الحَدِيث بِعَيْنِه بل رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ إِذْ الْمَفْهُوم من الْمُتَابَعَة الْإِتْيَان بِمثلِهِ على وَجهه بِلَا تفَاوت وَالرِّوَايَة أَعم من ذَلِك وَإِمَّا لِأَنَّهُ يكون موهما بِأَنَّهُ تَابع عُثْمَان أَيْضا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ لَا وَاسِطَة بَين الْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَإِمَّا للتفنن فِي الْكَلَام أَو لغير ذَلِك انْتهى فَهَذَا كَمَا رَأَيْت جَوَاب الْكرْمَانِي عَنهُ بِثَلَاثَة أجوبة وَكلهَا جِيَاد وَالْجَوَاب الَّذِي استحسنه هَذَا الْقَائِل من الْكرْمَانِي أَيْضا وَلَكِن قَصده الغمز فِيهِ حَيْثُ يَأْخُذ ثمَّ ينْسبهُ إِلَى الظَّن مَعَ علمه بِأَن الَّذِي اخْتَارَهُ بمعزل عَن هَذَا الْفَنّ
18 - (بابُ نَفْضِ اليدَيْنِ مِنْ الغُسْلِ عَنُ الجَنَابَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم نفض الْيَدَيْنِ من الْجَنَابَة، ويروي من غسل الْجَنَابَة، وَكلمَة من الأولى مُتَعَلقَة بالنفض، وَالثَّانيَِة بِالْغسْلِ.
والمناسبة بَين الْأَبْوَاب ظَاهِرَة لِأَن كلهَا فِي أَحْكَام الْغسْل.
276 - حدّثنا عَبْدَانُ قالَ أخْبرنا أبُو حَمْزةَ قالَ سَمِعْتُ الأعْمَشَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ قالَتْ مَيْمُونَةُ وضعَتُ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُسْلاً فَسَتَرْتَهُ بِثَوْبٍ وَصَبَّ عَلى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ صبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ فَضَربَ بِيَدِهِ الأَرْضَ فَمَسَحَهَا ثُمَّ غَسَلها فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وأفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ ثَوْباً فَلَمْ يَأْخُذُهُ فانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فَإِن: مَا فَائِدَة هَذِه التَّرْجَمَة من حَيْثُ الْفِقْه؟ قلت: الْإِشَارَة بهَا إِلَى أَن لَا يتخيل أَن مثل هَذَا الْفِعْل اطراح لأثر الْعِبَادَة ونفض لَهُ فَبين أَن هَذَا جَائِز وَنبهَ أَيْضا على رد قَول من زعم أَن تَركه للثوب من قبيل(3/226)
إِيثَار إبْقَاء آثَار الْعِبَادَة عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا تَركه خوفًا من الدُّخُول فِي أَحْوَال المترفين المتكبرين.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ قد ذكره قبل هَذَا فِي سِتّ مَوَاضِع، وَهَذَا هُوَ السَّابِع، وسيذكره مرّة أُخْرَى فالجملة ثَمَانِيَة، كلهَا فِي كتاب الْغسْل. الأول: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش. الثَّانِي: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن جده عَن الْأَعْمَش. الثَّالِث: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش. الرَّابِع: عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش. الْخَامِس: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة عَن الْأَعْمَش. السَّادِس: عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى عَن الْأَعْمَش. السَّابِع: عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش. الثَّامِن: الَّذِي يَأْتِي عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، وَهَذَا كُله حَدِيث وَاحِد وَلكنه رَوَاهُ عَن شُيُوخ مُتعَدِّدَة بألفاط مُخْتَلفَة، وَترْجم لكل طَرِيق تَرْجَمَة.
وَأَبُو حَمْزَة اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي الْمروزِي، وَلم يكن يَبِيع السكر، وَإِنَّمَا سمي بِهِ لحلاوة كَلَامه. وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يحمل السكر فِي كمه. وَقَالَ ابْن مُصعب، كَانَ مجاب الدعْوَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: مروزيان، عَبْدَانِ وَشَيْخه أَبُو حَمْزَة، وكوفيان الْأَعْمَش وَشَيْخه سَالم بن أبي الْجَعْد ومدنيان: كريب مولى ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَبَّاس وَفِي الْإِسْنَاد الَّذِي قبله كَذَلِك: يُوسُف بن عِيسَى وَشَيْخه الْفضل بن مُوسَى مروزيان وخراسانيان، وَفِيمَا قبل ذَلِك، مُوسَى وَأَبُو عوَانَة شَيْخه بصريان، وَكَذَا مُوسَى وَعبد الْوَاحِد، وَكَذَا مُحَمَّد بن مَحْبُوب وَعبد الْوَاحِد، وَفِيمَا قبل ذَلِك: مكيان الْحميدِي وَشَيخ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَكلهمْ رَوَاهُ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش.
قَوْله: (فَانْطَلق) أَي: ذهب. قَوْله: (وَهُوَ ينفض يَدَيْهِ) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت حَالا.
19 - (بابُ مَنْ بَدَأَ رَأْسِهِ الأيْمَنِ فِي الغُسْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من بَدَأَ، إِلَخ. الشق، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْقَاف، بِمَعْنى الْجَانِب، وَبِمَعْنى نصف الشَّيْء، وَمِنْه: (تصدقوا بشق تَمْرَة) أَي: نصفهَا. وَقَوله: (الْأَيْمن) صفة للشق.
277 - حدّثنا خلاَّدُ بنُ يَحْيَى احدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ نافِعٍ عَنِ الحَسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كُنَّا إذَا أصابَتْ إحْدانَا جَنَابَةٌ أخَذَتْ بِيَدَيْهَا ثَلَاثًا فَوْقَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَأْخُذُ بِيَدِها عَلَى شِقِّهَا الأَيْمَنِ وَبِيَدِها الأُخْرَى عَلَى شَقِّها الأَيْسَرِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قتل: كَيفَ ظُهُور هَذِه الْمُطَابقَة والترجمة تَقْدِيم الشق الْأَيْمن من الرَّأْس والْحَدِيث تَقْدِيم الْأَيْمن من الشَّخْص. قلت: المُرَاد من أَيمن الشَّخْص أيمنه من رَأسه إِلَى قدمه، فَيدل حِينَئِذٍ على التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: خَلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام، ابْن يحيى بن صَفْوَان الْكُوفِي أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ، سكن مَكَّة مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن نَافِع المحزومي الْمَكِّيّ. الثَّالِث: الْحسن بن مُسلم بن بناق، بِفَتْح الْيَاء آخِر الْحُرُوف وَتَشْديد النُّون وبالقاف، الْمَكِّيّ ثِقَة صَالح الرَّابِع: صَفِيَّة بنت شُعْبَة بن عُثْمَان الحجي الْقرشِي وَاخْتلف فِي أَنَّهَا صحابية، وَالْجُمْهُور على صحبتهَا، رُوِيَ لَهَا خَمْسَة أَحَادِيث اتّفق الشَّيْخَانِ على رِوَايَتهَا عَن عَائِشَة، بقيت إِلَى زمَان ولَايَة الْوَلِيد وَهِي من صغَار الصَّحَابَة، وأبوها شيبَة صَحَابِيّ مَشْهُور. الْخَامِس: عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده أَن فِيهِ: حَدِيثا بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَحدهَا عَن صَفِيَّة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَنه سمع صَفِيَّة. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مكيون مَا خلا خلاداً وَهُوَ أَيْضا سكن مَكَّة، كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: رِوَايَة صحابية عَن صحابية.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن أبي بكير، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن الْحسن ابْن مُسلم عَن صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَت إحدانا إِذا أصابتها جَنَابَة أخذت ثَلَاث حفنات، هَكَذَا يَعْنِي بكفيها جَمِيعًا، فتصب على رَأسهَا، وَأخذت بيد وَاحِدَة فصبتها على هَذَا الشق، وَالْأُخْرَى على الشق الآخر) فمجموع هَذَا الْغسْل من ثَلَاث حفنات وغرفتين، الحفنات الثَّلَاث على الرَّأْس والواحدة من الغرفتين على الشق الْأَيْمن وَالْأُخْرَى على الْأَيْسَر. قَوْلهَا:(3/227)
(إِذا أصَاب) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة أَصَابَت. قَوْلهَا: (إحدانا) أَي: من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْلهَا: (أخذت بِيَدَيْهَا) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (بِيَدِهَا) أَي: المَاء، وَصرح بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته، قَوْلهَا: (فَوق رَأسهَا) أَي: تصبه فَوق رَأسهَا وَفِي الْإِسْمَاعِيلِيّ: (أخذت بِيَدَيْهَا ثمَّ صبَّتْ على رَأسهَا) (وبيدها الْأُخْرَى) أَي: ثمَّ أخذت بِيَدِهَا الْأُخْرَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي قَوْلهَا: (أخذت بِيَدَيْهَا) وَفِي بعض النّسخ أخذت يَديهَا بِدُونِ الْجَار فَلَا بُد أَن يُقَال: إِمَّا بنصبه ينْزع الْخَافِض، وَإِمَّا بِتَقْدِير مُضَاف أَي: أخذت ملْء يَديهَا. قلت: هَذَا تَوْجِيه حسن إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة. فَإِن قلت: مَا حكم هَذَا الحَدِيث؟ قلت: حكمه الرّفْع، لِأَن الظَّاهِر اطلَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
20 - (بابُ مَنِ اغْتَسَل عُرْيَاناً وَحْدَهُ فِي الخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ فالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز غسل الْعُرْيَان وَحده إلاَّ أَن التستر أفضل، وَهَذَا اللَّفْظ دلّ على الْجَوَاز قَوْله: (وَحده فِي خلْوَة) أَي: من النَّاس، وَهَذَا تَأْكِيد لقَوْله وَحده: وهما لفظان بِحَسب الْمَعْنى متلازمان، وانتصاب وَحده، على الْحَال قَوْله: (وَمن تستر) عطف على من اغْتسل قَوْله: (والستر أفضل) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وموضعها الْعلمَاء، وَمنعه ابْن أبي ليلى، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَجها لأصحابهم فِيمَا إِذا أنزل فِي المَاء عُريَانا بِغَيْر مئزر، وَاحْتج بِحَدِيث ضَعِيف لم يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (لَا تدْخلُوا المَاء إِلَّا بمئزر فَإِن للْمَاء عَامِرًا) [/ حم وروى ابْن وهب عَن ابْن مهْدي عَن خَالِد بن حميد عَن بعض أهل الشَّام، أَن ابْن عَبَّاس لم يكن يغْتَسل فِي بَحر وَلَا نهر إلاَّ وَعَلِيهِ إِزَار، وَإِذا سُئِلَ عَن ذَلِك قَالَ: إِن لَهُ عَامِرًا. وَرُوِيَ برد عَن مَكْحُول عَن عَطِيَّة مَرْفُوعا: [حم (من اغْتسل بلَيْل فِي فضاء فليحاذر على عَوْرَته، وَمن لم يفعل ذَلِك وأصابه لمَم فَلَا يَلُومن إلاَّ نَفسه) [/ حم وَفِي مرسلات الزُّهْرِيّ: فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تغتسلوا فِي الصَّحرَاء إلاَّ أَن تجذوا متوارى، فَإِن لم تَجدوا متوارى فليخط أحدكُم كالدائرة، ثمَّ يُسَمِّي الله تَعَالَى ويغتسل فِيهِ) وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) قَالَ: حَدثنَا ابْن نفَيْل: قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي عَن عَطاء عَن يعلى. [حم (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يغْتَسل بالبزار فَصَعدَ الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: إِن الله حَيّ ستير يحب الْحيَاء والستر، فَإِذا اغْتسل أحدكُم فليستتر) [/ حم وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، وَنَصّ أَحْمد فِيمَا حَكَاهُ ابْن تَيْمِية على كَرَاهَة دُخُول المَاء بِغَيْر إِزَار، وَقَالَ إِسْحَاق: هُوَ بالإزار أفضل لقَوْل الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد قيل لَهما وَقد دخلا المَاء عَلَيْهِمَا بردَان فَقَالَا: إِن للْمَاء سكاناً.
وَقالَ بَهْزٌ عَنْ أبيهِ عَن جده عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحقُّ أنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: فِي وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة، وَهُوَ إِنَّمَا يُطَابق إِذا حملناه على النّدب والاستحباب لَا على الْإِيجَاب، وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء كَمَا ذَكرْنَاهُ وَقَالَ بَعضهم: ظَاهر حَدِيث بهز أَن التعري فِي الْخلْوَة غير جَائِز، لَكِن اسْتدلَّ المُصَنّف على الْجَوَاز فِي الْغسْل بِقصَّة مُوسَى وَأَيوب، عَلَيْهِمَا السَّلَام. قلت: على قَوْله لَا يكون حَدِيث بهز مطابقا للتَّرْجَمَة، فَلَا وَجه لذكره هَاهُنَا لَكِن نقُول: إِنَّه مُطَابق، وإيراده هَاهُنَا موجه لِأَنَّهُ عِنْده مَحْمُول على النّدب، كَمَا حمله عَامَّة الْفُقَهَاء، فَإِذا كَانَ مَنْدُوبًا كَانَ التستر أفضل فيطابق قَوْله: والتستر أفضل خلافًا لما قَالَه أَبُو عبد الْملك فِيمَا حَكَاهُ ابْن التِّين عَنهُ، يُرِيد بقوله: فَالله أَحَق أَن يستحي مِنْهُ النَّاس، أَن لَا يغْتَسل أحد فِي الفلاة، وَهَذَا فِيهِ حرج بَين، وَنقل عَنهُ أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ أَن لَا يعْصى، وَهَذَا جيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْعلمَاء، كشف الْعَوْرَة فِي حَال الْخلْوَة بِحَيْثُ لَا يرَاهُ آدَمِيّ: إِن كَانَ لحَاجَة جَازَ، وَإِن كَانَ لغير حَاجَة فَفِيهِ خلاف فِي كَرَاهَته وتحريمه، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِي أَنه حرَام.
النَّوْع الثَّانِي فِي رِجَاله: وهم ثَلَاثَة: الأول: بهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة، وَقَالَ الْحَاكِم: بهز كَانَ من الثِّقَات مِمَّن يحْتَج بحَديثه، وَإِنَّمَا لَا يعد من الصَّحِيح رُوَاته عَن أَبِيه عَن جده، لِأَنَّهَا شَاذَّة وَلَا متابع لَهُ فِيهَا، وَقَالَ الْخَطِيب: حدث عَنهُ الزُّهْرِيّ وَمُحَمّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَبَين وفاتيهما إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة. الثَّانِي: أَبوهُ حكم، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الْكَاف، وَوَقع فِي رِوَايَة(3/228)
الْأصيلِيّ: وَقَالَ بهز بن حَكِيم يذكر أَبِيه صَرِيحًا، وَهُوَ تَابِعِيّ ثِقَة. الثَّالِث: جده مُعَاوِيَة بن حيدة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ صَحَابِيّ على مَا قَالَه صَاحب (الْكَمَال) وَكَلَام البُخَارِيّ يشْعر بذلك أَيْضا.
النَّوْع الثَّالِث: إِن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة فَأَبُو دَاوُد أخرجه فِي كتاب الْحمام، وَالتِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان فِي موضِعين، وَالنَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء، وَابْن مَاجَه فِي النِّكَاح، وَقَالَ: حدّثنا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حدّثنا يزِيد بن هَارُون وَأَبُو أُسَامَة قَالَا حدّثنا بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: (قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا تَأتي مِنْهُ وَمَا نذر؟ قَالَ: احفظ عورتك إلاَّ من زَوجتك أَو مَا ملئت يَمِينك قلت: يَا رَسُول الله: أَرَأَيْت أَن كَانَ الْقَوْم بَعضهم فِي بعض؟ قَالَ: إِن اسْتَطَعْت أَن لَا تريها أحدا فَلَا تَرَهَا. قلت: يَا رَسُول الله، فَإِن كَانَ أَحَدنَا خَالِيا؟ قَالَ: فَالله أَحَق أَن يستحي مِنْهُ من النَّاس) .
النَّوْع الرَّابِع فِي حكمه: وَهُوَ أَن التِّرْمِذِيّ لما أخرجه قَالَ: حَدِيث حسن، وَصَححهُ الْحَاكِم، وَأما عِنْد البُخَارِيّ فبهز وَأَبوهُ ليسَا من شَرطه، وَأما الْإِسْنَاد إِلَى بهز فَصَحِيح، وَلِهَذَا لما علق فِي النِّكَاح شَيْئا من حَدِيث بهز وَأَبِيهِ لم يجْزم بِهِ، بل قَالَ: وَيذكر عَن مُعَاوِيَة بن حيدة، فَمن هَذَا يعرف أَن مُجَرّد جزمه بِالتَّعْلِيقِ لَا يدل على صِحَة الْإِسْنَاد إلاَّ إِلَى من علق عَنهُ، وَأما فَوْقه فَلَا يدل فَافْهَم.
النَّوْع الْخَامِس فِي مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه، قَوْله: (عوراتنا) جمع عَورَة، وَهِي كل مَا يستحي مِنْهُ إِذا ظهر، وَهِي من الرجل مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة، وَمن الْحرَّة جَمِيع الْجَسَد إلاَّ الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ إِلَى الكوعين، وَفِي أخمصها خلاف وَمن الْأمة مثل الرجل، وَمَا يَبْدُو مِنْهَا فِي الْحَال لخدمة كالرأس والرقبة والساعد فَلَيْسَ بِعَوْرَة، وَستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة وَغير الصَّلَاة وَاجِب، وَفِيه عِنْد الْخلْوَة خلاف، وكل خلل وعيب فِي شَيْء فَهُوَ عَورَة، قَوْله: (وَمَا نذر) أَي: وَمَا نَتْرُك، وأمات الْعَرَب ماضي يذر ويدع إلاَّ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَة شَاذَّة فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك} بِالتَّخْفِيفِ قَوْله: (أَرَأَيْت) مَعْنَاهُ أَخْبرنِي قَوْله: (من النَّاس) يتَعَلَّق بقوله: (أَحَق) وَفِي بَعْضهَا يدل (أَن يستحيي مِنْهُ، أَن يسْتَتر مِنْهُ) ، وَهُوَ رِوَايَة السَّرخسِيّ.
278 - حدّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قالَ حدّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرِ عَنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبَّهٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كَانَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فقالُوا واللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أنْ يَغْتَسِلَ مَعْنَا إلاَّ أنَّهُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَّوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلَى مُوسَى فقالُوا واللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبِهِ فَطَفِق بالحَجَرِ ضَرْباً فقالَ أَبُو هُرَيْرَةَ واللَّهِ إنَّهُ لَنَدَبٌ بالحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْباً بِالْحَجَرِ.
[/ ح.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي اغتسال مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُريَانا وَحده خَالِيا عَن النَّاس، وَلَكِن هَذَا مَبْنِيّ على أَن شرع من قبلنَا من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة والسَّلام، هَل يلْزمنَا أم لَا فِيهِ خلاف، وَالأَصَح أَنه يلْزمنَا إِن لم يقص الله علينا بالإنكار.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: إِسْحَاق بن نصر السَّعْدِيّ النجاري، قد يذكرهُ البُخَارِيّ تَارَة فِي هَذَا الْكتاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيه بِأَن يَقُول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَتارَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى جده كَمَا ذكره هَاهُنَا، وَقد تقدم ذكره فِي اباب فضل من علم وَعلم. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق الصَّنْعَانِيّ. الثَّالِث: معمر بن رَاشد. الرَّابِع: همام، بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الْمِيم، بن مُنَبّه، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد تقدمُوا فِي بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي مَوضِع آخر عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق، وَلَفظه (اغْتسل مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، عِنْد مويه) بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَإِسْكَان الْيَاء، تَصْغِير المَاء، وَأَصله موه، والتصغير يرد الْأَشْيَاء إِلَى أَصْلهَا، هَكَذَا هُوَ فِي بعض نسخ مُسلم: روى ذَلِك العذري والباجي. وَفِي مُعظم نسخ مُسلم. مشربَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَضم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي حُفْرَة فِي أصل النَّخْلَة. وَقَالَ عِيَاض: وأظن الأول تصحيفاً، وَقَالَ [قعالقرطبي [/ قع: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل تفعل هَذَا معاندة للشَّرْع وَمُخَالفَة لنبيهم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.(3/229)
ذكر لغاته قَوْله: (كَانَت بَنو إِسْرَائِيل) هُوَ اسْم يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم خَلِيل الرحمان، صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه، وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ سَافر إِلَى خَاله لأمر ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَكَانَ خَاله فِي حران، وَكَانَ يسير بِاللَّيْلِ ويكمن بِالنَّهَارِ، وَكَانَ بَنو يَعْقُوب اثْنَي عشر رجلا وهم: روبيل ويهوذا وشمعون ولاؤي وداني ويفتالي وزبولون وجاد ويساخر وأشير ويوسف وبنيامين، وهم الَّذين سماهم الله الأسباط، وَسموا بذلك لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم وَالِد قَبيلَة، والسبط فِي كَلَام الْعَرَب الشَّجَرَة الملتفة الْكَثِيرَة الأغصان، والأسباط بني إِسْرَائِيل كالشعوب من الْعَجم، والقبائل من الْعَرَب، ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذُرِّيَّة لاؤي، وَهُوَ مُوسَى بن عمرَان بن فاهث بن لاؤي. قَوْله: (آدر) ، زعم ثَعْلَب فِي (الفصيح) أَنه كآدم، وَقَالَ كرَاع فِي (الْمُنْتَخب) الأدرة، على مِثَال فعله، فتق يكون فِي إِحْدَى الخصيتين، وَقَالَ عَليّ بن حَمْزَة فِيمَا ذكره ابْن عُمَيْس يُقَال أدرة وادرة بِالضَّمِّ وَالْفَتْح وَإِسْكَان الدَّال، وبالفتح والتحريك وَفِي (الْمُخَصّص) لِابْنِ سَيّده الإدرة الخصية الْعَظِيمَة إدر الرجل أدراً، وَقيل: الأدر: الَّذِي ينفتق صفاقه فَيَقَع قصبه فِي صفنه، وَلَا ينفتق إلاَّ من جَانِبه الْأَيْسَر، وَقد تأدر الرجل من دَاء يُصِيبهُ، والشرج ضِدّه وَفِي (الْمُحكم) الأدر والمأدور الَّذِي ينفتق صفاقه، وَقيل: هُوَ أَن يُصِيبهُ فتق فِي إِحْدَى الخصيتين، وَلَا يُقَال: امْرَأَة أدراء إِمَّا لِأَنَّهُ لم يسمع، وَإِمَّا أَن يكون لاخْتِلَاف الْخلقَة، وَقد أدر إدراء، وَالِاسْم الأدرة وَقيل: الخصية الإدراء الْعَظِيمَة من غير فتق، وَفِي (الْجَامِع) الأدرة والأدر مصدران، وَاسم المنتفخة الأدرة. وَقيل: إدر الرجل يأدر. إِذا أَصَابَهُ ذَلِك. وَفِي (الصِّحَاح) الأدرة نفخة فِي الخصية، يُقَال: رجل أدربين الأدر وَفِي (الجمهرة) هُوَ الْعَظِيم الخصيتين. قَوْله: (فَخرج) وَفِي رِوَايَة فَجمع مُوسَى، زعم ابْن سَيّده أَنه يُقَال: جمح الْفرس بِصَاحِبِهِ جمحاً وجماحاً ذهب يجْرِي جَريا عَالِيا، وكل شَيْء مضى لَيْسَ على وَجهه فقد جمع قَالَ نفطويه، الدَّابَّة الجموح هِيَ الَّتِي تميل فِي أحد شقيها وَفِي (التَّهْذِيب) لأبي مَنْصُور: فرس جموح، إِذا ركب فَلم يرد اللجام رَأسه، وَهَذَا ذمّ، وَفرس جموح أَي: سريع، وهذامدح. قَوْله: (فِي إثره) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة. وَقَالَ كرَاع إِثْر الشَّيْء واثره واثره، بِمَعْنى وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخب) بوجهيه إِثْر واثر واثر وَفِي (الواعي) الْأَثر محركة هُوَ مَا يُؤثر الرجل بقدمه فِي الأَرْض. قَوْله: (ثوبي يَا حجر) أَي: أَعْطِنِي ثوبي، وَإِنَّمَا خاطبه لِأَنَّهُ أجراه مجْرى من يعقل لكَونه قر بِثَوْبِهِ، فانتقل عِنْده من حكم الجماد إِلَى حكم الْحَيَوَان، فناداه فَلَمَّا لم يطعه ضربه، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، أَرَادَ أَن يضْربهُ إِظْهَارًا للمعجزة بتأثير ضربه، وَيحْتَمل أَن يكون عَن وَحي لإِظْهَار الإعجاز، وَمَشى الْحجر إِلَى بني إِسْرَائِيل بِالثَّوْبِ أَيْضا معْجزَة أُخْرَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: فَطَفِقَ (بِالْحجرِ ضربا) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي: (فَطَفِقَ الْحجر) ، وَسَنذكر إعرابه قَوْله: (لندب) بِفَتْح النُّون وَفتح الدَّال وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) النّدب أثر الْجرْح إِذا لم يرْتَفع عَن الْجلد، وجرح نديب ذُو ندب، وَقد انتدبته. جعلته فِي جِسْمه ندبا واثراً، وَالْجمع أنداب وندوب. وَفِي (الْمُحكم) عَن أبي زيد، وَالْجمع ندب، وَقيل: النّدب وَاحِد، وَندب ظَهره ندبا وندوبة وندوباً فَهُوَ ندب، صَارَت فِيهِ ندوب، وأندب بظهره وَفِي ظَهره غادر فِيهِ ندوباً وَفِي (الِاشْتِقَاق) للرماني عَن الْأَصْمَعِي: هُوَ الْجرْح إِذا بَقِي مِنْهُ أثر مشرف، يُقَال) ضربه حَتَّى أندبه.
ذكر إعرابه قَوْله: (بَنو إِسْرَائِيل) لفظ بَنو جمع السَّلامَة أصلة بنُون لكنه على خلاف الْقيَاس لوُقُوع التَّغَيُّر فِي مفرده، وَأما التَّأْنِيث فِي الْفِعْل فعلى قَول من يَقُول: حكم ظَاهر مُطلقًا حكم ظَاهر غير الْحَقِيقِيّ، فَلَا إِشْكَال وَإِمَّا على قَول من يَقُول: كل جمع مؤنث إلاَّ السَّلامَة الْمُذكر فتأنيثه أَيْضا عِنْده على خلاف الْقيَاس أَو بِاعْتِبَار الْقَبِيلَة قَوْله: (عُرَاة) جمع عارٍ كقضاة جمع قاضٍ، وانتصابها على الْحَال. قَوْله: (ينظر إِلَى بعض) جملَة فعلية وَقعت حَالا قَوْله: إِلَّا أَنه آدر اسْتثِْنَاء مفرغ والمستثنى مِنْهُ مَقْدُور هُوَ امْر من الْأُمُور قَوْله: (يغْتَسل) جملَة وَقعت حَالا، وَهِي حَال منتظرة. قَوْله: (يَقُول) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل حَال. قَوْله: (ثوبي) مفعول فعل مَحْذُوف تَقْدِيره، رد ثوبي أَو أَعْطِنِي ثوبي. قَوْله: (من بَأْس) كلمة من زَائِدَة، وَهُوَ اسْم كَانَ على تَقْدِير: مَا كَانَ بمُوسَى من بَأْس، وَفِي أَكثر النّسخ مَا بمُوسَى فعلى هَذَا، من بَأْس اسْم مَا. قَوْله: (فَطَفِقَ الْحجر) بِنصب: الْحجر، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي. وطفق؟ من أَفعَال المقاربة: بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا لُغَتَانِ: وَالْحجر، مَنْصُوب بِفعل مُقَدّر وَهُوَ: يضْرب، أَي: طفق يضْرب الْحجر ضربا وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فَطَفِقَ بِالْحجرِ، بِزِيَادَة الْبَاء، وَمَعْنَاهَا: جعل مُلْتَزما بذلك يضْربهُ ضربا.
وَاعْلَم أَن أَفعَال المقاربة ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: مَا وضع للدلالة على قرب الْخَبَر، وَهُوَ ثَلَاثَة، نَحْو:(3/230)
كَاد وكرب وأوشك. الثَّانِي: مَا وضع للدلالة على رجائه، وَهِي ثَلَاثَة، نَحْو: عَسى واخلولق وحرى. الثَّالِث: مَا وضع للدلالة على الشُّرُوع فِيهِ، وَهُوَ كثير. وَمِنْه، طفق، وَهَذِه كلهَا مُلَازمَة لصيغة الْمَاضِي إلاَّ أَرْبَعَة فَاسْتعْمل لَهَا مضارع وَهِي: كَاد وأوشك، وطفق، وَجعل واستعلم مصدر لاثْنَيْنِ وهما: طفق وَكَاد، وَحكى الْأَخْفَش طفوقاً، عَمَّن قَالَ: طفق بِالْفَتْح، وطفقاً عَمَّن قَالَ: طفق بِالْكَسْرِ. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) قَالَ بَعضهم: هُوَ من تَتِمَّة مقول همام وَلَيْسَ بمعلق وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة اما تَعْلِيق من البُخَارِيّ وَأما تَتِمَّة مقول همام فَيكون مُسْندًا (قلت) أحتمال الْأَمريْنِ ظَاهرا وَقطع الْبَعْض بِأحد الْأَمريْنِ غير مَقْطُوع بِهِ. قَوْله: (سِتَّة) بِالرَّفْع على الْبَدَلِيَّة أَي: سِتَّة آثَار، أَو هُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَكَذَلِكَ: ضربا تَمْيِيز فَافْهَم.
ذكر استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: دَلِيل على إِبَاحَة التعري فِي الْخلْوَة للْغسْل وَغَيره بِحَيْثُ يَأْمَن أعين النَّاس. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز النّظر إِلَى الْعَوْرَة عِنْد الضَّرُورَة الداعية إِلَيْهِ من مداواة أَو برَاء من الْعُيُوب أَو إِثْبَاتهَا، كالبرص وَغَيره مِمَّا يتحاكم النَّاس فِيهَا مِمَّا لَا يَد فِيهَا من رُؤْيَة الْبَصَر بهَا. وَفِيه: جَوَاز الْحلف على الْإِخْبَار، كحلف أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: دلَالَة على معْجزَة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ: مشي الْحجر بِثَوْبِهِ إِلَى مَلأ من بني إِسْرَائِيل ونداؤه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للحجر، وتأثير ضربه فِيهِ. وَفِيه: دَلِيل على أَن الله تَعَالَى كمل أَنْبيَاء خلقا وخلقا، ونزههم عَن المعايب والنقائص. وَفِيه: مَا غلب على مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من البشرية حَتَّى ضرب الْحجر. فَإِن قلت: كشف الْعَوْرَة حرَام فِي حق غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكيف الَّذِي صدر من مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: ذَاك فِي شرعنا، وَأما فِي شرعهم فَلَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنهم كَانُوا يغتسلون عُرَاة ومُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يراهم لَا يُنكر عَلَيْهِم، وَلَو كَانَ حَرَامًا لأنكره. فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم، كَانَ مُوسَى ينْفَرد فِي الْخلْوَة عِنْد الْغسْل؟ قلت: إِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِك من بَاب الْحيَاء، لَا أَنه كَانَ يجب عَلَيْهِ ذَلِك، وَيحْتَمل أَنه كَانَ عَلَيْهِ مئزر رَقِيق فَظهر مَا تَحْتَهُ لما ابتل بِالْمَاءِ، فَرَأَوْا أَنه أحسن الْخلق، فَزَالَ عَنْهُم مَا كَانَ فِي نُفُوسهم. فَإِن قلت: مَا هَذَا الْحجر؟ قلت: قَالَ سعيد بن جُبَير: الْحجر الَّذِي وضع مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَوْبه عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يحملهُ مَعَه فِي الْأَسْفَار فيضربه فيتفجر مِنْهُ المَاء، وَالله أعلم.
(وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ بَينا أَيُّوب يغْتَسل عُريَانا فَخر عَلَيْهِ جَراد من ذهب فَجعل أَيُّوب يحتثي فِي ثَوْبه فناداه ربه يَا أَيُّوب ألم أكن أغنيتك عَمَّا ترى قَالَ بلَى وَعزَّتك وَلَكِن لَا غنى بِي عَن بركتك) هَذَا مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول وَقد صرح أَبُو مَسْعُود وَخلف فَقَالَا فِي أطرافهما أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ هَهُنَا عَن اسحق بن نصر وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ عَن أبي أَحْمد بِهن شيرويه حَدثنَا اسحق أخبرنَا عبد الرَّزَّاق فَذكره وَذكر أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن اسحق بن نصر عَن عبد الرَّزَّاق وَأورد الْإِسْمَاعِيلِيّ حَدِيث عبد الرَّزَّاق عَن معمر ثمَّ لما فرغ مِنْهُ قَالَ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَينا أَيُّوب يغْتَسل " الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم وَجزم الْكرْمَانِي بِأَنَّهُ تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض فَأَخْطَأَ فَإِن الْخَبَرَيْنِ ثابتان فِي نُسْخَة همام بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور (قلت) الْكرْمَانِي لم يجْزم بذلك وَإِنَّمَا قَالَ تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض بِنَاء على الظَّاهِر لِأَنَّهُ لم يطلع على مَا ذكرنَا قَوْله " بَينا " بِالْألف أَصله بَين بِلَا الْألف زيدت الْألف فِيهِ لإشباع الفتحة وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله " خر " وَمَا قيل أَن مَا بعد الْفَاء لَا يعْمل فِيمَا قبله لِأَن فِيهِ معنى الجزائية إِذْ بَين مُتَضَمّن للشّرط فَجَوَابه لَا نسلم عدم عمله سِيمَا فِي الظّرْف إِذْ فِيهِ توسع وَالْعَامِل خر الْمُقدر وَالْمَذْكُور مُفَسّر لَهُ وَمَا قيل أَن الْمَشْهُور دُخُول إِذا وَإِذا فِي جَوَابه فَجَوَابه كَمَا أَن إِذا تقوم مقَام الْفَاء فِي جَوَاب الشَّرْط نَحْو قَوْله {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} تقوم الْفَاء مقَام إِذا فِي جَوَاب بَين فبينهما مُعَاوضَة قَوْله " أَيُّوب " اسْم أعجمي وَهُوَ ابْن أموص بن زراح بن عيص بن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَقَالَ بَعضهم أَيُّوب بن أموص بن زيرح ابْن زعويل بن عيص بن اسحق وَقَالَ آخَرُونَ أَيُّوب بن أموص بن زراح بن روم بن عيص بن اسحق وَأمه بنت لوط عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام(3/231)
وَكَانَ أَيُّوب فِي زمَان يَعْقُوب وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ كَانَت مَنَازِله الثَّنية من أَرض الشَّام والجابية من كورة دمشق وَكَانَ الْجَمِيع لَهُ ومقامه بقرية تعرف بدير أَيُّوب وقبره بهَا وَإِلَى هَلُمَّ جرا وَهِي قَرْيَة من نوى عَلَيْهِ مشْهد وَهُنَاكَ قدم فِي حجر يَقُولُونَ أَنَّهَا أثر قدمه وَهُنَاكَ عين يتبرك بهَا وَكَانَ أعبد أهل زَمَانه وعاش ثَلَاثًا وَتِسْعين سنة قَوْله " يغْتَسل " جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قَوْله " أَيُّوب " وَالْجُمْلَة فِي مَحل الْجَرّ بِإِضَافَة بَين إِلَيْهِ قَوْله " عُريَانا " نصب على الْحَال ومصروف لِأَنَّهُ فعلان بِالضَّمِّ بِخِلَاف فعلان بِالْفَتْح كَمَا عرف فِي مَوْضِعه قَوْله " جَراد " بِالرَّفْع فَاعل خر قَالَ ابْن سَيّده الْجَرَاد مَعْرُوف قَالَ أَبُو عبيد قيل هُوَ سروة ثمَّ دبا ثمَّ غوغا ثمَّ كتفان ثمَّ خيفان ثمَّ جَراد وَقَالَ أَبُو اسحق إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الأجواني أول مَا يكون الْجَرَاد دبا ثمَّ يكون غوغا إِذا ماج بعضه فِي بعض ثمَّ يكون كتفانا ثمَّ يصير خيفانا إِذا صَارَت فِيهِ خطوط مُخْتَلفَة الْوَاحِدَة خيفانة ثمَّ يكون جَرَادًا وَقيل الْجَرَاد الذّكر والجرادة الْأُنْثَى وَمن كَلَامهم رَأَيْت جَرَادًا على جَرَادَة كَقَوْلِهِم رَأَيْت نعاما على نعَامَة وَفِي الصِّحَاح الْجَرَاد مَعْرُوف والواحدة الجرادة يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَلَيْسَ الْجَرَاد بِذكر للجرادة إِنَّمَا هُوَ اسْم جنس كالبقر وَالْبَقَرَة وَالتَّمْر وَالتَّمْرَة وَالْحمام والحمامة وَمَا أشبه ذَلِك فَحق مؤنثه أَن لَا يكون مؤنثه من لَفظه لِئَلَّا يلتبس الْوَاحِد الْمُذكر بِالْجمعِ وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة سمي جَراد لِأَنَّهُ يجرد الأَرْض فَإِنَّهُ يَأْكُل مَا عَلَيْهَا وَكَذَا هُوَ فِي الِاشْتِقَاق للرماني قَوْله " يحتثي " من بَاب الافتعال من الحثي بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة قَالَ ابْن سَيّده الحثي مَا رفعت بِهِ يَديك يُقَال حَتَّى يحثي ويحثو وَالْيَاء أَعلَى وَزعم ابْن قرقول أَنه يكون بِالْيَدِ الْوَاحِدَة أَيْضا وَفِي الصِّحَاح حثى فِي وَجهه التُّرَاب يحثو ويحثي حثوا وحثيا وتحثيا وحثوت لَهُ إِذا أَعْطيته شَيْئا يَسِيرا وَيُقَال الحثية باليدين جَمِيعًا عِنْد أهل اللُّغَة وَقَالَ الْكرْمَانِي يحتثي أَي يَرْمِي يَعْنِي يَأْخُذ وَيَرْمِي فِي ثَوْبه وَقَالَ بَعضهم وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ عَن زيد يحتثن بنُون فِي آخِره بدل الْيَاء (قلت) أمعنت النّظر فِي كتب اللُّغَة فَمَا وجدت لَهَا وَجها فِي هَذَا قَوْله " فناداه ربه " يحْتَمل أَن يكون كَلمه كَمَا كلم مُوسَى وَهُوَ أولى بِظَاهِر اللَّفْظ وَيحْتَمل أَن يُرْسل إِلَيْهِ ملكا فَسمى هَذَا بذلك قَوْله " بلَى " أَي بلَى أغنيتني وَقَالَ الْكرْمَانِي وَلَو قيل فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع بدل بلَى نعم لَا يجوز بل يكون كفرا (قلت) لِأَن بلَى مُخْتَصَّة بِإِيجَاب النَّفْي وَنعم مقررة لما سبقها وَالْمرَاد فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} أَنْت رَبنَا وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَو قَالُوا نعم لكفروا وَالْفُقَهَاء لم يفرقُوا فِي الأقارير لِأَن مبناها على الْعرف وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْعرف قَوْله " لَا غنى بِي " قَالَ بَعضهم لَا غنى بِالْقصرِ بِلَا تَنْوِين على أَن لَا بِمَعْنى لَيْسَ (قلت) هَذَا الْقَائِل لم يدر الْفرق بَين لَا بِمَعْنى لَيْسَ وَبَين لَا إِلَى لنفي الْجِنْس فَإِذا كَانَت بِمَعْنى لَيْسَ فَهُوَ منون مَرْفُوع وَإِذا كَانَت بِمَعْنى لَا لنفي الْجِنْس يكون مَبْنِيا على مَا ينصب بِهِ وَلَا ينون وَيجوز هَهُنَا الْوَجْهَانِ وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى لِأَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم وَقَالَ صَاحب الْكَشَّاف فِي أول الْبَقَرَة قرىء لَا ريب بِالرَّفْع وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة أَن الْمَشْهُورَة توجب الِاسْتِغْرَاق وَهَذِه تجوزه (فَإِن قلت) خبر لَا مَا هُوَ هَل هُوَ لفظ بِي أَو عَن بركتك قلت يجوز كِلَاهُمَا وَالْمعْنَى صَحِيح على التَّقْدِيرَيْنِ قَوْله " عَن بركتك " الْبركَة كَثِيرَة الْخَيْر. (وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ) مَا قَالَه ابْن بطال جَوَاز الِاغْتِسَال عُريَانا لِأَن الله تَعَالَى عَاتب أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام على جمع الْجَرَاد وَلم يعاتبه على الِاغْتِسَال عُريَانا وَفِيه جَوَاز الْحلف بِصفة من صِفَات الله تَعَالَى وَقَالَ الدَّاودِيّ فِيهِ فضل الكفاف على الْفقر لِأَن أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن يَأْخُذ ذَلِك مفاخرا وَلَا مكاثرا وَإِنَّمَا أَخذه ليستعين بِهِ فِيمَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ وَلم يكن الرب جلّ وَعلا ليعطيه مَا ينقص بِهِ حَظه وَفِيه الْحِرْص على الْحَلَال وَفِيه فضل الْغنى لِأَنَّهُ سَمَّاهُ بركَة
(وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى بن عقبَة عَن صَفْوَان عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ بَينا أَيُّوب يغْتَسل عُريَانا) أَي روى هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور إِبْرَاهِيم وَهُوَ ابْن طهْمَان بِفَتْح الطَّاء الْخُرَاسَانِي أَبُو سعيد مَاتَ بِمَكَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة عَن مُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة التَّابِعِيّ تقدم فِي بَاب إسباغ الْوضُوء عَن صَفْوَان بن سليم بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام التَّابِعِيّ الْمدنِي أَبُو عبد الله الإِمَام الْقدْوَة يُقَال أَنه لم يضع جنبه على الأَرْض أَرْبَعِينَ سنة وَكَانَ(3/232)
لَا يقبل جوائز السُّلْطَان وَقَالَ أَحْمد يسْتَنْزل بِذكرِهِ الْقطر مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَام اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة عَن عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي بَاب كفران العشير وَهَذِه الرِّوَايَة مَوْصُولَة أخرجهَا النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن حَفْص عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بِهِ وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ حَدثنَا أَبُو بكير بن عبيد الشعراني وَأَبُو عمر وَأحمد بن مُحَمَّد الْحِيرِي قَالَا حَدثنَا أَحْمد بن حَفْص حَدثنِي أبي حَدثنِي إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى بن عقبَة الخ وَلما ذكره الْحميدِي قَالَ عَطاء تَعْلِيقا عَن أبي هُرَيْرَة ثمَّ قَالَ لم يزدْ يَعْنِي البُخَارِيّ على هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة عَطاء وَقد أخرجه وَلم يذكر اسْم شَيْخه وأرسله وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت لم أخر الْإِسْنَاد عَن الْمَتْن قلت لَعَلَّ لَهُ طَرِيقا آخر غير هَذَا وَتَركه وَذكر الحَدِيث تَعْلِيقا لغَرَض من الْأَغْرَاض الَّتِي تتَعَلَّق بالتعليقات ثمَّ قَالَ وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم إشعارا بِهَذَا الطَّرِيق الآخر وَهَذَا أَيْضا تَعْلِيق لِأَن البُخَارِيّ لم يدْرك عصر إِبْرَاهِيم ثمَّ أَن الْمُحدثين كثيرا مِنْهُم يذكر الحَدِيث أَولا ثمَّ يَأْتِي بِالْإِسْنَادِ لَكِن الْغَالِب عَكسه. (وَمن لطائف الْإِسْنَاد الْمَذْكُور) أَن فِيهِ العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَأَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ (فَإِن قلت) قَوْله بَينا أَيُّوب مَا وَقع من أَنْوَاع الْكَلَام (قلت) هُوَ بدل من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم
21 - (بابُ التَسَتَّرِ فِي الغُسْلِ عِنْدَ النَّاس)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التستر إِلَى آخِره، ويروى، من النَّاس.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِنَّه لما بَين حكم التعري فِي الْخلْوَة شرع هَاهُنَا يبين التستر عِنْد النَّاس.
280 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بِنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكِ عَنْ أبي النَّصْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدَ اللَّهِ أنّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أَمَّ هانِىءِ بِنْتِ أبي طالِبٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَمُ هَانِىءِ بِنْتَ أبي طالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ الفَتْح فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلْ وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ مَنْ هَذِهِ فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِىءِ.
[/ ح.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام، تقدم فِي بَاب من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام، تقدم هُنَاكَ أَيْضا. الثَّالِث: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة، مولى عمر، بِدُونِ الْوَاو، ابْن عبيد الله، بِالتَّصْغِيرِ، التَّابِعِيّ تقدم فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: أَبُو مرّة بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، تقدم فِي بَاب من قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس فَإِن قلت: ذكر فِيهِ أَنه مولى عقيل بن أبي طَالب (قلت) هُوَ مولى أم هَانِيء وَلَكِن لشدَّة ملازمته وَكَثْرَة مصاحبته لعقيل نسب إِلَيْهِ وَقيل كَانَ مولى لَهما. الْخَامِس: أم هانىء، بالنُّون وبهمزة فِي آخِره، وكنيت باسم ابْنهَا، وَاسْمهَا: فَاخِتَة، وَقيل: عَاتِكَة بِالْعينِ الْمُهْملَة، وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل فَاطِمَة، وَقيل: هِنْد، وَهِي أُخْت عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَرُوِيَ لَهَا سِتَّة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية، وَأَن رُوَاته مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب أَيْضا عَن عبد الله بن مسلمة، وَأخرجه فِي الصَّلَاة عَن إِسْمَاعِيل بن أويس، وَأخرجه فِي الْجِزْيَة عَن عبد الله بن يُوسُف، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة، وَفِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رمح عَن لَيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب، وَعَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة عَن الْوَلِيد بن كثير عَن سعيد بن أبي هِنْد عَن أبي مرّة عَن أم هانىء بِهِ مُخْتَصرا وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن حجاج ابْن الشَّاعِر عَن مُعلى بن أَسد عَن وهب بن خَالِد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن أبي مرّة عَن أم هانىء بِهِ مُخْتَصرا وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ مُخْتَصرا، وَقَالَ: صَحِيح وَفِي السّير عَن أبي الْوَلِيد الدِّمَشْقِي(3/233)
وَهُوَ أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن بكار عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي مرّة عَن أم هانىء. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن مهْدي عَن مَالك نَحْو حَدِيث معن، وَفِي السّير عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن ابْن أبي ذِئْب نَحْو حَدِيث الْوَلِيد: وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن رمح.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قَوْله: (عَام الْفَتْح) أَي: فتح مَكَّة. وَكَانَ فِي رَمَضَان سنة ثَمَان. قَوْله: (يغْتَسل) جملَة فِي مَحل نصب على أَنَّهَا مفعول ثَان لوجدت. قَوْله: (وَفَاطِمَة تستره) . جملَة إسمية ومحلها النصب على الْحَال، وَفَاطِمَة هِيَ بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقدم ذكرهَا فِي بَاب غسل الْمَرْأَة أَبَاهَا الدَّم. قَوْله: (فَقَالَ من هَذِه) ، يدل على أَن السّتْر كَانَ كثيفاً، وَعرف أَيْضا أَنَّهَا امْرَأَة لكَون ذَلِك الْموضع لَا يدْخل عَلَيْهِ فِيهِ الرِّجَال.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ. وجوب الاستتار فِي الْغسْل عَن أعين النَّاس، فَكَمَا لَا يجوز لأحد أَن يُبْدِي عَوْرَته لأحد من غير ضَرُورَة، فَكَذَلِك لَا يجوز لَهُ أَن ينظر إِلَى فرج أحد من غير ضَرُورَة، وَاتفقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى، كَمَا نَقله ابْن بطال، على أَن من دخل الْحمام بِغَيْر مئزر أَنه تسْقط شَهَادَته بذلك، وَهَذَا قَول مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ وَاخْتلفُوا إِذا انْزعْ مِئْزَره وَدخل الْحَوْض وبدت عَوْرَته عِنْد دُخُوله. فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: تسْقط شَهَادَته بذلك أَيْضا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري لَا تسْقط شَهَادَته بذلك، وَهَذَا يعْذر بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ. قَالَ: وَأجْمع الْعلمَاء على أَن للرجل أَن يرى عَورَة أَهله وَترى عَوْرَته. وَفِيه: مَا قَالَ الثَّوْريّ: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز اغتسال الْإِنْسَان بِحَضْرَة امْرَأَة من مَحَارمه إِذا كَانَ يحول بَينهَا وَبَينه سَاتِر من ثوب أَو غَيره.
281 - حدّثنا عَبْدَانُ قالَ أخْبَرنا عَبْدُ اللَّهِ أخبرنَا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدُ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قالتُ سَتَرْتُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الجَنَابَةِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلى الحَائِطِ أوْ الأَرْضِ ثُمَّ تَوَضَأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رَجْلَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلى جَسَدِهِ المَاءَ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (سترت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَقد قُلْنَا إِن البُخَارِيّ ذكر حَدِيث مَيْمُونَة هَذَا فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع، وَهَذَا هُوَ الثَّامِن، وَقد تقدم هَذَا فِي أول الْغسْل غير أَن بَينه وَبَين سُفْيَان الثَّوْريّ هُنَاكَ وَاحِدًا وَهُوَ شَيْخه مُحَمَّد بن يُوسُف، وَهَاهُنَا بَينه وَبَين سُفْيَان الثَّوْريّ اثْنَان: إحدهما هُوَ شَيْخه عَبْدَانِ، وَالْآخر: عبد الله بن الْمُبَارك.
وَقد ذكرنَا مَا فِيهِ من أَنْوَاع مَا يتَعَلَّق بِهِ مستقصى.
تابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وابنُ فُضَيْلٍ فِي السَّتْرِ
أَي: تَابع سُفْيَان أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي فِي الرِّوَايَة عَن الْأَعْمَش، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي بَاب من أفرغ بِيَمِينِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. قَالَ: حَدثنَا أَبُو عوَانَة حَدثنَا الْأَعْمَش عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَن كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة الحَدِيث. قَوْله: (وَابْن فُضَيْل) أَي: وَتَابعه أَيْضا مُحَمَّد بن فُضَيْل بن غَزوَان فِي الرِّوَايَة عَن الْأَعْمَش، وَرِوَايَته مَوْصُولَة فِي (صَحِيح) أبي عوَانَة الأسفرائني نَحْو رِوَايَة أبي عوَانَة الْبَصْرِيّ. قَوْله: (فِي السّتْر) وَفِي بعض النّسخ فِي التستر أَرَادَ تَابعا سُفْيَان فِي لفظ (سترت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
22 - (بابٌ إذَا احتَلَمَتِ المَرْأَةُ)
أَي: هَذَا بَاب مَا يكون فِيهِ من الحكم إِذا احْتَلَمت الْمَرْأَة، والاحتلام من الْحلم، وَهُوَ عبارَة عَمَّا يرَاهُ النَّائِم فِي نَومه من الْأَشْيَاء، يُقَال: حلم، بِالْفَتْح: إِذا رأى، وتحلم إِذا ادّعى الرُّؤْيَا كَاذِبًا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي كل مِنْهُمَا بَيَان حكم الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة فَإِن قلت: حكم الرجل إِذا احْتَلَمَ مثل حكم الْمَرْأَة، فَمَا وَجه تقييدها هَذَا الْبَاب بِالْمَرْأَةِ وتخصيصه بهَا؟ قلت: الْجَواب عَنهُ بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا: أَن صُورَة السُّؤَال كَانَت فِي الْمَرْأَة، فقيد الْبَاب بهَا لموافقته صُورَة السُّؤَال، وَالثَّانِي:(3/234)
فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى الرَّد على من منع مِنْهُ فِي حق الْمَرْأَة دون الرجل، فنبه على أَن حكم الْمَرْأَة كَحكم الرجل فِي هَذَا الْبَاب، أَلا ترى كَيفَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي جَوَاب أم سليم: (الْمَرْأَة ترى ذَلِك أعليها الْغسْل؟ نعم، إِنَّمَا النِّسَاء شقائق الرِّجَال) ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْمعْنَى أَن النِّسَاء نَظَائِر الرجل وأمثالهم فِي الْأَخْلَاق والطباع كأنهن شققْنَ مِنْهُنَّ، وحواء خلقت من آدم، عَلَيْهِمَا السَّلَام. والشقائق جمع شَقِيقَة، وَمِنْه: شَقِيق الرجل وَهُوَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأمه، وَيجمع على أشقاء أَيْضا، بتَشْديد الْقَاف، وَنسب منع هَذَا الحكم فِي الْمَرْأَة إِلَى إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ على مَا روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَنهُ ذَلِك بِإِسْنَاد جيد فَكَأَن النَّوَوِيّ لم يقف على هَذَا واستبعد صِحَّته عَنهُ.
282 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنِ يُوسُفَ قالَ أخبرْنا مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتَ أبي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قَالَتْ أُمُّ سَلْيمٍ امْرَأَةُ أبي طَلْحَةَ إلَى رسولِ اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحِيَّ مِنَ الحَقِ هَلُ عَلَى المَرْأَةَ مِنْ غُسْلِ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعَمْ إذَا رَأَتْ المَاءِ. [/ نه
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد اللهبن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، وَاسم أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي، وَفِي (تَهْذِيب التَّهْذِيب) أَبُو سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي أحد السَّابِقين عبد الله أَخُو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرضَاعَة، وَذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْحيَاء فِي الْعلم. وَفِيه زَيْنَب بنت أم سَلمَة، فنسبت زَيْنَب هُنَاكَ إِلَى أمهَا، وهاهناإلى أَبِيهَا وَاسم أم سَلمَة: هِنْد بنت أبي أُميَّة، واسْمه حُذَيْفَة وَيُقَال: سهل بن المغير بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، كَانَت قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أبي سَلمَة الْمَذْكُور، وَزَيْنَب هِيَ أُخْت سَلمَة، فكنى كل وَاحِد من أم زينتب وأبيها بسلمة، فَلذَلِك تنْسب زَيْنَب تَارَة إِلَى أَبِيهَا ببنت أبي سَلمَة، وَتارَة إِلَى أمهَا ببنت أم سَلمَة، وَالْمعْنَى وَاحِد. السَّادِس: أم سَلمَة، أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأم سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام، وَاخْتلف فِي اسْمهَا، فَقيل: سهلة، وَقيل: رميلة، وَقيل رميثة وَقيل: مليكَة، وَقيل: الغميصاء، وَقيل: الرميصاء، وَأنْكرهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ الرميصاء أُخْتهَا، وَعند ابْن سعد، أنيفة، وَأنْكرهُ ابْن حبَان، وَأم سليم بنت ملْحَان الخزرجية النجارية، وَالِدَة أنس بن مَالك زَوْجَة أبي طَلْحَة، كَانَت فاضلة دينة، وَاسم أبي طَلْحَة، زيد بن سهل بن الْأسود بن حرَام الْأنْصَارِيّ، النَّقِيب، كَبِير الْقدر، بَدْرِي مَشْهُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع وَهُوَ مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: ثَلَاث صحابيات. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله بن يُوسُف.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي سِتَّة مَوَاضِع. فِي الْغسْل هَاهُنَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْمَاعِيل، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل، وَفِي خلق آدم عَن مُسَدّد، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب، وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطَّهَارَة عَن ابْن أبي عمر بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الْعلم عَن شُعَيْب بن يُوسُف وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن ابْن أبي شيبَة، وَعلي بن مُحَمَّد، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا عنبة عَن يُونُس بن شهَاب، قَالَ: قَالَ عُرْوَة عَن عَائِشَة: [حم (إِن أم سليم الْأَنْصَارِيَّة، وَهِي أم أنس بن مَالك، قَالَت: يَا رَسُول الله إِن الله لَا تَسْتَحي من الْحق، أَرَأَيْت الْمَرْأَة إِذا رَأَتْ فِي النّوم مَا يرى الرجل اتغتسل أَو لَا؟ قَالَ عَائِشَة: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم، فلتغتسل إِذا وجدت المَاء. قَالَت عَائِشَة: فَأَقْبَلت عَلَيْهَا فَقلت: أُفٍّ لَك، وَهل ترى ذَلِك الْمَرْأَة؟ فاقبل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: تربت يَمِينك يَا عَائِشَة، وَمن أَيْن يكون الشّبَه) . [/ حم
ذكر الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الحَدِيث هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة كَمَا رَأَيْته، وَقد اتّفق البُخَارِيّ وَمُسلم على(3/235)
إِخْرَاجه من طرق عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن زَيْنَب، وَرَوَاهُ أَيْضا مُسلم من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، لَكِن قَالَ: عَن عَائِشَة: قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عقيل والزبيدي وَيُونُس وَابْن أخي الزُّهْرِيّ وَابْن الْوَزير عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ، وَوَافَقَ الزُّهْرِيّ مسافع الحَجبي، قَالَ: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَأما هِشَام بن عُرْوَة، فَقَالَ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة: (أَن أم سليم جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَالَ القَاضِي عِيَاض عَن أهل الحَدِيث إِن الصَّحِيح أَن الْقِصَّة وَقعت لأم سَلمَة لَا لعَائِشَة وَنقل ابْن عبد الْبر عَن الذهلي أَنه صحّح الرِّوَايَتَيْنِ. قلت: قَول عِيَاض يرجح رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة، وَقَول أبي دَاوُد عَن مسافع يرجح رِوَايَة الزُّهْرِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن تكون عَائِشَة وَأم سَلمَة جَمِيعًا أنكرتا على أم سليم. والزبيدي هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَيُونُس بن يزِيد، وَابْن أخي الزُّهْرِيّ اسْمه، مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم، وَابْن أبي الْوَزير اسْمه إِبْرَاهِيم بن عمر بن مطرف الْهَاشِمِي مَوْلَاهُم الْمَكِّيّ، ومسافع، بِضَم الْمِيم وبالسين الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء ابْن عبد الله أَبُو سُلَيْمَان الْقرشِي الحَجبي الْمَكِّيّ.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث لفظ البُخَارِيّ فِي بَاب الْحيَاء فِي الْعلم بعد. قَوْله: (إِذا رَأَتْ المَاء، فغطت أم سَلمَة يَعْنِي وَجههَا، وَقَالَت: يَا رَسُول الله: أَو تحتلم الْمَرْأَة؟ قَالَ: نعم تربت يَمِينك، فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا) وَفِي لفظ بعد قَوْله: (إِذا رَأَتْ المَاء، فَضَحكت أم سَلمَة. فَقَالَت: أتحتلم الْمَرْأَة؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَبِمَ شبه الْوَلَد) وَفِي لفظ، قَالَت أم سَلمَة (فَقلت: فضحت النِّسَاء) . وَعند مُسلم من حَدِيث أنس: (أَن أم سليم حدثت أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَائِشَة عِنْده يَا رَسُول الله: الْمَرْأَة ترى مَا يرى الرجل فِي الْمَنَام من نَفسهَا مَا يرى الرجل من نَفسه، فَقَالَت عَائِشَة يَا أم سليم فضحت النِّسَاء تربت يَمِينك. فَقَالَ لَهَا إمه، بل أَنْت تربت يَمِينك، نعم فلتغتسل يَا أم سليم) وَفِي لفظ: (فَقَالَت أم سليم، وَاسْتَحْيَيْت من ذَلِك، وَهل يكون هَذَا؟ قَالَ: نعم مَاء الرجل غليظ أَبيض، وَمَاء الْمَرْأَة رَقِيق أصفر، أَيهمَا علا أَو سبق يكون مِنْهُ الشّبَه) ، وَفِي لفظ: (فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا كَانَ مِنْهَا مَا يكون من الرجل فلتغتسل) وَفِي لفظ: (قَالَت عَائِشَة: فَقلت لَهَا، أُفٍّ لَك؛ أَتَرَى الْمَرْأَة ذَلِك) ؟ وَفِي لفظ: (تربت يداك وألت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دعيها تربت بمينك وألت، وَهل يكون الشّبَه إلاَّ من قبل ذَلِك؟ إِذا علا مَاؤُهَا مَاء الرجل أشبه الرجل أَخْوَاله، وَإِذا علا مَاء الرجل ماءها أشبه أَعْمَامه) وَفِي لفظ أبي دَاوُد: (تَغْتَسِل أم لَا , فَقَالَ: فلتغتسل إِذا وجدت المَاء) وَفِي لفظ: (وَالْمَرْأَة عَلَيْهَا غسل؟ قَالَ: نعم، إِنَّمَا النِّسَاء شقائق الرِّجَال) . وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: (فَضَحكت أم سَلمَة) ، وَعند ابْن أبي شيبَة: (وَقَالَ: هَل تَجِد شَهْوَة؟ قَالَت: لَعَلَّه قَالَ: تَجِد بللاً قَالَت لَعَلَّه. فَقَالَ: فلتغتسل. فلقيها النسْوَة فَقُلْنَ: فضحتنا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَت: وَالله مَا كنت لَا أَنْتَهِي حَتَّى أعلم فِي حِلِّ أَنا أم فِي حرَام) وَعند الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قلت: يَا رَسُول الله: أَمر يقربنِي إِلَى الله أَحْبَبْت أَن أَسأَلك عَنهُ: قَالَ: اصبت يَا أم سليم. فَقلت) الحَدِيث وَعند الْبَزَّار: (فَقَالَت أم سَلمَة: وَهل للنِّسَاء من مَاء؟ قَالَ: نعم، إِنَّمَا هن شقائق الرِّجَال) . وَعند ابْن عمر: (إِذا رَأَتْ ذَلِك فأنزلت فعلَيْهَا الْغسْل، فَقَالَت أم سليم: أَيكُون هَذَا) ؟ وَعند الإِمَام أَحْمد: (أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله إِذا رَأَتْ الْمَرْأَة أَن زَوجهَا يُجَامِعهَا فِي الْمَنَام، أتغتسل؟) وَعند عبد الرَّزَّاق فِي هَذِه الْقِصَّة: (إِذا رَأَتْ أحداكن المَاء كَمَا يرى الرجل) . وَقد جَاءَ عَن جمَاعَة من الصحابيات أَنَّهُنَّ سألن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن، كسؤال أم سليم، مِنْهُنَّ، خَوْلَة بنت حَكِيم، روى حَدِيثهَا ابْن مَاجَه من طَرِيق عَليّ بن جدعَان: (لَيْسَ عَلَيْهَا غسل حَتَّى تنزل كَمَا ينزل الرجل) ، وبسرة ذكره ابْن أبي شيبَة بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ، وسهلة بنت سُهَيْل، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن طيعة. أَكثر الْكَلَام مضى فِي بَاب: الْحيَاء فِي الْعلم. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم أَن الرجل إِذا رأى فِي مَنَامه أَنه احْتَلَمَ أَو جَامع وَلم يجد بللاً أَن لَا غسل عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن رأى بللاً، وَلم يتَذَكَّر احتلاماً فَقَالَت طَائِفَة يغْتَسل روينَا ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ، وَقَالَ [قعأحمد [/ قع: أحب إِلَيّ أَن يغْتَسل إلاَّ رجل بِهِ أبردة، وَقَالَ [قعأبو إِسْحَاق [/ قع: يغْتَسل إِذا كَانَت بل نُطْفَة، وروينا عَن الْحسن أَنه قَالَ: إِذا كَانَ انْتَشَر إِلَى أَهله من اللَّيْل فَوجدَ من ذَلِك بلة فَلَا غسل عَلَيْهِ، وَإِن لم يكن كَذَلِك اغْتسل، وَفِيه قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن لَا يغْتَسل حَتَّى يُوقن بِالْمَاءِ الدافق هَكَذَا، وَهُوَ قَول قَتَادَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف: يغْتَسل إِذا علم بِالْمَاءِ الدافق، وَقَالَ الخاطبي: ظَاهر وَيُوجب الِاغْتِسَال إِذا رأى البلة، وَإِن لم يتَيَقَّن أَنه المَاء الدافق، وَرُوِيَ هَذَا(3/236)
القَوْل عَن جمَاعَة من التَّابِعين. وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: لَا يجب عَلَيْهِ الِاغْتِسَال حَتَّى يعلم أَنه بَلل المَاء الدافق.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: فِيهِ دَلِيل على أَن النِّسَاء لَيْسَ كُلهنَّ يحتلمن، وَلِهَذَا أنْكرت عَائِشَة على أم سَلمَة، وَقد يعْدم الِاحْتِلَام فِي بعض الرِّجَال فالنساء أَجْدَر أَن يعْدم ذَلِك فِيهِنَّ، وَقد قيل: أَن إِنْكَار عَائِشَة لذَلِك إِنَّمَا كَانَ لصِغَر سنّهَا وَكَونهَا مَعَ زَوجهَا لِأَنَّهَا لم تَحض إلاَّ عِنْده، وَلم تفقده فقداً طَويلا إلأ بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك لم تعرف فِي حَيَاته الِاحْتِلَام، لأنَّ الِاحْتِلَام لَا يعرفهُ النِّسَاء، وَلَا أَكثر الرِّجَال إلاَّ عِنْد عدم الرِّجَال بِعَدَمِ الْمعرفَة بِهِ، فَإِذا فقد النِّسَاء أَزوَاجهنَّ احتلمن. وَالْوَجْه الأول عِنْدِي أصح، وَأولى، لِأَن أم سَلمَة فقدت زَوجهَا وَكَانَت كَبِيرَة عَالِمَة بذلك، وَأنْكرت مِنْهُ مَا أنْكرت عَائِشَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن من النِّسَاء من لَا تنزل المَاء فِي غير الْجِمَاع الَّذِي يكون فِي اليقطة وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن أم سَلمَة أَيْضا تزوجت أَبَا سَلمَة شَابة وَلما توفّي عَنْهَا زَوجهَا تزَوجهَا سيد الْمُرْسلين، لَا سِيمَا مَعَ شغلها بِالْعبَادَة وَشبههَا الَّتِى هِيَ وَجَاء لغَيْرهَا أَو تكون قالته إنكاراً على أم سليم لكَونهَا واجهت بِهِ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوضحهُ، فَقَالَت أم سَلمَة وغطت وَجههَا.
وَقَالَ [قعابن بطال [/ قع فِيهِ دَلِيل على أَن كل النِّسَاء يحتملن. وَفِيه: دَلِيل على وجوب الْغسْل على الْمَرْأَة بالإنزال، وَنفى ابْن بطال الْخلاف فِيهِ، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب خلاف النَّخعِيّ. وَفِيه: رد على من زعم أَن مَاء الْمَرْأَة لَا يبرز، وَإِنَّمَا تعرف إنزالها بشهوتها وَحمل قَوْله: إِذا رَأَتْ المَاء أَي: إِذا علمت بِهِ لِأَن وجود الْعلم هُنَا مُتَعَذر، لِأَن الرجل لَو رأى أَنه جَامع وَعلم أَنه أنزل فِي النّوم ثمَّ اسْتَيْقَظَ فَلم ير بللاً لَا يجب عَلَيْهِ الْغسْل فَكَذَلِك الْمَرْأَة، وَإِن أَرَادَ علمهَا بذلك بعد أَن استيقظت فَلَا يَصح، لِأَنَّهُ لَا يسْتَمر فِي الْيَقَظَة مَا كَانَ فِي النّوم إلاَّ إِن كَانَ مشاهداً، فَحمل الْكَلَام على ظَاهره هُوَ الصَّوَاب. فَإِن قلت: قد جَاءَ عَن أم سَلمَة، فَضَحكت، وَجَاء، فغطت وَجههَا، فَمَا التَّوْفِيق بَينهمَا. قلت: معنى ضحِكت تبسمت تَعَجبا، وغطت وَجههَا، حَيَاء وَمعنى: تربت يَمِينك، فِي الأَصْل، لَا أَصَابَت خيرا، غير أَن فِي (لِسَان الْعَرَب) يُطلق ذَلِك وأمثالها، وَيُرَاد بِهِ الْمَدْح وَفِي كتاب (أدب الْخَواص) للوزير أبي الْقَاسِم المغربي، وَفِي كتاب (الأيك والغصون) لأبي الْعَلَاء المعري معنى قَوْله: ترَتّب يَمِينك أَي: افْتَقَرت من الْعلم مِمَّا سَأَلت عَنهُ أم سليم وَفِي (الْمُحكم) ترب الرجل صَار فِي يَده التُّرَاب، وترب ترباً لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر وترب ترباً ومتربة خسر وافتقر، وَحكى قطرب: ترب وأترب. قَوْله: (وألت) بعد قَوْله اتربت يَمِينك مَعْنَاهُ: صاحت لما أَصَابَهَا من شدَّة، هَذَا الْكَلَام، وَرُوِيَ ألت، بِضَم الْهمزَة مَعَ التَّشْدِيد أَي: طعنت بالآلة، وَهِي الحربة العريضة النصل.
23 - (بابُ عَرَق الجَنُبٍ وَإنَّ المُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ)
أَي هَذَا بَاب فِي عرق الْجنب، وَلم يبين مَا حكم عرق الْجنب، وَلَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا يُطَابق هَذِه التَّرْجَمَة وَقَالَ بَعضهم: كَأَن المُصَنّف يُشِير بذلك إِلَى الْخلاف فِي عرق الْكَافِر، وَقَالَ قوم: إِنَّه نجس بِنَاء على القَوْل بِنَجَاسَة عينة. قلت: مَا أبعد هَذَا الْكَلَام عَن الذَّوْق. فَكيف يتَوَجَّه مَا قَالَه: وَالْمُصَنّف قَالَ: بَاب عرق الْجنب؟ وَسكت عَلَيْهِ وَلم يشر إِلَى حكمه لَا فِي التَّرْجَمَة وَلَا فِي الَّذِي ذكره فِي هَذَا الْبَاب؟ وَفَائِدَة ذكر الْبَاب الْمَعْقُود بالترجمة ذكر مَا عقدت لَهُ التَّرْجَمَة، وإلاَّ فَلَا فَائِدَة فِي ذكرهَا، وَيُمكن أَن يُقَال؛ إِنَّه ذكر ترجمتين، والترجمة الثَّانِيَة تدل على أَن الْمُسلم طَاهِر، وَمن لَوَازِم طَهَارَته طَهَارَة عرقه، وَلَكِن لَا يخْتَص بعرق الْمُسلم، وَالْحَال أَن عرق الْكَافِر أَيْضا طَاهِر. قَوْله: (وَإِن الْمُسلم لَا ينجس) عطف على الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: وَبَاب أَن الْمُسلم لَا ينجس.
وَذكر هَذَا الْبَاب بَين الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة والآتية لَا يَخْلُو عَن وَجه الْمُنَاسبَة، وَهُوَ ظَاهر.
283 - حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ حدّثنا يَحَيى اقالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قالَ حدّثنا بَكْرٌ عَنْ أبي رَافِعٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِيهُ فِي بَعْضَ طِريقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنَبٌ فانْخَنَسْتُ مِنْهُ فَذَهَبْتُ فاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جاءَ فقالَ أيْنَ كُنْتَ يَا أبَا هُرَيْرَةَ قالَ كُنْتُ جُنُباً فَكَرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهارَةٍ فقالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ المُؤْمِنِ لاَ يَنْجُسُ.
[/ ح.(3/237)
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث لإحدى ترجمتي هَذَا الْبَاب ظَاهِرَة وَهِي التَّرْجَمَة الثَّانِيَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء الطَّوِيل التَّابِعِيّ، مَاتَ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي. الرَّابِع: بكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله بن عمر بن هِلَال الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: أَبَوا رَافع واسْمه، نفيع بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء، الصَّائِغ، بالغين الْمُعْجَمَة، الْبَصْرِيّ، تحول إِلَيْهَا من الْمَدِينَة أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي موضِعين: وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون، وَمن أجل لطائفه أَنه مُتَّصِل، وَرَوَاهُ مُسلم مَقْطُوعًا حميد عَن أبي رَافع كَذَا فِي طَرِيق الجلودي، والحافظ الجياني، وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره: حميد عَن بكر عَن أبي رَافع، وَذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف أَن مُسلما أخرجه أَيْضا كَذَلِك. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قد رَأينَا من قَالَه غَيرهمَا فَدلَّ على أَن فِي مُسلم رِوَايَتَيْنِ. قلت: ذكر الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) أَن مُسلما أخرجه بِإِثْبَات بكر.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَيَّاش بن الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله (فِي بعض طَرِيق) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي. طرق: بِالْجمعِ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: (لَقيته فِي بعض طَرِيق من طرق الْمَدِينَة) قَوْله: (فانخنست) فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة. الأولى: (فانخنست) كَمَا فِي الْكتاب بالنُّون ثمَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ثمَّ بالنُّون ثمَّ بِالسِّين الْمُهْملَة، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي وكريمة. وَمَعْنَاهُ تَأَخَّرت وأنقبضت وَرجعت، وَهُوَ لَازم ومتعد، وَمِنْه خنس الشَّيْطَان. الثَّانِيَة: فاختنست، مثل الرِّوَايَة الأولى فِي الْمَعْنى، غير أَن اللَّفْظ فِي الرِّوَايَة الأولى من بَاب الانفعال، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة من بَاب الافتعال. الثَّالِثَة: فانبجست، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَمَعْنَاهُ اندفعت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (سُورَة الْأَعْرَاف: 16) أَي: جرت واندفعت، وَهِي رِوَايَة ابْن السكن والأصيلي أَيْضا وَأبي الْوَقْت وَابْن عَسَاكِر أَيْضا. الرَّابِعَة: فانتجست، من النَّجَاسَة من بَاب الافتعال، وَالْمعْنَى: اعتقدت نَفسِي نجسا وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. الْخَامِسَة: فانتجشت، بالشين الْمُعْجَمَة، من النجش، وَهُوَ الْإِسْرَاع. السَّادِسَة: فانبخست، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَالسِّين الْمُهْملَة من النخس، وَهُوَ النَّقْص، فَكَأَنَّهُ ظهر لَهُ نقصانه عَن مماشاته رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ رِوَايَة المتسملي لما اعْتقد فِي نَفسه من النَّجَاسَة. السَّابِعَة: فاحتبست، نحاء مُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ سين مُهْملَة، من الاحتباس، وَالْمعْنَى: حبست نَفسِي عَن اللحاق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّامِنَة: (فانسللت) . التَّاسِعَة: (فانسل) ، وَهُوَ رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: وَلم يثبت لي من طَرِيق الرِّوَايَة غير مَا تقدم، وَأَرَادَ بِهِ رِوَايَة الْكشميهني وَأبي الْوَقْت وَالْمُسْتَمْلِي، وَنسب بَعْضهَا إِلَى التَّصْحِيف، وَلَا يلْزم من عدم ثُبُوت غير الرِّوَايَات الثَّلَاث عِنْده عدم ثُبُوتهَا عِنْد غَيره، وَلَيْسَ بأدب أَن ينْسب بعض غير مَا وقف عَلَيْهِ إِلَى التَّصْحِيف، لِأَن الْجَاهِل بالشَّيْء لَيْسَ لَهُ أَن يَدعِي عدم علم غَيره بِهِ. قَوْله: (يَا با هُرَيْرَة) بِحَذْف الْهمزَة فِي الْأَب تَخْفِيفًا. قَوْله: (جنب) يُقَال: أجنب الرجل فَهُوَ جنب، وَكَذَلِكَ الإثنان وَالْجمع والمذكر والمؤنث، قَالَ ابْن دُرَيْد، وَهُوَ أَعلَى اللُّغَات، وَقد قَالُوا: جنبان وأجناب، وَلم يَقُولُوا: جنبة، وَفِي (الْمُنْتَهى) رجل جنب وَامْرَأَة جنب وَقوم جنب وجنبو وأجناب، وَفِي (الصِّحَاح) أجنب الرجل وجنب أَيْضا، بِضَم النُّون. وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني عَن الْفراء وقطرب جنب الرجل وجنب بسكر النُّون وَضمّهَا، لُغَتَانِ. وَقَالَ المطرزي: يُقَال: من الْجَنَابَة أجنب الرجل وجنب بِفَتْح النُّون وَكسرهَا، وجنب وتجنب، لَا يُقَال عَن الْعَرَب غَيره وَحكى بَعضهم: جنب بِضَم النُّون، وَلَيْسَ بالمشهور. وَفِي (الِاشْتِقَاق) للرماني: وأجنب الرجل لِأَنَّهُ يجانب الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو مَنْصُور: لِأَنَّهُ نهى عَن أَن يقرب مَوَاضِع الصَّلَاة وَقَالَ الْعُتْبِي: سمي بذلك لمجانبة النَّاس وَبعده مِنْهُم، حَتَّى يغْتَسل. قَوْله: (سُبْحَانَ الله) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي مَعْنَاهُ: سبحتك تَنْزِيها لَك يَا رَبنَا من الْأَوْلَاد والصاحبة والشركاء، أَي: نزهناك من ذَلِك. وَقَالَ الْقَزاز: مَعْنَاهُ: برأت الله تَعَالَى من السوء، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نُسَبِّح لَك بحَمْدك(3/238)
وَنُصَلِّي لَك، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (أساس البلاغة) سبحت الله وسبحت لَهُ وَكَثُرت تسبحاته وتسابيحه، وَفِي (المغيث) لأبي الْمَدِينِيّ: سُبْحَانَ الله قَائِم مقَام الْفِعْل أَي: أسبحه، وسبحت أَي: لفظت سُبْحَانَ الله، وَقيل: معنى: سُبْحَانَ الله. أتَسرع إِلَيْهِ وألحقه فِي طَاعَته من قَوْلهم فرس سايح. وَذكر النَّضر بن شُمَيْل أَن مَعْنَاهُ: السرعة إِلَى هَذِه اللُّغَة وَلِأَنَّهُ الْإِنْسَان يبْدَأ فَيَقُول: سُبْحَانَ الله. قَوْله: (لَا ينجس) قَالَ ابْن سَيّده النَّجس وَالنَّجس وَالنَّجس القذر من كل شَيْء، وَرجل نجس، وَالْجمع أنجاس، وَقيل: النَّجس يكون اللواحد والاثنين وَالْجمع والمؤنث بِلَفْظ وَاحِد فَإِذا كسر وَالنُّون جمعُوا وانئوا وَرجل، رِجْس نجس، يَقُولُونَهَا بِالْكَسْرِ لمَكَان رِجْس، فَإِذا أفردوه وَقَالُوا: نجس، وَفِي (الْجَامِع) أَحسب الْمصدر من قَوْلهم: نجس ينجس نجسا، وَاسم النَّجَاسَة. وَذكره ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف فِي بَاب: فعل وَفعل، فَقَالَا: نجس الشَّيْء ونجسا نَجَاسَة ضد طهر. وَفِي (الصِّحَاح) نجس الشَّيْء بِالْكَسْرِ ينجس نجسا فَهُوَ نجس ونجس وَفِي (كتاب ابْن عديس) نجس الرجل ونجس نَجَاسَة ونجوسة بِكَسْر الْجِيم وضمهاإذا تقذر.
ذكر إعرابه قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي لَقيته. قَوْله: (فَذَهَبت فاغتسلت) قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا أَي: فِي بعض النّسخ فَذهب فاغتسل. قلت: على تَقْدِير صِحَة الرِّوَايَة بهَا يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ الْغَيْبَة بِالنّظرِ إِلَى نقل كَلَام أبي هُرَيْرَة بِالْمَعْنَى، والتكلم بِالنّظرِ إِلَى نَقله بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه على سَبِيل الْحِكَايَة عَنهُ. وَأما جَوَاز لَفظه بالغيبة فَمن بَاب التَّجْرِيد، وَهُوَ أَنه جرد من نَفسه شخصا وَأخْبر عَنهُ. قَوْله: (كنت جنبا) أَي: ذَا جَنَابَة. قَوْله: (وَأَنا على غير طَهَارَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي أجالسك. (وأجالسك) فِي قُوَّة الْمصدر بِأَن الْمصدر، وَإِنَّمَا فعل أَبُو هُرَيْرَة هَذَا لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ إِذا لَقِي أحدا من أَصْحَابه ماسحه ودعا لَهُ كَمَا ورد فِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود. قَالَ: (لَقِيَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب فاهوى إليّ فَقلت: إِنِّي جنب، فَقَالَ: إِن الْمُسلم لَا ينجس) . قَوْله: (سُبْحَانَ الله) ، سُبْحَانَ علم للتسبيح، كعثمان، علم للرجل. وَقَالَ الْفراء مَنْصُوب على الْمصدر كَأَنَّك قلت: سبحت الله تسبيحاً فَجعل: سُبْحَانَ فِي مَوضِع التَّسْبِيح وَالْحَاصِل أَنه مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف لَازم الْحَذف فاستعماله فِي مثل هَذَا الْموضع يُرَاد بِهِ التَّعَجُّب، وَمعنى التَّعَجُّب هُنَا أَنه كَيفَ يخفى مثل هَذَا الظَّاهِر عَلَيْك.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: وَقد عقد الْبَاب لَهُ، أَن الْمُؤمن لَا ينجس وَأَنه طَاهِر سَوَاء كَانَ جنبا أَو مُحدثا حَيا أَو مَيتا، وَكَذَا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه وَكَذَا الْكَافِر فِي هَذِه الْأَحْكَام وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي الْمَيِّت أصَحهمَا الطَّهَارَة وَذكر البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن ابْن عَبَّاس تَعْلِيقا. [حم (الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) [/ حم وَوَصله الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) فَقَالَ: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم عَن عصمَة. قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُسلم الْمسيب بن زُهَيْر الْبَغْدَادِيّ أخبرنَا أَبُو بكر وَعُثْمَان ابْنا أبي شيبَة، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) [/ حم قَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ، وَهُوَ أصل فِي طَهَارَة الْمُسلم حَيا وَمَيتًا، أما الْحَيّ: فبالإجماع حَتَّى الْجَنِين إِذا ألقته أمه وَعَلِيهِ رُطُوبَة فرجهَا وَأما الْكَافِر فَحكمه كَذَلِك على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: سَأَلت عَائِشَة عَن الرجل يَأْتِي أَهله ثمَّ يلبس الثَّوْب فيعرق فِيهِ أنجس ذَلِك؟ فَقَالَت: قد كَانَت الْمَرْأَة تعد خرقَة أَو خرقاً فَإِذا كَانَ ذَلِك مسح بهَا الرجل الْأَذَى عَنهُ، وَلم نر أَن ذَلِك يُنجسهُ، وَفِي لفظ: ثمَّ صليا فِي ثوبهما وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث المتَوَكل ابْن فُضَيْل عَن أم القلوص العامرية عَن عَائِشَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرى على الْبدن جَنَابَة، وَلَا على الأَرْض جَنَابَة، وَلَا يجنب الرجل) وَعَن محيي السّنة الْبَغَوِيّ، قَالَ: معنى قَول ابْن عَبَّاس: أَربع لَا يجنبن، الْإِنْسَان، وَالثَّوْب، وَالْمَاء، وَالْأَرْض، يُرِيد: الْإِنْسَان لَا يجنب بمماسة الْجنب، وَلَا الثَّوْب، إِذا لبسه الْجنب، وَلَا الأَرْض إِذا أقضى إِلَيْهَا الْجنب، وَلَا المَاء ينجس إِذا غمس الْجنب يَده فِيهِ.
وَقَالَ [قعابن الْمُنْذر [/ قع: أجمع عوام أهل الْعلم على أَن عرق الْجنب طَاهِر، وَثَبت ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَائِشَة أَنهم قَالُوا ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا أحفظ عَن غَيرهم خلاف قَوْلهمَا. وَقَالَ [قعالقرطبي [/ قع: الْكَافِر نجس عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو بكر ابْن الْمُنْذر: وعرق الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ والمجوسي طَاهِر عِنْدِي، وَقَالَ ابْن حزم الْعرق من الْمُشْركين نجس لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} (سُورَة التَّوْبَة: 28) وَتمسك أَيْضا بِمَفْهُوم حَدِيث الْبَاب، وَادّعى أَن الْكَافِر نجس الْعين وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم نجسوا الْأَفْعَال لَا الْأَعْضَاء أَو نجسوا الِاعْتِقَاد، وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاح نسَاء أهل الْكتاب، وَمَعْلُوم أَن عرقهن لَا يسلم مِنْهُ من(3/239)
يضاجعهن، وَمَعَ ذَلِك لَا يجب عَلَيْهِ من غسل الْكِتَابِيَّة إلاَّ مثل مَا يجب عَلَيْهِ من غسل الْمسلمَة، فَدلَّ على أَن الْآدَمِيّ الْحَيّ لَيْسَ ينجس الْعين إِذْ لَا فرق بَين النِّسَاء وَالرِّجَال وَفِي (الْمُدَوَّنَة) على مَا نَقله ابْن التِّين إِن الْمَرِيض إِذا صلى لَا يسْتَند لحائض وَلَا جنب، وَأَجَازَهُ ابْن أَشهب. قَالَ [قعالشيخ أَبُو مُحَمَّد [/ قع: لِأَن ثيابهما لَا تكَاد تسلم من النَّجَاسَة. وَقَالَ غَيره لأجل أعينهما لَا لثيابهما، وَمَا ذَكرْنَاهُ يرد بذلك، فَإِن قلت: على مَا ذكرت من أَن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا يَنْبَغِي أَن يغسل الْمَيِّت لِأَنَّهُ طَاهِر. قلت: اخْتلف الْعلمَاء من أَصْحَابنَا فِي وجوب غسله. فَقيل: إِنَّمَا وَجب لحَدث يحله باسترخاء المفاصل لَا لنجاسته، فَإِن الْآدَمِيّ لَا ينجس بِالْمَوْتِ كَرَامَة، إِذا لَو نجس لما طهر بِالْغسْلِ كَسَائِر الْحَيَوَانَات وَكَانَ الْوَاجِب الِاقْتِصَار على أَعْضَاء الْوضُوء كَمَا فِي حَال الْحَيَاة. لَكِن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ نفيا للْحَرج فِيمَا يتَكَرَّر كل يَوْم، وَالْحَدَث بِسَبَب الْمَوْت لَا يتَكَرَّر، فَكَانَ كالجنابة لَا يَكْتَفِي فِيهَا بِغسْل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة، بل يبْقى على الأَصْل، وَهُوَ وجوب غسل الْبدن لعدم الْحَرج، فَكَذَا هَذَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يجب غسله لنجاسته بِالْمَوْتِ لَا بِسَبَب الْحَدث لِأَن للآدمي دَمًا سَائِلًا فيتنجس بِالْمَوْتِ قِيَاسا على غَيره ألاَّ ترى أَنه لَو مَاتَ فِي الْبِئْر نجسها؟ وَلَو حمله الْمُصَلِّي لم تجز صلَاته وَلَو لم يكن نجسا لجازت كَمَا لَو حمل مُحدثا.
الثَّانِي: من الْأَحْكَام فِيهِ اسْتِحْبَاب أحترام أهل الْفضل، وَأَن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم، فَيكون على أكمل الهيئات وَأحسن الصِّفَات، وَقد اسْتحبَّ الْعلمَاء لطَالب الْعلم أَن يحسن حَاله عِنْد مجالسة شَيْخه، فَيكون متطهراً متنظفاً بِإِزَالَة الشعوث الْمَأْمُور بإزالتها، نَحْو: قصّ الشَّارِب، وقلم الْأَظْفَار، وَإِزَالَة الروائح الْمَكْرُوهَة وَغير ذَلِك.
الثَّالِث: فِيهِ من الْآدَاب أَن الْعَالم إِذا رأى من تَابعه أمرا يخَاف عَلَيْهِ فِيهِ خلاف الصَّوَاب، سَأَلَهُ عَنهُ وَقَالَ لَهُ صَوَابه وَبَين لَهُ حكمه.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَأْخِير الِاغْتِسَال عَن أول وَقت وُجُوبه، وَالْوَاجِب أَن لَا يُؤَخِّرهُ إِلَى أَن يفوتهُ وَقت صَلَاة.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز انصراف الْجنب فِي حَوَائِجه قبل الِاغْتِسَال، مَا لم يفته وَقت الصَّلَاة.
السَّادِس: فِيهِ أَن النَّجَاسَة إِذا لم تكن عينا فِي الْأَجْسَام لَا تضرها فَإِن الْمُؤمن طَاهِر الْأَعْضَاء، فَإِن من شَأْنه الْمُحَافظَة على الطَّهَارَة والنظافة.
السَّابِع: فِيهِ ائتلاف قُلُوب الْمُؤمنِينَ، ومواساة الْفُقَرَاء والتواضع لله، وَاتِّبَاع أَمر الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ جلّ ذكره. {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه} (سُورَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: اسْتِحْبَاب اسْتِئْذَان التَّابِع للمتبوع إِذا أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ. قلت: هَذَا بعيد لِأَن الحَدِيث الْمَذْكُور لَا يفهم مِنْهُ ذَلِك لَا من عِبَارَته وَلَا من إِشَارَته وَلَا فِيهِ التَّابِع والتبوع لِأَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن فِي تِلْكَ الْحَالة تَابعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَشْيه بل إِنَّمَا لقِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق الْمَدِينَة، كَمَا هُوَ نَص الحَدِيث. وَقَالَ أَيْضا وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن حبَان الرَّد على من زعم أَن الْجنب إِذا وَقع فِي الْبِئْر فَنوى الِاغْتِسَال أَن مَاء الْبِئْر ينجس. قلت: هَذَا الرَّد مَرْدُود حِينَئِذٍ، لِأَن الحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ أصلا والْحَدِيث يدل بعبارته أَن الْجنب لَيْسَ بِنَجس فِي ذَاته، وَلم يتَعَرَّض إِلَى طَهَارَة غسالته إِذا نوى الِاغْتِسَال.
283 - حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ حدّثنا يَحَيى اقالَ حدّثنا حُمَيْدٌ قالَ حدّثنا بَكْرٌ عَنْ أبي رَافِعٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِيهُ فِي بَعْضَ طِريقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنَبٌ فانْخَنَسْتُ مِنْهُ فَذَهَبْتُ فاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جاءَ فقالَ أيْنَ كُنْتَ يَا أبَا هُرَيْرَةَ قالَ كُنْتُ جُنُباً فَكَرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهارَةٍ فقالَ سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ المُؤْمِنِ لاَ يَنْجُسُ.
[/ ح.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث لإحدى ترجمتي هَذَا الْبَاب ظَاهِرَة وَهِي التَّرْجَمَة الثَّانِيَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: حميد، بِضَم الْحَاء الطَّوِيل التَّابِعِيّ، مَاتَ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي. الرَّابِع: بكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله بن عمر بن هِلَال الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: أَبَوا رَافع واسْمه، نفيع بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء، الصَّائِغ، بالغين الْمُعْجَمَة، الْبَصْرِيّ، تحول إِلَيْهَا من الْمَدِينَة أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، والعنعنة فِي موضِعين: وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون، وَمن أجل لطائفه أَنه مُتَّصِل، وَرَوَاهُ مُسلم مَقْطُوعًا حميد عَن أبي رَافع كَذَا فِي طَرِيق الجلودي، والحافظ الجياني، وَالصَّوَاب مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره: حميد عَن بكر عَن أبي رَافع، وَذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف أَن مُسلما أخرجه أَيْضا كَذَلِك. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قد رَأينَا من قَالَه غَيرهمَا فَدلَّ على أَن فِي مُسلم رِوَايَتَيْنِ. قلت: ذكر الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) أَن مُسلما أخرجه بِإِثْبَات بكر.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَيَّاش بن الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله (فِي بعض طَرِيق) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي. طرق: بِالْجمعِ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: (لَقيته فِي بعض طَرِيق من طرق الْمَدِينَة) قَوْله: (فانخنست) فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة. الأولى: (فانخنست) كَمَا فِي الْكتاب بالنُّون ثمَّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ثمَّ بالنُّون ثمَّ بِالسِّين الْمُهْملَة، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي وكريمة. وَمَعْنَاهُ تَأَخَّرت وأنقبضت وَرجعت، وَهُوَ لَازم ومتعد، وَمِنْه خنس الشَّيْطَان. الثَّانِيَة: فاختنست، مثل الرِّوَايَة الأولى فِي الْمَعْنى، غير أَن اللَّفْظ فِي الرِّوَايَة الأولى من بَاب الانفعال، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة من بَاب الافتعال. الثَّالِثَة: فانبجست، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَمَعْنَاهُ اندفعت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (سُورَة الْأَعْرَاف: 16) أَي: جرت واندفعت، وَهِي رِوَايَة ابْن السكن والأصيلي أَيْضا وَأبي الْوَقْت وَابْن عَسَاكِر أَيْضا. الرَّابِعَة: فانتجست، من النَّجَاسَة من بَاب الافتعال، وَالْمعْنَى: اعتقدت نَفسِي نجسا وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. الْخَامِسَة: فانتجشت، بالشين الْمُعْجَمَة، من النجش، وَهُوَ الْإِسْرَاع. السَّادِسَة: فانبخست، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَالسِّين الْمُهْملَة من النخس، وَهُوَ النَّقْص، فَكَأَنَّهُ ظهر لَهُ نقصانه عَن مماشاته رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ رِوَايَة المتسملي لما اعْتقد فِي نَفسه من النَّجَاسَة. السَّابِعَة: فاحتبست، نحاء مُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ سين مُهْملَة، من الاحتباس، وَالْمعْنَى: حبست نَفسِي عَن اللحاق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّامِنَة: (فانسللت) . التَّاسِعَة: (فانسل) ، وَهُوَ رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: وَلم يثبت لي من طَرِيق الرِّوَايَة غير مَا تقدم، وَأَرَادَ بِهِ رِوَايَة الْكشميهني وَأبي الْوَقْت وَالْمُسْتَمْلِي، وَنسب بَعْضهَا إِلَى التَّصْحِيف، وَلَا يلْزم من عدم ثُبُوت غير الرِّوَايَات الثَّلَاث عِنْده عدم ثُبُوتهَا عِنْد غَيره، وَلَيْسَ بأدب أَن ينْسب بعض غير مَا وقف عَلَيْهِ إِلَى التَّصْحِيف، لِأَن الْجَاهِل بالشَّيْء لَيْسَ لَهُ أَن يَدعِي عدم علم غَيره بِهِ. قَوْله: (يَا با هُرَيْرَة) بِحَذْف الْهمزَة فِي الْأَب تَخْفِيفًا. قَوْله: (جنب) يُقَال: أجنب الرجل فَهُوَ جنب، وَكَذَلِكَ الإثنان وَالْجمع والمذكر والمؤنث، قَالَ ابْن دُرَيْد، وَهُوَ أَعلَى اللُّغَات، وَقد قَالُوا: جنبان وأجناب، وَلم يَقُولُوا: جنبة، وَفِي (الْمُنْتَهى) رجل جنب وَامْرَأَة جنب وَقوم جنب وجنبو وأجناب، وَفِي (الصِّحَاح) أجنب الرجل وجنب أَيْضا، بِضَم النُّون. وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني عَن الْفراء وقطرب جنب الرجل وجنب بسكر النُّون وَضمّهَا، لُغَتَانِ. وَقَالَ المطرزي: يُقَال: من الْجَنَابَة أجنب الرجل وجنب بِفَتْح النُّون وَكسرهَا، وجنب وتجنب، لَا يُقَال عَن الْعَرَب غَيره وَحكى بَعضهم: جنب بِضَم النُّون، وَلَيْسَ بالمشهور. وَفِي (الِاشْتِقَاق) للرماني: وأجنب الرجل لِأَنَّهُ يجانب الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو مَنْصُور: لِأَنَّهُ نهى عَن أَن يقرب مَوَاضِع الصَّلَاة وَقَالَ الْعُتْبِي: سمي بذلك لمجانبة النَّاس وَبعده مِنْهُم، حَتَّى يغْتَسل. قَوْله: (سُبْحَانَ الله) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي مَعْنَاهُ: سبحتك تَنْزِيها لَك يَا رَبنَا من الْأَوْلَاد والصاحبة والشركاء، أَي: نزهناك من ذَلِك. وَقَالَ الْقَزاز: مَعْنَاهُ: برأت الله تَعَالَى من السوء، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نُسَبِّح لَك بحَمْدك وَنُصَلِّي لَك، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (أساس البلاغة) سبحت الله وسبحت لَهُ وَكَثُرت تسبحاته وتسابيحه، وَفِي (المغيث) لأبي الْمَدِينِيّ: سُبْحَانَ الله قَائِم مقَام الْفِعْل أَي: أسبحه، وسبحت أَي: لفظت سُبْحَانَ الله، وَقيل: معنى: سُبْحَانَ الله. أتَسرع إِلَيْهِ وألحقه فِي طَاعَته من قَوْلهم فرس سايح. وَذكر النَّضر بن شُمَيْل أَن مَعْنَاهُ: السرعة إِلَى هَذِه اللُّغَة وَلِأَنَّهُ الْإِنْسَان يبْدَأ فَيَقُول: سُبْحَانَ الله. قَوْله: (لَا ينجس) قَالَ ابْن سَيّده النَّجس وَالنَّجس وَالنَّجس القذر من كل شَيْء، وَرجل نجس، وَالْجمع أنجاس، وَقيل: النَّجس يكون اللواحد والاثنين وَالْجمع والمؤنث بِلَفْظ وَاحِد فَإِذا كسر وَالنُّون جمعُوا وانئوا وَرجل، رِجْس نجس، يَقُولُونَهَا بِالْكَسْرِ لمَكَان رِجْس، فَإِذا أفردوه وَقَالُوا: نجس، وَفِي (الْجَامِع) أَحسب الْمصدر من قَوْلهم: نجس ينجس نجسا، وَاسم النَّجَاسَة. وَذكره ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف فِي بَاب: فعل وَفعل، فَقَالَا: نجس الشَّيْء ونجسا نَجَاسَة ضد طهر. وَفِي (الصِّحَاح) نجس الشَّيْء بِالْكَسْرِ ينجس نجسا فَهُوَ نجس ونجس وَفِي (كتاب ابْن عديس) نجس الرجل ونجس نَجَاسَة ونجوسة بِكَسْر الْجِيم وضمهاإذا تقذر.
ذكر إعرابه قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي لَقيته. قَوْله: (فَذَهَبت فاغتسلت) قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا أَي: فِي بعض النّسخ فَذهب فاغتسل. قلت: على تَقْدِير صِحَة الرِّوَايَة بهَا يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ الْغَيْبَة بِالنّظرِ إِلَى نقل كَلَام أبي هُرَيْرَة بِالْمَعْنَى، والتكلم بِالنّظرِ إِلَى نَقله بِلَفْظِهِ بِعَيْنِه على سَبِيل الْحِكَايَة عَنهُ. وَأما جَوَاز لَفظه بالغيبة فَمن بَاب التَّجْرِيد، وَهُوَ أَنه جرد من نَفسه شخصا وَأخْبر عَنهُ. قَوْله: (كنت جنبا) أَي: ذَا جَنَابَة. قَوْله: (وَأَنا على غير طَهَارَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي أجالسك. (وأجالسك) فِي قُوَّة الْمصدر بِأَن الْمصدر، وَإِنَّمَا فعل أَبُو هُرَيْرَة هَذَا لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ إِذا لَقِي أحدا من أَصْحَابه ماسحه ودعا لَهُ كَمَا ورد فِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود. قَالَ: (لَقِيَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب فاهوى إليّ فَقلت: إِنِّي جنب، فَقَالَ: إِن الْمُسلم لَا ينجس) . قَوْله: (سُبْحَانَ الله) ، سُبْحَانَ علم للتسبيح، كعثمان، علم للرجل. وَقَالَ الْفراء مَنْصُوب على الْمصدر كَأَنَّك قلت: سبحت الله تسبيحاً فَجعل: سُبْحَانَ فِي مَوضِع التَّسْبِيح وَالْحَاصِل أَنه مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف لَازم الْحَذف فاستعماله فِي مثل هَذَا الْموضع يُرَاد بِهِ التَّعَجُّب، وَمعنى التَّعَجُّب هُنَا أَنه كَيفَ يخفى مثل هَذَا الظَّاهِر عَلَيْك.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: وَقد عقد الْبَاب لَهُ، أَن الْمُؤمن لَا ينجس وَأَنه طَاهِر سَوَاء كَانَ جنبا أَو مُحدثا حَيا أَو مَيتا، وَكَذَا سؤره وعرقه ولعابه ودمعه وَكَذَا الْكَافِر فِي هَذِه الْأَحْكَام وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي الْمَيِّت أصَحهمَا الطَّهَارَة وَذكر البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن ابْن عَبَّاس تَعْلِيقا. [حم (الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) [/ حم وَوَصله الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) فَقَالَ: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم عَن عصمَة. قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُسلم الْمسيب بن زُهَيْر الْبَغْدَادِيّ أخبرنَا أَبُو بكر وَعُثْمَان ابْنا أبي شيبَة، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: [حم (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) [/ حم قَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ، وَهُوَ أصل فِي طَهَارَة الْمُسلم حَيا وَمَيتًا، أما الْحَيّ: فبالإجماع حَتَّى الْجَنِين إِذا ألقته أمه وَعَلِيهِ رُطُوبَة فرجهَا وَأما الْكَافِر فَحكمه كَذَلِك على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد قَالَ: سَأَلت عَائِشَة عَن الرجل يَأْتِي أَهله ثمَّ يلبس الثَّوْب فيعرق فِيهِ أنجس ذَلِك؟ فَقَالَت: قد كَانَت الْمَرْأَة تعد خرقَة أَو خرقاً فَإِذا كَانَ ذَلِك مسح بهَا الرجل الْأَذَى عَنهُ، وَلم نر أَن ذَلِك يُنجسهُ، وَفِي لفظ: ثمَّ صليا فِي ثوبهما وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث المتَوَكل ابْن فُضَيْل عَن أم القلوص العامرية عَن عَائِشَة: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرى على الْبدن جَنَابَة، وَلَا على الأَرْض جَنَابَة، وَلَا يجنب الرجل) وَعَن محيي السّنة الْبَغَوِيّ، قَالَ: معنى قَول ابْن عَبَّاس: أَربع لَا يجنبن، الْإِنْسَان، وَالثَّوْب، وَالْمَاء، وَالْأَرْض، يُرِيد: الْإِنْسَان لَا يجنب بمماسة الْجنب، وَلَا الثَّوْب، إِذا لبسه الْجنب، وَلَا الأَرْض إِذا أقضى إِلَيْهَا الْجنب، وَلَا المَاء ينجس إِذا غمس الْجنب يَده فِيهِ.
وَقَالَ [قعابن الْمُنْذر [/ قع: أجمع عوام أهل الْعلم على أَن عرق الْجنب طَاهِر، وَثَبت ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَائِشَة أَنهم قَالُوا ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا أحفظ عَن غَيرهم خلاف قَوْلهمَا. وَقَالَ [قعالقرطبي [/ قع: الْكَافِر نجس عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو بكر ابْن الْمُنْذر: وعرق الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ والمجوسي طَاهِر عِنْدِي، وَقَالَ ابْن حزم الْعرق من الْمُشْركين نجس لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} (سُورَة التَّوْبَة: 28) وَتمسك أَيْضا بِمَفْهُوم حَدِيث الْبَاب، وَادّعى أَن الْكَافِر نجس الْعين وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم نجسوا الْأَفْعَال لَا الْأَعْضَاء أَو نجسوا الِاعْتِقَاد، وَمِمَّا يُوضح ذَلِك أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاح نسَاء أهل الْكتاب، وَمَعْلُوم أَن عرقهن لَا يسلم مِنْهُ من يضاجعهن، وَمَعَ ذَلِك لَا يجب عَلَيْهِ من غسل الْكِتَابِيَّة إلاَّ مثل مَا يجب عَلَيْهِ من غسل الْمسلمَة، فَدلَّ على أَن الْآدَمِيّ الْحَيّ لَيْسَ ينجس الْعين إِذْ لَا فرق بَين النِّسَاء وَالرِّجَال وَفِي (الْمُدَوَّنَة) على مَا نَقله ابْن التِّين إِن الْمَرِيض إِذا صلى لَا يسْتَند لحائض وَلَا جنب، وَأَجَازَهُ ابْن أَشهب. قَالَ [قعالشيخ أَبُو مُحَمَّد [/ قع: لِأَن ثيابهما لَا تكَاد تسلم من النَّجَاسَة. وَقَالَ غَيره لأجل أعينهما لَا لثيابهما، وَمَا ذَكرْنَاهُ يرد بذلك، فَإِن قلت: على مَا ذكرت من أَن الْمُسلم لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا يَنْبَغِي أَن يغسل الْمَيِّت لِأَنَّهُ طَاهِر. قلت: اخْتلف الْعلمَاء من أَصْحَابنَا فِي وجوب غسله. فَقيل: إِنَّمَا وَجب لحَدث يحله باسترخاء المفاصل لَا لنجاسته، فَإِن الْآدَمِيّ لَا ينجس بِالْمَوْتِ كَرَامَة، إِذا لَو نجس لما طهر بِالْغسْلِ كَسَائِر الْحَيَوَانَات وَكَانَ الْوَاجِب الِاقْتِصَار على أَعْضَاء الْوضُوء كَمَا فِي حَال الْحَيَاة. لَكِن ذَلِك إِنَّمَا كَانَ نفيا للْحَرج فِيمَا يتَكَرَّر كل يَوْم، وَالْحَدَث بِسَبَب الْمَوْت لَا يتَكَرَّر، فَكَانَ كالجنابة لَا يَكْتَفِي فِيهَا بِغسْل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة، بل يبْقى على الأَصْل، وَهُوَ وجوب غسل الْبدن لعدم الْحَرج، فَكَذَا هَذَا. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ يجب غسله لنجاسته بِالْمَوْتِ لَا بِسَبَب الْحَدث لِأَن للآدمي دَمًا سَائِلًا فيتنجس بِالْمَوْتِ قِيَاسا على غَيره ألاَّ ترى أَنه لَو مَاتَ فِي الْبِئْر نجسها؟ وَلَو حمله الْمُصَلِّي لم تجز صلَاته وَلَو لم يكن نجسا لجازت كَمَا لَو حمل مُحدثا.
الثَّانِي: من الْأَحْكَام فِيهِ اسْتِحْبَاب أحترام أهل الْفضل، وَأَن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم، فَيكون على أكمل الهيئات وَأحسن الصِّفَات، وَقد اسْتحبَّ الْعلمَاء لطَالب الْعلم أَن يحسن حَاله عِنْد مجالسة شَيْخه، فَيكون متطهراً متنظفاً بِإِزَالَة الشعوث الْمَأْمُور بإزالتها، نَحْو: قصّ الشَّارِب، وقلم الْأَظْفَار، وَإِزَالَة الروائح الْمَكْرُوهَة وَغير ذَلِك.
الثَّالِث: فِيهِ من الْآدَاب أَن الْعَالم إِذا رأى من تَابعه أمرا يخَاف عَلَيْهِ فِيهِ خلاف الصَّوَاب، سَأَلَهُ عَنهُ وَقَالَ لَهُ صَوَابه وَبَين لَهُ حكمه.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَأْخِير الِاغْتِسَال عَن أول وَقت وُجُوبه، وَالْوَاجِب أَن لَا يُؤَخِّرهُ إِلَى أَن يفوتهُ وَقت صَلَاة.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز انصراف الْجنب فِي حَوَائِجه قبل الِاغْتِسَال، مَا لم يفته وَقت الصَّلَاة.
السَّادِس: فِيهِ أَن النَّجَاسَة إِذا لم تكن عينا فِي الْأَجْسَام لَا تضرها فَإِن الْمُؤمن طَاهِر الْأَعْضَاء، فَإِن من شَأْنه الْمُحَافظَة على الطَّهَارَة والنظافة.
السَّابِع: فِيهِ ائتلاف قُلُوب الْمُؤمنِينَ، ومواساة الْفُقَرَاء والتواضع لله، وَاتِّبَاع أَمر الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ جلّ ذكره. {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه} (سُورَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: اسْتِحْبَاب اسْتِئْذَان التَّابِع للمتبوع إِذا أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ. قلت: هَذَا بعيد لِأَن الحَدِيث الْمَذْكُور لَا يفهم مِنْهُ ذَلِك لَا من عِبَارَته وَلَا من إِشَارَته وَلَا فِيهِ التَّابِع والتبوع لِأَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن فِي تِلْكَ الْحَالة تَابعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَشْيه بل إِنَّمَا لقِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق الْمَدِينَة، كَمَا هُوَ نَص الحَدِيث. وَقَالَ أَيْضا وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن حبَان الرَّد على من زعم أَن الْجنب إِذا وَقع فِي الْبِئْر فَنوى الِاغْتِسَال أَن مَاء الْبِئْر ينجس. قلت: هَذَا الرَّد مَرْدُود حِينَئِذٍ، لِأَن الحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ أصلا والْحَدِيث يدل بعبارته أَن الْجنب لَيْسَ بِنَجس فِي ذَاته، وَلم يتَعَرَّض إِلَى طَهَارَة غسالته إِذا نوى الِاغْتِسَال.
24 - (بابُ الجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ)
بَاب بِالتَّنْوِينِ أَي هَذَا بَاب فِيهِ الْجنب يخرج إِلَى آخِره، يَعْنِي لَهُ أَن يخرج من بَيته وَيَمْشي فِي السُّوق وَغَيره وَهَذَا قَول أَكثر الْفُقَهَاء إلاَّ أَن ابْن أبي شيبَة حكى عَن عَليّ وَعَائِشَة وَابْن عمر وَأَبِيهِ وَشَدَّاد بن أَوْس وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُجاهد وَابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ وَمُحَمّد بن عَليّ وَالنَّخَعِيّ، وَزَاد الْبَيْهَقِيّ: سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عَمْرو وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالْحسن أَنهم كَانُوا إِذا اجنبوا لَا يخرجُون وَلَا يَأْكُلُون حَتَّى يتوضؤوا فَإِن قلت: لم كَانَ بَاب بِالتَّنْوِينِ وَلم يضفه إِلَى مَا بعده؟ قلت: يجوز ذَلِك وَلَكِن يحْتَاج حِينَئِذٍ أَن يقدر الْجَواب نَحْو أَن يَقُول لَهُ ذَلِك أَو يجوز ذَلِك، وَنَحْوهمَا وَعند الِانْفِصَال لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك. قَوْله: (وَيَمْشي) بِالْوَاو وَعطف على. قَوْله: (يخرج) وَفِي بعض النّسخ: يمشي بِدُونِ: وَاو الْعَطف، فَإِن صحت هَذِه يكون يمشي، فِي مَوضِع النصب على الْحَال الْمقدرَة. قَوْله: (وَغَيره) بِالْجَرِّ عطف على. قَوْله: (فِي السُّوق) وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل الرّفْع عطفا على يخرج من جِهَة الْمَعْنى (قلت) فِيهِ لعسف لَا يخفى والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كل مِنْهَا فِي حكم الْجنب نَحْو: يَأْكُل وينام، عطفا على يخرج من جِهَة الْمَعْنى قلت: فِيهِ تعسف لَا يحفى.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا فِي حكم الْجنب.
وَقَالَ عَطَاءٌ يَحْتَجِمُ الجُنُبُ ويُقْلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ وإنْ لَمْ يَتَوَضَأْ(3/240)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وَغَيره، بِالرَّفْع ظَاهِرَة وَأما بِالْجَرِّ الَّذِي هُوَ الْأَظْهر فَلَا تكون الْمُطَابقَة إلاَّ من جِهَة الْمَعْنى، وَهُوَ أَن الْجنب إِذا جَازَ لَهُ الْخُرُوج من بَيته وَالْمَشْي فِي السُّوق وَغَيره جَازَ لَهُ تِلْكَ الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فِي الْأَثر الْمَذْكُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن جريح عَنهُ وَزَاد فِيهِ ويطلى بالنورة.
284 - حدّثنا عَبْدُ الأَعْلَى بنُ حَمَادِ قالَ حدّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قالَ حدّثنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أنَّ أنَسَ بنَ مالِكِ حَدَّثَهُمْ أنَّ نَبيِّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الواحِدَةِ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ.
مُطَابقَة للْحَدِيث للتَّرْجَمَة تفهم من قَوْله: (كَانَ يطوف على نِسَائِهِ) وَذَلِكَ أَن نِسَاءَهُ كَانَت لَهُنَّ حجر مُتَقَارِبَة، فبالضرورة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الطّواف عَلَيْهِنَّ يحْتَاج إِلَى الْمَشْي من حجرَة إِلَى حجرَة قَالَ بَعضهم: لَكِن فِي غير السُّوق. قلت: الْمَشْي أَعم من أَن يكون من بَيت إِلَى بَيت، وَمن بَيت إِلَى سوق، وَإِلَى غَيره، وَحَدِيث أنس هَذَا قد مر فِي بَاب: إِذا جَامع ثمَّ عَاد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَسَعِيد الَّذِي يروي عَن قَتَادَة هُوَ سعيد بن أبي عرُوبَة قَالَ الغساني: وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ بدل: سعيد، لفظ شُعْبَة أَي ابْن الْحجَّاج، وَلَيْسَ صَوَابا.
25
- (بابُ كَيْنُونَةِ الجُنُبِ فِي الَبْيتِ إذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز كينونة الْجنب فِي بَيته إِذا تَوَضَّأ قبل الِاغْتِسَال، والكينونة مصدر: كَانَ يُقَال: يكون كوناً وكينونة، أَيْضا شبهوه بالحيدودة والطيرورة من ذَوَات الْيَاء، وَلم يجىء من الْوَاو على هَذَا إلاَّ أحرف: كينونة وكيعوعة وديمومة وقيدودة وَأَصله: كينونة، بتَشْديد الْيَاء، فحذفوا كَمَا حذفوا من هَين وميت، وَلَوْلَا ذَلِك لقَوْل: كونونة. قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ الْجنب) ، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت وكريمة. (إِذا تَوَضَّأ قبل أَن يغْتَسل) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: إِذا تَوَضَّأ، قبل أَن يغْتَسل.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر.(3/241)
286 - حدّثنا أَبُو نَعِيمٍ قالَ حدّثنا هِشَامٌ وَشيبانُ عَنْ يِحْيى اعَنْ أبي سَلَمَةَ قالَ سألتُ عائِشَةَ أكانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبُ قالَتْ نَعَمْ وَيَتَوَضَأُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، قيل: أَشَارَ المُصَنّف بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تَضْعِيف مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا [حم (إِن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ كلب وَلَا صُورَة وَلَا جنب) [/ حم. قلت: هَذَا بعيد، لِأَن المُرَاد من هَذَا الْجنب الَّذِي يتهاون بالاغتسال ويتخذه عَادَة حت تفوته صَلَاة أَو أَكثر، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ من يُؤَخِّرهُ ليفعله، أَو يكون المُرَاد مِنْهُ من لم يرفع حَدثهُ كُله أَو بعضه، لِأَنَّهُ إِذا تَوَضَّأ ارْتَفع بعض الْحَدث عَنهُ، والْحَدِيث الْمَذْكُور صَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَالَّذِي ضعفه قَالَ: فِي إِسْنَاده نجي الْحَضْرَمِيّ، بِضَم النُّون وَفتح الْجِيم، لم يرو عَنهُ غير ابْنه عبد الله، فَهُوَ مَجْهُول، لَكِن وَثَّقَهُ الْعجلِيّ.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون الْفضل بن دُكَيْن، وَهِشَام الدستوَائي، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ الْمُؤَدب صَاحب حُرُوف وقراآت، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، تقدمُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فِي كتاب الْعلم إلاَّ هشاماً فَإِنَّهُ مر فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: رِوَايَة ابْن أبي شيبَة بتحديث أبي سَلمَة وَرَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى عَن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن ابْن عمر، رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
ذكر إعرابه قَوْله: (أَكَانَ) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة إسمية وَقعت حَالا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَيتَوَضَّأ) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره، نعم يرقد وَيتَوَضَّأ. فَإِن قلت: هَل كَانَ يتَوَضَّأ بعد الرقاد؟ قلت: الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب، وَالْمعْنَى أَنه يجمع بَين الْوضُوء والرقاد، وَلمُسلم من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة، كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، وَهَذَا وَاضح لما قَررنَا، فآل معنى رِوَايَة البُخَارِيّ نعم إِذا أَرَادَ النّوم يقوم وَيتَوَضَّأ ثمَّ يرقد، ويوضح هَذَا أَيْضا حَدِيث ابْن عمر الَّذِي ذكره البُخَارِيّ عقيب هَذَا الحَدِيث على مَا يَأْتِي عَن قريب.
وَالَّذِي يستنبط من هَذَا الحَدِيث أَن الْجنب إِذا أَرَادَ النّوم يتَوَضَّأ ثمَّ هَذَا الْوضُوء مُسْتَحبّ أَو وَاجِب؟ يَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
26 - (بابُ نَوْم الجُنُبُ)
278 - حدّثنا قُتَيْبَةُ قالَ حدّثنا الَّليْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَابِ سَأَلَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَرْقُدُ أَحَدُنا وَهُوَ جُنُبٌ قالَ نَعَمْ إذَا تَوَضَأَ أَحَدُكُمْ فَلُيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ.
[/ ح.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن رقاد الْجنب فِي الْبَيْت يَقْتَضِي جَوَاز كينونته فِيهِ، وَمعنى التَّرْجَمَة هَذَا. وَفِي بعض النّسخ، قبل هَذَا الحَدِيث، بَاب نوم الْجنب: حَدثنَا قُتَيْبَة إِلَى آخِره، وَهَذَا وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا لحُصُول الِاسْتِغْنَاء عَنهُ بِالْبَابِ الَّذِي يَأْتِي عَقِيبه، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون ترْجم على الْإِطْلَاق وعَلى التَّقْيِيد فَلَا تكون زَائِدَة. قلت: لَا يخرج عَن كَونه زَائِدا لِأَن الْمَعْنى الْحَاصِل فيهمَا وَاحِد وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَة فَائِدَة، فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الْإِسْنَاد بِهَذَا التَّرْتِيب تقدم فِي آخر كتاب الْعلم. قلت: نعم، كَذَا ذكره فِي بَاب ذكر الْعلم والفتيا فِي الْمَسْجِد، حَيْثُ قَالَ: حدّثنا قُتَيْبَة بن سعيد حدّثنا اللَّيْث بن سعد، قَالَ: حَدثنَا نَافِع مولى عبد الله بن عمر بن الْخطاب بن عبد الله بن عمر أَن رجلا قَامَ فِي الْمَسْجِد الحَدِيث، فالإسنادان سَوَاء، غير أَن هُنَاكَ نسب الروَاة، وَهَهُنَا اكْتفى بأساميهم وَأَن الَّذِي هُنَاكَ يُوضح الَّذِي هَاهُنَا، وَمَعَ هَذَا لكل وَاحِد مِنْهُمَا متن خلاف متن الآخر. فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث يعد من مُسْند عمر بن الْخطاب أَو من مُسْند ابْنه عبد الله؟ قلت: ظَاهره أَن ابْن عمر حضر سُؤال أَبِيه عمر، فَيكون الحَدِيث من مُسْنده، وَهُوَ من رِوَايَة نَافِع وروى عَن ايوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عمر أَنه قَالَ يَا رَسُول الله اخرجه النَّسَائِيّ وعَلى هَذَا مَشْهُور من رِوَايَة مُسْند عمر، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق يحيى الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث. قَوْله: (أيرقد) ؟ الْهمزَة للاستفهام عَن حكم الرقاد لَا عَن تعْيين الْوُقُوع،(3/242)
فَالْمَعْنى: أَيجوزُ الرقود لَا حدنا؟ قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة حَالية. قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) ظرف محص. لقَوْله: (فليرقد) وَالْمعْنَى: إِذا أَرَادَ أحدكُم الرقاد قليرقد بعد التوضأ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيجوز أَن يكون ظرفا متضمناً للشّرط ثمَّ قَالَ: الشَّرْط سَبَب، فَمَا الْمُسَبّب الرقود أم الْأَمر بالرقود ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ يحْتَمل الْأَمريْنِ مجَازًا لَا حَقِيقَة كَأَن التوضي مسبب لجَوَاز الرقود أَو لأمر الشَّارِع بِهِ. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: الرقود لَيْسَ وَاجِبا وَلَا مَنْدُوبًا، فَمَا معنى الْأَمر؟ قلت: الْإِبَاحَة بِقَرِينَة الْإِجْمَاع على عدم الْوُجُوب وَالنَّدْب. انْتهى.
قلت: هَذَا كَلَام مدمج وَفِيه تَفْصِيل وَخلاف، فَنَقُول: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، ذهب الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَابْن الْمسيب وَأَبُو يُوسُف إِلَى أَنه لَا بَأْس للْجنب أَن ينَام من غير أَن يتَوَضَّأ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، حَدثنَا هناد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينَام وَهُوَ جنب وَلَا يمس مَاء) وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة قَالَت: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن كَانَت لَهُ إِلَى أَهله حَاجَة قَضَاهَا ثمَّ ينَام كَهَيئَةِ لَا يمس مَاء) وَأخرجه أَحْمد كَذَلِك، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سَبْعَة طرق. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَن ابْن أبي دَاوُد عَن مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص، قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة. قَالَت: [حم (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا رَجَعَ من الْمَسْجِد صلى مَا شَاءَ الله ثمَّ مَال إِلَى فرَاشه وَإِلَى أَهله فَإِن كَانَت لَهُ حَاجَة قَضَاهَا ثمَّ نَام كَهَيْئَته وَلَا يمس طيبا) [/ حم وأرادت بالطيب المَاء، كَمَا وَقع فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَلَا يمس مَاء، وَذَلِكَ أَن المَاء يُطلق عَلَيْهِ الطّيب كَمَا ورد فِي الحَدِيث فَإِن المَاء طيب لِأَنَّهُ يطيب ويطهر، وَأي طيب أقوى فعلا فِي التَّطْهِير من المَاء؟ وَذهب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُبَارك وَآخَرُونَ إِلَى أَنه يَنْبَغِي للْجنب أَن يتَوَضَّأ للصَّلَاة قبل أَن ينَام، وَلَكنهُمْ اخْتلفُوا فِي صفة هَذَا الْوضُوء وَحكمه فَقَالَ أَحْمد: يسْتَحبّ للْجنب إِذا أَرَادَ أَن ينَام أَو يطَأ ثَانِيًا أَو يَأْكُل أَن يغسل فرجه وَيتَوَضَّأ روى ذَلِك عَن عَليّ وَعبد الله بن عمر، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: إِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل يغسل كفيه ويتمضمض وَحكى نَحوه عَن أَحْمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ مُجَاهِد: يغسل كفيه. وَقَالَ مَالك: يغسل يَدَيْهِ إِن كَانَ أصابهما أَذَى.
وَقَالَ [قعأبو عمر [/ قع فِي (التَّمْهِيد) وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي إِيجَاب الْوضُوء عِنْد النّوم على الْجنب، فَذهب أَكثر الْفُقَهَاء إِلَى أَن ذَلِك على النّدب والاستحباب لَا على الْوُجُوب. وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْوضُوء الْمَأْمُور بِهِ الْجنب هُوَ غسل الْأَذَى مِنْهُ وَغسل ذكره وَيَديه، وَهُوَ التَّنْظِيف، وَذَلِكَ عِنْد الْعَرَب يُسمى، وضوأً. قَالُوا: وَقد كَانَ ابْن عمر لَا يتَوَضَّأ عِنْد النّوم الْوضُوء الْكَامِل، وَهُوَ روى الحَدِيث وَعلم مخرجه، وَقَالَ [قعمالك [/ قع: لَا ينَام الْجنب حَتَّى يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، قَالَ: وَله أَن يعاود أَهله وَيَأْكُل قبل أَن يتَوَضَّأ؛ إِلَّا أَن يكون فِي يَدَيْهِ قذر فيغسلهما، قَالَ: وَالْحَائِض تنام قبل أَن تتوضأ. وَقَالَ الشَّافِعِي، فِي هَذَا كُله نَحْو قَول مَالك، وَقَالَ [قعأبو حنيفَة وَالثَّوْري [/ قع: لَا بَأْس أَن ينَام الْجنب على غير وضوء، وَأحب إِلَيْنَا أَن يتَوَضَّأ، قَالُوا: فَإِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل تمضمض وَغسل يَدَيْهِ، وَهُوَ قَول الْحسن ابْن حَيّ. وَقَالَ الأزاعي: الْحَائِض وَالْجنب أَرَادَ أَن يطعما غسلا أَيْدِيهِمَا. وَقَالَ [قعالليث بن سعد [/ قع: لَا ينَام الْجنب حَتَّى يتَوَضَّأ رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. انْتهى.
وَقَالَ [قعالقاضي عِيَاض [/ قع: ظَاهر مَذْهَب مَالك أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا هُوَ مرغب فِيهِ، وَابْن حبيب يرى وُجُوبه، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد، وَقَالَ [قعابن حزم [/ قع فِي (الْمحلى) وَيسْتَحب الْوضُوء للْجنب إِذا أَرَادَ الْأكل أَو النّوم ولرد السَّلَام وَلذكر الله، وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب. قلت: قد خَالف ابْن حزم دَاوُد فِي هَذَا الحكم وَقَالَ [قعابن الْعَرَبِيّ [/ قع: قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز للْجنب أَن ينَام قبل أَن يتَوَضَّأ. وَقَالَ بَعضهم: أنكر بعض الْمُتَأَخِّرين هَذَا النَّقْل، وَقَالَ: لم يقل الشَّافِعِي بِوُجُوبِهِ، وَلَا يعرف ذَلِك أَصْحَابه، وَهُوَ كَمَا قَالَ، لَكِن كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ مَحْمُول على أَنه أَرَادَ نفي الْإِبَاحَة المستوية الطَّرفَيْنِ، لَا إِثْبَات الْوُجُوب، أَو أَرَادَ بِأَنَّهُ وَاجِب وجوب سنة أَي: متأكد الِاسْتِحْبَاب، وَيدل عَلَيْهِ أَنه قابله بقول ابْن حبيب: هُوَ وَاجِب وجوب الْفَرَائِض. انْتهى. قلت: إِنْكَار الْمُتَأَخِّرين هَذَا الَّذِي نقل عَن الشَّافِعِي إِنْكَار مُجَرّد فَلَا يُقَاوم الْإِثْبَات، وَعدم معرفَة أَصْحَابه ذَلِك لَا يسْتَلْزم عدم قَول الشَّافِعِي بذلك، وَأبْعد من هَذَا قَول هَذَا الْقَائِل، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَكيف يَقُول بِهَذَا وَقد بَينا فَسَاده، وَأبْعد من هَذَا كُله حمل هَذَا الْقَائِل كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ على مَا ذكره، يعرف ذَلِك من يدقق نظره فِيهِ.
ثمَّ اعْلَم أَن الطَّحَاوِيّ أجَاب عَن حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور، فَقَالَ: وَقَالُوا هَذَا الحَدِيث غلط لِأَنَّهُ حَدِيث مُخْتَصر، اخْتَصَرَهُ(3/243)
أَبُو إِسْحَاق من حَدِيث طَوِيل فاخطأ فِي اختصاره إِيَّاه، وَذَلِكَ أَن بَهْزًا حَدثنَا قَالَ: أخبرنَا أَبُو غَسَّان، قَالَ أخبرنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق قَالَ: أتيت الْأسود بن يزِيد، وَكَانَ لي أَخا وصديقاً فَقلت لَهُ: يَا أَبَا عمر حَدثنِي مَا حدثتك عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ عَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (قَالَت عَائِشَة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينَام أول اللَّيْل ويحيي آخِره، ثمَّ إِن كَانَت لَهُ حَاجَة قضى حَاجته، ثمَّ ينَام قبل أَن يمس مَاء، فَإِذا كَانَ عِنْد النداء الأول وثب، وَمَا قَالَت: قَامَ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ المَاء، وَمَا قَالَت: اغْتسل، وَأَنا أعلم مَا تُرِيدُ، وَإِن نَام جنبا تَوَضَّأ وضوء الرجل للصَّلَاة) فَهَذَا الْأسود بن زيد قد بَان فِي حَدِيثه لما ذكر بِطُولِهِ أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، وَأما قَوْلهَا: فَإِن كَانَت لَهُ حَاجَة قَضَاهَا ثمَّ نَام قبل أَن يمس مَاء، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مَحْمُولا على المَاء الَّذِي يغْتَسل بِهِ، لَا على الْوضُوء، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا الْحُسَيْن الوَاسِطِيّ، سَمِعت يزِيد بن هَارُون يَقُول: هَذَا الحَدِيث وهم، يَعْنِي حَدِيث أبي إِسْحَاق. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: لَيْسَ بِصَحِيح، وَقَالَ المهني: سَأَلت أَبَا عبد الله عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح قلت: لم قَالَ: لِأَن شُعْبَة روى عَن الْحَاكِم عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: [حم (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) [/ حم قلت: من قبل من جَاءَ هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قَالَ: من قبل أبي إِسْحَاق، قَالَ: وَسَأَلت أَحْمد بن صَالح عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَا يحل أَن يرْوى. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو عَليّ الطوسي، روى غير وَاحِد عَن الْأسود عَن عَائِشَة: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ قبل أَن ينَام وَهُوَ جنب، يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) وَهَذَا أصح من حَدِيث أبي إِسْحَاق قَالَ: وَكَانُوا يرَوْنَ أَن هَذَا غلط من أبي إِسْحَاق، وَقَالَ ابْن مَاجَه، عقيب رِوَايَته هَذَا الحَدِيث قَالَ سُفْيَان: ذكرت الحَدِيث يَعْنِي هَذَا، يَوْمًا، فَقَالَ لي إِسْمَاعِيل: شدّ هَذَا الحَدِيث ياقتي بِشَيْء.
وتصدى جمَاعَة لتصحيح هَذَا الحَدِيث.
مِنْهُم الدراقطني: فَإِنَّهُ قَالَ: يشبه أَن يكون الخبران صَحِيحَيْنِ، لِأَن عَائِشَة قَالَت: رُبمَا قدم الْغسْل، وَرُبمَا أَخّرهُ، وكما حكى ذَلِك غُضَيْف وَعبد الله بن أبي قيس وَغَيرهمَا عَن عَائِشَة، وَأَن الْأسود حفظ ذَلِك عَنْهَا. فحفظ أَبُو إِسْحَاق عَنهُ تَأْخِير الْوضُوء وَالْغسْل، وَحفظ إِبْرَاهِيم وَعبد الرَّحْمَن تَقْدِيم الْوضُوء على الْغسْل.
وَمِنْهُم الْبَيْهَقِيّ: وَمُلَخَّص كَلَامه أَن حَدِيث أبي إِسْحَاق صَحِيح من جِهَة الرِّوَايَة، وَذَلِكَ أَنه بَين فِيهِ سَمَاعه من الْأسود فِي رِوَايَة زُهَيْر عَنهُ، والمدلس إِذا بَين سَمَاعه مِمَّن روى عَنهُ، وَكَانَ ثِقَة، فَلَا وَجه لرده، وَوجه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ على وَجه يحْتَمل، وقدجمع بَينهمَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن شُرَيْح فاحسن الْجمع، وَسُئِلَ عَنهُ وَعَن حَدِيث عمر: [حم (أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ قَالَ: نعم، إِذا تَوَضَّأ) [/ حم وَقَالَ الحكم لَهما جَمِيعًا أما حَدِيث عَائِشَة فَإِنَّمَا أَرَادَت أَنه كَانَ لَا يمس مَاء للْغسْل. وَأما حَدِيث عمر: (أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ قَالَ: نعم إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليرقد) . فمفسره ذكر فِيهِ الْوضُوء وَبِه، نَأْخُذ.
وَمِنْهُم ابْن قُتَيْبَة. فَإِنَّهُ قَالَ: يُمكن أَن يكون الْأَمْرَانِ جميعاٌ وقعاد فالفعل لبَيَان الِاسْتِحْبَاب، وَالتّرْك لبَيَان الْجَوَاز، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّا وجدنَا لحَدِيث أبي إِسْحَاق شَوَاهِد ومتابعين، فَمِمَّنْ تَابعه عَطاء وَالقَاسِم وكريب والسوائي فِيمَا ذكره أَبُو إِسْحَاق الْجرْمِي فِي كتاب (الْعِلَل) قَالَ: وَأحسن الْوُجُوه فِي ذَلِك أَن صَحَّ حَدِيث أبي إِسْحَاق فِينَا رَوَاهُ وَوَافَقَهُ هَؤُلَاءِ أَن تكون عَائِشَة أخْبرت الْأسود أَنه كَانَ رُبمَا تَوَضَّأ، وَرُبمَا أخر الْوضُوء وَالْغسْل حَتَّى يصبح، فَأخْبر الْأسود إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ وَأخْبر أَبَا إِسْحَاق أَنه كَانَ يُؤَخر الْغسْل، وَهَذَا أحسن وأوجه. فَإِن قلت: قد رُوِيَ عَن عَائِشَة مَا يضاد مَا رُوِيَ عَنْهَا أَولا، وَهُوَ أَن الطَّحَاوِيّ روى من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ أَن يَأْكُل وَهُوَ جنب غسل كفيه) وَرُوِيَ عَنْهَا: (أَنه كَانَ يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) . قلت: أجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بِأَنَّهَا لما أخْبرت بِغسْل الْكَفَّيْنِ، بعد أَن كَانَت علمت بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْوضُوءِ التَّام، دلّ ذَلِك على ثُبُوت النّسخ عِنْدهَا، وَقَالَ بَعضهم: جنح الطَّحَاوِيّ إِلَى أَن المُرَاد بِالْوضُوءِ التَّنْظِيف، وَاحْتج بِأَن ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث وَهُوَ صَاحب الْقِصَّة. كَانَ يتَوَضَّأ وَهُوَ جنب لَا يغسل رجلَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع وَأجِيب بِأَنَّهُ ثَبت تَقْيِيد الْوضُوء بِالصَّلَاةِ فِي رِوَايَة عَائِشَة فيعتمد عَلَيْهَا وَيحمل ترك ابْن عمر غسل رجلَيْهِ، على أَن ذَلِك كَانَ لعذر. قلت: هَذَا الْقَائِل مَا أدْرك كَلَام الطَّحَاوِيّ وَلَا ذاق مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَائِل بورود هَذِه الرِّوَايَة عَن عَائِشَة، وَلكنه حمله على النّسخ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر حمله على النّسخ لِأَن فعله هَذَا بعد علمه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْوضُوءِ التَّام للْجنب يدل على(3/244)
ثُبُوت النّسخ عِنْده، لِأَن الرَّاوِي روى شَيْئا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو علمه مِنْهُ، ثمَّ فعل أَو أفتى بِخِلَافِهِ يدل على ثُبُوت النّسخ عِنْده، إِذا لم يثبت ذَلِك لما كَانَ لَهُ الْإِقْدَام على خِلَافه، وَكَذَلِكَ روى من قَول ابْن عمر مَا رَوَاهُ من حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: (إِذا أجنب الرجل، وَأَرَادَ أَن يَأْكُل أَو يشرب أَو ينَام غسل كفيه وتمضمض واستنشق. وَغسل وَجهه وذراعيه، وَغسل فرجه وَلم يغسل قَدَمَيْهِ) فَبِهَذَا ابطل قَول هَذَا الْقَائِل: وَيحمل ترك ابْن عمر غسل قَدَمَيْهِ على أَن ذَلِك كَانَ لعذر. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي هَذَا الْوضُوء؟ قلت: فِيهِ تَخْفيف الحَدِيث يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد رِجَاله ثِقَات عَن شَدَّاد بن أَوْس الصَّحَابِيّ قَالَ: إِذا أجنب أحدكُم من اللَّيْل، ثمَّ أَرَادَ أَن ينَام فَليَتَوَضَّأ فَإِنَّهُ نصف غسل الْجَنَابَة وَقيل لِأَنَّهُ إِحْدَى الطهارتين فعلى هَذَا يقوم التَّيَمُّم مقَامه، وَقد روى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: [حم (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أجنب فَأَرَادَ أَن ينَام يتَوَضَّأ أَو يتَيَمَّم) [/ حم قلت: الظَّاهِر أَن التَّيَمُّم هَذَا كَانَ عِنْد عدم المَاء، وَقيل: إِنَّه ينشط إِلَى الْعود أَو إِلَى الْغسْل، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ الْحِكْمَة فِيهِ أَن الْمَلَائِكَة تبعد عَن الْوَسخ وَالرِّيح الكريهة، بِخِلَاف الشَّيَاطِين، فَإِنَّهَا تقرب من ذَلِك.
27 - (بابُ الجنُبِ يَتَوَضَأُ ثُمَّ يَنَامُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْجنب يتَوَضَّأ ثمَّ ينَام، والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
288 - ح دّثنا يحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قالَ حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنَ أبي جَعْفَرٍ عنْ مُحَمَّدٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قَالَتْ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَأَ لِلصَّلاةِ. (انْظُر الحَدِيث 286) .
مطابقتة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، سبق فِي بَاب الْوَحْي، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير الْمصْرِيّ، وينسب غَالِبا إِلَى جده. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبيد الله بن أبي جَعْفَر أَبُو بكر الْفَقِيه الْمصْرِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْأسود الْأَسدي الْمدنِي، بتيم عُرْوَة بن الزبير كَانَ أَبوهُ أوصى بِهِ إِلَيْهِ. الْخَامِس: عُرْوَة ابْن الزبير. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن نصف رُوَاته مصريون. وَالنّصف الآخر مدنيون.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (كَانَ) يدل على الِاسْتِمْرَار قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة حَالية. قَوْله: (غسل) جَوَاب، إِذا قَوْله: (تَوَضَّأ للصَّلَاة) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه تَوَضَّأ لأَدَاء الصَّلَاة إِذْ لَا يجوز الصَّلَاة لَهُ قبل الْغسْل، بل مَعْنَاهُ تَوَضَّأ وضوأً مُخْتَصًّا بِالصَّلَاةِ، يَعْنِي وضوأً شَرْعِيًّا لَا وضوء لغوياً أَو يقدر مَحْذُوف أَي: تَوَضَّأ وضوأً كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة، وَفِي بعض الرِّوَايَات وضوءه للصَّلَاة.
289 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حدّثنا جُوَيْرِيَةَ عنْ نافِعٍ عَنْ عَبَدٍ اللَّهِ قالَ اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جُنُبٌ قالَ نَعَمْ إذَا تَوَضَأَ.
(انْظُر الحَدِيث 287 وطرفه) [/ ح.
جوَيْرِية، بِالْجِيم وَالرَّاء، مُصَغرًا اسْم رجل، وَاسم أَبِيه أَسمَاء من عبيد الضبعِي، سمع من نَافِع وَمن مَالك. قَوْله: (عَن عبد الله ابْن عمر) وَفِي رِوَايَة ابْن عشاكر: عَن ابْن عمر. قَوْله: (استفتى) أَي: طلب الْفَتْوَى من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (أَيَنَامُ أَحَدنَا) صُورَة الاستفتاء. قَوْله: (فَقَالَ: نعم) جَوَابه والهمزة فِي: أَيَنَامُ للإستفهام. قَوْله: (وَهُوَ جنب) جملَة حَالية. قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن جريح عَن نَافِع، ليتوضأ ثمَّ لينم.
290 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُعْسُفَ قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبُدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ أنَّهُ قالَ ذَكَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ تُصِيبُهُ الجَنَابَةَ مِنَ الَّليْلِ فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَأْ وَاعْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ. (انْظُر الحَدِيث 287 وطرفه) .(3/245)
هَكَذَا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو زيد، وَرَوَاهُ ابْن السكن عَن الْفربرِي فَقَالَ مَالك عَن نَافِع، وَقَالَ: الجياني فِي بعض النّسخ، جعل نَافِعًا بدل عبد الله بن دِينَار، وَكِلَاهُمَا صَوَاب، لِأَن مَالِكًا يروي هَذَا الحَدِيث عَنْهُمَا. لكنه بروايه عبد الله أشهر وَقَالَ ابْن عبد الْبر، الحَدِيث لمَالِك عَنْهُمَا جَمِيعًا، لَكِن الْمَحْفُوظ عَن عبد الله بن دِينَار، وَحَدِيث نَافِع غَرِيب. قلت: لَا غرابة، لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَنهُ كَذَلِك عَن نَافِع خَمْسَة أَو سِتَّة، وَلكنه الأول أشهر. قَوْله: (ذكر عمر بن الْخطاب) يَقْتَضِي أَن يكون الحَدِيث من مُسْند ابْن عمر قَوْله: (أَنه تصيبه الْجَنَابَة من اللَّيْل) الضَّمِير فِي أَنه يرجع إِلَى عبد الله بن عمر لَا إِلَى عمر يدل عَلَيْهِ رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عون عَن نَافِع قَالَ: [حم (أصَاب ابْن عمر جَنَابَة فَأتى عمر فَذكر ذَلِك لَهُ فَأتى عمر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاستأمره فَقَالَ: ليتوضأ وليرقد) [/ حم وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي لَهُ، يرجع إِلَى عبد الله بن عمر لَا إِلَى عمر. فَإِن قلت: ظَاهر عبارَة البُخَارِيّ يدل على أَن الضَّمِير فِي أَنه وَله يرجع إِلَى عمر. قلت: الظَّاهِر كَذَا، وَلَكِن رِوَايَة النَّسَائِيّ بيّنت أَن الضَّمِير لعبد الله، فَكَأَنَّهُ حضر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أَن ذكر عمر ذَلِك، فَلهَذَا خاطبه بقوله: (تَوَضَّأ واغسل ذكرك) وَإِن لم يكن حضر فالخطاب لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ جَوَاب استفتائه، وَلكنه يرجع إِلَى ابْنه عبد الله لِأَن الاستفتاء من عمر لأجل عبد الله كَمَا دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) لَيست لَفْظَة لَهُ بموجودة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ قَوْله: (تَوَضَّأ واغسل ذكرك) مَعْنَاهُ إجمع بَينهمَا لِأَن الْوَاو وَلَا تدل على التَّرْتِيب لِأَنَّهُ من الْمَعْلُوم أَن يقدم غسل الذّكر على الْوضُوء وَفِي رِوَايَة أبي نوح عَن مَالك: اغسل ذكرك ثمَّ تَوَضَّأ ثمَّ نم وَهُوَ على الأَصْل.
وَفِيه: رد على من حمل الرِّوَايَة الأولى على ظَاهرهَا وَأَجَازَ تَقْدِيم الْوضُوء على غسل الذّكر لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوضُوء ينقصهُ الْحَدث وَإِنَّمَا هُوَ للتعبد.
28 - (بابٌ إذَا التَقَى الخِتَانانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مَا إِذا التقى الختانان يَعْنِي: ختان الرجل وختان الْمَرْأَة وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بِهَذِهِ التَّثْنِيَة ختان الرجل وخفاض الْمَرْأَة، وَإِنَّمَا ثنيا بِلَفْظ وَاحِد تَغْلِيبًا لَهُ قلت: ذكرُوا هَذَا وَلَكِن ذكر هَذَا بِنَاء على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يختنون النِّسَاء. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْخِتَان للرِّجَال سنة وللنساء مكرمَة) رَوَاهُ الْجَصَّاص فِي كتاب (أدب الْقَضَاء) عَن شَدَّاد بن أَوْس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ الْخِتَان قطع جليدة الكمرة، وَكَذَلِكَ الختن والخفاض قطع جلدَة من أَعلَى فرجهَا تشبه عرف الديك بَينهَا وَبَين مدْخل الذّكر جلدَة رقيقَة، وَكَذَلِكَ الْخَفْض.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ جهدها) لِأَنَّهُ رُوِيَ: (والزق الْخِتَان بالختان) ، بدل قَوْله: (ثمَّ جهدها) على مَا يَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة لِأَنَّهُ رَوَاهُ من طَرِيقين. الأول: عَن معَاذ بن فضَالة، بِضَم الْمِيم فِي، مَعْنَاهُ وَفتح الْفَاء فِي فضَالة الْبَصْرِيّ عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة بن دعامة الْمُفَسّر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن أبي رَافع نفيع الصَّائِغ، وَالطَّرِيق. الثَّانِي: عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن هِشَام الخ وَعلم على الطَّرِيقَيْنِ بِصُورَة (ح) بَين الإسنادين من التَّحْوِيل.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: العنعنة فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي خثيمَةَ زُهَيْر بن حَرْب، وَأبي غَسَّان المسمعي وَابْن الْمثنى، وَابْن بشار، أربعتهم عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن الْحسن بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن ابْن أبي عدي عَن ابْن الْمثنى عَن وهب بن جرير، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام وَشعْبَة، كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن(3/246)
ذكر لغاته قَوْله: (بَين شعبها) بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة جمع شُعْبَة، ويروي: أشعبها، جمع شعب، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الشعبة الطَّائِفَة من كل شَيْء، والقطعة مِنْهُ والشعب، النواحي، وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالشعبِ الْأَرْبَع، فَقيل: هِيَ اليدان وَالرجلَانِ، وَقيل: الفخذان وَالرجلَانِ، وَقيل: الرّجلَانِ والشفران، وَاخْتَارَ القَاضِي عِيَاض، أَن المُرَاد من الشّعب الْأَرْبَع واحيها الْأَرْبَع، وَالْأَقْرَب أَن يكون المُرَاد الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ أَو الرجلَيْن والفخذين وَيكون الْجِمَاع مكنياً عَنهُ بذلك، يَكْتَفِي بِمَا ذكر عَن التَّصْرِيح، وَإِنَّمَا رجح هَذَا لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة فِي الْجُلُوس بَينهمَا، وَالضَّمِير فِي جلس، يرجع إِلَى الرجل، وَكَذَلِكَ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: جهدها، وَأما الضَّمِير الَّذِي فِي شعبها، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: جهدهاد، فيرجعان إِلَى الْمَرْأَة، وَإِن لم يمض ذكرهَا الدّلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} (سُورَة ص: 32) قَوْله: (ثمَّ جهدها) بِفَتْح الْجِيم وَالْهَاء أَي: بلغ جهده فِيهَا وَقيل: بلغ مشقتها يُقَال: جهدته وأجهدته إِذا بلغت مشقته، وَقيل: مَعْنَاهُ كدها بحركته وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق شُعْبَة وَهِشَام عَن قَتَادَة ثمَّ اجْتهد، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق شُعْبَة وَهِشَام مَعًا عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قعد بَين شعبها الْأَرْبَع، وألزق الْخِتَان بالختان فقد وَجب الْغسْل) أَي: مَوضِع الْخِتَان بِموضع الْخِتَان، لِأَن الْخِتَان اسْم للْفِعْل، وَهَذَا يدل على أَن الْجهد هَاهُنَا كِنَايَة عَن معالجة الْإِيلَاج، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة (إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل) وَرُوِيَ أَيْضا بِهَذَا اللَّفْظ من حَدِيث عَائِشَة، أخرجه الشَّافِعِي من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَنْهَا، وَلَكِن فِي طَريقَة عَليّ بن زيد، وَهُوَ ضَعِيف وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَنْهَا بِرِجَال ثِقَات، رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْهَا، وَلَفظه: (وسم الْخِتَان الْخِتَان) وَالْمرَاد بالمس، الالتقاء عَلَيْهِ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: (إِذا جَاوز) وَلَيْسَ المُرَاد حَقِيقَة الْمس، حَتَّى لَو حصل الْمس بِدُونِ التقاء الختانين لَا يجب الْغسْل بِلَا خلاف، وَالْحَاصِل أَن إِيجَاب الْغسْل لَا يتَوَقَّف على نزُول الْمَنِيّ، بل مَتى غَابَتْ الْحَشَفَة فِي الْفرج وَجب الْغسْل عَلَيْهِمَا، وَإِن لم ينزل يدل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم من طَرِيق مطر الْوراق عَن الْحسن فِي آخر هَذَا الحَدِيث: (وَإِن لم ينزل) وَوَقع ذَلِك فِي رِوَايَة قَتَادَة أَيْضا، رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه) عَن عَفَّان قَالَ: حَدثنَا همام وَأَبَان قَالَا أخبرنَا قَتَادَة بِهِ وَزَاد فِي آخِره: (أنزل أَو لم ينزل) ، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَصَححهُ من طَرِيق عَليّ بن سهل عَن عَفَّان، وَكَذَا ذكرهَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة، وَقيل: الْجهد من أَسمَاء النِّكَاح، فَمَعْنَى جهدها جَامعهَا، وَإِنَّمَا عدل إِلَى الْكِنَايَة للاجتناب عَن التفوه بِمَا يفحش ذكره صَرِيحًا.
ذكر استنباط الحكم مِنْهُ يستنبط من الحَدِيث الْمَذْكُور: أَن إِيجَاب الْغسْل لَا يتَوَقَّف على نزُول الْمَنِيّ، بل مَتى غَابَتْ الْحَشَفَة يجب الْغسْل عَلَيْهِمَا وَإِن لم ينزلا، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ الْيَوْم، وَقد كَانَ الْخلاف فِيهِ فِي الصَّدْر الأول فَإِن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى أَن من وطىء فِي الْفرج وَلم ينزل فَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك أَحَادِيث نذكرها الْآن وَفِي (الْمحلى) وَمِمَّنْ رأى أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وأبوا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَابْن عَبَّاس والنعمان بن بشير وَزيد بن ثَابت وجمهرة الْأَنْصَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَهِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة.
وَمن الْآثَار الَّتِي احْتَجُّوا بهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث زيد بن خَالِد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على مَا يَجِيء فِي الْبَاب الْآتِي واخرجه مُسلم أَيْضا والطَّحَاوِي واخرجه الْبَزَّار أَيْضا وَلَفظه عَن يزِيد الْجُهَنِيّ: (أَنه سَأَلَ عُثْمَان عَن الرجل يُجَامع وَلَا ينزل، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْوضُوء،) وَقَالَ عُثْمَان أشهد أَنِّي سَمِعت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بن كَعْب، رَوَاهُ مُسلم حَدثنَا أَبُو الرّبيع الْأنْصَارِيّ حَدثنَا حَمَّاد عَن هِشَام بن عُرْوَة وَحدثنَا أَبُو كريب وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة، قَالَ: حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن أبي أَيُّوب عَن أبي بن كَعْب قَالَ: [حم (سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل يُصِيب من الْمَرْأَة ثمَّ يكسل، فَقَالَ: يغسل مَا أَصَابَهُ من الْمَرْأَة ثمَّ يتَوَضَّأ) [/ حم وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة وَأحمد والطَّحَاوِي.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ، (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على رجل من الْأَنْصَار فَأرْسل إِلَيْهِ فَخرج وَرَأسه يقطر، فَقَالَ: لَعَلَّنَا أعجلناك؟ فَقَالَ: نعم يَا رَسُول الله، قَالَ: إِذا(3/247)
أعجلت أَو قحطت فَلَا غسل عَلَيْك، وَعَلَيْك الْوضُوء أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قلت لإخواني من الْأَنْصَار اتْرُكُوا الْأَمر كَمَا يَقُولُونَ المَاء من المَاء، أَرَأَيْتُم أَن اغْتسل؟ فَقَالُوا: لَا وَالله حَتَّى لَا يكون فِي نَفسك حرج مِمَّا قضى الله وَرَسُوله، وَأخرج أَبُو الْعَبَّاس السراج أَيْضا فِي (مُسْنده) حَدثنَا روح بن عبَادَة عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن دِينَار أَن ابْن عَبَّاس أخبرهُ أَن أَبَا سعيدالخدري كَانَ ينزل فِي دَاره، وَأَن أَبَا سعيد أخبرهُ أَنه كَانَ يَقُول لأَصْحَابه: أَرَأَيْتُم إِذا اغْتَسَلت وَأَنا أعرف أَنه كَمَا تَقولُونَ؟ إِلَّا حَتَّى لَا يكون فِي نَفسك حرج مِمَّا قضى الله وَرَسُوله فِي الرجل يَأْتِي امْرَأَته وَلَا ينزل وَأخرج مُسلم أَيْضا عَن سعيد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (المَاء من المَاء) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أَيُّوب أخرجه ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (المَاء من المَاء) .
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه الطَّحَاوِيّ عَنهُ قَالَ: (بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رجل من الْأَنْصَار، فَأَبْطَأَ، فَقَالَ: مَا حَبسك؟ قَالَ: كَانَت أصبت من أَهلِي فَلَمَّا جَاءَنِي رَسُولك اغْتَسَلت من غير أَن أحدث شَيْئا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (المَاء من المَاء، وَالْغسْل على من أنزل.) . [/ حم
وَمِنْهَا: حَدِيث عتْبَان الْأنْصَارِيّ، رَوَاهُ أَحْمد عَنهُ، أَن عتْبَان الْأنْصَارِيّ، قَالَ: قلت: يَا نَبِي الله {إِنِّي كنت مَعَ أَهلِي، فَلَمَّا سَمِعت صوزتك أقلعت فاغتسلت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (المَاء من المَاء) .
وَمِنْهَا: حَدِيث رَافع ابْن خديج، أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَأحمد عَنهُ. [حم (ناداني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا على بطن امْرَأَتي فَقُمْت وَلم أنزل فاغتسلت، فَأَخْبَرته أَنَّك دعوتني وَأَنا على بطن امْرَأَتي فَقُمْت ولمأمن، فاغتسلت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا عَلَيْهِ المَاء من المَاء) [/ حم.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه أَبُو يعلى عَنهُ قَالَ: [حم (انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طلب رجل من الْأَنْصَار فَدَعَاهُ، فَخرج الْأنْصَارِيّ وَرَأسه يقطر مَاء، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لرأسك؟ فَقَالَ دعوتني وَأَنا مَعَ أَهلِي فَخفت أَن أحتبس عَلَيْك فعجلت فَقُمْت وصببت على المَاء ثمَّ خرجت فَقَالَ: هَل كنت أنزلت؟ قَالَ: لَا قَالَ: إِذا فعلت ذَلِك فَلَا تغتسلن اغسل مَا مس الْمَرْأَة مِنْك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة، فَإِن المَاء من المَاء [/ حم، وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَبَّاس أخرجه الْبَزَّار عَنهُ قَالَ: [حم (أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رجل من الْأَنْصَار فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا حَبسك؟ قَالَ: كنت حِين أَتَانِي رَسُولك على امْرَأَتي، فَقُمْت فاغتسلت فَقَالَ: وَكَانَ عَلَيْك أَن لَا تَغْتَسِل مَا لم تنزل، قَالَ: فَكَانَ الْأَنْصَار يَفْعَلُونَ ذَلِك) . [/ حم
وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عبد الله بن عقيل، أخرجه معمر بن رَاشد فِي (جَامعه) عَنهُ، قَالَ: [حم (سلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سعد بن عباد فَلم يَأْذَن لَهُ، كَانَ على حَاجته فَرجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَ سعد سَرِيعا فاغتسل ثمَّ تبعه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَنِّي كنت على حَاجَة فَقُمْت فاغتسلت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (المَاء من المَاء) [/ حم.
وَحجَّة الْجُمْهُور حَدِيث الْبَاب، وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: [حم (أَنَّهَا سُئِلت عَن الرجل يُجَامع فَلَا ينزل، فَقَالَت: فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا مِنْهُ جَمِيعًا) [/ حم أخرجه الطَّحَاوِيّ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَلَفظه: (إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا وروى مَالك عَن يحيى بن سعد عَن سعيد بن الْمسيب: (أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَتَى عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَقَالَ: لقد شقّ عَليّ اخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر إِنِّي لأعظم أَن استقبلك بِهِ؟ فَقَالَت: مَا هُوَ؟ مَا كنت سَائِلًا عَنهُ أمك فاسألني عَنهُ} فَقَالَ لَهَا الرجل يُصِيب أَهله فيكسل وَلَا ينزل قَالَت إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا أسأَل أحدا عَن هَذَا بعْدك أبدا) وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مَالك وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح إلاَّ أَنه مَوْقُوف على عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث مَوْقُوف فِي (الْمُوَطَّأ) عِنْد جمَاعَة من رُوَاته، وروى مُوسَى بن طَارق، وَأَبُو قُرَّة عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي مُوسَى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (إِذا التقى الخاتنان وَجب الْغسْل) وَلم يُتَابع على رَفعه عَن مَالك مَرْفُوعا عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: أَخْبَرتنِي أم كُلْثُوم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: (أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل يُجَامع أَهله ثمَّ بكسل، هَل عَلَيْهِ من غسل؟ وَعَائِشَة جالسة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لأَفْعَل ذَلِك أَنا وَهَذِه ثمَّ نغتسل) قَالُوا: فَهَذِهِ الْآثَار تخبر عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يغسل إِذا جَامع وَإِن لم ينزل.
وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى: هَذِه الْآثَار تخبر عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد يجوز أَن يفعل مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، يَعْنِي كَانَ يَفْعَله بطرِيق الِاسْتِحْبَاب لَا بطرِيق الْوُجُوب، فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بهَا، والْآثَار(3/248)
الأول تخبر عَمَّا يجب وَمَا لَا يجب فَهِيَ أولى.
وَأجَاب الْجُمْهُور عَن هَذِه أَن هَذِه الْآثَار على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: المَاء من المَاء، لَا غَيره فَهَذَا ابْن عَبَّاس قد روى عَنهُ أَنه قَالَ: مُرَاد رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن يكون هَذَا فِي الِاحْتِلَام، وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن حجر عَن شريك عَن أبي الْحجاب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّمَا المَاء من المَاء فِي الِاحْتِلَام، يَعْنِي إِذا رأى أَنه يُجَامع ثمَّ ينزل فَلَا غسل عَلَيْهِ، وَالنَّوْع الآخر: الَّذِي فِيهِ الْأَمر، وَأخْبر فِيهِ الْقِصَّة، وَأَنه: لَا غل فِي ذَلِك حَتَّى يكون المَاء، قد جَاءَ خلاف ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَهَذَا نَاسخ لتِلْك الْآثَار. فَإِن قتل: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على النّسخ لعدم التَّعَرُّض إِلَى شَيْء من التَّارِيخ. قلت: قد جَاءَ مَا يدل على النّسخ صَرِيحًا وَهُوَ مَا روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو يَعْنِي بن الحاري عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي بعض من أرضي: أَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ أخبرهُ أَن أبي بن كَعْب أخبرهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا جعل ذَلِك رخصَة للنَّاس فِي أول الْإِسْلَام لقلَّة الثَّبَات ثمَّ أمرنَا بِالْغسْلِ، وَنهى عَن ذَلِك) قَالَ أَبُو دَاوُد: يَعْنِي المَاء من المَاء، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَأخرج أَبُو دَاوُد أَيْضا حَدثنَا مُحَمَّد بن مهْرَان الرَّازِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُبشر الْحلَبِي عَن مُحَمَّد بن غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد. قَالَ: حَدثنِي أبي بن كَعْب أَن الْفتيا الَّتِي كَانُوا يفتون إِن المَاء من المَاء، كَانَت رخصَة رخصها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَدْء الْإِسْلَام ثمَّ أمرنَا بالاغتسال بعد، وَأخرجه ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، فَإِن قلت: فِي الحَدِيث الأول مَجْهُول وَهُوَ قَوْله: حَدثنِي بعض من أرضي. قلت: الظَّاهِر أَنه أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج لِأَن الْبَيْهَقِيّ روى هَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: روينَاهُ بِإِسْنَاد آخر مَوْصُول عَن أبي حَازِم عَن سهل ابْن سعد، والْحَدِيث مَحْفُوظ عَن سهل عَن أبي بن كَعْب كَمَا أخرجه أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (الأستذكار) إِنَّمَا رَوَاهُ ابْن شهَاب عَن أبي حَازِم، وَهُوَ حَدِيث صَحِيح ثَابت بِنَقْل الْعُدُول لَهُ وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن زيد بن أبي حبيب عَن معمر بن أبي حَيَّة، مولى ابْنة صَفْوَان، عَن عبيد بن رِفَاعَة بن رَافع عَن أَبِيه رِفَاعَة بن رَافع، قَالَ: (بَينا أَنا عِنْد عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذْ دخل عَلَيْهِ رجل فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا زيد بن ثَابت يُفْتِي النَّاس فِي الْمَسْجِد بِرَأْيهِ فِي الْغسْل من الْجَنَابَة، فَقَالَ عمر: عَليّ بِهِ، فجَاء زيد، فَلَمَّا رَآهُ عمر، قَالَ: أَي عَدو نَفسه، قد بلغت أَنَّك تُفْتِي النَّاس بِرَأْيِك! فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، بِاللَّه مَا فعلت، لكني سَمِعت من أعمامي حَدِيثا فَحدثت بِهِ، من أبي أَيُّوب، وَمن أبي بن كَعْب، وَمن رِفَاعَة بن رَافع، فاقبل عمر على رِفَاعَة بن رَافع فَقَالَ: وَقد كُنْتُم تَفْعَلُونَ ذَلِك؟ إِذا أصَاب أحدكُم من الْمَرْأَة فأكسل لم يغْتَسل؟ فَقَالَ: قد كُنَّا نَفْعل ذَلِك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يأتنا فِيهِ تَحْرِيم، وَلم يكن من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ نهي، قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم ذَلِك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي فَأمر عمر بِجمع الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، فَجمعُوا لَهُ فشاورهم، فَأَشَارَ النَّاس أَن لَا غسل فِي ذَلِك إلاَّ مَا كَانَ من معَاذ وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَالَا: الثَّالِث: إِذا لَا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا وَأَنْتُم أَصْحَاب بدر، وَقد اختلفتم فَمن بعدكم أَشد اخْتِلَافا قَالَ: فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه لَيْسَ أحد أعلم بِهَذَا مِمَّن سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَزوَاجه، فَأرْسل إِلَى حَفْصَة فَقَالَت: لَا علم لي بِهَذَا، فَأرْسل إِلَى عَائِشَة فَقَالَت: إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا أسمع بِرَجُل فعل ذَلِك، إِلَّا أوجعته ضربا) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِيهِ: لَا أعلم أحدا فعله ثمَّ لم يغْتَسل إِلَّا جعلته نكالاً وَلم يتقن الْكَلَام أحد فِي هَذَا الْبَاب مثل الإِمَام الْحَافِظ أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، فَإِن أَرَادَ أحد أَن يتقنه فَعَلَيهِ بكتابه (مَعَاني الْآثَار) وشرحنا الَّذِي عَمِلْنَاهُ عَلَيْهِ الْمُسَمّى (بمباني الْأَخْبَار) .
فَإِن قلت: ادّعى بَعضهم أَن أحد أَن التَّنْصِيص على الشَّيْء باسمه الْعلم يُوجب نفي لحكم عَمَّا عداهُ، لِأَن الْأَنْصَار فَهموا عدم وجوب الِاغْتِسَال بالأكسال من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (المَاء من المَاء) أَي: الِاغْتِسَال وَاجِب بالمني، فالماء الأول هُوَ المطهر. وَالثَّانِي هُوَ الْمَنِيّ، وَمن، للسبيبة، وَالْأَنْصَار كَانُوا من أهل اللِّسَان وفصحاء الْعَرَب وَقد فَهموا والتخصيص مِنْهُ حَتَّى استدلوا بِهِ على نفي وجوب الِاغْتِسَال بالإكسال لعد المَاء، وَلَو لم يكن التَّنْصِيص باسم المَاء مُوجبا للنَّفْي لما صَحَّ استدلالهم على ذَلِك. قلت: الَّذِي يَقُول بِهَذَا أَبُو بكر الدقاق وَبَعض الْحَنَابِلَة، وَالْجَوَاب أَن ذَلِك لَيْسَ من دلَالَة التَّنْصِيص على التَّخْصِيص، بل إنماهو من اللَّام الْمعرفَة الْمُوجبَة للاستغراق عِنْد عدم الْمَعْهُود، وَنحن نقُول:(3/249)
هَذَا الْكَلَام للاستغراق والانحصار، كَمَا فهمت الْأَنْصَار، لَكِن لما دلّ الدَّلِيل وهوالإجماع على وجوب الِاغْتِسَال من الْحيض وَالنّفاس أَيْضا نفي الانحصار فِيمَا وَرَاء ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بالمني، وَصَارَ الْمَعْنى جَمِيع الاغتسالات الْمُتَعَلّقَة بالمني منحصر فِيهِ لَا يثبت لغيره. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يجب الْغسْل بالإكسال لعد المَاء. قلت: المَاء فِيهِ ثَابت تَقْديرا لِأَنَّهُ تَارَة يثبت عيَانًا كَمَا فِي حَقِيقَة الْإِنْزَال وَمرَّة دلَالَة كَمَا فِي التقاء الختانين فَإِنَّهُ سَبَب لنزول المَاء فأقيم مقَامه لكَونه أمرا خفِيا كالنوم، فاقيم مقَام الْحَدث لتعذر الْوُقُوف عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْمَنْسُوخ يَنْبَغِي أَن يكون حكما شَرْعِيًّا، وَعدم وجوب الْغسْل عِنْد عدم الْإِنْزَال ثَابت بِالْأَصْلِ. قلت: عَدمه ثَابت بِالشَّرْعِ، إِذْ مَفْهُوم الْحصْر فِي، إِنَّمَا يدل عَلَيْهِ لِأَن معنى الْحصْر إِثْبَات الْمَذْكُور، وَنفي غير الْمَذْكُور، فيفي، أَنه لَا مَاء من غير المَاء وَقَالَ الْكرْمَانِي: ثمَّ الرَّاجِح من الْحَدِيثين يَعْنِي حَدِيث: (المَاء من المَاء) حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب حَدِيث التقاء الختانين، لِأَنَّهُ بالمنطوق يدل على وجوب الْغسْل، وَحَدِيث (المَاء من المَاء) بِالْمَفْهُومِ يدل على عَدمه، وَحجَّة الْمَفْهُوم مُخْتَلف فِيهَا وعَلى تَقْدِير ثُبُوتهَا الْمَنْطُوق أقوى من الْمَفْهُوم، وعَلى هَذَا التَّقْرِير لَا يحْتَاج إِلَى القَوْل بالنسخ. قلت: عدم دَعْوَى الِاحْتِيَاج إِلَى القَوْل بالنسخ غير صَحِيح، لِأَن المستنبطين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ مَا وفقوا بَين أَحَادِيث هَذَا الْبَاب المتضادة إلاَّ بِإِثْبَات النّسخ على مَا ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث الالتقاء مُطلق، وَحَدِيث: (المَاء من المَاء) مُقَيّد فَيجب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد. قلت: هَذَا سُؤال الْكرْمَانِي على مذْهبه، ثمَّ أجَاب: لَيْسَ ذَلِك مُطلقًا بل عَاما لِأَن الالتقاء وصف يَتَرَتَّب الحكم عَلَيْهِ، وَكلما وجد الْوَصْف وجد الحكم، وَهَذَا لَيْسَ مُقَيّدا بل خَاصّا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: بالالتقاء يجب الْغسْل. ثمَّ قَالَ: بالالتقاء مَعَ الْإِنْزَال يجب الْغسْل، فَيصير من بَاب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر) ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ودباغها طهرهَا) وإفراد فَرد من الْعَام بِحكم الْعَام لَيْسَ من المخصصات.
تابَعَهُ عَمْرُو بنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ
عَمْرو: بِالْوَاو وَهُوَ عَمْرو بن مَرْزُوق الْبَصْرِيّ، أَبُو عُثْمَان الْبَاهِلِيّ: يُقَال: مَوْلَاهُم وَصرح بِهِ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، روى عَن شُعْبَة وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَعمْرَان الْقطَّان والحمادين وَآخَرين، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي أول الدِّيات، وَفِي مَنَاقِب عَائِشَة، وَقَالَ: مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وروى عَنهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا وَذكره صَاحب (اسماء الرِّجَال) للْبُخَارِيّ، وَمُسلم فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذِه التَّرْجَمَة يَعْنِي، من تَرْجَمَة عمر بِالْوَاو، فَدلَّ على أَن مُسلما لم يرو عَنهُ وَلَا روى لَهُ شَيْئا، وَإِنَّمَا ذكر مِنْهُ هَذَا، لِأَن صَاحب (التَّلْوِيح) ذكر فِي شَرحه أَن رِوَايَة عمر بن مَرْزُوق هَذِه عِنْد مُسلم: عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة عَن وهب بن جرير وَابْن أبي عدي كِلَاهُمَا عَن عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة، وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) وَهُوَ من الْغَلَط الصَّرِيح، وَذكره فِي إِسْنَاد مُسلم حَشْو زَائِد بِلَا فَائِدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي هَذَا اللَّفْظ، يَعْنِي. قَوْله: (تَابعه عَمْرو عَن شُعْبَة) يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة أَو عَن شُعْبَة عَن الْحسن، فيختلف الضَّمِير فِي تَابعه بِحَسب الْمرجع قلت: لَا اخْتِلَاف للضمير فِيهِ، بل هُوَ رَاجع إِلَى هِشَام على كل حَال، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عُثْمَان بن أَحْمد بن السماك، فَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر الضَّبِّيّ حَدثنَا عَمْرو بن مَرْزُوق حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة إِلَى آخِره، نَحْو سِيَاق حَدِيث الْبَاب لَكِن فِي رِوَايَته: ثمَّ أجهدها، من بَاب الإجهاد قَوْله: (مثله) أَي: مثل حَدِيث الْبَاب.
وقالَ مُوسَى حدّثنا أبَانُ قَالَ حدّثنا قَتادَةُ أخبرنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ
مُوسَى: هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَأَبَان هُوَ ابْن يزِيد الْعَطَّار، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ.
وفيهذا الْإِسْنَاد التحديث فِي موضِعين أَحدهمَا: مُوسَى عَن أبان، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: هُوَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع. وَالْآخر: أبان عَن قَتَادَة. وَفِيه: الْإِخْبَار فِي مَوضِع وَاحِد، وَهُوَ قَتَادَة عَن الْحسن.
وَمن فَوَائِد هَذَا أَن فِيهِ التَّصْرِيح بتحديث الْحسن لِقَتَادَة، لِأَن فِي رِوَايَة حَدِيث الْبَاب قَتَادَة عَن الْحسن، وَقَتَادَة ثِقَة ثَبت لكنه مُدَلّس، وَإِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ لَا يبْقى كَلَام. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) رِوَايَة مُوسَى هَذِه عِنْد الْبَيْهَقِيّ أخرجهَا من طَرِيق عُثْمَان وَهِشَام، كِلَاهُمَا عَن مُوسَى عَن أبان وَتَبعهُ على ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) كِلَاهُمَا غَلطا وَلم يخرج الْبَيْهَقِيّ إلاَّ من طَرِيق عُثْمَان عَن همام وَأَبَان جَمِيعًا عَن قَتَادَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ: تَابعه عَمْرو، وَقَالَ(3/250)