مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَحْمُول على أَنه أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ، إِذْ لَا يعلم كل مَا يسْأَل عَنهُ من المغيبات إلاَّ بإعلام الله تَعَالَى. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر الحَدِيث أَن قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (سلوني) إِنَّمَا كَانَ غَضبا. قَوْله: (عَمَّا شِئْتُم) . وَفِي بعض النّسخ: (عَم شِئْتُم) . بِحَذْف الْألف. قلت: إِنَّه يجب حذف ألف: مَا، الاستفهامية إِذا جرَّت، وإبقاء الفتحة دَلِيلا عَلَيْهَا، نَحْو: فيمَ وإلام وعلام. وَعلة الْحَذف الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر، فَلهَذَا حذفت فِي نَحْو: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} (النازعات: 43) . {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} (النَّمْل: 35) . {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفّ: 2) وَثَبت فِي {لمسكم فِيمَا افضتم فِيهِ عَذَاب عَظِيم} (النُّور: 14) {يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك} (الْبَقَرَة: 4، النِّسَاء: 162) {مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} (ص: 75) . وكما لَا تحذف الْألف فِي الْخَبَر لَا تثبت فِي الِاسْتِفْهَام، وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى: {عَمَّا يتساءلون} (النبأ: 1) ، فنادرة. وَأما قَول حسان، رَضِي الله عَنهُ:
(علاما قَامَ يَشْتمنِي لئيم ... كخنزير تمرغ فِي رماد)
فضرورة. ويروى: فِي دمان، وَهُوَ كالرماد وزنا وَمعنى. قَوْله: (قَالَ رجل) هُوَ عبد اللَّه بن حذافة. وَقد تقدم تَعْرِيفه فِي: بَاب مَا يذكر من المناولة. قَوْله: (من أبي) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مقول القَوْل، وَكَذَلِكَ قَوْله: (أَبوك حذافة) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة المخففة. فَإِن قلت: لم سَأَلَهُ عَن ذَلِك؟ قلت: لِأَنَّهُ كَانَ ينْسب إِلَى غير أَبِيه إِذا لاحى أحدا، فنسبه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَبِيه. فَإِن قلت: من أَيْن عرف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه ابْنه؟ قلت: إِمَّا بِالْوَحْي، وَهُوَ الظَّاهِر، أَو بِحكم الفراسة، أَو بِالْقِيَاسِ، أَو بالاستلحاق. قَوْله: (فَقَامَ إِلَيْهِ) أَي إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (آخر) أَي: رجل آخر. قَوْله: (أَبوك سَالم) مُبْتَدأ وَخبر مقول القَوْل. قَوْله: (مَا فِي وَجهه) أَي: من أثر الْغَضَب. وَمَا، مَوْصُولَة، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول: رأى، وَهُوَ من الرُّؤْيَة بِمَعْنى الإبصار، وَلِهَذَا اقْتصر على مفعول وَاحِد. قَوْله: (قَالَ: يَا رَسُول الله) جَوَاب: لما. قَوْله: (إِنَّا نتوب إِلَى الله) جملَة وَقعت مقول القَوْل، أَي: نتوب من الأسئلة الْمَكْرُوهَة مِمَّا لَا يرضاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عمر، رَضِي الله عَنهُ، لِأَنَّهُ لما رأى حرصهم، وَقدر مَا علمه الله، خشِي أَن يكون ذَلِك كالتعنت لَهُ وَالشَّكّ فِي أمره، فَقَالَ: إِنَّا نتوب إِلَى الله.
وَفِي الحَدِيث: فهمُ عمر وفضلُ علمه، فَإِن الْعَالم لَا يسْأَل إلاَّ فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَفِيه كَرَاهَة لسؤال للتعنت، وَفِيه معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
29 - (بابُ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبتَيْهِ عِنْدَ الإِمامِ أَو المُحِدِّثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من برك، بتَخْفِيف الرَّاء، يُقَال: برك الْبَعِير بروكاً، أَي استناخ، وكل شَيْء ثَبت وَأقَام فقد برك. قَالَ الصغاني: وبرك بروكاً اجْتهد، والتركيب يدل على ثبات الشَّيْء، ثمَّ يتَفَرَّع فروع يُقَارب بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِسْنَاده إِلَى الْإِنْسَان على طَريقَة الْمجَاز الْمُسَمّى بِغَيْر الْمُقَيد، وَهُوَ أَن تكون الْكَلِمَة مَوْضُوعَة لحقيقة من الْحَقَائِق مَعَ قيد، فيستعملها لتِلْك الْحَقِيقَة لَا مَعَ ذَلِك الْقَيْد بمعونة الْقَرِينَة، مثل أَن يسْتَعْمل المشفر وَهُوَ لشفة الْبَعِير لمُطلق الشّفة. فَيَقُول: زيد غليظ المشفر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول غضب الْعَالم على السَّائِل لعدم جريه على مُوجب الْأَدَب، وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر أدب المتعلم عِنْد الْعَالم، فتناسبا من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
93 - حدّثنا أبُو اليَمان قالَ: أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبْرني أنَسُ بنُ مالِكٍ أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ، فقامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أبي؟ فَقَالَ: (أبوكَ حُذَافَةُ) ثُمَّ أكْثَرَ أنْ يَقُولَ: (سَلُونِي) فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رضِينَا بِاللَّه ربًّا وبالإِسْلامِ دِيناً وبمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَبِيًّا، فَسَكَتَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله أَرْبَعَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْعلم، وَفِي الصَّلَاة، وَفِي الِاعْتِصَام عَن أبي الْيَمَان عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن الدَّارِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
قَوْله: (فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّه) مَعْنَاهُ: رَضِينَا بِمَا عندنَا من كتاب الله وَسنة نَبينَا، واكتفينا بِهِ عَن السُّؤَال أبلغ كِفَايَة. وَقَوله هَذِه الْمقَالة إِنَّمَا كَانَ أدباً وإكراماً لرَسُول الله(2/114)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشفقة على الْمُسلمين لِئَلَّا يؤذوا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فيدخلوا تَحت قَوْله: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاعد لَهُم عذَابا مهيناً} (الْأَحْزَاب: 57) . وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: كَانَ قوم يسْأَلُون رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، استهزاء فَيَقُول الرجل: من أبي؟ وَيَقُول الرجل تضل نَاقَته: أَيْن نَاقَتي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة. فَإِن قلت: بِمَاذَا نصب: رَبًّا وديناً وَنَبِيًّا؟ قلت: على التَّمْيِيز، وَهُوَ، وَإِن كَانَ الأَصْل أَن يكون فِي الْمَعْنى فَاعِلا، يجوز أَن يكون مَفْعُولا أَيْضا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفجرنا الأَرْض عيُونا} (الْقَمَر: 12) وَيجوز أَن يكون نصبها على المفعولية، لِأَن: رَضِي إِذا عدي بِالْبَاء يتَعَدَّى إِلَى مفعول آخر، وَالْمرَاد من الدّين هَهُنَا التَّوْحِيد، وَبِه فسر الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا} (آل عمرَان: 85) يَعْنِي التَّوْحِيد، وَأما فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم إِذْ طلع علينا رجل) الحَدِيث، فقد أطلق رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الدّين على الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان. بقوله: (إِنَّه جِبْرِيل أَتَاكُم يعلمكم دينكُمْ) . وَإِنَّمَا علمهمْ هَذِه الثَّلَاثَة، وَالْحَاصِل أَن الدّين تَارَة يُطلق على الثَّلَاثَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَتارَة يُطلق على الْإِسْلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} (الْمَائِدَة: 3) وَهَذَا يمْنَع قَول من يَقُول: بَين الْآيَة والْحَدِيث مُعَارضَة حَيْثُ أطلق الدّين فِي الحَدِيث على ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَفِي الْآيَة على شَيْء وَاحِد. وَاخْتِلَاف الْإِطْلَاق إِمَّا بالاشتراك أَو بِالْحَقِيقَةِ أَو الْمجَاز أَو بالتواطىء، فَفِي الحَدِيث أطلق على مَجْمُوع الثَّلَاثَة وَهُوَ أحد مدلوليه، وَفِي الْآيَة أطلق على الْإِسْلَام وَحده، وَهُوَ مُسَمَّاهُ الآخر. فَإِن قلت: لم قَالَ. بِالْإِسْلَامِ، وَلم يقل: بِالْإِيمَان؟ قلت: الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَاحِد، فَلَا يرد السُّؤَال. قَوْله: (فَسكت) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي بعض النّسخ وجد قبل لَفْظَة ثَلَاثًا أَي: قَالَه ثَلَاث مَرَّات. وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فسكن غَضَبه) مَوضِع (فَسكت) . وَكَانَ ذَلِك من أثر مَا قَالَه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم يزل موفقاً فِي رَأْيه ينْطق الْحق على لِسَانه، رَضِي الله عَنهُ، وَالله أعلم.
30 - (بَاب مَنْ أعادَ الحَدِيثَ ثَلاثاً لِيُفْهَمَ عَنْهُ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من أعَاد كَلَامه فِي أُمُور الدّين ثَلَاث مَرَّات لأجل أَن يفهم عَنهُ، وَفِي بعض النّسخ: ليفهم، بِكَسْر الْهَاء بِدُونِ لَفْظَة: عَنهُ. أَي: ليفهم غَيره. قَالَ الْخطابِيّ: إِعَادَة الْكَلَام ثَلَاثًا إِمَّا لِأَن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه عَن وعيه فيكرره ليفهم، وَإِمَّا أَن يكون القَوْل فِيهِ بعض الْإِشْكَال فيتظاهر بِالْبَيَانِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: أَو أَرَادَ الإبلاغ فِي التَّعْلِيم والزجر فِي الموعظة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول يرجع إِلَى شَأْن السَّائِل المتعلم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي شَأْن المتعلم، لِأَن إِعَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات إِنَّمَا كَانَت لأجل المتعلمين والسائلين ليفهموا كَلَامه حق الْفَهم، وَلَا يفوت عَنْهُم شَيْء من كَلَامه الْكَرِيم.
فَقَالَ: ألاَ وقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكرِّرُها
هَذِه قِطْعَة من حَدِيث ذكرهَا على سَبِيل التَّعْلِيق، وَذكره فِي كتاب الشَّهَادَات مَوْصُولا بِتَمَامِهِ، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَلا انبئكم بأكبر الْكَبَائِر؟ ثَلَاثًا، قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله. قَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَجلسَ وَكَانَ مُتكئا، فَقَالَ: أَلا وَقَول الزُّور، فَمَا زَالَ يكررها حَتَّى قُلْنَا: ليته سكت) . قَوْله: (أَلا) مخفف حرف التَّنْبِيه، ذكر ليدل على تَحْقِيق مَا بعده وتأكيده. قَوْله: (وَقَول الزُّور) فِي الحَدِيث مَرْفُوع عطفا على قَوْله: (الْإِشْرَاك بِاللَّه) فههنا أَيْضا مَرْفُوع لِأَنَّهُ حِكَايَة عَنهُ، و: الزُّور، بِضَم الزَّاي: الْكَذِب والميل عَن الْحق، وَالْمرَاد مِنْهُ الشَّهَادَة، فَلذَلِك أنث الضَّمِير فِي قَوْله: يكررها، وأنثه بِاعْتِبَار الْجُمْلَة، أَو بِاعْتِبَار الثَّلَاثَة. وَمعنى قَوْله: (فَمَا زَالَ يكررها) أَي: مَا دَامَ فِي مَجْلِسه لَا مُدَّة عمره.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثاً
هَذَا أَيْضا، تَعْلِيق وَصله فِي خطْبَة الْوَدَاع عَن عبد اللَّه بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع: (أَلا أَي شهر تعلمونه أعظم حُرْمَة؟ قَالُوا: أَلا شهرنا هَذَا. قَالَ: أَلا أَي بلد تعلمونه أعظم حُرْمَة؟ قَالُوا: أَلا بلدنا هَذَا. قَالَ: أَلا أَي يَوْم تعلمونه أعظم حُرْمَة؟ قَالُوا: أَلا يَوْمنَا هَذَا. قَالَ: فَإِن الله تبَارك وَتَعَالَى حرم عَلَيْكُم دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي بلدكم هَذَا. فِي شهركم هَذَا أَلا هَل بلغت؟ ثَلَاثًا. كل ذَلِك يجيبونه: أَلا نعم. قَالَ: وَيحكم أَو: وَيْلكُمْ لَا ترجعن بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض) . قَوْله: (ثَلَاثًا) . يتَعَلَّق بقوله: (قَالَ) . لَا بقوله: (بلغت) . وَالْمعْنَى: قَالَ: هَل بلغت؟ ثَلَاث مَرَّات.(2/115)
94 - حدّثنا عَبْدَةُ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ المُثَنَّى قَالَ: حدّثنا ثُمامَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ عنْ أَنسٍ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ إذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثاً وإذَا تَكَلَّمَ بكلِمَةٍ أعادَها ثَلَاثًا. [/ نه
95 - حدّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ حدّثنا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ المُثَنَّى قَالَ: حدّثنا ثُمَامَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ عنْ أنسٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعادَها ثَلاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وإذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهْم سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثاً.
(انْظُر الحَدِيث: 94 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَبدة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد اللَّه بن عَبدة الصفار الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ، أَبُو سهل، أَصله كُوفِي، روى عَنهُ الْجَمَاعَة إلاَّ مُسلما. قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، توفّي سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. وَفِي الْكتب السِّتَّة: عَبدة، ثَلَاثَة أخر: عَبدة بن سُلَيْمَان الْمروزِي روى لَهُ أَبُو دَاوُد. وَعَبدَة ابْن عبد الرَّحْمَن الْمروزِي روى لَهُ النَّسَائِيّ. وَعَبدَة بن أبي لبَابَة روى لَهُ خَلاد. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التَّمِيمِي الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ، أَبُو سهل الْحَافِظ الْحجَّة، مَاتَ سنة سبع وَمِائَتَيْنِ. وَفِي الْكتب السِّتَّة: عبد الصَّمد، ثَلَاثَة هَذَا أحدهم. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن حبيب العوذي، أخرج لَهُ أَبُو دَاوُد وَفِيه لين. الثَّالِث: عبد الصَّمد بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْحَافِظ، روى عِنْد التِّرْمِذِيّ. الثَّالِث: عبد اللَّه بن الْمثنى بن عبد اللَّه بن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَالِد مُحَمَّد القَاضِي بِالْبَصْرَةِ، روى عَن عمومته وَالْحسن، وَعنهُ ابْنه وَغَيره. قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: صَالح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أخرج حَدِيثه. روى لَهُ البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين: ابْن عبد اللَّه بن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ الْبَصْرِيّ، قاضيها. روى عَن جده والبراء، وَعنهُ عبد اللَّه ابْن الْمثنى وَمعمر وعدة، وَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ ابْن عدي: ارجو أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَأَشَارَ ابْن معِين إِلَى تَضْعِيفه. وَقيل: إِنَّه لم يحمد فِي الْقَضَاء. وَذكر حَدِيث الصَّدقَات لِابْنِ معِين فَقَالَ: لَا يَصح، يرويهِ ثُمَامَة عَن أنس وَهُوَ فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) كَمَا سَيَأْتِي، وَانْفَرَدَ بِحَدِيث: كَانَ قيس بِمَنْزِلَة صَاحب الشرطة من الْأَمِير، وَهُوَ فِي البُخَارِيّ أَيْضا كَمَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وروى حَمَّاد عَنهُ عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على صبي فَقَالَ: لَو نجى أحد من ضمة الْقَبْر لنجى هَذَا الصَّبِي، وَهَذَا مُنكر، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة ثُمَامَة بن عبد اللَّه غير هَذَا، فَافْهَم. وَفِيهِمْ ثُمَامَة سِتَّة عشر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من هُوَ مُنْفَرد فِي البُخَارِيّ لَيْسَ غَيره. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور عَن عبد الصَّمد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور أَيْضا، وَفِي المناقب عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن سَالم بن قُتَيْبَة عَن عبد اللَّه بن الْمثنى بِبَعْضِه: كَانَ يُعِيد الْكَلِمَة ثَلَاثًا لتعقل عَنهُ، وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث عبد اللَّه بن الْمثنى.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (كَانَ) قَالَ الأصوليون: مثل هَذَا التَّرْكِيب يشْعر بالاستمرار. قلت: لِأَن: كَانَ، تدل على الثُّبُوت والدوام بِخِلَاف: صَار، فَإِنَّهُ يدل على الِانْتِقَال. فَلهَذَا يجوز أَن يُقَال: كَانَ الله، وَلَا يجوز: صَار الله. وَاسم: كَانَ، مستتر فِيهِ، وَالْجُمْلَة الَّتِي بعده خَبره. قَوْله: (بِكَلِمَة) أَي: بِكَلَام هَذَا من بَاب إِطْلَاق اسْم الْبَعْض على الْكل، كَمَا فِي قَوْله: إِن أصدق كلمة قَالَهَا شَاعِر قَول لبيد:
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل)
قَوْله: (أَعَادَهَا) خبر: إِذا. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (حَتَّى تفهم مِنْهُ) أَي: حَتَّى تعقل مِنْهُ، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، و: حَتَّى، هُنَا مرادفة: لكَي، التعليلية وَقد ذكرنَا عَن قريب وَجه الْإِعَادَة والتكرار. قَوْله: (فَسلم) لَيْسَ جَوَاب: إِذا، وَإِنَّمَا هُوَ عطف على قَوْله: (أَتَى) من تَتِمَّة الشَّرْط، وَالْجَوَاب هُوَ قَوْله: (سلم) وَوجه الثَّلَاث فِي التَّسْلِيم يشبه أَن يكون عِنْد الاسْتِئْذَان، وَقد رُوِيَ عَن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَهُ وَهُوَ فِي بَيته، فَسلم فَلم يجبهُ، ثمَّ سلم ثَانِيًا ثمَّ سلم ثَالِثا، فَانْصَرف. فَخرج سعد فَتَبِعَهُ وَقَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي تسليمك، وَلَكِن أردْت أَن استكثر من بركَة تسليمك) . وَفِيه نظر، لِأَن تَسْلِيمَة الاسْتِئْذَان لَا تثنى إِذا حصل الْإِذْن بِالْأولَى وَلَا تثلث إِذا حصل بِالثَّانِيَةِ. ثمَّ إِنَّه ذكره بِحرف إِذا الْمُقْتَضِيَة لتكرار الْفِعْل كرة بعد أُخْرَى وتسليمه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،(2/116)
على بَاب سعد نَادِر، وَلم يذكر عَنهُ فِي غير هَذَا الحَدِيث. وَالْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال مَعْنَاهُ: كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا أَتَى على قوم سلم عَلَيْهِم تَسْلِيمَة الاسْتِئْذَان، وَإِذا دخل سلم تَسْلِيمَة التَّحِيَّة، ثمَّ إِذا قَامَ من الْمجْلس سلم تَسْلِيمَة الْوَدَاع. وَهَذِه التسليمات كلهَا مسنونة. وَكَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يواظب عَلَيْهَا وَلَا يزِيد عَلَيْهَا فِي هَذِه السّنة على الْأَقْسَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حرف: إِذا، لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْفِعْل إِنَّمَا الْمُقْتَضى لَهُ من الْحُرُوف: كلما، فَقَط. نعم التَّرْكِيب مُفِيد للاستمرار، ثمَّ مَا قَالَ هُوَ أَمر نَادِر لم يذكر فِي غَيره مَمْنُوع، وَكَيف وَقد صَحَّ حَدِيث: (إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع) ؟ قلت: نعم: إِذا لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْفِعْل، وَلَكِن من اقتضائه الثَّبَات والدوام، وَيصدق عَلَيْهِ التّكْرَار. وَقَوله: (إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا) أَعم من أَن يكون بِالسَّلَامِ وَغَيره.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن الثَّلَاث غَايَة مَا يَقع بِهِ الْبَيَان والأعذار. قلت: اخْتلف فِيمَا إِذا ظن أَنه لم يسمع هَل يزِيد على الثَّلَاث؟ فَقيل: لَا يزِيد أخذا بِظَاهِر الحَدِيث. وَقيل: يزِيد. وَالسّنة أَن يسلم ثَلَاثًا، فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم، أَدخل.
96 - حدّثنا مُسَدَّدُ قَالَ: حدّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبي بِشْرٍ عنْ يُوسُفَ بنِ ماهِكٍ عنْ عَبْدِ اللَّه بنِ عَمْرٍ وَقال: تخَلَّفَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ سافَرْناهُ فادْرَكَنَا وقَدْ أَرْهقنا الصَّلاةُ، صلاةَ العَصْرِ، ونَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنا نَمْسَحُ عَلى أرْجُلْنا، فَنادَى بأعْلَى صَوْتِهِ: (وَيْلٌ لْلأعْقابِ مِنَ النارِ) مَرَّتَيْنِ أَو ثَلاثاً.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي: بَاب من رفع صَوته بِالْعلمِ، غير أَنه أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة، وَهنا عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة، واسْمه: الوضاح، وَأَبُو بشر اسْمه: جَعْفَر بن إِيَاس. وَالِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن فِي موضِعين: احدهما: قَوْله: (فِي سفر سافرناه) ، وَهُنَاكَ: (فِي سفرة سافرناها) وَالْآخر: قَوْله: (صَلَاة الْعَصْر) : لَيْسَ بمذكور هُنَاكَ. قَوْله: (فَأَدْرَكنَا) ، بِفَتْح الرَّاء أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أدركنا، وَالْحَال أَن صَلَاة الْعَصْر قد أدركتنا. قَوْله: (ارهقنا الصَّلَاة) بِوَجْهَيْنِ. أَحدهمَا: بِسُكُون الْقَاف، وَنصب الصَّلَاة على المفعولية. وَالْآخر: بتحريك الْقَاف وَرفع الصَّلَاة على الفاعلية. وَقَوله: (صَلَاة الْعَصْر) بِالرَّفْع وَالنّصب بدل من الصَّلَاة، أَو بَيَان. وَالْوَاو فِي: وَنحن، أَيْضا للْحَال. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
31 - (بَاب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أمَتَهُ وأهْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَعْلِيم الرجل جَارِيَته وَأهل بَيته. الْأمة: أَصله: أموة بِالتَّحْرِيكِ لِأَنَّهُ يجمع على آم، وَهُوَ أفعل، مثل نَاقَة وأنيق، وَلَا يجمع فعلة بالتسكين على ذَلِك، وَيجمع على إِمَاء أَيْضا. وَيُقَال: أَمُوت أموة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أموى بِالْفَتْح، وتصغيرها: أُميَّة، وَهُوَ اسْم قَبيلَة أَيْضا، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أموى أَيْضا بِالْفَتْح، وَرُبمَا تضم. وَالْفرق بَين الجمعين أَن الأول جمع قلَّة، وَالثَّانِي جمع كَثْرَة. وأصل آم: أءمؤ، على وزن أفعل، كأكلب، فأبدل من ضمة الْوَاو يَاء فَصَارَ: اءمى، ثمَّ أعل إعلال قاضٍ، فَصَارَ: اءم، ثمَّ قلبت الْهمزَة الثَّانِيَة الْفَا فَصَارَ: آم، وأصل إِمَاء: إماو، كعقاب، فابدلت الْوَاو همزَة لوقوعها طرفا بعد ألف زَائِدَة، وَيجمع أَيْضا على: إموان، مثل إخْوَان. قَالَ الشَّاعِر.
(إِذا ترامى بَنو الإموان بالعار)
فَإِن قلت: الْأمة من أهل الْبَيْت فَكيف عطف عَلَيْهِ الْأَهْل؟ قلت: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ التَّعْلِيم الْعَام، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، فتناسبا من هَذِه الْجِهَة.
97 - حدّثنا مُحَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلاَمٍ حدّثنا المُحَارِبِيُّ قَالَ: حدّثنا صالِحُ بنُ حَيَّانَ قالَ: قالَ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حدّثني أبُو بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلاَثُةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنِ، بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ(2/117)
إذَا أدَّى حَقَّ الله تَعَالَى وَحق مَوالِيهِ، وَرَجُلٌ كانَتْ عِنْدَهُ أمَةٌ فأدَّبَها فأحسَنَ تَأدِيبهَا وعَلَّمَها فأحْسَنَ تَعْلِيمَها ثمَّ أعْتَقها فَتَزَوَّجَها فَلهُ أَجْرَانِ) ثمَّ قالَ عامِرُ: اعْطَيناكَهَا بَغْيرِ شَيْءٍ قَدْ كانَ يَرْكَبُ فِيما دُونَها إلَى المَدِينَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي الْأمة فَقَط بِحَسب الظَّاهِر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على تَعْلِيم الْأَهْل، وَأما ذكر الْأَهْل فَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْقيَاس على الْأمة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، والاعتناء بتعليم الْحَرَائِر الْأَهْل من الْأُمُور الدِّينِيَّة أَشد من الْإِمَاء. وَالْآخر: أَن يكون قد أَرَادَ أَن يضع فِيهِ حَدِيثا يدل عَلَيْهِ فَمَا اتّفق لَهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام على الْأَصَح، وَقد تقدم. الثَّانِي: الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبالراء الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف مُشَدّدَة: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن زِيَاد الْكُوفِي. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق إِذا حدث عَن الثِّقَات، ويروي عَن المجهولين أَحَادِيث مُنكرَة فَيفْسد حَدِيثه بروايته عَنْهُم، مَاتَ سنة خَمْسَة وَتِسْعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: صَالح بن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم جد أَبِيه نسب إِلَيْهِ وَهُوَ صَالح بن صَالح بن مُسلم بن حَيَّان، ولقبه: حَيّ، وَهُوَ أشهر بِهِ من اسْمه، وَفِي طبقته آخر كُوفِي أَيْضا يُقَال لَهُ: صَالح بن حَيَّان الْقرشِي، لكنه ضَعِيف وَهَذَا ثِقَة مَشْهُور، وَقد طعن من لَا خبْرَة لَهُ فِي البُخَارِيّ أَنه أخرج الصَّالح بن حَيَّان وظنه صَالح بن حَيَّان الْقرشِي، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أخرج الصَّالح بن حَيَّان الَّذِي يلقب أَبوهُ بالحي، وَهَذَا الحَدِيث مَعْرُوف بروايته عَن الشّعبِيّ دون رِوَايَة الْقرشِي عَنهُ، وَقد أخرج البُخَارِيّ من حَدِيثه من طرق، مِنْهَا فِي الْجِهَاد من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا صَالح ابْن حَيّ، قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ وَصَالح ابْن حَيّ الْهَمدَانِي الْكُوفِي الثَّوْريّ، ثَوْر هَمدَان، وَهُوَ ثَوْر بن مَالك بن مُعَاوِيَة بن دومان بن بكيل بن جشم بن حَيَوَان بن نوف بن هَمدَان، وَهُوَ وَالِد الْحسن وَعلي، قَالَ الكلاباذي: مَاتَ هُوَ وَابْنه عَليّ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَابْنه الْحسن سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو بردة عَامر الْأَشْعَرِيّ الْكُوفِي قاضيها. السَّادِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا ابْن سَلام. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام) . وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (حَدثنَا مُحَمَّد) فَحسب، وَاعْتَمدهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) فَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد، قيل: هُوَ ابْن سَلام. قَوْله: (أَنبأَنَا الْمحَاربي) ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (حَدثنَا الْمحَاربي) ، وَلَيْسَ عِنْد البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر فِي الْعِيدَيْنِ. قَوْله: (قَالَ عَامر) تَقْدِيره: قَالَ صَالح: قَالَ عَامر. وعادتهم حذف قَالَ إِذا تَكَرَّرت خطا لَا نطقاً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد اللَّه بن الْمُبَارك، وَفِي النِّكَاح عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، ثَلَاثَتهمْ عَن صَالح بن حَيَّان. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن عبيد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة، أربعتهم عَن صَالح بن حَيَّان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن ابْن أبي عمر بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن عَليّ بن مسْهر عَن الْفضل بن يزِيد عَنهُ، وَقَالَ: حسن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم عَن يحيى بن أبي زَائِدَة عَن صَالح بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن أبي زبيد عشير ابْن الْقَاسِم عَن مطرف عَن عَامر بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن عَبدة بن سُلَيْمَان بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ثَلَاثَة) مُبْتَدأ تَقْدِيره: ثَلَاثَة رجال أَو رجال ثَلَاثَة. وَقَوله: (لَهُم أَجْرَانِ) مُبْتَدأ وَخبر، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول. قَوْله: (رجل) قَالَ الْكرْمَانِي: بدل من ثَلَاثَة أَو الْجُمْلَة صفته، و: رجل، وَمَا عطف عَلَيْهِ خَبره. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: إِذا كَانَ بَدَلا أهوَ بدل الْبَعْض أَو بدل الْكل؟ قلت: بِالنّظرِ إِلَى كل رجل بدل الْبَعْض، وبالنظر إِلَى الْمَجْمُوع بدل الْكل.(2/118)
قلت: الأولى أَن يُقَال: رجل، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أَو لَهُم، أَو: الأول رجل من أهل الْكتاب. وَقَوله: (من أهل الْكتاب) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لرجل. قَوْله: (آمن) ، حَال بِتَقْدِير: قد. و (آمن) ، الثَّانِي، عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَالْعَبْد) ، عطف على قَوْله: رجل، قَوْله: (حق الله) كَلَام إضافي مفعول. (أدّى) و: (حق موَالِيه) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَرجل) ، عطف على: رجل، الأول. قَوْله: (كَانَت عِنْده أمة) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لرجل، وارتفاع أمة لكَونهَا اسْم: كَانَت. قَوْله: (يَطَؤُهَا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة، أمة. قَوْله: (فأدبها) عطف على: يَطَؤُهَا. قَوْله: (فَأحْسن تأديبها) عطف على: فأدبها، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها ثمَّ اعتقها فَتَزَوجهَا) بَعْضهَا مَعْطُوف على بعض، وَإِنَّمَا عطف الْجَمِيع بِالْفَاءِ مَا خلا: (ثمَّ اعتقها) ، فَإِنَّهُ عطفه: بثم، وَذَلِكَ لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يتعقبان على الْوَطْء، بل لَا بُد مِنْهُمَا فِي نفس الْوَطْء بل قبله أَيْضا لوجوبهما على السَّيِّد بعد التَّمَلُّك، بِخِلَاف الْإِعْتَاق. أَو لِأَن الْإِعْتَاق نقل من صنف من أَصْنَاف الأناسي إِلَى صنف آخر مِنْهَا، وَلَا يخفى مَا بَين الصِّنْفَيْنِ: الْمُنْتَقل مِنْهُ، والمنتقل إِلَيْهِ من الْبعد، بل من الضدية فِي الْأَحْكَام والمنافاة فِي الْأَحْوَال، فَنَاسَبَ لفظ دَال على التَّرَاخِي بِخِلَاف التَّأْدِيب. قَوْله: (فَلهُ اجران) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الضَّمِير يرجع إِلَى الرجل الثَّالِث، وَيحْتَمل أَن يرجع إِلَى كل من الثَّلَاث. قلت: بل يرجع إِلَى الرجل الْأَخير، وَإِنَّمَا لم يقْتَصر على قَوْله أَولا: لَهُم أَجْرَانِ، مَعَ كَونه دَاخِلا فِي الثَّلَاثَة بِحكم الْعَطف، لِأَن الْجِهَة كَانَت فِيهِ مُتعَدِّدَة، وَهِي التَّأْدِيب والتعليم وَالْعِتْق والتزوج، وَكَانَت مَظَنَّة أَن يسْتَحق الْأجر أَكثر من ذَلِك، فَأَعَادَ قَوْله: (فَلهُ أَجْرَانِ) ، إِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر من الْجِهَات أَمْرَانِ. فَإِن قلت: لِمَ لِمْ يعْتَبر إلاَّ اثْنَتَانِ وَلم يعْتَبر الْكل؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يوجبان الْأجر فِي الْأَجْنَبِيّ وَالْأَوْلَاد وَجَمِيع النَّاس فَلم يكن مُخْتَصًّا بالإماء، فَلم يبْق الِاعْتِبَار إلاَّ فِي الْجِهَتَيْنِ، وهما: الْعتْق والتزوج. فَإِن قلت: إِذا كَانَ الْمُعْتَبر أَمريْن، فَمَا فَائِدَة ذكر الْأَمريْنِ الآخرين؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم أكمل لِلْأجرِ، إِذْ تزوج الْمَرْأَة المؤدبة المعلمة أَكثر بركَة وَأقرب إِلَى أَن تعين زَوجهَا على دينه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: يَنْبَغِي أَن يكون لهَذَا الْأَخير أجور أَرْبَعَة: أجر التَّأْدِيب والتعليم وَالْإِعْتَاق والتزوج، بل سَبْعَة. قلت: الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الصُّورَة واخواتها الْجمع بَين الْأَمريْنِ اللَّذين هما كالمتنافيين، فَلهَذَا لم يعْتَبر فِيهَا إلاَّ الْأجر الَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي للرقية، وَالَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي للحرية، وَلِهَذَا ميز بَينهمَا بِلَفْظ: ثمَّ، دون غَيرهمَا. قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن فِي قَوْله: هما كالمتنافيين، نظر لَا يخفى.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (من أهل الْكتاب) اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هم الَّذين بقوا على مَا بعث بِهِ نَبِيّهم من غير تَبْدِيل وَلَا تَحْرِيف، فَمن بَقِي على ذَلِك حَتَّى بعث نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَآمن بِهِ فَلهُ الْأجر مرَّتَيْنِ، وَمن بدل مِنْهُم أَو حرف لم يبْق لَهُ أجر فِي دينه فَلَيْسَ لَهُ أجر إلاَّ بإيمانه بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل إجراؤه على عُمُومه إِذْ لَا يبعد أَن يكون طريان الْإِيمَان بِهِ سَببا لإعطاء الْأجر مرَّتَيْنِ: مرّة على أَعْمَالهم الْخَيْر الَّذِي فَعَلُوهُ فِي ذَلِك الدّين، وَإِن كَانُوا مبدلين محرفين. فَإِنَّهُ قد جَاءَ أَن مبرات الْكفَّار وحسناتهم مَقْبُولَة بعد الْإِسْلَام. وَمرَّة على الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بِهِ هُنَا أهل الْإِنْجِيل خَاصَّة إِن قُلْنَا: إِن النَّصْرَانِيَّة ناسخة لِلْيَهُودِيَّةِ. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى اشْتِرَاط النّسخ لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ قد أرسل إِلَى بني إِسْرَائِيل بِلَا خلاف، فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم نسب إِلَيْهِ وَمن كذبه مِنْهُم وَاسْتمرّ على يَهُودِيَّته لم يكن مُؤمنا، فَلَا يتَنَاوَلهُ الْخَيْر، لِأَن شَرطه أَن يكون مُؤمنا بِنَبِيِّهِ. وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الْألف وَاللَّام فِي: الْكتاب، للْعهد، إِمَّا من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَإِمَّا من الْإِنْجِيل. قَالَ الله عز وَجل: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} (الْقَصَص: 52) إِلَى وَقَوله: {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} (الْقَصَص: 54) فالآية مُوَافقَة لهَذَا الحَدِيث، وَهِي نزلت فِي طَائِفَة آمنُوا مِنْهُم: كَعبد اللَّه بن سَلام وَغَيره. وَفِي الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث رِفَاعَة الْقرظِيّ، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فيّ وَفِي من آمن معي، وروى الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ بن رِفَاعَة الْقرظِيّ، قَالَ: خرج عشرَة من أهل الْكتاب مِنْهُم أَبُو رِفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فآمنوا بِهِ فأوذوا فَنزلت: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ} (الْقَصَص: 52) الْآيَات، فَهَؤُلَاءِ من بني إِسْرَائِيل، وَلم يُؤمنُوا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل استمروا على الْيَهُودِيَّة إِلَى أَن آمنُوا بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ثَبت أَنهم يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال فِي حق هَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُم لم تبلغهم دَعْوَة عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهَا لم تنشر فِي أَكثر الْبِلَاد، فاستمروا على يهوديتهم مُؤمنين بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام فآمنوا بِمُحَمد،(2/119)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي (شرح ابْن التِّين) أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي كَعْب الْأَحْبَار وَعبد اللَّه ابْن سَلام. قلت: عبد اللَّه بن سَلام صَوَاب، وَقَوله: كَعْب الْأَحْبَار خطأ، لِأَن كَعْبًا لَيست لَهُ صُحْبَة وَلم يسلم إلاَّ فِي زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْكِتَابِيّ الَّذِي يُضَاعف أجره هُوَ الَّذِي كَانَ على الْحق فِي فعله عقدا وفعلاً إِلَى أَن آمن بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيؤجر على اتِّبَاع الْحق الأول وَالثَّانِي، وَفِيه نظر، لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب إِلَى هِرقل: (أسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ) ، وهرقل كَانَ مِمَّن دخل فِي النَّصْرَانِيَّة بعد التبديل. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك الْبونِي وَغَيره: إِن الحَدِيث لَا يتَنَاوَل الْيَهُود أَلْبَتَّة، وَفِيه نظر أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه يحْتَمل أَن يتَنَاوَل سَائِر الْأُمَم فِيمَا فَعَلُوهُ من خير، كَمَا فِي حَدِيث حَكِيم بن حزَام: (أسلمت على مَا أسلفت من خير) . وَفِيه نظر، لِأَن الحَدِيث مُقَيّد بِأَهْل الْكتاب فَلَا يتَنَاوَل غَيرهم.
وَأَيْضًا فَقَوله: (آمن بِنَبِيِّهِ) إِشْعَار بعلية الْأجر، أَي أَن سَبَب الأجرين من الْإِيمَان بالنبيين، وَالْكفَّار لَيْسُوا كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بِمن آمن مِنْهُم فِي عهد الْبعْثَة أم شَامِل لمن آمن مِنْهُم فِي زَمَاننَا أَيْضا؟ قلت: مُخْتَصّ بهم لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَيْسَ بِنَبِيِّهِمْ بعد الْبعْثَة، بل نَبِيّهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدهَا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا لَا يتم بِمن لم تبلغهم الدعْوَة، وَمَا قَالَه شَيخنَا أظهر، أَرَادَ بِهِ مَا قَالَه من قَوْله: إِن هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث مستمرة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قلت: لَيْسَ بِظَاهِر مَا قَالَه هُوَ،، وَلَا مَا قَالَه شَيْخه، أما عدم ظُهُور مَا قَالَه فَهُوَ أَن ببعثة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْقَطَعت دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَارْتَفَعت شَرِيعَته، فَدخل جَمِيع الْكفَّار، أهل الْكتاب وَغَيرهم، تَحت دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَوَاء بلغتهم الدعْوَة أَو لَا. وَلِهَذَا يُقَال: هم أهل الدعْوَة، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن من لم تبلغه الدعْوَة لَا تطلق عَلَيْهِم بِالْفِعْلِ، وَأما بِالْقُوَّةِ فليسوا بِخَارِجِينَ عَنْهَا. وَأما عدم ظُهُور مَا قَالَه شَيْخه فَهُوَ أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل، لِأَن ظَاهر الحَدِيث يردهُ لِأَنَّهُ قيد فِي حق أهل الْكتاب بقوله: (آمن بِنَبِيِّهِ) ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه حَال، وَالْحَال قيد، فَكَانَ الشَّرْط فِي كَون الأجرين للرجل الَّذِي هُوَ من أهل الْكتاب أَن يكون قد آمن بِنَبِيِّهِ الَّذِي كَانَ مَبْعُوثًا إِلَيْهِ، ثمَّ آمن بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والكتابي بعد الْبعْثَة لَيْسَ لَهُ نَبِي غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قُلْنَا من انْقِطَاع دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالبعثة، فَإِذا آمن اسْتحق أجرا وَاحِدًا فِي مُقَابلَة إيمَانه بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوث إِلَيْهِ، وَهُوَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما الحكم فِي الْأَخيرينِ، وهما: العَبْد وَصَاحب الْأمة فَهُوَ مُسْتَمر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. ثمَّ هَذَا الْقَائِل: وَأما مَا قوى بِهِ الْكرْمَانِي دَعْوَاهُ بِكَوْن السِّيَاق مُخْتَلفا حَيْثُ قيل فِي مؤمني أهل الْكتاب: (رجل) بالتنكير، وَفِي العَبْد بالتعريف، وَحَيْثُ زيدت فِيهِ: إِذا، الدَّالَّة على معنى الِاسْتِقْبَال، فأشعر ذَلِك بِأَن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي الِاسْتِقْبَال، بِخِلَاف العَبْد، انْتهى. وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ مَشى فِيهِ مَعَ ظَاهر اللَّفْظ، وَلَيْسَ مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الروَاة، بل هُوَ عِنْد المُصَنّف وَغَيره مُخْتَلف، فقد عبر فِي تَرْجَمَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بإذا، فِي الثَّلَاثَة. وَعبر فِي النِّكَاح بقوله: (أَيّمَا رجل) . فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة، وَهِي صَرِيحَة فِي التَّعْمِيم، وَأما الِاخْتِلَاف بالتعريف والتنكير فَلَا أثر لَهُ هَهُنَا، لِأَن الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤدٍ مؤدى النكرَة. قلت: لَيْسَ قصد الْكرْمَانِي مَا ذكره الْقَائِل، وَإِنَّمَا قَصده بَيَان النُّكْتَة فِي ذكر أَفْرَاد الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث بمخالفة الثَّانِي الأول وَالثَّالِث، حَيْثُ ذكر الأول بقوله: (رجل من أهل الْكتاب) ، وَالثَّالِث كَذَلِك بقول: (رجل كَانَت عِنْده أمة) ، وَذكر الثَّانِي بقوله: (وَالْعَبْد الْمَمْلُوك) فِي التَّعْرِيف، فَخَالف الأول وَالثَّالِث فِي التَّعْرِيف والتنكير، وَأَيْضًا ذكر الثَّانِي بِكَلِمَة: إِذا، حَيْثُ قَالَ: (إِذا أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه) ، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يذكر الْكل على نسق وَاحِد بِأَن يُقَال: وَعبد مَمْلُوك أدّى حق الله، أَو رجل مَمْلُوك أدّى حق الله، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا مُخَالفَة عِنْد التَّحْقِيق، يَعْنِي الْمُخَالفَة بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن فِي نفس الْأَمر لَا مُخَالفَة. ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: إِذْ الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤد مؤدى النكرَة، وَكَذَا لَا مُخَالفَة فِي دُخُول: إِذا، لِأَن: إِذا، للظرف. و: آمن، حَال، وَالْحَال فِي حكم الظّرْف، إِذْ معنى جَاءَ زيد رَاكِبًا جَاءَ فِي وَقت الرّكُوب وَفِي حَاله. وتعليل هَذَا الْقَائِل قَوْله: وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، بقوله: لِأَنَّهُ مَشى مَعَ ظَاهر اللَّفْظ، غير مُسْتَقِيم. لِأَن بَيَان النكات بِحَسب مَا وَقع فِي ظواهر الْأَلْفَاظ، وَالِاخْتِلَاف من الروَاة فِي لفظ الحَدِيث لَا يضر دَعْوَى الْكرْمَانِي من قَوْله: إِن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي الِاسْتِقْبَال، أما وُقُوع: إِذا، فِي الثَّلَاثَة، وَإِن كَانَت: إِذا، للاستقبال فَهُوَ أَن حُصُول الأجرين مَشْرُوط بِالْإِيمَان بِنَبِيِّهِ ثمَّ بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قُلْنَا: إِن بالبعثة تَنْقَطِع دَعْوَة غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يبْق إلاَّ الْإِيمَان بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يحصل، إلاَّ أجر وَاحِد لانْتِفَاء شَرط الأجرين. وَأما وُقُوع: أَيّمَا، وَإِن كَانَت تدل على التَّعْمِيم(2/120)
صَرِيحًا، فَهُوَ فِي تَعْمِيم جنس أهل الْكتاب، وَلَا يلْزم من تَعْمِيم ذَلِك تَعْمِيم الأجرين فِي حق أهل الْكتاب، ثمَّ إعلم أَن قَوْله: (رجل من أهل الْكتاب) ، يدْخل فِيهِ أَيْضا الْمَرْأَة الْكِتَابِيَّة، لما علم من أَنه حَيْثُ يذكر الرِّجَال يدْخل فيهم النِّسَاء بالتبعية. قَوْله: (وَالْعَبْد الْمَمْلُوك) إِنَّمَا وصف بالمملوك لِأَن جَمِيع الأناسي عباد الله تَعَالَى، فَأَرَادَ تَمْيِيزه بِكَوْنِهِ مَمْلُوكا للنَّاس. قَوْله: (إِذا أدّى حق الله) أَي: مثل الصَّلَاة وَالصَّوْم (وَحقّ موَالِيه) ، مثل خدمته. وَالْمولى مُشْتَرك بَين المعتَق والمعتِق وَابْن الْعم والناصر وَالْجَار والحليف، وكل من ولي أَمر أحدٍ، وَالْمرَاد هُنَا الْأَخير، أَي السَّيِّد، إِذْ هُوَ الْمُتَوَلِي لأمر العَبْد، والقرينة الْمعينَة لَهُ لفظ العَبْد فَإِن قلت: لِمَ لَا يحمل على جَمِيع الْمعَانِي كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، إِذْ عِنْده: يجب الْحمل على جَمِيع مَعَانِيه الْغَيْر المتضادة، قلت: ذَاك عِنْد عدم الْقَرِينَة، أما عِنْد الْقَرِينَة فَيجب حمله على مَا عينته الْقَرِينَة اتِّفَاقًا. فَإِن قلت: فَهَل هُوَ مجَاز فِي الْمَعْنى الْمعِين إِذْ الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة هُوَ من عَلَامَات الْمجَاز أم لَا؟ قلت: هُوَ حَقِيقَة فِيهِ، وَلَيْسَ كل مُحْتَاج إِلَيْهِ مجَازًا. نعم، الْمُحْتَاج إِلَى الْقَرِينَة الصارفة عَن إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ مجَاز، ومحصله أَن قرينَة التَّجَوُّز قرينَة الدّلَالَة، وَهِي غير قرينَة الإشتراك الَّتِي هِيَ قرينَة التَّعْيِين، وَالْأولَى هِيَ من عَلَامَات الْمجَاز لَا الثَّانِيَة. فَإِن قلت: لِمَ عدل عَن لفظ: الْمولي، إِلَى لفظ: الموَالِي؟ قلت: لما كَانَ المُرَاد من العَبْد جنس العبيد جمع حَتَّى يكون عِنْد التَّوْزِيع لكل عبد مولى، لِأَن مُقَابلَة الْجمع بِالْجمعِ أَو مَا يقوم مقَامه مفيدة للتوزيع، أَو أَرَادَ أَن اسْتِحْقَاق الأجرين إِنَّمَا هُوَ عِنْد أَدَاء حق جَمِيع موَالِيه لَو كَانَ مُشْتَركا بَين طَائِفَة مَمْلُوكا لَهُم. فَإِن قلت: فأجر المماليك ضعف أجر السادات. قلت: لَا مَحْذُور فِي الْتِزَام ذَلِك، أَو يكون لَهُم أجره ضعفه من هَذِه الْجِهَة، وَقد يكون للسَّيِّد جِهَات أخر يسْتَحق بهَا أَضْعَاف أجر العَبْد، أَو المُرَاد تَرْجِيح العَبْد الْمُؤَدِّي للحقين على العَبْد الْمُؤَدِّي لأَحَدهمَا. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم، أَن يكون الصَّحَابِيّ الَّذِي كَانَ كتابياً أجره زَائِد على أجر أكَابِر الصَّحَابَة، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع. قلت: الْإِجْمَاع خصصهم وأخرجهم من ذَلِك الحكم، ويلتزم ذَلِك فِي كل صَحَابِيّ لَا يدل دَلِيل على زِيَادَة أجره على من كَانَ كتابياً. وَالله علم.
قَوْله: (يَطَؤُهَا) هُوَ مَهْمُوز،، فَكَانَ الْقيَاس: يوطؤها، مثل: يوجل، لِأَن الْوَاو إِنَّمَا تحذف إِذا وَقعت بَين الْيَاء والكسرة، وَهَهُنَا وَقعت بَين الْيَاء والفتحة مثل: يسمع. قَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره: إِنَّمَا سَقَطت الْوَاو مِنْهَا لِأَن فعل يفعل مِمَّا اعتل فاؤه لَا يكون إلاَّ لَازِما، فَلَمَّا جَاءَا بَين إخواتهما متعديين خُولِفَ بهما نظائرهما. فَإِن قلت: إِذا لم يَطَأهَا لَكِن أدبها، هَل لَهُ أَجْرَانِ؟ قلت: نعم إِذْ المُرَاد من قَوْله: (يَطَؤُهَا) يحل وَطْؤُهَا سَوَاء صَارَت مَوْطُوءَة أَو لَا. قَوْله: (فأدبها) من التَّأْدِيب، وَالْأَدب هُوَ حسن الْأَحْوَال والأخلاق، وَقيل: التخلق بالأخلاق الحميدة. قَوْله: (فَأحْسن تأديبها) أَي: أدبها من غير عنف وَضرب بل بالرفق واللطف. فَإِن قلت: أَلَيْسَ التَّأْدِيب دَاخِلا تَحت التَّعْلِيم؟ قلت: لَا، إِذْ التَّأْدِيب يتَعَلَّق بالمروآت، والتعليم بالشرعيات، أَعنِي: أَن الأول عرفي، وَالثَّانِي شَرْعِي؛ أَو: الأول دُنْيَوِيّ، وَالثَّانِي ديني. قَوْله: (ثمَّ اعتقها فَتَزَوجهَا) وَفِي بعض طرقه: (أعْتقهَا ثمَّ أصدقهَا) ، وَهُوَ مُبين لما سكت عَنهُ فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث من ذكر الصَدَاق، فعلى الْمُسْتَدلّ أَن ينظر فِي طَرِيق هَذِه الزِّيَادَة، وَمن هُوَ الْمُنْفَرد بهَا؟ وَهل هُوَ مِمَّن يقبل تفرده؟ وَهل هَذِه الزِّيَادَة مُخَالفَة لرِوَايَة الْأَكْثَرين أم لَا؟ قَوْله: (ثمَّ قَالَ عَامر) أَي: قَالَ صَالح: ثمَّ قَالَ عَامر الشّعبِيّ: أعطيناكها، أَي: أعطينا الْمَسْأَلَة أَو الْمُقَابلَة إياك بِغَيْر شَيْء أَي: بِغَيْر أَخذ مَال مِنْك على جِهَة الْأُجْرَة عَلَيْهِ، وإلاَّ فَلَا شَيْء أعظم من الْأجر الأخروي الَّذِي هُوَ ثَوَاب التَّبْلِيغ والتعليم. فَإِن قلت: الْخطاب فِي (أعطيناكها) لمن؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْخطاب لصالح، وَلَيْسَ كَذَلِك. فَإِنَّهُ غره الظَّاهِر، وَلَكِن الْخطاب لرجل من أهل خُرَاسَان سَأَلَ الشّعبِيّ عَمَّن يعْتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا، على مَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ فِي بَاب: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم} (مَرْيَم: 16) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، انبأنا عبد اللَّه، قَالَ: انبأنا صَالح بن حَيّ أَن رجلا من أهل خُرَاسَان قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: أَخْبرنِي. فَقَالَ الشّعبِيّ: اخبرني أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدب الرجل أمته فَأحْسن تأديبها، وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا فَتَزَوجهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ. وَإِذا آمن بِعِيسَى ثمَّ آمن بِي فَلهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْد، إِذا اتَّقى ربه وأطاع موَالِيه فَلهُ أَجْرَانِ) .
قَوْله: (قد كَانَ يركب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي بعض النّسخ: فقد كَانَ يركب، أَي: يرحل (فِيمَا دونهَا) ، أَي: فِيمَا دون هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى الْمَدِينَة، أَي مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَاللَّام فِيهَا للْعهد، وَقد كَانَ ذَلِك فِي زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين، ثمَّ تَفَرَّقت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، إِلَى الْبِلَاد بعد فتح الْأَمْصَار، فَاكْتفى أهل كل بلد بعلمائه إلاَّ من طلب التَّوَسُّع فِي الْعلم(2/121)
ورحل، وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ، وَهُوَ من كبار التَّابِعين بقوله: وَقد كَانَ يركب. فَإِن قلت: هَل كَانَ سُؤال الْخُرَاسَانِي من الشّعبِيّ عَمَّن يعْتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا مُجَرّد تعلم هَذِه الْمَسْأَلَة، أم لِمَعْنى آخر؟ قلت: بل لِمَعْنى آخر، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (أَن رجلا من أهل خُرَاسَان سَأَلَ الشّعبِيّ، فَقَالَ: يَا عَامر! إِن من قبلنَا من أهل خُرَاسَان يَقُولُونَ فِي الرجل إِذا أعتق أمته ثمَّ تزَوجهَا فَهُوَ كالراكب بدنته) . وَفِي طَرِيق: (كالراكب هَدْيه) ، كَأَنَّهُمْ توهموا فِي الْعتْق والتزوج الرُّجُوع بِالنِّكَاحِ فِيمَا خرج عَنهُ بِالْعِتْقِ، فَأَجَابَهُ الشّعبِيّ بِمَا يدل على أَنه محسن إِلَيْهَا إحساناً بعد إِحْسَان، وَأَنه لَيْسَ من الرُّجُوع فِي شَيْء، فَذكر لَهُم الحَدِيث.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من النَّاس لَهُم أَجْرَانِ. قَالَ الْكرْمَانِي: مَا الْعلَّة فِي التَّخْصِيص بهؤلاء الثَّلَاثَة، وَالْحَال أَن غَيره كَذَلِك أَيْضا مثل من صلى وَصَامَ، فَإِن للصَّلَاة أجرا، وللصوم أجرا آخر، وَكَذَا مثل الْوَلَد إِذا أدّى حق الله وَحقّ وَالِديهِ؟ قلت: الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة وَغَيرهَا أَن الْفَاعِل فِي كل مِنْهَا جَامع بَين أَمريْن بَينهمَا مُخَالفَة عَظِيمَة، كَأَن الْفَاعِل لَهما فَاعل للضدين عَامل بالمتنافيين، بِخِلَاف غَيره عَامل. قلت: هَذَا الْجَواب لَيْسَ بِشَيْء، بل الْجَواب الصَّحِيح أَن التَّنْصِيص باسم الشَّيْء لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور. فَإِن قلت: التَّنْصِيص بِعَدَد مَحْصُور يدل على نفي الحكم عَن غَيره، وَإِلَيْهِ مَال صَاحب (الْهِدَايَة) ، لِأَن إِثْبَات الحكم فِي غَيره إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (خمس من الفواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم) . فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا الْمَذْكُور. قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن التَّنْصِيص باسم الشَّيْء لَا يدل على النَّفْي فِيمَا عداهُ وَإِن كَانَ فِي الْعدَد المحصور، وَالْحكم فِي غير الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت بِدلَالَة النَّص، فَلَا يُوجب إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص، فَافْهَم. الثَّانِي: قَالَ الْمُهلب: فِيهِ دَلِيل على من أحسن فِي مَعْنيين من أَي فعل كَانَ من أَفعَال الْبر فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء. الثَّالِث: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي قَول الشّعبِيّ جَوَاز قَول الْعَالم مثله تحريضاً للسامع. الرَّابِع: فِيهِ بَيَان مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من الرحلة إِلَى الْبلدَانِ الْبَعِيدَة فِي حَدِيث وَاحِد، أَو مَسْأَلَة وَاحِدَة. الْخَامِس: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه إِثْبَات فضل الْمَدِينَة، وَأَنَّهَا مَعْدن الْعلم، وإليها كَانَ يرحل فِي طلب الْعلم، وتقصد فِي اقتباسه. وَبَعض الْمَالِكِيَّة خصصواً الْعلم بِالْمَدِينَةِ بقول الشّعبِيّ، وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَلَا يقبل.
32 - (بَاب عِظَةِ الإِمامِ النِّساءَ وتَعْلِيمهنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الإِمَام النِّسَاء، وَهُوَ التَّذْكِير بالعواقب. وتعليمه النِّسَاء من الْأُمُور الدِّينِيَّة، والعظة، بِكَسْر الْعين: بِمَعْنى الْوَعْظ، لِأَنَّهُ مصدر من: وعظ يعظ وعظاً، فَلَمَّا حذفت الْوَاو تبعا لفعله عوضت عَنْهَا الْهَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق تَعْلِيم الرجل أَهله، وَهُوَ خَاص. وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب تَعْلِيم الإِمَام النِّسَاء وَهُوَ عَام، فتناسقا من هَذِه الْحَيْثِيَّة. وَالْمرَاد من الإِمَام هُوَ الإِمَام الْأَعْظَم أَو من يَنُوب عَنهُ.
98 - حدّثنا سُلَيمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أشْهَدُ علَى النَّبيِّ أَو قَالَ عَطاءٌ: اشْهَدُ علَى ابنِ عَبَّاس، أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ ومَعَهُ بِلالٌ، فَظَنَّ أنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ بالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَت المَرْأةُ تُلْقِي القُرْطَ والخَاتَمَ وبِلالٌ يأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ..
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فوعظهن) ، لِأَن الْوَعْظ يسْتَلْزم العظة، وَكَانَت الموعظة بقوله: (إِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار لأنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير) . فَإِن قلت: أَيْن مطابقته لقَوْله: (وتعليمهن) ؟ قلت: فِي قَوْله: (وأمرهن بِالصَّدَقَةِ) . وَلَا شكّ أَن فِي الْأَمر بِالصَّدَقَةِ التَّعْلِيم بهَا أَنَّهَا تكفر الْخَطَايَا وتدفع البلايا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم. الرَّابِع: عَطاء ابْن أبي رَبَاح، وَاسم أبي رَبَاح: مُسلم الْمَكِّيّ الْقرشِي، مولى ابْن خَيْثَم الفِهري، وَابْن خَيْثَم عَامل عمر بن الْخطاب على مَكَّة،(2/122)
ولد فِي آخر خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وروى عَنهُ ابْنه. قَالَ: أَعقل قتل عُثْمَان، وَيُقَال إِنَّه من مولدِي الْجند من مخاليف الْيمن وَنَشَأ بِمَكَّة وَصَارَ مفتيها، وَهُوَ من كبار التَّابِعين، وروى عَن العبادلة وَعَائِشَة وَغَيرهم، وروى عَنهُ اللَّيْث حَدِيثا وَاحِدًا، وجلالته وبراعته وثقته وديانته مُتَّفق عَلَيْهَا، وَحج سبعين حجَّة، وَكَانَت الْحلقَة بعد ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، لَهُ. مَاتَ سنة خمس عشرَة، وَقيل أَربع عشرَة وَمِائَة، عَن ثَمَانِينَ سنة. وَكَانَ حَبَشِيًّا أسود أَعور أفطس أشل أعرج، لامْرَأَة من أهل مَكَّة، ثمَّ عمي بآخرة، وَلَكِن الْعلم وَالْعَمَل بِهِ رَفعه. وَمن غَرَائِبه أَنه يَقُول: إِذا أَرَادَ الْإِنْسَان سفرا لَهُ الْقصر قبل خُرُوجه من بَلَده، وَوَافَقَهُ طَائِفَة من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، وَخَالفهُ الْجُمْهُور. وَمن غَرَائِبه أَيْضا أَنه إِذا وَافق يَوْم عيد يَوْم جُمُعَة يصلى الْعِيد فَقَط، وَلَا ظهر وَلَا جُمُعَة فِي ذَلِك الْيَوْم. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من رأى الصَّحَابَة اثْنَان. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ لَفْظَة: أشهد تَأْكِيدًا لتحققه ووثوقاً بِوُقُوعِهِ، لِأَن الشَّهَادَة خبر قَاطع، تَقول مِنْهُ: شهد الرجل على كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: أشهد، بِلَفْظَة: على، لزِيَادَة التَّأْكِيد فِي وثاقته، لِأَنَّهُ يدل على الاستعلاء بِالْعلمِ عَن خُرُوجه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَهُ بِلَال، إِذا كَانَ لفظ: أشهد، من قَول ابْن عَبَّاس، أَو على استعلاء الْعلم على سَمَاعه من ابْن عَبَّاس إِذا كَانَ لفظ: أشهد، من قَوْله عَطاء. لِأَن الرَّاوِي تردد فِي هَذِه اللَّفْظَة، هَل هِيَ من قَول ابْن عَبَّاس أَو من قَول عَطاء؟ وَرَوَاهُ أَيْضا بِالشَّكِّ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب. أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) . وَأخرجه أَحْمد بن حَنْبَل عَن غنْدر عَن شُعْبَة جَازِمًا بِلَفْظ: أشهد عَن كل مِنْهُمَا.
بَيَان من أخرجه غَيره: وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن أَيُّوب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهَا عَن مُحَمَّد بن كثير وَحَفْص بن عمر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبيد بن حسان عَن حَمَّاد بن زيد، وَعَن أبي معمر عَن عبد اللَّه بن عَمْرو، ومسدد، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَارِث عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (بِالصَّدَقَةِ) ، وَهِي مَا تبذل من المَال لثواب الْآخِرَة، وَهِي تتَنَاوَل الْفَرِيضَة والتطوع، لَكِن الظَّاهِر أَن المُرَاد بهَا هُنَا هُوَ الثَّانِي. قَوْله: (القرط) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء: مَا يعلق فِي شحمة الْأذن، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: كل مَا فِي شحمة الْأذن فَهُوَ قرط سَوَاء كَانَ من ذهب أَو غَيره. وَفِي (البارع) : القرط يكون فِيهِ حَبَّة وَاحِدَة فِي حَلقَة وَاحِدَة. وَفِي (الْعباب) : وَالْجمع أقراط وقروط وقرطة وقراط، مِثَال: برد وأبراد وبرود، و: قلب وقلبة، و: رمح ورماح. و: (الْخَاتم) فِيهِ أَربع لُغَات: كسر التَّاء وَفتحهَا وخيتام وخاتام، الْكل بِمَعْنى وَاحِد.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (خرج) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: أَن، أَي: خرج من بَين صُفُوف الرِّجَال إِلَى صف النِّسَاء. قَوْله: (وَمَعَهُ بِلَال) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مَعَه بِلَال) . بِلَا وَاو، وَهُوَ جَائِز بِلَا ضعف، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} (الْبَقَرَة: 36 والأعراف: 24) وبلال: هُوَ ابْن رَبَاح، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، الحبشي الْقرشِي، يكنى أَبَا عبد اللَّه أَو أَبَا عَمْرو أَو أَبَا عبد الرَّحْمَن أَو أَبَا عبد الْكَرِيم، وشهرته باسم أمه حمامة. قَوْله: (فَظن) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه لم يسمع النِّسَاء) حِين أسمع الرِّجَال، وَفِي بعض النّسخ: فَظن أَنه لم يسمع، بِدُونِ لَفْظَة النِّسَاء، و: أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مسد مفعولي: ظن. قَوْله: (فوعظهن) الْفَاء فِيهِ تصلح للتَّعْلِيل، (وأمرهن) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (بِالصَّدَقَةِ) الْألف وَاللَّام فِيهَا للْعهد الْخَارِجِي، وَهِي صَدَقَة التَّطَوُّع، وَإِنَّمَا أمرهن بهَا لما رآهن أَكثر أهل النَّار، على مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح: (تصدقن يَا معشر النِّسَاء، إِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار) . وَقيل: أمرهن بهَا لِأَنَّهُ كَانَ وَقت حَاجَة إِلَى الْمُوَاسَاة، وَالصَّدَََقَة يومئذٍ كَانَت أفضل وُجُوه الْبر. قَوْله: (فَجعلت الْمَرْأَة) جعلت: من أَفعَال المقاربة، وَهِي مثل: كَاد، فِي الِاسْتِعْمَال، ترفع الِاسْم، وَخَبره الْفِعْل الْمُضَارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، وَقَوله: (القرط) بِالنّصب مفعول: (تلقي) من الْإِلْقَاء. (والخاتم) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وبلال) مُبْتَدأ (وَيَأْخُذ فِي أَطْرَاف ثَوْبه) خَبره، وَالْجُمْلَة حَالية، ومفعول: يَأْخُذ، مَحْذُوف.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ اسْتِحْبَاب وعظ النِّسَاء وتذكيرهن الْآخِرَة وَأَحْكَام الْإِسْلَام، وحثهن على الصَّدَقَة، وَهَذَا إِذا لم يَتَرَتَّب على(2/123)
ذَلِك مفْسدَة أَو خوف فتْنَة على الْوَاعِظ أَو الموعوظ، وَنَحْو ذَلِك. الثَّانِي: فِي قَوْله: (فَظن أَنه لم يسمع النِّسَاء) دَلِيل على أَن على الإِمَام افتقاد رَعيته وتعليمهم ووعظهم. الثَّالِث: فِيهِ أَن صَدَقَة التَّطَوُّع لَا تحْتَاج إِلَى إِيجَاب وَقبُول، وَيَكْفِي فِيهَا المعاطاة، لِأَنَّهُنَّ ألقين الصَّدَقَة فِي ثوب بِلَال من غير كَلَام مِنْهُنَّ وَلَا من بِلَال وَلَا من غَيرهمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله؛ خلافًا لأكْثر الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابه حَيْثُ قَالُوا: يفْتَقر إِلَى الْإِيجَاب وَالْقَبُول. الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الصَّدقَات الْعَامَّة إِنَّمَا يصرفهَا مصارفها الإِمَام. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل أَن الصَّدَقَة قد تنجي من النَّار، قَالَه ابْن بطال. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز صَدَقَة الْمَرْأَة من مَالهَا بِغَيْر إِذن زَوجهَا، وَلَا يتَوَقَّف فِي ذَلِك على ثلث مَالهَا. وَقَالَ مَالك: لَا تجوز الزِّيَادَة على الثُّلُث إلاَّ بِإِذن الزَّوْج، وَالْحجّة عَلَيْهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يسْأَل: هَل هَذَا بِإِذن أَزوَاجهنَّ أم لَا؟ وَهل هُوَ خَارج من الثُّلُث أَو لَا؟ وَلَو اخْتلف الحكم بذلك لسأل. قَالَ القَاضِي عِيَاض، رَحمَه الله، احتجاجاً لمَذْهَب مَالك: الْغَالِب حُضُور أَزوَاجهنَّ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فتركهم الْإِنْكَار رضى مِنْهُم بفعلهن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا ضَعِيف، لِأَنَّهُنَّ معتزلات لَا يعلم الرِّجَال المتصدقة مِنْهُم من غَيرهَا، وَلَا قدر مَا يتصدقن بِهِ، وَلَو علمُوا فسكوتهم لَيْسَ إِذْنا. فَإِن قلت: احْتج مَالك وَمن تبعه فِي ذَلِك بِمَا خرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، وحبِيب الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يجوز لامْرَأَة أمرٌ فِي مَالهَا إِذا ملك زَوجهَا عصمتها) . وَبِمَا خرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أبي كَامِل عَن خَالِد، يَعْنِي ابْن الْحَارِث: ثَنَا حُسَيْن عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَن أَبَاهُ أخبرهُ عَن عبد اللَّه بن عَمْرو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يحل لامْرَأَة عَطِيَّة إلاَّ بِإِذن زَوجهَا) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الطَّرِيق إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب صَحِيح، فَمن أثبت أَحَادِيث عَمْرو بن شُعَيْب لزمَه إثْبَاته. وَالْجَوَاب عَنهُ من أوجه: أَحدهَا: معارضته بالأحاديث الصَّحِيحَة الدَّالَّة على الْجَوَاز عِنْد الْإِطْلَاق، وَهِي أقوى مِنْهُ، فَقدمت عَلَيْهِ. وَقد يُقَال: انه وَاقعَة حَال، فَيمكن حملهَا على أَنَّهَا كَانَت قدر الثُّلُث. الثَّانِي: على تَسْلِيم الصِّحَّة إِنَّه مَحْمُول على الأولى، وَالْأَدب ذكره الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ، قَالَ: وَقد أعتقت مَيْمُونَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَلم يعب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا. وكما يُقَال: لَيْسَ لَهَا أَن تَصُوم وَزوجهَا حَاضر إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت فصومها جَائِز، وَمثله إِن خرجت بِغَيْر إِذْنه فباعت، فَهُوَ جَائِز. الثَّالِث: الطعْن فِيهِ، قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث سمعناه وَلَيْسَ بِثَابِت، فيلزمنا أَن نقُول بِهِ وَالْقُرْآن يدل على خِلَافه ثمَّ الْأَمر ثمَّ الْمَنْقُول ثمَّ الْمَعْقُول. قيل: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ، قَوْله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم إلاّ أَن يعفون} (الْبَقَرَة: 237) وَقَوله: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئاً} (النِّسَاء: 4) . وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} (الْبَقَرَة: 229) وَقَوله: {من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين} (النِّسَاء: 12) وَقَوله: {وابتلوا الْيَتَامَى} الْآيَة (النِّسَاء: 6) وَلم يفرق، فدلت هَذِه الْآيَات على نُفُوذ تصرفها فِي مَالهَا دون إِذن زَوجهَا، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلمن لزوجة الزبير رَضِي الله عَنهُ: (إرضخي وَلَا توعي فيوعى الله عَلَيْك) مُتَّفق عَلَيْهِ. وَقَالَ: (يَا نسَاء المسلمات، لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة) . واختلعت مولاة لصفية بنت أبي عبيد من زَوجهَا من كل شَيْء، فَلم يُنكر ذَلِك ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَقد طعن إِبْنِ حزم فِي حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب بِأَن قَالَ: صحيفَة مُنْقَطِعَة، وَقد علمت أَن شعيباً صرح بِعَبْد الله بن عَمْرو، فَلَا انْقِطَاع. وَقد أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن دَاوُد بن أبي هِنْد وحبِيب الْمعلم عَن عَمْرو بِهِ، ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، ثمَّ ذكر ابْن حزم من حَدِيث ابْن عمر: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا حق الزَّوْج على زَوجته؟ قَالَ: لَا تصدق إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت كَانَ لَهُ الْأجر وَعَلَيْهَا الْوزر) . ثمَّ قَالَ: هَذَا خَيرهَا لَك، لِأَن فِيهِ مُوسَى بن أعين وَهُوَ مَجْهُول، وَلَيْث بن أبي سليم وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ، فَإِن مُوسَى بن أعين روى عَن جمَاعَة وَعنهُ جمَاعَة، وَاحْتج بِهِ الشَّيْخَانِ، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ. نعم، فِيهِ الْحسن بن عبد الْغفار وَهُوَ مَجْهُول، وليته أعله بِهِ. ثمَّ ذكر حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم الْخَولَانِيّ عَن أبي أُمَامَة رَفعه: (لَا تنْفق الْمَرْأَة شَيْئا من بَيت زَوجهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، قيل: يَا رَسُول الله وَلَا الطَّعَام؟ قَالَ: ذَلِك أفضل أَمْوَالنَا) . ثمَّ إِسْمَاعِيل ضَعِيف، وشرحبيل مَجْهُول لَا يدرى من هُوَ، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ. فإسماعيل حجَّة فِيمَا يروي عَن الشاميين، وشرحبيل شَامي، وحاشاه من الْجَهَالَة. روى عَنهُ جمَاعَة. قَالَ أَحْمد: هُوَ من ثِقَات الشاميين، نعم، ضعفه ابْن معِين، وَقد أخرجه ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. الرَّابِع: من أوجه الْجَواب، مَا قيل: إِن المُرَاد من مَال زَوجهَا لَا من مَالهَا، وَفِيه نظر.(2/124)
وَقَالَ إسْماعِيلُ: عنْ أيُّوبَ عنْ عَطَاءُ، وَقَالَ عنِ ابْن عَباسٍ: أشْهَدُ علَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، أَرَادَ بِهَذَا التَّعْلِيق أَن إِسْمَاعِيل روى عَن أَيُّوب عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أشهد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْجَزْمِ، لِأَن لَفْظَة: أشهد، من كَلَام ابْن عَبَّاس فَقَط. وَكَذَا جزم بِهِ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) ، وَكَذَا قَالَ وهيب عَن أَيُّوب: ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه تَعْلِيق، لِأَن البُخَارِيّ لم يدْرك إِسْمَاعِيل بن علية، وَهُوَ مَاتَ فِي عَام ولادَة البُخَارِيّ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (وَقَالَ إِسْمَاعِيل) عطفا على: (قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة) ، فَيكون المُرَاد مِنْهُ حَدثنَا سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل، فَيخرج عَن التَّعْلِيق. قلت: هَذَا لَا يَصح، لِأَن سُلَيْمَان بن حَرْب لَا رِوَايَة لَهُ عَن إِسْمَاعِيل أصلا، لَا لهَذَا الحَدِيث وَلَا لغيره، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الزَّكَاة مَوْصُولا عَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
33 - (بابُ الحِرْصِ علَى الحدِيثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحِرْص على تَحْصِيل الحَدِيث، والْحَدِيث فِي اللُّغَة: الْجَدِيد، من حدث أَمر أَي: وَقع، وَهُوَ من بَاب: نصر ينصر. وَيُقَال: أَخَذَنِي مَا قدُم وَمَا حدُث، لَا يضم: حدث، فِي شَيْء من الْكَلَام إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَذَلِكَ لمَكَان: قدم، على الإزدواج. والْحَدِيث: الْخَبَر يَأْتِي على الْقَلِيل وَالْكثير، وَيجمع على: أَحَادِيث، على غير قِيَاس. قَالَ الْفراء: ترى أَن وَاحِد الْأَحَادِيث أحدوثة، ثمَّ جَعَلُوهُ جمعا للْحَدِيث، وَسمي حَدِيثا لِأَنَّهُ يحدث مِنْهُ الشَّيْء بعد الشَّيْء، والأحدوثة مَا يتحدث بِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وجعلناهم أَحَادِيث} (الْمُؤْمِنُونَ: 44) أَي: عبرا يتحدث بهلاكهم، وَالْحَدَث، والحدثى مثل: بشرى والحادثة والحدثان كُله بِمَعْنى، والحدثان أَيْضا: النَّاس. وَالْجمع: الْحدثَان بِالْكَسْرِ، والتركيب يدل على كَون شَيْء لم يكن، والْحَدِيث فِي عرف الْعَامَّة: الْكَلَام، وَفِي عرف الشَّرْع: مَا يتحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَأَنَّهُ لوحظ فِيهِ مُقَابلَته لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قديم وَهَذَا حَدِيث، والْحَدِيث ضد الْقَدِيم، وَيسْتَعْمل فِي قَلِيل الْكَلَام وَكَثِيره، لِأَنَّهُ يحدث شَيْئا فَشَيْئًا كَمَا ذكرنَا.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن من الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، وَكَذَلِكَ الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، لِأَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، أجَاب أَبَا هُرَيْرَة فِيمَا سَأَلَهُ بِالْخِطَابِ إِلَيْهِ خَاصَّة، وَالْجَوَاب عَن سُؤال من لَا يعلم جَوَابه تَعْلِيم من الْمُجيب، فَافْهَم.
99 - حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حدّثني سُلَيْمانُ عنْ عَمْرو بن أبي عَمْرٍ وعنْ سَعيد بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُريِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله! مَنْ أسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يوْمَ القِيامةِ؟ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أنْ لَا يَسْأَلَنِي عنْ هَذا الحَدِيثِ أَحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ منْ حِرْصِكَ علَى الحَدِيثِ، أسْعَدُ النَّاسِ بِشَفاعَتِيِ يَوْمَ القيامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلاَّ الله، خالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أوْ نَفْسِهِ) .
(الحَدِيث 99 طرفه فِي: 6570) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لما رَأَيْت من حرصك على الحَدِيث) .
بَيَان رِجَاله:. وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد اللَّه بن يحيى بن عَمْرو بن أويس بن سعيد بن أبي سرح، بالمهملات، ابْن حُذَيْفَة بن نصر بن مَالك بن حسل بن عَامر ابْن لؤَي بن فهر، أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي الْفَقِيه، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى البُخَارِيّ فِي الْإِصْلَاح عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه مَقْرُونا بالفروي عَنهُ عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ أَبُو حَاتِم: مدنِي صَدُوق. وَعنهُ قَالَ: هُوَ أحب إِلَيّ من يحيى بن بكير. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال، أَبُو مُحَمَّد التَّيْمِيّ القريشي الْمدنِي، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: عَمْرو بن أبي عَمْرو، بِفَتْح الْعين وبالواو فيهمَا، وَأَبُو عَمْرو اسْمه: ميسرَة، وَعَمْرو يكنى أَبَا عُثْمَان، وميسرة مولى الْمطلب بن عبد اللَّه بن حنْطَب، بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْمُهْملَة وبالموحدة، المَخْزُومِي الْقرشِي(2/125)
الْمدنِي، روى عَن أنس بن مَالك وَغَيره، وَعنهُ مَالك والدراوردي. قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ. وَأما يحيى بن معِين فَقَالَ: ضَعِيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَلَيْسَ بِحجَّة. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ لِأَن مَالِكًا روى عَنهُ، وَلَا يروي إلاَّ عَن صَدُوق ثِقَة. مَاتَ سنة خلَافَة الْمَنْصُور فِي أَولهَا وَكَانَت أول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَزِيَاد بن عبد اللَّه على الْمَدِينَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا. وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عبد الْعَزِيز، وَفِي صفة الْجنَّة عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ. وَقَالَ الْمزي. روى عَن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَيْسَ فِي الرِّوَايَة، وَلم يذكرهُ أَبُو الْقَاسِم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَنه قَالَ) بِفَتْح: أَن. وَقَوله: قَالَ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (قيل: يَا رَسُول الله) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة البَاقِينَ لَفْظَة: قيل، وَإِنَّمَا هُوَ: (أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقَوله: قيل، وهم، وَالصَّوَاب سُقُوط: قيل، كَمَا جَاءَ عِنْد الْأصيلِيّ والقابسي، لِأَن السَّائِل هُوَ أَبُو هُرَيْرَة نَفسه، لقَوْله بعد: (لقد ظَنَنْت أَن لَا يسألني عَن هَذَا أحد أول مِنْك) ، وَالْأول وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ وهم. قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه القَاضِي، فَإِن البُخَارِيّ أخرجه فِي الرقَاق كَذَلِك. وَأخرجه فِي الْجنَّة أَنه قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله) وَهَذَا مِمَّا يُؤَيّد أَن: قلت، تصحف: بقيل. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (أَنه سَأَلَ) . وَفِي رِوَايَة أبي نعيم أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: (يَا رَسُول الله) . قَوْله: (مَنْ أسعد النَّاس) مُبْتَدأ وَخبر، و: من، إستفهامية، (وَيَوْم الْقِيَامَة) كَلَام إضافي نصب على الظّرْف. قَوْله: (لقد ظَنَنْت) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف، قَالَه الْكرْمَانِي، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّه لَام التَّأْكِيد.
قَوْله: (يابا هُرَيْرَة) أَصله يَا أَبَا هُرَيْرَة، فحذفت الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَهُوَ معترض بَين ظَنَنْت ومفعوله، وَهُوَ قَوْله: (أَن لَا يسألني عَن هَذَا الحَدِيث أحد) ، وَيجوز ضم اللَّام فِي: يسألني، وَفتحهَا لِأَن كلمة: أَن، إِذا وَقعت بعد الظَّن يجوز فِي مدخولها الْوَجْهَانِ: الرّفْع وَالنّصب. وَاعْلَم أَن: أَن، الْمَفْتُوحَة الْهمزَة الساكنة النُّون على وَجْهَيْن: اسْم وحرف، فالحرف على أَرْبَعَة أوجه: الأول: أَن يكون حرفا مصدرياً ناصباً للمضارع، وَتَقَع فِي موضِعين. أَحدهمَا: فِي الِابْتِدَاء، فَتكون فِي مَوضِع رفع نَحْو: {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} (الْبَقَرَة: 184) وَالثَّانِي: بعد لفظ دَال على معنى غير الْيَقِين، فَيكون فِي مَوضِع رفع نَحْو: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} (الْحَدِيد: 16) وَنصب نَحْو: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يُفترى من دون الله} (يُونُس: 37) وخفض نَحْو: {أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا} (الْأَعْرَاف: 129) ومحتملة لَهما نَحْو: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي} (الشُّعَرَاء: 82) أَصله: فِي أَن يغْفر لي. الثَّانِي: أَن تكون مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، فَتَقَع بعد فعل الْيَقِين أَو مَا نزل مَنْزِلَته، نَحْو: {أَفلا يرَوْنَ أَن لَا يرجع إِلَيْهِم قولا} (طه: 89) {علم أَن سَيكون} (المزمل: 20) {وَحَسبُوا أَن لَا تكون فتْنَة} (الْمَائِدَة: 71) فِيمَن رفع: تكون، فَإِن هَذِه ثلاثية الْوَضع، وَهِي مَصْدَرِيَّة أَيْضا، وتنصب الِاسْم وترفع الْخَبَر، خلافًا للكوفيين؛ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تعْمل شَيْئا، وَشرط اسْمهَا أَن يكون محذوفاً، وَرُبمَا ثَبت فِي الضَّرُورَة على الْأَصَح، وَشرط خَبَرهَا أَن يكون جملَة، وَلَا يجوز إِفْرَاده إِلَّا إِذا ذكر الِاسْم فَيجوز الْأَمْرَانِ. الثَّالِث: أَن تكون مفسرة، بِمَنْزِلَة: أَي، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن أصنع الْفلك} (الْمُؤْمِنُونَ: 27) وَعَن الكوفية إِنْكَار: أَن، التفسيرية أَلْبَتَّة. وَإِذا ولي: أَن، الصَّالِحَة للتفسير مضارع مَعَه: لَا، نَحْو: أَشرت إِلَيْهِ أَن لَا يفعل، جَازَ رَفعه على تَقْدِير: لَا، نَافِيَة. وجزمه على تقديرها ناهية. وَعَلَيْهِمَا فَأن مفسرة، ونصبه على تَقْدِير: لَا، نَافِيَة و: أَن، مَصْدَرِيَّة. فَإِن فقدت: لَا، امْتنع الْجَزْم وَجَاز الرّفْع وَالنّصب. الرَّابِع: أَن تكون زَائِدَة، وَلها مَوَاضِع ذكرت فِي النَّحْو.
قَوْله: (أحد) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: يسألني، قَوْله: (أول مِنْك) ، يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، فالرفع على أَنه صفة لأحد، أَو بدل مِنْهُ. وَالنّصب على الظَّرْفِيَّة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: على الْمَفْعُول الثَّانِي لظَنَنْت. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء: على الْحَال، أَي: لَا يسألني أحد سَابِقًا لَك: قَالَ: وَجَاز نصب الْحَال عَن النكرَة لِأَنَّهَا فِي سِيَاق النَّفْي فَتكون عاملة كَقَوْلِهِم: مَا كَانَ أحد مثلك. وَاخْتلف فِي: أول، هَل وَزنه: أفعل أَو فوعل، وَالصَّحِيح أَنه: أفعل، واستعماله: بِمن، من جملَة أَدِلَّة صِحَّته. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: أول، تسْتَعْمل إسماً وَصفَة. فَإِن اسْتعْملت صفة كَانَت بِالْألف وَاللَّام، أَو بِالْإِضَافَة أَو: بِمن، ظَاهِرَة أَو مقدرَة. مثل قَوْله تَعَالَى: {يعلم السِّرّ واخفى} (طه: 7) أَي: اخفى من السِّرّ، فَإِن كَانَت: بِمن، جرت فِي الْأَحْوَال كلهَا على لفظ وَاحِد، تَقول: هِنْد أول من زَيْنَب، والزيدان(2/126)
أول من العمرين، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الصّفة تَقول: رَأَيْت زيدا أول من عامنا، فَأول بِمَنْزِلَة: قبل، كَأَنَّك قلت: رَأَيْت زيدا عَاما قبل عامنا، فَحكم لَهُ بالظرف حَتَّى قَالُوا: أبدأ بِهَذَا أَوله، وَبَنوهُ على الضَّم كَمَا قَالُوا: أبدأ بِهِ قبل، فَصَارَ كَأَنَّهُ قطع عَن الْإِضَافَة. وَمن النصب على الظّرْف قَوْله تَعَالَى: {الركب أَسْفَل مِنْكُم} (الْأَنْفَال: 42) كَمَا تَقول: الركب أمامك، وَأَصله الصّفة، وَصَارَ: أَسْفَل، ظرفا. وَالتَّقْدِير: والركب فِي مَكَان أَسْفَل من مَكَانكُمْ، ثمَّ حذف الْمَوْصُوف وأقيمت الصّفة مقَامه، فَصَارَ: أَسْفَل مِنْكُم، بِمَنْزِلَة: تحتكم، وَمن لم يَجْعَل أَولا صلَة صرفه بِمَنْزِلَة: فَكل، الَّذِي هُوَ بِمَعْنى: الرعدة. وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ وزن الْفِعْل. تَقول: مَا ترك لنا أَولا وَلَا آخر، كَقَوْلِك: لَا قَدِيما وَلَا حَدِيثا. قَوْله (لما رَأَيْت) بِكَسْر اللَّام و: مَا، مَوْصُولَة، والعائد مَحْذُوف. و: من، بَيَانِيَّة تَقْدِيره: للَّذي رَأَيْته من حرصك. أَو تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة و: من، تبعيضية، وَتَكون مفعول: رَأَيْت، وَالتَّقْدِير. لرؤيتي بعض حرصك. قَوْله: (على الحَدِيث) يتَعَلَّق بالحرص. قَوْله: (أسعدُ النَّاس) كَلَام إضافي مُبْتَدأ. وَالْبَاء فِي: (بشفاعتي) يتَعَلَّق بِهِ: (وَيَوْم الْقِيَامَة) نصب على الظَّرْفِيَّة. وَقَوله: (من قَالَ) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ. و: (من) ، مَوْصُولَة. وَقَوله: (خَالِصا) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (قَالَ) . وَقَوله: (من قلبه) يجوز أَن يتَعَلَّق بقوله: خَالِصا، أَو بقوله: قَالَ. وَالظَّاهِر أَن يتَعَلَّق: بقال. فَإِذا تعلق: بقال يكون ظرفا لَغوا، وَإِن تعلق بخالصاً، يكون ظرفا مُسْتَقرًّا، إِذْ تَقْدِيره حينئذٍ ناشئاً من قلبه، واللغو لَا مَحل لَهُ من الْإِعْرَاب. والمستقر هُنَا مَنْصُوب على الْحَال.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (من أسعد النَّاس) أسعد: أفعل، والسعد هُوَ الْيمن، تَقول مِنْهُ: سعد يَوْمنَا يسْعد سعوداً، والسعودة خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة، تَقول مِنْهُ: سعد الرجل بِالْكَسْرِ فَهُوَ سعيد، مِثَال: سلم فَهُوَ سليم. وَسعد، على مَا لم يسم فَاعله، فَهُوَ: مَسْعُود. فَإِن قلت: أسعد، هُنَا من أَي الْبَاب؟ قلت: من الْبَاب الثَّانِي، وَهُوَ من بَاب: فعل يفعل بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْح فِي الغابر، وَالْأول من بَاب: فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم فِي الغابر. فَإِن قلت: أفعل التَّفْضِيل يدل على الشّركَة، والمشرك وَالْمُنَافِق لَا سَعَادَة لَهما. قلت: أسعد هَهُنَا بِمَعْنى سعيد، يَعْنِي سعيد النَّاس، كَقَوْلِهِم: النَّاقِص والأشج أعدلا بني مَرْوَان، يَعْنِي عادلا بني مَرْوَان، وَيجوز أَن يكون على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ الْمَشْهُور، والتفضيل بِحَسب الْمَرَاتِب أَي: هُوَ أسعد مِمَّن لم يكن فِي هَذِه الْمرتبَة من الْإِخْلَاص الْمُؤَكّد الْبَالِغ غَايَته، وَكثير من النَّاس يحصل لَهُ سعد بِشَفَاعَتِهِ، لَكِن الْمُؤمن المخلص أَكثر سَعَادَة بهَا، فَإِن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يشفع فِي الْخلق بإراحتهم من هول الْموقف، ويشفع فِي بعض الْكفَّار بتَخْفِيف الْعَذَاب، كَمَا صَحَّ فِي حق أبي طَالب، ويشفع فِي بعض الْمُؤمنِينَ بِالْخرُوجِ من النَّار بعد أَن دخلوها، وَفِي بَعضهم بِعَدَمِ دُخُولهَا بعد أَن يستوجبوا دُخُولهَا، وَفِي بَعضهم بِدُخُول الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَفِي بَعضهم بِرَفْع الدَّرَجَات فِيهَا، فَظهر الِاشْتِرَاك فِي مُطلق السَّعَادَة بالشفاعة، وَأَن أسعدهم بهَا الْمُؤمن المخلص. قَوْله: (بشفاعتك) ، الشَّفَاعَة مُشْتَقَّة من الشفع، وَهُوَ ضم الشَّيْء إِلَى مثله، كَأَن الْمَشْفُوع لَهُ كَانَ فَردا فَجعله الشَّفِيع شفعاً بِضَم نَفسه إِلَيْهِ، والشفاعة: الضَّم إِلَى إِلَى آخر معاوناً لَهُ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي انضمام من هُوَ أَعلَى مرتبَة إِلَى من هُوَ أدنى. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا تكون فِي أهل الْإِخْلَاص خَاصَّة، وهم أهل التَّوْحِيد، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لكل نَبِي دَعْوَة، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة، فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى من مَاتَ من أمتِي لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا) . قلت: هَذَا الحَدِيث مَعَ غَيره من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، الْجَارِيَة مجْرى الْقطع، دَلِيل على ثُبُوت الشَّفَاعَة.
قَالَ عِيَاض: مَذْهَب أهل السّنة جَوَاز الشَّفَاعَة عقلا، ووجوبها بِصَرِيح الْآيَات وَالْأَخْبَار الَّتِي بلغ مجموعها التَّوَاتُر لصحتها فِي الْآخِرَة لمذنبي الْمُؤمنِينَ. وَأجْمع السّلف الصَّالح وَمن بعدهمْ من أهل السّنة على ذَلِك، ومنعت الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة مِنْهَا، وتأولت الْأَحَادِيث على زيادات الدَّرَجَات وَالثَّوَاب، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} (المدثر: 48) {مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع} (غَافِر: 18) وَهَذِه إِنَّمَا جَاءَت فِي الْكفَّار، وَالْأَحَادِيث مصرحة بِأَنَّهَا فِي المذنبين. وَقَالَ: الشَّفَاعَة خَمْسَة أَقسَام. أَولهَا: الإراحة من هول الْموقف. الثَّانِيَة: الشَّفَاعَة فِي إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَهَذِه أَيْضا وَردت للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي: لَا أعلم هَل هِيَ مُخْتَصَّة أم لَا؟ قلت: يُرِيد القَاضِي بِالصَّحِيحِ مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فأنطلق تَحت الْعَرْش فأقع سَاجِدا) ، وَفِيه: (فَيُقَال يَا مُحَمَّد أَدخل من أمتك من لَا حِسَاب عَلَيْهِ من الْبَاب الْأَيْمن من أَبْوَاب الْجنَّة) ، وَشبهه من الْأَحَادِيث. الثَّالِثَة: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عدم دُخُولهمْ فِيهَا، قَالَ القَاضِي: وَهَذِه أَيْضا يشفع فِيهَا نَبينَا مُحَمَّد،(2/127)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من شَاءَ الله أَن يشفع. الرَّابِعَة: قوم دخلُوا النَّار من المذنبين فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة والأنبياء والمؤمنون. الْخَامِسَة: الشَّفَاعَة فِي زِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْجنَّة لأَهْلهَا، وَهَذِه لَا تنكرهَا الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ القَاضِي: عرف بالاستفاضة سُؤال السّلف الصَّالح الشَّفَاعَة، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من قَالَ: يكره سؤالها لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا للمذنبين، فقد يكون لتخفيف الْحساب وَزِيَادَة الدَّرَجَات، ثمَّ كل عَاقل معترف بالتقصير مُشفق أَن يكون من الهالكين غير مُعْتَد بِعَمَلِهِ، وَيلْزم هَذَا الْقَائِل أَن لَا يَدْعُو بالمغفرة وَالرَّحْمَة لِأَنَّهَا لأَصْحَاب الذُّنُوب، وَهَذَا كُله خلاف مَا عرف من دُعَاء السّلف وَالْخلف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الشَّفَاعَة الأولى هِيَ الشَّفَاعَة الْعُظْمَى. قيل: وَهِي المُرَاد بالْمقَام الْمَحْمُود، والمختصة بنبينا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الأولى وَالثَّانيَِة، وَيجوز أَن تكون الثَّالِثَة وَالْخَامِسَة أَيْضا. وَالله أعلم.
قَوْله: (اِسْعَدْ النَّاس) ، التَّقْيِيد بِالنَّاسِ لَا يُفِيد نفي السَّعَادَة عَن الْجِنّ وَالْملك، لِأَن مَفْهُوم اللقب لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله: (من قَالَ) فِيهِ دَلِيل على اشْتِرَاط النُّطْق بِكَلِمَة الشَّهَادَة. فَإِن قلت: هَل يَكْفِي مُجَرّد قَوْله: لَا إِلَه إِلَّا الله، دون: مُحَمَّد رَسُول الله؟ قلت: لَا يَكْفِي، لَكِن جعل الْجُزْء الأول من كلمة الشَّهَادَة شعاراً لمجموعها، فَالْمُرَاد الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا. كَمَا تَقول: قَرَأت: {آلم ذَلِك الْكتاب} (الْبَقَرَة: 1 2) أَي: السُّورَة بِتَمَامِهَا. فَإِن قلت: الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح، وَقَول الْكَلِمَة لإجراء أَحْكَام الْإِيمَان عَلَيْهِ، فَلَو صدق بِالْقَلْبِ وَلم يقل الْكَلِمَة يسْعد بالشفاعة؟ قلت: نعم، لَو لم يكن مَعَ التَّصْدِيق منافٍ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالْقَوْل النفساني لَا اللساني، أَو ذكر على سَبِيل التغليب إِذْ الْغَالِب أَن من صدق بِالْقَلْبِ قَالَ بِاللِّسَانِ الْكَلِمَة. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز، وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مشرع، وَفِي الشَّرْع لَا يعْتَبر إلاَّ القَوْل اللساني، وَالْقَوْل النفساني يعْتَبر عِنْد اللَّه، وَهُوَ أَمر مبطن لَا يقف عَلَيْهِ إلاَّ الله تَعَالَى. قَوْله: (خَالِصا) وَفِي بعض النّسخ: مخلصاً، من الْإِخْلَاص، وَالْإِخْلَاص فِي الْإِيمَان ترك الشّرك وَفِي الطَّاعَة ترك الرِّيَاء. قَوْله: (من قلبه) ذكر للتَّأْكِيد، لِأَن الْإِخْلَاص معدنه الْقلب، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} (الْبَقَرَة: 283) وَإسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْجَارِحَة الَّتِي تعْمل بهَا أبلغ. أَلا ترى أَنَّك تَقول إِذا أردْت التَّأْكِيد: أبصرته عَيْني وسمعته أُذُنِي! قَوْله: (أَو نَفسه) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ من أبي هُرَيْرَة. قلت: التَّعْيِين غير لَازم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من أحد من الروَاة مِمَّن هم دونه، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الرقَاق: (خَالِصا من قبل نَفسه) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الْحِرْص على الْعلم وَالْخَيْر، فَإِن الْحَرِيص يبلغ بحرصه إِلَى الْبَحْث عَن الغوامض ودقيق الْمعَانِي، لِأَن الظَّوَاهِر يَسْتَوِي النَّاس فِي السُّؤَال عَنْهَا لاعتراضها أفكارهم، وَمَا لطف من الْمعَانِي لَا يسْأَل عَنهُ إلاَّ الراسخ، فَيكون ذَلِك سَببا للفائدة. وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. الثَّانِي: فِيهِ تفرس الْعَالم فِي متعلمه، وتنبيهه على ذَلِك لكَونه أبْعث على اجْتِهَاده فِي الْعلم. الثَّالِث: فِيهِ سكُوت الْعَالم عَن الْعلم إِذا لم يسْأَل حَتَّى يسْأَل، وَلَا يكون ذَلِك كتماً، لِأَن على الطَّالِب السُّؤَال، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا تعين عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ السُّكُوت إلاَّ إِذا تعذر. الرَّابِع: فِيهِ أَن الشَّفَاعَة تكون لأهل التَّوْحِيد، كَمَا ذكرنَا. الْخَامِس: فِيهِ ثُبُوت الشَّفَاعَة، وَقد مر مفصلا. السَّادِس: فِيهِ فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْقسم للتَّأْكِيد. الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز الكنية عِنْد الْخطاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
34 - (بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْمعْنَى: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة قبض الْعلم، و: كَيفَ، يسْتَعْمل فِي الْكَلَام على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون شرطا، فَيَقْتَضِي فعلين متفقي اللَّفْظ وَالْمعْنَى غير مجزومين. نَحْو: كَيفَ تصنع أصنع. وَلَا يجوز: كَيفَ تجْلِس أذهب، بِاتِّفَاق، وَلَا: كَيفَ تجْلِس أَجْلِس الْجَزْم عِنْد الْبَصرِيين إلاَّ قطرباً. وَالْآخر: وَهُوَ الْغَالِب فِيهَا أَن تكون استفهاماً: إِمَّا حَقِيقِيًّا نَحْو: كَيفَ زيد؟ أَو غَيره، نَحْو: {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} الْآيَة (الْبَقَرَة: 28) ، فَإِنَّهُ أخرج مخرج التَّعَجُّب، وَالْقَبْض نقيض الْبسط، وَالْمرَاد مِنْهُ الرّفْع والانطواء، كَمَا يُرَاد من الْبسط الانتشار.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْحِرْص على الحَدِيث الَّذِي هُوَ من أشرف أَنْوَاع الْعُلُوم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب ارْتِفَاع الْعُلُوم، فبينهما تقَابل فتناسقا من هَذِه الْجِهَة. وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب السَّابِق تَنْبِيها على أَن يهتم بتحصيل الْعُلُوم مَعَ الْحِرْص عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا مِمَّا تقبض وترفع فتستدرك غنائمها قبل فَوَاتهَا.(2/128)
وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أبي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ: انْظَرْ مَا كانَ منْ حدَيثِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكْتُبْهُ، فأنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وذَهابَ العُلماءِ، وَلَا يُقْبلُ إِلاَّ حَدِيثُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولْيُفْشُوا العِلْمَ وَلْيَجْلِسُوا حَتَّى يُعلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ فإنَ العَلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.
هَذَا تَعْلِيق لم يَقع وَصله عِنْد الْكشميهني وكريمة وَابْن عَسَاكِر، وَوَقع وَصله للْبُخَارِيّ عِنْد غَيرهم، وَهُوَ بقوله فِي بعض النّسخ: حَدثنَا الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار ... إِلَى آخِره، على مَا يَأْتِي ذكره عَن قريب. وَقد روى أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) هَذِه الْقِصَّة بِلَفْظ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، إِلَى الْآفَاق: انْظُرُوا حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاجمعوه.
أما عمر بن عبد الْعَزِيز فَهُوَ أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين، وَقد مر فِي كتاب الْإِيمَان، وَأما أَبُو بكر بن حزم فَهُوَ: ابْن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، ابْن زيد بن لودان بن عمر بن عبد عَوْف بن مَالك بن النجار الْأنْصَارِيّ الْمدنِي. قَالَ الْخَطِيب: يُقَال: إِن اسْمه أَبُو بكر، وكنيته أَبُو مُحَمَّد، وَمثله: أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. كنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن. قَالَ الْخَطِيب: لَا نَظِير لَهما. وَقد قيل فِي أبي بكر بن مُحَمَّد: لَا كنية لَهُ غير أبي بكر اسْمه. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: قيل: إِن اسْم أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن هَذَا: الْمُغيرَة، وَلَا يَصح. قلت: أَرَادَ الْخَطِيب قَوْله: لَا نَظِير لَهما، أَي: مِمَّن اسْمه أَبُو بكر وَله كنية، وَأما من اشْتهر بكنيته وَلم يعرف لَهُ اسْم غَيره فكثير، ذكر ابْن عبد الْبر مِنْهُم جمَاعَة، وَأَبُو بكر بن حزم ولي الْقَضَاء والإمرة والموسم لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: لما ولي عمر بن عبد الْعَزِيز الْخلَافَة ولى أَبَا بكر إمرة الْمَدِينَة، فاستقضى أَبُو بكر ابْن عَمه على الْقَضَاء، وَكَانَ أَبُو بكر هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ ويتولى أَمرهم، وَكَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم، توفّي سنة عشْرين وَمِائَة فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك وَهُوَ ابْن أَربع وَثَمَانِينَ سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا التِّرْمِذِيّ، سُئِلَ يحيى بن معِين عَن حَدِيث عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم، قَالَ: عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مُرْسل.
قَوْله: (انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث) أَي: اجْمَعْ الَّذِي تَجِد، وَوَقع هُنَا للكشميهني: عنْدك، مَعْنَاهُ فِي بلدك. قَوْله: (فاكتبه) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن ابْتِدَاء تدوين الحَدِيث النَّبَوِيّ كَانَ فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانُوا قبل ذَلِك يعتمدون على الْحِفْظ، فَلَمَّا خَافَ عمر رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الأولى من ذهَاب الْعلم بِمَوْت الْعلمَاء، رأى أَن فِي تدوينه ضبطاً لَهُ وإبقاء. قَوْله: (فَإِنِّي) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (دروس الْعلم) بِضَم الدَّال، من: درس يدرس، من بَاب: نصر ينصر، دروساً أَي: عفى ودرست الْكتاب أدرسه وأدرسه من بَاب نصر ينصر وَضرب يضْرب درساً ودراسة ودرس الْحِنْطَة درساً ودراساً أَي: داسها. قَوْله: (وَلَا يقبل) بِضَم الْيَاء أَعنِي حرف المضارعة. قَوْله: (وليفشوا) بِصِيغَة الْأَمر من الإفشاء، وَهُوَ الإشاعة. وَيجوز فِيهِ تسكين اللَّام كَمَا فِي بعض الرِّوَايَات. وَقَوله: (الْعلم) بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (وليجلسوا) بِصِيغَة الْأَمر أَيْضا من الْجُلُوس لَا من الإجلاس، وَيجوز فِي لامه التسكين أَيْضا. قَوْله: (حَتَّى يعلم) على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّعْلِيم، أَعنِي بتَشْديد اللَّام، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى يعلم: بِفَتْح حرف المضارعة وَاللَّام من الْعلم. قَوْله: (من لَا يعلم) بِصِيغَة الْمَعْلُوم من الْعلم. وَكلمَة: من مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل يعلم الَّذِي هُوَ على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَأما إِذا قرىء على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّعْلِيم فَتكون مَفْعُولا نَاب عَن الْفَاعِل. فَافْهَم. قَوْله: (لَا يهْلك) بِفَتْح حرف المضارعة وَكسر اللَّام، أَي: لَا يضيع. وَفتح اللَّام لُغَة. وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَبُو حَيْوَة وَابْن أبي إِسْحَاق: {وَيهْلك الْحَرْث والنسل} (الْبَقَرَة: 25) بِفَتْح الْيَاء، وَاللَّام وَرفع الثَّاء. قَوْله: (حَتَّى يكون سرا) أَي: خُفْيَة، وَأَرَادَ بِهِ كتمان الْعلم.
وَقَالَ ابْن بطال: فِي أَمر عمر ابْن عبد الْعَزِيز بِكِتَابَة حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاصَّة وَأَن لَا يقبل غَيره، الحض على اتِّبَاع السّنَن وضبطها، إِذْ هِيَ الْحجَّة عِنْد الِاخْتِلَاف. وَفِيه: يَنْبَغِي للْعَالم نشر الْعلم وإذاعته.
حدّثنا العَلاءُ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ قَالَ: حدّثنا عبدُ العزِيز بنُ مُسُلْمٍ عَن عبدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ بِذلك، يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيز، إِلَى قَولِهِ: ذَهابَ العُلماءِ.
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه روى أثر عمر بن عبد الْعَزِيز مَوْصُولا، و: لَكِن: (إِلَى قَوْله ذهَاب الْعلمَاء) فسر ذَلِك بقوله: يَعْنِي حَدِيث عمر بن(2/129)
عبد الْعَزِيز إِلَى قَوْله ذهَاب الْعلمَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله بذلك يَعْنِي بِجَمِيعِ مَا ذكر، يَعْنِي: إِلَى قَوْله: حَتَّى يكون سرا. ثمَّ قَالَ: وَفِي بعض النّسخ بعده: يَعْنِي بعد قَوْله بذلك يَعْنِي حَدِيث عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء، ثمَّ قَالَ: وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَن الْعَلَاء روى كَلَام عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء فَقَط. قلت: أما بعد قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء، يحْتَمل أَن يكون كَلَام عمر، وَلكنه لم يدْخل فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَيحْتَمل أَن لَا يكون من كَلَامه، وَهُوَ الْأَظْهر، وَبِه صرح أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أوردهُ عقيب كَلَام عمر بن عبد العزيز بعد انتهائه: أنبأني الشَّيْخ قطب الدّين عبد الْكَرِيم إجَازَة، قَالَ: أَخْبرنِي جدي إجَازَة الْحَافِظ الثِّقَة الْعدْل قطب الدّين عبد الْكَرِيم، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنبأَنَا عبد الْعَزِيز بن باقاء الْبَغْدَادِيّ إجَازَة، أَنبأَنَا يحيى بن ثَابت سَمَاعا، أَنبأَنَا ثَابت بن بنْدَار، أَنبأَنَا الإِمَام الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب البرقاني، أَنبأَنَا الإِمَام الْحَافِظ الْإِسْمَاعِيلِيّ، ثَنَا الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار، ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن عبد اللَّه بن دِينَار، قَالَ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي بكر بن حزم ... فَذكره إِلَى قَوْله: وَذَهَاب الْعلمَاء. فَإِن قلت: لِمَ أخر إِسْنَاد كَلَام عمر بن عبد الْعَزِيز عَن كَلَامه، وَالْعَادَة تَقْدِيم الْإِسْنَاد. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: للْفرق بَين إِسْنَاد الْأَثر وَبَين إِسْنَاد الْخَبَر، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ غير مطرد، وَيحْتَمل أَن يكون قد ظهر بِإِسْنَادِهِ بعد وضع هَذَا الْكَلَام، فَالْحَقْهُ بالأخير، على أَنا قُلْنَا: إِن هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بموجود عِنْد جمَاعَة.
وَأما الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار فَهُوَ أَبُو الْحسن الْبَصْرِيّ الْعَطَّار الْأنْصَارِيّ مَوْلَاهُم، سكن مَكَّة، أخرج البُخَارِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأبي الْهَيْثَم فِي الْعلم عَنهُ عَن عبد الْعَزِيز هَذَا الْأَثر وَلم يخرج عَنهُ غَيره، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة، توفّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وروى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا. وَعبد الْعَزِيز بن مُسلم الْقَسْمَلِي مَوْلَاهُم، أَخُو الْمُغيرَة بن مُسلم الْخُرَاسَانِي الْمروزِي نِسْبَة إِلَى القساملة، وَقيل لَهُم ذَلِك لأَنهم من ولد قسملة، واسْمه مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان، وَلَهُم محلّة بِالْبَصْرَةِ مَعْرُوفَة بالقسامل، وَقيل: نزل فيهم فنسب إِلَيْهِم، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير والذبائح وَكتاب المرضى وَغير مَوضِع عَن مُسلم بن إِسْمَاعِيل عَنهُ عَن عبد اللَّه بن دِينَار، وحصين وَالْأَعْمَش. وَأخرج لَهُ هَذَا الْأَثر عَن الْعَلَاء عَنهُ. قَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَقَالَ يحيى بن إِسْحَاق: ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم، وَكَانَ من الأبدال. قَالَ عَمْرو بن عَليّ: مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ ابْن مَاجَه. وَأما عبد اللَّه بن دِينَار الْقرشِي الْمدنِي، مولى ابْن عمر فقد مر فِي: بَاب أُمُور الْإِيمَان.
100 - حدّثنا إِسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بن العاصِي قَالَ: سمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (إنَّ الله لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلماءِ، حَتَّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فافْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأضَلُّوا) .
(الحَدِيث 100 طرفه فِي: 7307) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن يقبض الْعلم) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم، وَمَالك هُوَ الإِمَام الْمَشْهُور، أخرج هَذَا الحَدِيث فِي (الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه فِي (الْمُوَطَّأ) إلاَّ معن بن عِيسَى، وَقَالَ أَبُو عمر: رَوَاهُ أَيْضا فِيهِ سُلَيْمَان بن برد، وَرَوَاهُ أَصْحَاب مَالك كَابْن وهب وَغَيره خَارج (الْمُوَطَّأ) ، وَقد اشْتهر هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَوَافَقَهُ على رِوَايَته عَن أَبِيه عُرْوَة أَبُو الْأسود الْمدنِي وَحَدِيثه فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَالزهْرِيّ وَحَدِيثه فِي النَّسَائِيّ، وَيحيى بن أبي كثير وَحَدِيثه فِي (صَحِيح أبي عوَانَة) ، وَوَافَقَ أَبَاهُ على رِوَايَته عَن عبد اللَّه بن عمر، وَعمر بن الحكم بن ثَوْبَان وَحَدِيثه فِي مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن سعيد ابْن تليد عَن ابْن وهب عَن عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح وَغَيره جَمِيعًا عَن أبي الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يَتِيم عُرْوَة عَن عُرْوَة نَحوه. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن قُتَيْبَة عَن جرير وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن زيد، وَعَن يحيى بن يحيى عَن عباد بن عباد وَأبي مُعَاوِيَة، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع، وَعَن أبي كريب عَن عبد اللَّه بن إِدْرِيس وَأبي أُسَامَة وَعبد الله بن نمير وَعَبدَة بن سُلَيْمَان، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى بن سعيد وَعَن أبي بكر(2/130)
بن نَافِع عَن عمر ابْن عَليّ الْمقدمِي، وَعَن عبد بن حميد عَن يزِيد بن هَارُون عَن شُعْبَة، الثَّلَاثَة عشر كلهم عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح وَحده بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن هَارُون بن إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن عَبدة بن سُلَيْمَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عبد الله بن عمر، وَعَن عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل هَذَا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، كِلَاهُمَا عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ. قَالَ عبد الْوَهَّاب: فَلَقِيت هشاماً فَحَدثني عَن أَبِيه عَنهُ بِهِ، وَعَن أَبِيه مثله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أبي كريب عَن عبد اللَّه بن إِدْرِيس وَعَبدَة بن سُلَيْمَان وَأبي مُعَاوِيَة وَعبد اللَّه بن نمير وَمُحَمّد بن بشر، وَعَن سُوَيْد بن سعيد عَن مَالك وَعلي بن مسْهر وَحَفْص بن ميسرَة وَشُعَيْب بن إِسْحَاق، تسعتهم عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (يَقُول) ، جملَة وَقعت حَالا، وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْمُضَارع حِكَايَة لحَال الْمَاضِي واستحضاراً لَهُ، وإلاَّ فَالْأَصْل أَن يُقَال: قَالَ: ليطابق: سَمِعت. قَوْله: (لَا يقبض الْعلم) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. قَوْله: (انتزاعاً) يجوز فِي نَصبه أوجه. الأول: أَن يكون مَفْعُولا مُطلقًا عَن معنى يقبض، نَحْو: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَقعد جُلُوسًا. الثَّانِي: أَن يكون مَفْعُولا مُطلقًا مقدما على فعله، وَهُوَ: ينتزعه. وَيكون: ينتزعه، حَالا من الضَّمِير فِي: يقبض، تَقْدِيره: إِن الله لَا يقبض الْعلم حَال كَونه ينتزعه انتزاعاً من الْعباد. الثَّالِث: أَن يكون حَالا من الْعلم بِمَعْنى: منتزعاً، تَقْدِيره: إِن الله لَا يقبض الْعلم حَال كَونه منتزعاً. فَإِن قلت: على هَذَا مَا يَقع ينتزعه؟ قلت: قيل: يكون ينتزعه جَوَابا عَمَّا يُقَال: مِمَّن ينتزع الْعلم؟ وَفِيه نظر، والأصوب أَن يكون فِي مَحل النصب صفة، إِمَّا لانتزاعاً، أَو لمنتزعاً من الصِّفَات المبينة. قَوْله: (وَلَكِن) للاستدراك. وَقَوله: (يقبض الْعلم) من قبيل إِقَامَة الْمظهر مَوضِع الْمُضمر لزِيَادَة تَعْظِيم الْمُضمر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الله الصَّمد} (الْإِخْلَاص: 2) بعد قَوْله: {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال: هُوَ الصَّمد، كَمَا أَن الْمُقْتَضى هُنَا: وَلَكِن يقبضهُ. قَوْله: (حَتَّى) ابتدائية دخلت على الْجُمْلَة، تدل على أَن ذَلِك وَاقع بالتدريج، كَمَا أَن إِذا تدل على أَنه وَاقع لَا محَالة، و: إِذا ظرفية، وَالْعَامِل فِيهَا: اتخذ، وَيحْتَمل أَن تكون شَرْطِيَّة. فَإِن قلت: إِذا للاستقبال وَلم لقلب الْمُضَارع مَاضِيا، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: لما تَعَارضا تساقطا فَبَقيَ على أَصله وَهُوَ الْمُضَارع، أَو تعادلا فَيُفِيد الِاسْتِمْرَار. فَإِن قلت: إِذا كَانَت شَرْطِيَّة يلْزم من انْتِفَاء الشَّرْط انْتِفَاء الْمَشْرُوط، وَمن وجود الْمَشْرُوط وجود الشَّرْط، لكنه لَيْسَ كَذَلِك لجَوَاز حُصُول الاتخاذ مَعَ وجود الْعلم. قلت: ذَلِك فِي الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة، أما فِي غَيرهَا فَلَا نسلم اطراد هَذِه الْقَاعِدَة، ثمَّ ذَلِك الاستلزام إِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع لم يكن للشّرط بدل، فقد يكون لمشروط وَاحِد شُرُوط متعاقبة: كصحة الصَّلَاة بِدُونِ الْوضُوء عِنْد التَّيَمُّم، أَو المُرَاد بِالنَّاسِ جَمِيعهم، فَلَا يَصح أَن الْكل اتَّخذُوا رؤوساً جُهَّالًا إلاَّ عِنْد عدم بَقَاء الْعَالم مُطلقًا، وَذَلِكَ ظَاهر. قَوْله: (لم يبْق) بِفَتْح حرف المضارعة من الْبَقَاء. وَقَوله: (عَالم) بِالرَّفْع، فَاعله، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (لم يبْق عَالما) بِضَم حرف المضارعة من الْإِبْقَاء، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الله، (وعالماً) : مَنْصُوب بِهِ. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى إِذا لم يتْرك عَالما) . قَوْله: (اتخذ) أَصله: ائتخذ، فقلبت الْهمزَة ثمَّ ادغمت التَّاء فِي التَّاء، و: (النَّاس) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (رؤوساً) بِضَم الْهمزَة وبالتنوين جمع رَأس، قَالَ النَّوَوِيّ: ضبطناه بِضَم الْهمزَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (رُؤَسَاء) بِفَتْح الْهمزَة وَفِي آخِره همزَة أُخْرَى مَفْتُوحَة، جمع رَئِيس، وَالْأول أشهر. قَوْله: (جُهَّالًا) بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء الْمُشَدّدَة: جمع جَاهِل، صفة لرؤوساً. قَوْله: (فسئلوا) بِضَم السِّين وَالضَّمِير فِيهِ، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، أَي: فَسَأَلَهُمْ السائلون فافتوا لَهُم. قَوْله: (فضلوا) عطف على: فافتوا، وَهُوَ من الضلال، و: (اضلوا) من الإضلال، يَعْنِي: فضلوا فِي أنفسهم وأضلوا السَّائِلين. فَإِن قلت: الضلال مُتَقَدم على الْإِفْتَاء، فَمَا معنى الْفَاء؟ قلت: الْمَجْمُوع الْمركب من الضلال والإضلال هُوَ متعقب على الْإِفْتَاء وَإِن كَانَ الْجُزْء الأول مقدما عَلَيْهِ إِذْ الضلال الَّذِي بعد الْإِفْتَاء غير الضلال الَّذِي قبله. فَإِن قلت: الإضلال ظَاهر، وَأما الضلال فَإِنَّمَا يلْزم أَن لَو عمل بِمَا افتى وَقد لَا يعْمل بِهِ، قلت: إِن إضلاله للْغَيْر ضلال لَهُ عمل بِمَا أفتى أَو لم يعْمل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعاً) أَي: إِن الله لَا يقبض الْعلم من بَين النَّاس على سَبِيل أَن يرفعهُ من بَينهم إِلَى السَّمَاء، أَو يمحوه من صُدُورهمْ، بل يقبضهُ بِقَبض أَرْوَاح الْعلمَاء وَمَوْت حَملته. وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَن الله لَا ينْزع(2/131)
الْعلم من الْعباد بعد أَن يتفضل بِهِ عَلَيْهِم، وَلَا يسترجع مَا وهب لَهُم من الْعلم الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرفَته وَبث شَرِيعَته، وَإِنَّمَا يكون انْتِزَاعه بتضييعهم الْعلم فَلَا يُوجد من يخلف من مضى، فَأَنْذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبض الْخَيْر كُله، وَكَانَ تحديث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي حجَّة الْوَدَاع، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (لما كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذُوا الْعلم قبل أَن يقبض أَو يرفع، فَقَالَ أَعْرَابِي: كَيفَ يرفع؟ فَقَالَ: أَلا إِن ذهَاب الْعلم ذهَاب حَملته، ثَلَاث مَرَّات) وَقَالَ ابْن الْمُنِير: محو الْعلم من الصُّدُور جَائِز فِي الْقُدْرَة، إلاَّ أَن هَذَا الحَدِيث دلّ على عدم وُقُوعه. قَوْله: (بِغَيْر علم) ، وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود فِي الِاعْتِصَام عِنْد البُخَارِيّ: (فيفتون برأيهم) . قَوْله: (جُهَّالًا) فَإِن قلت: المُرَاد بِهَذَا الْجَهْل: الْجَهْل الْبَسِيط، وَهُوَ عدم الْعلم بالشَّيْء لَا مَعَ اعْتِقَاد الْعلم بِهِ، أم الْجَهْل الْمركب وَهُوَ عدم الْعلم بالشَّيْء مَعَ اعْتِقَاد الْعلم بِهِ؟ قلت: المُرَاد هُنَا الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا المتناول لَهما. فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بالمفتين، أم عَام للقضاة الْجَاهِلين؟ قلت: عَام، إِذْ الحكم بالشَّيْء مُسْتَلْزم للْفَتْوَى بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة لِلْقَائِلين بِجَوَاز خلو الزَّمَان عَن الْمُجْتَهد على مَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور خلافًا للحنابلة. الثَّانِي: فِيهِ التحذير عَن اتِّخَاذ الْجُهَّال رؤوساً. الثَّالِث: فِيهِ الْحَث على حفظ الْعلم والاشتغال بِهِ. الرَّابِع: فِيهِ أَن الْفَتْوَى هِيَ الرياسة الْحَقِيقِيَّة، وذم من يقدم عَلَيْهَا بِغَيْر علم. الْخَامِس: قَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا الحَدِيث خرج مخرج الْعُمُوم. وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) . وَيُقَال هَذَا بعد إتْيَان أَمر الله تَعَالَى إِن لم يُفَسر إتْيَان الْأَمر بإتيان الْقِيَامَة، أَو عدم بَقَاء الْعلمَاء إِنَّمَا هُوَ فِي بعض الْمَوَاضِع كفي غير بَيت الْمُقَدّس مثلا إِن فسرناه بِهِ، فَيكون مَحْمُولا على التَّخْصِيص جمعا بَين الْأَدِلَّة.
قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حدّثنا عبَّاسٌ قالَ: حدّثنا قُتيْبَةُ، حدّثنا جَريرٌ عنْ هِشَامٍ نحْوَهُ.
هَذَا من زيادات الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ فِي بعض الْأَسَانِيد وَهِي قَليلَة. والفربري، بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا وَفتح الرَّاء وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى فربر، وَهِي قَرْيَة من قرى بُخَارى على طرف جيحون، وَهُوَ أَبُو عبد اللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر. وَقَالَ الكلاباذي: كَانَ سَماع الْفربرِي من البُخَارِيّ (صَحِيحه) مرَّتَيْنِ: مرّة بفربر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَمرَّة ببخارى سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. ولد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَات سنة عشْرين وثلثمائة، سمع من قُتَيْبَة بن سعيد فشارك البُخَارِيّ فِي الرِّوَايَة عَنهُ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِي (أَمَالِيهِ) : وَكَانَ ثِقَة ورعاً. وعباس: هُوَ ابْن الْفضل بن زَكَرِيَّا الْهَرَوِيّ أَبُو مَنْصُور الْبَصْرِيّ ثِقَة مَشْهُور من الثَّانِيَة عشر، بل من الَّتِي بعْدهَا ولد بعد موت ابْن مَاجَه، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة، من (اسماء الرِّجَال) لِابْنِ حجر. وقتيبة: هُوَ ابْن سعيد أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد تقدم. وَجَرِير: هُوَ ابْن عبد الحميد الضَّبِّيّ، أَبُو عبد اللَّه الرَّازِيّ ثمَّ الْكُوفِي، ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَقد تقدم.
قَوْله: (نَحوه) ، أَي نَحْو حَدِيث مَالك، وَرِوَايَة الْفربرِي هَذِه أخرجهَا مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن جرير عَن هِشَام بِهِ.
36 - (بابٌ هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّساءِ يَوْمٌ علَى حِدَةٍ فِي العِلْم)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَهل، للاستفهام: و: يَجْعَل، على صِيغَة الْمَجْهُول. و: وَيَوْم، بِالرَّفْع مفعول لَهُ نَاب عَن الْفَاعِل، وَهَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة؛ وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: يَجْعَل، على صِيغَة الْمَعْلُوم. أَي: يَجْعَل الإِمَام. و: يَوْمًا، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (على حِدة) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الدَّال، أَي: على انْفِرَاده، وَهُوَ على وزن الْعدة. قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول أعْط كل وَاحِد مِنْهُم على حِدة، أَي: على حياله، وَالْهَاء عوض من الْوَاو. قلت: لِأَنَّهُ من: وحد يحد وحوداً ووحودة ووحداً ووحدة وحدة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ كَيْفيَّة قبض الْعلم، وَمن فَوَائده الْحَث على حفظ الْعلم، وَمن فَوَائِد حَدِيث هَذَا الْبَاب أَيْضا الْحَث على حفظ الْعلم، وَذَلِكَ أَن النِّسَاء لما سألن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يَجْعَل لَهُنَّ يَوْمًا، ووعدهن يَوْمًا يَأْتِي إلَيْهِنَّ فِيهِ، أَتَاهُنَّ فِيهِ وحثهن على حفظ الْعلم، وَهَذَا الْقدر كافٍ فِي رِعَايَة الْمُنَاسبَة.(2/132)
101 - حدّثنا آدَمُ قالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ قالَ: حدّثني ابنُ الأصبْهَانِيِّ قالَ: سَمعْتُ أَبَا صالِحٍ ذَكْوان يَحُدِّثُ عنْ أبي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ: قالَتِ النِّساءُ للنِّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: غَلَبنا عَلَيْكَ الرِّجالُ فاجْعَلْ لنَا يَوْماً مِنْ نَفْسكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْماً لَقِيَهُنَّ فيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ. فَكانَ فِيما قالَ لَهُنَّ: (مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِها إلاَّ كانَ لَها حِجاباً مِنَ النَّار) فَقالَتِ امْرَأَةٌ: واثنَيْنِ؟ قَالَ: (واثْنَيْنِ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّه الْأَصْبَهَانِيّ الْكُوفِي، مولى لجديلة قيس، وهم بطن من قيس غيلَان، وهم فهم وعدوان ابْنا عَمْرو بن قيس، أمّهم جديلة، بِفَتْح الْجِيم، نسبوا إِلَيْهَا. أخرج البُخَارِيّ فِي الْعلم والمحضر وشهود الْمَلَائِكَة بَدْرًا عَن شُعْبَة وَأبي عوَانَة وَابْن عُيَيْنَة عَنهُ عَن عبد اللَّه بن معقل، وَأبي صَالح ذكْوَان أَصله من أَصْبَهَان خرج مِنْهَا حِين افتتحها أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ أَبُو بكر بن منجويه: توفّي فِي إِمَارَة خَالِد على الْعرَاق، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ النَّسَائِيّ، وأصبهان، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وبالباء وَالْفَاء، وَأهل الْمشرق يَقُولُونَ: أصفهان بِالْفَاءِ، وَأهل الْمغرب بِالْبَاء: وَهِي مَدِينَة بعراق الْعَجم عَظِيمَة، خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء والمحدثين. الرَّابِع: أَبُو صَالح ذكْوَان، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْكَاف غير منصرف، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وواسطي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن آدم، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن بنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة، وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَفِي حَدِيث غنْدر عَن شُعْبَة عَنهُ، قَالَ: وَسمعت أَبَا حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث) . وَقَالَ عقيب حَدِيث مُسلم بن إِبْرَاهِيم: وَقَالَ شريك عَن ابْن الْأَصْبَهَانِيّ: حَدثنِي أَبُو صَالح عَن أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي كَامِل الجحدري عَن أبي عوَانَة، وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ، وَذكر الزِّيَادَة عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة، وَعَن عبيد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ، وَذكر الزِّيَادَة أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار بِهِ، وَعَن أَحْمد بن سلمَان عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَنهُ بِهِ نَحوه.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (قَالَ: قَالَ النِّسَاء) أَي: قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: قَالَ النِّسَاء. كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر: قَالَ، بتذكير الْفِعْل، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (قَالَت النِّسَاء) بالتأنيث، وَكِلَاهُمَا جَائِز فِي كل إِسْنَاد إِلَى ظَاهر الْجمع. قَوْله: (غلبنا) ، بِفَتْح الْبَاء جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول و: (الرِّجَال) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره: انْظُر لنا فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا، وَنَحْو ذَلِك، و: اجْعَل، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، والجعل يسْتَعْمل مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد بِمَعْنى: فعل، وَإِلَى مفعولين بِمَعْنى: صير، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا لَازمه وَهُوَ التَّعْيِين، أَي: عين لنا يَوْمًا. و: يَوْمًا، مفعول بِهِ لَا لأَجله. وَلَا مفعول فِيهِ، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من نَفسك) ابتدائية تتَعَلَّق باجعل، يَعْنِي هَذَا الْجعل منشؤه اختيارك يَا رَسُول الله لَا اختيارنا، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من: وَقت نَفسك، بإضمار الْوَقْت، والظرف صفة ل (يَوْمًا) ، وَهُوَ ظرف مُسْتَقر على هَذَا الِاحْتِمَال، وَيجوز أَن يكون التَّقْدِير: اجْعَل لنا يَوْمًا من أَيَّام نَفسك، يَعْنِي: الْيَوْم الَّذِي تتفرغ فِيهِ. قَوْله: (فوعدهن) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الَّذِي يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي يرجع إِلَى النِّسَاء. فَإِن قلت: كَيفَ يعْطف الْجُمْلَة الخبرية على الْجُمْلَة الإنشائية؟ قلت: هَذَا بَاب فِيهِ خلاف، فَمَنعه البيانيون وَابْن مَالك وَابْن عُصْفُور فِي (شرح الْإِيضَاح) ، وَنَقله عَن الْأَكْثَرين. واجازه الصفار وَجَمَاعَة مستدلين بقوله تَعَالَى: {وَبشر الَّذين آمنُوا} (يُونُس: 2) وَاسْتدلَّ الصفار بقول الشَّاعِر:
(وقائلة خولان فانكح فَتَاتهمْ)
فَإِن تَقْدِيره: هَذِه خولان، هَكَذَا نقل عَن سِيبَوَيْهٍ، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة بِمَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ: لَيْسَ الْمُعْتَمد بالْعَطْف، الْأَمر حَتَّى يطْلب لَهُ مشاكل، بل المُرَاد عطف جملَة: ثَوَاب الْمُؤمنِينَ، على جملَة: عَذَاب الْكَافرين، كَقَوْلِك: زيد يُعَاقب بالقيد، وَبشر فلَانا بِالْإِطْلَاقِ. وَعَن الْبَيْت: إِنَّه ضَرُورَة، وَفِيه تعسف وَالأَصَح عدم الْجَوَاز. وَأما هَهُنَا فالعطف(2/133)
لَيْسَ على قَوْله: (فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا) بل الْعَطف على جَمِيع الْجُمْلَة، أَعنِي من قَوْله: (غلبنا عَلَيْك الرِّجَال فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا من نَفسك) . قَوْله: (يَوْمًا) ، مفعول ثَان: لوعد. قَوْله: (لقيهن فِيهِ) أَي: فِي الْيَوْم الْمَوْعُود بِهِ، واللقاء فِيهِ إِمَّا بِمَعْنى الرُّؤْيَة، وَإِمَّا بِمَعْنى الْوُصُول، وَمحل الْجُمْلَة الْجُمْلَة النصب لِأَنَّهَا صفة: ليوماً. وَيحْتَمل أَن يكون استئنافاً. قَوْله: (فوعظهن) الْفَاء فِيهِ فصيحة لِأَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مَحْذُوف إِي: فوفى بوعدهن ولقيهن فوعظهن. وَقَوله: (وامرهن) عطف على: وعظهن، وَحذف الْمَأْمُور بِهِ لإِرَادَة التَّعْمِيم، وَالتَّقْدِير: فوعظهن بمواعظ، وأمرهن بِالصَّدَقَةِ أَو بِأُمُور دينية. وَيجوز أَن يكون: فوعظهن وأمرهن من تَتِمَّة الصّفة لليوم. قَوْله: (فَكَانَ) الْفَاء فِيهِ فصيحة. وَاسم: كَانَ، هُوَ قَوْله: (مَا مِنْكُن امْرَأَة) وَخَبره، قَوْله: (فِيمَا قَالَ لَهُنَّ) أَي: الَّذِي قَالَه لَهُنَّ. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (مَا مِنْكُن من امْرَأَة) ، وَكلمَة: من، زَائِدَة لفظا. وَقَوله: امْرَأَة، مُبْتَدأ. ومنكن، حَال مِنْهَا مقدم عَلَيْهَا، وَخبر الْمُبْتَدَأ الْجُمْلَة الَّتِي بعد آلَة الِاسْتِثْنَاء، لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مفرغ، إعرابه على حسب العوامل،. فَإِن قلت: كَيفَ يَقع الْفِعْل مُسْتَثْنى؟ قلت: على تَقْدِير الِاسْم، أَي: مَا امْرَأَة مُقَدّمَة إِلَّا كَائِنا لَهَا حجاب. وَقَوله: (تقدم) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لامْرَأَة. وَقَوله: (ثَلَاثًا) مفعول مقدم، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. قلت: (حِجَابا) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين هَكَذَا بِالنّصب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (حجاب) ، بِالرَّفْع. أما وَجه النصب فعلى أَنه خبر لَكَانَ، وَاسم كَانَ التَّقْدِيم الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: تقدم. وَأما وَجه الرّفْع فعلى كَون: كَانَ، تَامَّة على معنى: إلاَّ وَقع لَهَا حجاب أَو حصل، أَو وجد وَنَحْو ذَلِك. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز: (إلاَّ كن لَهَا حِجَابا) على تَقْدِير الْأَنْفس الَّتِي تقدم، وَفِي الِاعْتِصَام: (إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابا) أَي: الْأَوْلَاد. قَوْله: (واثنين) ، وَهُوَ أَيْضا عطف على الْمَنْصُوب بالتقدير الْمَذْكُور، أَي: وَمن قدم اثْنَيْنِ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَمثله يُسمى بالْعَطْف التلقيني، وَنَحْوه فِي الْقُرْآن: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ وَمن ذريتي} (الْبَقَرَة: 124) . قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَمن ذريتي، عطف على: الْكَاف، كَأَنَّهُ قَالَ: وجاعل بعض ذريتي، كَمَا يُقَال لَك: سأكرمك، فَتَقول: وزيداً، وَإِنَّمَا أورد هَذَا الْمِثَال إِشَارَة إِلَى جَوَاب عَمَّا يُقَال إِن: من ذريتي، مقول قَول إِبْرَاهِيم، و: جاعلك للنَّاس، مقول قَول الله تَعَالَى، فَكيف يعْطف أَحدهمَا على الآخر؟ فَكَأَنَّهُ أجَاب بإيراد الْمِثَال الْمَذْكُور أَنه عطف تلقين، كَأَنَّهُ قَالَ: قل وجاعل بعض ذريتي.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (غلبنا عَلَيْك الرِّجَال) مَعْنَاهُ: أَن الرِّجَال يلازمونك كل الْأَيَّام ويسمعون الْعلم وَأُمُور الدّين، وَنحن نسَاء ضعفة لَا نقدر على مزاحمتهم، فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا من الْأَيَّام نسْمع الْعلم ونتعلم أُمُور الدّين. قَوْله: (ثَلَاثَة) أَي: ثَلَاثَة أَوْلَاد. فَإِن قلت: الثَّلَاثَة مُذَكّر فَهَل يشْتَرط أَن يكون الْوَلَد الْمَيِّت ذكرا حَتَّى يحصل لَهَا الْحجاب؟ قلت: تذكيره بِالنّظرِ إِلَى لفظ الْوَلَد، وَالْولد يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَفِي بعض النّسخ: ثَلَاثًا بِدُونِ الْهَاء، فَإِن صَحَّ فَمَعْنَاه ثَلَاث نسمَة، والنسمة تطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (فَقَالَت امْرَأَة) هِيَ: أم سليم، وَقيل غَيرهَا وَالله أعلم. قَوْله: (قَالَ: واثنين) دَلِيل على أَن حكم الْإِثْنَيْنِ حكم الثَّلَاثَة لاحْتِمَال أَنه أُوحِي إِلَيْهِ فِي الْحِين بِأَن يُجيب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك. وَلَا يمْتَنع أَن ينزل الْوَحْي. عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك حِين السُّؤَال، وَلَا يمْتَنع أَن ينزل الْوَحْي على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طرفَة عين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيجوز أَن يكون أُوحِي إِلَيْهِ قبله. وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ، وَغَيره: قد أخرج البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَا يدل على أَن الْوَاحِد كالاثنين، وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقُول تَعَالَى: (مَا لعبدي الْمُؤمن جَزَاء إِذا قبضت صفيّه من أهل الدُّنْيَا، ثمَّ احتسبه، إلاَّ الْجنَّة) . وَأي صفّي أعظم من الْوَلَد؟ قلت: قد جَاءَ فِي غير الصَّحِيح مَا يدل صَرِيحًا على أَن الْوَاحِد كالاثنين وَالثَّلَاثَة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قدم ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث كَانُوا لَهُ حصناً حصيناً من النَّار. فَقَالَ أَبُو ذَر، رَضِي الله عَنهُ: قدمت اثْنَيْنِ. قَالَ: واثنين. قَالَ أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قدمت وَاحِدًا. قَالَ: وواحداً) . قَالَ ابْن بطال وعياض وَغَيرهمَا فِي قَول الْمَرْأَة: (واثنين يَا رَسُول الله) ؟ وَهِي من أهل اللِّسَان دَلِيل على أَن تعلق الحكم بِعَدَد مَا لَا يدل من جِهَة دَلِيل الْخطاب على انتفائه عَن غَيره من الْعدَد، لَا أقل وَلَا أَكثر. فَإِن قلت: هَل للرجل مثل مَا للْمَرْأَة إِذا قدم الْوَلَد؟ قلت: نعم، لِأَن حكم الْمُكَلّفين على السوَاء إلاَّ إِذا دلّ دَلِيل على التَّخْصِيص.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ سُؤال النِّسَاء عَن أَمر دينهن وَجَوَاز كلامهن مَعَ الرِّجَال فِي ذَلِك، وَفِيمَا لَهُنَّ الْحَاجة إِلَيْهِ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْوَعْد. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْأجر للثكلي. الرَّابِع: قَالَ الْمُهلب وَغَيره: فِيهِ دَلِيل على أَن أَوْلَاد الْمُسلمين(2/134)
فِي الْجنَّة، لِأَن الله سُبْحَانَهُ إِذا أَدخل الْآبَاء الْجنَّة بِفضل رَحمته للأبناء، فالأبناء أولى بِالرَّحْمَةِ. قَالَ الْمَازرِيّ: أما أَطْفَال الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فالإجماع مُنْعَقد على أَنهم فِي الْجنَّة، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور فِي أَوْلَاد من سواهُم من الْمُؤمنِينَ، وَبَعْضهمْ لَا يَحْكِي خلافًا، بل يَحْكِي الْإِجْمَاع على دُخُولهمْ الْجنَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين يقف فيهم، وَلم يثبت الْإِجْمَاع عِنْدهم فَيُقَال بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي مَوْضِعه من كتاب الْجَنَائِز إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
44 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ عَن ذكْوَان عَن أبي سعيد بن الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا وَعَن عبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ سَمِعت أَبَا حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث) الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول أَن البُخَارِيّ قصد بِإِخْرَاج هَذَا فائدتين أَحدهمَا تَسْمِيَة ابْن الْأَصْبَهَانِيّ لِأَنَّهُ كَانَ مُبْهما فِي الحَدِيث الأول وَهَذِه الرِّوَايَة فسرته وَإِنَّمَا لم بصرح باسمه هُنَاكَ مُحَافظَة على لفظ الشُّيُوخ وَهُوَ من غَايَة احتياطه حَيْثُ وَضعه كَمَا سَمعه عَن شَيْخه وَالْأُخْرَى التَّنْبِيه على زِيَادَة فِي طَرِيق أَبُو هُرَيْرَة وَهِي قَوْله " لم يبلغُوا الْحِنْث ". النَّوْع الثَّانِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَوْصُولَة وَلَيْسَ بتعليق كَمَا قَالَه الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ وَهَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ عَن عبد الرَّحْمَن وَذَلِكَ لِأَن شُعْبَة يرويهِ عَن عبد الرَّحْمَن بِإِسْنَادَيْنِ لآن قَوْله وَعَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني عطف على قَوْله أَولا عَن عبد الرَّحْمَن تَقْدِير الاسناد الأول حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني عَن ذكْوَان عَن أبي سعيد عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام " مَا مِنْكُن امْرأ تَقْدِيم ثَلَاثَة من وَلَدهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابا من النَّار فَقَالَت امْرَأَة واثنين فَقَالَ واثنين " أَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله بِهَذَا أَي بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَتَقْدِير الْإِسْنَاد الثَّانِي حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثا غنْدر قَالَ حَدثا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني قَالَ سَمِعت أَبَا حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ " مَا مِنْكُن امْرَأَة تقدم ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث من وَلَدهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابا " الحَدِيث فَإِن قلت هَل فَائِدَة فِي تَقْدِيمه الحَدِيث الأول على الثَّانِي قلت نعم لِأَن الحَدِيث الأول أَعلَى دَرَجَة من الثَّانِي اذفيه بَين شُعْبَة وَالْبُخَارِيّ رجل وَاحِد وَهُوَ ابْن آدم بِخِلَاف الثَّانِي فَإِن بَينهمَا رجلَيْنِ وهما مُحَمَّد بن بشار وغندر النَّوْع الثَّالِث فِي رجال الاسنادين وهم ثَمَانِيَة وَقد مضى مِنْهُم ماخلا أَبُو حَازِم بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي وَهُوَ سُلَيْمَان الاشجعي الْكُوفِي مولى عزة بِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَة وبالزاي الْمُشَدّدَة الاشجعية توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ قَالَ يحيى بن معِين هُوَ كُوفِي ثِقَة روى لَهُ الْجَمَاعَة وَرُبمَا يشْتَبه بِأبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار الزَّاهِد فَإِنَّهَا تابعيان مشتركان فِي الكنية قَالَ أَبُو عَليّ الجياني أَبُو حَازِم رجلَانِ تابعيان يكنيان بِأبي حَازِم يرويان عَن الصَّحَابَة فَالْأول الاشعي اسْمه سُلَيْمَان يروي عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الْأَعْمَش وَمَنْصُور وفضيل بن غَزوَان وَالثَّانِي سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج يروي عَن سهل بن سعد روى عَنهُ مَالك وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَسليمَان ابْن بِلَال قلت وَمن الْفرق بَينهمَا أَن الأول توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَالثَّانِي توفّي فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَالْأول لم يرو فِي البُخَارِيّ وَمُسلم إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة وَالثَّانِي لم يرو فِي الصَّحَابَة إِلَّا عَن سهل بن سعد وَكِلَاهُمَا ثقتان فَالْأول وثقة يحيى وَالثَّانِي وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم النَّوْع الرَّابِع قَوْله " لم يبلغُوا الْحِنْث " أَي الْإِثْم الْمَعْنى أَنهم مَاتُوا قبل بلوغهم التَّكْلِيف فَلم يكْتب عَلَيْهِم الآثام وَيُقَال مَعْنَاهُ لم يبلغُوا زمَان التَّكْلِيف وَسن الْعقل والحنث بِكَسْر الْحَاء الْإِثْم قَالَ الْجَوْهَرِي يُقَال بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي الْمعْصِيَة وَالطَّاعَة وَقَالَ الصغاني وَبلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي بلغ مبلغا جرى عَلَيْهِ الْقَلَم بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَة والحنث الزِّنَا أَيْضا والحنث فِي الْيَمين والحنث الْعدْل الْكَبِير الثقيل والحنث الْميل من بَاطِل إِلَى حق أَو من حق إِلَى بَاطِل يُقَال قد حنثت على أَي ملت إِلَى هُوَ أَن عَليّ فَإِن قلت لم خص الحكم باللذين لم يبلغُوا الْحِنْث وهم صغَار قلت لِأَن قلب الْوَالِدين على الصَّغِير ارْحَمْ واشفق دون الْكَبِير ن الْغَالِب على الْكَبِير عدم السَّلامَة من مُخَالفَة وَالدية وعقوقهم(2/135)
35 - (بابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئاً فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمع شَيْئا فراجع الَّذِي سَمعه مِنْهُ حَتَّى يعرف مَا سَمعه كَمَا هُوَ حَقه، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (بَاب من سمع شَيْئا فَلم يفهمهُ فَرَاجعه) . وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فراجع فِيهِ) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق وعظ النِّسَاء وتعليمهن، وَفِي فهمهن قُصُور: وَرُبمَا يحتجن إِلَى مُرَاجعَة الْعَالم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي مُرَاجعَة الْعَالم لعدم الْفَهم فِيمَا سمع مِنْهُ، وَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تنَاسبا.
103 - حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قالَ: أخْبرنا نافِعُ بنُ عُمَرَ قالَ: حدّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ أَن عَائِشَة زوْجَ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ: (مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ) قالَتْ عائِشَةُ: فَقُلْتُ: أوَ لَيْسَ يَقُولُ الله تَعالى: {فَسوفَ يُحاسَبُ حِساباً يِسيراً} (الانشقاق: 8) قالَتْ: فَقَالَ: (إِنَّما ذَلِكَ العَرْضُ، ولكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ يَهْلكْ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا تسمع شَيْئا لَا تعرفه إلاَّ راجعت فِيهِ حَتَّى تعرفه) .
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم، هُوَ سعيد بن الحكم بن مُحَمَّد ابْن أبي مَرْيَم الجُمَحِي أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ، سمع مَالِكًا وَغَيره، وروى عَنهُ البُخَارِيّ هُنَا وَغَيره، وروى بَقِيَّة الْجَمَاعَة عَن رجل عَنهُ، وروى البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْكَهْف عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه عَنهُ عَن أبي غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف وَسليمَان بن بِلَال وَمُحَمّد بن أبي كثير. قَالَ الْحَاكِم النَّيْسَابُورِي: يُقَال: إِن مُحَمَّد بن عبد اللَّه هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وروى عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة الثِّقَات، توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: نَافِع بن عمر بن عبد اللَّه الْقرشِي الجُمَحِي الْمَكِّيّ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثَبت ثَبت صَحِيح الحَدِيث. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة يحْتَج بحَديثه، مَاتَ بِمَكَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، وَقد تقدم. الرَّابِع: الصديقة عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومكي. وَمِنْهَا: أَنه رباعي صَحِيح. فَإِن قلت: هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا استدركه الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم، فَقَالَ: اخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن ابْن أبي مليكَة فَروِيَ عَنهُ عَن عَائِشَة، وَرُوِيَ عَنهُ عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَقد اخْتلف النَّاس فِي الحَدِيث إِذا رُوِيَ مَوْصُولا، وَرُوِيَ مُنْقَطِعًا هَل عِلّة فِيهِ؟ فالمحدثون يثبتونه عِلّة، وَالْفُقَهَاء ينفون الْعلَّة عَنهُ، وَيَقُولُونَ: يجوز أَن يكون سَمعه عَن وَاحِد عَن آخر ثمَّ سَمعه عَن ذَلِك الآخر بِغَيْر وَاسِطَة. قلت: هَذَا هُوَ الْجَواب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك مُسْتَدْرك لِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنه سَمعه عَنْهَا بالواسطة، وَبِدُون الْوَاسِطَة فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَأكْثر استدراكات الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم من هَذَا الْبَاب.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير والرقاق عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي الرقَاق أَيْضا عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي التَّفْسِير عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَقَالَ فِي عقب حَدِيث عَمْرو بن عَليّ: تَابعه ابْن جريج مُحَمَّد بن سليم وَصَالح وَأَيوب بن رستم عَن ابْن أبي مليكَة سَمِعت عَائِشَة. وَأخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن أبي بكر وَابْن حجر عَن ابْن علية عَن أَيُّوب، وَعَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن يحيى الْقطَّان عَن عُثْمَان بن الْأسود، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي مليكَة، وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَفِي الرقَاق عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن روح، وَأخرجه أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن يحيى، كِلَاهُمَا عَن أبي يُونُس حَاتِم عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَزَاد فِيهِ الْقَاسِم بن أبي مليكَة وَعَائِشَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن يُونُس عَن مُحَمَّد عَن نَافِع بن عمر بِإِسْنَادِهِ: (من حُوسِبَ يومئذٍ عذب) . فَذكره وَلم يذكر أول الحَدِيث.(2/136)
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (زوج النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام) زوج الرجل امْرَأَته، وَزوج الْمَرْأَة بَعْلهَا، قَالَ الله تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 35، الْأَعْرَاف: 19) وَيُقَال أَيْضا: هِيَ زَوجته. وَالْأول هُوَ الْأَفْصَح. قَوْله: (الْعرض) بِفَتْح الْعين، من عرضت إِلَيْهِ أَمر كَذَا، وَعرضت لَهُ الشَّيْء أَي أظهرته وأبرزته إِلَيْهِ. قَوْله: (من نُوقِشَ) من المناقشة وَهِي الِاسْتِقْصَاء فِي الْحساب حَتَّى لَا يُترك مِنْهُ شَيْء. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أصل النقش استقصاؤك الْكَشْف عَن الشَّيْء، وَمِنْه نقش الشَّوْكَة إِذا استخرجها. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: انتقشت مِنْهُ حَتَّى استقصيته مِنْهُ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن عَائِشَة) ، بِفَتْح الْهمزَة: وَأَصله بِأَن عَائِشَة، ظَاهر هَذَا الْإِرْسَال لِأَن ابْن أبي مليكَة تَابِعِيّ لم يدْرك مُرَاجعَة عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن ظهر وَصله بعد فِي قَوْله: قَالَت عَائِشَة: فَقلت. قَوْله: (زوج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) كَلَام إضافي فِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة عَائِشَة. قَوْله: (كَانَت) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (لَا تسمع) إِلَى آخِره فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ. قَوْله: (لَا تعرفه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (شَيْئا) . قَوْله: (إلاَّ راجعت فِيهِ) اسْتثِْنَاء مُتَّصِل. وَقَوله: (راجعت) صفة لموصوف مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: لَا تسمع شَيْئا مَجْهُولا مَوْصُوفا بِصفة إلاَّ مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مرجوع فِيهِ. قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى. وَقَوله: (تعرفه) مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة. قَوْله: (وَأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،) عطف على قَوْله: (أَن عَائِشَة) . قَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَن هَذَا الْقدر من كَلَام ابْن أبي مليكَة مُرْسل، إِذْ لم يسْندهُ إِلَى صَحَابِيّ. قلت: قد ذكرت أَن قَول عَائِشَة: فَقلت، يدل على الْوَصْل، وَإِن كَانَ ذَاك بِحَسب الظَّاهِر يدل على الْإِرْسَال. قَوْله: (قَالَ) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (من حُوسِبَ عذب) مقول القَوْل و: من، مَوْصُولَة، و: حُوسِبَ، جملَة صلتها. وَقَوله: (عذب) خبر: من، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ. قَوْله: (فَقلت) عطف على قَوْله: (قَالَ: من حُوسِبَ عذب) . وَقَوله: (قَالَت عَائِشَة) معترض بَينهمَا من كَلَام الرَّاوِي. قَوْله: (أَو لَيْسَ يَقُول الله؟) الْهمزَة للاستفهام. فَإِن قلت: همزَة الِاسْتِفْهَام تَقْتَضِي الصدارة، وحرف الْعَطف يَقْتَضِي تقدم الصدارة، فَمَا تَقْدِيره؟ قلت: هَهُنَا وَفِي أَمْثَاله يقدر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُوَ مَدْخُول الْهمزَة نَحْو: أَكَانَ كَذَلِك وَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى؟ وَفِي بعض النّسخ: أَو لَيْسَ الله يَقُول؟ فلفظة الله اسْم لَيْسَ وَخَبره يَقُول. فَإِن قلت: مَا اسْم لَيْسَ فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة؟ قلت: إِمَّا أَن يكون لَيْسَ بِمَعْنى: لَا، فَكَأَنَّهُ قيل: أَو لَا يَقُول الله؟ وَإِمَّا أَن يكون فِيهِ ضمير الشَّأْن. قَوْله: (حسابا) نصب على أَنه مفعول مُطلق. و (يَسِيرا) ، صفته. قَوْله: (قَالَت) أَي: عَائِشَة. فَقَالَ: أَي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (إِنَّمَا ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف لِأَنَّهُ خطاب للمؤنث، وَالْأَصْل فِيهِ: ذَا، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمُذكر، فَإِن خاطبت جِئْت بِالْكَاف، فَقلت: ذَاك وَذَلِكَ، فَاللَّام زَائِدَة وَالْكَاف للخطاب وَفِيهِمَا دَلِيل على أَن مَا يومىء إِلَيْهِ بعيد وَلَا مَوضِع لَهُ من الْإِعْرَاب، وَهُوَ هَهُنَا مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (الْعرض) . قَوْله: (وَلَكِن) للاستدراك. قَوْله: (من) مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (نُوقِشَ) فعل الشَّرْط. قَوْله: (يهْلك) ، بِكَسْر اللَّام: جَوَاب الشَّرْط، وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم، وَذَلِكَ لِأَن الشَّرْط إِذا كَانَ مَاضِيا يجوز الْوَجْهَانِ فِي الْجَواب، وَهُوَ من: هلك يهْلك، لَازم. وتيم تَقول: هلكه يهلكه هلكاً بِمَعْنى أهلكه، وَالْمعْنَى هَهُنَا على اللُّزُوم، وَإِن احْتمل التَّعَدِّي أَيْضا. قَوْله: (الْحساب) نصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان لناقش، لِأَن أصل بَاب المفاعلة لنسبة أصل الْفِعْل إِلَى أحد الْأَمريْنِ مُتَعَلقا بِالْآخرِ صَرِيحًا، وَيَجِيء عكس ذَلِك ضمنا، فلأجل تعلقه بِالْآخرِ جَاءَ غير الْمُتَعَدِّي إِذا نقل إِلَى فَاعل مُتَعَدِّيا نَحْو: كارمته، فَإِن أَصله لَازم وَقد تعدى هَهُنَا، والمتعدي إِلَى مفعول وَاحِد إِذا نقل إِلَى فَاعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين نَحْو: جاذبته الثَّوْب، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يصلح مفعول أصل الْفِعْل أَن يكون مشاركاً للْفَاعِل كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، فَإِن الثَّوْب لمَّا لم يصلح لِأَن يكون مشاركاً للْفَاعِل فِي المجاذبة احْتِيجَ إِلَى مفعول آخر يكون مشاركاً لَهُ فِيهَا، فيتعدى إِلَى اثْنَيْنِ، وَأما إِذا صلح مَفْعُوله للمشاركة فَلَا يتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، بل يَكْتَفِي بمفعول كَمَا فِي: شاتمت زيدا. فَإِن قلت: أَيْن الْمَفْعُول الأول هَهُنَا؟ قلت: الضَّمِير الَّذِي نُوقِشَ فَإِنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالْمعْنَى: من ناقشه الله الْحساب يهْلك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الْحساب مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: فِي الْحساب، أَي: من جرى فِي حسابه المضايقة يهْلك. قلت: الظَّاهِر مَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَانَت لَا تسمع) إِنَّمَا جمع بَين: كَانَت، الَّذِي هُوَ الْمَاضِي، وَبَين: لَا تسمع، الَّذِي هُوَ الْمُضَارع لِأَن كَانَت هُنَا لثُبُوت خَبَرهَا والمضارع للاستمرار فيتناسبان، أَو جِيءَ بِلَفْظ الْمُضَارع استحضاراً للصورة الْمَاضِيَة وحكاية عَنْهَا، فلفظه، وَإِن كَانَ مضارعاً، لَكِن مَعْنَاهُ على الْمَاضِي. قَوْله: (عذب) لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: إِن نفس مناقشة الْحساب يَوْم(2/137)
عرض الذُّنُوب والتوقيف على قَبِيح مَا سلف لَهُ تَعْذِيب وتوبيخ. وَالْآخر أَنه مفض إِلَى اسْتِحْقَاق الْعَذَاب، إِذْ لَا حَسَنَة للْعَبد يعملها إلاَّ من عِنْد اللَّه وبفضله وإقداره لَهُ عَلَيْهَا وهدايته لَهَا، وَأَن الْخَالِص لوجهه تَعَالَى من الْأَعْمَال قَلِيل، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: يهْلك مَكَان عذب. قَوْله: (يَسِيرا) أيَّ سهلاً هيناً لَا يناقش فِيهِ وَلَا يعْتَرض بِمَا يشق عَلَيْهِ كَمَا يناقش أَصْحَاب الشمَال. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُعَارضَة هَهُنَا أَعنِي بَين الحَدِيث وَالْآيَة؟ قلت: وَجههَا أَن الحَدِيث عَام فِي تَعْذِيب من حُوسِبَ، وَالْآيَة تدل على عدم تَعْذِيب بَعضهم، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وجوابها أَن المُرَاد من الْحساب فِي الْآيَة الْعرض يَعْنِي: الإبراز والإظهار. وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، هُوَ أَن يعرف ذنُوبه ثمَّ يتَجَاوَز عَنهُ. قَوْله: (من نُوقِشَ) الْمَعْنى: أَن التَّقْصِير غَالب على الْعباد، فَمن استقصي عَلَيْهِ وَلم يسامح هلك وَأدْخل النَّار، وَلَكِن الله تَعَالَى يعْفُو وَيغْفر مَا دون الشّرك لمن شَاءَ. وَقيل إِن المناقشة فِي الْحساب نَفسهَا هُوَ الْعَذَاب، لما رُوِيَ عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه قَالَ: (من يُحَاسب يعذب. فَقيل: يَا رَسُول الله فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا. قَالَ: ذَلِكُم الْعرض، من نُوقِشَ فِي الْحساب عذب) . وَفِيه نظر، لِأَن قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من يُحَاسب يعذب) . وَقَوله: (من نُوقِشَ فِي الْحساب عذب) يدل على أَن من حُوسِبَ عذب سَوَاء بمناقشة أَو لَا، وَلَا يدل على أَن المناقشة فِي الْحساب نَفسهَا عَذَاب، بل الْمَعْهُود خِلَافه، فَإِن الْجَزَاء لَا بُد وَأَن يكون سَببا عَن الشَّرْط، وَالْجَوَاب: أَن التألم الْحَاصِل للنَّفس بمطالبة الْحساب غير الْحساب ومسبب عَنهُ، فَجَاز أَن يكون بذلك الِاعْتِبَار جَزَاء.
بَيَان اسنتباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان فَضِيلَة عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وحرصها على التَّعَلُّم وَالتَّحْقِيق، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يتضجر من الْمُرَاجَعَة إِلَيْهِ. الثَّانِي: فِيهِ إِثْبَات الْحساب وَالْعرض. الثَّالِث: فِيهِ إِثْبَات الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز المناظرة ومقابلة السّنة بِالْكتاب. الْخَامِس: فِيهِ تفَاوت النَّاس فِي الْحساب.
37 - (بابٌ لِيُبَلّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغائبَ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون قطعا. قَوْله: (ليبلغ) أَمر للْغَائِب، وَيجوز فِي الْغَيْن الْكسر لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن تحريكه بِالْكَسْرِ إِذا حرك، وَالْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات، وَلَا يجوز غير ذَلِك، و: الشَّاهِد، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: ليبلغ، وَقَوله: الْعلم وَالْغَائِب، منصوبان على أَنَّهُمَا مفعولان لَهُ. وَالتَّقْدِير: ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب الْعلم وَالشَّاهِد الْحَاضِر من شهد إِذا حضر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق مُرَاجعَة المتعلم أَو السَّامع لضبط مَا يسمعهُ من الْعَالم، وَفِيه معنى التَّبْلِيغ من المراجع إِلَيْهِ إِلَى المراجع، فَكَأَن المراجع كَانَ كالغائب عِنْد سَمَاعه حَتَّى لم يفهم مَا سَمعه وراجع فِيهِ، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِيهِ تَبْلِيغ الشَّاهِد الْغَائِب، فتناسبا من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: رَوَاهُ عبد اللَّه بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهَذَا تَعْلِيق، وَلكنه أسْندهُ فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى، عَن عَليّ بن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن غَزوَان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب النَّاس يَوْم النَّحْر فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم حرَام) وَفِي آخِره: (اللَّهُمَّ هَل بلغت؟ اللَّهُمَّ هَل بلغت؟) قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوَصِيَّة إِلَى أمته فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، وَذكر الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا زُهَيْر بن حَرْب وَعُثْمَان بن أبي شيبَة، حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن عبد اللَّه ابْن عبد اللَّه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تَسْمَعُونَ وَيسمع مِنْكُم وَيسمع من يسمع مِنْكُم) . وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِي شَيْء من طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس بِهَذِهِ الصُّورَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَته وَرِوَايَة غَيره بِحَذْف الْعلم، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَعْنَى، لِأَن الْمَأْمُور بتبليغه هُوَ الْعلم. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مثل مَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه أبرز أحد المفعولين الَّذِي هُوَ مُقَدّر فِي الحَدِيث، وَهُوَ لَفْظَة: الْعلم.
104 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قالَ: حدّثني سَعِيدٌ عنْ أبي شُرَيْحٍ أنَّهُ قالَ لِ عَمْرِو بنِ سعِيدٍ، وَهْوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلى مَكَّة: ائْذَنْ لِي أيُّهَا الأمِيرُ أحَدّثْكَ قَوْلاً قامَ بِهِ النبيّ(2/138)
ُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكلَّمَ بِهِ، حمدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (إِن مكَّةَ حَرَّمَهَا الله وَلَمْ يُحَرّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَماً، وَلَا يَعْضِدَ بِها شَجَرَةً، فإنْ أحَدٌ تَرَخصَّ لقتالِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيها فَقُولُوا: إِنّ الله قدْ أَذِنَ لرِسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا ساعَةً مِنْ نَهَارٍ ثمَّ عادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِها بالأَمْسِ، ولْيُبلّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ) . فَقِيلَ لأَبِي شرَيْحٍ مَا قالَ عَمْروٌ قالَ: أنَا أعْلَمُ منْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ! إنَّ مَكَّةَ لاَ تُعِيذُ عاصِياً وَلَا فارَّا بدَمٍ وَلَا فارَّا بخَرْبَةٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب) .
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عبد اللَّه بن يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقد تقدم ذكرهم. الرَّابِع: أَبُو شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الْخُزَاعِيّ الكعبي. قيل: اسْمه خويلد، قَالَ أَبُو عمر: قيل: اسْمه عَمْرو بن خَالِد. وَقيل: كَعْب بن عَمْرو. قَالَ: وَالأَصَح عِنْد أهل الحَدِيث أَن اسْمه خويلد بن عَمْرو بن صَخْر بن عبد الْعُزَّى بن مُعَاوِيَة بن المحترش بن عَمْرو بن مَازِن بن عدي بن عَمْرو بن ربيعَة الْخُزَاعِيّ الْعَدوي الكعبي، أسلم قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ يحمل حينئذٍ أحد ألوية بني كَعْب بن خُزَاعَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث، وَهُوَ: (وَالله لَا يُؤمن (ثَلَاثًا) من لَا يُؤمن جَاره بوائقه) . والمتفق عَلَيْهِ: (من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم جَاره) . الحَدِيث، وَهَذَا الحَدِيث. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ أَبُو شُرَيْح من عقلاء أهل الْمَدِينَة، توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَفِي الصَّحَابَة من يشْتَرك مَعَه فِي كنيته اثْنَان: أَبُو شُرَيْح هانىء بن يزِيد الْحَارِثِيّ، وَأَبُو شُرَيْح رَاوِي حَدِيث: (أَعْتَى النَّاس على الله تَعَالَى) الحَدِيث. قَالُوا: هوالخزاعي، وَقَالُوا: غَيره. وَفِي الرِّوَايَة أَيْضا أَبُو شُرَيْح الْغِفَارِيّ، أخرج لَهُ ابْن مَاجَه.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني. وَمِنْهَا: أَنه من الرباعيات.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن شُرَحْبِيل عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَفِي الدِّيات عَن ابْن بشار عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد فِي مَعْنَاهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج، وَفِي الْعلم عَن قُتَيْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (الْبعُوث) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة. جمع الْبَعْث بِمَعْنى الْمَبْعُوث، وَهُوَ الْجند الَّذِي يبْعَث إِلَى مَوضِع. وَمعنى: يبْعَث الْبعُوث أَي: يُرْسل الجيوش، والبعث الْإِرْسَال. وَفِي (الْعباب) بَعثه أَي أرْسلهُ، وَقَوْلهمْ: كنت فِي بعث فلَان، أَي: فِي جَيْشه الَّذِي بعث مَعَه. والبعوث الجيوش، ومصدر بَعثه بعث وَبعث بِالتَّحْرِيكِ أَيْضا، والبعثة الْمرة الْوَاحِدَة. قَوْله: (إيذن) أَمر من: أذن يَأْذَن، وَأَصله: إئذن، قلبت الْهمزَة الثَّانِيَة يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا. قَوْله: (لامرىء) قد مر أَن هَذَا اللَّفْظ من النَّوَادِر، حَيْثُ كَانَت عينه دَائِما تَابِعَة للامه فِي الْحَرَكَة. قَوْله: (أَن يسفك) بِكَسْر الْفَاء على الْمَشْهُور، وَحكي ضمهَا، وَمعنى السفك إِرَاقَة الدَّم. وَفِي (الْعباب) : سفكت الدَّم أسفُكه وأسفِكه سفكاً، أَي: هرقته. وَقَرَأَ ابْن قطيب وَابْن أبي عبلة وَطَلْحَة بن مصرف وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة: (ويسفك الدِّمَاء) ، بِضَم الْفَاء، وَكَذَلِكَ الدمع. وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ: لَا يسْتَعْمل السفك إلاَّ فِي صب الدَّم، وَقد يسْتَعْمل فِي نشر الْكَلَام إِذا نشره. قَوْله: (وَلَا يعضد) من الْعَضُد، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الْقطع: يُقَال: عضد الشَّجَرَة، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، يعضد، بِالْكَسْرِ فِي الْمُضَارع: إِذا قطعهَا بالمعضد، وَهُوَ سيف يمتهن فِي الشّجر، فَهُوَ معضود، وَالْمعْنَى: لَا يعضد أَغْصَانهَا. قَالَ الْمَازرِيّ: يُقَال: عضد واستعضد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى لَا يعضد: لَا يفْسد وَلَا يقطع، وَأَصله من عضد الرجل إِذا أصَاب عضده، لكنه يُقَال مِنْهُ: عضده يعضده(2/139)
بِالضَّمِّ فِي الْمُضَارع، وَكَذَلِكَ يُقَال: إِذا أَعَانَهُ بِخِلَاف الْعَضُد بِمَعْنى الْقطع. وَفِي (الْعباب) : عضدته أعضده، بِالضَّمِّ، أَي أعنته، وَكَذَلِكَ إِذا أصبت عضده، وعضدت الشَّجَرَة أعضدها، بِالْكَسْرِ، أَي: قطعتها، والمعضد، بِكَسْر الْمِيم: مَا يعضد بِهِ الشَّجَرَة، وَالشَّجر مَا لَهُ سَاق. قَوْله: (ترخص) من بَاب تفعل من الرُّخْصَة، وَهُوَ حكم ثَبت لعذر مَعَ قيام الْمحرم. قَوْله: (لَا تعيذ) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: من الإعاذة، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي لَا تعصم العَاصِي من إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ. قَوْله: (وَلَا فَارًّا) أَي: ملتجئاً إِلَى الْحرم بِسَبَب خَوفه من إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ، وَهُوَ بِالْفَاءِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة، وَمَعْنَاهُ فِي الأَصْل: الهارب. قَوْله: (بخربة) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَهِي السّرقَة، كَذَا ثَبت تَفْسِيرهَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، أَعنِي فِي رِوَايَته: (وَلَا فَارًّا بخربة) . يَعْنِي: السّرقَة. وَقَالَ ابْن بطال: الخربة، بِالضَّمِّ: الْفساد، وبالفتح: السّرقَة. وَقَالَ القَاضِي: وَقد رَوَاهُ جَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ غير الْأصيلِيّ: (بخربة) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي مُسلم، وَرَوَاهُ الْأصيلِيّ: (بخربة) ، بِضَم الْخَاء، وَقيل: بِضَم الْخَاء الْعَوْرَة، وبالفتح يَصح على أَن المُرَاد الفعلة الْوَاحِدَة. وَقَالَ الْخَلِيل: الخربة، بِالضَّمِّ: الْفساد فِي الدّين، مَأْخُوذ من الخارب وَهُوَ اللص، وَلَا يكَاد يسْتَعْمل إلاَّ فِي سَارِق الْإِبِل. وَقَالَ غَيره: الخربة، بِالْفَتْح: السّرقَة وَالْعَيْب. وَقَالَ الْخطابِيّ: الخربة هُنَا السّرقَة، والخرابة: سَرقَة الْإِبِل خَاصَّة، كَمَا قَالَ الْخَلِيل، وَأنْشد.
(والخارب اللص يحب الخاربا)
وَقَالَ غَيره: وَأما الْحِرَابَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة، فَيُقَال فِي كل شَيْء. يُقَال فِي الأول: خرب فلَان بِالْمُعْجَمَةِ وَفتح الرَّاء إبل فلَان يخرب خرابة، مثل: كتب يكْتب كِتَابَة، وَرُوِيَ فِي بعض النّسخ: بجزية، بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَفِي (الْعباب) : الخربة يَعْنِي، بِالْفَتْح: السّرقَة وَالْعَيْب والبلية، والخربة أَيْضا: أَعنِي بِالْفَتْح: الغربال. والخربة، بِالضَّمِّ: ثقب الورك وكل ثقب مستدير. والخرابة، بِالضَّمِّ: جبل من لِيف أَو نَحوه، وخرابة الإبرة: خرقها، وخرابة الورك: ثقبه، وَقد تشدد راؤها. والخارب: اللص. قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ سَارِق البعران خَاصَّة، وَالْجمع الخراب، بِضَم الْخَاء وَتَشْديد الرَّاء. قَالَ: والحربة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: الغرارة السَّوْدَاء. وَقَالَ اللَّيْث: الْوِعَاء. والحربة، بِفتْحَتَيْنِ: الطلعة إِذا كَانَت بقشرها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (إيذن لي) مقول القَوْل. قَوْله: (أَيهَا الْأَمِير) ، أَصله: يَا أَيهَا الْأَمِير، حذف مِنْهُ حرف النداء. قَوْله: (أحَدثك) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، و: (قولا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان. قَوْله: (قَامَ بِهِ) أَي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، أَعنِي: قَوْله: بِهِ، وَالْفَاعِل أَعنِي قَوْله: النَّبِي، وَهِي فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (قولا) . قَوْله: (الْغَد) بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة، وَهُوَ الْيَوْم الثَّانِي من فتح يَوْم مَكَّة. قَوْله: (سمعته) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى القَوْل. وَقَوله: (أذناي) فَاعله، وَأَصله أذنان لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نون التَّثْنِيَة. فَإِن قلت: مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب، لِأَنَّهَا صفة أُخْرَى لِلْقَوْلِ. قَوْله: (ووعاه قلبِي) ، عطف على: سمعته اذناي، من الوعي وَهُوَ: الْحِفْظ. قَوْله: (وأبصرته عَيْنَايَ) أَيْضا عطف على مَا قبله، وَأَصله: عينان لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نون التَّثْنِيَة، وَاعْلَم أَن كل مَا فِي الْإِنْسَان اثْنَان من الْأَعْضَاء تحو: الْأذن وَالْعين، فَهُوَ مؤنث بِخِلَاف الْأنف وَنَحْوه. قَوْله: (حِين) ، نصب على الظّرْف: لقام، وَسمعت، ووعاه، وأبصرت. قَوْله: (حمد الله) جملَة وَقعت بَيَانا لقَوْله: تكلم. قَوْله: (واثنى عَلَيْهِ) عطف على: حمد، من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (حرمهَا الله) جملَة وَقعت فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (وَلم يحرمها النَّاس) عطف على خبر: إِن. قَوْله: (فَلَا يحل) ، الْفَاء فِيهِ جَوَاب شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يحل. قَوْله: (يُؤمن بِاللَّه) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لامرىء. قَوْله: (أَن يسفك) فَاعل لَا يحل، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: فَلَا يحل سفك دم. قَوْله: (بهَا) أَي بِمَكَّة، و: الْبَاء، بِمَعْنى: فِي، أَي: فِيهَا، كَمَا هِيَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. قَوْله: (دَمًا) مفعول ليسفك. قَوْله: (وَلَا يعضد) بِالنّصب أَيْضا لِأَنَّهُ عطف على: يسفك. وَالتَّقْدِير: وَأَن لَا يعضد. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: لَا يحل أَن لَا يعضد؟ . قلت: لَا، زيدت لتأكيد معنى النَّفْي، فَمَعْنَاه: لَا يحل أَن يعضد. قَوْله: (بهَا) أَي: فِيهَا، وَهَكَذَا فِي بعض النّسخ، و: شَجَرَة، بِالنّصب مفعول: يعضد. وَذكر بعض شرَّاح (الْمَشَارِق) للصغاني أَن قَوْله: لَا يعضد، بِالرَّفْع ابْتِدَاء كَلَام، وفاعله ضمير فِيهِ يرجع إِلَى أمرىء، وَعطفه على: لَا يحل، بِأَن يكون تَقْدِيره: إِن مَكَّة حرمهَا الله لَا يعضد بهَا أمرؤ شَجَرَة جَائِز. قلت: هَذَا تَوْجِيه حسن إِن ساعدته الرِّوَايَة. قَوْله: (فَإِن أحد) : إِن(2/140)
للشّرط، وَأحد، مَرْفُوع بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره: فَإِن ترخص أحد، ويفسره قَوْله: ترخص، إِنَّمَا حذف لِئَلَّا يجْتَمع الْمُفَسّر والمفسر، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) تَقْدِيره: وَإِن استجارك أحد من الْمُشْركين. قَوْله: (لقِتَال رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، اللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (فَقولُوا) جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِيهِ الْفَاء. قَوْله: (قد أذن) خبر: إِن. وَقَوله: (لم يَأْذَن لكم) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَإِنَّمَا أذن لي) ، رُوِيَ بِصِيغَة الْمَجْهُول والمعلوم. قَوْله: (سَاعَة) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (حرمتهَا) بِالرَّفْع فَاعل: عَادَتْ. قَوْله: (الْيَوْم) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (وليبلغ) يجوز بِكَسْر اللَّام وتسكينها، و: الشَّاهِد، بِالرَّفْع فَاعله، و: الْغَائِب، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (يَا باشريح) أَصله يَا أَبَا شُرَيْح حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف. قَوْله: (لَا تعيذ) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: مَكَّة لَا تعيذ. قَوْله: (عَاصِيا) مفعول: لَا تعيذ، ويروى بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، أَي: الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا. قَوْله: (وَلَا فَارًّا بِدَم) عطف على: عَاصِيا، وَالْبَاء فِي: بِدَم، للمصاحبة، أَي: مصاحبا بِدَم وملتسباً بِهِ. قَوْله: (وَلَا فار بخربة) ، عطف على مَا قبله، وَالْبَاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (لعَمْرو بن سعيد) ، بِفَتْح الْعين: وَهُوَ عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ ابْن أُميَّة الْقرشِي الْأمَوِي، يعرف بالأشدق، لَيست لَهُ صُحْبَة وَلَا كَانَ من التَّابِعين باحسان. ووالده مُخْتَلف فِي صحبته. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يكنى أَبَا أُميَّة، وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة، وغزا ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، ثمَّ قَتله عبد الْملك بن مَرْوَان بعد أَن آمنهُ. وَيُقَال: إِنَّه الَّذِي رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَن عمر وَعُثْمَان، روى عَنهُ بنوه وَأُميَّة وَسَعِيد. قلت: كَانَ قَتله سنة سبعين من الْهِجْرَة. قَوْله: (وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة) يَعْنِي: كَانَ عَمْرو بن سعيد يبْعَث الْجند إِلَى مَكَّة لقِتَال ابْن الزبير، وَذَلِكَ أَنه لما توفّي مُعَاوِيَة توجه يزِيد إِلَى عبد اللَّه بن الزبير يَسْتَدْعِي مِنْهُ بيعَته، فَخرج إِلَى مَكَّة مُمْتَنعا من بيعَته، فعضب يزِيد وَأرْسل إِلَى مَكَّة يَأْمر واليها يحيى بن حَكِيم بِأخذ بيعَة عبد اللَّه، فَبَايعهُ وَأرْسل إِلَى يزِيد بيعَته، فَقَالَ: لَا أقبل حَتَّى يُؤْتى بِهِ فِي وثاق، فَأتى ابْن الزبير، وَقَالَ: أَنا عَائِذ بِالْبَيْتِ، فَأبى يزِيد، وَكتب إِلَى عَمْرو بن سعيد أَن يُوَجه إِلَيْهِ جنداً، فَبعث هَذِه الْبعُوث. قَالَ ابْن بطال: وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، عِنْد عُلَمَاء السّنة أولى بالخلافة من يزِيد وَعبد الْملك لِأَنَّهُ بُويِعَ لِابْنِ الزبير قبل هَؤُلَاءِ، وَهُوَ صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ مَالك: ابْن الزبير أولى من عبد الْملك. قَوْله: (من يَوْم الْفَتْح) يَعْنِي فتح مَكَّة، وَكَانَ فِي عشْرين من رَمَضَان فِي السّنة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة. قَوْله: (سمعته أذناي) إِلَى آخِره، إِشَارَة مِنْهُ إِلَى مبالغته فِي حفظه من جَمِيع الْوُجُوه، فَفِي قَوْله: (سمعته أذناي) نفي أَن يكون سَمعه من غَيره، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، وأهوى النُّعْمَان بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ. وَقَوله: (ووعاه قلبِي) تَحْقِيق لفهمه والتثبت فِي تعقل مَعْنَاهُ. وَقَوله: (وأبصرته عَيْنَايَ) زِيَادَة فِي تحقق السماع والفهم عَنهُ بِالْقربِ مِنْهُ والرؤية، وَأَن سَمَاعه مِنْهُ لَيْسَ اعْتِمَادًا على الصَّوْت دون حجاب، بل الرُّؤْيَة والمشاهدة، وَالْهَاء فِي قَوْله: تكلم بِهِ، عَائِدَة على قَوْله: أحَدثك. قَوْله: (حرمهَا الله) إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ مُطلق التَّحْرِيم، فَيتَنَاوَل كل محرماتها، وَإِمَّا أَن يُرَاد بِهِ مَا ذكر بعده من سفك الدَّم وعضد الشّجر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ تفهيم المخاطبين بعظيم قدر مَكَّة بِتَحْرِيم الله إِيَّاهَا، وَنفي مَا تعتقده الْجَاهِلِيَّة وَغَيرهم من أَنهم حرمُوا وحللوا، كَمَا حرمُوا أَشْيَاء من قبل أنفسهم، وأكد ذَلِك الْمَعْنى بقوله: (وَلم يحرمها النَّاس) ، أَي: فتحريمها ابْتِدَاء أَي من غير سَبَب يعزى لأحد لَا مدْخل فِيهِ لَا لنَبِيّ وَلَا لعالم، ثمَّ بيّن التَّحْرِيم بقوله: (فَلَا يحل لامرىء يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا) إِلَى آخِره، لِأَن من آمن بِاللَّه لَزِمته طَاعَته، وَمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر لزمَه الْقيام بِمَا وَجب عَلَيْهِ، وَاجْتنَاب مَا نهى عَنهُ، تخلصاً خوف الْحساب عَلَيْهِ، وَيُقَال: معنى: وَلم يحرمها النَّاس: لَيْسَ من مُحرمَات النَّاس، حَتَّى لَا يعْتد بِهِ، بل هِيَ من مُحرمَات الله. أَو مَعْنَاهُ: إِن تَحْرِيمهَا بِوَحْي الله تَعَالَى، لَا أَنه اصْطلحَ النَّاس على تَحْرِيمهَا بِغَيْر إِذن الله تَعَالَى. قَوْله: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مَعْنَاهُ: إِن قَالَ أحد بِأَن ترك الْقِتَال عَزِيمَة، والقتال رخصَة يتعاطى عِنْد الْحَاجة مستدلاً بِقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا، فَقولُوا لَهُ: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن الله أذن لرَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَأْذَن لكم، وَإِنَّمَا أذن لَهُ فِيهَا سَاعَة من نَهَار، يَعْنِي فِي إِرَاقَة دم كَانَ مُبَاحا خَارج الْحرم، وَالْحُرْمَة كَانَت للحرم فِي إِرَاقَة دم محرم الإراقة، فَكَانَ الْحرم فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي تِلْكَ السَّاعَة بِمَنْزِلَة الْحل، ثمَّ عَادَتْ حرمتهَا كَمَا كَانَت، وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُقَال: لقتالي بَيَانا لاستظهار التَّرَخُّص، فَإِن الرَّسُول الْمبلغ للشرائع، إِذا فعل ذَلِك كَانَ دَلِيلا على جَوَاز التَّرَخُّص. وَإِنَّمَا الْتفت ثَانِيًا بقوله: (وَإِنَّمَا أذن لي) وَلم يقل: أذن لَهُ، بَيَانا لاختصاصه بذلك بِالْإِضَافَة إِلَى ضَمِيره كَمَا فِي قَول امرىء الْقَيْس:(2/141)
(وَذَلِكَ من نبأ جَاءَنِي ... وخبرته عَن أبي الْأسود)
قَوْله: (سَاعَة من نَهَار) أَرَادَ بِهِ مِقْدَارًا من الزَّمَان من يَوْم الْفَتْح وَهُوَ زمَان الدُّخُول فِيهَا، وَلَا يعلم من الحَدِيث إِبَاحَة عضد الشّجر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ السَّاعَة. قَوْله: (حرمتهَا) أَي الحكم الَّذِي فِي مُقَابلَة الْإِبَاحَة المستفادة من لفظ الْإِذْن، وَلَفظ الْيَوْم يُطلق وَيُرَاد بِهِ يَوْمك الَّذِي أَنْت فِيهِ. أَي: من يَوْم وَقت طُلُوع الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الزَّمَان الْحَاضِر الْمَعْهُود، وَقد يكون أَكثر من يَوْم وَاحِد وَأَقل، وَكَذَا حكم الأمس. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِهِ هَهُنَا؟ قلت: الظَّاهِر أَنه الْحَاضِر وَيحْتَمل أَيْضا الْمَعْنى الآخر أَي مَا بَين الطُّلُوع إِلَى الْغُرُوب. وَتَكون حينئذٍ اللَّام للْعهد من يَوْم الْفَتْح، إِذْ عود حرمتهَا كَانَ فِي يَوْم الْفَتْح لَا فِي غَيره الَّذِي هُوَ يَوْم صُدُور هَذَا القَوْل، وَكَذَا اللَّام فِي الأمس يكون معهوداً من أمس يَوْم الْفَتْح. قَوْله: (مَا قَالَ عَمْرو) أَي فِي جوابك، فَقَالَ أَبُو شُرَيْح: قَالَ، أَي عَمْرو: أَنا اعْلَم مِنْك: قَالَ ابْن بطال: مَا قَالَه لَيْسَ بِجَوَاب لِأَنَّهُ لم يخْتَلف مَعَه فِي أَن من أصَاب حدا فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم هَل يُقَام عَلَيْهِ؟ وَإِن مَا أنكرهُ عَلَيْهِ أَبُو شُرَيْح بَعثه الْخَيل إِلَى مَكَّة واستباحته حرمتهَا بِنصب الْحَرْب عَلَيْهَا، فحاد عَمْرو عَن الْجَواب، وَاحْتج أَبُو شُرَيْح بِعُمُوم الحَدِيث، وَذهب إِلَى أَن مثله لَا يجوز أَن يستباح نَفسه وَلَا ينصب الْحَرْب عَلَيْهَا بِقِتَال بَعْدَمَا حرمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لما سمع عَمْرو ذَلِك رده بقوله: أَنا أعلم، وَيَعْنِي: إِن صَحَّ سماعك وحفظك لَكِن مَا فهمت الْمَعْنى المُرَاد من الْمُقَاتلَة، فَإِن ذَلِك التَّرَخُّص كَانَ بِسَبَب الْفَتْح عنْوَة وَلَيْسَ بِسَبَب قتل من اسْتَحَقَّه خَارج الْحرم، وَالَّذِي أَنا بصدده من الْقَبِيل الثَّانِي لَا من الأول، فَكيف تنكر عَليّ؟ فَهُوَ من القَوْل بِالْمُوجبِ، يَعْنِي: الْجَواب مُطَابق وَلَيْسَ مجاوبة من غير سُؤَاله. قلت: كَونه جَوَابا على اعْتِقَاد عَمْرو فِي ابْن الزبير، وَالله اعْلَم، وَقد شنع عَلَيْهِ ابْن حزم فِي ذَلِك فِي (الْمحلى) فِي كتاب الْجِنَايَات، فَقَالَ: لَا كَرَامَة للئيم الشَّيْطَان الشرطي الْفَاسِق، يُرِيد أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهَذَا الْفَاسِق هُوَ العَاصِي لله وَلِرَسُولِهِ وَمن وَالَاهُ أَو قَلّدهُ، وَمَا حَامِل الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إلاَّ هُوَ وَمن أمره وَصوب قَوْله، وَكَأن ابْن حزم إِنَّمَا ذكر ذَلِك لِأَن عمرا ذكر ذَلِك عَن اعْتِقَاده فِي ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف الْعلمَاء فِي الصَّحَابِيّ إِذا روى الحَدِيث هَل يكون أولى بتأويله مِمَّن يَأْتِي بعده أم لَا؟ فَقَالَت طَائِفَة تَأْوِيل الصَّحَابِيّ أولى لِأَنَّهُ الرَّاوِي للْحَدِيث، وَهُوَ أعلم بمخرجه وَسَببه. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يلْزم تَأْوِيله إِذا لم يصب التَّأْوِيل. وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (شرح كتاب الْبُرْهَان) : مُخَالفَة الرَّاوِي لما رَوَاهُ على أَقسَام: مُخَالفَة بِالْكُلِّيَّةِ، وَمُخَالفَة ظَاهِرَة على وَجه التَّخْصِيص، وَتَأْويل مُحْتَمل أَو مُجمل. وكل هَذِه الْأَقْسَام فِيهَا الْخلاف. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: مَذْهَب الشَّافِعِي اتِّبَاع رِوَايَته لَا عمله، وَمذهب أبي حنيفَة اتِّبَاع عمله لَا رِوَايَته، فَإِذا كَانَ الحَدِيث عَاما فَهَل يخص بِعَمَل رَاوِيه، وَكَذَا إِذا كَانَ لفظ الحَدِيث مُجملا فَصَرفهُ الرَّاوِي إِلَى أحد محتملاته، هَل يُصَار إِلَى مذْهبه؟ فَفِي ذَلِك خلاف. وَقَالَ الْخَطِيب: ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه إِن كَانَ تَأْوِيل الرَّاوِي يُخَالف ظَاهر الحَدِيث رَجَعَ إِلَى الحَدِيث، وَإِن كَانَ أحد محتملاته الظَّاهِرَة رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمثله إِمَام الْحَرَمَيْنِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إلاَّ هَا وَهَا) ، حمله ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على التَّقَابُض فِي الْمجْلس، وَحَدِيث ابْن عمر: (البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا) حمله ابْن عمر على فرقة الْأَبدَان، وَذكر الْحَنَفِيَّة حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فِي ولوغ الْكَلْب سبعا، وَأَن مَذْهَب أبي هُرَيْرَة جَوَاز الِاقْتِصَار على الثَّلَاث. وَأَن السَّبع مَنْدُوبَة. وَقَالَ الْمَازرِيّ، وَغَيره: يَنْبَغِي أَن يعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة من بَاب الْمُخَالفَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى النّسخ لَا بِمَعْنى التَّخْصِيص، فَإِن الِاقْتِصَار على الثَّلَاث مُخَالفَة للعدد الْمَحْدُود وَهُوَ السَّبع. قلت: إِنَّمَا خَالف أَبُو هُرَيْرَة الْعدَد السَّبع لثُبُوت انتساخه عِنْده، وَالْحمل عَلَيْهِ تَحْسِين الظَّن فِي حق الصَّحَابِيّ. وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يكون مثله حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَقَول أبي القعيس لَهَا: أتحتجبين مني وَأَنا عمك؟ قَالَت: كَيفَ ذَلِك؟ فَقَالَ: أَرْضَعتك امْرَأَة أخي بِلَبن أخي. قَالَت: فَسَأَلت عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: (فَقَالَ: صدق أَفْلح إيذني لَهُ) فروته وأفتته بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه أخواتها وَبَنَات أُخْتهَا، وَلَا يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه نسَاء إخوتها. وَلم يحرم بِلَبن الْفَحْل هِيَ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَالقَاسِم وَأَبُو سَلمَة وَأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِأَن عَائِشَة روته وَلم تعْمل بِهِ وَلم يَأْخُذ بِهِ الْكُوفِيُّونَ وَلَا الشَّافِعِي وَلَا التفتوا إِلَى تَأْوِيلهَا، وَأخذُوا بحديثها وافتوا بِتَحْرِيم لبن(2/142)
الْفَحْل. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي بَرِيرَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيرهَا بعد أَن اشترتها عَائِشَة وأعتقتها، وَأَن ابْن عَبَّاس يُفْتِي أَن بيعهَا طَلَاق، وَمَا رَوَاهُ مُخَالف لفتياه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ بيعهَا طَلَاقا لم يُخَيّر وَهِي مُطلقَة؟ وروت عَائِشَة، قَالَت: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر وأقرت صَلَاة السّفر، وَكَانَت عَائِشَة تتمّ. فَترك الْكُوفِيُّونَ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل قَوْلهَا وَأخذُوا بحديثها، وَقَالُوا: قصر الصَّلَاة فِي السّفر فَرِيضَة، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وروى عَنهُ أَبُو مُصعب أَنه سنة، وَذهب جمَاعَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى التَّخْيِير بَين الْقصر والإتمام، وَالله اعْلَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِي قَول أبي شُرَيْح: (ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير) حُسن التلطف فِي الْإِنْكَار لَا سِيمَا مَعَ الْمُلُوك فِيمَا يُخَالف مقصودهم، لِأَن التلطف بهم أدعى لقبولهم لَا سِيمَا من عرف مِنْهُ بارتكاب هَوَاهُ، وَأَن الغلظة عَلَيْهِم قد تكون سَببا لإثارة فتْنَة ومعاندة.
الثَّانِي: فِيهِ وَفَاء أبي شُرَيْح، رَضِي الله عَنهُ، بِمَا أَخذه الله على الْعلمَاء من الْمِيثَاق فِي تَبْلِيغ دينه ونشره حَتَّى يظْهر، وَقد روى ابْن إِسْحَاق فِي آخِره أَنه قَالَ لَهُ عَمْرو بن سعيد: نَحن أعلم بحرمتها مِنْك، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْح: إِنِّي كنتُ شَاهدا وكنتَ غَائِبا، وَقد أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبلغ شاهدُنا غائبنا، وَقد أبلغتك فَأَنت وشأنك. وَقَالَ ابْن بطال: كل من خاطبه النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بتبليغ الْعلم من كَانَ فِي زَمَنه فالتبليغ عَلَيْهِ مُتَعَيّن، وَأما من بعدهمْ فالتبليغ عَلَيْهِم فرض كِفَايَة. قلت: فِيهِ نظر، فقد ذكر أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن التَّبْلِيغ عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فرض كِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ وَاحِد سقط عَن البَاقِينَ، وَقد كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَالْحكم لَا يبوح بِهِ فِي النَّاس، لَكِن يخبر بِهِ من حَضَره ثمَّة على لِسَان أُولَئِكَ إِلَى مَن ورَاءهم قوما بعد قوم، قَالَ: فالتبليغ فرض كِفَايَة والإصغاء فرض عين، والوعي وَالْحِفْظ يترتبان على معنى مَا يستمع بِهِ، فَإِن كَانَ مَا يَخُصُّهُ تعين عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَانَ الْعَمَل فرض عين، والتبليغ فرض كِفَايَة، وَذَلِكَ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ، وَلَا يلْزمه أَن يَقُول ابْتِدَاء وَلَا بعده، فقد كَانَ قوم من الصَّحَابَة يكثرون الحَدِيث: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فحبسهم عمر، رَضِي الله عَنهُ، حَتَّى مَاتَ وهم فِي سجنه. هَذَا آخر كَلَامه.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) الحَدِيث، بَعضهم على أَن الْكفَّار غير مخاطبين بِفُرُوع الشَّرِيعَة، وَالصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ خِلَافه. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا مَفْهُوم لَهُ، وَقد اسْتعْمل منطوقه بِتَحْرِيم الْقِتَال على الْمُؤمن فِيهَا.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بَعضهم بقوله: (أَن يسفك بهَا دَمًا) على تَحْرِيم الْقِتَال بِمَكَّة، وَهُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ السِّيَاق، وَهُوَ قَوْله: (فَإِن أحد ترخص) الخ. وَقَوله فِي بعض طرق الحَدِيث: (وَإنَّهُ لم يحل الْقِتَال لأحد قبلي) ، وَالضَّمِير فِي: إِنَّه، للشأن. وَهَذِه الْأَحَادِيث ظَاهرهَا يدل على أَن حكم الله تَعَالَى أَن لَا يُقَاتل من كَانَ بِمَكَّة، ويؤمن من استجار بهَا وَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَغَيره فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا إِنَّا جعلنَا حرما آمنا} (العنكبوت: 67) وَكَانَت عَادَة الْعَرَب احترام مَكَّة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص الْحرم أَن لَا يحارب أَهله، فَإِن بغوا على أهل الْعدْل، قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يحرم قِتَالهمْ ويضيقوا عَلَيْهِم حَتَّى يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة. وَقَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء: يُقَاتلُون على بغيهم إِذا لم يُمكن ردهم إلاَّ بِالْقِتَالِ، لِأَن قتال أهل الْبَغي من حُقُوق الله تَعَالَى الَّتِي لَا تجوز إضاعتها، فحفظها فِي الْحرم أولى من إضاعتها. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي كتاب: اخْتِلَاف الحَدِيث، فِي (الْأُم) . وَأجَاب الشَّافِعِي عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِأَن التَّحْرِيم يعود إِلَى نصب الْقِتَال وقتالهم بِمَا يعم كالمنجنيق وَغَيره إِذا لم يُمكن إصْلَاح الْحَال بِدُونِهِ، بِخِلَاف مَا إِذا تحصن الْكفَّار بِبَلَد آخر، فَإِنَّهُ يجوز قِتَالهمْ على كل وَجه بِكُل شَيْء. وَقَالَ الْقفال، من أَصْحَاب الشَّافِعِي، فِي (شرح التَّلْخِيص) فِي أول كتاب النِّكَاح: لَا يجوز الْقِتَال بِمَكَّة، وَلَو تحصنت جمَاعَة من الْكفَّار فِيهَا لم يجز قِتَالهمْ. قَالَ النَّوَوِيّ: الَّذِي قَالَه الْقفال غلط، نبهت عَلَيْهِ. قلت: بل هُوَ مُوَافق لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ. وَظَاهر الحَدِيث يعضده، فَإِن قَوْله: (لَا يحل لأحد) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم.
الْخَامِس: اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بقوله: (لَا يحل لمن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا) على أَن الملتجىء إِلَى الْحرم لَا يقتل لِأَنَّهُ عَام يدْخل فِيهِ هَذِه الصُّورَة، وَحكى ابْن بطال اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيمَن أصَاب حدا من قتل أَو زنا أَو سَرقَة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ: إِن إصابه فِي الْحرم أقيم عَلَيْهِ وَإِن أَصَابَهُ فِي غير الْحرم لَا يُجَالس وَلَا يدانى حَتَّى يخرج فيقام عَلَيْهِ، لِأَن الله تَعَالَى جعله آمنا دون غَيره فَقَالَ: {وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97) وَقَالَ آخَرُونَ: إِذا أَصَابَهُ فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ يخرج ويقام عَلَيْهِ الْحَد، وَلم يحضروا مُجَالَسَته وَلَا مسامعته، وَهُوَ مَذْهَب ابْن الزبير وَالْحسن وَمُجاهد. وَقَالَ آخَرُونَ:(2/143)
لايمنع من إِقَامَة الْحَد فِيهِ، والملتجىء إِلَيْهِ عَلَيْهِ الْحَد الَّذِي وَجب عَلَيْهِ قبل أَن يلجأ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب عَمْرو بن سعيد كَمَا ذكر فِي الحَدِيث. وَحكى الْقُرْطُبِيّ أَن ابْن الْجَوْزِيّ حكى الْإِجْمَاع فِيمَن جنى فِي الْحرم: انه يُقَاد مِنْهُ، وفيمن جنى خَارجه ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ عَن أبي حنيفَة وَأحمد أَنه لَا يُقَام عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ يُقَام عَلَيْهِ. وَنقل ابْن حزم عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الْمَنْع، ثمَّ قَالَ: وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، ثمَّ نقل عَن جمَاعَة من التَّابِعين موافقتهم، ثمَّ شنع على مَالك وَالشَّافِعِيّ، فَقَالَ: قد خالفا فِي هَذَا هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة وَالْكتاب وَالسّنة، وَاحْتج بَعضهم لمذهبهما بِقصَّة ابْن خطل. وَأجِيب عَنْهَا بأوجه. أَحدهَا: أَنه ارْتَدَّ وَقتل مُسلما وَكَانَ يهجو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الثَّانِي: أَنه لم يدْخل فِي الْأمان فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ وَأمر بقتْله وَإِن وجد مُعَلّقا باستار الْكَعْبَة. الثَّالِث: أَنه كَانَ مِمَّن قَاتل، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ إِنَّمَا قتل فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي أبيحت لَهُ، وَهُوَ غَرِيب، فَإِن سَاعَة الدُّخُول حِين استولى عَلَيْهَا وأذعن أَهلهَا، وَقتل ابْن خطل بعد ذَلِك، وَبعد قَوْله: (من دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) ، وَقد دخل لكنه اسْتَثْنَاهُ مَعَ جمَاعَة غَيره.
السَّادِس: فِي قَوْله: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) دَلِيل على على أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ، لَكِن من رَآهَا عنْوَة يَقُول: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منَّ على أَهلهَا وسوغهم أَمْوَالهم ودورهم وَلم يقسمها وَلم يَجْعَلهَا فَيْئا. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا يعلم مَكَّة يشبهها شَيْء من الْبِلَاد. وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره: فتحت صلحا، وتأولوا الحَدِيث بِأَن الْقِتَال كَانَ جَائِزا، لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَو احْتَاجَ إِلَيْهِ، ويضعف هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي الحَدِيث: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) فَإِنَّهُ يدل على وجود الْقَتْل. وَقَوله: (من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن) ، وَكَذَلِكَ غَيره من النَّاس الْمُعَلق على أَشْيَاء مَخْصُوصَة، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: عِنْدِي أَن أَسْفَل مَكَّة دخله خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ عنْوَة، وأعلاها دخله الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله عَنهُ، صلحا، ودخلها الشَّارِع من جِهَته، فَصَارَ حكم جِهَته الْأَغْلَب.
السَّابِع: فِي قَوْله: (وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة) دَلِيل على حُرْمَة قطع شجر الْحرم، وَفِي رِوَايَة: (وَلَا يعضد شوكه) ، وَفِي رِوَايَة: (وَلَا يخبط شَوْكهَا) . قَالَ النَّوَوِيّ: اتّفق الْعلمَاء على تَحْرِيم قطع أشجارها الَّتِي لَا ينبتها الآدميون فِي الْعَادة وعَلى تَحْرِيم خَلاهَا، وَاخْتلفُوا فِيمَا ينبته الآدميون، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي ضَمَان الشَّجَرَة إِذا قلعهَا، فَقَالَ مَالك: يَأْثَم وَلَا فديَة عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي: الْوَاجِب فِي الْكَبِيرَة بقرة وَفِي الصَّغِيرَة شَاة، وَكَذَا جَاءَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْوَاجِب فِي الْجَمِيع الْقيمَة، وَيجوز عِنْد الشَّافِعِي وَمن وَافقه رعي الْبَهَائِم فِي كلأ الْحرم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: لَا يجوز، والكلأ والعشب اسْم للرطب، والحشيش اسْم لليابس مِنْهُ، والكلأ يُطلق عَلَيْهِمَا. قَوْله: (وَلَا يعضد شوكه) دَلِيل على تَحْرِيم قطع الشوك المؤذي وَغَيره، وَقد أَخذ بِهِ بَعضهم عملا بِعُمُوم الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم لَا يحرم الشوك لأذاه تَشْبِيها بالفواسق الْخمس، وخصوا الحَدِيث بِالْقِيَاسِ. قَالَ الْخطابِيّ: أَكثر الْعلمَاء على إِبَاحَة الشوك، وَيُشبه أَن يكون الْمَحْظُور مِنْهُ مَا ترعاه الْإِبِل، وَهُوَ مَا رق مِنْهُ دون الصلب الَّذِي لَا ترعاه، فَيكون ذَلِك كالحطب وَغَيره. قلت: صحّح الْمُتَوَلِي، من الشَّافِعِيَّة، التَّحْرِيم مُطلقًا، وَالْقِيَاس الْمَذْكُور ضَعِيف لقِيَام الْفَارِق وَهُوَ أَن الفواسق الْخمس تقصد الْأَذَى بِخِلَاف الشوك.
الثَّامِن: فِي قَوْله: (وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب) صَرَاحَة بِنَقْل الْعلم وإشاعة السّنَن والاحكام، وَهُوَ إِجْمَاع.
التَّاسِع: أَن الحَدِيث يدل صَرِيحًا على تَحْرِيم الله مَكَّة، وَأبْعد من قَالَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أول من افْتتح ذَلِك، وَالصَّوَاب، أَنَّهَا مُحرمَة من يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض.
الْعَاشِر: فِيهِ النَّصِيحَة لولاة الْأُمُور وَعدم الْغِشّ لَهُم والإغلاظ عَلَيْهِم.
الْحَادِي عشر: فِيهِ ذكر التَّأْكِيد فِي الْكَلَام.
الثَّانِي عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْحَمد على الْمَقْصُود.
الثَّالِث عشر: فِيهِ إِثْبَات الْقيمَة.
الرَّابِع عشر: فِيهِ اخْتِصَاص الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بخصائص.
الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَوْلَا الْعلم بِكَوْن الحكم من خَصَائِصه.
السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز النّسخ، إِذْ نسخ الْإِبَاحَة للرسول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْحُرْمَةِ.
السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز المجادلة.
الثَّامِن عشر: فِيهِ مُخَالفَة التَّابِعِيّ للصحابي بِالِاجْتِهَادِ.
التَّاسِع عشر: فِيهِ فضل أبي شُرَيْح لاتباعه أَمر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالتبليغ عَنهُ.
الْعشْرُونَ: فِيهِ وجوب الْإِنْكَار من الْعَالم على الْأَمِير إِذا رأى أَنه غيّر شَيْئا من الدّين، وَإِن لم يسْأَل عَنهُ.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِي قَوْله: (ووعاه قلبِي) دَلِيل على أَن الْعقل مَحَله الْقلب لَا الدِّمَاغ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مَحَله الدِّمَاغ لقَالَ: ووعاه(2/144)
رَأْسِي، وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث إِنَّه مُشْتَرك بَينهمَا.
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أَن التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم من عِنْد الله لَا مدْخل لبشر فِيهِ، وَأَن ذَلِك لَا يعرف إلاَّ مِنْهُ فعلا وقولاً وتقريراً.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: (إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس) يُعَارضهُ قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة) الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَن نِسْبَة الحكم لإِبْرَاهِيم على معنى التَّبْلِيغ، فَيحْتَمل أَن تَحْرِيم إِبْرَاهِيم لَهَا بإعلام الله تَعَالَى أَنه حرمهَا، فتحريمه لَهَا بِتَحْرِيم الله لَا بِاجْتِهَادِهِ، أوكل الله إِلَيْهِ تَحْرِيمهَا فَكَانَ عَن أَمر الله، فأضيف إِلَى الله مرّة لذَلِك، وَمرَّة لإِبْرَاهِيم، أَو أَنه دعى إِلَيْهِ فَكَانَ تَحْرِيم الله لَهَا بدعوته. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الْعلمَاء: قيل: إِن مَكَّة مَا زَالَت مُحرمَة من يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقيل: كَانَت حَلَالا إِلَى زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْأول قَول الْأَكْثَرين وأوفق للْحَدِيث. وَأجِيب: عَن حَدِيث إِبْرَاهِيم بِأَن التَّحْرِيم كَانَ خفِيا ثمَّ أظهره إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ أَصْحَاب القَوْل الثَّانِي: إِن معنى الحَدِيث أَن الله كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَغَيره يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض: إِن إِبْرَاهِيم سيحرم مَكَّة، بِإِذن الله تَعَالَى. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ خصص من بَين مَا يجب بِهِ الْإِيمَان هذَيْن اللَّفْظَيْنِ: الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَي الْقِيَامَة؟ أُجِيب: بِأَن الأول إِشَارَة إِلَى المبدأ وَالثَّانِي إِلَى الْمعَاد، والبواقي دَاخِلَة تحتهما. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ سمي يَوْم الْقِيَامَة الْيَوْم الآخر؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ لَا ليل بعده، وَلَا يُقَال: يَوْم إلاَّ لمَا تقدمه ليل. وَمِنْهَا مَا قيل: هَل أحل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّاعَة الَّتِي أحلّت لَهُ مَكَّة سَائِر الْأَشْيَاء؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ أحلّت لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَة: الدَّم دون الصَّيْد، وَقطع الشّجر، وَسَائِر مَا حرم الله على النَّاس.
105 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قالَ: حدّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عَنْ مُحمَّدٍ عنِ ابنِ أبي بَكْرَةَ، عنْ أبي بَكْرَةَ ذُكِرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ: (فإنّ دِمَاءَكُمْ وأموَالَكُمْ) . قالَ مُحمَّدٌ: وأحْسِبُهُ قالَ: وأعْرَاضَكُمْ: (عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَة يَوْمكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ) وكانَ مُحَمَّدٌ يَقُولَ: صَدَقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ ذَلِكَ، (ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ) . مَرَّتَيْنِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَلا ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْبَصْرِيّ انْفَرد البُخَارِيّ بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَهُوَ ثِقَة ثَبت، وَثَّقَهُ يحيى وَآخَرُونَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق ثِقَة، توفّي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو بكرَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه نفيع، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَنه وَقع فِي بعض النّسخ: عَن مُحَمَّد عَن أبي بكرَة بِحَذْف ابْن أبي بكرَة بَينهمَا، وَفِي بَعْضهَا: عَن مُحَمَّد بن أبي بكرَة بتبديل: عَن، بِلَفْظ ابْن، وَكِلَاهُمَا وهم فَاحش. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَأما سَنَد هَذَا الحَدِيث فقد وَقع فِي البُخَارِيّ فِيهِ اضْطِرَاب من الروَاة عَن الْفربرِي. قَالَ أَبُو عَليّ الغساني: وَقع فِي نُسْخَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ، فِيمَا قَيده عَن الْحَمَوِيّ وَأبي الْهَيْثَم عَن الْفربرِي: عَن مُحَمَّد عَن أبي بكرَة، هُنَا سقط ابْن أبي بكرَة. وَرَوَاهُ سَائِر رُوَاة الْفربرِي، بِإِثْبَات ابْن أبي بكرَة بَين مُحَمَّد وَأبي بكرَة، وَوَقع الْخلَل فِيهِ أَيْضا فِي كتاب بَدْء الْخلق والمغازي، وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: فِي نُسْخَة أبي زيد أَيُّوب: عَن مُحَمَّد بن أبي بكرَة، وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ: مُحَمَّد عَن أبي بكرَة على الصَّوَاب. وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الْعِلَل) : إِن إِسْمَاعِيل بن علية وَعبد الْوَارِث روياه عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أبي بكرَة، لم يذكرَا بَينهمَا أحدا، وَكَذَا رَوَاهُ يُونُس: عَن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي بكرَة، وَرَوَاهُ قُرَّة بن خَالِد: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين. قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَرجل آخر أفضل من عبد الرَّحْمَن. وَسَماهُ أَبُو عَامر الْعَقدي: حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي. انْتهى كَلَامه. وَقَالَ الغساني: اتِّصَال هَذَا الْإِسْنَاد وَصَوَابه أَن يكون: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَيْضا عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي عَن أبي بكرَة، رَضِي الله عَنهُ. قلت: الصَّوَاب الَّذِي ذكره(2/145)
هُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني كَمَا تقدم فِي أَوَائِل كتاب الْعلم من طَرِيق أُخْرَى: عَن مُحَمَّد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه، وَقد تقدم هُنَاكَ أَكثر مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث.
بَيَان الْإِعْرَاب واللغات: قَوْله: (ذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ: فَإِن دماءكم) أَي: ذكر أَبُو بكرَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَيْسَ هَذَا من الذّكر الَّذِي بعد النسْيَان. وَقَوله: (قَالَ) ، أَي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمَعْنى: ذكر أَبُو بكرَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و: الْفَاء، فِي فَإِن، عاطفة والمعطوف عَلَيْهِ مَحْذُوف، لِأَن هَذَا الحَدِيث مَخْزُوم، لِأَنَّهُ بعض حَدِيث طَوِيل وَقد سبق بعضه فِي بَاب: قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (رب مبلغ أوعى من سامع) ، حَيْثُ قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَي يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه قَالَ: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟ فَقُلْنَا: بلَى، قَالَ: فَأَي شهر هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحجَّة؟ قُلْنَا: بلَى. قَالَ: فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ بَيْنكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا) إِلَى آخِرَة، وَقد خرم الحَدِيث هَهُنَا اقتصارا على الْمَقْصُود وَهُوَ بَيَان التَّبْلِيغ. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) أَي: ابْن سِيرِين أحد الروَاة. قَوْله: (واحسبه) أَي: أَظُنهُ، أَي: أَظن ابْن أبي بكرَة، قَالَ: (وَأَعْرَاضكُمْ) ، بِالنّصب عطف على قَوْله: (وَأَمْوَالكُمْ) . وَقَوله: (قَالَ مُحَمَّد وَأَحْسبهُ قَالَ) ، جمل مُعْتَرضَة. قَوْله: (حرَام) خبر: إِن، وَقَالَ الْكرْمَانِي: جمل مُعْتَرضَة بَين اسْم إِن وخبرها بِحَسب الظَّاهِر. قلت: بِحَسب الظَّاهِر اعتراضها بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة بَين اسْم إِن وخبرها. فَإِن قلت: كَيفَ روى مُحَمَّد بن سِيرِين هَهُنَا ظَانّا فِي هَذَا اللَّفْظ، وَفِيمَا تقدم جَازَ مَا فِيهِ كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي ذَلِك الْبَاب؟ قلت: إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ عِنْد رِوَايَته لأيوب ظَانّا فِي تِلْكَ اللَّفْظَة، وَبعدهَا تذكر فَحصل لَهُ الْجَزْم بهَا، فرواها لِابْنِ عون جَازِمًا. وَإِمَّا بِالْعَكْسِ لطرو تردد لَهُ أَو لغير ذَلِك، وَالله أعلم. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْله: (عَلَيْكُم) إِذْ مَعْلُوم أَن أَمْوَالنَا لَيست حَرَامًا علينا؟ قلت: الْعقل مُبين للمقصود وَهُوَ: أَمْوَال كل أحد مِنْكُم حرَام على غَيره، وَذَلِكَ عِنْد فقدان شَيْء من أَسبَاب الْحل، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْأُخْرَى: وَهِي بَيْنكُم بدل: عَلَيْكُم. قَوْله: (وَأَعْرَاضكُمْ) جمع عرض بِالْكَسْرِ، وَقد فسرناه هُنَاكَ مُسْتَوفى. وَحَاصِله أَنه يُقَال للنَّفس وللحسب. وَقَالَ فِي (شرح السّنة) لَو كَانَ المُرَاد من الْأَعْرَاض النُّفُوس لَكَانَ تَكْرَارا، لِأَن ذكر الدِّمَاء كافٍ، إِذْ المُرَاد بهَا النُّفُوس فَيتَعَيَّن الأحساب. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الظَّاهِر أَن المُرَاد بالأعراض: الْأَخْلَاق النفسانية. قَوْله: (أَلا) ، بتَخْفِيف اللَّام، كَأَنَّهُ قَالَ: ألاَ يَا قوم هَل بلغت؟ يَعْنِي: هَل عملت بِمُقْتَضى مَا قَالَ الله تَعَالَى: {بلغ مَا أنزل إِلَيْك} (الْمَائِدَة: 67) ؟ قَوْله: (وَكَانَ مُحَمَّد) ، أَي: ابْن سِيرِين. قَوْله: (كَانَ ذَلِك) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ذَلِك إِشَارَة إِلَى مَاذَا؟ إِذْ لَا يحْتَمل أَن يشار بِهِ إِلَى: ليبلغ الشَّاهِد، وَهُوَ أَمر، لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب من لَوَازِم الْخَبَر. قلت: إِمَّا أَن تكون الرِّوَايَة عِنْد ابْن سِيرِين: ليبلغ، بِفَتْح اللَّام فَيكون خَبرا، وَإِمَّا أَن يكون الْأَمر فِي معنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: إِخْبَار الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِأَنَّهُ سيقع التَّبْلِيغ فِيمَا بعد. وَإِمَّا أَن يكون إِشَارَة إِلَى تَتِمَّة الحَدِيث، وَهُوَ: أَن الشَّاهِد عَسى أَن يبلغ من هُوَ أوعى مِنْهُ، يَعْنِي: وَقع تَبْلِيغ الشَّاهِد أَو إِلَى مَا بعده، وَهُوَ التَّبْلِيغ الَّذِي فِي ضمن: (ألاَ هَل بلغت) ؟ يَعْنِي: وَقع تَبْلِيغ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى الْأمة وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} (الْكَهْف: 78) . قلت: الْجَواب الأول موجه إِن ساعدته الرِّوَايَة عَن مُحَمَّد بِفَتْح اللَّام، وَكَون الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر يحْتَاج إِلَى قرينَة. أَقُول: لَا يجوز أَن يكون للْإِشَارَة إِلَى التَّبْلِيغ الَّذِي يدل عَلَيْهِ: ليبلغ، وَمعنى كَانَ ذَلِك: وَقع ذَلِك التَّبْلِيغ الْمَأْمُور بِهِ من الشَّاهِد إِلَى الْغَائِب. قَوْله: (مرَّتَيْنِ) يتَعَلَّق بقوله: قَالَ مُقَدرا، أَي: قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مرَّتَيْنِ: أَلا هَل بلغت. فَإِن قلت: لم قدرت: قَالَ، وَمَا جعلته من تَتِمَّة: قَالَ، الْمَذْكُور فِي اللَّفْظ، وَيكون: وَكَانَ مُحَمَّد ... إِلَى آخِره جملَة مُعْتَرضَة؟ قلت: حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون مَجْمُوع هَذَا الْكَلَام مقولاً مرَّتَيْنِ، وَلم يثبت ذَلِك.
38 - (بابُ إثْمِ مَنْ كَذَبَ علَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْكذب خلاف الصدْق. قَالَ الصغاني: تركيب الْكَذِب يدل على خلاف الصدْق، وتلخيصه: أَنه لَا يبلغ نِهَايَة الْكَلَام فِي الصدْق. وَالْكذب عِنْد الأشعرية: الْإِخْبَار عَن الْأَمر على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ عمدا أَو سَهوا، خلافًا للمعتزلة فِي اشتراطهم العمدية. وَيُقَال فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَذْهَب الْحق:(2/146)
أَن الْكَذِب عدم مُطَابقَة الْوَاقِع والصدق مطابقته. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُطَابقَة الِاعْتِقَاد أَو لَا مطابقته. وَالثَّالِث: مطابقته الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، وَلَا مُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد لَا مطابقته. وعَلى الْأَخيرينِ يكون بَينهمَا الْوَاسِطَة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول وجوب تَبْلِيغ الْعلم إِلَى من لَا يعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب التحذير عَن الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ، وَذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب الْمَذْكُور من أنسب الْأَشْيَاء.
106 - حدّثنا علِيُّ بنُ الجَعْدِ قالَ: أخْبَرَنا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبرنِي مَنْصُورٌ قالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بنَ حِرَاش يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَكْذِبُوا عليَّ فإنَّهُ مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث فِي النَّهْي عَن الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، المستلزم للإثم المستلزم لدُخُول النَّار، والترجمة فِي بَيَان إِثْم من كذب عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَام.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: عَليّ بن الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالدال الْمُهْملَة، الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن جحش، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن عَمْرو بن عبد الله بن مَالك بن غَالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر الْغَطَفَانِي الْعَبْسِي، بِالْمُوَحَّدَةِ أَبُو مَرْيَم الْكُوفِي الْأَعْوَر العابد الْوَرع، يُقَال: إِنَّه لم يكذب قطّ، وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ عاصيان على الْحجَّاج، فَقيل للحجاج: إِن أباهما لم يكذب كذبة قطّ، لَو أرْسلت إِلَيْهِ فَسَأَلته عَنْهُمَا. فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: هما فِي الْبَيْت. فَقَالَ: قد عَفَوْنَا عَنْهُمَا لصدقك وَحلف أَن لَا يضْحك حَتَّى يعلم أَيْن مصيره إِلَى الْجنَّة أَو إِلَى النَّار فَمَا ضحك إلاَّ بعد مَوته. وَله أَخَوان: مَسْعُود، وَهُوَ الَّذِي تكلم بعد الْمَوْت. وربيع، وَهُوَ أَيْضا حلف أَن لَا يضْحك حَتَّى يعرف أَفِي الْجنَّة أم لَا. فَقَالَ غاسله: إِنَّه لم يزل مُبْتَسِمًا على سَرِيره حَتَّى فَرغْنَا. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لم يروَ عَن مَسْعُود شَيْء إلاَّ كَلَامه بعد الْمَوْت. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كتب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى حِرَاش بن جحش، فَحرق كِتَابه، وَلَيْسَ لربعي عقب، والعقب لِأَخِيهِ مَسْعُود. وَقَالَ ابْن سعد: حدث عَن عَليّ وَلم يقل: سمع. وَعَن أبي الْحسن الْقَابِسِيّ: أَنه لم يَصح لربعي سَماع من عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، غير هَذَا الحَدِيث. وَقدم الشَّام وَسمع خطْبَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، بالجابية. قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة، توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: توفّي سنة أَربع وَمِائَة، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : حِرَاش بِالْمُهْمَلَةِ سواهُ. والربعي: بِحَسب اللُّغَة نِسْبَة إِلَى الرّبع. والحراش: جمع الحرش، وَهُوَ الْأَثر. الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف الْهَاشِمِي الْمَكِّيّ الْمدنِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، ابْن عَم رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَخَتنه على بنته فَاطِمَة الزهراء. وَاسم أبي طَالب: عبد منَاف، على الْمَشْهُور. وَأم عَليّ: فَاطِمَة بنت أَسد بن هَاشم بن عبد منَاف وَهِي أول هاشمية ولدت هاشميا، أسلمت وَهَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة وَتوفيت فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصلى عَلَيْهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَنزل فِي قبرها. وكنية عَليّ: أَبُو الْحسن، وكناه رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَبَا تُرَاب، وَهُوَ أَخُو رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالمؤاخاة. وَقَالَ لَهُ: أَنْت أخي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَهُوَ أَبُو السبطين وَأول هاشمي ولد بَين هاشميين، وَأول خَليفَة من بني هَاشم، وَأحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَاحِد السِّتَّة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَأحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَأحد الْعلمَاء الربانيين، وأوحد الشجعان الْمَشْهُورين، والزهاد الْمَذْكُورين، وَأحد السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام، شهد مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمشَاهد كلهَا إلاَّ تَبُوك، اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا على الْمَدِينَة، وأصابته يَوْم أحد سِتّ عشرَة ضَرْبَة، وَأَعْطَاهُ الرَّايَة يَوْم خَيْبَر وَأخْبر أَن الْفَتْح يكون على يَدَيْهِ. ومناقبه جمة، وأحواله فِي الشجَاعَة مَشْهُورَة وَأما علمه فَكَانَ من الْعُلُوم بِالْمحل الْأَعْلَى. رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَمْسمِائَة حَدِيث وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على عشْرين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِتِسْعَة، وَمُسلم بِخَمْسَة عشر. ولي الْخلَافَة خمس سِنِين. وَقيل: إلاَّ شهرا. بُويِعَ لَهُ بعد عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، لكَونه أفضل(2/147)
الصَّحَابَة حِينَئِذٍ، ضربه عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي، من حمير، بِسيف مَسْمُوم فأوصله دماغه فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وَمَات بِالْكُوفَةِ لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ آدم اللَّوْن أصلع ربعَة، أَبيض الرَّأْس واللحية، وَرُبمَا خضب لحيته، وَكَانَت لَهُ لحية كثة طَوِيلَة، حسن الْوَجْه كَأَنَّهُ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، ضحوك السن، وقبره بِالْكُوفَةِ، وَلكنه غيب خوفًا من الْخَوَارِج، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه: عَليّ بن أبي طَالب غَيره، وَفِي الروَاة: عَليّ بن أبي طَالب، ثَمَانِيَة سواهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث والإخبار بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين بغدادي وواسطي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ صَغِير عَن تَابِعِيّ كَبِير.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي مُقَدّمَة كِتَابه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَابْن مثنى، وَابْن بشار ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى الْفَزارِيّ عَن شريك بن عبد الله عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَنهُ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَفِي المناقب عَن سُفْيَان بن وَكِيع عَن أَبِيه عَن شريك نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث وَعَن بنْدَار عَن يحيى كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عبد الله بن عَامر بن زُرَارَة وَإِسْمَاعِيل بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن شريك بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (لَا تكذبوا عَليّ) نهي بِصِيغَة الْجمع، وَهُوَ عَام فِي كل كذب مُطلق فِي كل نوع مِنْهُ. فَإِن قلت: هَل فرق بَين كذب عَلَيْهِ، وَكذب لَهُ. أم الحكم فيهمَا سَوَاء؟ قلت: معنى كذب عَلَيْهِ، نِسْبَة الْكَلَام إِلَيْهِ كَاذِبًا، سَوَاء كَانَ عَلَيْهِ أَو لَهُ، وَالْكذب على الله دَاخل تَحت الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، إِذْ المُرَاد من الْكَذِب عَلَيْهِ الْكَذِب فِي أَحْكَام الدّين. فَإِن قلت: الْكَذِب من حَيْثُ هُوَ مَعْصِيّة فَكل كَاذِب عاصٍ وكل عاصٍ يلج النَّار لقَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} (النِّسَاء: 4) فَمَا فَائِدَة لَفْظَة: عَليّ، فَإِن الحكم عَام فِي كل من كذب على أحد. قلت: لَا شكّ أَن الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَشد من الْكَذِب على غَيره لكَونه مقتضيا شرعا عَاما بَاقِيا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَخص بِالذكر لذَلِك أَو الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة، وعَلى غَيره صَغِيرَة، والصغائر مكفرة عِنْد الاجتناب عَن الْكَبَائِر، أَو المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْص الله} (النِّسَاء: 4) الْكَبِيرَة. فَإِن قلت: الشَّرْط سَبَب للجزاء، فَكيف يتَصَوَّر سَبَبِيَّة الْكَذِب لِلْأَمْرِ بالولوج. نعم، إِنَّه سَبَب للولوج نَفسه. قلت: هُوَ سَبَب للازمه، لِأَن لَازم الْأَمر الْإِلْزَام، وَكَون الْكَذِب سَببا لإلزام الولوج معنى صَحِيح. قَوْله: (فَإِنَّهُ من كذب عَليّ) جَوَاب النَّهْي، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء، وَالضَّمِير فِي: فَإِنَّهُ، للشأن. وَهُوَ اسْم: إِن. وَقَوله: (من كذب عَليّ) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (فليلج النَّار) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته: الْفَاء، أَي: فَلْيدْخلْ النَّار. من ولج يلج، ولوجا ولجة إِذا دخل. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: إِنَّمَا جَاءَ مصدره ولوجا، وَهُوَ من مصَادر غير الْمُتَعَدِّي على معنى: ولجت فِيهِ، وأصل فليلج: فليولج، حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، وبابه من بَاب: ضرب يضْرب، وَكَذَلِكَ لجة واصلها: ولجة، مثل: عدَّة، أَصْلهَا: وعد فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهَا تبعا لفعلها عوضت عَنْهَا الْهَاء. قَوْله: (النَّار) مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي، لِأَن أَصله لَازم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ من قبيل قَوْلك: دخلت الدَّار. وَالتَّقْدِير: دخلت فِي الدَّار. لِأَن دخل فعل لَازم، وَاللَّازِم لَا ينصب إلاَّ بالصلة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الحَدِيث: أَن هَذَا جَزَاؤُهُ وَقد يجازى بِهِ وَقد يعْفُو الله عَنهُ، وَلَا يقطع عَلَيْهِ بِدُخُول النَّار، وَهَكَذَا سَبِيل كل مَا جَاءَ من الْوَعيد بالنَّار لأَصْحَاب الْكَبَائِر غير الْكفْر، ثمَّ إِن جوزي وَأدْخل النَّار فَلَا يخلد فِيهَا بل لَا بُد من خُرُوجه مِنْهَا بِفضل الله تَعَالَى وَرَحمته.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِيهِ دَلِيل على تَعْظِيم حُرْمَة الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وانه كَبِيرَة. وَالْمَشْهُور: أَن فَاعله لَا يكفر إلاَّ أَن يستحله. وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول: من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُتَعَمدا كفر وأريق دَمه. وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَجعله من هفوات وَالِده، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَو كذب فِي حَدِيث وَاحِد عمدا فسق وردَّت رواياته كلهَا. وَقَالَ ابْن الصّلاح: وَلَا يقبل مِنْهُ رِوَايَة أبدا وَلَا تقبل تَوْبَته مِنْهُ، بل يتحتم جرحه دَائِما، على مَا ذكره جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل، وَأَبُو بكر الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب الشَّافِعِي، وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي من الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ الصَّيْرَفِي: كل من أسقطنا خَبره بَين أهل النَّقْل بكذب وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لم(2/148)
نعد لقبوله بتوبة تظهر، وَمن ضعفنا نَقله لم نجعله قَوِيا بعد ذَلِك. قَالَ: وَذَلِكَ فِيمَا افْتَرَقت فِيهِ الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الَّذِي ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة مُخَالف للقواعد، وَالْمُخْتَار الْقطع بِصِحَّة تَوْبَته من ذَلِك وَقبُول رِوَايَته بعد صِحَة التَّوْبَة بشروطها، وَقد أَجمعُوا على قبُول رِوَايَة من كَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم، وَأكْثر الصَّحَابَة كَانُوا بِهَذِهِ الصّفة، وَأَجْمعُوا على قبُول شَهَادَته، وَلَا فرق بَين الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. قلت: قد قيل عَن مَالك فِي شَاهد الزُّور: إِذا ثبتَتْ عَلَيْهِ شَهَادَة الزُّور لَا تسمع لَهُ شَهَادَة بعْدهَا، تَابَ أم لَا. وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، فِيمَن ردَّتْ شَهَادَته بِالْفِسْقِ ثمَّ تَابَ وَحسنت حَالَته: لَا تقبل مِنْهُ إِعَادَتهَا لما يلْحقهُ من التُّهْمَة فِي تَصْدِيق نَفسه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا ردّت شَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ للْآخر ثمَّ تَابَ لَا تسمع للتُّهمَةِ، فَلَا يبعد أَن يَجِيء مثله هَهُنَا لِأَن الرِّوَايَة كلهَا كنوع من الشَّهَادَة.
الثَّانِي: لَا فرق فِي تَحْرِيم الْكَذِب على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين مَا كَانَ فِي الْأَحْكَام وَغَيره: كالترغيب والترهيب. فكله حرَام من أكبر الْكَبَائِر بِإِجْمَاع الْمُسلمين المعتد بهم، خلافًا اللكرامية فِي زعمهم الْبَاطِل أَنه يجوز الْوَضع فِي التَّرْغِيب والترهيب، وتابعهم كثير من الجهلة الَّذين ينسبون أنفسهم إِلَى الزّهْد. وَمِنْهُم من زعم أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: من كذب عَليّ مُتَعَمدا ليضل بِهِ، وتمسكوا بِهَذِهِ الزِّيَادَة: أَنه كذب لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسد ومخالف لإِجْمَاع أهل الْحل وَالْعقد، وَجَهل لِسَان الْعَرَب، وخطاب الشَّرْع. فَإِن كل ذَلِك كذب عِنْدهم. وَأما تعلقهم بِهَذِهِ الزِّيَادَة فقد أُجِيب عَنْهَا بأجوبة: أَحدهَا: أَن الزِّيَادَة بَاطِلَة اتّفق الْحفاظ على بُطْلَانهَا. وَالثَّانِي: قَالَ الإِمَام الطَّحَاوِيّ: وَلَو صحت لكَانَتْ للتَّأْكِيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} (الْأَنْعَام: 144) . وَالثَّالِث: أَن اللَّام فِي: ليضل، لَيست للتَّعْلِيل، بل لَام الصيرورة وَالْعَاقبَة، وَالْمعْنَى: على هَذَا يصير كذبه إِلَى الضلال بِهِ.
الثَّالِث: من روى حَدِيثا وَعلم أَو ظن أَنه مَوْضُوع فَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْوَعيد إِذا لم يبين حَال رُوَاته وضعفهم، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من حدث عني بِحَدِيث يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَاذِبين) . قَالَ النَّوَوِيّ: الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة ضم الْيَاء فِي: يرى، و: الْكَاذِبين، بِكَسْر الْيَاء على الْجمع.
الرَّابِع: إِذا روى حَدِيثا ضَعِيفا لَا يذكرهُ بِصِيغَة الْجَزْم، نَحْو: قَالَ أَو فعل أَو أَمر، وَنَحْو ذَلِك، بل يَقُول: رُوِيَ عَنهُ كَذَا، وَجَاء عَنهُ كَذَا، أَو يذكر أَو يُروى أَو يُحكى، أَو يُقال أَو بلغنَا وَنَحْو ذَلِك، فَإِن كَانَ صَحِيحا أَو حسنا قَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، أَو فعله، وَنَحْو ذَلِك من صِيغ الْجَزْم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: استجاز بعض فُقَهَاء الْعرَاق نِسْبَة الحكم الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقيَاس إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نِسْبَة قولية، وحكاية فعلية، فَيَقُول فِي ذَلِك: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، وَكَذَا. قَالَ: وَلذَلِك ترى كتبهمْ مشحونة بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة تشهد متونها بِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لِأَنَّهَا تشبه فَتَاوَى الْفُقَهَاء، وَلَا يَلِيق بجزالة كَلَام سيد الْمُرْسلين، فَهَؤُلَاءِ شملهم النَّهْي والوعيد.
الْخَامِس: مِمَّا يظنّ دُخُوله فِي النَّهْي: اللّحن وَشبهه، وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم: يَنْبَغِي للراوي أَن يعرف من النَّحْو واللغة والأسماء مَا يسلم من قَول من لم يقل. قَالَ الْأَصْمَعِي: أخوف مَا أَخَاف على طَالب الْعلم، إِذا لم يعرف النَّحْو، أَن يدْخل فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من كذب عَليّ) الحَدِيث، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن يلحن، فمهما لحن الرَّاوِي فقد كذب عَلَيْهِ. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يُعْطي كتبه، إِذا كَانَ فِيهَا لحن، لمن يصلحها، فَإِذا صَحَّ فِي رِوَايَته كلمة غير مفيدة فَلهُ أَن يسْأَل عَنْهَا أهل الْعلم ويرويها على مَا يجوز فِيهِ. رُوِيَ ذَلِك عَن أَحْمد وَغَيره، قَالَ أَحْمد يجْتَنب إِعْرَاب اللّحن لأَنهم كَانُوا لَا يلحنون. وَقَالَ النَّسَائِيّ، فِيمَا حَكَاهُ الْقَابِسِيّ: إِذا كَانَ اللّحن شَيْئا تَقوله الْعَرَب، وَإِن كَانَ فِي لُغَة قُرَيْش، فَلَا يُغير لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يكلم النَّاس بلسانهم، وَإِن كَانَ لَا يُوجد فِي كَلَامهم فالشارع لَا يلحن. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: كَانُوا يعربون وَإِنَّمَا اللّحن من حَملَة الحَدِيث فأعربوا الحَدِيث. وَقيل لِلشَّعْبِيِّ: أسمع الحَدِيث لَيْسَ بإعراب أفأعربه؟ قَالَ: نعم. فَإِن قلت: لَو صَحَّ فِي رِوَايَة مَا هُوَ خطأ مَا حكمه؟ قلت: الْجُمْهُور على رِوَايَته على الصَّوَاب، وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكتاب، بل يكْتب فِي الْحَاشِيَة كَذَا وَقع وَصَوَابه كَذَا. وَهُوَ الصَّوَاب. وَقيل: يُغَيِّرهُ ويصلحه. وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهمَا وَعَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل. قَالَ: كَانَ أبي إِذا مر بِهِ لحن فَاحش غَيره. وَإِن كَانَ سهلاً تَركه. وَعَن أبي زرْعَة أَنه كَانَ يَقُول: أَنا أصلح كتابي من أَصْحَاب الحَدِيث إِلَى الْيَوْم.
السَّادِس: مِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب بَيَان أَصْنَاف الواضعين: الأول: قوم زنادقة كالمغيرة بن سعيد الْكُوفِي، وَمُحَمّد بن سعيد المصلوب، أَرَادوا إِيقَاع الشَّك فِي قُلُوب النَّاس، فرووا: أَنا خَاتم النَّبِيين لَا نَبِي بعدِي إلاَّ أَن يَشَاء الله. الثَّانِي: قوم متعصبون، وَمِنْهُم من تعصب لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، فوضعوا فِيهِ أَحَادِيث،(2/149)
وَقوم تعصبوا لمعاوية وَرووا لَهُ أَشْيَاء، وَقوم تعصبوا لأبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ ابْن حبَان: وضع الْحسن بن عَليّ بن زَكَرِيَّا الْعَدوي الرَّازِيّ حَدِيث: النّظر إِلَى وَجه عَليّ عبَادَة. وَحدث عَن الثِّقَات لَعَلَّه بِمَا يزِيد على ألف حَدِيث سوى المقلوبات. وَقَالَ الْخَطِيب فِي (الْكِفَايَة) بِسَنَدِهِ إِلَى الْمهْدي، قَالَ: اقر عِنْدِي رجل من الزَّنَادِقَة أَنه وضع أَربع مائَة حَدِيث فَهِيَ تجول بَين النَّاس. وَقوم وضعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب والترهيب. وَعَن ابْن الصّلاح قَالَ: رويت عَن أبي عصمَة، نوح بن أبي مَرْيَم، أَنه قيل لَهُ: من أَيْن لَك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي فَضَائِل الْقُرْآن سُورَة سُورَة. فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت النَّاس قد أَعرضُوا عَن الْقُرْآن وَاشْتَغلُوا بِفقه أبي حنيفَة ومعاذ بن أبي إِسْحَاق، فَوضعت هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ يحيى: نوح هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ مُسلم وَأَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
السَّابِع: يعرف الْمَوْضُوع بِإِقْرَار وَاضعه أَو مَا يتنزل منزلَة إِقْرَاره أَو قرينَة فِي حَال الرَّاوِي أَو الْمَرْوِيّ أَو ركاكة لَفظه أَو لروايته عَمَّن لم يُدْرِكهُ، وَلَا يخفى ذَلِك على أهل هَذَا الشَّأْن. وَقيل لعبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة: قَالَ: يعِيش لَهَا الجهابذة.
وَأما جِهَات الْوَضع فَرُبمَا يكون من كَلَام نَفسه، أَو يَأْخُذ كلَاما من مقالات بعض الْحُكَمَاء أَو كَلَام بعض الصَّحَابَة فيرفعه كَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل السَّهْمِي عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج إلاَّ الإِمَام) . وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عَن وهب عَن جَابر من قَوْله. وَرُبمَا أخذُوا كلَاما للتابعين فزادوا فِيهِ رجلا فَرَفَعُوهُ. وَقوم من المجرحين عَمدُوا إِلَى أَحَادِيث مَشْهُورَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بأسانيد مَعْلُومَة مَعْرُوفَة وضعُوا لَهَا غير تِلْكَ الْأَسَانِيد. وَقوم عِنْدهم غَفلَة إِذا لقنوا تلقنوا. وَقوم ضَاعَت كتبهمْ فَحَدثُوا من حفظهم على التخمين. وَقوم سمعُوا مصنفات وَلَيْسَت عِنْدهم فحملهم الشره إِلَى أَن حدثوا عَن كتب مشتراة لَيْسَ فِيهَا سَماع وَلَا مُقَابلَة، وَقوم كَثِيرَة لَيْسُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، سُئِلَ يحيى بن سعيد عَن مَالك بن دِينَار وَمُحَمّد بن وَاسع وَحسان بن أبي سِنَان، قَالَ: مَا رَأَيْت الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث، لأَنهم يَكْتُبُونَ عَن كل من يلقون، لَا تَمْيِيز لَهُم. وروى الْخَطِيب، بِسَنَدِهِ عَن ربيعَة الرَّاعِي، قَالَ: من إِخْوَاننَا من نرجو بركَة دُعَائِهِ، وَلَو شهد عندنَا بِشَهَادَة مَا قبلناها. وَعَن مَالك: أدْركْت سبعين عِنْد هَذِه الأساطين، وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُونَ: قَالَ: رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمَا أخذت عَنْهُم شَيْئا، وَإِن أحدهم يُؤمن على بَيت المَال، لأَنهم لم يَكُونُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، ونزدحم على بَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
غ
107 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ: حَدثنَا شعْبَةُ عنْ جامِعِ بنِ شَدَّادٍ عنْ عامِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ أبِيهِ قَالَ: قُلْتُ للزُّبَيْرِ: إنِّي لاَ أسْمَعُكَ تُحَدّثُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ! قَالَ: أمَا إنِّي لَمْ أفارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: جَامع بن شَدَّاد الْمحَاربي، أَبُو صَخْرَة، وَقيل: أَبُو صَخْرَة الْكُوفِي الثِّقَة، وَهُوَ قَلِيل الحَدِيث، لَهُ نَحْو عشْرين حَدِيثا، مَاتَ سِتَّة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عَامر بن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الْأَسدي الْقرشِي، أَبُو حَارِث الْمدنِي، أَخُو عباد وَحَمْزَة وثابت وخبيب ومُوسَى وَعمر، كَانَ عابدا فَاضلا ثِقَة مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: أَبوهُ وَهُوَ: عبد الله بن الزبير بن الْعَوام أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بَينهمَا، الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهُوَ أول من ولد فِي الْإِسْلَام للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ، وَلدته أمه أَسمَاء بنت الصّديق بقباء، وَأَتَتْ بِهِ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَوَضَعته فِي حجره ودعى بتمرة فمضعها ثمَّ تفل فِي فِيهِ وحنكه، فَكَانَ أول شَيْء دخل فِي جَوْفه ريق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ دَعَا لَهُ، وَكَانَ أطلس لَا لحية لَهُ، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، وَكَانَ صواما قواما وَلَيْلَة رَاكِعا وَلَيْلَة سَاجِدا حَتَّى الصَّباح بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد موت يزِيد بن مُعَاوِيَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَاجْتمعَ على طَاعَته أهل الْحجاز واليمن وَالْعراق وخراسان مَا عدا الشَّام، وجدد عمَارَة الْكَعْبَة، وَحج بِالنَّاسِ ثَمَان حجج، وَبَقِي فِي الْخلَافَة إِلَى أَن(2/150)
حصره الْحجَّاج بِمَكَّة أول لَيْلَة من ذِي الْحجَّة سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين، وَلم يزل يحاصره إِلَى أَن أَصَابَته رمية الْحجر فَمَاتَ، وصلب جثته وَحمل رَأسه إِلَى خُرَاسَان. السَّادِس: أَبوهُ الزبير بن الْعَوام، بتَشْديد الْوَاو، الْقرشِي، أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَأحد سِتَّة أَصْحَاب الشورى، وَاحِد الْمُهَاجِرين بالهجرتين وحواري النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أسلمت وَأسلم هُوَ رَابِع أَرْبَعَة أَو خَامِس خَمْسَة على يَد الصّديق وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، وَشهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بسبعة، وَهُوَ أول من سل السَّيْف فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يَوْم الْجمل قد ترك الْقِتَال وَانْصَرف عَنهُ، فَلحقه جمَاعَة من الْغُزَاة فَقَتَلُوهُ بوادي السبَاع بِنَاحِيَة الْبَصْرَة، وَدفن ثمَّة، ثمَّ حول إِلَى الْبَصْرَة وقبره مَشْهُور بهَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ لَهُ أَربع نسْوَة، وَدفع الثُّلُث فَأصَاب كل امْرَأَة مِنْهُنَّ ألف ألف وَمِائَتَا ألف فَجَمِيع مَاله خَمْسُونَ ألف ألف وَمِائَة ألف.
بَيَان لطائف إِسْنَاده. مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النَّوْع من رِوَايَة الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء، وَرِوَايَة الابْن عَن الْأَب عَن الْجد.
بَيَان من أخرجه غَيره: لم يُخرجهُ مُسلم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عون ومسدد، كِلَاهُمَا عَن خَالِد الطَّحَّان عَن بَيَان بن بشر عَن وبرة بن عبد الرَّحْمَن عَن عَامر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي (السّنة) عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن بشار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ) بِكَسْر اللَّام هُوَ الأَصْل، وبالسكون هُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ أَمر من التبوء، وَهُوَ اتِّخَاذ المباءة أَي: الْمنزل يُقَال: تبوأ الرجل الْمَكَان إِذا اتَّخذهُ موضعا لمقامه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تبوأت منزلا أَي: نزلته. وَقَالَ الْخطابِيّ: تبوأ بِالْمَكَانِ، أَصله من مباءة الْإِبِل وَهِي: أعطانها. قَوْله: (إِنِّي لَا أسمعك تحدث) مَعْنَاهُ: لَا أسمع تحديثك، وَحذف مَفْعُوله. وَفِي بعض النّسخ، لَيْسَ فِيهِ: إِنِّي. قَوْله: (كَمَا يحدث) ، الْكَاف للتشبيه، وَمَا مَصْدَرِيَّة أَي: كتحديث فلَان وَفُلَان، وَحذف مَفْعُوله أَيْضا إِرَادَة الْعُمُوم. قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم من حُرُوف التَّنْبِيه. قَوْله: (إِنِّي) ، بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (لم أفارقه) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لكني) ، فِي بعض النّسخ (لكنني) وَيجوز فِي: إِن وَأَخَوَاتهَا إِلْحَاق نون الْوِقَايَة بهَا وَعدم الْإِلْحَاق. قَوْله: (من) ، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، و (كذب عليَّ) صلتها. وَقَوله: (فَليَتَبَوَّأ) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله: (مَقْعَده) مفعول: (ليتبوأ) . وَكلمَة: (من) فِي: من النَّار، بَيَانِيَّة وابتدائية، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: الأولى أَن يكون بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَمَا يحدث فلَان وَفُلَان) ، سمى مِنْهُمَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (لم أفارقه) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (مُنْذُ أسلمت) . وَأَرَادَ بِهِ عدم الْمُفَارقَة الْعُرْفِيَّة، أَي: مَا فارقته سفرا وحضرا على عَادَة من يلازم الْمُلُوك. فَإِن قلت: قد هَاجر إِلَى الْحَبَشَة. قلت: ذَاك قبل ظُهُور شَوْكَة الْإِسْلَام، أَي: مَا فارقته عِنْد ظُهُوره. وَالْمرَاد: فِي أَكثر الْأَحْوَال. قَوْله: (لَكِن) للاستدراك. فَإِن قلت: شَرط: لَكِن، أَن تتوسط بَين كلامين متغايرين، فَمَا هما هَهُنَا؟ قلت: لَازم عدم الْمُفَارقَة السماع، ولازم السماع التحديث عَادَة، ولازم التحديث الَّذِي ذكره فِي الْجَواب عدم التحديث، فَبين الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاة، فضلا عَن الْمُغَايرَة. فَإِن قلت: الْمُنَاسب: لسمعت قَالَ ليتوافقا مَاضِيا فَمَا الْفَائِدَة فِي الْعُدُول إِلَى الْمُضَارع؟ قلت: استحضار صُورَة القَوْل للحاضرين، والحكاية عَنْهَا كَأَنَّهُ يُرِيهم أَنه قَالَ بِهِ الْآن. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) ، قَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره أَمر، وَمَعْنَاهُ خبر؛ يُرِيد أَن الله تَعَالَى يبوؤه مَقْعَده من النَّار. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْأَمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إِذْ لَو قيل: كَانَ مَقْعَده فِي النَّار لم يكن كَذَلِك، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَة إِلَى معنى الْقَصْد فِي الذَّنب وجزائه، أَي: كَمَا أَنه قصد فِي الْكَذِب التعمد فليقصد فِي جَزَائِهِ التبوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون الْأَمر على حَقِيقَته، وَالْمعْنَى: من كذب فليأمر نَفسه بالتبوء. قلت: والأَوْلى أَن يكون أَمر تهديد، أَو يكون دُعَاء على معنى: بوأه الله.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: التبوء إِن كَانَ إِلَى الْكَاذِب فَلَا شكّ أَنه لَا يبوء نَفسه وَله إِلَى تَركه سَبِيل، وَإِن كَانَ إِلَى الله(2/151)
فَأمر العَبْد بِمَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ غير جَائِز. أُجِيب: بِأَنَّهُ بِمَعْنى الدُّعَاء أَي: بوأه الله كَمَا ذكرنَا. وَمِنْهَا مَا قيل: ذَلِك عَام فِي كل كذب أم خَاص؟ أُجِيب بِأَنَّهُ اخْتلف فِيهِ، فَقيل: مَعْنَاهُ الْخُصُوص أَي: الْكَذِب فِي الدّين كَمَا ينْسب إِلَيْهِ تَحْرِيم حَلَال أَو تَحْلِيل حرَام، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي رجل بِعَيْنِه كذب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَادّعى عِنْد قوم أَنه بَعثه إِلَيْهِم ليحكم فيهم، واحتجاج الزبير، رَضِي الله عَنهُ، يَنْفِي التَّخْصِيص، فَهُوَ عَام فِي كل كذب ديني ودنيوي. وَمِنْهَا مَا قيل: من قصد الْكَذِب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِي الْوَاقِع كذب هَل يَأْثَم؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ يَأْثَم، لَكِن لَا بِسَبَب الْكَذِب بل بِسَبَب قصد الْكَذِب، لِأَن قصد الْمعْصِيَة مَعْصِيّة إِذا تجَاوز عَن دَرَجَة الوسوسة، فَلَا يدْخل تَحت الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا قيل: لم توقف الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الرِّوَايَة والإكثار مِنْهَا؟ أُجِيب: لأجل خوف الْغَلَط وَالنِّسْيَان، والغالط وَالنَّاسِي، وَإِن كَانَ لَا إِثْم عَلَيْهِ، فقد ينْسب إِلَى التَّفْرِيط لتساهله أَو نَحوه وَقد يتَعَلَّق بالناسي حكم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة: كغرامات الْمُتْلفَات، وانتفاض الطهارات. قلت: وَأما من أَكثر مِنْهُم فَمَحْمُول على أَنهم كَانُوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أَو طَالَتْ أعمارهم فاحتيج إِلَى مَا عِنْدهم، فسئلوا، فَلم يُمكنهُم الكتمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله (من كذب عَليّ) هَل يتَنَاوَل غير الْعَامِد أَو المُرَاد مِنْهُ الْعَامِد؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ أَعم من الْعَامِد وَغَيره، وَلم يَقع فِيهِ الْعمد فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَفِي طَرِيق ابْن مَاجَه: (من كذب عَليّ مُتَعَمدا) ، وَكَذَا وَقع للإسماعيلي من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ وَالِاخْتِلَاف فِيهِ على شُعْبَة، وَقد أخرجه الدَّارمِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن عبد الله بن الزبير بِلَفْظ: (من حدث عني كذبا) ، وَلم يذكر الْعمد، فَدلَّ ذَلِك أَن المُرَاد مِنْهُ الْعُمُوم وَقَالَ بعض الْحفاظ: الْمَحْفُوظ فِي حَدِيث الزبير حذف لَفْظَة: مُتَعَمدا، وَلذَلِك جَاءَ فِي بعض طرقه فَقَالَ: مَا لي لَا أَرَاك تحدث وَقد حدث فلَان وَفُلَان وَابْن مَسْعُود؟ فَقَالَ: وَالله يَا بني مَا فارقته مُنْذُ أسلمت، وَلَكِن سمعته يَقُول: (من كذب عَليّ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) ، وَالله مَا قَالَ مُتَعَمدا وَأَنْتُم تَقولُونَ. مُتَعَمدا. قَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: لم يذكر فِي حَدِيث عَليّ وَالزُّبَيْر: مُتَعَمدا، فَمن أجل ذَلِك هاب بعض من سمع الحَدِيث أَن يحدث النَّاس بِمَا سمع. فَإِن قلت: إِذا كَانَ عَاما يَنْبَغِي أَن يدْخل فِيهِ النَّاسِي أَيْضا. قلت: الحَدِيث بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْعَامِد والساهي وَالنَّاسِي فِي إِطْلَاق اسْم الْكَذِب عَلَيْهِم، غير أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن النَّاسِي لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
108 - حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَارث عَنْ عَبْدِ العَزِيز قالَ، أنَسٌ: إنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أنْ أُحَدِّثَكُمْ حَديثا كَثِيرا، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ تَعَمَّدَ عَليَّ كَذِبا فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور: بالمقعد، الْمنْقري الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْأَعْمَى الْبَصْرِيّ، وَقد مر. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَنه من الرباعيات.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن زُهَيْر عَن أبي علية عَن عبد الْعَزِيز بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم أَيْضا عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْعَزِيز عَنهُ بِهِ. وَقَول الْحميدِي صَاحب (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : إِن حَدِيث أنس هَذَا مِمَّا انْفَرد بِهِ مُسلم غير صَوَاب.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (إِنَّه) أَي: الشان. قَوْله: (ليمنعني) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن وَاللَّام، فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (أَن أحدثكُم) كلمة: أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَعَ التَّخْفِيف، وَهِي مَعَ معمولها فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول أَو لقَوْله: ليمنعني لِأَن: منع، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، و: أَن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره ليمنعني تحديثكم. وَقَوله: (أَن النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ، هَذِه الْمُشَدّدَة مَعَ اسْمهَا وخبرها فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا فَاعل: ليمنعني. قَوْله: (حَدِيثا) نصب على أَنه مفعول مُطلق، وَالْمرَاد بِهِ جنس الحَدِيث، وَلِهَذَا جَازَ وُقُوع الْكثير صفة لَهُ، لَا حَدِيث وَاحِد، وإلاَّ يلْزم اجْتِمَاع الْوحدَة وَالْكَثْرَة فِيهِ. قَوْله: (من تعمد) الخ، مقول القَوْل. قَوْله: (كذبا) عَام فِي جَمِيع أَنْوَاع الْكَذِب، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط كالنكرة فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم. فَإِن قلت: مَا المُرَاد(2/152)
من قَوْله: (أحدثكُم حَدِيثا) ؟ قلت: حَدِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ هُوَ المُرَاد فِي عرف الشَّرْع عِنْد الْإِطْلَاق. وَقَوله: (قَالَ: من تعمد) الخ أَيْضا قرينَة على هَذَا. فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يمْنَع كَثْرَة الحَدِيث الصَّادِق بل يجب التَّبْلِيغ والتكثير إِذا كَانَ صَادِقا، فَكيف جعله مَانِعا؟ . قلت: كَثْرَة الحَدِيث، وَإِن كَانَ صَادِقا، ينجر إِلَى الْكَذِب غَالِبا عَادَة، وَمن حام حول الْحمى أوشك أَن يَقع فِيهِ، فالتعليل للِاحْتِرَاز عَن الانجرار إِلَيْهِ، وَلَو كَانَ وُقُوعه على سَبِيل الندرة.
109 - حدّثنا مَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قالَ: حدّثنا يَزِيدُ بنُ أبي عُبيْدٍ عنْ سَلَمَةَ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (مَنْ يَقلْ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الرَّابِع مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَلَاثَة. الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: يزِيد بن أبي عبيد أَبُو خَالِد الْأَسْلَمِيّ، مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، توفّي سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: سَلمَة بِفَتْح السِّين وَاللَّام: ابْن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع: سِنَان بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ الْمَدِينِيّ، يكنى سَلمَة بِأبي مُسلم، وَقيل: بِأبي إِيَاس، وَقيل: بِأبي عَامر. وَقيل: هُوَ عَمْرو بن الْأَكْوَع، شهد بيعَة الرضْوَان وَبَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ ثَلَاث مَرَّات: فِي أول النَّاس وأوسطهم وَآخرهمْ. رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة عشر، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة وَمُسلم بِتِسْعَة، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ شجاعا راميا محسنا يسْبق الْخَيل، فَاضلا خيّرا، وَيُقَال: إِنَّه كَلمه الذِّئْب، قَالَ سَلمَة: رَأَيْت الذِّئْب قد أَخذ ظَبْيًا، فطلبته حَتَّى نَزَعته مِنْهُ، فَقَالَ: وَيحك مَالِي وَلَك، عَمَدت إِلَى رزق رزقنيه الله تَعَالَى لَيْسَ من مَالك تنزعه مني؟ قَالَ: قلت: أيا عباد الله إِن هَذَا لعجب، ذِئْب يتَكَلَّم! فَقَالَ الذِّئْب: أعجب مِنْهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أصُول النّخل يدعوكم إِلَى عبَادَة الله وتأبون إلاَّ عبَادَة الْأَوْثَان. قَالَ: فلحقت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسْلمت.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَنه من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهُوَ أول ثلاثي وَقع فِي البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهِ أَعلَى من الثلاثيات، ويبلغ جَمِيعهَا أَكثر من عشْرين حَدِيثا، وَبِه فضل البُخَارِيّ على غَيره. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، سمع من سَبْعَة عشر نَفرا من التَّابِعين مِنْهُم يزِيد بن أبي عبيد الْمَذْكُور.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: قَوْله: (يَقُول) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (من يقل عليَّ) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، وأصل: يقل، يَقُول. حذفت الْوَاو للجزم لأجل الشَّرْط، وَجَوَاب الشَّرْط هُوَ قَوْله: (فلتيبوأ) . فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله: (مَا لم أقل) كلمة: مَا، مَوْصُولَة و: أقل، جملَة صلتها، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم أَقَله. فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بالْقَوْل أم يتَنَاوَل نِسْبَة فعل إِلَيْهِ لم يَفْعَله؟ قلت: اللَّفْظ خَاص بالْقَوْل، لَكِن لَا شكّ أَن الْفِعْل فِي مَعْنَاهُ لاشْتِرَاكهمَا فِي عِلّة الِامْتِنَاع، وَهُوَ الجسارة على الشَّرِيعَة ومشرعها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد احْتج بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث الَّذِي منع من رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى. وَأجِيب: من جِهَة المجوزين بِأَن المُرَاد النَّهْي عَن الْإِتْيَان بِلَفْظ يُوجب تَغْيِير الحكم، على أَن الْإِتْيَان بِاللَّفْظِ أولى بِلَا شكّ.
5 - (حَدثنَا مُوسَى قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي حبصن عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فغن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي وَمن كذب على مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) هَذَا هُوَ الحَدِيث الْخَامِس مِمَّا فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي. الثَّانِي أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي الثَّالِث أَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عمان بن عَاصِم بن حُصَيْن الْكُوفِي سمع ابْن عَبَّاس وَأبي صَالح وَغَيرهمَا وَعنهُ شُعْبَة والسفيانان وَخلق وَكَانَ ثِقَة ثبتا صَاحب سنة من حفاظ الْكُوفَة وَكَانَ عِنْده أَربع مائَة حَدِيث وَكَانَ عثمانيا مَاتَ سنة سبع أَو ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من اسْمه عُثْمَان وكنيته أَبُو حُصَيْن(2/153)
بِفَتْح الْحَاء إِلَّا هَذَا أَبُو حُصَيْن عُثْمَان وَمن عداهُ حُصَيْن بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكله بالصَّاد الْمُهْملَة إِلَّا حضين بن الْمُنْذر فَإِنَّهُ بالضاد الْمُعْجَمَة الرَّابِع أَبُو صَالح ذكْوَان السمان الزيات الْمدنِي وَقد مرء الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بصرى وواسطى وكوفي ومدني. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن إِخْرَاجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه عَن مُحَمَّد بن عبيد بن حِسَاب الغبرى مُقْتَصرا على الْجُمْلَة الأخيره (بَيَان اللُّغَات) وَله " تسموا " أَمر بِصِيغَة الْجمع من بَاب التفعل تَقول سميت فلَانا زيدا وسميته بزيد بِمَعْنى واسميته مثله فتسمى بِهِ وَالِاسْم مُشْتَقّ من سموت لِأَنَّهُ تنويه ورفعة ووزنه افع والذاهب مِنْهُ الْوَاو لآن جمعه أَسمَاء وتصغيره سمى وَفِيه أَربع لُغَات اسْم وَاسم بِالضَّمِّ وسم سم قَوْله " وَلَا تكتنوا " فِيهِ أوجه ثَلَاثَة الأول من بَاب التفعيل من تكنى يتكنى تكنياً فعلى هَذَا بِفَتْح الْكَاف وَالنُّون أَيْضا مَعَ التَّشْدِيد واصله لَا تنكلوا بالتائين فحذفت احداهما كَمَا فِي (نَارا تلظى) اصله تتلظى الثَّالِث من بَاب الافتعال من اكتنى يكتني اكتناء فعلى هَذَا بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح التَّاء وَضم النُّون وَالْكل من الْكِنَايَة وَهِي فِي الأَصْل أَن يتَكَلَّم بِشَيْء وَيُرِيد بِهِ غَيره وَقد كنت بِكَذَا وَكَذَا وكنوت بِهِ والكنية بِالضَّمِّ والكنية أَيْضا بِالْكَسْرِ وَاحِدَة الكنى وَهُوَ اسْم مصدر بأب أَو أم واكتنى فلَان بِكَذَا وكنيته تكتنيه. وَاعْلَم أَن الِاسْم الْعلم إِمَّا أَن يكون مشعراً بمدح أَو ذمّ وَهُوَ اللقب وَإِمَّا أَن لَا يكون فَأَما يصدر بِنَحْوِ الْأَب أَو الْأُم وَهُوَ الكنية أَولا وَهُوَ الِاسْم فالاسم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُحَمَّد وكنيته أَبُو الْقَاسِم ولقبه رَسُول الله وَسيد الْمُرْسلين مثلا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله " الشَّيْطَان " إِمَّا مُشْتَقّ من شاط أَي هلك فَهُوَ فعلان وَأما من شطن أَي بعد فَهُوَ فيعال والشيطان مَعْرُوف وكل عَاتٍ متمر دمن الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان وَالْعرب تسمى الْحَيَّة شَيْطَانا وَقَالَ الْجَوْهَرِي الشَّيْطَان نونه أَصْلِيَّة وَيُقَال زَائِدَة فان جعلته فيعالا من قَوْلهم تشيطن الرجل صرفته وان جعلته من تشيط لم تصرفه لِأَنَّهُ فعلان قَوْله " لَا يتَمَثَّل " أَي لَا يتَصَوَّر يُقَال مثلت لَهُ كَذَا تمثيلا فتمثل أَي صورت لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَغَيرهَا فتصور قَالَ الله تَعَالَى (فتمثل لَهَا بشرا سويا) والتركيب يدل على من لظرة الشَّيْء للشَّيْء وَالصُّورَة الْهَيْئَة (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " تسموا " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وباسمى صلَة لَهُ وَكَذَا قَوْله " وَلَا تكنوا بكنيتي " وَهُوَ من قبيل عطف المنفى على الْمُثبت قَوْله " وَمن رَآنِي " كلمة من مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت الْفَاء فِي الْجَواب وَهُوَ قَوْله " فقد رَآنِي " فان قلت الشَّرْط يَنْبَغِي أَن يكون غير الْجَزَاء سَببا لَهُ مُتَقَدما عَلَيْهِ وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك قلت لَيْسَ هُوَ الْجَزَاء حَقِيقَة بل لَازِمَة تَقْدِيره فليستبشر فانه قد رَآنِي وَهِي رُؤْيا بعْدهَا شَيْء فَإِن الشَّرْط وَالْجَزَاء إِذا اتحدا صُورَة دلّ على الْكَمَال والغاية نَحْو " من كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله " وَنَحْو من أدْرك الضَّمَان فقد أدْرك المرعى أَي أدْرك مرعى متناهياً قَوْله " فان الشَّيْطَان " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل والشيطان اسْم أَن وخبرها قَوْله " لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " وإعراب الْجُمْلَة الْأَخِيرَة قد مر بَيَانه (بَيَان الْمعَانِي) فِي أَرْبَعَة أَحْكَام عطف بَعْضهَا على بعض الأول التَّسْمِيَة باسمه وَالثَّانِي التكنية بكنيته وَالثَّالِث رُؤْيَته فِي الْمَنَام وَالرَّابِع الْكَذِب عَلَيْهِ فَوجه ذكر الحكم الثَّانِي عقيب الحكم الأول ظَاهر وَذَلِكَ لِأَن التَّسْمِيَة والتكنية من وَاد وَاحِد من أَقسَام الْأَعْلَام وَكَذَلِكَ وَجه الحكم الرَّابِع عقيب الحكم الثَّالِث ظَاهر وَهُوَ انه إِذا كذب عَلَيْهِ بِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَنَام فَهُوَ أَيْضا دَاخل تَحت الْوَعيد الْمَذْكُور وَأما وَجه ذكر الحكم الثَّالِث عقيب الحكم الثَّانِي وَالْأول فَهُوَ (1) قَوْله " وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام " إِلَى آخِره جَاءَ فِي الحَدِيث أَرْبَعَة أَلْفَاظ صِحَاح مَا ذكر و " من رَآنِي فقد رأى الْحق " وَجَاء " فسيراني فِي الْيَقَظَة " وَجَاء " فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة " وَفِي رِوَايَة " فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَان أَن يتشبه بِي " وَهَذَا الثَّانِي تَفْسِير للْأولِ فَإِنَّهُ قَوْله " فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " مَعْنَاهُ فقد رأى الْحق قَالَ الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره اخْتلف فِي تَأْوِيله فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن
هَامِش - - - - - _ (1) كَذَا بَيَاض فِي جَمِيع الْأُصُول الخطية(2/154)
الطّيب معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي رأى الْحق ورؤياه لَيست بأضغاث أَحْلَام وَلَا من تَشْبِيه الشَّيْطَان وَقَوله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " إِشَارَة إِلَيْهِ إِلَى أَنَّهَا لَا تكون أضغاث أَحْلَام بل حَقًا ورؤيا صَحِيحَة قَالَ وَقد يرَاهُ الرَّائِي على غير صفته المنقولة إِلَيْنَا كإبياض اللِّحْيَة أَو خلاف لَونه أَو يرَاهُ اثْنَان فِي زمن وَاحِد أَحدهمَا بالمشرق وَالْآخر بالمغرب يرَاهُ كل وَاحِد فِي مَكَانَهُ وَقَالَ آخَرُونَ بل الْحَدث على ظَاهره وَالْمرَاد أَن من رَآهُ فقد أدْركهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا مَانع يمْنَع مِنْهُ وَالْعقل لَا يحيله وَمَا يذكر من الاعتلال بِأَنَّهُ قد يرَاهُ على خلاف صفته الْمَعْرُوفَة أوفى مكانين مَعًا فَذَلِك غلط من الرائيفي صِفَاته وتخيل لَهَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد نظر بعض الخيالات مرئيات والإدراك لَا يشْتَرط فِيهِ تحديق الْأَبْصَار ولأقرب الْمسَافَة وَلَا كَون المرئي مَدْفُونا فِي الأَرْض وَلَا ظَاهرا عَلَيْهَا إِنَّمَا يشْتَرط كَونه مَوْجُودا وَجَاء مَا يدل على بَقَاء جِسْمه عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْأَنْبِيَاء لَا تغيرهم الأَرْض وَتَكون الصِّفَات المخيلة اثرها وثمرتها اخْتِلَاف الدلالات فقد ذكر أَنه إِذا رَآهُ شَيخا فَهُوَ عَام سلم وَإِذا رَآهُ شَابًّا فَهُوَ عَام جَدب وان رَآهُ حسن الْهَيْئَة حسن الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال مُقبلا على الرَّائِي كَانَ خيرا لَهُ وان رَآهُ على خلاف ذَلِك كَانَ شرا لَهُ وَلَا يلْحق النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن ذَلِك شَيْء وَلَو رَآهُ أَمر بقتل من لَا يحل قَتله فَهَذَا من الصِّفَات المتخيلة لَا المرئية وَفِيه قَول ثَالِث قَالَه لقَاضِي عِيَاض وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِصفتِهِ الْمَعْلُومَة فَهُوَ إِدْرَاك الْحَقِيقَة وَإِن رَآهُ على غير صفته فَهُوَ إِدْرَاك الْمِثَال وَتَكون رُؤْيا تَأْوِيل فان من الرُّؤْيَا مَا يخرج على وَجههَا وَمِنْهَا مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل قَالَ النَّوَوِيّ القَوْل الثَّالِث ضَعِيف بل الصَّحِيح القَوْل الثَّانِي وَيُقَال معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي فقد رأى مثالي بِالْحَقِيقَةِ لِأَن المرئي فِي الْمَنَام مِثَال قَوْله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " يدل على ذَلِك وَيقرب مِنْهُ مَا قَالَه الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه رأى جسمي وبدني بل رأى مِثَالا صَار ذَلِك الْمِثَال آلَة يتَأَدَّى بهَا الْمَعْنى الَّذِي فِي نَفسِي إِلَيْهِ بل الْبدن الْيَقَظَة أَيْضا لَيْسَ إِلَّا آلَة النَّفس فَالْحق أَن مَا يرَاهُ مِثَال حَقِيقَة روحه المقدسة الَّتِي هِيَ مَحل النُّبُوَّة فَمَا رَآهُ من الشكل لَيْسَ هُوَ روح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شخصه بل هُوَ مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق. فَإِن قلت الْمَنَام ثَلَاثَة أَقسَام رُؤْيا من الله ورؤيا من الشَّيْطَان ورؤيا مِمَّا حدث بِهِ الْمَرْء نَفسه وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب نفت الْقسم الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا يكون من الشَّيْطَان فَهَل يجوز أَن تكون رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام من الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه أَولا قلت لَا يجوز وَبَيَان ذَلِك مَوْقُوف على تَقْدِيم مُقَدّمَة وَهِي أَن الِاجْتِمَاع بَين الشخصين يقظة ومناما لحُصُول مَا بِهِ الِاتِّحَاد. وَله خَمْسَة أصُول كُلية الِاشْتِرَاك فِي الذَّات أَو فِي صفة فَصَاعِدا أَو فِي حَال فَصَاعِدا أَو فِي حَال أَو فِي حَال الْأَفْعَال وَفِي الْمَرَاتِب وكل مَا يتعقل من الْمُنَاسبَة بَين شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء لَا يخرج عَن هَذِه الْخَمْسَة وبحسب قوته على مَا بِهِ الِاخْتِلَاف وَضَعفه يكثر الِاجْتِمَاع ويقل وَقد يقوى على ضِدّه فتقوى الْمحبَّة بِحَيْثُ يكَاد الشخصان لَا يفترقان وَقد يكون بِالْعَكْسِ وَمن حصل لَهُ الْأُصُول الْخَمْسَة وَثبتت الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين أَرْوَاح الماضين اجْتمع بهم مَتى شَاءَ وَإِذا عرف هَذَا ظهر أَن حَدِيث الْمَرْء نَفسه لَيْسَ مِمَّا يقدر أَن يحصل مُنَاسبَة بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَكُون سَبَب الِاجْتِمَاع بِخِلَاف الْملك الْمُوكل بالرؤيا فَإِنَّهُ يمثل بالوجود مَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ من الْمُنَاسبَة وَقَوله فِي بعض الرِّوَايَات " فسيراني فِي الْيَقَظَة ". " وكأنما رَآنِي فِي الْيَقَظَة قبل مَعْنَاهُ سيرى تَفْسِير مَا رأى لِأَنَّهُ حق وَقيل سيراه فِي الْقِيَامَة وَقيل المُرَاد بقوله " سيراني " أهل عصره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُمل لم يُهَاجر فَتكون الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام علما لَهُ على رُؤْيَته فِي الْيَقَظَة قَوْله " فَأن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " أَي لَا يتَصَوَّر بِصُورَتي وَاخْتلف فِي معنى الصُّورَة فَقيل أَي فِي صِفَتي وَهُوَ صفة الْهِدَايَة وَقيل هِيَ على حَقِيقَته وَهِي التخطيط الْمَعْلُوم الْمشَاهد لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا ظَاهر وَعَن هَذَا وضعوه لرُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ميزاناً وَقَالُوا رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ أَن يرَاهُ الرَّائِي بِصُورَة شَبيهَة لصورته الثَّابِتَة حليتها بِالنَّقْلِ الصَّحِيح حَتَّى لَو رَآهُ فِي صُورَة مُخَالفَة لصورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الْحس لم يكن رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل أَن يرَاهُ طَويلا أَو قَصِيرا جدا أَو يرَاهُ أشعر أَو شَيخا أَو شَدِيد السمرَة وَنَحْو ذَلِك وَيُقَال خص الله تَعَالَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن رُؤْيَة النَّاس إِيَّاه صَحِيحَة وَكلهَا صدق وَمنع الشَّيْطَان أَن يتَصَوَّر فِي خلقته لِئَلَّا يكذب على لِسَانه فِي النّوم كَمَا خرق الله تَعَالَى الْعَادة للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بالمعجزة وكما اسْتَحَالَ أَن يتَصَوَّر الشَّيْطَان فِي صورته فِي الْيَقَظَة وَقَالَ مُحي السّنة رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام حق وَلَا يتَمَثَّل الشَّيْطَان بِهِ(2/155)
وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا يتَمَثَّل بهم (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول احْتج أهل الظَّاهِر بقوله " ولاتكنوا " على منع التكنى بكنية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَقَالَ الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ لأحد أَن يكتنى بِأبي الْقَاسِم سَوَاء كَانَ اسْمه مُحَمَّد أم لم يكن وَقَالَ القَاضِي وَمنع قوم تَسْمِيَته الْوَلَد بالقاسم كَيْلا يكون سَببا للتكنية وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله فِيهِ " إِنَّمَا أَنا قَاسم " وَاخْبَرْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَعْنَى الَّذِي اقْتضى اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الكنية وَقَالَ قوم يجوز التكنى بِأبي الْقَاسِم لغير اسْمه مُحَمَّد وَأحمد وَيجوز التَّسْمِيَة بِأَحْمَد وَمُحَمّد مَا لم يكن لَهُ كنيته بِأبي الْقَاسِم وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من تسمى باسمي فَلَا يتكنى بكنيتي وَمن تكنى بكنيتي فَلَا يتسمى بإسمي " وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة " نهى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين اسْمه وكنيته " وَذهب قوم إِلَى أَن النَّهْي مَنْسُوخ الْإِبَاحَة فِي حَدِيث عَليّ وَطَلْحَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من السّلف وَالْعُلَمَاء وسمت جمَاعَة أَبْنَاءَهُم مُحَمَّدًا وكنوهم أَبَا الْقَاسِم قَالَ المازرى قَالَ بَعضهم النَّهْي مَقْصُور بحياة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ ذكر أَن سَبَب الحَدِيث أَن رجلا نَادَى يَا أَبَا الْقَاسِم فَالْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لم أعنك وَإِنَّمَا دَعَوْت فلَانا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تسموا باسمى وَلَا تكتنوا بكنيتي " وَبِه قَالَ مَالك وجوزان يُسمى بِمُحَمد ويكنى بِأبي الْقَاسِم مُطلقًا قلت أما الحَدِيث الأول فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَأما الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَقيل أَن سَبَب النَّهْي أَن الْيَهُود تكنوا بِهِ وَكَانُوا ينادون يَا أَبَا الْقَاسِم فَإِذا الْتفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا لم نعنك اظهاراً للايذاء وَقد زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وَأما الثَّالِث فَهُوَ حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ " قلت يَا رَسُول الله أَن ولد لي من بعْدك أنسميه بِاسْمِك ونكنيه بكنيتك قَالَ نعم " وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله ثَلَاثَة تكنوا بِأبي الْقَاسِم رخص لَهُم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَمُحَمّد بن أبي بكر وَمُحَمّد بن طَلْحَة بن عبد الله وَقَالَ ابْن جرير النَّهْي فِي الحَدِيث للتنزيه وَالْأَدب لَا للتَّحْرِيم. الثَّانِي فِيهِ التَّصْرِيح بِجَوَاز التسمي باسمه. الثَّالِث فِيهِ أَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق. الرَّابِع أَن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بصورته الْخَامِس الْكَاذِب عَلَيْهِ معد لنَفسِهِ النَّار (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَت حَقًا فَهَل يُطلق عَلَيْهِ الصَّحَابِيّ أم لَا أُجِيب بِلَا إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ حد الصَّحَابِيّ وَهُوَ مُسلم رأى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا المُرَاد مِنْهُ لَا رُؤْيَة الْمَعْهُودَة الْجَارِيَة على الْعَادة أَو الرُّؤْيَة فِي حَيَاته فِي الدُّنْيَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْمخبر عَن الله وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ مخبرا عَنهُ للنَّاس فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْقَبْر. وَمِنْهَا مَا قيل الحَدِيث المسموع عَنهُ فِي الْمَنَام هَل هُوَ حجَّة يسْتَدلّ بهَا أم لَا أُجِيب بِلَا إِذْ يشْتَرط فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن يكون الرَّاوِي ضابطاً عِنْد السماع من النّوم لَيْسَ حَال الضَّبْط. وَمِنْهَا مَا قيل حُصُول الْجَزْم فِي نفس الرَّائِي أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل هُوَ حجَّة أَو أم لَا أُجِيب بِلَا بل ذَلِك المرئي هُوَ صُورَة الشَّارِع بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاد الرَّائِي أَو حَاله أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى صفته أَو حكم من أَحْكَام الْإِسْلَام أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْموضع الَّذِي رأى فِيهِ ذَلِك الرَّائِي تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي ظن أَنَّهَا صُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا مَا قيل مَا حَقِيقَة الرُّؤْيَا أُجِيب بِأَنَّهَا ادراكات يخلقها الله تَعَالَى فِي قلب العَبْد على يَد الْملك والشيطان وَنَظِيره فِي الْيَقَظَة الخواطر فَإِنَّهَا قد تَأتي على نسق وَقد تَأتي مسترسلة غير محصلة فَإِذا خلقهَا الله تَعَالَى على يَد الْملك كَانَ وَحيا وبرهاناً مفهوماً نقل هَذَا عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَعَن القَاضِي أبي بكر أَنَّهَا اعتقادات قَالَ الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ منشأ الْخلاف بَينهمَا نه قد يرى نَفسه بَهِيمَة أَو ملكا أَو طائراً وَهَذَا لَيْسَ إدراكاً لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَة فَصَارَ القَاضِي إِلَى أَنَّهَا اعتقادات لَان الِاعْتِقَاد قد يَأْتِي على خلاف المعتقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذهل القَاضِي عَن أَن هَذَا المرئي مثل فالإدراك إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْمثلِ وَقَالَ أَن الله يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات كَمَا يخلقها فِي قلب الْيَقظَان فَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء فَلَا يمنعهُ من فعله نوم وَلَا يقظة فَإِذا خلق هَذِه الاعتقادات فَكَأَنَّهُ جعلهَا علما على أُمُور أخر يخلقها فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَإِذا خلق فِي قلب النَّائِم اعْتِقَاد الطيران وَلَيْسَ بطائر فقصارى أمره أَنه أعتقد أمرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيكون ذَلِك الِاعْتِقَاد علما على غَيره كَمَا يخلق الله الْغَيْم علما على الْمَطَر وَيُقَال حَقِيقَة الرُّؤْيَا مَا يَنْزعهُ الْملك الْمُوكل عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى قدر كل بالرؤيا ملكا يضْرب من الْحِكْمَة الْأَمْثَال وَقد اطلعه الله تَعَالَى(2/156)
على قصَص ولد آدم من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّته مثلا فَإِذا نَام تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة ليَكُون لَهُ بِشَارَة أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على بَصِيرَة من أَمرهم (فَائِدَة) أعلم أَن البُخَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أخرج حَدِيث " من كذب عَليّ " هَهُنَا عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة وهم عَليّ بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَأنس بن مَالك وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم فَقدم حَدِيث عَليّ لَان فِيهِ النَّهْي عَن الْكَذِب عَلَيْهِ صَرِيحًا والوعيد للكاذب وَالْمرَاد من عقد الْبَاب التَّنْبِيه عَلَيْهِ ثمَّ عقبه بِحَدِيث الزبير لزِيَادَة فِيهِ وَهِي التَّنْبِيه على توقي الصَّحَابَة وتحرزهم من كَثْرَة الرِّوَايَة عَنهُ المؤدية إِلَى انجرار الْكَذِب الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث أنس للتّنْبِيه على نُكْتَة وَهِي أَن توقيهم لم يكن بالامتناع عَن اصل الحَدِيث لأَنهم مأمورون بالتبليغ وَإِنَّمَا كَانَ لخوفهم من الْإِكْثَار المفضى إِلَى الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث سَلمَة لما فِيهِ من التَّصْرِيح بالْقَوْل لِأَن الْأَحَادِيث الَّتِي قبله أَعم من نِسْبَة القَوْل وَالْفِعْل إِلَيْهِ ثمَّ ختم الْأَرْبَعَة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة لما فِيهِ من الْإِشَارَة إِلَى اسْتِوَاء تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ فِي حَال سَوَاء كَانَ فِي الْيَقَظَة أَو فِي النّوم (فَائِدَة أُخْرَى) اعْلَم أَن حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا وَقَالَ بعض الْحفاظ أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ الْعشْرَة المبشرة وَقَالَ وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا وَقَالَ بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ ابْن الصّلاح لم يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا وَقَالَ ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا " وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر فَافْهَم (فَائِدَة أُخْرَى) تَفْصِيل طرق الْأَحَادِيث الْمِائَة من الصَّحَابَة الَّتِي تحصلت من جَمِيع الْحفاظ الْمَذْكُورين هُوَ أَن أَرْبَعَة عشر حَدِيثا مِنْهَا قد صحت فَعِنْدَ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَليّ بن أبي طَالب وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة والمغيرة أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه فِي الْجَنَائِز وَعند البُخَارِيّ أَيْضا عَن الزبير بن الْعَوام وَسَلَمَة ابْن الْأَكْوَع وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أخرجه حَدِيثه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل وَعند مُسلم أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعند غَيرهمَا من الصِّحَاح أَيْضا عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَأبي قَتَادَة وَجَابِر وَزيد بن أَرقم وَمِنْهَا سِتَّة عشر حَدِيثا فِي الحسان وَهِي عَن طَلْحَة بن عبيد الله وَسَعِيد بن زيد وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل وَعقبَة بن عَامر وَعمْرَان بن حُصَيْن وسلمان الْفَارِسِي وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَرَافِع بن خديج وطارق الْأَشْجَعِيّ(2/157)
والسائب بن يزِيد وخَالِد بن عرفطة وَأبي أُمَامَة وَأبي قرصافة وَأبي مُوسَى الغافقي وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ نفسا وَمِنْهَا سَبْعُونَ حَدِيثا مَا بَين ضَعِيف وساقط عَن سبعين نفسا مِنْهُم وهم أَبُو بكر بن عمر بن الْخطاب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وعمار بن يَاسر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَزيد بن ثَابت وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَجَابِر بن عبد الله وَأُسَامَة بن زيد بن وَقيس بن سعد بن عبَادَة وواثلة بن الاسقع وَكَعب بن قُطْبَة وَسمرَة بن جُنْدُب والبراء ابْن عَازِب وَأَبُو مُوسَى الغاففقي وَمَالك بن عبد الله بن زعب وصهيب والنواس بن سمْعَان ويعلى بن مرّة وَحُذَيْفَة ابْن الْيَمَان والسائب بن يزِيد وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وَسليمَان بن خَالِد الْخُزَاعِيّ وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء بن عَمْرو ابْن عبسة السّلمِيّ وطارق بن أَشْيَم وَأَبُو رَافع إِبْرَاهِيم وَيُقَال اسْلَمْ مولى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعتبَة بن غَزوَان وَمُعَاوِيَة بن حيدة ومعاذ بن جبل وَسعد بن المدحاس وَأَبُو كَبْشَة الانماري والعرس بن عميرَة والمنقع التَّمِيمِي وَابْن أبي العشراء الدَّارمِيّ ونبيط بن شريط وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَيزِيد بن أَسد وَأَبُو مَيْمُون الْكرْدِي وَرجل من أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَرجل آخر (1)
39 - (بابُ كِتَابَةِ العلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كِتَابَة الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ اخْتِلَاف بَين السّلف فِي الْعَمَل وَالتّرْك مَعَ إِجْمَاعهم على الْجَوَاز، بل على اسْتِحْبَابه، بل لَا يبعد وُجُوبه فِي هَذَا الزَّمَان لقلَّة اهتمام النَّاس بِالْحِفْظِ، وَلَو لم يكْتب يخَاف عَلَيْهِ من الضّيَاع والاندراس.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب السَّابِق حثا على الِاحْتِرَاز عَن الْكَذِب فِي النَّقْل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي هَذَا الْبَاب أَيْضا حث على الِاحْتِرَاز. عَن ضيَاع كَلَام الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا سِيمَا من أهل هَذَا الزَّمَان، لقُصُور هممهم فِي الضَّبْط وتقصيرهم فِي النَّقْل.
111 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنِ سَلاَمٍ قالَ: أخْبَرَنَا وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ عنْ مطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِي عنْ أبي جُحَيْفَةَ قالَ: قُلْتُ لِعَليٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ! إلاَّ كِتابُ اللَّهِ، أوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلمٌ، أوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قالَ: العَقْلُ، وَفَكاكُ الأسِير ولاَ يُقْتلُ مُسْلِمٌ بكافِرٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي هَذِه الصَّحِيفَة) ، لِأَن الصَّحِيفَة هِيَ الورقة الْمَكْتُوبَة، وَفِي (الْعباب) : الصَّحِيفَة الْكتاب، وَالَّذِي يقْرَأ هُوَ الصَّحِيفَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام، أَبُو عبد الله البيكندي، وَفِي (الْكَمَال) : بتَخْفِيف اللَّام، وَقد يشدده من لَا يعرف. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ بِالتَّشْدِيدِ لَا بِالتَّخْفِيفِ، وَقد تقدم. الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن حَمْحَمَة، وَقيل: غَيره، أَصله من قَرْيَة من قرى نيسابور، الرواسِي الْكُوفِي من قيس غيلَان، روى عَن الْأَعْمَش وَغَيره. وَعَن أَحْمد وَقَالَ: إِنَّه أحفظ من ابْن مهْدي. وَقَالَ حَمَّاد بن زيد: لَو شِئْت قلت: إِنَّه أرجح من سُفْيَان، ولد سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، وَمَات بفيد منصرفا من الْحَج يَوْم عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة. وَقَالَ ابْن معِين: مَا رَأَيْت أفضل من وَكِيع، وَكَانَ يُفْتِي بقول أبي حنيفَة، وَكَانَ قد سمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: سُفْيَان، قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الثَّوْريّ، وَأَن يُرَاد بِهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، لِأَن وكيعا يروي عَنْهُمَا وهما يرويان عَن مطرف، وَلَا قدح بِهَذَا الالتباس فِي الْإِسْنَاد، لِأَن أيا كَانَ مِنْهُمَا فَهُوَ: إِمَام حَافظ ضَابِط عدل مَشْهُور على شَرط البُخَارِيّ، وَلِهَذَا يروي لَهما فِي (الْجَامِع) شَيْئا كثيرا. وَقَالَ بَعضهم عَن سُفْيَان: هُوَ الثَّوْريّ، لِأَن وكيعا مَشْهُور بالرواية عَنهُ، وَلَو كَانَ ابْن عُيَيْنَة لنسبه، لِأَن الْقَاعِدَة فِي كل من روى عَن مُتَّفق الِاسْم أَنه يحمل من أهمل نسبته على من يكون لَهُ بِهِ(2/158)
خُصُوصِيَّة من إكثار وَنَحْوه، ووكيع قَلِيل الرِّوَايَة عَن ابْن عُيَيْنَة بِخِلَاف الثَّوْريّ. قلت: كل مَا ذكره لَيْسَ يصلح مرجحا أَن يكون سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، بعد أَن ثَبت رِوَايَة وَكِيع عَن سفيانين كليهمَا وروايتهما عَن مطرف، على أَن أَبَا مَسْعُود الدِّمَشْقِي قَالَ فِي (الْأَطْرَاف) هَذَا هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ الغساني فِي كِتَابه (تَقْيِيد المهمل) هَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَن ابْن عُيَيْنَة. الرَّابِع: مطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالفاء: ابْن طريف، بطاء مُهْملَة مَفْتُوحَة: أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، الْكُوفِي الْحَارِثِيّ نِسْبَة إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو، وَيُقَال: الخارفي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالفاء، نِسْبَة إِلَى خارف بن عبد الله. وَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عَامر الشّعبِيّ، وَقد تقدم. السَّادِس: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالمد، الْكُوفِي. رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة. وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، يُكرمهُ وَيُحِبهُ ويثق بِهِ وَجعله على بَيت المَال بِالْكُوفَةِ، وَشهد مَعَه مشاهده كلهَا وَنزل الْكُوفَة، وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ من صغَار الصَّحَابَة. قيل: توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يبلغ الْحلم، وَالله أعلم. السَّابِع: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ وَقد دخل فِيهَا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات: قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَآخَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا ابْن سَلام. قَوْله: (عَن الشّعبِيّ) وَفِي رِوَايَة المُصَنّف فِي الدِّيات: (سَمِعت الشّعبِيّ) . قَوْله: (عَن أبي جُحَيْفَة) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الدِّيات: (سَمِعت أَبَا جُحَيْفَة) . وَقد صرح باسمه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر، وَفِي الدِّيات عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة كِلَاهُمَا عَن مطرف بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم عَن مطرف نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقود عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن عَلْقَمَة بن عَمْرو الدَّارِيّ عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن مطرف نَحوه.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (كتاب) أَي: مَكْتُوب من عِنْد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (أَو فهم) وَهُوَ جودة الذِّهْن. قَالَ الْجَوْهَرِي: فهمت الشَّيْء فهما وفهامية: عَلمته. وَفُلَان فهيم، وَقد استفهمني الشَّيْء فأفهمته وفهمته تفهيما، وتفهم الْكَلَام إِذا فهمه شَيْئا بعد شَيْء. قَوْله: (الصَّحِيفَة) قد مر تَفْسِيرهَا. قَوْله: (الْعقل) أَي: الدِّيَة، وَإِنَّمَا سميت بِهِ لأَنهم كَانُوا يُعْطون فِيهَا الْإِبِل ويربطونها بِفنَاء دَار الْمَقْتُول بالعقال وَهُوَ: الْحَبل. قَوْله: (وفكاك الْأَسير) بِكَسْر الْفَاء، وَهُوَ مَا يفتك بِهِ. وفكه وافتكه بِمَعْنى أَي: خلصه، وَيجوز فتح الْفَاء أَيْضا. قَالَ الْقَزاز: الْفَتْح أفْصح. وَفِي (الْعباب) : فك يفك فكا وفكوكا، وَفك الرَّهْن إِذا خلصه، وفكاك الرَّهْن وفكاكه مَا يفتك بِهِ عَن الْكسَائي. وَفك الرَّقَبَة أَي: أعْتقهَا، وفككت الشَّيْء أَي خلصته،، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما. قَوْله: (الْأَسير) فعيل بِمَعْنى المأسور من أسره إِذا شده بالإسار، وَهُوَ الْقد، بِكَسْر الْقَاف وبالمهملة، لأَنهم كَانُوا يشدون الْأَسير بالقد، وَيُسمى كل أخيد أَسِيرًا وَإِن لم يشد بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (هَل) للاستفهام و: (كتاب) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: (عنْدكُمْ) مقدما. قَوْله: (لَا) أَي: لَا كتاب عندنَا إِلَّا كتاب الله، بِالرَّفْع، وَهُوَ اسْتثِْنَاء مُتَّصِل لِأَن الْمَفْهُوم من الْكتاب كتاب أَيْضا، لِأَن المفاهيم تَوَابِع المناطيق. قَوْله: (أَو فهم) بِالرَّفْع عطف على: كتاب الله. و: (أعْطِيه) بِصِيغَة الْمَجْهُول وَفتح الْيَاء أسْند إِلَى قَوْله: (رجل) . وَلكنه هُوَ الْمَفْعُول الأول النَّائِب عَن الْفَاعِل، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي. قَوْله: (مُسلم) صفة لرجل. قَوْله: (أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) عطف على قَوْله: (كتاب الله) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَقَوله: فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره. قَوْله: (قلت: وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟) أَي: أَي شَيْء فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟ فكلمة: مَا، استفهامية مُبْتَدأ، و: فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره. وَفِي بعض النّسخ: فَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة، بِالْفَاءِ، وَكِلَاهُمَا للْعَطْف. قَوْله: (الْعقل) مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ حذف خَبره أَي: فِيهَا الْعقل، والمضاف فِيهِ مَحْذُوف أَيْضا، أَي: حكم الْعقل أَي: الدِّيَة، كَمَا ذكرنَا. قَوْله:(2/159)
(وفكاك الْأَسير) كَلَام إضافي عطف على الْعقل. قَوْله: (وَلَا يقتل) بِضَم اللَّام وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَأَن لَا يقتل) بِزِيَادَة: أَن، الناصبة. وَأَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: وفيهَا عدم قتل مُسلم بِكَافِر، يَعْنِي: حُرْمَة قصاص الْمُسلم بالكافر، وَأما على رِوَايَة من روى: وَلَا يقتل، بِدُونِ: أَن، فَإِنَّهُ جملَة فعلية معطوفة على جملَة إسمية، أَعنِي قَوْله: (الْعقل) لِأَن تَقْدِيره: وفيهَا الْعقل، كَمَا ذكرنَا. وَالتَّقْدِير: وفيهَا الْعقل وفيهَا حُرْمَة قصاص الْمُسلم بالكافر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد؟ قلت: هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97) انْتهى. قلت: لَيْسَ هَهُنَا عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد وَإِنَّمَا هُوَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، فَإِن أَرَادَ بقوله الْمُفْرد الْعقل فَهُوَ لَيْسَ بمفرد لِأَنَّهُ مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَهُوَ جملَة، وَلَا هُوَ مثل لقَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} (آل عمرَان: 97) ، لِأَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ الْجُمْلَة هَهُنَا مُفْرد، وَلِهَذَا قَالَ صَاحب (الْكَشَّاف) : التَّقْدِير: مقَام إِبْرَاهِيم وَأمن من دخله، فَقدر الْجُمْلَة فِي حكم الْمُفْرد ليَكُون عطف مُفْرد على مُفْرد. وَلم يقدر هَكَذَا، إلاَّ ليَصِح وُقُوع قَوْله {مقَام إِبْرَاهِيم} (آل عمرَان: 97) عطف بَيَان لقَوْله: {آيَات بَيِّنَات} (آل عمرَان: 97) ، لِأَن بَيَان الْجُمْلَة بِالْوَاحِدِ لَا يَصح.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (هَل عنْدكُمْ؟) الْخطاب لعليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَالْجمع للتعظيم، أَو لإرادته مَعَ سَائِر أهل الْبَيْت، أَو للالتفات من خطاب الْمُفْرد إِلَى خطاب الْجمع على مَذْهَب من قَالَ من عُلَمَاء الْبَيَان: يكون مثله التفاتا، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: 1) إِذْ لَا فرق بَين أَن يكون الِانْتِقَال حَقِيقَة أَو تَقْديرا عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله: (كتاب) أَي: مَكْتُوب أخذتموه عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ. وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (هَل عنْدكُمْ شَيْء من الْوَحْي إلاَّ مَا فِي كتاب الله؟) . وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي الدِّيات: (هَل عنْدكُمْ شَيْء مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن؟) وَفِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن جرير بن مطرف: (هَل علمت شَيْئا من الْوَحْي؟) وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَة عَن ذَلِك لِأَن الشِّيعَة كَانُوا يَزْعمُونَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خص أهل بَيته، لَا سِيمَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأسرار من علم الْوَحْي لم يذكرهَا لغيره، وَقد سَأَلَ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن هَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا قيس بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْأَشْتَر النَّخعِيّ، وحديثهما فِي (سنَن النَّسَائِيّ) . قَوْله: (قَالَ: لَا) . أَي: لَا كتاب، أَي: لَيْسَ عندنَا كتاب غير كتاب الله تَعَالَى. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (لَا، وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة) . قَوْله: (إِلَّا كتاب الله) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ بدل من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل كَمَا ذكرنَا لِأَنَّهُ من جنسه، إِذْ لَو كَانَ من غير جنسه لَكَانَ قَوْله: (أَو فهم) مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ عطف على الْمُسْتَثْنى، والمستثنى إِذا كَانَ من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ يكون مَنْصُوبًا، وَمَا عطف عَلَيْهِ كَذَلِك وَقَول بَعضهم: الظَّاهِر أَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع غير صَحِيح. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: فِيهِ دَلِيل على أَنه كَانَ عِنْده أَشْيَاء مَكْتُوبَة من الْفِقْه المستنبط من كتاب الله، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله: (أَو فهم أعْطِيه رجل) . قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل المُرَاد من الْفَهم مَا يفهمهُ الرجل من فحوى الْكَلَام وَيدْرك من بواطن الْمعَانِي الَّتِي هِيَ غير الظَّاهِر من نَصه: كوجوه الأقيسة والمفاهيم وَسَائِر الاستنباطات، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الدِّيات بِلَفْظ: (مَا عندنَا إلاَّ مَا فِي الْقُرْآن إلاَّ فهما يعْطى رجل فِي الْكتاب) . وَالْمعْنَى: إلاَّ مَا فِي الْقُرْآن من الْأَشْيَاء المنصوصة، لَكِن إِن أعْطى الله رجلا فهما فِي كِتَابه فَهُوَ يقدر على استنباط أَشْيَاء أُخْرَى خَارِجَة عَن ظَاهر النَّص، وَمن أبين الدَّلِيل على أَن المُرَاد من الْفَهم مَا ذكرنَا، وَأَنه غير شَيْء مَكْتُوب، مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن من طَرِيق طَارق بن شهَاب، قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله عَنهُ، على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول: (وَالله مَا عندنَا كتاب نقرؤه إلاّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة) ، وَقد علمت أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) ، وَكَانَت هَذِه معلقَة بقبضة سَيْفه إِمَّا احْتِيَاطًا أَو استحضارا وَإِمَّا لكَونه مُنْفَردا بِسَمَاع ذَلِك. وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق الأشتر: فَأخْرج كتابا من قرَاب سَيْفه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن سَبَب اقتران الصَّحِيفَة بِالسَّيْفِ الْإِشْعَار بِأَن مصَالح الدّين لَيست بِالسَّيْفِ وَحده، بل بِالْقَتْلِ تَارَة، وبالدية تَارَة، وبالعفو أُخْرَى. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: كَلَام عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَيْسَ عِنْده سوى الْقُرْآن، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص بالتبليغ والإرشاد قوما دون قوم، وَإِنَّمَا وَقع التَّفَاوُت من قبل الْفَهم واستعداد الاستنباط، وَاسْتثنى مَا فِي الصَّحِيفَة احْتِيَاطًا لاحْتِمَال أَن يكون مَا فِيهَا مَا لَا يكون عِنْد غَيره فَيكون مُنْفَردا بِالْعلمِ بِهِ. قَالَ: وَقيل: كَانَ فِيهَا من الْأَحْكَام غير مَا ذكر هُنَا، وَلَعَلَّه لم يذكر جملَة مَا فِيهَا، إِذْ التَّفْصِيل لم يكن مَقْصُودا حِينَئِذٍ، أَو ذكره وَلم يحفظ الرَّاوِي. قلت: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَمُسلم، من طَرِيق يزِيد التَّيْمِيّ عَن عَليّ،(2/160)
رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (مَا عندنَا شَيْء نقرؤه إلاَّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة، فَإِذا فِيهَا: الْمَدِينَة حرم) الحَدِيث. وَلمُسلم عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: (مَا خصنا رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة إلاَّ مَا فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوبَة فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله) الحَدِيث. وللنسائي من طَرِيق الأشتر وَغَيره عَن عَليّ: فَإِذا فِيهَا: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، يسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم) الحَدِيث. وَلأَحْمَد من طَرِيق ابْن شهَاب: (فِيهَا فَرَائض الصَّدَقَة) . فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: الصَّحِيفَة كَانَت وَاحِدَة، وَكَانَ جَمِيع ذَلِك مَكْتُوبًا فِيهَا، وَنقل كل من الروَاة مَا حفظه. قَوْله: (الْعقل) أَي: الدِّيَة، وَالْمرَاد أَحْكَامهَا ومقاديرها وأصنافها وَأَسْنَانهَا، وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَوْله: (وفكاك الْأَسير) حكمه وَالتَّرْغِيب فِي تخليصه، وَأَنه نوع من أَنْوَاع الْبر الَّذِي يَنْبَغِي أَن يهتم بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ مَا يقطع بِدعَة الشِّيعَة والمدعين على عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه الْوَصِيّ، وَأَنه الْمَخْصُوص بِعلم من عِنْد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يعرفهُ غَيره حَيْثُ قَالَ: مَا عِنْده إلاَّ مَا عِنْد النَّاس من كتاب الله، ثمَّ أحَال على الْفَهم الَّذِي النَّاس فِيهِ على درجاتهم، وَلم يخص نَفسه بِشَيْء غير مَا هُوَ مُمكن فِي غَيره.
الثَّانِي: فِيهِ إرشاد إِلَى أَن للْعَالم الْفَهم أَن يسْتَخْرج من الْقُرْآن بفهمه مَا لم يكن مَنْقُولًا عَن الْمُفَسّرين، لَكِن بِشَرْط مُوَافَقَته لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّة.
الثَّالِث: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْأَحْكَام وتقييدها.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز السُّؤَال عَن الإِمَام فِيمَا يتَعَلَّق بخاصته.
الْخَامِس: احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر قصاصا، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن شبْرمَة. وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد بن ثَابت، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِلَيْهِ ذهب أهل الظَّاهِر. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ قَالَ مَالك وَاللَّيْث بن سعد: إِن قَتله غيلَة قتل بِهِ وإلاَّ لم يقتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة وَمُحَمّد وَزفر: يقتل الْمُسلم بالكافر، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن أبي ليلى وَعُثْمَان البتي، وَهُوَ رِوَايَة عَن عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنْهُم. وَقَالُوا: وَلَا يقتل بالمستأمن والمعاهد. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: احتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْحسن بن أَحْمد عَن سعيد بن مُحَمَّد الرهاوي عَن عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قتل مُسلما بمعاهد، ثمَّ قَالَ: أَنا أكْرم من وَفِي بِذِمَّتِهِ) . ثمَّ قَالَت الشَّافِعِيَّة: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ غير إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَهُوَ مَتْرُوك، وَالصَّوَاب إرْسَاله، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث فَكيف إِذا أرْسلهُ؟ وَقَالَ مَالك وَيحيى بن سعيد وَابْن معِين: هُوَ كَذَّاب، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى. وَقَالَ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ: ترك النَّاس حَدِيثه. وَابْن الْبَيْلَمَانِي اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَقد ضَعَّفُوهُ. وَقَالَ أَحْمد: من حكم بحَديثه فَهُوَ عِنْدِي مخطىء، وَإِن حكم بِهِ حَاكم نقض. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الحَدِيث على ترك الْمُتَّصِل من حَدِيثه، فَكيف بالمنقطع؟ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع لَا احتجاج بِهِ، ثمَّ إِنَّه خطأ إِذْ قيل: إِن الْقَاتِل كَانَ عَمْرو بن أُميَّة وَقد عَاشَ بعد الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سِنِين؛ ومتروك بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ روى أَن الْكَافِر كَانَ رَسُولا فَيكون مستأمنا لَا ذِمِّيا، وَأَن الْمُسْتَأْمن لَا يقتل بِهِ الْمُسلم وفَاقا، ثمَّ إِن صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخ لِأَنَّهُ روى أَنه كَانَ قبل الْفَتْح. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْفَتْح فِي خطْبَة خطبهَا على درج الْبَيْت الشريف: (وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) . وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يتَعَيَّن علينا الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ، وَإِنَّمَا نَحن نستدل بالنصوص الْمُطلقَة فِي اسْتِيفَاء الْقصاص من غير فصل. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يكن مُفردا، وَلَو كَانَ مُفردا لاحتمل مَا قُلْتُمْ، وَلكنه كَانَ مَوْصُولا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ قيس بن عباد وَالْأَشْتَر، فَإِن فِي روايتهما: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، فَهَذَا هُوَ أصل الحَدِيث وَتَمَامه، وَهَذَا لَا يدل على مَا ذهبتم إِلَيْهِ، لِأَن الْمَعْنى على أصل الحَدِيث: لَا يقتل مُؤمن بِسَبَب قتل كَافِر، وَلَا يقتل(2/161)
ذُو عهد فِي عَهده بِسَبَب قتل كَافِر. وَمن الْمَعْلُوم أَن ذَا الْعَهْد كَافِر، فَدلَّ هَذَا أَن الْكَافِر الَّذِي منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقتل بِهِ مُؤمن فِي الحَدِيث الْمَذْكُور هُوَ الْكَافِر الَّذِي لَا عهد لَهُ، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد: أَن الْمُؤمن لَا يقتل بالكافر الْحَرْبِيّ، وَلَا الْكَافِر الَّذِي لَهُ عهد يقتل بِهِ أَيْضا، فحاصل معنى حَدِيث أبي جُحَيْفَة: لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر.
فَإِن قَالُوا: كل وَاحِد من الْحَدِيثين كَلَام مُسْتَقل مُفِيد فَيعْمل بِهِ، فَمَا الْحَاجة إِلَى جَعلهمَا وَاحِدًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل؟ قُلْنَا: قد ذكر أَن أصل الحَدِيث وَاحِد فتقطيعه لَا يزِيل الْمَعْنى الْأَصْلِيّ، وَلَئِن سلمنَا أَن أَصله لَيْسَ بِوَاحِد، وَأَن كل وَاحِد حَدِيث بِرَأْسِهِ وَلَكِن الْوَاجِب حملهما على أَنَّهُمَا وردا مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يثبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك فِي وَقْتَيْنِ، مرّة من غير ذكر ذِي الْعَهْد، وَمرَّة مَعَ ذكر ذِي الْعَهْد، وَأَيْضًا إِن أصل هَذَا كَانَ فِي خطبَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة، وَقد كَانَ رجل من خُزَاعَة قتل رجلا من هُذَيْل فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا إِن كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي هَاتين، لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) يَعْنِي، وَالله أعلم: الْكَافِر الَّذِي قَتله فِي الْجَاهِلِيَّة. وَكَانَ ذَلِك تَفْسِير لقَوْله: (كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي) . لِأَنَّهُ مَذْكُور فِي خطاب وَاحِد فِي حَدِيث وَاحِد، وَقد ذكر أهل الْمَغَازِي أَن عهد الذِّمَّة كَانَ بعد فتح مَكَّة، وَأَنه إِنَّمَا كَانَ قبل، بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْمُشْركين، عهود إِلَى مدد لَا على أَنهم داخلون فِي ذمَّة الْإِسْلَام وَحكمه، وَكَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة: (لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر) منصرفا إِلَى الْكفَّار المعاهدين، إِذْ لم يكن هُنَاكَ ذمِّي ينْصَرف الْكَلَام إِلَيْهِ، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، وَهَذَا يدل على أَن عهودهم كَانَت إِلَى مدد، وَلذَلِك قَالَ: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم} (التَّوْبَة: 4) وَقَالَ: {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} (التَّوْبَة: 2) وَكَانَ الْمُشْركُونَ حِينَئِذٍ على ضَرْبَيْنِ. أَحدهمَا: أهل الْحَرْب وَمن لَا عهد بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر: أهل الْمدَّة. وَلم يكن هُنَاكَ أهل ذمَّة، فَانْصَرف الْكَلَام إِلَى الضربين من الْمُشْركين، وَلم يدْخل فِيهِ من لم يكن على أحد هذَيْن الوصفين، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: وَقع الْإِجْمَاع على أَن الْمُسلم تقطع يَده إِذا سرق من مَال الذِّمِّيّ، فَكَذَا يقتل إِذا قَتله، وَإِن قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَأَنه يَقْتَضِي تَخْصِيص الْعَام لِأَن الْكَافِر الَّذِي لَا يقتل بِهِ ذُو الْعَهْد هُوَ الْحَرْبِيّ دون الْمسَاوِي لَهُ والأعلى وَهُوَ الذِّمِّيّ، فَلَا يبْقى أحد يقتل بِهِ الْمعَاهد إلاَّ الْحَرْبِيّ، فَيجب أَن يكون الْكَافِر الَّذِي لَا يقتل بِهِ الْمُسلم هُوَ الْحَرْبِيّ، تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ.
واعترضوا بِوُجُوه. الأول: أَن الْوَاو لَيست للْعَطْف بل للاستئناف، وَمَا بعد ذَلِك جملَة مستأنفة فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِضْمَار فَإِنَّهُ خلاف الأَصْل، فَلَا يقدر فِيهِ: بِكَافِر. الثَّانِي: سلمنَا أَنه من بَاب عطف الْمُفْرد، وَالتَّقْدِير: بِكَافِر، لَكِن الْمُشَاركَة بواو الْعَطف وَقعت فِي أصل النَّفْي لَا فِي جَمِيع الْوُجُوه، كَمَا إِذا قَالَ الْقَائِل: مَرَرْت بزيد مُنْطَلقًا وَعَمْرو. قَالَ الشهَاب الْقَرَافِيّ: الْمَنْقُول عَن أهل اللُّغَة والنحو أَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي أَنه مر بالمعطوف مُنْطَلقًا، بل الِاشْتِرَاك فِي مُطلق الْمُرُور. الثَّالِث: أَن الْمَعْنى لَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده خَاصَّة إِزَالَة لتوهم مشابهة الذِّمِّيّ، فَإِنَّهُ لَا يقتل وَلَا وَلَده الَّذِي لم يعاهد، لِأَن الذِّمَّة تَنْعَقِد لَهُ ولأولاده وهلم جرا، وَأما الْجَواب عَن الْقيَاس الْمَذْكُور: فَإِنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، وَهُوَ قَوْله: (وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر) فَلَا أثر لَهُ.
وَأجِيب عَن الأول: بِأَن الأَصْل فِي الْوَاو الْعَطف، وَدَعوى الِاسْتِئْنَاف يحْتَاج إِلَى بَيَان. وَعَن الثَّانِي: بِأَن مَا ذكرْتُمْ فِي عطف الْمُفْرد، وَهَذَا عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوف فِي الْمِثَال الَّذِي ذكره الْقَرَافِيّ مُفْرد. وَعَن الثَّالِث: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَت الْوَاو للاستئناف، وَقد قُلْنَا: إِنَّه يحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَأَيْضًا فمعلوم أَن ذَا الْعَهْد يحظر قَتله مَا دَامَ فِي عَهده، فَلَو حملنَا قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، على أَن لَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده لأخلينا اللَّفْظ عَن الْفَائِدَة، وَحكم كَلَام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حمله على مُقْتَضَاهُ فِي الْفَائِدَة، وَلَا يجوز إلغاؤه وَلَا إِسْقَاط حكمه، وَالْقِيَاس إِنَّمَا يكون فِي مُقَابلَة النَّص إِذا كَانَ الْمَعْنى على مَا ذكرْتُمْ، وَهُوَ غير صَحِيح، وعَلى مَا ذكرنَا يكون الْقيَاس فِي مُوَافقَة النَّص فَافْهَم. وَأما قَول الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع، فَإِنَّهُ لَا يضر عندنَا، لِأَن الْمُرْسل حجَّة عندنَا. وجزمه بِأَنَّهُ خطأ غير صَحِيح لِأَن الْقَاتِل يحْتَمل أَن يكون اثْنَيْنِ قتل أَحدهمَا وعاش الآخر بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَوله: إِنَّه مَنْسُوخ وَقد كَانَ قبل الْفَتْح، غير صَحِيح، لما ذكرنَا أَن أصل الحَدِيث كَانَ فِي خطبَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فتح مَكَّة. فَافْهَم.(2/162)
112 - حدّثنا أَبُو نُعَيْمٍ الفضْلُ بنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدثنَا شَيْبَانُ عنْ يَحيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي ليْثٍ عامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فأُخْبِر بِذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فقالَ: (إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عنْ مكَّةَ القَتلَ) أَو الفِيلَ شَكَّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمُؤْمِنِينَ، ألاَ وَإنها لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولَمْ تَحِلَّ لأَحدٍ بَعْدِي ألاَ وإنَّها حَلَّتْ لِي ساعَةً مِنْ نَهَارٍ، ألاَ وإنَّهَا ساعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُها وَلَا يُعُضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقطُ ساقِطَتُها إلاَّ لِمُنْشدٍ، فَمَنْ قُتِلَ لهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمّا أَن يُعْقَلَ، وإمّا أَن يُقادَ أهْلُ القَتِيل) فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أهْل اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لي يَا رسولَ اللَّهِ. فقالَ: (اكْتُبُوا لأبي فُلاَنٍ) فقالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إلاَّ الإذْخِرَ يَا رسولَ الله فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنا فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الإذْخرِ (إلاَّ الإذْخِرَ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اكتبوا لأبي فلَان) ، وكل مَا يكْتب من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَهُوَ علم.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، وَقد مر. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ الْمُؤَدب الْبَصْرِيّ الثِّقَة، مولى بني تَمِيم، سمع الْحسن وَغَيره، وَعنهُ ابْن مهْدي وَغَيره. وَكَانَ صَاحب حُرُوف وقراآت. قَالَ أَحْمد: هُوَ ثَبت فِي كل الْمَشَايِخ، وشيبان أثبت فِي يحيى بن أبي كثير من الْأَوْزَاعِيّ. قلت: حدث عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، وَعلي بن الْجَعْد، وَبَين وفاتيهما تسع وَسَبْعُونَ سنة، مَاتَ بِبَغْدَاد وَدفن بمقبره الخيزران، أَو فِي بَاب التِّين سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة الْمهْدي روى لَهُ الْجَمَاعَة. النَّحْوِيّ: نِسْبَة إِلَى قَبيلَة، وهم ولد النَّحْو ابْن شمس بن عَمْرو بن غنم بن غَالب بن عُثْمَان بن نصر بن زهران، وَلَيْسَ فِي هَذِه الْقَبِيلَة من يروي الحَدِيث سواهُ وَيزِيد بن أبي سعيد، وَأما مَا عداهما فنسبة إِلَى النَّحْو، علم الْعَرَبيَّة، كَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء النَّحْوِيّ وَغَيره، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ من اسْمه شَيبَان غَيره، وَفِي مُسلم هُوَ وشيبان بن فروخ، وَفِي أبي دَاوُد شَيبَان أَبُو حُذَيْفَة النَّسَائِيّ. وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة غير ذَلِك. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير صَالح بن المتَوَكل، وَيُقَال: اسْم أبي كثير: نشيط، وَيُقَال: دِينَار؛ ودينار مولى عَليّ اليمامي الطَّائِي مَوْلَاهُم الْعَطَّار أحد الْأَعْلَام الثِّقَات الْعباد، روى عَن أنس وَجَابِر مُرْسلا، وَعَن ابْن أبي سَلمَة، وَعنهُ هِشَام الدستوَائي وَغَيره. قَالَ أَيُّوب: مَا بَقِي على وَجه الأَرْض مثله. مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة. وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بعد أَيُّوب بِسنة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: يحيى بن أبي كثير، غَيره. نعم، فِيهَا يحيى بن كثير الْعَنْبَري، وَفِي أبي دَاوُد: يحيى بن كثير الْبَاهِلِيّ، وَفِي ابْن مَاجَه: يحيى بن كثير صَاحب الْبَصْرِيّ وهما ضعيفان. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين كُوفِي وبصري ويمامي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من رأى الصَّحَابِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ هُنَا. وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم عَن شَيبَان. وَفِي اللّقطَة عَن يحيى بن مُوسَى عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر وَعبد الله بن سعيد عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عبد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن غيلَان وَيحيى بن مُوسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ مُنْقَطِعًا، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرج النَّسَائِيّ عَن عَبَّاس بن الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (خُزَاعَة) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالزاي: حَيّ من الأزد سموا بذلك لِأَن الأزد لما خَرجُوا(2/163)
من مَكَّة وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد تخلفت عَنْهُم خُزَاعَة وأقامت بهَا، وَمعنى خزع فلَان عَن أَصْحَابه تخلف عَنْهُم، وَبَنُو لَيْث أَيْضا قَبيلَة. وَقَالَ الرشاطي: لَيْث فِي كنَانَة: لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وَفِي عبد الْقَيْس: لَيْث بن بكر بن حداءة بن ظَالِم بن ذهل بن عجل بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بن أفصى بن عبد الْقَيْس. قَوْله: (فَركب رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل. وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى. وَفِي (الْعباب) : الرَّاحِلَة النَّاقة الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، قَالَه القتيبي. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الرَّاحِلَة عِنْد الْعَرَب تكون الْجمل النجيب والناقة النجيبة، وَلَيْسَت النَّاقة أولى بِهَذَا الِاسْم من الْجمل، وَالْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، كَمَا يُقَال: رجل داهية وراوية. وَقيل: سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} (الحاقة: 21) أَي مرضية. قَوْله: (لَا يخْتَلى) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: لَا يجز وَلَا يقطع. قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: خليت الخلا واختليته أَي: جززته وقطعته فاختلى، والمخلى مَا يجتز بِهِ الخلا، والمخلاة مَا يَجْعَل فِيهِ الْخَلَاء. وَقَالَ ابْن السّكيت: خليت دَابَّتي أخليها إِذا جززت لَهَا الخلا، وَالسيف يخْتَلى أَي: يقطع، والمختلون والخالون الَّذين يختلون الْخَلَاء ويقطعونه، واختلت الأَرْض أَي: كثر خَلاهَا، والخلا مَقْصُورا: الرطب من الْحَشِيش، الْوَاحِدَة خلاة، وَفِي بعض الطّرق وَلَا يعضد شَوْكهَا وَلَا يخبط شَوْكهَا وَمعنى الْجَمِيع مُتَقَارب، والشوك جمع الشَّوْكَة، وَشَجر شائك وَشَوْك وشاك. وَقَالَ ابْن السّكيت: يُقَال: هَذِه شَجَرَة شاكة، أَي: كَثِيرَة الشوك. قَوْله: (وَلَا يعضد) أَي: وَلَا يقطع، وَقد اسْتَوْفَيْنَا مَعْنَاهُ فِي بَاب: ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب. قَوْله: (وَلَا تلْتَقط ساقطتها) أَي: مَا سقط فِيهَا بغفلة الْمَالِك، وَأَرَادَ بهَا اللّقطَة، وَجَاء: وَلَا يحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد، وَجَاء: لَا يلتقط لقطتهَا إِلَّا من عرفهَا. والالتقاط من: لقط الشَّيْء يلقطه لقطا أَخذه من الأَرْض. قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) أَي: لمعرف. قَالَ أَبُو عبيد: المنشد الْمُعَرّف. وَأما الطَّالِب فَيُقَال لَهُ: نَاشد. يُقَال: نشدت الضَّالة إِذا طلبتها، وأنشدتها إِذا عرفتها، وأصل الإنشاد رفع الصَّوْت، وَمِنْه إنشاد الشّعْر. قَوْله: (إِمَّا أَن يعقل) من الْعقل وَهُوَ: الدِّيَة. قَوْله: (وَإِمَّا أَن يُقَاد) بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ: الْقصاص، وَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة: هُوَ نبت مَعْرُوف طيبَة الرّيح، واحده إذخرة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (خُزَاعَة) لَا تَنْصَرِف للعلمية والتأنيث، مَنْصُوب لِأَنَّهُ اسْم: إِن. و (قتلوا رجلا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَهُوَ: (رجلا) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. قَوْله: (من بني لَيْث) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: (رجلا) . قَوْله: (عَام فتح مَكَّة) نصب على الظّرْف، وَمَكَّة، لَا تَنْصَرِف للعلمية والتأنيث. قَوْله: (بقتيل) أَي: بِسَبَب قَتِيل من خُزَاعَة. قَوْله: (قَتَلُوهُ) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (بقتيل) ، أَي قتل بَنو اللَّيْث ذَلِك الْخُزَاعِيّ. قَوْله: (فاخبر) على صِيغَة الْمَجْهُول، و (النَّبِي) مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (فَركب) عطف على: فَأخْبر. وَقَوله: (فَخَطب) ، عطف على: ركب، وَالْفَاء فِي: فَقَالَ، تصلح للتفسير. قَوْله: (الْقَتْل) مَنْصُوب مفعول: حبس. قَوْله: (وسلط) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: صِيغَة الْمَجْهُول فَيكون مُسْندًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَنه نَاب عَن الْفَاعِل، فعلى هَذَا يكون: والمؤمنون، بِالْوَاو لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ. وَالْآخر: صِيغَة الْمَعْلُوم، وَفِيه ضمير يرجع إِلَى الله وَهُوَ فَاعله وَرَسُول الله مَفْعُوله، فعلى هَذَا يكون و: الْمُؤمنِينَ، بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (أَلا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، للتّنْبِيه فتدل على تحقق مَا بعْدهَا. قَوْله: (وَإِنَّهَا) عطف على مُقَدّر لِأَن: أَلاَ، لَهَا صدر الْكَلَام، والمقتضى أَن يُقَال: أَلا إِنَّهَا، بِدُونِ الْوَاو، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} (الْبَقَرَة: 12) وَالتَّقْدِير: أَلا إِن الله حبس عَنْهَا الْفِيل وَإِنَّهَا لم تحل لأحد. قَوْله: (وَلَا تحل) عطف على قَوْله: (لم تحل) وَفِي الْكشميهني: (وَلم تحل) . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي اللّقطَة من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى: (وَلنْ تحل) . وَهِي أليق بالمستقبل. قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا) الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: (أَلا وَإِنَّهَا لم تحل) ، وَكَذَا قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا سَاعَتِي) . قَوْله: (حرَام) مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْل: إِنَّهَا. لَا يُقَال إِنَّه لَيْسَ بمطابق للمبتدأ، والمطابقة شَرط، لأَنا نقُول إِنَّه مصدر فِي الأَصْل فيستوي فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث والإفراد وَالْجمع، أَو هُوَ صفة مشبهة وَلَكِن وصفيته زَالَت لغَلَبَة الإسمية عَلَيْهِ فتساوى فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (لَا يخْتَلى) مَجْهُول، وَكَذَا: (لَا يعضد) و: (لَا يلتقط) . قَوْله: (فَمن قتل) على صِيغَة الْمَجْهُول. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت فِي خَبَرهَا الْفَاء، وَهُوَ قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَقْتُول كَيفَ يكون بِخَير النظرين؟ قلت: المُرَاد أَهله، وَأطلق عَلَيْهِ ذَلِك لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ حذف تَقْدِيره: من قتل لَهُ قَتِيل، وَسَائِر الرِّوَايَات تدل عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حذف وَقع بَيَانه فِي رِوَايَة(2/164)
المُصَنّف فِي الدِّيات عَن أبي نعيم بِهَذَا الْإِسْنَاد: فَمن قتل لَهُ قَتِيل. قلت: كل ذَلِك فِيهِ نظر، أما كَلَام الْكرْمَانِي فَيلْزم مِنْهُ الْإِضْمَار قبل الذّكر، وَأما كَلَام الْخطابِيّ فَيلْزم فِيهِ حذف الْفَاعِل، وَأما كَلَام بَعضهم فَهُوَ من كَلَام الْخطابِيّ وَلَيْسَ من عِنْده شَيْء، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن يقدر فِيهِ مُبْتَدأ مَحْذُوف وحذفه سَائِغ شَائِع وَالتَّقْدِير: فَمن أَهله قتل فَهُوَ بِخَير النظرين: فَمن، مُبْتَدأ و: أَهله قتل جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت صلَة للموصول. وَقَوله: (فَهُوَ) مُبْتَدأ، وَقَوله (بِخَير النظرين) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَالضَّمِير فِي: قتل، يرجع إِلَى الْأَهْل الْمُقدر، وَقَوله: فَهُوَ، يرجع إِلَى من. وَالْبَاء فِي قَوْله: بِخَير النظرين، يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ مرضِي بِخَير النظرين، أَو عَامل، أَو مَأْمُور وَنَحْو ذَلِك. وَتَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب، وَمعنى خير النظرين: أفضلهما. قَوْله: (إِمَّا) بِكَسْر الْهمزَة للتفصيل، و: أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة، وَكَذَا قَوْله، وَإِمَّا أَن، وَالتَّقْدِير: إِمَّا الْعقل وَإِمَّا الْقود. قَوْله: (من أهل الْيمن) فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة لرجل، وَكَذَا قَوْله من قُرَيْش. قَوْله: (إِلَّا الْإِذْخر يَا رَسُول الله) . قَالَ الْكرْمَانِي: مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين بِالِاسْتِثْنَاءِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: قل يَا رَسُول الله: لَا يخْتَلى شَوْكهَا وَلَا يعضد شَجَرهَا إلاَّ الْإِذْخر. . وَأما الْوَاقِع فِي لَفظه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَهُوَ ظَاهر أَنه اسْتثِْنَاء من كَلَامه السَّابِق. قلت: كل مِنْهُمَا اسْتثِْنَاء، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدره يدل على ذَلِك وَهُوَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَمَا فِي الْوَاقِع فِي لفظ الرَّسُول، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على الْبَدَل مِمَّا قبله، وَالنّصب على الِاسْتِثْنَاء لكَونه وَاقعا بعد النَّفْي. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِلَّا الْإِذْخر، اسْتثِْنَاء من: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَهُوَ بعض من كل. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ هَذَا الِاسْتِثْنَاء وَشَرطه الِاتِّصَال بالمستثنى مِنْهُ وَهَهُنَا قد وَقع الفاصلة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: جَازَ الْفَصْل عِنْد ابْن عَبَّاس، فَلَعَلَّ أَبَاهُ أَيْضا جوز ذَلِك، أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا وَهُوَ جَائِز اتِّفَاقًا، وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ أَولا مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذا لم يكن مُسْتَثْنى لَا يرد سُؤَاله. وَالْآخر: قَوْله أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا، وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْفَصْل كثير، وَالصَّوَاب مَا ذكرنَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَحْذُوف وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ من غير فصل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (قتلوا رجلا) لم يسم اسْمه، وَأما الْمَقْتُول الَّذِي قتل فِي الْجَاهِلِيَّة فاسمه أَحْمَر، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: لما كَانَ الْغَد من يَوْم الْفَتْح ... فَذكر إِلَى أَن قَالَ: بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَعند ابْن إِسْحَاق: بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرك، وَذكر الْقِصَّة وَهُوَ أَن خرَاش بن أُميَّة من خُزَاعَة قتل ابْن الأثرع الْهُذلِيّ وَهُوَ مُشْرك بقتيل قتل فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ أَحْمَر، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا معشر خُزَاعَة إرفعوا أَيْدِيكُم عَن الْقَتْل، فَمن قتل بعد مقَامي هَذَا فأهله بِخَير النظرين) وَذكر الحَدِيث. قَوْله: (إِن الله حبس) أَي: منع عَن مَكَّة الْقَتْل، بِالْقَافِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا يدل عَلَيْهِ أَنه روى: والفتك أَيْضا بِالْفَاءِ وَالْكَاف، وَفَسرهُ بسفك الدَّم، وَله وَجه إِن ساعدته الرِّوَايَة. قَوْله: (أَو الْفِيل) بِالْفَاءِ الْمَكْسُورَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْحَيَوَان الْمَشْهُور الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي قَوْله: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} (الْفِيل: 1) السُّورَة، فَأرْسل الله تَعَالَى على أَصْحَابه طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل حِين وصلوا إِلَى بطن الْوَادي بِالْقربِ من مَكَّة. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) ، وجعلوه على الشَّك، كَذَا قَالَ أَبُو نعيم: الْفِيل أَو الْقَتْل، وَفِي بعض النّسخ: (إِن الله حبس عَن مَكَّة الْقَتْل أَو الْفِيل) ، كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، وَاجْعَلُوا على الشَّك الْفِيل أَو الْقَتْل. وَفِي بَعْضهَا: قَالَ أَبُو عبد الله: كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، اجعلوه على الشَّك، وَالْمرَاد من قَوْله: قَالَ مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَذَا من قَوْله: قَالَ أَبُو عبد الله، وَالْمعْنَى على النُّسْخَة الأولى، وَجعله الروَاة على الشَّك. كَذَا قَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن شَيْخه، وعَلى النُّسْخَة الثَّانِيَة يكون: وَاجْعَلُوا من مقول أبي نعيم، وَهِي صِيغَة أَمر للحاضرين. أَي: اجعلوا هَذَا اللَّفْظ على الشَّك. وعَلى النُّسْخَة الثَّالِثَة يكون: إجعلوا، من مقول البُخَارِيّ نَفسه. فَافْهَم. قَوْله: (وَغَيره يَقُول الْفِيل) ، أَي غير أبي نعيم يَقُول الْفِيل، بِالْفَاءِ من غير شكّ، وَالْمرَاد بِالْغَيْر: من رَوَاهُ عَن شَيبَان رَفِيقًا لأبي نعيم، وَهُوَ عبد الله بن مُوسَى، وَمن رَوَاهُ عَن يحيى رَفِيقًا لشيبان هُوَ حَرْب بن شَدَّاد، لما سَيَأْتِي بَيَانه فِي الدِّيات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَالْمرَاد بِحَبْس الْفِيل حبس أهل الْفِيل، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الْقِصَّة الْمَشْهُورَة للحبشة فِي غزوهم مَكَّة وَمَعَهُمْ الْفِيل، فَمنعهَا الله مِنْهُم وسلط عَلَيْهِم الطير الأبابيل، مَعَ كَون أهل مَكَّة إِذْ ذَاك كَانُوا كفَّارًا، فحرمة أَهلهَا بعد الْإِسْلَام آكِد، لَكِن غَزْو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِيَّاهَا مَخْصُوص بِهِ على ظَاهر هَذَا الحَدِيث وَغَيره. قَوْله: (وَلَا تحل لأحد بعدِي) معنى حَلَال مَكَّة حَلَال الْقِتَال فِيهَا، وَقد مر أَن فِي رِوَايَة الْكشميهني(2/165)
(وَلم تحل) ، فَإِن قلت: لم تقلب الْمُضَارع مَاضِيا وَلَفظ بعدِي للاستقبال، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: مَعْنَاهُ لم يحكم الله فِي الْمَاضِي بِالْحلِّ فِي الْمُسْتَقْبل. قَوْله: (سَاعَتِي هَذِه) أَي: فِي سَاعَتِي الَّتِي أَتكَلّم فِيهَا، وَهِي بعد الْفَتْح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: الَّذِي أحل لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَخص بِهِ دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام وَلَا يجوز لأحد أَن يدْخلهُ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر إِحْرَام، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وصاحبيه، ولمالك وَالشَّافِعِيّ قَولَانِ فِيمَن لم يرد الْحَج أَو الْعمرَة. فَفِي قَول: يجوز، وَفِي قَول: لَا يجوز إلاَّ للحطابين وشبههم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الَّذِي أحل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قتال أَهلهَا ومحاربتهم، وَلَا يحل لأحد بعده. قَوْله: (شَوْكهَا) دَال على منع قطع سَائِر الْأَشْجَار بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقَالَ فِي (شرح السّنة) : المؤذي من الشوك كالعوسج لَا بَأْس بِقطعِهِ كالحيوان المؤذي، فَيكون من بَاب تَخْصِيص الحَدِيث بِالْقِيَاسِ. وَكَذَا لَا بَأْس بِقطع الْيَابِس كَمَا فِي الصَّيْد الْمَيِّت، وَأما لقطتهَا فَقيل: لَيْسَ لواجدها غير التَّعْرِيف أبدا، وَلَا يملكهَا بِحَال، وَلَا يتَصَدَّق بهَا إِلَى أَن يظفر بصاحبها، بِخِلَاف لقطَة سَائِر الْبِقَاع، وَهُوَ أظهر قولي الشَّافِعِي. وَمذهب مَالك والأكثرين إِلَى أَنه: لَا فرق بَين لقطَة الْحل وَالْحرم. وَقَالُوا: معنى إلاَّ لِمُنْشِد: أَنه يعرفهَا كَمَا يعرفهَا فِي سَائِر الْبِقَاع حولا كَامِلا حَتَّى لَا يتَوَهَّم أَنه إِذا نَادَى عَلَيْهَا وَقت الْمَوْسِم فَلم يظْهر مَالِكهَا جَازَ تَملكهَا. وَقَالَ عبد الرحن بن مهْدي: قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) يُرِيد: لَا تحل أَلْبَتَّة، فَكَأَنَّهُ قيل: إلاَّ لِمُنْشِد، أَي: لَا يحل لَهُ مِنْهَا إلاَّ إنشادها، فَيكون ذَلِك مِمَّا اخْتصّت بِهِ مَكَّة كَمَا اخْتصّت بِأَنَّهَا حرَام، وَأَنه لَا ينفر صيدها وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام. وَقَالَ الْمَازرِيّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي التَّعْرِيف، لِأَن الْحَاج قد لَا يعود إلاَّ بعد أَعْوَام فتدعو الضَّرُورَة لإطالة التَّعْرِيف بِخِلَاف غَيرهَا من الْبِلَاد، وَلِأَن النَّاس ينتابون إِلَى مَكَّة. وَيُقَال: جَاءَ الحَدِيث ليقطع وهم من يظنّ أَنه يسْتَغْنى عَن التَّعْرِيف هُنَا إِذْ الْغَالِب أَن الحجيج إِذا تفَرقُوا مشرقين ومغربين ومدت المطايا أعناقها، يَقُول الْقَائِل: لَا حَاجَة إِلَى التَّعْرِيف، فَذكر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن التَّعْرِيف فِيهَا ثَابت كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّقْدِير إلاَّ من سمع نَاشِدًا يَقُول: من أضلّ كَذَا، فَحِينَئِذٍ يجوز للملتقط أَن يرفعها إِذا رَآهَا ليردها على صَاحبهَا، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَالنضْر بن شُمَيْل. وَقيل: لَا تحل إلاَّ لِرَبِّهَا الَّذِي يطْلبهَا. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جيد فِي الْمَعْنى، لَكِن لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال للطَّالِب منشد. قلت: قَالَ بَعضهم: الناشد الْمُعَرّف، والمنشد الطَّالِب فَيصح هَذَا التَّأْوِيل على هَذَا التَّقْرِير. قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (الْمَشَارِق) : ذكر الحريري اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِي الناشد والمنشد، وَأَن بَعضهم عكس فَقَالَ: الناشد الْمُعَرّف والمنشد الطَّالِب، وَاخْتِلَافهمْ فِي تَفْسِير الحَدِيث بِالْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين) لَفْظَة خير، هَهُنَا بِمَعْنى أفعل التَّفْضِيل، وَالْمعْنَى: أفضل النظرين، وَتَفْسِير: النظرين، بقوله: إِمَّا أَن يعقل من الْعقل وَهُوَ الدِّيَة. وَإِمَّا أَن يُقَاد أهل الْقَتِيل، بِالْقَافِ أَي: يقْتَصّ. وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: (إِمَّا أَن يفادى) بِالْفَاءِ من المفاداة. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : (إِمَّا أَن يَأْخُذُوا الْعقل أَو يقتلُوا) ، وَهُوَ أبين الرِّوَايَات، وَهِي تفسر بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَوله فِي مُسلم: (وَإِمَّا أَن يقتل) . وَقَول أبي دَاوُد: (أَو يقتلُوا) مفسران لسَائِر الرِّوَايَات. وَقَالَ عِيَاض: وَقع هُنَا فِي الْعلم فِي جَمِيع النّسخ، وَإِمَّا أَن يُقَاد بِالْقَافِ، وَيُوَافِقهُ مَا جَاءَ فِي كتاب الدِّيات إِمَّا أَن يُؤدى وَإِمَّا أَن يُقَاد، وَكَذَلِكَ فِي مُسلم. وَحكى بَعضهم: يَعْنِي فِي مُسلم يفادى بِالْفَاءِ مَوضِع، يُقَاد قَالَ: وَالصَّوَاب الأول وَهُوَ الْقَاف لِأَن على الْفَاء يخْتل اللَّفْظ، لِأَن الْعقل هُوَ الْفِدَاء فيتحصل التّكْرَار. قَالَ: وَالصَّوَاب أَن الْقَاف مَعَ قَوْله: الْعقل، وَالْفَاء مَعَ قَوْله: يقتل، لِأَن الْعقل هُوَ الْفِدَاء. وَأما يعقل مَعَ يفدى أَو يفادى فَلَا وَجه لَهُ. قلت: حَاصِل الْكَلَام أَن الرِّوَايَة على وَجْهَيْن. من قَالَ: وَإِمَّا أَن يُقَاد بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ الْقصاص. قَالَ فِيمَا قبله: إِمَّا أَن يعقل، بِالْعينِ وَالْقَاف: من الْعقل وَهُوَ الدِّيَة، وَمن قَالَ: وَإِمَّا أَن يفادى. بِالْفَاءِ من: المفاداة. قَالَ فِيمَا قبله: إِمَّا أَن يقتل، بِالْقَافِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ الْقَتْل الَّذِي هُوَ الْقود. قَوْله: (فجَاء رجل من أهل الْيمن) وَهُوَ أَبُو شاه، وَجَاء بِهِ مُبينًا فِي اللّقطَة، وَهُوَ بشين مُعْجمَة وهاء بعد الْألف فِي الْوَقْف والدرج، وَلَا يُقَال بِالتَّاءِ. قَالُوا: وَلَا يعرف اسْم أبي شاه هَذَا، وَإِنَّمَا يعرف بكنيته وَهُوَ كَلْبِي يمني. وَفِي (الْمطَالع) وَأَبُو شاه مصروفا ضبطته وقرأته أَنا معرفَة ونكرة، وَعَن ابْن دحْيَة أَنه بِالتَّاءِ مَنْصُوبًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بهاء فِي آخِره درجا ووقفا. قَالَ: وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا يغتر بِكَثْرَة من يصحفه مِمَّن لَا يَأْخُذ الْعلم على وَجهه وَمن مظانه.(2/166)
قَوْله: (فَقَالَ: أكتبوا لأبي فلَان) أَرَادَ بِهِ لأبي شاه. وَفِي مُسلم: فَقَالَ الْوَلِيد يَعْنِي: ابْن مُسلم رَاوِي الحَدِيث قلت للأوزاعي مَا قَوْله: اكتبوا لي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: هَذِه الْخطْبَة الَّتِي سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ رجل من قُرَيْش) ، وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا يَأْتِي فِي اللّقطَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ أبي شيبَة: فَقَالَ رجل من قُرَيْش يُقَال لَهُ شاه، وَهُوَ غلط. قَوْله: (فَإنَّا نجعله فِي بُيُوتنَا) لِأَنَّهُ يسقف بِهِ الْبَيْت فَوق الْخشب. وَقيل: كَانُوا يخلطونه بالطين لِئَلَّا يتشقق إِذا بني بِهِ كَمَا يفعل بالتبن. . قَوْله: (وَقُبُورنَا) لِأَنَّهُ يسد بِهِ فرج اللَّحْد المتخللة بَين اللبنات. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) وَقع فِي بعض الرِّوَايَات مكررا مرَّتَيْنِ، فَتكون الثَّانِيَة للتَّأْكِيد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْعلم، وَكره قوم كِتَابَة الْعلم لِأَنَّهَا سَبَب لضياع الْحِفْظ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. وَمن الْحجَّة أَيْضا مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ من كِتَابَة الْمُصحف الَّذِي هُوَ أصل الْعلم، وَكَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتَّاب يَكْتُبُونَ الْوَحْي. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا سَمِعت شَيْئا فاكتبه وَلَو فِي الْحَائِط. قلت: مَحل الْخلاف كِتَابَة غير الْمُصحف، فَمَا اتَّفقُوا لَا يكون من الْحجَّة عَلَيْهِم. وَقَالَ عِيَاض: إِنَّمَا كره من كره من السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْعلم فِي الْمُصحف وَتَدْوِين السّنَن لأحاديث رويت فِيهَا. مِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْكِتَابَة فَلم يَأْذَن لنا) . وَعَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أمرنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن لَا نكتب شَيْئا) . وَلِئَلَّا يكْتب مَعَ الْقُرْآن شَيْء وَخَوف الاتكال على الْكِتَابَة. ثمَّ جَاءَت أَحَادِيث بِالْإِذْنِ فِي ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. قلت: يُرِيد قَول عبد الله: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ، قَالَ: فَأذن لي، فكتبته) فَكَانَ عبد الله يُسَمِّي صَحِيفَته الصادقة. قَالَ: وَأَجَازَهُ مُعظم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَوَقع عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق ودعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة لانتشار الطّرق وَطول الْأَسَانِيد واشتباه المقالات مَعَ قلَّة الْحِفْظ وكلال الْفَهم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجابوا عَن أَحَادِيث النَّهْي إِمَّا بالنسخ، فَإِن النَّهْي كَانَ خوفًا من الِاخْتِلَاط بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا اشْتهر أمنت الْمفْسدَة، أَو إِن النَّهْي كَانَ على التَّنْزِيه لمن وثق بحفظه، وَالْإِذْن لمن لم يَثِق بحفظه.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن الْخطْبَة يسْتَحبّ أَن تكون على مَوضِع عَال منبرٍ أَو غَيره فِي جُمُعَة أَو غَيرهَا.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (وسلط عَلَيْهِم رَسُول الله) من يرى أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَأَن التسليط الَّذِي وَقع للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُقَابل بِالْحَبْسِ الَّذِي وَقع لأَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ الْحَبْس عَن الْقِتَال، هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ الشَّافِعِي: فتحت صلحا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث أبي شُرَيْح.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم قطع الشّجر فِي الْحرم مِمَّا لَا ينبته الآدميون فِي الْعَادة، وعَلى تَحْرِيم خلاه، وَهَذَا بالِاتِّفَاقِ. وَاخْتلفُوا مِمَّا ينبته الآدميون، قَالَه النَّوَوِيّ.
الْخَامِس: اسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذَا الحَدِيث وَشبهه على أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ متعبدا بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم، وَمنعه بَعضهم. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْأولِ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو يُوسُف، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَصحح الْغَزالِيّ الْجَوَاز، وَتوقف فِي الْوُقُوع. وَقَالَ ابْن الْخَطِيب الرَّازِيّ: توقف أَكثر الْمُحَقِّقين فى الْكل، وَجوزهُ بَعضهم فِي أَمر الْحَرْب دون غَيره، وَاسْتدلَّ من قَالَ بِوُقُوعِهِ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا، وَفِي قَوْله لما سُئِلَ: (أحجنا هَذَا لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ وَلَو قلت: نعم، لوَجَبَ) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُسَارَى بدر: {مَا كَانَ لنَبِيّ} الْآيَة، (آل عمرَان: 161، الْأَنْفَال: 67) وَلَو كَانَ حكم بِالنَّصِّ لما عوتب. وَأجَاب المانعون عَن الْكل بِأَنَّهُ يجوز أَن يقارنها نُصُوص أَو تقدم عَلَيْهَا بِأَن يُوحى إِلَيْهِ أَنه إِذا كَانَ كَذَا فَاضل فافعل كَذَا، مثل أَن لَا يَسْتَثْنِي إلاَّ الْإِذْخر حِين سَأَلَ الْعَبَّاس، أَو كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَاضرا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يكون بِالْوَحْي لَا بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْمُهلب: يجوز أَن الله تَعَالَى أعلم رَسُوله بتحليل الْمُحرمَات عِنْد الِاضْطِرَار، فَكَانَ هَذَا من ذَلِك الأَصْل، فَلَمَّا سَأَلَ الْعَبَّاس حكم فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) إِنَّه مَخْصُوص بِالْحَرْبِ.
السَّادِس: فِيهِ أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين أَخذ الدِّيَة وَبَين الْقَتْل، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَار الْجَانِي على أَي الْأَمريْنِ شَاءَ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: لَيْسَ إلاَّ الْقَتْل أَو الْعَفو، وَلَيْسَ لَهُ الدِّيَة إلاَّ برضى الْجَانِي، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ. قلت: هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن ذكْوَان وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم أَن قَوْله: أَخذ الدِّيَة، قد يجوز أَن يكون على مَا قَالَ أهل الْمقَالة الأولى: وَيجوز أَن يَأْخُذ الدِّيَة إِن أعطيها، كَمَا يُقَال للرجل: خُذ بِدينِك إِن شِئْت دَرَاهِم، وَإِن شِئْت دَنَانِير، وَإِن شِئْت عرضا، وَلَيْسَ(2/167)
المُرَاد بذلك أَن يَأْخُذ ذَلِك، رَضِي الَّذِي عَلَيْهِ الدّين أَو كره، وَلَكِن يُرَاد إِبَاحَة ذَلِك لَهُ إِن أعْطِيه. قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن قَوْله: (بِخَير النظرين) جَار ومجرور، وَلَا بُد لَهُ من مُتَعَلق مُنَاسِب يتَعَدَّى بِالْبَاء، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن تَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب، فَيقدر: إِمَّا عَامل بِخَير النظرين، أَو مرضِي، أَو مَأْمُور بِخَير النظرين للْقَاتِل، إِشَارَة إِلَى أَن الرِّفْق لَهُ مَطْلُوب حَتَّى كَانَ الْعَفو مَنْدُوب إِلَيْهِ. وَيجوز أَن يكون تَأْوِيله: فَهُوَ بِخَير النظرين من رضى الْقَاتِل ورضى نَفسه فَإِن كَانَ رضى الْقَاتِل خيرا لَهُ، وَقد اخْتَار الْفِدَاء، فَلهُ قبُول ذَلِك. وَإِن كَانَ رضى نَفسه بالاقتصاص خيرا، فَلهُ فعل ذَلِك وَيَنْبَغِي أَن لَا يقف عِنْد رضى نَفسه أَلْبَتَّة، لِأَن الْقَاتِل بِاخْتِيَار الدِّيَة قد يكون خيرا لَهُ، فيؤول وجوب الدِّيَة إِلَى رضى الْقَاتِل.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْقَاتِل عمدا يجب عَلَيْهِ أحد الْأَمريْنِ: الْقصاص أَو الدِّيَة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وأصحهما عِنْده أَن الْوَاجِب الْقصاص، وَالدية بدل عِنْد سُقُوطه، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وعَلى الْقَوْلَيْنِ: للْوَلِيّ الْعَفو عَن الدِّيَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى رضى الْجَانِي وَلَو مَاتَ أَو سقط الطّرف الْمُسْتَحق وَجَبت الدِّيَة، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعَن أبي حنيفَة وَمَالك: إِنَّه لَا يعدل إِلَّا المَال إِلَّا برضى الْجَانِي، وَإنَّهُ لَو مَاتَ الْجَانِي سَقَطت الدِّيَة، وَهُوَ قَول قديم للشَّافِعِيّ، وَرجحه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (شَرحه) .
54 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي وهب بن مُنَبّه عَن أَخِيه قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ كتب وَلَا أكتب) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَن عبد الله بن عَمْرو من أفاضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ يكْتب مَا يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَلَو لم تكن الْكِتَابَة جَائِزَة لما كَانَ يفعل ذَلِك فَإِذا قُلْنَا فعل الصَّحَابِيّ حجَّة فَلَا نزاع فِيهِ وَإِلَّا فلاستدلال على جَوَاز الْكِتَابَة يكون بقرير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَابَته (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عَليّ بن عبد الله الْمدنِي الإِمَام وَقد تقدم الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ الجُمَحِي أحد الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة الرَّابِع وهب بن مُنَبّه بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة بن كَامِل بن سبج بِفَتْح السِّين وَقيل بِكَسْرِهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم وَقيل الشين مُعْجمَة ابْن ذِي كنار وَهُوَ الاسوار الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ الابناوي الذمارِي سمع هُنَا عَن أَخِيه قَالَ الْبَاجِيّ لم أر لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الْموضع وَسمع فِي غير البُخَارِيّ جَابِرا وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَأَبا هُرَيْرَة وَغَيرهم قَالَ أَبُو زرْعَة ياني ثِقَة وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ وَقَالَ الفلاس ضَعِيف وَهُوَ مَشْهُور بِمَعْرِِفَة الْكتب الْمَاضِيَة قَالَ قَرَأت من كتب الله تَعَالَى اثْنَيْنِ وَتِسْعين كتابا وَهُوَ من الْأَبْنَاء الَّذين بَعثهمْ كسْرَى إِلَى الْيمن وَقيل أَصله من هراة مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا ابْن مَاجَه واخرج لَهُ مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أَخِيه همام روى عَنهُ عَمْرو ابْن دِينَار وَاتفقَ لبخاري مُسلم فِي الاخراج عَنهُ وَعَن أَخِيه همام لَا غير الْخَامِس أَخُو وهب همام بن مُنَبّه أَبُو عقبَة وَكَانَ أكبر من وهب وَكَانُوا أَرْبَعَة أَخُو وهب وَمَعْقِل أَبُو عقيل وَهَمَّام وغيلان وَكَانَ أَصْغَرهم وَكَانَ آخِرهم موتا همام وَمَات وهب ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان ثمَّ همام توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة السَّادِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (بَيَان الْأَنْسَاب) الجمحى بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم بِالْحَاء الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى جمح ابْن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر الصَّنْعَانِيّ نِسْبَة إِلَى صنعاء مَدِينَة بِالْيمن وصنعا أَيْضا قَرْيَة بِدِمَشْق وهب ينْسب إِلَى صنعاء الْيمن وزيدت فِيهَا النُّون فِي النِّسْبَة على خلاف الْقيَاس الْيَمَانِيّ نِسْبَة إِلَى يمَان وَيُقَال يمنى أَيْضا قَالَ الْجَوْهَرِي الْيمن بِلَاد الْعَرَب وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا يمنى ويمان مُخَفّفَة وَالْألف عوض عَن يَاء النِّسْبَة فَلَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَبَعْضهمْ يَقُول يماني بِالتَّشْدِيدِ الابناوى بِفَتْح الْهمزَة مَنْسُوب إِلَى الْأَبْنَاء بباء مُوَحدَة ثمَّ نون وهم كل من أَبنَاء الْفرس الَّذين وجههم كسْرَى مَعَ سيف ذِي يزن الذمارِي بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَقيل بِفَتْحِهَا نِسْبَة إِلَى ذمار على مرحلَتَيْنِ من صنعاء (بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث وَالْأَخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا أَن وهباً لم يرو لَهُ البُخَارِيّ فِي غير(2/168)
هَذَا الْموضع. مِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي طبقَة مُتَقَارِبَة أَوَّلهمْ عَمْرو (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا لَيْسَ إِلَّا هُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بِهِ (بَيَان الاعراب وَالْمعْنَى) قَوْله " مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة مَا للنَّفْي وَقَوله " أحد " بِالرَّفْع اسْم مَا وَكلمَة من ابتدائية تتَعَلَّق بِمَحْذُوف وَالتَّقْدِير مَا أحد مُبْتَدأ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله أَكثر بِالرَّفْع صفة أحد ويروي بِالنّصب أَيْضا وَهُوَ إِلَّا وَجه لِأَنَّهُ خبر مَا وَقَوله " حَدِيثا " نصب على التَّمْيِيز وَلَفْظَة أَكثر افْعَل التَّفْضِيل وَلَا تسْتَعْمل إِلَّا بِأحد الْأُمُور الثَّلَاثَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه وَهَهُنَا اسْتعْمل بِمن وَهُوَ قَوْله منى وَلَكِن فصل بَينه وَبَينه بقوله حَدِيثا عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ باجنبي وَالضَّمِير فِي عَنهُ يرجع إِلَى أحد قَوْله " إِلَّا مَا كَانَ " يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا على تَقْدِير لَكِن الَّذِي كَانَ من عبد الله بن عَمْرو أَي الْكِتَابَة لم تكن منى وَالْخَبَر مَحْذُوف بقرينه بَاقِي الْكَلَام سَوَاء لزم مِنْهُ كَونه أَكثر حَدِيثا إِذا الْعَادة جَارِيَة على أَن شَخْصَيْنِ إِذا لَازِما شَيخا مثلا وَسَمعنَا مِنْهُ الْأَحَادِيث يكون الْكَاتِب أَكثر حَدِيثا من غَيره أم لَا يجوز أَن يكون مُتَّصِلا نظرا إِلَى الْمَعْنى إِذْ حَدِيثا إِذْ وَقع تمييزاً والتمييز كالمحكوم عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا أحد حَدِيثه أَكثر من حَدِيثي إِلَّا أَحَادِيث حصلت من عبد الله بن عَمْرو قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات مَا كَانَ أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ منى إِلَّا عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب قَوْله " فَإِنَّهُ " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو قَوْله " كَانَ يكْتب " جملَة وَقعت خَبرا لَان قَوْله " وَلَا أكتب " عطف على قَوْله فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب تَقْدِيره وَأَنا لَا أكتب وَقد روى عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ اسْتَأْذَنت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ فَأذن لي وَعنهُ قَالَ حفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل وَإِنَّمَا قلت الرِّوَايَة عَنهُ مَعَ كَثْرَة مَا حمل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ سكن مصر وَكَانَ الواردون إِلَيْهَا قَلِيلا بِخِلَاف أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ استوطن الْمَدِينَة وَهِي مقصد الْمُسلمين من كل جِهَة وَقيل كَانَ السَّبَب فِي كَثْرَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِعَدَمِ النسْيَان وَالسَّبَب فِي قلَّة حَدِيث عبد الله بن عَمْرو هُوَ أَنه كَانَ قد ظفر بجمل من كتب أهل الْكتاب وَكَانَ ينظر فِيهَا وَيحدث مِنْهَا فتجنب الْأَخْذ عَنهُ كثير من التَّابِعين وَالله أعلم. قَالَ البُخَارِيّ روى عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو من ثَمَانمِائَة رجل وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف وَثَلَاث مائَة حَدِيث وَوجد لعبد الله بن عَمْرو سَبْعمِائة حَدِيث اتفقَا على سَبْعَة عشر وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِمِائَة وَمُسلم بِعشْرين
(تَابعه معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة)
أَي تَابع وهب بن مُنَبّه فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن همام معمر بن رَاشد وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة وأخرجها أَيْضا أَبُو بكر على المرزوي فِي كتاب الْعلم لَهُ عَن الْحجَّاج بن الشَّاعِر عَنهُ عَن معمر عَنهُ وروى أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن مجاهدة والمغيرة بن حَكِيم قَالَا سمعنَا أَبَا هُرَيْرَة يَقُول مَا كَانَ أحد أعلم بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب بِيَدِهِ ويعي بِقَلْبِه وَكنت أعي وَلَا أكتب وَاسْتَأْذَنَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْكِتَابَة عَنهُ فاذن لَهُ اسناد حسن وَقَالَ الْكرْمَانِي هَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة سهلة المأخذ حَيْثُ ذكر المتابع عَلَيْهِ يَعْنِي هماماً ثمَّ أَنه يحْتَمل أَن يكون بَين البُخَارِيّ وَبَين معمر الرِّجَال الْمَذْكُورين بعينهم وَيحْتَمل أَن يكون غَيرهم كَمَا يحْتَمل أَن يكون من بَاب التَّعْلِيق عَن معمر قلت هَذِه احتمالات وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ طَريقَة أهل هَذَا الشَّأْن
114 - حدّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ قَالَ: حدّثني ابنُ وَهْبٍ أخْبرني يُونُسُ عنِ ابنِ شهَابٍ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: لَمَّا اشْتدّ بالنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعُهُ قَالَ: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتابا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) قالَ عُمَرُ: إِن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/169)
غَلَبَهُ الوجَعُ، وعنْدَنَا كِتابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فاخْتَلفوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قالَ: (عَنِّي ولاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التنَازُعُ) . فَخَرَج ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزيَّةِ مَا حالَ بَيْنَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَيْنَ كِتابِهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن يحيى بن سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي أَبُو سعيد، سكن مصر وَمَات بهَا سنة سبع أَو ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب بن مُسلم الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْفَقِيه الْأَعْمَى، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الطِّبّ عَن عبيد الله بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق وَفِيه وَفِي الِاعْتِصَام عَن ابْن إِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف كِلَاهُمَا عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه، وَفِي الطِّبّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَنهُ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (لما اشْتَدَّ) أَي: لما قوي. قَوْله: (اللَّغط) ، بِالتَّحْرِيكِ: الصَّوْت والجلبة. وَقَالَ الْكسَائي: اللَّغط، بِسُكُون الْغَيْن، لُغَة فِيهِ، وَالْجمع ألغاط. وَقَالَ اللَّيْث: اللَّغط أصوات مُبْهمَة لَا تفهم. تَقول: لغط الْقَوْم وألغط الْقَوْم مثل: لغطوا. قَوْله: (الرزيئة) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي بعْدهَا يَاء ثمَّ همزَة، وَقد تسهل الْهمزَة وتشدد الْيَاء، وَمَعْنَاهَا: الْمُصِيبَة. . وَفِي (الْعباب) الرزء الْمُصِيبَة وَالْجمع الارزاء وَكَذَلِكَ المرزية والرزيئة وَجمع الرزيئة الرزايا وَقد رزأته رزيئة أَي أَصَابَته مُصِيبَة ورزأته رزأ بِالضَّمِّ ومرزئة إِذا أصبت مِنْهُ خيرا مَا كَانَ، وَيَقُول: مَا رزأت مَاله، وَمَا رزئته بِالْكَسْرِ أَي: مَا نقصته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (لما) ظرف بِمَعْنى: حِين. قَوْله: (وَجَعه) بِالرَّفْع فَاعل: (اشْتَدَّ) . قَوْله: (قَالَ) جَوَاب (لما) وَقَوله: (ائْتُونِي) مقول القَوْل. قَوْله: (اكْتُبْ) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَيجوز الرّفْع للاستئناف. قَوْله: (كتابا) مفعول: (اكْتُبْ) . قَوْله: (لَا تضلوا) نفي، وَلَيْسَ بنهي، وَقد حذفت مِنْهُ النُّون لِأَنَّهُ بدل من جَوَاب الْأَمر، وَقد جوز بعض النُّحَاة تعدد جَوَاب الْأَمر من غير حرف الْعَطف، و: (بعده) نصب على الظّرْف. قَوْله: (إِن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غَلبه الوجع) مقول قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ، وغلبه الوجع، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، وَالْفَاعِل وَهُوَ: الوجع، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (كتاب الله) . كَلَام إضافي مُبْتَدأ، و (عندنَا) مقدما خَبره، و: (الْوَاو) ، للْحَال. قَوْله: (حَسبنَا) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ حَسبنَا. أَي: كافينا. قَوْله: (فَاخْتَلَفُوا) تَقْدِيره: فَعِنْدَ ذَلِك اخْتلفُوا. قَوْله: (وَكثر اللَّغط) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة جملَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى، وَيجوز أَن تكون الْوَاو للْحَال، وَالْألف وَاللَّام فِي: اللَّغط، عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: فَاخْتَلَفُوا وَالْحَال أَنهم قد كثر لغطهم. قَوْله: (قومُوا عني) أَي: قومُوا مبعدين عني، فَهَذَا الْفِعْل يسْتَعْمل بِاللَّامِ نَحْو: {قومُوا لله} (الْبَقَرَة: 238) وبإلى نَحْو: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) وبالباء نَحْو: قَامَ بِأَمْر كَذَا، وَبِغير صلَة نَحْو: قَامَ زيد. وتختلف الْمعَانِي باخْتلَاف الصلات لتضمن كُله صلَة معنى يُنَاسِبهَا. قَوْله: (وَلَا يَنْبَغِي) من أَفعَال المطاوعة، تَقول: بغيته فانبغى، كَمَا تَقول: كَسرته فانكسر. وَقَوله: (التَّنَازُع) فَاعله. قَوْله: (يَقُول) حَال من ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كل الرزيئة) مَنْصُوب على النِّيَابَة عَن الْمصدر، وَمثل هَذَا يعد من المفاعيل الْمُطلقَة. قَوْله: (مَا حَال) فِي مَحل الرّفْع، لِأَنَّهُ خبر: إِن. و: مَا، مَوْصُولَة، و: حَال، صلتها أَي: حجز أَي: صَار حاجزا.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وَجَعه) أَي: فِي مرض مَوته، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي: (لما حضر) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لما حضرت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْوَفَاة) . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من رِوَايَة سعيد بن جُبَير: إِن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس(2/170)
وَهُوَ قبل مَوته بأَرْبعَة أَيَّام. قَوْله: (ائْتُونِي بِكِتَاب) فِيهِ حذف لِأَن حق الظَّاهِر أَن يُقَال: ائْتُونِي بِمَا يكْتب بِهِ الشَّيْء: كالدواة والقلم. وَالْكتاب بِمَعْنى: الْكِتَابَة، وَالتَّقْدِير: ائْتُونِي بأدوات الْكِتَابَة، أَو يكون أَرَادَ بِالْكتاب مَا من شَأْنه أَن يكْتب فِيهِ نَحْو الكاغد والكتف. وَقد صرح فِي (صَحِيح) مُسلم بالتقدير الْمَذْكُور حَيْثُ قَالَ: (ائْتُونِي بالكتف والدواة) ، وَالْمرَاد بالكتف عظم الْكَتف، لأَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ. قَوْله: (اكْتُبْ لكم كتابا) أَي: آمُر بِالْكِتَابَةِ. نَحْو: كسى الْخَلِيفَة الْكَعْبَة، أَي: أَمر بالكسوة، وَيحْتَمل أَن يكون على حَقِيقَته، وَقد ثَبت أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب بِيَدِهِ. وَلَكِن ورد فِي (مُسْند أَحْمد) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه الْمَأْمُور بذلك، وَلَفظه: أَمرنِي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن آتيه بطبق أَي: كتف، يكْتب مَا لَا تضل أمته من بعده. وَاعْلَم أَن بَين الْكِتَابَيْنِ جناس تَامّ، وَلَكِن أَحدهمَا بِالْحَقِيقَةِ، وَالْآخر بالمجاز. قَوْله: (لَا تضلوا) ويروى: (لن تضلوا) ، بِفَتْح التَّاء وَكسر الضَّاد من الضَّلَالَة ضد الرشاد، يُقَال: ضللت، بِكَسْر اللَّام: أضلّ، بِكَسْر الضَّاد وَهِي الفصيحة، وَأهل الْعَالِيَة يَقُول ضللت بِالْكَسْرِ أضلّ بِالْفَتْح. وَجَاء: يضل بِالْكَسْرِ بِمَعْنى ضَاعَ وَهلك.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْكتاب الَّذِي همَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكتابته، قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْإِمَامَة بعده فترتفع تِلْكَ الْفِتَن الْعَظِيمَة كحرب الْجمل وصفين. وَقيل: أَرَادَ أَن يبين كتابا فِيهِ مهمات الْأَحْكَام ليحصل الِاتِّفَاق على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، ثمَّ ظهر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمصلحَة تَركه، أَو أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أَرَادَ أَن ينص على أسامي الْخُلَفَاء بعده حَتَّى لَا يَقع مِنْهُم الِاخْتِلَاف، وَيُؤَيِّدهُ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ فِي أَوَائِل مَرضه، وَهُوَ عِنْد عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (ادعِي لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب كتابا، فَإِنِّي أَخَاف أَن يتَمَنَّى متمني، وَيَقُول قَائِل، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أَبَا بكر) . أخرجه مُسلم. وللبخاري مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِك فَلم يكْتب. قَوْله: (قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: إِن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غَلبه الوجع وَعِنْدنَا كتاب الله حَسبنَا) . قَالَ النَّوَوِيّ: كَلَام عمر، رَضِي الله عَنهُ، هَذَا مَعَ علمه وفضله لِأَنَّهُ خشِي أَن يكْتب أمورا فيعجزوا عَنْهَا، فيستحقوا الْعقُوبَة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا منصوصة لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قصد عمر، رَضِي الله عَنهُ، التَّخْفِيف على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين غَلبه الوجع. وَلَو كَانَ مُرَاده، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يكْتب مَا لَا يستغنون عَنهُ لم يتركهم لاختلافهم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد حكى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أهل الْعلم، قيل: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يكْتب اسْتِخْلَاف أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ ترك ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا علمه من تَقْدِير الله تَعَالَى. وَذَلِكَ كَمَا همَّ فِي أول مَرضه حِين قَالَ: وارأساه، ثمَّ ترك الْكتاب، وَقَالَ: يأبي الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر، ثمَّ قدمه فِي الصَّلَاة. وَقد كَانَ سبق مِنْهُ قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر) . وَفِي تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار على عمر، رَضِي الله عَنهُ، دَلِيل على استصوابه. فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ لعمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يعْتَرض على مَا أَمر بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قيل لَهُ: قَالَ الْخطابِيّ: لَا يجوز أَن يحمل قَوْله أَنه توهم الْغَلَط عَلَيْهِ أَو ظن بِهِ غير ذَلِك مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ بِحَالهِ، لكنه لما رأى مَا غلب عَلَيْهِ من الوجع وَقرب الْوَفَاة خَافَ أَن يكون ذَلِك القَوْل مِمَّا يَقُوله الْمَرِيض مِمَّا لَا عَزِيمَة لَهُ فِيهِ، فيجد المُنَافِقُونَ بذلك سَبِيلا إِلَى الْكَلَام فِي الدّين. وَقد كَانَت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يراجعون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي بعض الْأُمُور قبل أَن يجْزم فِيهَا، كَمَا راجعوه يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَفِي الْخلاف وَفِي الصُّلْح بَينه وَبَين قُرَيْش، فَإِذا أَمر بالشَّيْء أَمر عَزِيمَة فَلَا يُرَاجِعهُ أحد. قَالَ: وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فِيمَا لم ينزل عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْي، وَأَجْمعُوا كلهم على أَنه لَا يقر عَلَيْهِ. قَالَ: وَمَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ قد رفع دَرَجَته فَوق الْخلق كلهم، فَلم يتنزه من الْعَوَارِض البشرية، فقد سَهَا فِي الصَّلَاة، فَلَا يُنكر أَن يظنّ بِهِ حُدُوث بعض هَذِه الْأُمُور فِي مَرضه، فَيتَوَقَّف فِي مثل هَذِه الْحَال حَتَّى يتَبَيَّن حَقِيقَته، فلهذه الْمعَانِي وَشبههَا توقف عمر، رَضِي الله عَنهُ. وَأجَاب الْمَازرِيّ عَن السُّؤَال بِأَنَّهُ: لَا خلاف أَن الْأَوَامِر قد تقترن بهَا قَرَائِن تصرفها من النّدب إِلَى الْوُجُوب، وَعَكسه عِنْد من قَالَ: إِنَّهَا للْوُجُوب وَإِلَى الْإِبَاحَة، وَغَيرهَا من الْمعَانِي، فَلَعَلَّهُ ظهر من الْقَرَائِن مَا دلّ على أَنه لم يُوجب ذَلِك عَلَيْهِم، بل جعله إِلَى اختيارهم، وَلَعَلَّه اعْتقد أَنه صدر ذَلِك مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غير قصد جازم، فَظهر ذَلِك لعمر، رَضِي الله عَنهُ، دون غَيره. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: (ائْتُونِي) أَمر، وَكَانَ حق الْمَأْمُور أَن يُبَادر للامتثال، لَكِن ظهر لعمر، رَضِي الله عَنهُ، وَطَائِفَة أَنه لَيْسَ على الْوُجُوب، وَأَنه من بَاب الْإِرْشَاد إِلَى الْأَصْلَح، فكرهوا أَن يكلفوه من ذَلِك مَا يشق عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالة مَعَ استحضارهم قَوْله تَعَالَى: {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء}(2/171)
(الْأَنْعَام: 38) وَقَوله تَعَالَى: {تبيانا لكل شَيْء} (النَّحْل: 89) وَلِهَذَا قَالَ عمر: رَضِي الله عَنهُ: حَسبنَا كتاب الله. وَظهر لطائفة أُخْرَى أَن الأولى أَن يكْتب، لما فِيهِ من امْتِثَال أمره وَمَا يتضمنه من زِيَادَة الْإِيضَاح، وَدلّ أمره لَهُم بِالْقيامِ على أَن أمره الأول كَانَ على الِاخْتِيَار، وَلِهَذَا عَاشَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة والسلامغ، بعد ذَلِك أَيَّامًا وَلم يعاود أَمرهم بذلك. وَلَو كَانَ وَاجِبا لم يتْركهُ لاختلافهم، لِأَنَّهُ لم يتْرك التَّكْلِيف لمُخَالفَة من خَالف. وَالله أعلم.
قَوْله: (عِنْدِي) . وَفِي بعض النّسخ: (عني) أَي: عَن جهتي. قَوْله: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع) فِيهِ إِشْعَار بِأَن الأولى كَانَ الْمُبَادرَة إِلَى امْتِثَال الْأَمر، وَإِن كَانَ مَا اخْتَارَهُ عمر، رَضِي الله عَنهُ، صَوَابا. قَوْله: (فَخرج ابْن عَبَّاس يَقُول) ظَاهره أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ مَعَهم، وَأَنه فِي تِلْكَ الْحَالة خرج قَائِلا هَذِه الْمقَالة، وَلَيْسَ الْأَمر فِي الْوَاقِع على مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِر، بل قَول ابْن عَبَّاس إِنَّمَا كَانَ يَقُول عِنْد مَا يتحدث بِهَذَا الحَدِيث، فَفِي رِوَايَة معمر فِي البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام وَغَيره، قَالَ عبيد الله: فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول، وَكَذَا لِأَحْمَد من طَرِيق جرير بن حَازِم عَن يُونُس بن يزِيد، وَوجه رِوَايَة حَدِيث الْبَاب أَن ابْن عَبَّاس لما حدث عبيد الله بِهَذَا الحَدِيث، خرج من الْمَكَان الَّذِي كَانَ بِهِ، وَهُوَ يَقُول ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) ، قَالَ عبيد الله: فَسمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول ... الخ، وَإِنَّمَا تعين حمله على غير ظَاهره لِأَنَّهُ عبيد الله تَابِعِيّ من الطَّبَقَة الثَّانِيَة لم يدْرك الْقِصَّة فِي وَقتهَا، لِأَنَّهُ ولد بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمدَّة طَوِيلَة، ثمَّ سَمعهَا من ابْن عَبَّاس بعد ذَلِك بِمدَّة أُخْرَى.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بطلَان مَا يَدعِيهِ الشِّيعَة من وصاية رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْد عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عهد من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأحال عَلَيْهَا. الثَّانِي: فِيهِ مَا يدل على فَضِيلَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وفقهه. الثَّالِث: فِي قَوْله: (ائْتُونِي بِكِتَاب أكتب لكم) دلَالَة على أَن للْإِمَام أَن يُوصي عِنْد مَوته بِمَا يرَاهُ نظرا للْأمة. الرَّابِع: فِي ترك الْكتاب إِبَاحَة الِاجْتِهَاد، لِأَنَّهُ وَكلهمْ إِلَى أنفسهم واجتهادهم. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة، وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ.
40 - (بابُ العِلْمِ والعِظَةِ باللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعلم، والعظة أَي: الْوَعْظ بِاللَّيْلِ، وَفِي بعض النّسخ: واليقظة، وَهَذَا أنسب للتَّرْجَمَة، وَفِي بعض النّسخ هَذَا الْبَاب مُتَأَخّر عَن الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول كِتَابَة الْعلم الدَّالَّة على الضَّبْط وَالِاجْتِهَاد، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ تَعْلِيم الْعلم وَالْمَوْعِظَة بِاللَّيْلِ، الدَّال كل مِنْهُمَا على قُوَّة الِاجْتِهَاد وَشدَّة التَّحْصِيل.
115 - حدّثنا صَدَقَةُ قَالَ: أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ مَعْمَرٍ عَنْ هِنْدٍ عنْ أمِّ سَلَمَة وعَمْرٍ وويَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ هِنْدٍ عنْ أمِّ سَلَمَةَ قَالَت: اسْتَيْقَظَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: (سُبْحانَ اللَّهِ {ماذَا أنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتن} وماذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِن {أَيْقَظُوا صَوَاحِبَ الحُجَرِ، فَرُبَّ كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) ..
الْبَاب لَهُ ترجمتان: الْعلم والعظة، أَو الْيَقَظَة بِاللَّيْلِ، فمطابقتة الحَدِيث للتَّرْجَمَة الأولى فِي قَوْله: (مَا أنزل اللَّيْلَة من الْفِتَن} وماذا فتح من الخزائن!) . وَقَوله: (فَرب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية فِي الْآخِرَة) . ومطابقته للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة فِي قَوْله: (أيقظوا صَوَاحِب الْحجر) .
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: صَدَقَة بن فضل الْمروزِي، أَبُو الْفضل، انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ البُخَارِيّ عَن السِّتَّة، وَكَانَ حَافِظًا إِمَامًا، مَاتَ سنة ثَلَاث، وَقيل: سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: معمر بن رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عمر بن دِينَار. السَّادِس: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَأَخْطَأ من قَالَ: إِنَّه يحيى بن سعيد الْقطَّان. لِأَنَّهُ لم يسمع من الزُّهْرِيّ وَلَا لقِيه. السَّابِع: هِنْد بنت الْحَارِث الفراسية، وَيُقَال: القرشية، وَعند الدَّاودِيّ: الْقَادِسِيَّة، وَلَا وَجه لَهُ. كَانَت زَوْجَة لمعبد بن الْمِقْدَاد، وَفِي (التَّهْذِيب) أسقط معبدًا وَهُوَ وهم، روى لَهَا الْجَمَاعَة إلاَّ مُسلما. الثَّامِن: أم سَلمَة، هِنْد. وَقيل: رَملَة، زوج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بنت أبي أُميَّة حُذَيْفَة. وَيُقَال: سهل بن الْمُغيرَة(2/172)
بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم، كَانَت عِنْد أبي سَلمَة فَتوفي عَنْهَا، فَتَزَوجهَا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رُوِيَ لَهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِية وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على ثَلَاثَة عشر حَدِيثا. هَاجَرت إِلَى الْحَبَشَة وَإِلَى الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن سعد: هَاجر بهَا أَبُو سَلمَة إِلَى الْحَبَشَة فِي الهجرتين جَمِيعًا. فَولدت لَهُ هُنَاكَ زَيْنَب، ثمَّ ولدت بعْدهَا سَلمَة وَعمر ودرة. تزَوجهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي شَوَّال سنة أَربع، وَتوفيت سنة تسع وَخمسين، وَقيل: فِي خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَولي يزِيد فِي رَجَب سنة سِتِّينَ وَتُوفِّي فِي ربيع سنة أَربع وَسِتِّينَ وَكَانَ لَهَا حِين توفيت أَربع وَثَمَانُونَ سنة، فصلى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فِي الْأَصَح، وَاتَّفَقُوا أَنَّهَا دفنت بِالبَقِيعِ، روى لَهَا الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صحابية عَن صحابية على قَول من قَالَ: إِن هندا صحابية إِن صَحَّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأقران فِي موضِعين: أَحدهمَا ابْن عُيَيْنَة عَن معمر، وَالثَّانِي: عَمْرو وَيحيى عَن الزُّهْرِيّ.
بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات: قَوْله: (عَن هِنْد) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عَن امْرَأَة) . وَقَوله: عَن امْرَأَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: عَن هِنْد، وَالْحَاصِل أَن الزُّهْرِيّ رُبمَا كَانَ سَمَّاهَا باسمها، رُبمَا أبهمها. قَوْله: (وَعَمْرو) بِالْجَرِّ عطف على معمر، يَعْنِي: ابْن عُيَيْنَة، يروي عَن معمر بن رَاشد وَعَن عَمْرو بن دِينَار وَعَن يحيى بن سعيد، ثَلَاثَتهمْ يروون عَن الزُّهْرِيّ، وَقد روى الْحميدِي هَذَا الحَدِيث فِي (مُسْنده) عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: حَدثنَا عَمْرو وَيحيى بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ، فَصرحَ بِالتَّحْدِيثِ عَن الثَّلَاثَة، وَيجوز وَعَمْرو بِالرَّفْع، وَرُوِيَ بِهِ، وَوَجهه أَن يكون استئنافا. وَقد جرت عَادَة ابْن عُيَيْنَة يحدث بِحَذْف صِيغَة الْأَدَاء. قَوْله: (وَيحيى) عطف على عَمْرو فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي السَّنَد الأول مُتَّصِلا، فَذكر فِيهِ هندا، وَفِي السَّنَد الثَّانِي عَن امْرَأَة لم يسمهَا، وَقد سَمَّاهَا فِي بَقِيَّة الْأَبْوَاب، والاعتماد فِيهِ على الْمُتَّصِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون أَي الْإِسْنَاد الثَّانِي تَعْلِيقا من البُخَارِيّ عَن عَمْرو، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر الْأَصَح هُوَ الأول أَي الْإِسْنَاد الأول قلت: كِلَاهُمَا صَحِيحَانِ متصلان كَمَا ذكرنَا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة اللَّيْل عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر، وَفِي اللبَاس عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن هِشَام بن يُوسُف عَن معمر، وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة فِي موضِعين من (كتاب الْأَدَب) عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَفِي الْفِتَن عَن إِسْمَاعِيل عَن إخيه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن مُحَمَّد بن أبي عَتيق، كلهم عَن الزُّهْرِيّ عَن هِنْد بِهِ. قَالَ الْحميدِي: هَذَا الحَدِيث مِمَّا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَقَالَ: صَحِيح، وَأخرجه مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن شهَاب مُرْسلا.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (اسْتَيْقَظَ) بِمَعْنى تيقظ. وَلَيْسَ السِّين فِيهِ للطلب، كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه) . وَمَعْنَاهُ انتبه من النّوم، وَهُوَ فعل، وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ذَات لَيْلَة) أَي: فِي لَيْلَة، وَلَفْظَة: ذَات، مقحمة للتَّأْكِيد. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أما قَوْلهم: ذَات مرّة، و: ذُو صباح، فَهُوَ من ظروف الزَّمَان الَّتِي لَا تتمكن تَقول: لَقيته ذَات يَوْم وَذَات لَيْلَة. قلت: إِنَّمَا لم يتَصَرَّف: ذَات مرّة. وَذَات يَوْم، و: ذُو صباح، و: ذُو مسَاء، لأمرين: أَحدهمَا: أَن إضافتها من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الِاسْم، لِأَن قَوْلك: لقيتك ذَات مرّة وَذَات يَوْم، قِطْعَة من الزَّمَان ذَات مرّة وَذَات يَوْم، أَي: صَاحِبَة هَذَا الِاسْم، وَكَذَا: ذُو صباح وَذُو مسَاء. أَي: وَقت ذُو صباح أَي صَاحب هَذَا الِاسْم، فحذفت الظروف وأقيمت صفاتها مقَامهَا فأعربت بإعرابها، وَإِضَافَة الْمُسَمّى للإسم قَليلَة لِأَنَّهَا تفيده بِدُونِ الْمُضَاف مَا تفِيد مَعَه. الثَّانِي: أَن ذَات وَذُو من ذَات مرّة وَأَخَوَاتهَا لَيْسَ لَهما تمكن من ظروف الزَّمَان لِأَنَّهُمَا ليسَا من أَسمَاء الزَّمَان. وَزعم السُّهيْلي أَن ذَات مرّة وَذَات يَوْم لَا يتصرفان فِي لُغَة خثعم وَلَا غَيرهَا. قَوْله: (فَقَالَ) عطف على: اسْتَيْقَظَ. قَوْله: (سُبْحَانَ الله) مقول القَوْل، وَسُبْحَان، علم للتسبيح: كعثمان، علم للرجل، وانتصابه على المصدرية، وَالتَّسْبِيح فِي اللُّغَة التَّنْزِيه، وَالْمعْنَى هُنَا: أنزه الله تَنْزِيها عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ، واستعماله هُنَا للتعجب، لِأَن الْعَرَب قد تستعمله فِي مقَام التَّعَجُّب. قَوْله: (مَاذَا) فِيهِ أوجه: الأول: أَن يكون مَا، استفهاما، و: ذَا، إِشَارَة، نَحْو: مَاذَا الْوُقُوف؟ ، الثَّانِي: أَن تكون مَا، استفهاما، وَذَا، مَوْصُولَة بِمَعْنى: الَّذِي. الثَّالِث: أَن تكون: مَاذَا كلمة اسْتِفْهَام على التَّرْكِيب، كَقَوْلِك: لماذا جِئْت؟ الرَّابِع: أَن تكون: مَا، نكرَة مَوْصُوفَة بِمَعْنى شَيْء. الْخَامِس: أَن تكون: مَا، زَائِدَة، و: ذَا للْإِشَارَة. السَّادِس: أَن تكون: مَا، استفهاما(2/173)
وَذَا، زَائِدَة أجَازه جمَاعَة مِنْهُم ابْن مَالك. قَوْله: (أنزل) على صِيغَة الْمَجْهُول. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أنزل الله) ، والإنزال فِي اللُّغَة إِمَّا بِمَعْنى الإيواء كَمَا يُقَال: أنزل الْجَيْش بِالْبَلَدِ، وَنزل الْأَمِير بِالْقصرِ، وَإِمَّا بِمَعْنى تَحْرِيك الشَّيْء من علو إِلَى سفل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء} (الْمُؤْمِنُونَ: 18، الْفرْقَان: 48، لُقْمَان: 10) وَهَذَانِ المعنيان لَا يتحققان فِي: أنزل الله، فَهُوَ مُسْتَعْمل فِي معنى مجازي بِمَعْنى: أعلم الله الْمَلَائِكَة بِالْأَمر الْمُقدر، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى فِي أنزل الله الْقُرْآن، فَمن قَالَ: إِن الْقُرْآن معنى قَائِم بِذَات الله تَعَالَى، فإنزاله أَن يُوجد الْكَلِمَات والحروف الدَّالَّة على ذَلِك الْمَعْنى، ويثبتها فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَمن قَالَ: الْقُرْآن هُوَ الْأَلْفَاظ، فإنزاله مُجَرّد إثْبَاته فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، لِأَن الْإِنْزَال إِنَّمَا يكون بعد الْوُجُود، وَالْمرَاد بإنزال الْكتب السماوية أَن يتلقاها الْملك من الله تلقيا روحانيا أَو يحفظها من اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَينزل بهَا فيلقيها على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَكَأن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أُوحِي إِلَيْهِ فِي يَوْمه ذَلِك بِمَا سيقع بعده من الْفِتَن، فَعبر عَنهُ بالإنزال. قَوْله: (اللَّيْلَة) بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَمَا فتح من الخزائن) الْكَلَام فِيهِ من جِهَة الْإِعْرَاب مثل الْكَلَام فِيمَا أنزل، وَعبر عَن الرَّحْمَة بالخزائن، كَقَوْلِه: (خَزَائِن رَحْمَة رَبِّي) ، وَعَن الْعَذَاب بالفتن لِأَنَّهَا أَسبَاب مؤدية إِلَى الْعقَاب. وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ دَلِيل على أَن الْفِتَن تكون فِي المَال وَفِي غَيره لقَوْله: (مَاذَا أنزل من الْفِتَن {وماذا فتح من الخزائن} ) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (مَاذَا أنزل اللَّيْلَة من الْفِتَن) وَهُوَ مَا فتح من الخزائن. قَالَ: وَقد يعْطف الشَّيْء على نَفسه تَأْكِيدًا، لِأَن مَا يفتح من الخزائن يكون سَببا للفتنة، وَاحْتج الأول بقول حُذَيْفَة، رَضِي الله عَنهُ: فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله يكفرهَا الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة. قلت: الْمَعْنى أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الْمَنَام، وَفِيه أَنه سيقع بعده فتن. وَأَنه يفتح لأمته الخزائن. وَعرف عِنْد الاستيقاظ حَقِيقَته إِمَّا بالتعبير أَو بِالْوَحْي إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَة قبل النّوم أَو بعده. وَقد وَقعت الْفِتَن كَمَا هُوَ الْمَشْهُور، وَفتحت الخزائن حَيْثُ تسلطت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، على فَارس وَالروم وَغَيرهمَا، وَهَذَا من المعجزات حَيْثُ أخبر بِأَمْر قبل وُقُوعه فَوَقع مثل مَا أخبر. قَوْله: (أيقظوا) بِفَتْح الْهمزَة لِأَنَّهُ أَمر من الإيقاظ بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (صَوَاحِب الْحجر) كَلَام إضافي مَفْعُوله، وَأَرَادَ بهَا زَوْجَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ جمع: صَاحِبَة. وَالْحجر، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم: جمع حجرَة، وَأَرَادَ بهَا منَازِل زَوْجَاته، وَإِنَّمَا خصهن بالإيقاظ لِأَنَّهُنَّ الحاضرات حِينَئِذٍ أخْبرت بذلك أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا. كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة لَيْلَتهَا وَهُوَ الظَّاهِر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أيقظوا، بِكَسْر الْهمزَة أَي: انتبهوا أَو الصواحب منادى لَو صحت الرِّوَايَة بِهِ. قلت: هَذَا مَمْنُوع من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من جِهَة الرِّوَايَة حَيْثُ لم يَرْوُونَهُ هَكَذَا. وَالْآخر: من جِهَة اللَّفْظ، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ كَذَلِك كَانَ يُقَال: أيقظن، لِأَن الْخطاب للنِّسَاء. قَوْله: (فَرب كاسية) أصل: رب، للتقليل، وَقد تسْتَعْمل للتكثير كَمَا فِي رب هَهُنَا، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَنه لَيْسَ مَعْنَاهُ التقليل دَائِما خلافًا للأكثرين، وَلَا التكثير دَائِما خلافًا لِابْنِ درسْتوَيْه وَجَمَاعَة، بل ترد للتكثير كثيرا، وللتقليل قَلِيلا. فَمن الأول: {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} (الْحجر: 2) (وَرب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية يَوْم الْقِيَامَة) . وَمن الثَّانِي: قَول الشَّاعِر:
(أَلا رب مَوْلُود وَلَيْسَ لَهُ أَب)
وفيهَا لُغَات قد ذَكرنَاهَا مرّة، وفعلها الَّذِي تتَعَلَّق هِيَ بِهِ يَنْبَغِي أَن يكون مَاضِيا ويحذف غَالِبا. وَالتَّقْدِير: رب كاسية عَارِية عرفتها، وَالْمرَاد: إِمَّا اللَّاتِي تلبس رَقِيق الثِّيَاب الَّتِي لَا تمنع من إِدْرَاك الْبشرَة معاقبات فِي الْآخِرَة بفضيحة التعري، وَإِمَّا اللابسات للثياب الرقيقة النفيسة عاريات من الْحَسَنَات فِي الْآخِرَة، فندبهن على الصَّدَقَة وحضهن على ترك السَّرف فِي الدُّنْيَا، يَأْخُذن مِنْهَا أقل الْكِفَايَة ويتصدقن بِمَا سوى ذَلِك، وَهَذِه الْبلوى عَامَّة فِي هَذَا الزَّمَان لَا سِيمَا فِي نسَاء مصر، فَإِن الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ تتغالى فِي ثمن قَمِيص إِمَّا من عِنْدهَا أَو بتكليفها زَوجهَا حَتَّى تفصل قَمِيصًا بأكمام هائلة وذيل سابلة جدا، منجرة وَرَاءَهَا أَكثر من ذراعين، وكل كم من كميها يصلح أَن يكون قَمِيصًا معتدلاً، وَمَعَ هَذَا إِذا مشت يرى مِنْهَا أَكثر بدنهَا من نفس كمها، فَلَا شكّ أَنَّهُنَّ مِمَّن يدخلن فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من جملَة معجزات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ أخبر بذلك قبل وُقُوعه، لما علم باطلاع الله تَعَالَى إِيَّاه أَن مثل هَذَا سيقع فِي أمته من فتح الخزائن وَكَثْرَة الْأَمْوَال المؤدية إِلَى مثل هَذِه الجريمة وَغَيرهَا، وَلَكِن لما أَمر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بإيقاظ نِسَائِهِ خص تذكيره ووعظه لَهُنَّ بِهَذَا الْوَصْف تحذيرا لَهُنَّ عَن مُبَاشرَة الْإِسْرَاف الْمنْهِي عَنهُ، وَلِأَنَّهُ من الْأُمُور المؤدية إِلَى فَسَاد عَظِيم على مَا لَا يخفى. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (رب كاسية) كالبيان لموجب استيقاظ الْأَرْوَاح، أَي: لَا يَنْبَغِي لَهُنَّ أَن يتغافلن ويعتمدن على كونهن أهالي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَي: رب كاسية حلى الزَّوْجِيَّة(2/174)
المشرفة بهَا وَهِي عَارِية عَنْهَا فِي الْآخِرَة لَا تنفعها إِذا لم تضمها مَعَ الْعَمَل. قَالَ تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) قَوْله: (كاسية) على وزن: فاعلة، من: كسا، وَلَكِن بِمَعْنى مَكْسُورَة، كَمَا فِي قَول الحطيئة.
واقعد فَإنَّك أَنْت الطاعم الكاسي
قَالَ الْفراء: يَعْنِي المكسو. كَقَوْلِك: مَاء دافق، وعيشة راضية. لِأَنَّهُ يُقَال: كسي الْعُرْيَان، وَلَا يُقَال: كسا. قَوْله: (عَارِية) بتَخْفِيف الْيَاء. قَالَ القَاضِي: أَكثر الرِّوَايَات بخفض عَارِية على الْوَصْف. وَقَالَ السُّهيْلي: الْأَحْسَن عِنْد سِيبَوَيْهٍ الْخَفْض على النَّعْت لِأَن: رب، عِنْده حرف جر يلْزم صدر الْكَلَام، وَيجوز الرّفْع كَمَا تَقول: رب رجل عَاقل على إِضْمَار مُبْتَدأ، وَالْجُمْلَة فِي مَوضِع النَّعْت أَي: هِيَ عَارِية، وَالْفِعْل الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ: رب، مَحْذُوف. وَاخْتَارَ الْكسَائي أَن يكون رب أسما مُبْتَدأ، وَالْمَرْفُوع خَبَرهَا. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن للرجل أَن يوقظ أَهله بِاللَّيْلِ للصَّلَاة وَلذكر الله تَعَالَى، لَا سِيمَا عِنْد آيَة تحدث أَو رُؤْيا مخوفة، وَجَوَاز قَول: سُبْحَانَ الله، عِنْد التَّعَجُّب واستحباب ذكر الله بعد الاستيقاظ وَغير ذَلِك.
41 - (بابُ السَّمَر فِي العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السمر فِي الْعلم، هَذِه رِوَايَة أبي ذَر بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى السمر، وَفِي رِوَايَة غَيره بَاب السمر فِي الْعلم بتنوين الْبَاب، وَقطع الْإِضَافَة، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، كَمَا ذكرنَا. والسمر، مُبْتَدأ: وَفِي الْعلم، فِي مَحل الصّفة، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِيهِ السمر بِالْعلمِ أَي: بَيَان السمر بِالْعلمِ، و: السمر، بِفَتْح الْمِيم، هُوَ الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَيُقَال: السمر بِإِسْكَان الْمِيم، وَقَالَ عِيَاض: الأول هُوَ الرِّوَايَة. قَالَ ابْن سراج: الإسكان أولى، وَضَبطه بَعضهم بِهِ، وَأَصله لون الْقَمَر، لأَنهم كَانُوا يتحدثون إِلَيْهِ، وَمِنْه الأسمر لشبهه بذلك اللَّوْن. وَقَالَ غَيره: السمر، بِالْفَتْح: الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَأَصله لَا ُأكَلِّمهُ السمر وَالْقَمَر، أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار. وَفِي (الْعباب) السمر المسامرة أَي: الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَقد سمر يسمر وَهُوَ سامر والسامر أَيْضا السمار وهم الْقَوْم يسمرون، كَمَا يُقَال للحجاج: حَاج كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {سامراً تهجرون} (الْمُؤْمِنُونَ: 67) أَي: سمارا يتحدثون، والسمر اللَّيْل والسمير الَّذِي يسامرك، وابنا سمير: اللَّيْل وَالنَّهَار لِأَنَّهُ يسمر فيهمَا، وَيُقَال: أَفعلهُ مَا سمر ابْنا سمير أَي: أبدا. وَيُقَال: السمر الدَّهْر، وابناه اللَّيْل وَالنَّهَار. وَلَا أَفعلهُ سمير اللَّيَالِي، وسجين اللَّيَالِي، أَي مَا دَامَ النَّاس يسمرون فِي لَيْلَة قَمْرَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ، وَقد كَانَ التحدث بعد الْعشَاء مَنْهِيّا، وَهُوَ السمر. وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ السمر بِالْعلمِ، وَنبهَ بهما على أَن السمر الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يكون من الْخَيْر، وَأما السمر بِالْخَيرِ فَلَيْسَ بمنهي بل مَرْغُوب. فَافْهَم.
116 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ غُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عَبْدُ الرَّحْمن بنُ خالِدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمٍ وَأبي بَكْرِ بن سُلَيْمَانَ بنِ أبي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ قالَ: صلَّى بنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قامَ فَقَالَ: (أرأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فإنَّ رَأْسَ مائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلى ظَهْرِ الأرْض أحَدٌ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث الصَّحَابَة بِهَذَا الحَدِيث بعد صَلَاة الْعشَاء وَهُوَ سمر بِالْعلمِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء، وَقد مر. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر أَبُو خَالِد، وَيُقَال: أَبُو الْوَلِيد الفهمي، مولى اللَّيْث بن سعد أَمِير مصر لهشام بن عبد الْملك. قَالَ ابْن سعد: كَانَت ولَايَته على مصر سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وَقَالَ يحيى بن معِين: كَانَ عِنْده من الزُّهْرِيّ كتاب فِيهِ مِائَتَا حَدِيث أَو ثَلَاثمِائَة، كَانَ اللَّيْث يحدث بهَا عَنهُ، وَكَانَ جده شهد فتح بَيت الْمُقَدّس مَعَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ ثبتا فِي الحَدِيث، توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَقد تقدم. السَّادِس: أَبُو بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، واسْمه عبد الله بن حُذَيْفَة، وَقيل: عدي بن كَعْب بن حُذَيْفَة بن غَانِم بن عبد الله بن عويج(2/175)
بن عدي بن كَعْب القريشي الْعَدوي. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَبُو بكر هَذَا لَيْسَ لَهُ اسْم، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث خَاصَّة مَقْرُونا بسالم كَمَا ترى، وَمُسلم غير مقرون، وَكَانَ من عُلَمَاء قُرَيْش، روى عَن سعيد بن زيد وَأبي هُرَيْرَة أَيْضا، وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَغَيره. أخرجُوا لَهُ خلا ابْن مَاجَه. وَقَالَ ابْن حبَان: ثِقَة، وَلَيْسَ لَهُ حَدِيث عِنْد مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا سواهُ. السَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين، وهم: عبد الرَّحْمَن وَابْن شهَاب وَسَالم وَأَبُو بكر. وَمِنْهَا: أَن أَبَا بكر لَيْسَ لَهُ حَدِيث عِنْد البُخَارِيّ غير هَذَا، وَمَعَ هَذَا روى لَهُ مَقْرُونا بسالم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم وَأبي بكر بن أبي حثْمَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَعَن أبي رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، قَالَ: وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (حَدثنِي اللَّيْث قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (حَدثنِي اللَّيْث حَدثهُ عبد الرَّحْمَن) أَي: أَنه حَدثهُ عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (صلى لنا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) وَفِي رِوَايَة: (صلى بِنَا) وَمعنى اللَّام: صلى إِمَامًا لنا وإلاَّ فَالصَّلَاة لله لَا لَهُم. قَوْله: (الْعشَاء) أَي: صَلَاة الْعشَاء، وَهِي الصَّلَاة الَّتِي وَقتهَا بعد غرُوب الشَّفق، وَهُوَ بِكَسْر الْعين وبالمد، وَالْعشَاء بِالْفَتْح وبالمد: الطَّعَام. قَوْله: (فِي آخر حَيَاته) ، وَجَاء فِي رِوَايَة جَابر أَن ذَلِك كَانَ قبل مَوته، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بِشَهْر. قَوْله: (قَامَ) جَوَاب: لما. قَوْله: (أَرَأَيْتكُم؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وَفتح الرَّاء وبالخطاب للْجمع وَالْكَاف ضمير ثَان وَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، والرؤية بِمَعْنى الإبصار، و (ليلتكم) بِالنّصب مَفْعُوله، وَلَيْسَت الرُّؤْيَة هَهُنَا بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهَا إِذا كَانَت بِمَعْنى الْعلم تَقْتَضِي مفعولين، وَلَيْسَ هَهُنَا إلاَّ مفعول وَاحِد وَهُوَ اللَّيْلَة كَمَا ذكرنَا، و: كم، لَا تصلح أَن تكون مَفْعُولا آخر حَتَّى تكون بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهُ حرف لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب كَمَا ذكرنَا، وَلَو كَانَ اسْما لوَجَبَ أَن يُقَال: أرأيتموكم لِأَن الْخطاب لجَماعَة، فَإِذا كَانَ لجَماعَة يجب أَن يكون بِالتَّاءِ وَالْمِيم كَمَا فِي علمتموكم، رِعَايَة للمطابقة. فَإِن قلت: فَهَذَا يلزمك أَيْضا فِي التَّاء، فَإِن التَّاء اسْم فَيَنْبَغِي أَن يكون: أرأيتموكم. قلت: لما كَانَ الْكَاف وَالْمِيم لمُجَرّد الْخطاب اختصرت عَن التَّاء وَالْمِيم بِالتَّاءِ وَحدهَا للْعلم بِأَنَّهُ جمع، تَقول: كم، وَالْفرق بَين حرف الْخطاب وَاسم الْخطاب أَن الِاسْم يَقع مُسْندًا وَمُسْندًا إِلَيْهِ، والحرف عَلامَة تسْتَعْمل مَعَ اسْتِقْلَال الْكَلَام واستغنائه عَنْهَا بِاعْتِبَار الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فوزانها وزان التَّنْوِين وياء النِّسْبَة، وَأَيْضًا اسْم الْخطاب يدل على عين وَمعنى الْخطاب، وحرفه لَا يدل إلاَّ على الثَّانِي. وَقَالَ بَعضهم: الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم أَو الْبَصَر، وَالْمعْنَى: أعلمتم، أَو أبصرتم ليلتكم؟ قلت: قد بَينا أَنه لَا يَصح أَن تكون من الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم، وَهَذَا تصرف من لَا يَد لَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَيُقَال: أَرَأَيْتكُم كلمة تَقُولهَا الْعَرَب إِذا أَرَادَت الاستخبار، وَهُوَ بِفَتْح التَّاء للمذكر والمؤنث وَالْجمع والمفرد، تَقول: أرأيتَكَ، أرأيتَكِ، وأرأيتَكُما وأرأيتَكُم. وَالْمعْنَى: أخبر وأخبري وأخبراني وأخبروني، فَإِن أردْت معنى الرُّؤْيَة أنثت وجمعت. وَقَالَ بَعضهم: الْجَواب مَحْذُوف تَقْدِيره: قَالُوا نعم، قَالَ: فاضبطوه. قلت: كَأَن هَذَا الْقَائِل أَخذ كَلَامه من الزَّرْكَشِيّ فِي حَوَاشِيه، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه احفظوها، أَو احْفَظُوا تاريخها، فَإِن بعد انْقِضَاء مائَة سنة لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد، انْتهى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الْمَعْنى: أبصرتم ليلتكم هَذِه، وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى جَوَاب لِأَن هَذَا لَيْسَ باستفهام حَقِيقِيّ. قَوْله: (فَإِن رَأس) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَإِن على رَأس مائَة) . فَإِن قلت: مَا اسْم إِن؟ قلت: فِيهِ ضمير الشَّأْن. وَقَوله: (لَا يبْقى) خَبَرهَا. قَوْله: (مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ اللَّيْلَة، وَقد اسْتدلَّ بعض اللغويين بقوله: مِنْهَا، أَن: من، تكون لابتداء الْغَايَة فِي الزَّمَان: كمنذ، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين. وَقَالَ البصريون: لَا تدخل: من إلاَّ على الْمَكَان ومنذ، فِي الزَّمَان نظيرة: من، فِي الْمَكَان، وتأولوا مَا جَاءَ بِخِلَافِهِ، وَاحْتج من نصر قَول الْكُوفِيّين بقوله تَعَالَى: {من أول يَوْم} (التَّوْبَة: 108) وَبقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: (وَلم يجلس عِنْدِي من يَوْم قيل فيَّ مَا قيل) . وَقَول أنس، رَضِي الله عَنهُ: (وَمَا زلت أحب الدُّبَّاء من يَوْمئِذٍ) . وَقَول بعض الصَّحَابَة: (مُطِرْنَا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة) . وَأجَاب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي عَن قَوْله: {من أول يَوْم} (التَّوْبَة: 108) بِأَن(2/176)
التَّقْدِير، من تأسيس أول يَوْم، وَضَعفه بَعضهم بِأَن التأسيس لَيْسَ بمَكَان. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّقْدِير من أول يَوْم من أَيَّام وجوده. قلت: هَذَا جنوح إِلَى مَذْهَب الْكُوفِيّين. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة سنة، سَوَاء قل عمره قبل ذَلِك أم لَا، وَلَيْسَ فِيهِ نفي عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة. وَيُقَال: معنى الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعظهم بقصر أعمارهم بِخِلَاف غَيرهم من سالف الْأُمَم، وَقد احْتج البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. وَمن قَالَ بِهِ أجَاب عَن الحَدِيث بِأَنَّهُ من سَاكِني الْبَحْر فَلَا يدْخل فِي الحَدِيث. وَمن قَالَ: إِن معنى الحَدِيث: لَا يبْقى مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَرْضِ الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقد قَالَ تَعَالَى: {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء: 97) يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض احْتِرَاز عَن الْمَلَائِكَة. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا تَقول فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام؟ قلت: فَهُوَ لَيْسَ على وَجه الأَرْض بل فِي السَّمَاء، أَو هُوَ من النَّوَادِر. فَإِن قلت: فَمَا قَوْلك فِي إِبْلِيس؟ قلت: هُوَ لَيْسَ على ظهر الأَرْض بل فِي الْهَوَاء أَو فِي النَّار، أَو المُرَاد من لفظ من هُوَ الْإِنْس وَالله أعلم. قلت: هَذِه كلهَا تعسفات، وَلَا يرد على هَذَا لَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا بإبليس. فَإِن مُرَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أمته، والقرائن تدل على ذَلِك، مِنْهَا قَوْله: (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟) ، وكل من على وَجه الأَرْض من الْمُسلمين وَالْكفَّار أمته، أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم أمة إِجَابَة، وَأما الْكفَّار فَإِنَّهُم أمة دَعْوَة. وَعِيسَى وَالْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، ليسَا داخلين فِي الْأمة. وَأما الشَّيْطَان فَإِنَّهُ لَيْسَ من بني آدم. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا أَرَادَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذِي هم فِيهِ، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقد أخرج البُخَارِيّ، فِيمَا انْفَرد بِهِ عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يكره النّوم قبل الْعشَاء والْحَدِيث بعْدهَا، فَهَذَا يدل على الْمَنْع مُطلقًا، والْحَدِيث الْمُتَقَدّم يدل على جَوَاز السمر فِي الْعلم وَالْخَيْر، فنخص الْعُمُوم فِيمَا عداهما. وَأما مَا عدا ذَلِك فَذهب الْأَكْثَر إِلَى كَرَاهَته، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس، وَكتب عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن لَا ينَام قبل أَن يُصليهَا فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عينه. وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم، وَقَول مُجَاهِد وَمَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَرخّص طَائِفَة فِيهِ، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه كَانَ رُبمَا غفى قبل الْعشَاء، وَكَانَ ابْن عمر ينَام ويوكل من يوقظه، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَعَن عُرْوَة وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا ينامان نومَة قبل الْعشَاء، وَاحْتج لَهُم بِأَن الْكَرَاهَة إِنَّمَا كرهت لمن خشِي عَلَيْهِ تفويتها، أَو تَفْوِيت الْجَمَاعَة فِيهَا. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف قَول مَالك، فَقَالَ مرّة: الصَّلَاة أحب إِلَيّ من مذاكرة الْفِقْه. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: الْعِنَايَة بِالْعلمِ، إِذا صحت النِّيَّة، أفضل. وَقَالَ سَحْنُون: يلْتَزم أثقلهما عَلَيْهِ.
117 - حدّثنا آدمُ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدثنَا الحَكَمُ قالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحارِثِ زَوْجِ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَها فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلهِ فَصَلَّى أرْبَعَ رَكَعاتٍ، ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قالَ: (نامَ الغُلَيِّمُ؟) أوْ كَلِمَةُ تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَام الغليم) ، قَالَه ابْن الْمُنِير، وَيُقَال: ارتقاب ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، لأحوال النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذْ لَا فرق بَين التَّعَلُّم من القَوْل والتعلم من الْفِعْل، فقد سمر ابْن عَبَّاس ليلته فِي طلب الْعلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الَّذِي فِيهِ من الدّلَالَة على التَّرْجَمَة هُوَ مَا يفهم من جعله على يَمِينه كَأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: قف على يَمِيني. فَقَالَ: وقفت. وَيجْعَل الْفِعْل بِمَنْزِلَة القَوْل، أَو أَن الْغَالِب أَن الْأَقَارِب إِذا اجْتَمعُوا لَا بُد أَن يجْرِي بَينهمَا حَدِيث للمؤانسة، وَحَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كُله فَائِدَة وَعلم، ويعد من مكارمه أَن يدْخل بَيته بعد صَلَاة الْعشَاء بِأَصْحَابِهِ، ويجد ابْن عَبَّاس مبايتا لَهُ وَلَا يكلمهُ أصلا. وَاعْترض بَعضهم على هَذَا كُله، فَقَالَ: كل مَا ذَكرُوهُ معترض، لِأَن من يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، وصنيع ابْن عَبَّاس(2/177)
يُسمى سهرا لَا سمرا إِذْ السمر لَا يكون إِلَّا بتحدث وأبعدها الْأَخير لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، ثمَّ قَالَ: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة مستفادة من لفظ آخر فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه من طَرِيق أُخْرَى، وَهَذَا يصنعه المُصَنّف كثيرا، يُرِيد بِهِ تَنْبِيه النَّاظر فِي كِتَابه على الاعتناء بتتبع طرق الحَدِيث، وَالنَّظَر فِي مواقع أَلْفَاظ الروَاة، لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ هُنَا مَا وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مِمَّا يدل صَرِيحًا على حَقِيقَة السمر بعد الْعشَاء وَهُوَ مَا أخرجه فِي التَّفْسِير وَغَيره من طَرِيق كريب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (بت فِي بَيت مَيْمُونَة، فَتحدث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَهله سَاعَة ثمَّ رقد) فَصحت التَّرْجَمَة بِحَمْد الله تَعَالَى من غير حَاجَة إِلَى تعسف وَلَا رجم بِالظَّنِّ انْتهى. قلت: اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض كُله معترض، أما قَوْله: لِأَن من يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، فَغير صَحِيح، لِأَن حَقِيقَة السمر التحدث بِاللَّيْلِ، وَيُطلق ذَلِك على التحدث بِكَلِمَة، وَقد بَين ذَلِك ابْن الْمُنِير بقوله: إِن أصل السمر ثَبت بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهِي قَوْله: (نَام الغليم) . وَالَّذِي قَالَه صَحِيح، لِأَن أحدا لم يشْتَرط أَن لَا يكون السمر إلاَّ بِكَلِمَات مُتعَدِّدَة، وَأهل اللُّغَة قاطبة لم يَقُولُوا إلاَّ أَن السمر هُوَ التحدث بِاللَّيْلِ، وَهُوَ يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير. وَأما قَوْله: وصنيع ابْن عَبَّاس يُسمى سهرا لَا سمرا، فَنَقُول: إِن السمر كَمَا يُطلق على القَوْل يُطلق على الْفِعْل يُقَال: سمر الْقَوْم الْخمر إِذا شَرِبُوهَا. قَالَ الْقطَامِي:
(ومصرَّعين من الكلال وَإِنَّمَا ... سمروا الغبوق من الطلاء المعرق)
وسامر الْإِبِل مَا رعى مِنْهَا بِاللَّيْلِ، يُقَال: إِن إبلنا تسمر أَي ترعى لَيْلًا. وَأما قَوْله: وأبعدها الْأَخير، فَهُوَ أبعد اعتراضاته، بل هُوَ الْأَقْرَب، لِأَن قَوْله: لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة، وَبَيَان قرب الْأَخير الَّذِي ادّعى أَنه أبعدها أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ وَقت جعله ابْن عَبَّاس عَن يَمِينه فِي مقَام التَّعْلِيم لَهُ، وَلَا شكّ أَنه لم يكتف وقتئذ بِمُجَرَّد الْفِعْل، بل علمه أَيْضا بالْقَوْل لزِيَادَة الْبَيَان، وَلَا سِيمَا كَانَ ابْن عَبَّاس حِينَئِذٍ صَغِيرا وَلم يكن عَالما بموقف الْمُقْتَدِي من الإِمَام. وَأما قَوْله: وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة إِلَى آخِره ... فَكَلَام لَيْسَ لَهُ تَوْجِيه أصلا، فضلا عَن أَن يكون أولى من غَيره، لِأَن من يعْقد بَابا بترجمة وَيَضَع فِيهِ حَدِيثا، وَكَانَ قد وضع هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي بَاب آخر، وَلَكِن بطرِيق أُخْرَى وألفاظ مُتَغَايِرَة، هَل يُقَال مُنَاسبَة التَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب يُسْتَفَاد من ذَلِك الحَدِيث الْمَوْضُوع فِي الْبَاب الآخر؟ فَمَا أبعد هَذَا الْكَلَام وَأبْعد من هَذَا الْبعيد أَنه علل مَا قَالَ بقوله: لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ فسبحان الله، هَؤُلَاءِ مَا فسروا الحَدِيث هَهُنَا، بل ذكرُوا مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بالتقارب، وَمَا ذكره هُوَ الرَّجْم بِالظَّنِّ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. ذكرُوا مَا عدا الحكم بَين عتيبة، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين. وعتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، ابْن النهاس. واسْمه عبد الْكِنْدِيّ، يُقَال: كنيته أَبُو عبد الله، وَقيل: أَبُو عمر الْكُوفِي مولى عدي بن عدي الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: مولى امْرَأَة من كِنْدَة. قَالَ يحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَكَانَ فَقِيه الْكُوفَة مَعَ حَمَّاد. روى عَن ابْن أبي أوفى وَأبي جُحَيْفَة، وَعنهُ شُعْبَة وَغَيره، وَكَانَ عابدا قَانِتًا ثِقَة صَاحب سنة، مَاتَ سنة أَربع عشرَة، وَقيل: خمس عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَالْحكم الْمَذْكُور من التَّابِعين الصغار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن ابْن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُحَمَّد بن قيس الْأَسدي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه عَن كريب وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَأبي جَمْرَة وطاووس وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.(2/178)
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (بت) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من البيتوتة، أَصله: بيتت، بِفَتْح الْبَاء وَالْيَاء فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، فَصَارَ: باتت، فَالتقى ساكنان فحذفت الْألف فَصَارَ: بتت، فأدغمت التَّاء فِي التَّاء، ثمَّ أبدلت كسرة من فَتْحة الْبَاء ليدل على الْيَاء المحذوفة، فَصَارَ: بت على وزن: قلت. وَهَذِه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (مَيْمُونَة) عطف بَيَان من قَوْله: (خَالَتِي) . قَوْله: (بنت الْحَارِث) مجرور لِأَنَّهُ صفة مَيْمُونَة، وَهُوَ مجرور، وَلكنه غير منصرف للعلمية والتأنيث. قَوْله: (زوح النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) مجرور أَيْضا لِأَنَّهُ صفة بعد صفة. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) الْوَاو فِيهِ للْحَال. وَقَوله: (عِنْدهَا) خبر: كَانَ. قَوْله: (فصلى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) الْفَاء، فِيهِ هِيَ الْفَاء الَّتِي تدخل بَين الْمُجْمل والمفصل، لِأَن التَّفْصِيل إِنَّمَا هُوَ عقيب الْإِجْمَال، لِأَن صَلَاة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومجيئه إِلَى منزله كَانَت قبل كَونه عِنْد مَيْمُونَة، وَلم يَكُونَا بعد الْكَوْن عِنْدهَا. قَوْله: (الْعشَاء) بِالنّصب، وَفِيه حذف الْمُضَاف تَقْدِيره: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (فصلى أَربع رَكْعَات) الْفَاء فِيهِ للتعقيب، ثمَّ عطف عَلَيْهِ بقوله: (ثمَّ نَام) بِكَلِمَة: ثمَّ، ليدل على أَن نَومه لم يكن عقيب الصَّلَاة على الْفَوْر. قَوْله: (أَو كلمة) مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي: أَو قَالَ كلمة، فَإِن قلت: مقول القَوْل يجب أَن يكون كلَاما لَا كلمة. قلت: قد تطلق الْكَلِمَة على الْكَلَام مجَازًا نَحْو: كلمة الشَّهَادَة. قَوْله: (فَقُمْت) . عطف على قَوْله: (ثمَّ قَامَ) . قَوْله: (عَن يسَاره) بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا. وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَولهَا يَاء مَكْسُورَة. وَفِي (الْعباب) قَالَ ابْن دُرَيْد: الْيَد الْيَسَار ضد الْيَمين بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا، قَالَ: وَزَعَمُوا أَن الْكسر أفْصح. قَالَ: وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة الْيَسَار بِكَسْر الْيَاء شبهوها بالشمال، إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامهم كلمة مَكْسُورَة الْيَاء إلاَّ: يسَار، وَقَالَ ابْن عباد: الْيَسَار، بِالتَّشْدِيدِ لُغَة فِي الْيَسَار. قَوْله: (حَتَّى سَمِعت) حَتَّى هَهُنَا للغاية تَقْدِيره: إِلَى أَن سَمِعت. قَوْله: (غَطِيطه) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء على وزن: فعيل، هُوَ صَوت يُخرجهُ النَّائِم مَعَ نَفسه عِنْد استثقاله. وَفِي (الْعباب) غطيط النَّائِم والمخنوق: نخيرهما. قلت: هَذَا يرد تَفْسِير بَعضهم الغطيط: نفس النَّائِم، والنخير: أقوى مِنْهُ، فَإِنَّهُ جعل النخير غير الغطيط، وَصَاحب (الْعباب) جعله عينه:
إِذا قَالَت حذام فصدقوها
وَأَيْضًا: فَإِن الغطيط لَا بُد فِيهِ من الصَّوْت، وَمَا فسره بِهِ بَعضهم لَيْسَ فِيهِ صَوت، لِأَن مُجَرّد النَّفس لَا صَوت فِيهِ. قَوْله: (أَو خطيطه) بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ بِمَعْنى الغطيط. وَقَالَ ابْن بطال: لم أَجِدهُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة عِنْد أهل اللُّغَة، وَتَبعهُ القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: هُوَ هُنَا وهم. قلت: الصَّوَاب مَعَ الدَّاودِيّ، فَإِن صَاحب (الْعباب) قَالَ: وَخط فِي نَومه خطيطا أَي: غط. وَفِي حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِنَّه أوتر بِسبع أَو تسع ثمَّ اضْطجع حَتَّى سمع خطيطه) . ويروى: (غَطِيطه) ، ويروى: (فخيخه) ، ويروى: (ضفيزه) ، ويروى: (صفيره) . وَمعنى الْخَمْسَة وَاحِد وَهُوَ: نخير النَّائِم. قلت: الضفيز، بالضاد وَالزَّاي المعجمتين وبالفاء والصفير: بالصَّاد وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، والفخيخ، بِالْفَاءِ والخاءين المعجمتين.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فِي لَيْلَتهَا) أَي: المختصة بهَا بِحَسب قسم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَين الْأزْوَاج. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ) أَي من الْمَسْجِد إِلَى منزله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المُرَاد بِهِ: بَيت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، أم الْمُؤمنِينَ، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة سِتّ أَو سبع من الْهِجْرَة، وَتوفيت سنة إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسرف، فِي الْمَكَان الَّذِي تزَوجهَا فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالفاء. وَصلى عَلَيْهَا عبد الله بن عَبَّاس قيل: إِنَّهَا آخر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ لم يتَزَوَّج بعْدهَا. وَهِي أُخْت لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى، بنت الْحَارِث زَوْجَة الْعَبَّاس وَأم أَوْلَاده عبد الله وَالْفضل وَغَيرهمَا، وَهِي أول امْرَأَة أسلمت بعد خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يزورها، وَهِي لبَابَة الْكُبْرَى وَأُخْتهَا لبَابَة الصُّغْرَى أم خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (نَام الغليم) يتَحَمَّل الْإِخْبَار لميمونة، وَيحْتَمل الِاسْتِفْهَام عَن مَيْمُونَة، وَحذف الْهمزَة بِقَرِينَة الْمقَام، وَهَذَا أظهر. و (الغليم) بِضَم الْغَيْن وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء، تَصْغِير غُلَام، من بَاب تَصْغِير الشَّفَقَة، نَحْو: يَا بني، وَأَرَادَ بِهِ عبد الله بن عَبَّاس، وَرُوِيَ: يَا أم الغليم، بالنداء وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، وَلم تثبت بِالثَّانِي الرِّوَايَة. قَوْله: (أَو كلمة) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ من ابْن عَبَّاس. قلت: لَا يلْزم التَّعْيِين لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من أحد مِمَّن دونه، أَي أَو قَالَ كلمة تشبه قَوْله: نَام الغليم، وَالثَّانيَِة بِاعْتِبَار الْكَلِمَة أَو بِاعْتِبَار كَونهَا جملَة، وَفِي رِوَايَة: (نَام الْغُلَام) . قَوْله: (فصلى أَربع رَكْعَات) ، الْجُمْلَة فِي هَذِه الطَّرِيق أَنه صلى إِحْدَى عشرَة رَكْعَة(2/179)
أَرْبعا ثمَّ خمْسا ثمَّ رَكْعَتَيْنِ، وَجَاء فِي مَوضِع من البُخَارِيّ: (فَكَانَت صلَاته ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَجَاء فِي بَاب قِرَاءَة الْقُرْآن أَنَّهَا كَانَت ثَلَاث عشرَة رَكْعَة غير رَكْعَتي الْفجْر، فَإِن فِيهِ: (فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أوتر. ثمَّ اضْطجع حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى الصُّبْح) . وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر فِي الرِّوَايَات، وَيجمع بَينهمَا بِأَن من روى إِحْدَى عشرَة أسقط الْأَوليين وركعتي الْفجْر، وَمن أثبت الْأَوليين عدهَا ثَلَاث عشرَة. وَقد وَقع هَذَا الِاخْتِلَاف فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث وَاصل وَغَيره. وَأجَاب القَاضِي فِي الْجمع بِمثلِهِ، وَقد استدرك الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث وَاصل على مُسلم لِكَثْرَة اختلافه. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَكثر الرِّوَايَات أَنه لم يصل قبل النّوم وَأَنه صلى بعده ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، فَيحْتَمل أَن نوم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ وقوعا، فَذكر ذَلِك بعض من سَمعه. قلت: الْمَشْهُور أَنَّهَا كَانَت وَاقعَة وَاحِدَة. قَوْله: (ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الْفَصْل بَينه وَبَين الْخمس ولِمَ مَا جمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: فصلى سبع رَكْعَات؟ قلت: إِمَّا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْخمس بِسَلام والركعتين بِسَلام، وَأَن الْخمس باقتداء ابْن عَبَّاس بِهِ، والركعتين بعد اقتدائه. وَقَالَ بَعضهم: أغرب الْكرْمَانِي فِي هَذَا وَكَأَنَّهُ ظن أَن الرَّكْعَتَيْنِ من جملَة صَلَاة اللَّيْل وَهُوَ مُحْتَمل، لَكِن حملهَا على سنة الْفجْر أولى ليحصل الْخَتْم بالوتر. قلت: قطّ مَا ظن هُوَ أَن الرَّكْعَتَيْنِ من صَلَاة اللَّيْل. غَايَة مَا فِي الْبَاب وَقع السُّؤَال عَن تَفْصِيل ابْن عَبَّاس فِي أخباره حَيْثُ لم يجمل، وَجَوَابه عَن وَجه ذَلِك. وَلَئِن سلمنَا أَنه ظن أَن الرَّكْعَتَيْنِ من صَلَاة اللَّيْل فَفِيهِ أَيْضا الْخَتْم بالوتر حَاصِل. قَوْله: (ثمَّ خرج إِلَى الصَّلَاة) هَذَا من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ نَومه مضجعا لَا ينْقض الْوضُوء لِأَن عَيْنَيْهِ تنامان وَلَا ينَام قلبه، فَلَو خرج حدث لأحس بِهِ، بِخِلَاف غَيره من النَّاس. وَفِي بعض الرِّوَايَات فِي الصَّحِيح: (ثمَّ اضْطجع فَنَامَ حَتَّى نفخ فَخرج فصلى الصُّبْح وَلم يتَوَضَّأ) . قَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون فِيهِ مَحْذُوف أَي: ثمَّ تَوَضَّأ، ثمَّ خرج قلت: قَوْله فِي الصَّحِيح: وَلم يتَوَضَّأ يرد هَذَا الِاحْتِمَال.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ من فضل ابْن عَبَّاس وحذقه على صغر سنه حَيْثُ أرصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طول ليلته. وَقيل: إِن الْعَبَّاس أوصاه بمراعاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليطلع على عمله بِاللَّيْلِ. الثَّانِي: قَالَ محيي السّنة: فِيهِ جَوَاز الْجَمَاعَة فِي النَّافِلَة. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة خلف من لم ينْو الْإِمَامَة. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز بيتوتة الْأَطْفَال عِنْد الْمَحَارِم، وَإِن كَانَت عِنْد زَوجهَا. السَّادِس: فِيهِ الْإِشْعَار بقسمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين زَوْجَاته. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز التصغير على وَجه الشَّفَقَة، وَالذكر بِالصّفةِ حَيْثُ لم يقل: نَام عبد الله. الثَّامِن: فِيهِ أَن موقف الْمَأْمُوم الْوَاحِد عَن يَمِين الإِمَام، فَإِذا وقف عَن يسَاره يحوله إِلَى يَمِينه. التَّاسِع: فِيهِ أَن صَلَاة الصَّبِي صَحِيحَة. الْعَاشِر: فِيهِ أَن صَلَاة اللَّيْل إِحْدَى عشرَة رَكْعَة. قَالَ الْكرْمَانِي: قلت: يَنْبَغِي أَن يكون تسع رَكْعَات، فَإِن الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ سنة الصُّبْح، والست مِنْهَا نَافِلَة، وختمها بالوتر ثَلَاث رَكْعَات. الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز نوم الرجل مَعَ امْرَأَته من غير مواقعة بِحَضْرَة بعض محارمها وَإِن كَانَ مُمَيّزا، وَجَاء فِي بعض الرِّوَايَات: إِنَّهَا كَانَت حَائِضًا وَلم يكن ابْن عَبَّاس ليطلب الْمبيت فِي لَيْلَة فِيهَا حَاجَة، إِلَى أَهله، وَلَا يُرْسِلهُ أَبوهُ الْعَبَّاس. الثَّانِي عشر: فِيهِ أَن نَومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجعا غير نَاقض للْوُضُوء، لِأَن قلبه لَا ينَام بِخِلَاف عَيْنَيْهِ، وَكَذَا سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء. وَأما نَومه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْوَادي إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَلَا يُنَافِي هَذَا، لِأَن الْفجْر وَالشَّمْس إِنَّمَا يدركان بِالْعينِ لَا بِالْقَلْبِ. وَأبْعد من قَالَ إِنَّه كَانَ فِي وَقت ينَام قلبه فصادف ذَلِك. الثَّالِث عشر: فِيهِ جَوَاز الرِّوَايَة عِنْد الشَّك فِي كلمة بِشَرْط التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
42 - (بابُ حِفْظِ العِلْمِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حفظ الْعلم.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن من يسمر بِالْعلمِ فَمَا يسمر لأجل الْحِفْظ غَالِبا، وَذكر هَذَا الْبَاب عقيب ذَلِك مُنَاسِب.
118 - حدّثنا عَبْدُ العَزِيز بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حدّثني مَالِكٌ عَن ابنِ شِهَابٍ عَن الأَعْرَج(2/180)
ِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ، ولوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثا، ثُمَّ يَتْلُو: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى إلَى قَوْلهِ الرَّحْيمُ} (الْبَقَرَة: 159 و 174) إنَّ إخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرينَ كانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بالأَسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أمْوَالِهِمْ وإنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كانَ يَلْزِمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ ويَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويحفظ مَا لَا يحفظون) . وَقَوله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) لِأَن الْإِكْثَار لَا يكون إلاَّ عَن حفظ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، والأعرج: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَقَالُوا: يجوز ذكر الرَّاوِي بلقبه أَو صفته الَّتِي يكرهها إِذا كَانَ المُرَاد تَعْرِيفه لَا نَقصه، كَمَا يجوز جرحهم للْحَاجة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِبْرَاهِيم، وَفِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة وَأبي بكر وَزُهَيْر عَن سُفْيَان، وَعَن عبد الله بن جَعْفَر عَن يحيى عَن مَالك، وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، كلهم عَن الزُّهْرِيّ وَله طرق من غير رِوَايَة الْأَعْرَج. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْحَاق بن عِيسَى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أبي مَرْوَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ مُخْتَصرا.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن النَّاس) مقول: قَالَ. وَقَوله: (يَقُولُونَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع خبر: إِن، قَوْله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول يَقُولُونَ. قَوْله: (وَلَوْلَا آيتان) مقول. قَالَ، لَا مقول: يَقُولُونَ. وَحذف اللَّام من جَوَاب لَوْلَا وَهُوَ جَائِز، وَالْأَصْل: لَوْلَا آيتان موجودتان فِي كتاب الله لما حدثت. قَوْله: (حَدِيثا) نصب على المفعولية. قَوْله: (ثمَّ يَتْلُو) مقول: الْأَعْرَج، وَفِي بعض النّسخ: (ثمَّ تَلا) . قَوْله: (إِن إِخْوَاننَا) اسْتِئْنَاف كالتعليل للإكثار، كأنّ سَائِلًا سَأَلَ: لم كَانَ أَبُو هُرَيْرَة مكثرا دون غَيره من الصَّحَابَة؟ فَأجَاب بقوله: (لِأَن إِخْوَاننَا) كَذَا وَكَذَا، فلأجل ذَلِك ترك العاطف بَين الجملتين. قَوْله: (من الْمُهَاجِرين) كلمة: من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (كَانَ يشغلهم الصفق) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. وَقَوله: (يشغلهم) من بَاب: شغل يشغل كفتح يفتح بِفَتْح، عين الْفِعْل فيهمَا من الشّغل، وَيُقَال بِضَم حرف المضارعة من الإشغال، وَهُوَ غَرِيب. وَفِي (الْعباب) يُقَال شغلته أشغله. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: لَا يُقَال أشغلته. وَقَالَ ابْن فَارس: لَا يكادون يَقُولُونَ: أشغلت، وَهُوَ جَائِز. وَقَالَ اللَّيْث: اشتغلت أَنا، وَالْفِعْل اللَّازِم: اشْتغل. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَابْن دُرَيْد: لَا يُقَال: اشْتغل. وَقَالَ ابْن فَارس فِي (المقاييس) : جَاءَ عَنْهُم: اشْتغل فلَان بالشَّيْء وَهُوَ مشتغل. وَقَوله: (الصفق) بِالرَّفْع فَاعل: يشغل، وَهُوَ بِفَتْح الصَّاد كِنَايَة عَن التبايع. يُقَال: صفقت لَهُ بِالْبيعِ صفقا، أَي: ضربت يَدي على يَده للْعقد. قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال: أصفق الْقَوْم على الْأَمر، وصفقوا بِالْبيعِ والبيعة. وَقَالَ غَيره: أَصله من تصفيق الْأَيْدِي بَعْضهَا على بعض من المتابعين، أَي: عاقدي الْبيعَة عِنْد عقدهم، والسوق يؤنث وَيذكر، سميت بِهِ لقِيَام النَّاس فِيهَا على سوقهم. قَوْله: (بشبع بَطْنه) بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لشبع بَطْنه) بِاللَّامِ، وَهُوَ الثَّابِت فِي غير البُخَارِيّ أَيْضا، وَكِلَاهُمَا للتَّعْلِيل، أَي: لأجل شبع بَطْنه، وَرُوِيَ: ليشبع بَطْنه، بلام كي، ويشبع، يصيغة الْمُضَارع الْمَنْصُوب، والشبع، بِكَسْر الشين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. وَفِي (الْعباب) : الشِّبَع مِثَال عِنَب، والشبع بِالْفَتْح، وَهَذِه عَن ابْن عباد، نقيض الْجُوع. يُقَال: شبعت خبْزًا وَلَحْمًا، وَمن خبز وَلحم شبعاً، وَهُوَ من مصَادر الطبائع. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الشِّبَع والشبع بِإِسْكَان الْبَاء وتحريكها. وَقَالَ غَيره: الشِّبَع بالإسكان اسْم مَا أشبعك من شَيْء. وَفِي الحَدِيث: (آجر مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه من شُعَيْب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبع بَطْنه وعفة فرجه) . قَوْله: (مَا لَا يحْضرُون) ، فِي مَحل النصب على أَنه مفعول: (يحضر) وَكَذَلِكَ قَوْله (مَا لَا يحفظون) مفعول (يحفظ) .(2/181)
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) أَي من رِوَايَة الحَدِيث. وَهُوَ من بَاب حِكَايَة كَلَام النَّاس أَو وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر، إِذْ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: أكثرت، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة من الحَدِيث) . وَفِي رِوَايَته وَفِي الْمُزَارعَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ هُنَا، زِيَادَة وَهِي: (وَيَقُولُونَ مَا للمهاجرين وَالْأَنْصَار لَا يحدثُونَ مثل أَحَادِيثه؟) وَهَذِه الزِّيَادَة تدلك على النُّكْتَة فِي ذكر أبي هُرَيْرَة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (لَوْلَا آيتان) المُرَاد من الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين يكتمون} (الْبَقَرَة: 159 و 174) إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ، وَالْمعْنَى: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذمّ الكاتمين للْعلم لما حدثتكم أصلا، لَكِن لما كَانَ الكتمان حَرَامًا وَجب الْإِظْهَار والتبليغ، فَلهَذَا حصل مني الْإِكْثَار لِكَثْرَة مَا عِنْدِي مِنْهُ. ثمَّ ذكر سَبَب الْكَثْرَة بقوله: (إِن إِخْوَاننَا) إِلَى آخِره. قَوْله: (ثمَّ يَتْلُو) أَي: قَالَ الْأَعْرَج: ثمَّ يَتْلُو أَبُو هُرَيْرَة، وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة التِّلَاوَة كَأَنَّهُ فِيهَا. قَوْله: (إِن إِخْوَاننَا) : الإخوان جمع أَخ، هَذَا يدل على أَن أصل أَخ: أَخُو، بِالتَّحْرِيكِ، وَيجمع أَيْضا على: آخاء، مثل: آبَاء. والذاهب مِنْهُ وَاو. وعَلى: إخْوَة بِالضَّمِّ عَن الْفراء، وَفِيه سؤالان: الأول: كَانَ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: إِن إخوانه، ليرْجع الضَّمِير إِلَى أبي هُرَيْرَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ عدل عَنهُ لغَرَض الِالْتِفَات، وَهُوَ فن من محَاسِن الْكَلَام. الثَّانِي: قَالَ: إِخْوَاننَا، وَلم يقل: إخْوَانِي. وَأجِيب: لِأَنَّهُ قصد نَفسه وَأَمْثَاله من أهل الصّفة، وَالْمرَاد الإخوان فِي الْإِسْلَام لَا فِي النّسَب، وَالْمرَاد من: (الْمُهَاجِرين) ، الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن (الْأَنْصَار) أَصْحَاب الْمَدِينَة الَّذين آووا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونصروه بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ. قَوْله: (الْعَمَل فِي أَمْوَالهم) يُرِيد بِهِ: الزِّرَاعَة وَالْعَمَل فِي الْغِيطَان. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يشغلهم عمل أَرضهم) . وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: (كَانَ يشغلهم الْقيام على أراضيهم) . قَوْله: (وَإِن أَبَا هُرَيْرَة) فِيهِ الْتِفَات أَيْضا، لِأَن حق الظَّاهِر أَن يَقُول: وَإِنِّي. قَوْله: (بشبع بَطْنه) يَعْنِي أَنه كَانَ يلازم قانعا بالقوت لَا مشتغلاً بِالتِّجَارَة وَلَا بالزارعة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع: (كنت امْرأ مِسْكينا من مَسَاكِين الصّفة) . قَوْله: (ويحضر) بِالرَّفْع عطفا على قَوْله: (يلْزم) ، وَيجوز بِالنّصب أَيْضا على رِوَايَة من روى: ليشبع بَطْنه، بلام كي، و: يشْبع، بِصُورَة الْمُضَارع إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة. قَوْله: (مَا لَا يحْضرُون) أَي: من أَحْوَال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و (يحفظ مَا لَا يحفظون) من أَقْوَاله، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى المسموعات وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى المشاهدات. لَا يُقَال: هَذَا الحَدِيث يُعَارضهُ مَا تقدم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب) ، لأَنا نقُول: إِن عبد الله كَانَ أَكثر تحملاً، وَأَبُو هُرَيْرَة كَانَ أَكثر رِوَايَة. فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْأَكْثَر تحملاً وَهُوَ دَاخل تَحت عُمُوم الْمُهَاجِرين؟ قلت: هُوَ أَكثر من جِهَة ضَبطه بِالْكِتَابَةِ وتقييده بهَا، وَأَبُو هُرَيْرَة أَكثر من جِهَة مُطلق السماع.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: حفظ الْعلم والمواظبة على طلبه. وَفِيه: فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة وَفضل التقلل من الدُّنْيَا وإيثار طلب الْعلم على طلب المَال. وَفِيه: جَوَاز الْإِخْبَار عَن نَفسه بفضيلته إِذا اضْطر إِلَى ذَلِك وَأمن الْإِعْجَاب. وَفِيه: جَوَاز إكثار الْأَحَادِيث وَجَوَاز التِّجَارَة وَالْعَمَل وَجَوَاز الِاقْتِصَار على الشِّبَع، وَقد تكون مندوبات، وَقد تكون وَاجِبَات بِحَسب الْأَشْخَاص والأوقات.
119 - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ أبُو مُصْعَبٍ قالَ: حدّثنا مَحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ دِينَارٍ عَنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إنِّي أسْمعُ مِنْكَ حَدِيثا كَثِيرا أنُسَاهُ، قالَ: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ) فَبَسَطْتُهُ، قالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قالَ: (ضمَّهُ) ، فَضَممْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئا بَعْدَهُ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الِالْتِزَام، والْحَدِيث الْمَاضِي بطرِيق الْمُطَابقَة، وَأَحَادِيث الْبَاب ثَلَاثَة كلهَا عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث الثَّالِث يدل على أَنه لم يحدث بِجَمِيعِ محفوظه. ودلالته على التَّرْجَمَة بالمطابقة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَحْمد بن أبي بكر، وَاسم أبي بكر: الْقَاسِم، وَقيل: زُرَارَة بن الْحَارِث بن زُرَارَة بن مُصعب بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَبُو مُصعب الزُّهْرِيّ الْعَوْفِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة وعالمها، وَهُوَ أحد من حمل (الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، روى عَنهُ السِّتَّة، لَكِن النَّسَائِيّ بِوَاسِطَة. وَأخرج لَهُ مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) فَقَط، قَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: صَدُوق، مَاتَ سنة(2/182)
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. الثَّانِي: مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن دِينَار الْمدنِي، وَيُقَال: الْأنْصَارِيّ، كَانَ مفتي أهل الْمَدِينَة مَعَ مَالك وَعبد الْعَزِيز بن يزِيد بن سَلمَة، فَقِيها فَاضلا لَهُ بِالْعلمِ عناية. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مَعْرُوف بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة، الْقرشِي العامري الْمدنِي الثِّقَة. كَبِير الشان. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ ابْن أبي ذِئْب أفضل من مَالك إِلَّا أَن مَالِكًا كَانَ أَشد تنقية للرِّجَال مِنْهُ، وأقدمه الْمهْدي بَغْدَاد حَتَّى حدث بهَا، ثمَّ رَجَعَ يُرِيد الْمَدِينَة فَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة تسع وَخمسين وَمِائَة. ولد سنة ثَمَانِينَ. الرَّابِع: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري الْمدنِي. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِي التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن ابْن أبي فديك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عُثْمَان بن عمر، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، قد رُوِيَ من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (قلت: يَا رَسُول الله) ويروى: (قلت: لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (كثيرا) صفة لقَوْله: حَدِيثا، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار كَونه اسْم جنس يُطلق على الْكثير والقليل. قَوْله: (انساه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة أُخْرَى لقَوْله: (حَدِيثا) ، وَالنِّسْيَان جهل بعد الْعلم.
وَالْفرق بَينه وَبَين السَّهْو أَن النسْيَان زَوَال عَن الحافظة والمدركة، والسهو زَوَال عَن الحافظة فَقَط. وَالْفرق بَين السَّهْو وَالْخَطَأ أَن السَّهْو مَا يتَنَبَّه صَاحبه بِأَدْنَى تَنْبِيه، وَالْخَطَأ مَا لَا يتَنَبَّه بِهِ. وَيُقَال المأتي بِهِ إِن كَانَ على جِهَة مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا يَنْبَغِي ينظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ فَإِن كَانَ يتَنَبَّه بأيسر تَنْبِيه فَهُوَ السَّهْو، وإلاَّ فَهُوَ الْخَطَأ. وَالنِّسْيَان حَالَة تعتري الْإِنْسَان من غير اخْتِيَاره توجب غفلته عَن الْحِفْظ. والغفلة ترك الِالْتِفَات بِسَبَب أَمر عَارض.
قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة: (ابْسُطْ رداءك) . قَوْله: (فبسطته) عطف على: (ابْسُطْ) . وَعطف الْخَبَر على الْإِنْشَاء فِيهِ خلاف، وَالَّذِي يمنعهُ يقدر شَيْئا، وَالتَّقْدِير: لما قَالَ: ابْسُطْ رداءك امتثلت أمره فبسطته. (فغرف) أَي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِيَدِهِ) ، وَلم يذكر المغروف وَلَا المغروف مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يكن إِلَّا إِشَارَة مَحْضَة. قَوْله: (ضمه) بِالْهَاءِ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ضم، بِلَا هَاء. وَالضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث يدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي غير الصَّحِيح: (فغرف بيدَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ضم) الحَدِيث، وَفِي بعض طرقه عِنْد البُخَارِيّ: (لن يبسط أحد مِنْكُم ثَوْبه حَتَّى أَقْْضِي مَقَالَتي هَذِه، ثمَّ يجمعها إِلَى صَدره فينسى من مَقَالَتي شَيْئا أبدا. فبسطت نمرة لَيْسَ عَليّ ثوب غَيرهَا حَتَّى قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَته، ثمَّ جمعتها إِلَى صَدْرِي، فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيب من مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي هَذَا) . وَفِي مُسلم: (أَيّكُم يبسط ثَوْبه فَيَأْخُذ) فَذكره بِمَعْنَاهُ، ثمَّ قَالَ: (فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم شَيْئا حَدثنِي بِهِ) . فَفِي قَوْله: بعد ذَلِك الْيَوْم دَلِيل على الْعُمُوم، وعَلى أَنه بعد ذَلِك لم ينس شَيْئا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أَن ذَلِك خَاص بِتِلْكَ الْمقَالة، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهر قَوْله: (من مقَالَته تِلْكَ) ، ويعضد الْعُمُوم مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (إِنَّه شكى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ينسى) . فَفعل مَا فعل ليزول عَنهُ النسْيَان. قلت: تنكير: شَيْئا، بعد النَّفْي يدل على الْعُمُوم، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تدل عَلَيْهِ، فَدلَّ على الْعُمُوم فِي عدم النسْيَان لكل شَيْء من الحَدِيث وَغَيره. فَإِن قلت: قَوْله: (فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيت من مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي هَذَا) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان بِتِلْكَ الْمقَالة فَقَط. وَقَوله: (فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم شَيْئا حَدثنِي بِهِ) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان بِالْحَدِيثِ فَقَط. قلت: الْجَواب يفهم مِمَّا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَكَيف لَا وَأَبُو هُرَيْرَة اسْتدلَّ بذلك على كَثْرَة محفوظه من الحَدِيث، فَلَا يَصح حمله على تِلْكَ الْمقَالة وَحدهَا، أَو نقُول: وَيحْتَمل أَن يكون قد وَقعت لَهُ قضيتان: إِحْدَاهمَا خَاصَّة. وَالْأُخْرَى: عَامَّة. فَإِن قلت: مَا هَذِه الْمقَالة؟ قلت: هِيَ مُبْهمَة فِي جَمِيع طرق الحَدِيث من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، غير أَنه صرح بهَا فِي طَرِيق أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجهَا أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من رجل يسمع كلمة أَو كَلِمَتَيْنِ مِمَّا فرض الله تَعَالَى فيتعلمهن ويعلمهن إلاَّ دخل الْجنَّة) . وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَقَوله: (وضمه) فِيهِ ثَلَاث لُغَات فِي الْمِيم: الْفَتْح وَالْكَسْر وَالضَّم، وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز إلاَّ الضَّم لأجل الْهَاء المضمومة بعده، وَاخْتَارَهُ الْفَارِسِي، وَجوزهُ صَاحب (الفصيح)(2/183)
وَغَيره: قلت: مثل هَذِه الْكَلِمَة يجوز فِيهِ أَرْبَعَة أوجه من حَيْثُ قَوَاعِد الصرفيين: الأول: ضم الْمِيم تبعا للضاد. وَالثَّانِي: فتحهَا لِأَن الفتحة أخف الحركات. وَالثَّالِث: كسرهَا لِأَن السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ. وَالرَّابِع: فك الْإِدْغَام، أَعنِي: أضمم. وَقَالَ بَعضهم: وَيجوز ضمهَا. وَقيل: يتَعَيَّن لأجل ضمة الْهَاء. قلت: دَعْوَى التَّعْيِين غير صَحِيحَة، وَلَا كَون الضمة لأجل الْهَاء، وَإِنَّمَا هُوَ لأجل ضمة الضَّاد، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ: وَيجوز كسرهَا لَكِن مَعَ إسكان الْهَاء. قلت: إِن أَرَادَ بالإسكان فِي حَالَة الْوَقْف فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا فَمَمْنُوع، فَافْهَم، فَإِن مثل هَذَا لَا يحققه إلاَّ من أمعن فِي النّظر فِي الْعُلُوم الآلية. قَوْله: (بعد) بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ قطع من الْإِضَافَة فيبنى على الضَّم، وَفِي بعض النّسخ: (بعده) ، أَي بعد هَذَا الضَّم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: معْجزَة النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، حَيْثُ رفع من أبي هُرَيْرَة النسْيَان الَّذِي هُوَ من لَوَازِم الْإِنْسَان حَتَّى قيل: إِنَّه مُشْتَقّ مِنْهُ، وَحُصُول هَذَا من بسط الرِّدَاء وضمه أَيْضا معْجزَة، حَيْثُ جعل الْحِفْظ كالشيء الَّذِي يغْرف مِنْهُ، فَأخذ غرفَة مِنْهُ ورماها فِي رِدَائه، وَمثل بذلك فِي عَالم الْحس.
حدّثنا إبراهيمُ بنُ المُنْذِرِ قالَ: حدّثنا ابنُ أبي فُدَيْكٍ بِهَذَا، أَو قالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيه.
سَاق البُخَارِيّ الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، فَقَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله! إِنِّي سَمِعت مِنْك حَدِيثا كثيرا فأنساه. قَالَ: ابْسُطْ رداءك، فبسطت، فغرف بِيَدِهِ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: ضمه، فضممته فَمَا نسيت حَدِيثا بعد) .
وَالِاخْتِلَاف بَين الْحَدِيثين فِي بعض الْأَلْفَاظ. فَفِي الأول: (إِنِّي أسمع مِنْك) ، وَفِي هَذَا: (سَمِعت مِنْك) . وَهُنَاكَ: (انساه) ، وَهَهُنَا: (فأنساه) ، بِالْفَاءِ. وَهُنَاكَ: (فبسطته) ، وَهنا: (فبسطت) بِدُونِ ضمير الْمَفْعُول. وَهُنَاكَ: (فغرف بيدَيْهِ) ، وَهَهُنَا: (بِيَدِهِ) ، وَهُنَاكَ: (فَمَا نسيت شَيْئا) ، وَهنا: (فَمَا نسيت حَدِيثا) . وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي حَدِيث الْبَاب: (فغرف) وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: يحذف. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) فِي بَاب حفظ الْعلم، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي قَوْله: (ابْسُطْ رداءك) قَول ابْن أبي فديك. وَقَالَ: يحذف فِيهِ، أَي: كَأَنَّهُ يَرْمِي بِيَدِهِ فِي رِدَاء أبي هُرَيْرَة شَيْئا لما كَانَ قبل ذَلِك، فغرف بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: ضمه. انْتهى كَلَامه. وَادّعى بَعضهم أَن هَذَا تَصْحِيف، وَلم يُقِم عَلَيْهِ برهانا، غير أَنه قَالَ: لما وضح من سِيَاقه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، وَقد رَوَاهُ ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) عَن ابْن أبي فديك، فَقَالَ: فغرف، وَهَذَا لَيْسَ يقوم بِهِ دَلِيل على مَا لَا يخفى، وَلَو كَانَ تصحيفا لنبه عَلَيْهِ صَاحب (الْمطَالع)
وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر مر فِي أول كتاب الْعلم، وَابْن أبي فديك هُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك الْمدنِي، وَأَبُو فديك، بِضَم الْفَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة اسْمه: دِينَار، مَاتَ سنة مِائَتَيْنِ.
قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث. قَوْله: (قَالَ) أَي ابْن أبي فديك يحذف بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، من الْحَذف بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة وبالفاء. وَفِي (الْعباب) فِي فصل الْحَاء الْمُهْملَة: حذفته بالعصا أَي: رميته. وَهُوَ بَين كل حاذف وقاذف: فالحاذف بالعصا، والقاذف بِالْحجرِ. وَقَالَ اللَّيْث: الْحَذف الرَّمْي عَن جَانب وَالضَّرْب عَن جَانب. وَقَالَ فِي فصل الْخَاء الْمُعْجَمَة. الْخذف، رميك بحصاة أَو نواة أَو نَحْوهمَا تَأْخُذهُ بَين سبابتيك تخذف بِهِ. قلت: وَمن هَذَا قَالَ بَعضهم: الْحَذف، بِالْمُهْمَلَةِ بالعصا، والخذف بِالْمُعْجَمَةِ بالحصى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد وجد فِي بعض النّسخ هَهُنَا: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر ... الخ، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر أَن ابْن أبي فديك يرويهِ أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب، فيتفق مَعَه إِلَى آخر الْإِسْنَاد الأول مَعَ احْتِمَال رِوَايَته عَن غَيره. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، وَلَو اطلع على مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة لما تردد هَهُنَا، ولجزم بِرِوَايَة ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب.
120 - حدّثنا إسْماعيلُ قالَ: حدّثني أخِي عَن ابنِ أبي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: حَفظْتُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءَيْنِ، فَأمَّا أحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وأمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد(2/184)
بن أبي أويس الأصبحي الْمدنِي الْقرشِي، أَبُو بكر الْأَعْمَش. مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَقد مر عَن قريب.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون، وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن الْجَمَاعَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (وعاءين) تَثْنِيَة وعَاء، بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ الظّرْف الَّذِي يحفظ فِيهِ الشَّيْء، وَيجمع على: أوعية، وَيُؤْخَذ مِنْهُ الْفِعْل. يُقَال: أوعيت الزَّاد وَالْمَتَاع إِذا جعلته فِي الْوِعَاء، قَالَ عبيد بن الأبرص:
(الْخَيْر يبْقى وَلَو طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد)
قَوْله: (فبثثته) أَي: نشرته، يُقَال: بَث الْخَيْر: وأبثه بِمَعْنى. قَالَ ذُو الرمة:
(غيلَان وأسقيه حَتَّى كَاد مِمَّا أبثه)
وبثثت الْغُبَار: إِذا هيجته، وبثثت الْخَبَر: شدد للْمُبَالَغَة، وبثثت الْخَبَر: كشفته ونشرته، والتركيب يدل على تَفْرِيق الشَّيْء وإظهاره.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (حفظت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهِي أصرح لتلقيه من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِلَا وَاسِطَة. قَوْله: (وعاءين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: حفظت. قَوْله: (فَأَما أَحدهمَا) كلمة: أما، هِيَ التفصيلية وَقَوله (فبثثته) جَوَاب: أما، وَإِنَّمَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء لتضمنها معنى الشَّرْط. وَقَوله: (وَأما الآخر) . أَي: وَأما الْوِعَاء الآخر، وَجَوَابه قَوْله: (فَلَو بثثته) ، وَقَوله: (لقطع هَذَا البلعوم) جَوَاب: لَو، ويروى قطع بِدُونِ اللَّام، و: (البلعوم) مَرْفُوع بِإِسْنَاد قطع، إِلَيْهِ وَهُوَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.
بَيَان الْمَعْنى: فِيهِ ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال، وَهُوَ ذكر الْوِعَاء، وَإِرَادَة مَا يحل فِيهِ. وَالْحَاصِل أَنه أَرَادَ بِهِ نَوْعَيْنِ من الْعلم، وَأَرَادَ بِالْأولِ: الَّذِي حفظه من السّنَن المذاعة لَو كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء. وَبِالثَّانِي: مَا كتمه من أَخْبَار الْفِتَن، كَذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد من الْوِعَاء الثَّانِي أَحَادِيث أَشْرَاط السَّاعَة، وَمَا عرف بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فَسَاد الدّين على أَيدي أغيلمة سُفَهَاء من قُرَيْش، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: لَو شِئْت أَن أسميهم بِأَسْمَائِهِمْ، فخشي على نَفسه فَلم يُصَرح، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لكل من أَمر بِمَعْرُوف إِذْ خَافَ على نَفسه فِي التَّصْرِيح أَن يعرض، وَلَو كَانَت الْأَحَادِيث الَّتِي لم يحدث بهَا فِي الْحَلَال وَالْحرَام مَا وَسعه كتمها بِحكم الْآيَة. وَيُقَال: حمل الْوِعَاء الثَّانِي الَّذِي لم يُنَبه على الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أسامي أُمَرَاء الْجور وأحوالهم ووذمهم، وَقد كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يكني عَن بَعضهم وَلَا يُصَرح بِهِ خوفًا على نَفسه مِنْهُم، كَقَوْلِه: أعوذ بِاللَّه من رَأس السِّتين وإمارة الصّبيان، يُشِير بذلك إِلَى خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة لِأَنَّهَا كَانَت سنة سِتِّينَ من الْهِجْرَة، فَاسْتَجَاب الله دُعَاء أبي هُرَيْرَة، فَمَاتَ قبلهَا بِسنة. فَإِن قيل: الْوِعَاء فِي كَلَام الْعَرَب الظّرْف الَّذِي يجمع فِيهِ الشَّيْء، فَهُوَ معَارض لما تقدم مِمَّا قَالَ: إِنِّي لَا أكتب، وَكَانَ أَي عبد الله بن عَمْرو يكْتب. أُجِيب: بِأَن المُرَاد أَن الَّذِي حفظه من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السّنَن الَّتِي حدث بهَا وحملت عَنهُ، لَو كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء، وَمَا كتمه من أَحَادِيث الْفِتَن الَّتِي لَو حدث بهَا لقطع مِنْهُ البلعوم، يحْتَمل أَن يمْلَأ وعَاء آخر، وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ: وعاءين، وَلم يقل: وعَاء وَاحِدًا لاخْتِلَاف حكم الْمَحْفُوظ فِي الْإِعْلَام بِهِ والستر لَهُ. وَقَالَت المتصوفة: المُرَاد بِالْأولِ: علم الْأَحْكَام والأخلاق. وَبِالثَّانِي: علم الْأَسْرَار، المصون عَن الأغيار، الْمُخْتَص بالعلماء بِاللَّه من أهل الْعرْفَان. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: الْعلم الْمكنون والسر المصون علمنَا، وَهُوَ نتيجة الْخدمَة وَثَمَرَة الْحِكْمَة، لَا يظفر بهَا إلاَّ الغواصون فِي بحار المجاهدات، وَلَا يسْعد بهَا إلاَّ المصطفون بأنوار المجاهدات والمشاهدات، إِذْ هِيَ أسرار متمكنة فِي الْقُلُوب لَا تظهر إلاَّ بالرياضة وأنوار لامعة فِي الغيوب لَا تنكشف إلاَّ للأنفس المرتاضة. قلت: نعم مَا قَالَ، لَكِن بِشَرْط أَن لَا تَدْفَعهُ الْقَوَاعِد الإسلامية وَلَا تنفيه القوانين الإيمانية إِذْ مَا بعد الْحق إلاَّ الضلال. فَإِن قلت: قد وَقع فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: حفظت ثَلَاثَة أجربة. فبثثت مِنْهَا جرابين، وَهَذَا مُخَالف لحَدِيث الْبَاب؟ قلت: يحمل على أَن الجرابين مِنْهَا كَانَا من نوع وَاحِد وَهُوَ الْأَحْكَام، وَمَا يتَعَلَّق بظواهر الشَّرْع، والجراب الآخر الْأَحَادِيث الَّتِي لَو نشرها لقطع بلعومه، وَلَا شكّ أَن النَّوْع الأول كَانَ أَكثر من النَّوْع الثَّانِي، فَلذَلِك عبر عَنهُ بالجرابين، وَالنَّوْع الثَّانِي بجراب وَاحِد فَبِهَذَا حصل التَّوْفِيق بَين الْحَدِيثين. وَلَقَد أبعد بَعضهم فِي قَوْله: يحمل على أَن أحد الوعاءين كَانَ أكبر من الآخر بِحَيْثُ يَجِيء مَا فِي الْكَبِير فِي جرابين، وَمَا فِي الصَّغِير فِي وَاحِد. قَوْله: (فبثثته) زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فِي النَّاس) .(2/185)
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْبُلْعُومُ مَجْرَى الطَّعَامِ
هَذَا ثَبت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. و: (البلعوم) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مجْرى الطَّعَام فِي الْحلق، وَهُوَ المريء كَمَا فسره القَاضِي الْجَوْهَرِي، وَكَذَا البلعم. وَقَالَ الْفُقَهَاء: الْحُلْقُوم مجْرى النَّفس، والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب، وَهُوَ تَحت الْحُلْقُوم، والبلعوم تَحت الْحُلْقُوم. وَقَالَ ابْن بطال: البلعوم الْحُلْقُوم، وَهُوَ مجْرى النَّفس إِلَى الرئة، والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى الْمعدة مُتَّصِل بالحلقوم، وَالْمَقْصُود: كنى بذلك عَن الْقَتْل. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لقطع هَذَا) ، يَعْنِي رَأسه.
43 - (بابُ الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِنْصَات لأجل الْعلمَاء، وَاللَّام، فِيهِ للتَّعْلِيل، و: الْإِنْصَات، بِكَسْر الْهمزَة: السُّكُوت وَالِاسْتِمَاع للْحَدِيث. يُقَال: نصت نصتا وأنصت إنصاتا إِذا سكت واستمع للْحَدِيث. يُقَال: أنصتوه وأنصتوا لَهُ. وانتصت سكت.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْعلم إِنَّمَا يحفظ من الْعلمَاء، وَلَا بُد فِيهِ من الْإِنْصَات لكَلَام الْعَالم حَتَّى لَا يشذ عَنهُ شَيْء، فبهذه الْحَيْثِيَّة تنَاسبا فِي الاقتران.
121 - حدّثنا حَجَّاجٌ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ قالَ: أَخْبرنِي عليُّ بنُ مُدْرِكٍ عَنْ أبي زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لَهُ فِي حَجَّةٍ الوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) ، فقالَ: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استنصت النَّاس) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حجاج بن منهال الْأنمَاطِي. وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم غير مرّة. الثَّالِث: عَليّ بن مدرك، بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء: أَبُو مدرك النَّخعِيّ الْكُوفِي الصَّالح الصدوق الثِّقَة، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، اسْمه هرم، بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء، ابْن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ، كَانَ سيدا مُطَاعًا بديع الْجمال كَبِير الْقدر، طَوِيل الْقَامَة يصل إِلَى سَنَام الْبَعِير، وَكَانَ نَعله ذِرَاعا مر فِي: بَاب الدّين النصحية.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْمُفْرد وَالْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وواسطي وبصري. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة ابْن الابْن عَن جده.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن الْحجَّاج، وَفِي الْمَغَازِي عَن حَفْص بن عَمْرو، وَفِي الْفِتَن عَن سُلَيْمَان، كلهم عَن شُعْبَة عَن عَليّ بن مدرك بِهِ، وَفِي الدِّيات عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة بِهِ، وَفِي الْمُحَاربَة عَن بنْدَار عَن غنْدر وَابْن مهْدي بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن بنْدَار عَنْهُمَا بِهِ، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث أبي بكرَة الطَّوِيل، ذكره البُخَارِيّ فِي الْخطْبَة أَيَّام منى، وَمُسلم فِي الْجِنَايَات وَقد تقدم قِطْعَة من حَدِيث أبي بكرَة فِي كتاب الْعلم فِي موضِعين أَحدهمَا فِي: بَاب رب مبلغ أوعى من سامع.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: قَوْله: (قَالَ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا اسْم. إِن. قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، مُتَعَلق: بقال، الْمَشْهُور فِي الْحَاء وَالْوَاو الْفَتْح. قَوْله: (استنصت النَّاس) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ: أَنْت فِي اسنتصت، وَالْمَفْعُول وَهُوَ: النَّاس، وَهُوَ مقول القَوْل، واستنصت، أَمر من الاستنصات: استفعال من الْإِنْصَات، وَمثله قَلِيل، إِذْ الْغَالِب أَن الاستفعال يبْنى من الثلاثي وَمَعْنَاهُ طلب السُّكُوت، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، والإنصات جَاءَ لَازِما ومتعديا، يَعْنِي اسْتعْمل أنصتوه وأنصتوا لَهُ لَا أَنه جَاءَ بِمَعْنى الإسكات. وَسميت بِحجَّة الْوَدَاع لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودع النَّاس فِيهَا. فَإِن قلت: قد وَقع فِي غَالب النّسخ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: أَي لجرير، وَكَيف يكون هَذَا وَقد جزم ابْن عبد الْبر بِأَن جَرِيرًا أسلم قبل موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قلت: قد قيل: إِن لَفْظَة: لَهُ، هَهُنَا زِيَادَة لأجل هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: لهَذَا الحَدِيث فِي: بَاب حجَّة الْوَدَاع، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لجرير، وَهَذَا يدل على أَن(2/186)
لَفْظَة، هَهُنَا غير زَائِدَة، وَأَن رِوَايَة جرير قبل ذَلِك، ويصححه مَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَابْن مَاجَه: إِنَّه أسلم فِي رَمَضَان سنة عشر، فَحِينَئِذٍ يخدش مَا ذكره ابْن عبد الْبر، وَالله أعلم. قَوْله: (لَا ترجعوا) مَعْنَاهُ هَهُنَا: لَا تصيروا، قَالَ ابْن مَالك: رَجَعَ هُنَا اسْتعْمل اسْتِعْمَال صَار معنى وَعَملا، أَي: لَا تصيروا بعدِي كفَّارًا، فعلى هَذَا: كفَّارًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: لَا ترجعوا، أَي: لَا تصيروا، فَتكون من الْأَفْعَال النَّاقِصَة الَّتِي تَقْتَضِي الإسم الْمَرْفُوع وَالْخَبَر الْمَنْصُوب. قَوْله: (بعدِي) قَالَ الطَّبَرِيّ أَي بعد فراقي فِي موقفي هَذَا، وَقَالَ غَيره: خلافي، أَي لَا تخلفوني فِي أَنفسكُم بعد الَّذِي أَمرتكُم بِهِ، وَيحْتَمل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، علم أَن هَذَا لَا يكون فِي حَيَاته فنهاهم عَنهُ بعد وَفَاته. وَقَالَ المظهري: يَعْنِي إِذا فَارَقت الدُّنْيَا فاثبتوا بعدِي على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الْإِيمَان وَالتَّقوى، وَلَا تَحَارَبُوا الْمُسلمين وَلَا تَأْخُذُوا أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ محيي السّنة. أَي: لَا تكن أفعالكم شَبيهَة بِأَفْعَال الْكفَّار فِي ضرب رِقَاب الْمُسلمين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل فِي مَعْنَاهُ سِتَّة أَقْوَال أخر. أَحدهَا: إِن ذَلِك كفر فِي حق المستحل بِغَيْر حق. ثَانِيهَا: المُرَاد كفر النِّعْمَة وَحقّ الْإِسْلَام. ثَالِثهَا: إِنَّه يقرب من الْكفْر وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ. رَابِعهَا: إِنَّه حَقِيقَة الْكفْر وَمَعْنَاهُ: دوموا مُسلمين. خَامِسهَا: حَكَاهُ الْخطابِيّ، أَن المُرَاد بالكفار المتكفرون بِالسِّلَاحِ يُقَال: تكفر الرجل بسلاحه إِذا لبسه، وَيُقَال للابس السِّلَاح: كَافِر. سادسها: مَعْنَاهُ: لَا يكفر بَعضهم بَعْضًا فتستحلوا قتال بَعْضكُم بَعْضًا.
قَوْله: (يضْرب) بِرَفْع الْبَاء، وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ الرِّوَايَة الَّتِي رَوَاهَا المتقدمون والمتأخرون. وَفِيه وُجُوه: أَحدهَا: أَن يكون صفة لكفار أَي: لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا متصفين بِهَذِهِ الصّفة القبيحة، يَعْنِي ضرب بَعْضكُم رِقَاب آخَرين. وَالثَّانِي: أَن يكون حَالا من ضمير: لَا ترجعوا، أَي: لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَالثَّالِث: أَن يكون جملَة استئنافية، كَأَنَّهُ قيل: كَيفَ يكون الرُّجُوع كفَّارًا؟ فَقَالَ: يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض، فعلى الْوَجْه الأول: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا ترجعوا عَن الدّين بعدِي فتصيروا مرتدين مقاتلين يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض بِغَيْر حق، على وَجه التَّحْقِيق: وَأَن يكون: لَا ترجعوا كالكفار الْمقَاتل بَعْضكُم بَعْضًا على وَجه التَّشْبِيه بِحَذْف أداته هُوَ على الثَّانِي، يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تكفرُوا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض لأمر يعرض بَيْنكُم لاستحلال الْقَتْل بِغَيْر حق، وَأَن يكون: لَا ترجعوا حَال الْمُقَاتلَة لذَلِك كالكفار فِي الانهماك فِي تهييج الشَّرّ وإثارة الْفِتَن بِغَيْر إشفاق مِنْكُم بَعْضكُم على بعض فِي ضرب الرّقاب. وعَلى الثَّالِث: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض بِغَيْر حق فَإِنَّهُ فعل الْكفَّار، وَأَن يكون لَا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض، كَفعل الْكفَّار على مَا تقدم،؛ وَجوز ابْن مَالك وَأَبُو الْبَقَاء جزم الْبَاء على أَنه بدل من: لَا ترجعوا، وَأَن يكون، جَزَاء لشرط مُقَدّر على مَذْهَب الْكسَائي، أَي: فَإِن رجعتم يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَقيل: يجوز الْجَزْم بِأَن يكون جَوَاب النَّهْي على مَذْهَب من يجوز: لَا تكفر تدخل النَّار. وَقَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ: وَمن سكَّن الْبَاء مِمَّن لم يضبطه أحَال الْمَعْنى، لِأَن التَّقْدِير على الرّفْع: لَا تَفعلُوا فعل الْكفَّار فتشبهوا بهم فِي حَالَة قتل بَعضهم بَعْضًا، ومحاربة بَعضهم بَعْضًا. قَالَ القَاضِي، وَهَذَا أولى الْوُجُوه الَّتِي يتَنَاوَل عَلَيْهَا هَذَا الحَدِيث. وَقد جرى بَين الْأَنْصَار كَلَام بمحاولة الْيَهُود حَتَّى ثار بَعضهم إِلَى بعض فِي السِّلَاح. فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله} (آل عمرَان: 101) أَي تَفْعَلُونَ فعل الْكفَّار، وَسِيَاق الْخَبَر يدل على أَن النَّهْي عَن ضرب الرّقاب وَالنَّهْي عَمَّا قبله بِسَبَبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي بكرَة، رَضِي الله عَنهُ: (إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام) . وَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: (ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا) الحَدِيث. فَهُوَ شرح لما تقدم من تَحْرِيم بَعضهم على بعض. قَوْله: (رِقَاب بعض) ، وَهُوَ جمع رَقَبَة، فَإِن قلت: لَيْسَ لكل شخص إلاَّ رَقَبَة وَاحِدَة، وَلَا شكّ أَن ضرب الرَّقَبَة الْوَاحِدَة مَنْهِيّ عَنْهَا. قلت: الْبَعْض وَإِن كَانَ مُفردا لكنه فِي معنى الْجمع، كَأَنَّهُ قَالَ: رب لَا يضْرب فرقة مِنْكُم رِقَاب فرقة أُخْرَى، وَالْجمع فِي مُقَابلَة الْجمع: أَو مَا فِي مَعْنَاهُ يُفِيد التَّوْزِيع.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ أَن الْإِنْصَات للْعُلَمَاء والتوقير لَهُم لَازم للمتعلمين، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) وَيجب الْإِنْصَات عِنْد قِرَاءَة حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا يجب لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ يجب الْإِنْصَات للْعُلَمَاء لأَنهم الَّذين يحيون سنته ويقومون بِشَرِيعَتِهِ. الثَّانِي: فِيهِ تحذير الْأمة من وُقُوع مَا يحذر فِيهِ. الثَّالِث: تعلق بِهِ بعض أهل الْبدع فِي إِنْكَار حجية الْإِجْمَاع، كَمَا قَالَ الْمَازرِيّ، لِأَنَّهُ نهى الْأمة بأسرها عَن الْكفْر، وَلَوْلَا جَوَاز إجماعها عَلَيْهِ(2/187)
لما نهاها، وَالْجَوَاب: إِن الِامْتِنَاع إِنَّمَا جَاءَ من جِهَة خبر الصَّادِق لَا من عدم الْإِمْكَان، وَقد قَالَ تَعَالَى: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} (الزمر: 65) وَمَعْلُوم أَنه مَعْصُوم.
44 - (بابُ مَا يُسْتَحَبُّ للْعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَيَكِلُ العِلْمَ إلَى اللَّهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: (مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ) الخ. وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: اسْتِحْبَاب الْعَالم ... وَكلمَة: إِذا، ظرفية، فَتكون ظرفا لقَوْله: (يسْتَحبّ) ، وَالْفَاء فِي قَوْله: (فيكل) ، تفسيرية على أَن قَوْله: يكل، فِي قُوَّة الْمصدر بِتَقْدِير: أَن، وَالتَّقْدِير: مَا يسْتَحبّ وَقت السُّؤَال هُوَ الوكول، وَيجوز أَن تكون: إِذا شَرْطِيَّة و: الْفَاء، حِينَئِذٍ دَاخِلَة على الْجَزَاء، وَالتَّقْدِير: فَهُوَ يكل، وَالْجُمْلَة بَيَان لما يسْتَحبّ. قَوْله: (أَي النَّاس) أَي: أَي شخص من أشخاص الْإِنْسَان أعلم من غَيره؟ وَرُوِيَ: (إِذا سُئِلَ أَي النَّاس أعلم؟ أَن يكل) . و: أَن مَصْدَرِيَّة. وَالتَّقْدِير: بَاب اسْتِحْبَاب وكول الْعَالم الْعلم إِلَى الله تَعَالَى وَقت السُّؤَال عَنهُ: أَي النَّاس أعلم؟ قَوْله: (يكل) أَصله: يُوكل، لِأَنَّهُ من: وكل الْأَمر إِلَى نَفسه وكلا ووكولاً، وَهَذَا أَمر موكول إِلَى رَأْيك، حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة كَمَا فِي: يعد، وَنَحْوه. وَمعنى أصل التَّرْكِيب يدل على اعْتِمَاد غَيْرك فِي أَمرك.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول لُزُوم الْإِنْصَات للْعَالم، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة وكول أمره إِلَيْهِ فِي حَالَة السماع، وَكَذَلِكَ هَهُنَا: لُزُوم وكول الْأَمر إِلَى الله تَعَالَى إِذا سُئِلَ عَن الأعلم.
122 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحمَّدٍ قَالَ: حدّثنا سُفْيانُ قالَ: حدّثنا عَمْرٌ وقالَ: أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قالَ: قُلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفا البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ، إنَّمَا هُو مُوسَى آخَرُ. فَقالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. حدّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قامَ مُوسَى النَّبيُّ خَطِيبا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ. فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فقالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عليهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أنَّ عَبْدا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ: يَا رَبِّ! وَكَيْفَ لي بهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتا فِي مِكْتَل فإذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ، فانْطَلَقَ وانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشعَ بنُ نُونٍ وَحَمَلاَ حوتا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا وَنَاما، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا، وكانَ لمُوسَى وفَتَاه عَجَبا، فانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا ويَوْمِهَما فلَمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرنَا هَذَا نَصَبا، وَلَمْ يَجدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جاوَزَ المَكانَ الَّذِي أُمِرَ بهِ، فَقالَ لَهُ فَتَاهُ: {أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ} (الْكَهْف: 63) قالَ مُوسَى: {ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصا} (الْكَهْف: 64) فلمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إذَا رَجُلٌ مُسَجَّى بِثَوْبٍ أوْ قالَ: تَسَجَّى بِثَوْبهِ فَسَلَّمِ مُوسَى فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأرْضِكَ السَّلامُ؟ فَقالَ: أنَا مُوسَى. فقالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: {هَلْ اتَّبِعُكَ عَلَى أنْ تُعَلِّمنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا. قالَ: إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرا} (الْكَهْف: 66 67) يَا مُوسى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّه عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلَى عِلْمٍ علّمَكَهُ لاَ أعْلَمُهُ، قَالَ: {سَتَجدُنِي إنْ شَاء اللَّهُ صابِرا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرا} (الْكَهْف: 69) فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِل البَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سفِينَةٌ فَكَلمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلِ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَو نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فقالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى(2/188)
مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمَكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلاّ كَنَقْرةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لوْحٍ منْ ألْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ، فقالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيْر نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سفينَتهم فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أهْلَها؟ قالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرا} (الْكَهْف: 72) قالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نسِيتُ، فَكانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانا فانْطَلَقَا، فإذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فأَخَذ الخَضِرُ برَأْسه مِنْ أعْلاَهُ فاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بيدِهِ فقالَ مُوسَى: {أَقْتَلْتَ نَفْسا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الْكَهْف: 74) {قالَ: أَلَمْ أقلْ لَكَ أنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا} (الْكَهْف: 75) . قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أوْكَد فانْطَلَقَا حَتَّى إِذا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فأبَوْا أنْ يُضِيِّفُوهُما، فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقضَّ. فأقَامَهُ. قَالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فأقامَهُ، فقالَ لَهُ موسَى: {لوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا! قالَ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} (الْكَهْف: 77 78) قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَرْحَمُ الله مُوسَى، لَودِدْنَا لَوْ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِنْ أمْرهمَا) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي، بِفَتْح النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس. السَّادِس: نوف، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره فَاء: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: أَبُو يزِيد، وَيُقَال: أَبُو رشيد الْقَاص الْبكالِي، كَانَ عَالما فَاضلا إِمَامًا لأهل دمشق. وَقَالَ ابْن التِّين: كَانَ حاجبا لعَلي، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ قَاصا، وَهُوَ ابْن امْرَأَة كَعْب الْأَحْبَار على الْمَشْهُور، وَقيل: ابْن أَخِيه، والبكالي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف: نِسْبَة إِلَى بني بكال، بطن من حمير. وَقَالَ الرشاطي. الْبكالِي فِي حمير ينْسب إِلَى بكال بن دغمي بن عَوْف بن عدي بن مَالك بن زيد بن سدد بن زرْعَة بن سبأ الْأَصْغَر. قَالَ الْهَمدَانِي: وَقيد دغميا بالغين الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَسَائِر مَا فِي الْعَرَب بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَضبط، بكالاً، بِفَتْح الْبَاء. وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ بِالْفَتْح وَالْكَسْر. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : ونوف الْبكالِي أَكثر الْمُحدثين يفتحون الْبَاء ويشددون الْكَاف وَآخره لَام، وَكَذَا قيدناه عَن أبي بَحر، وَابْن أبي جَعْفَر عَن العذري، وَكَذَا قَالَه أَبُو ذَر، وَقيد عَن الْمُهلب بِكَسْر الْبَاء، وَكَذَلِكَ عَن الصَّدَفِي وَأبي الْحُسَيْن بن سراج بتَخْفِيف الْكَاف وَهُوَ الصَّوَاب نِسْبَة إِلَى بكال من حمير. . وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ لَهُ: إِنَّه مَنْسُوب إِلَى بكيل، بطن من هَمدَان، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْمَنْسُوب إِلَى بكيل إِنَّمَا هُوَ أَبُو الوداك جبر بن نوف وَغَيره، وَأما هَذَا نوف بن فضَالة فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بكال بطن من حمير. السَّابِع: أبي بن كَعْب الصَّحَابِيّ، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسُّؤَال. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، وهما: عَمْرو وَسَعِيد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ، وَقد مر فِي بَاب: مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر، أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَكثر من عشرَة مَوَاضِع.
بَيَان اللُّغَات: قد مر فِي الْبَاب الْمَذْكُور تَفْسِير: بني إِسْرَائِيل ويوشع بن نون والصخرة والقصص. قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ الزنبيل، وَيُقَال: القفة. وَيُقَال: فَوق القفة والزنبيل. وَفِي (الْعباب) : المكتل يشبه الزنبيل يسع خَمْسَة عشر صَاعا. قَوْله: (فانسل الْحُوت) من: سللت الشَّيْء أسله سلاً فانسلّ. وأصل التَّرْكِيب يدل على مد الشَّيْء فِي رفق وخفة. قَوْله: (سربا) أَي: ذَهَابًا، يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا ذهب فِيهِ ذَهَابًا. وَقيل: أمسك الله جرية المَاء على الْحُوت فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق، وَحصل مِنْهُ فِي مثل السرب، وَهُوَ ضد النفق، معْجزَة لمُوسَى أَو للخضر، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. والسرب فِي الأَصْل حفير تَحت الأَرْض، والطاق: عِنْد الْبناء وَهُوَ الأزج، وَهُوَ مَا عقد أَعْلَاهُ بِالْبِنَاءِ وَترك تَحْتَهُ خَالِيا. وَجَاء: فَجعل المَاء لَا يلتئم حَتَّى صَار كالكوة، و: الكوة، بِالضَّمِّ وَالْفَتْح: الثقب فِي الْبَيْت. قَوْله: (نصبا) بِفَتْح النُّون وَالصَّاد أَي: تعبا. قَوْله: (إِذْ أوينا) من أَوَى إِلَى منزله لَيْلًا أَو نَهَارا، إِذا أَتَى. قَوْله: (نبغي) أَي: نطلب، من: بغيت الشَّيْء: طلبته. قَوْله: (فارتدا) أَي: رجعا.(2/189)
قَوْله: (مسجى) أَي: مغطى كُله كتغطية وَجه الْمَيِّت وَرجلَيْهِ وجميعه، كَذَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ، وَقد جعل طرفه تَحت رجله، وطرفه تَحت رَأسه، فَسلم عَلَيْهِ مُوسَى، فكشف عَن وَجهه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وسجيت الْمَيِّت تسجية إِذا مددت عَلَيْهِ ثوبا. قَوْله: (رشدا) قَالَ فِي (الْعباب) : الرشد بِالضَّمِّ، والرشد بِالتَّحْرِيكِ، والرشاد والرشدى مِثَال: جمزى، وَهَذِه عَن ابْن الْأَنْبَارِي: خلاف الغي. قَالَ الله تَعَالَى: {قد تبين الرشد من الغي} (الْبَقَرَة: 256) وَقَالَ جلّ ذكره: {وهيء لنا من أمرنَا رشدا} (الْكَهْف: 10) وَقَالَ: {أهدكم سَبِيل الرشاد} (غَافِر: 38) وَقد رشد يرشد، مِثَال: كتب يكْتب، ورشد يرشد مِثَال: سمع يسمع، وَفرق اللَّيْث بَين اللغتين. فَقَالَ: رشد الْإِنْسَان يرشد رشدا ورشادا، وَهُوَ نقيض الغي. ورشد يرشد رشدا وَهُوَ نقيض الضلال. قَالَ: فَإِذا أصَاب وَجه الْأَمر وَالطَّرِيق فقد رشد. قَوْله: (سفينة) فعيلة بِمَعْنى فاعلة، كَأَنَّهَا تسفن المَاء أَي: تقشره. قَالَه ابْن دُرَيْد. قَوْله: (بِغَيْر نول) ، بِفَتْح النُّون أَي، بِغَيْر أجر، والنول بِالْوَاو، والمنال والمنالة كُله الْجعل. وَأما النّيل والنوال فالعطية ابْتِدَاء يُقَال: رجل نَالَ إِذا كَانَ كثير النوال، كَمَا قَالُوا: رجل مَال إِذا كَانَ كثير المَال. تَقول: نلْت الرجل أنوله نولاً، ونلت الشَّيْء أناله نيلاً. وَقَالَ صَاحب (الْعين) : أنلته ونلته ونولته، والإسم: النول والنيل. يُقَال: نَالَ ينَال منالاً ومنالة. قَوْله: (عُصْفُور) بِضَم الْعين: طير مَشْهُور، وَقيل: هُوَ الصرد. قَوْله: (فَعمد) ، بِفَتْح الْمِيم: من عَمَدت للشَّيْء أعمد من بَاب: ضرب يضْرب عمدا: قصدت لَهُ، وَفعلت ذَلِك عمدا على عين وَعمد عين، أَي: بجد ويقين. وعمدت الشَّيْء: أقمته بعماد يعْتَمد عَلَيْهِ، وعمده الْمَرَض أَي: فدحه وأضناه، وعمدت الرجل إِذا ضَربته بالعمود، وعمدته أَيْضا إِذا ضربت عَمُود بَطْنه، وَعمد الثرى، بِالْكَسْرِ، يعمد عمدا، بِالتَّحْرِيكِ: إِذا بلله الْمَطَر. وَيُقَال أَيْضا: عمد الْبَعِير إِذا انتضح دَاخل السنام من الرّكُوب وَظَاهره صَحِيح، فَهُوَ بعير عمد. وَعمد الرجل إِذا غضب، وَعمد بالشَّيْء إِذا لزمَه. قَوْله: (بِمَا نسيت) أَي: بِمَا غفلت. وَقيل: لم ينس وَلكنه ترك، وَالتّرْك يُسمى نِسْيَانا. قَوْله: (وَلَا ترهقني) قَالَ الزّجاج: لَا تغشني. وَقيل: لَا تلْحق بِي وهما، يُقَال: رهقه الشَّيْء، بِالْكَسْرِ، يرهقه بِالْفَتْح رهقا بِفَتْح الْهَاء: إِذا غشيه. وأرهقته: كلفته ذَلِك. يُقَال: لَا ترهقني لَا أرهقك الله، أَي: لَا تعسرني لَا أعسرك الله. قَوْله: (زكية) أَي: طَاهِرَة لم تذنب، من الزَّكَاة وَهِي الطَّهَارَة. قَالَ تَعَالَى: {وتزكيهم بهَا} (التَّوْبَة: 103) أَي تطهرهُمْ. قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ) أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ. (فأقامه) : وَهُوَ من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَهَذَا فِي لِسَان الْعَرَب كثير. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: تَقول الْعَرَب: قَالُوا بزيد أَي: قَتَلُوهُ، وَقُلْنَا بِهِ أَي: قَتَلْنَاهُ. وَقَالَ الرجل بالشَّيْء أَي: غَلبه. قَوْله: (لاتخذت) ، قَالَ مكي: التَّاء فَاء الْفِعْل. حكى أهل اللُّغَة: تخذ يتَّخذ. قَالَ الْجَوْهَرِي: الاتخاد افتعال من الْأَخْذ، إلاَّ أَنه أدغم بعد تليين الْهمزَة وإبدالها تَاء، ثمَّ لما كثر اسْتِعْمَاله على لفظ الافتعال توهموا أَن التَّاء أَصْلِيَّة، فبنوا مِنْهَا: فعل يفعل. قَالُوا: تخد يتَّخذ، وَقَوْلهمْ: أخذت كَذَا يبدلون الذَّال تَاء فيدغمونها، وَبَعْضهمْ يظهرها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن نَوْفًا) ، بِكَسْر الْهمزَة و: نَوْفًا، بِالنّصب اسْم: إِن، هُوَ منصرف فِي اللُّغَة الفصيحة، وَفِي بَعْضهَا غير منصرف وكتبت بِدُونِ الْألف. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النوف السنام العالي، وَالْجمع: أنواف. قَالَ: والنوف: بظارة الْمَرْأَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: رُبمَا سمى مَا تقطعه الخافضة من الْجَارِيَة: نَوْفًا، زَعَمُوا والنوف: الصَّوْت، يُقَال: نافت الضبعة تنوف نَوْفًا. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: بَنو نوف بطن من الْعَرَب، أَحْسبهُ من هَمدَان. وناف الْبَعِير ينوف نَوْفًا إِذا ارْتَفع وَطَالَ. قلت: فعلى هَذَا: نوف، منصرف أَلْبَتَّة لِأَنَّهُ لفظ عَرَبِيّ وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ عِلّة وَاحِدَة، وَهِي العلمية، وَمن مَنعه الصّرْف رُبمَا يزْعم أَنه لفظ أعجمي، فَتكون فِيهِ عِلَّتَانِ: العجمة والعلمية، والأفصح فِيهِ أَيْضا الصّرْف، لِأَن سُكُون وَسطه يُقَاوم إِحْدَى العلتين، فَيبقى الِاسْم بعلة وَاحِدَة، كَمَا فِي: نوح وَلُوط. قَوْله: (الْبكالِي) بِالنّصب صفة: لنوفا. قَوْله: (يزْعم) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (أَن مُوسَى) بِفَتْح: أَن، لِأَنَّهُ مفعول: يزْعم، فَإِن قلت: يزْعم من أَفعَال الْقُلُوب يَقْتَضِي مفعولين. قلت: إِنَّمَا يكون من أَفعَال الْقُلُوب إِذا كَانَ بِمَعْنى الظَّن، وَقد يكون بِمَعْنى القَوْل من غير حجَّة فَلَا يَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا} (التغابن: 7) فههنا: يزْعم، يحْتَمل الْمَعْنيين، فَإِن كَانَ بِمَعْنى: القَوْل، فمفعوله: أَن مُوسَى، وَهُوَ ظَاهر. وَإِن كَانَ بِمَعْنى: الظَّن، فَإِن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مسد المفعولين، و: مُوسَى، لَا ينْصَرف للعلمية والعجمة. قَوْله: (لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بمُوسَى، وَالْبَاء زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَهِي جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. فَإِن قلت: مُوسَى علم، وَالْعلم لَا يُضَاف، فَكيف يُضَاف مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل؟ قلت: قد نكر ثمَّ أضيف، وَمعنى التنكير أَن يؤول بِوَاحِد من الْأمة الْمُسَمَّاة بِهِ. قَوْله:(2/190)
(إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخر) رُوِيَ بتنوين مُوسَى، وَبِغير تَنْوِين. أما وَجه التَّنْوِين فَلِأَنَّهُ منصرف لكَونه نكرَة. وَقَالَ ابْن مَالك: قد يُنكر الْعلم تَحْقِيقا أَو تَقْديرا، فَيجْرِي مجْرى نكرَة، وَجعل هَذَا مِثَال التحقيقي. وَأما وَجه ترك التَّنْوِين فَظَاهر. وَأما لَفْظَة: آخر. فَإِنَّهُ غير منصرف للوصفية الْأَصْلِيَّة، وَوزن الْفِعْل، فَلَا ينون على كل حَال. فَإِن قلت: هُوَ أفعل التَّفْضِيل فلِمَ لَا يسْتَعْمل بِأحد الْوُجُوه الثَّلَاثَة؟ قلت: غلب عَلَيْهِ الإسمية الْمَحْضَة مضمحلاً عَنهُ معنى التَّفْضِيل بِالْكُلِّيَّةِ. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس. وَقَوله: (كذب عَدو الله) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله: (أبي بن كَعْب) فَاعل: حَدثنَا. قَوْله: (قَامَ مُوسَى) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. وَقَوله: (النَّبِي) ، بِالرَّفْع صفة مُوسَى. قَوْله: (خَطِيبًا) نصب على الْحَال. قَوْله: (أَي النَّاس) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، (وَأعلم) خَبره، وَالتَّقْدِير: أعلم مِنْهُم، كَمَا فِي قَوْلك: الله أكبر، أَي: من كل شَيْء. قَوْله: (فَقَالَ) عطف على قَوْله: (فَسئلَ) . قَوْله: (أَنا أعلم) مُبْتَدأ وَخَبره مقول القَوْل، وَالتَّقْدِير: أَنا أعلم النَّاس. قَوْله: (فعتب الله عَلَيْهِ) ، الْفَاء تصلح للسَّبَبِيَّة. قَوْله: (إِذْ) بِسُكُون الذَّال للتَّعْلِيل. قَوْله: (لم يرد) يجوز فِيهِ وَفِي أَمْثَاله ضم الدَّال وَفتحهَا وَكسرهَا. أما الضَّم فلأجل ضمة الرَّاء، وَأما الْفَتْح فَلِأَنَّهُ أخف الحركات؛ وَأما الْكسر فَلِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ، وَيجوز فك الْإِدْغَام أَيْضا. وَقَوله: (الْعلم) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: (لم يرد) . قَوْله: (أَن عبدا) بِفَتْح: أَن لِأَن أَصله: بِأَن عبدا. قَوْله: (من عبَادي) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: عبدا. وَقَوله: (بمجمع الْبَحْرين) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، أَي: كَائِنا بمجمع الْبَحْرين. قَوْله: (هُوَ أعلم مِنْك) . جملَة إسمية فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (رب) أَصله: يَا رَبِّي، فَحذف حرف النداء وياء الْمُتَكَلّم للتَّخْفِيف اكْتِفَاء بِالْكَسْرِ. قَوْله: (وَكَيف لي بِهِ؟) التَّقْدِير: كَيفَ الالتقاء لي بِهِ؟ أَي: بذلك العَبْد؟ وَقَوله: (لي) ، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ الالتقاء الْمُقدر، وَكَيف، وَقع حَالا، إِذْ التَّقْدِير: على أَي حَالَة الالتقاء لي؟ كَمَا فِي قَوْلك: كَيفَ جَاءَ زيد؟ فَإِن التَّقْدِير فِيهِ: على أَي حَالَة جَاءَ زيد؟ وَقد علم أَن كَيفَ، اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل فِي قَوْله:
على كَيفَ تبيع الأحمرين
وللإخبار بِهِ مَعَ مُبَاشرَة الْفِعْل، نَحْو: وَكَيف كنت؟ فبالإخبار بِهِ انْتَفَت الحرفية، وبمباشرته للْفِعْل انْتَفَت الفعلية، وَالْغَالِب عَلَيْهِ أَن يكون استفهاما إِمَّا حَقِيقِيًّا، نَحْو: وَكَيف زيد، أَو غَيره نَحوه {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 28) فَإِنَّهُ أخرج مخرج التَّعَجُّب. قَوْله: (بِهِ) يتَعَلَّق بالمقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالْفَاء فِي: (فَقيل) عاطفة. قَوْله: (احْمِلْ) أَمر، وفاعله: أَنْت، مستتر فِيهِ (وحوتا) مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله: (فِي مكتل) ، فِي مَوضِع النصب على أَنه صفة لحوتا، أَي: حوتا كَائِنا فِي مكتل. قَوْله: (فَإِذا) ، للشّرط و (فقدته) جملَة فعل الشَّرْط. وَقَوله: (فَهُوَ ثمَّ) ، جملَة وَقعت جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. وَقَوله: (ثمَّ) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ظرف بِمَعْنى هُنَاكَ. وَقَالَت النُّحَاة: هُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد نَحْو: {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا لرأيت فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان: 20) . قَوْله: (مَعَه) ، التَّصْرِيح بالمعية للتَّأْكِيد وإلاَّ فالمصاحبة مستفادة من الْبَاء فِي قَوْله: (بفتاه) . قَوْله: (يُوشَع) فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهُ عطف بَيَان من: فتاه، وَلم يظْهر فِيهِ الْجَرّ لكَونه غير منصرف للعلمية والعجمة، و: (نون) منصرف على اللُّغَة الفصحى كنوح، وَلُوط: فَافْهَم. قَوْله: (حَتَّى) للغاية. قَوْله: (فَنَامَا) عطف على: وضعا. قَوْله: (فَاتخذ) عطف على: فانسل. قَوْله: (سربا) . قَالَ الزّجاج: نصب سربا على الْمَفْعُول، كَقَوْلِك: اتَّخذت طريقي مَكَان كَذَا، واتخذت طريقي فِي السرب، واتخذت زيدا وَكيلا. قلت: يجوز أَن يكون نصبا على المصدرية بِمَعْنى: يسرب سربا أَي: يذهب ذَهَابًا يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا ذهب ذَهَابًا. قَوْله: (عجبا) نصب على أَنه خبر: كَانَ. قَوْله: (بَقِيَّة ليلتهما) ، كَلَام إضافي، وانتصاب: بَقِيَّة، على أَنه بِمَعْنى الظّرْف، لِأَن بَقِيَّة اللَّيْل هِيَ السَّاعَات الَّتِي بقيت مِنْهُ، وليلتهما مجرورة بِالْإِضَافَة. قَوْله: (ويومهما) يجوز فِيهِ الْجَرّ وَالنّصب. أما الْجَرّ فعطف على: ليلتهما، وَأما النصب فعلى إِرَادَة سير جَمِيع الْيَوْم. وَوَقع فِي التَّفْسِير: فَانْطَلقَا بَقِيَّة يومهما وليلتهما. قَالَ القَاضِي: وَهُوَ الصَّوَاب، لقَوْله: (فَلَمَّا أصبح) . وَفِي رِوَايَة: (حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد) ، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم بِتَقْدِيم يومهما وَلِهَذَا قَالَ بعض الأذكياء: إِنَّه مقلوب، وَالصَّوَاب تَقْدِيم الْيَوْم لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا أصبح، وَلَا يصبح إلاَّ عَن ليل. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله: (فَلَمَّا أصبح) أَي: من اللَّيْلَة الَّتِي تلِي الْيَوْم الَّذِي سارا جَمِيعه. قلت: هَذَا احْتِمَال بعيد لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون سيرهما بَقِيَّة اللَّيْلَة وَالْيَوْم الْكَامِل وَاللَّيْلَة الْكَامِلَة من الْيَوْم الثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (قَالَ مُوسَى) جَوَاب: لما. قَوْله: (آتنا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَآت، أَمر من الإيتاء. وَقَوله: (غداءنا) بِفَتْح الْغَيْن مفعول آخر، وَاللَّام فِي: لقد للتَّأْكِيد. و: قد، للتحقيق. قَوْله: (نصبا) ، نصب لِأَنَّهُ مفعول: لَقينَا. قَوْله:(2/191)
(مسا) نصب لِأَنَّهُ مفعول: لم يجد. قَوْله: (من النصب) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: مسا، أَي: مسا حَاصِلا أَو وَاقعا من النصب. قَوْله: (حَتَّى) ، بِمَعْنى الْغَايَة أَي إِلَى أَن جَاوز. . قَوْله: (فتاه) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: قَالَ لَهُ. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (إِذْ) ظرف بِمَعْنى حِين، وَفِيه حذف تَقْدِيره: أَرَأَيْت مَا دهاني إِذْ أوينا إِلَى الصَّخْرَة؟ قَوْله: (فَإِنِّي) الْفَاء فِيهِ تفسيرية يُفَسر بِهِ مَا دهاه من نِسْيَان الْحُوت حِين أويا إِلَى الصَّخْرَة. قَوْله: (ذَلِك) مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (مَا كُنَّا نبغي) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة والعائد مَحْذُوف، أَي: نبغيه وَيجوز حذف الْيَاء من نبغي للتَّخْفِيف، وَهَكَذَا قرىء أَيْضا فِي الْقُرْآن، وإثباتها أحسن، وَهِي قِرَاءَة أبي عَمْرو. قَوْله: (قصصا) نصب على تَقْدِير: يقصان قصصا أَعنِي نصب على المصدرية. قَوْله: (إِذا رجل مسجى) كلمة إِذا، للمفاجأة، وَرجل، مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (مسجى بِثَوْب) وَالْخَبَر مَحْذُوف. وَالتَّقْدِير: فَإِذا رجل مسجى بِثَوْب نَائِم. أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: (وأنَّى بأرضك السَّلَام؟) كلمة: أَنى، بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وَنون مُشَدّدَة تَأتي بِمَعْنى: كَيفَ وَمَتى وَأَيْنَ وَحَيْثُ، وَهَهُنَا فِيهَا وَجْهَان. أَحدهمَا: أَن يكون بِمَعْنى: كَيفَ يعْنى للتعجب. وَالْمعْنَى: السَّلَام بِهَذِهِ الأَرْض عَجِيب. وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي التَّفْسِير: (هَل بأرضى من سَلام!) وَكَأَنَّهَا كَانَت دَار كفر أَو كَانَت تحيتهم بِغَيْر السَّلَام. وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى: من أَيْن؟ كَقَوْلِه تَعَالَى: {أنَّى لكِ هَذَا} (آل عمرَان: 37) فَهِيَ ظرف مَكَان، (وَالسَّلَام) ، مُبْتَدأ، و: أنَّى، مقدما خَبره، وَهُوَ نَظِير مَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنى لكِ هَذَا} (آل عمرَان: 37) . فَإِن: هَذَا، مُبْتَدأ و: أَنى، مقدما خَبره. وَوجه هَذَا الِاسْتِفْهَام أَنه لما رأى الْخضر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي أَرض قفر استبعد علمه بكيفية السَّلَام. فَإِن قلت: مَا موقع بأرضك من الْإِعْرَاب؟ قلت: نصب على الْحَال من السَّلَام، وَالتَّقْدِير: من أَيْن اسْتَقر السَّلَام حَال كَونه بأرضك؟ قَوْله: (مُوسَى بني إِسْرَائِيل؟) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: أَنْت مُوسَى بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (نعم) مقول القَوْل نَائِب على الْجُمْلَة تَقْدِيره: نعم أَنا مُوسَى بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (هَل) للاستفهام، و: أَن مَصْدَرِيَّة أَي: على اتباعي، إياك. قَوْله: (علمت) أَي: من الَّذِي علمك الله. قَوْله: (رشدا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: علما رشدا، أَي: ذَا رشد، وَهُوَ من قبيل: رجل عدل. قَوْله: (لن تَسْتَطِيع) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: أَن. قَوْله: (صبرا) مفعول: لن تَسْتَطِيع. قَوْله: (من علم الله) كلمة من للتَّبْعِيض. قَوْله: (علمنيه) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل والمفعولين أَحدهمَا يَاء الْمَفْعُول، وَالثَّانِي: الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْعلم. فَإِن قلت: موقعها من الْإِعْرَاب؟ قلت: الْجَرّ، لِأَنَّهَا صفة لعلم، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لَا تعلمه أَنْت) فَالْأول من الصِّفَات الإيجابية، وَالثَّانِي من الصِّفَات السلبية. قَوْله: (وَأَنت على علم) مُبْتَدأ وَخبر عطف على قَوْله: (إِنِّي على علم) . قَوْله: (علمك الله) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف تَقْدِيره: علمك الله إِيَّاه. وَالْجُمْلَة صفة: لعلم، وَكَذَا قَوْله: لَا أعلمهُ، صفة أُخْرَى. قَوْله: (صَابِرًا) مفعول ثَان: لستجدني. وَقَوله: (إِن شَاءَ الله) معترض بَين المفعولين. قَوْله: (وَلَا أعصى لَك أمرا) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: و: لَا أعصي، فِي مَحل النصب عطف على: صَابِرًا أَي: ستجدني صَابِرًا وَغير عَاص. قَوْله: (يمشيان) حَال وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتا لَا يجوز فِيهِ الْوَاو. وَقَوله: (أَن يحملوهما) أَي: لِأَن يحملوهما أَي: لأجل حملهمْ إيَّاهُمَا. قَوْله: (نقرة) نصب على المصدرية، و: (أَو نقرتين) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (قوم) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَؤُلَاءِ قوم، أَو: هم قوم. قَوْله: (حملونا) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لقوم. قَوْله. (فخرقتها) عطف على: عَمَدت. قَوْله: (لتغرق) أَي: لِأَن تغرق، وَأَهْلهَا، مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (بِمَا نسيت) كلمة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة أَي: بِالَّذِي نسيت، والعائد مَحْذُوف، أَي: نَسِيته. وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة أَي: بنسياني. وَيجوز أَن تكون نكرَة بِمَعْنى شَيْء أَي: بِشَيْء نَسِيته. قَوْله: (الأولى) صفة موصوفها مَحْذُوف، أَي: الْمَسْأَلَة الأولى من مُوسَى. و (نِسْيَانا) نصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَت، وَفِي بعض النّسخ: نِسْيَان بِالرَّفْع. وَوَجهه إِن صَحَّ أَن يكون: كَانَت تَامَّة، و: الأولى، مُبْتَدأ ونسيان، خَبره. أَو يكون: كَانَت، زَائِدَة وَالتَّقْدِير: فَالْأولى من مُوسَى نِسْيَان. قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة. وَقَوله: (غُلَام) مَرْفُوع بالإبتداء، وَقد تخصص بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله: (يلْعَب مَعَ الغلمان) وَالْخَبَر مَحْذُوف وَالتَّقْدِير فَإِذا غُلَام يلْعَب مَعَ الغلمان بالخضرة أَو نَحْوهَا. قَوْله: (بِرَأْسِهِ) الْبَاء فِيهِ زَائِدَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّهَا على أَصْلهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنى أَنه تنَاول رَأسه ابْتِدَاء، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه جَرّه إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ ثمَّ اقتلعه، وَلَو كَانَت زَائِدَة لم يكن لقَوْله: (فاقتلع) معنى زَائِد على أَخذه. قَوْله: (أقتلت) الْهمزَة لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، ونظيرها الْهمزَة فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} (الضُّحَى: 6) . قَوْله: (بِغَيْر(2/192)
نفس) الْبَاء، فِيهِ للمقابلة. قَوْله: (أَن يُضَيِّفُوهُمَا) أَي: من أَن يُضَيِّفُوهُمَا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: من تضييفهما. قَوْله: (يُرِيد أَن ينْقض) أَي: يُرِيد الانقضاض أَي الْإِسْرَاع بالسقوط. وَأَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَمَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ فأقامه. قَوْله: (يرحم الله مُوسَى) إِخْبَار، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الْإِنْشَاء لِأَنَّهُ دُعَاء لَهُ بِالرَّحْمَةِ. قَوْله: (لَوَدِدْنَا) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَكلمَة: لَو، هَهُنَا بِمَعْنى: أَن الناصبة للْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} (الْقَلَم: 9) وَالتَّقْدِير: وَالله لَوَدِدْنَا صَبر مُوسَى، أَي: لِأَنَّهُ لَو صَبر لَأبْصر أعجب الْأَعَاجِيب، وَهَكَذَا حكم كل فعل وَقع مصدرا بلو بعد فعل الْمَوَدَّة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن} (الْقَلَم: 9) ودوا ادهانك. قَوْله: (حَتَّى يقص) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (من أَمرهمَا) مفعول مَا لم يسمَّ فَاعله.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (يزْعم أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، يَعْنِي: يزْعم نوف أَن مُوسَى صَاحب الْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، الَّذِي قصّ الله تَعَالَى علينا فِي سُورَة الْكَهْف لَيْسَ مُوسَى بن عمرَان الَّذِي أرسل إِلَى فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بالشين الْمُعْجَمَة، وميشا بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم السَّلَام، وَهُوَ أول مُوسَى، وَهُوَ أَيْضا نَبِي مُرْسل. وَزعم أهل التَّوْرَاة أَنه هُوَ صَاحب الْخضر، وَالَّذِي ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسائل هَا هُنَا هُوَ سعيد بن جُبَير، والمجيب ابْن عَبَّاس، وَفِيمَا تقدم أَن ابْن عَبَّاس تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقِيه، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، فَمر بهما أبي بن كَعْب، رَضِي الله عَنهُ، فَسَأَلَهُ ابْن عَبَّاس فَأخْبرهُ، فَيحْتَمل أَن يكون سعيد بن جُبَير سَأَلَ ابْن عَبَّاس بعد الْوَقْعَة الأولى الْمُتَقَدّمَة لِابْنِ عَبَّاس وَالْحر، فَأخْبرهُ ابْن عَبَّاس لما سَأَلَهُ عَن قَول نوف أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل، وَجَاء أَن السَّائِل غير سعيد بن جُبَير. رُوِيَ عَن سعيد أَنه قَالَ: جَلَست عِنْد ابْن عَبَّاس وَعِنْده قوم من أهل الْكتاب، فَقَالَ بَعضهم: يَا أَبَا عبد الله إِن نَوْفًا ابْن امْرَأَة كَعْب يزْعم عَن كَعْب أَن مُوسَى النَّبِي الَّذِي طلب الْخضر إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كذب نوف، وحَدثني أبي ... وَذكر الحَدِيث. قَوْله: (كذب عَدو الله) ، هَكَذَا وَقع من ابْن عَبَّاس على طَرِيق الإغلاظ على الْقَائِل، بِخِلَاف قَوْله، وألفاظ الْغَضَب تَجِيء على غير الْحَقِيقَة فِي الْغَالِب، وَابْن عَبَّاس قَالَه على وَجه الزّجر عَن مثل هَذَا القَوْل، لِأَنَّهُ يعْتَقد أَنه عَدو لله ولدينه حَقِيقَة، إِنَّمَا قَالَه مُبَالغَة فِي إِنْكَاره، وَكَانَ ذَلِك فِي حَال غضب ابْن عَبَّاس لشدَّة الْإِنْكَار، وَحَال الْغَضَب تطلق الْأَلْفَاظ وَلَا يُرَاد بهَا حقائقها. وَقَالَ ابْن التِّين: لم يرد ابْن عَبَّاس إِخْرَاج نوف عَن ولَايَة الله، وَلَكِن قُلُوب الْعلمَاء تنفر إِذا سَمِعت غير الْحق، فيطلقون أَمْثَال هَذَا الْكَلَام لقصد الزّجر والتحذير مِنْهُ وَحَقِيقَته غير مُرَادة. قَوْله: (فَسئلَ: أَي النَّاس أعلم؟ قَالَ: أَنا أعلم) وَفِيمَا تقدم: هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك؟ قَالَ: لَا. وَفِي مُسلم: مَا أعلم فِي الأَرْض رجلا خيرا مني وَأعلم، من غير تقدم ذكر سُؤال، فَأوحى الله إِلَيْهِ: إِنِّي أعلم بِالْخَيرِ عِنْد من هُوَ. إِن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: الله أعلم، إِذا قيل لَهُ: أَي النَّاس أعلم؟ لِأَنَّهُ لم يحط علما بِكُل عَالم فِي الدُّنْيَا. وَقد قَالَت الْمَلَائِكَة: {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إلاَّ مَا علمتنا} (الْبَقَرَة: 32) وَسُئِلَ النَّبِي عَن الرّوح وَغَيره، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أسأَل الله تَعَالَى. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء، ردا على ابْن بطال فِي حصر الصَّوَاب فِي ترك الْجَواب بقوله: الله أعلم: بل الْجَواب أَن رد الْعلم إِلَى الله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُتَعَيّن أجَاب أم لَا، فَإِن أجَاب قَالَ: أَنا وَالله أعلم، فَإِن لم يجب قَالَ: الله أعلم، وَبِهَذَا تأدب الْمفْتُون عقب أجوبتهم: وَالله أعلم. وَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَو قَالَ: أَنا وَالله أعلم، أَي: هَذَا لَكَانَ جَوَابا، وَإِنَّمَا وَقعت الْمُؤَاخَذَة على الِاقْتِصَار على قَوْله: (أَنا أعلم) . وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي الْجَواب: أما على رِوَايَة من روى: هَل تعلم؟ فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا أخبر عَمَّا يعلم، وَأما على رِوَايَة: أَي النَّاس أعلم؟ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَن الْخضر أعلم مِنْهُ، فمراد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ أَنا أعلم، أَي: فِيمَا ظهر لي واقتضاه شَاهد الْحَال، وَدلَالَة النُّبُوَّة لِأَن مُوسَى فِي النُّبُوَّة، بِالْمَكَانِ الأرفع، وَالْعلم من أَعلَى الْمَرَاتِب، فقد يعْتَقد أَن يكون أعلم لهَذِهِ الْأُمُور. وَقيل: المُرَاد أَنه أعلم بِمَا تَقْتَضِيه وظائف النُّبُوَّة وَأُمُور الشَّرِيعَة، وَالْخضر أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص بِأُمُور أخر غير عَيْنِيَّة، وَكَانَ مُوسَى أعلم على الْعُمُوم وَالْخضر أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص. قَوْله: (فعتب الله عَلَيْهِ) أَي: لم يرض قَوْله شرعا، فَإِن العتب بِمَعْنى الْمُؤَاخَذَة وَتغَير النَّفس، وَهُوَ مُسْتَحِيل على الله سُبْحَانَهُ، وَهُوَ من بَاب: ضرب يضْرب. وَيُقَال: أصل العتب الْمُؤَاخَذَة، يُقَال مِنْهُ: عتب عَلَيْهِ، فَإِذا واخذه بذلك وَذكر لَهُ قيل: عاتبه، والتغير والمؤاخذة فِي حق الله تَعَالَى محَال، فيراد بِهِ: لم يرض قَوْله شرعا ودينا. وَرُوِيَ عَن أبي، رَضِي الله تَعَالَى(2/193)
عَنهُ، إِنَّه قَالَ: أعجب مُوسَى بِعِلْمِهِ فَعَاتَبَهُ الله بِمَا لَقِي من الْخضر. قَالَ الْعلمَاء: هَذَا من بَاب التَّنْبِيه لمُوسَى والتعليم لمن بعده لِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ غَيره فِي تَزْكِيَة نَفسه وَالْعجب بِحَالِهَا فَيهْلك. قَوْله: (إِن عبدا) أَي الْخضر، (بمجمع الْبَحْرين) أَي: ملتقى بحري فَارس وَالروم مِمَّا يَلِي الْمشرق. وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن أبي بن كَعْب أَنه بأفريقية. وَقيل: طنجة. قَوْله: (حوتا) أَي: سَمَكَة. قيل: حمل سَمَكَة مملوحة، وَقيل: مَا كَانَت إلاَّ شقّ سَمَكَة. قَوْله: (فَإِذا فقدته) أَي: الْحُوت. قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) أَي: العَبْد الأعلم مِنْك. ثمَّ أَي: هُنَاكَ. قَوْله: (حَتَّى كَانَا عِنْد الصَّخْرَة وضعا رؤوسهما فَنَامَا) ، وَفِي طَرِيق للْبُخَارِيّ: وَفِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا الْحَيَاة لَا يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إِلَّا حييّ، فَأصَاب الْحُوت من مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسل من المكتل فَدخل الْبَحْر. وَفِي بَعْضهَا: فَقَالَ فتاه: لَا أوقظه، حَتَّى إِذا اسْتَيْقَظَ نسي أَن يُخبرهُ وَأمْسك الله عَن الْحُوت حَتَّى كَانَ أَثَره فِي حجر. وَفِي بَعْضهَا: فَأمْسك الله عَن الْحُوت جرية المَاء فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نسي يُوشَع أَن يُخبرهُ، فنسي يُوشَع وَحده وَنسب النسْيَان إِلَيْهِمَا. فَقَالَ تَعَالَى: {نسيا حوتهما} (الْكَهْف: 61) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} (الرَّحْمَن: 22) وَإِنَّمَا يخرج من الْملح. وَقيل: نسي مُوسَى أَن يتَقَدَّم إِلَى يُوشَع فِي أَمر الْحُوت، وَنسي يُوشَع أَن يُخبرهُ بذهابه {فَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر سربا} (الْكَهْف: 61) صَار عَلَيْهِ المَاء مثل الطاق. قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: أحيى الله الْحُوت فَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر سربا وَجَاء فَجعل لَا يلتئم عَلَيْهِ المَاء حَتَّى صَار كالكوة. وَالضَّمِير فِي: اتخذ، يجوز أَن يكون للحوت كَمَا هُوَ الظَّاهِر، وَيجوز أَن يكون لمُوسَى على معنى: فَاتخذ مُوسَى سَبِيل الْحُوت فِي الْبَحْر سربا، أَي: مذهبا ومسلكا، كَمَا يَأْتِي أَنَّهُمَا اتبعا أثر الْحُوت وَقد يبس المَاء فِي مَمَره، فَصَارَ طَرِيقا. لَكِن مَا جَاءَ فِي الحَدِيث يُضعفهُ، وَهُوَ قَوْله: (فَكَانَ للحوت سربا ولموسى عجبا) . قَوْله: (عجبا) قَالَ الزّجاج: يجوز أَن يكون من قَول يُوشَع وَمن قَول مُوسَى، وانْتهى كَلَام يُوشَع عِنْد قَوْله: وَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر، ثمَّ قَالَ مُوسَى: عجبت من هَذَا عجبا، فَيحسن على هَذَا الْوَقْف على الْبَحْر، ويبتدىء من: عجبا. وَقَالَ غَيره: يجوز أَن يكون إِخْبَارًا من الله تَعَالَى، أَي: اتخذ مُوسَى طَرِيق الْحُوت فِي الْبَحْر عجبا. قَوْله: (ذَلِك) أَي: فقدان الْحُوت هُوَ الَّذِي كُنَّا نبغيه أَي نطلبه، لِأَنَّهُ عَلامَة وجدان الْمَقْصُود. قَوْله (فارتدا على آثارهما قصصاً) أَي: يقصان قصصا، يَعْنِي: رجعا يقصان آثارهما حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَة. وَفِي مُسلم (فارتدا على آثارهما قصصا) . (فَأرَاهُ مَكَان الْحُوت فَقَالَ: هَهُنَا وصف لي) ، ويروى: أَن مُوسَى ويوشع اتبعا أثر الْحُوت وَقد يبس المَاء فِي مَمَره فَصَارَ طَرِيقا، فَأتيَا جَزِيرَة فوجدا الْخضر قَائِما يصلى على طنفسة خضراء على كبد الْبَحْر، أَي وَسطه. قَوْله: {إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} (الْكَهْف: 72) أَي سترى شَيْئا ظَاهره مُنكر فَلَا تصبر عَلَيْهِ. قَوْله: (مَا نقص علمي وعلمك) هَذَا الْبَاب من النَّقْص مُتَعَدٍّ، وَمن النُّقْصَان لَازم، وَهَذَا هُوَ المُرَاد. قَالُوا: لفظ النَّقْص هُنَا لَيْسَ على ظَاهره، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن علمي وعلمك بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الله تَعَالَى كنسبة مَا نقر العصفور إِلَى مَاء الْبَحْر، وَهَذَا على التَّقْرِيب إِلَى الأفهام، وإلاَّ فنسبة علمهما أقل. وَقيل: نقص بِمَعْنى أَخذ، لِأَن النَّقْص أَخذ خَاص. قَالَ عِيَاض: يرجع ذَلِك فِي حَقّهمَا. أَي: مَا نقص علمنَا مِمَّا جهلناه من مَعْلُومَات إلاَّ مثل هَذَا فِي التَّقْدِير. وَجَاء فِي البُخَارِيّ: (مَا علمي وعلمك فِي جنب علم الله تَعَالَى إلاَّ كَمَا أَخذ هَذَا العصفور) أَي: فِي جنب مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَيُطلق الْعلم وَيُرَاد بِهِ الْمَعْلُوم، من بَاب إِطْلَاق الْمصدر لإِرَادَة الْمَفْعُول، كَمَا قَالُوا: دِرْهَم ضرب الْأَمِير، أَي: مضروبه. وَقيل: إِن، إلاَّ، هَهُنَا بِمَعْنى: وَلَا، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا نقص علمي وعلمك من علم الله وَلَا مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر، لِأَن علم الله لَا ينقص بِحَال. قَوْله: (فَعمد الْخضر إِلَى لوح من أَلْوَاح السَّفِينَة) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قلع لوحين مِمَّا يَلِي المَاء. وَفِي البُخَارِيّ: فوتد فِيهَا وتدا، وَفِيه: فَعمد إِلَى قدوم فخرق بِهِ. وَيُقَال: أَخذ فأسا فخرق لوحا حَتَّى دخل المَاء فحشاها مُوسَى بِثَوْبِهِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لما خرق الْخضر السَّفِينَة فنحى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِنَاحِيَة، ثمَّ قَالَ فِي نَفسه: مَا كنت أصنع بمصاحبة هَذَا الرجل؟ كنت أتلو فِي بني إِسْرَائِيل كتاب الله غدْوَة وَعَشِيَّة، وَآمرهُمْ فيطيعوني. فَقَالَ لَهُ الْخضر: يَا مُوسَى! أَتُرِيدُ أَن أخْبرك بِمَا حدثت بِهِ نَفسك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: قلت كَذَا وَكَذَا. قَالَ: صدقت، ثمَّ انْطَلقَا يمشيان فَإِذا غُلَام يلْعَب مَعَ الغلمان، وَكَانُوا عشرَة وَهُوَ أطرفهم وأوضؤهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ غُلَاما لم يبلغ الْحِنْث، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعمد بِالْفَسَادِ ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ الْغُلَام يسرق الْمَتَاع بِاللَّيْلِ، فَإِذا أصبح لَجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه شَفَقَة عَلَيْهِ، ويقولان: لقد بَات عندنَا. وَاخْتلفُوا فِي اسْمه، فَقَالَ الضَّحَّاك: جيسون. وَقَالَ شُعْبَة: جيسور، وَقَالَ ابْن وهب: كَانَ اسْم أَبِيه ملاس، وَاسم أمه رحمى، فَأَخذه الْخضر بِرَأْسِهِ من أَعْلَاهُ فاقتلعه، كَذَا فِي البُخَارِيّ. وَجَاء فِيهِ فِي بَدْء الْخلق:(2/194)
فَأخذ الْخضر بِرَأْسِهِ فَقَطعه بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَوْمَأَ سُفْيَان بأطراف أَصَابِعه كَأَنَّهُ يقطف شَيْئا. وَجَاء فِيهِ، فِي التَّفْسِير: (ثمَّ خرجا من السَّفِينَة، فَبَيْنَمَا هما يمشيان على السَّاحِل إِذْ أبْصر الْخضر غُلَاما مَعَ الغلمان، فاقتلع رَأسه فَقتله) . وَجَاء: (فَوجدَ غلمانا يَلْعَبُونَ، فَأخذ غُلَاما كَافِرًا ظريفا، فأضجعه ثمَّ ذبحه بالسكين) . وَقَالَ الْكَلْبِيّ: صرعه ثمَّ نزع رَأسه من جسده فَقتله. وَقيل: رفصه بِرجلِهِ فَقتله. وَقيل: ضرب رَأسه بالجدار حَتَّى قَتله. وَقيل: أَدخل أُصْبُعه فِي سرته فاقتلعها فَمَاتَ، فَلَمَّا قَتله قَالَ مُوسَى: {اقتلت نفسا زكية} (الْكَهْف: 74) أَي: طَاهِرَة {بِغَيْر نفس لقد جِئْت شَيْئا نكرا} (الْكَهْف: 74) أَي مُنْكرا. قَالَ: فَغَضب الْخضر فاقتلع كتف الصَّبِي الْأَيْسَر، وقشر اللَّحْم عَنهُ فَإِذا فِي عظم كتفه مَكْتُوب كَافِر لَا يُؤمن بِاللَّه أبدا. وَفِي مُسلم: (وَأما الْغُلَام فطبع يَوْم طبع كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قد عطفا عَلَيْهِ، فَلَو أَنه أدْرك أرهقهما طغيانا وَكفرا) . والطغيان: الزِّيَادَة فِي الإضلال. قَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ ابْن عَبَّاس يقْرَأ: {وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين} (الْكَهْف: 78) وَهُوَ كَانَ كَافِرًا. وَعنهُ: وَأما الْغُلَام فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين. وَقَوله: غُلَاما، يدل على أَنه كَانَ غير بَالغ، والغلام اسْم للمولود إِلَى أَن يبلغ، وَزعم قوم أَنه كَانَ بَالغا يعْمل الْفساد، وَاحْتَجُّوا بقوله: بِغَيْر نفس، إِن الْقصاص إِنَّمَا يكون فِي حق الْبَالِغ. وَأجَاب الْجُمْهُور عَن ذَلِك: بِأَنا لَا نعلم كَيفَ كَانَ شرعهم، فَلَعَلَّهُ كَانَ يجب على الصَّبِي فِي شرعهم كَمَا يجب فِي شرعنا عَلَيْهِم غَرَامَة الْمُتْلفَات، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ التَّنْبِيه على أَنه قتل بِغَيْر حق. فَإِن قلت: فِي أَيْن كَانَ قَضِيَّة قتل الْغُلَام؟ قلت: فِي أبله، بِضَم الْهمزَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة بعْدهَا هَاء، وَهِي مَدِينَة بِالْقربِ من بصرة وعبادان، وَيُقَال: أيلاء، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء وَاللَّام الممدودة: مَدِينَة كَانَت على سَاحل بَحر القلزم على طَرِيق حجاج مصر. قَوْله: (قَالَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَذَا أوكد، وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِزِيَادَة: لَك، فِي هَذِه الْمرة. قَالَ الْعَلامَة جَار الله: فَإِن قلت: مَا معنى زِيَادَة لَك؟ قلت: زِيَادَة المكافحة بالعتاب على رفض الْوَصِيَّة والوسم بقلة الصَّبْر عِنْد الكرة الثَّانِيَة. قَوْله: (حَتَّى إِذا أَتَيَا) وَفِي بعض النّسخ: (حَتَّى أَتَيَا) بِدُونِ لَفْظَة: إِذا. قَوْله: (أهل قَرْيَة) هِيَ: أنطاكية، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن سِيرِين: ابلة وَهِي أبعد الأَرْض من السَّمَاء، وَجَاء أَنهم كَانُوا من أهل قَرْيَة لئام. وَقيل: قَرْيَة من قرى الرّوم يُقَال لَهَا ناصرة وإليها تنْسب النَّصَارَى. وَقَالَ السُّهيْلي: قيل: إِنَّهَا برقة، وَقيل: إِنَّهَا باجروان وَهِي مَدِينَة بنواحي أرمينية من أَعمال شرْوَان، عِنْدهَا فِيمَا قيل عين الْحَيَاة الَّتِي وجدهَا الْخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، فوافياها بعد غرُوب الشَّمْس، فَاسْتَطْعَمَا أَهلهَا واستضافاهم فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا، وَلم يجدا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فِي تِلْكَ الْقرْيَة قرى وَلَا مأوى، وَكَانَت لَيْلَة بَارِدَة، فالتجآ إِلَى حَائِط على شاطىء الطَّرِيق يُرِيد أَن ينْقض، أَي: يكَاد أَن يسْقط، وَإسْنَاد الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار مجَاز، إِذْ لَا إِرَادَة لَهُ حَقِيقَة، وَالْمرَاد هَهُنَا: المشارفة على السُّقُوط. وَقَالَ الْكسَائي: إِرَادَة الْجِدَار هَهُنَا ميله، وَفِي البُخَارِيّ: مائل، وَكَانَ أهل الْقرْيَة يَمرونَ تَحْتَهُ على خوف قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ فأقامه) قد قُلْنَا: إِن مَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ فأقامه. وَفِي رِوَايَة قَالَ: (فمسحه بِيَدِهِ) ، وَذكر الثَّعْلَبِيّ أَن سمك الْجِدَار مِائَتَا ذِرَاع بِذِرَاع تِلْكَ الْقرى، وَطوله على وَجه الأَرْض خَمْسمِائَة ذِرَاع، وَعرضه خَمْسُونَ ذِرَاعا. قيل: إِنَّه مَسحه كالطين يمسحه القلاَّل فَاسْتَوَى. وَعَن ابْن عَبَّاس: هَدمه ثمَّ قعد يبنيه. وَقيل: أَقَامَهُ بعمود عمده بِهِ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا فَيكون لنا قوتا وبلغة على سفرنا إِذْ استضفناهم فَلم يضيفونا. فَقَالَ الْخضر: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} الْآيَة. (الْكَهْف: 78) فَإِن قلت: هَذَا إِشَارَة إِلَى مَاذَا؟ قلت: قد تصور فِرَاق بَينهمَا عِنْد حُلُول ميعاده على مَا قَالَ: فَلَا تُصَاحِبنِي، فَأَشَارَ إِلَيْهِ وَجعله مُبْتَدأ، وَيجوز أَن يكون إِشَارَة إِلَى السُّؤَال الثَّالِث أَي: هَذَا الِاعْتِرَاض سَبَب الْفِرَاق.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب الرحلة للْعلم. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز التزود للسَّفر. الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَة طلب الْعلم وَالْأَدب مَعَ الْعَالم، وَحُرْمَة الْمَشَايِخ، وَترك الإعتراض عَلَيْهِم وَتَأْويل مَا لم يفهم ظَاهره من أَقْوَالهم وأفعالهم، وَالْوَفَاء بعهودهم، والاعتذار عِنْد الْمُخَالفَة. الرَّابِع: فِيهِ إِثْبَات كرامات الْأَوْلِيَاء وَصِحَّة الْولَايَة. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز سُؤال الطَّعَام عِنْد الْحَاجة. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز الْإِجَارَة. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز ركُوب الْبَحْر وَنَحْو ذَلِك بِغَيْر أُجْرَة برضى صَاحبه. الثَّامِن: فِيهِ الحكم بِالظَّاهِرِ حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه. التَّاسِع: فِيهِ أَن الْكَذِب الْإِخْبَار على خلاف الْوَاقِع عمدا أَو سَهوا خلافًا للمعتزلة. الْعَاشِر: إِذا تَعَارَضَت مفسدتان يجوز دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما، كَمَا فِي خرق الْخضر السَّفِينَة لدفع غصبهَا وَذَهَاب جُمْلَتهَا. الْحَادِي عشر: فِيهِ بَيَان أصل عَظِيم وَهُوَ: وجوب التَّسْلِيم لكل مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع، وَإِن كَانَ بعضه لَا تظهر حكمته للعقول وَلَا يفهمهُ أَكثر النَّاس، وَقد لَا يفهمونه كلهم: كالقدر، وَمَوْضِع الدّلَالَة قتل الْغُلَام، وخرق السَّفِينَة فَإِن(2/195)
صورتيهما صُورَة الْمُنكر، وَكَانَ صَحِيحا فِي نفس الْأَمر لَهُ حِكْمَة بَيِّنَة، لَكِنَّهَا لَا تظهر لِلْخلقِ فَإِذا علمهمْ الله تَعَالَى بهَا علموها، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه أصل وَهُوَ: مَا تعبد الله تَعَالَى بِهِ خلقه من شَرِيعَته يجب أَن يكون حجَّة على الْعُقُول، وَلَا تكون الْعُقُول حجَّة عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن إِنْكَار مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ صَوَابا فِي الظَّاهِر، وَكَانَ غير ملوم فِيهِ، فَلَمَّا بيَّن الْخضر وَجه ذَلِك صَار الصَّوَاب الَّذِي ظهر لمُوسَى فِي إِنْكَاره خطأ، وَالْخَطَأ الَّذِي ظهر لَهُ من فعل الْخضر صَوَابا، وَهَذَا حجَّة قَاطِعَة فِي أَنه يجب التَّسْلِيم لله تَعَالَى فِي دينه وَلِرَسُولِهِ فِي سنته، واتهام الْعُقُول إِذا قصرت عَن إِدْرَاك وَجه الْحِكْمَة فِيهِ. الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن قَوْله: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) يدل على أَنه فعله بِالْوَحْي، فَلَا يجوز لأحد أَن يقتل نفسا لما يتَوَقَّع وُقُوعه مِنْهَا، لِأَن الْحُدُود لَا تجب إِلَّا بعد الْوُقُوع، وَكَذَا لَا يقطع على أحد قبل بُلُوغه، لِأَنَّهُ إِخْبَار عَن الْغَيْب، وَكَذَا الْإِخْبَار عَن أَخذ الْملك السَّفِينَة، وَعَن اسْتِخْرَاج الغلامين الْكَنْز، لِأَن هَذَا كُله لَا يدْرك إلاَّ بِالْوَحْي. الرَّابِع عشر: فِيهِ حجَّة لمن قَالَ بنبوة الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الْخَامِس عشر: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز إِفْسَاد بعض المَال لإِصْلَاح بَاقِيه، وخصاء الْأَنْعَام، وَقطع بعض آذانها لتميز.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: (فَإِنِّي نسيت الْحُوت) كَيفَ نسي ذَلِك وَمثله لَا ينسى لكَونه أَمارَة على الْمَطْلُوب، وَلِأَن ثمَّة معجزتين: حَيَاة السَّمَكَة المملوحة الْمَأْكُول مِنْهَا على الْمَشْهُور، وانتصاب المَاء مثل الطاق ونفوذها فِي مثل السرب مِنْهُ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ قد شغله الشَّيْطَان بوسواسه والتعود بمشاهدة أَمْثَاله عِنْد مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْعَجَائِب والاستئناس بأخواته مُوجب لقلَّة الاهتمام بِهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: (على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا) أما دلّت حَاجته إِلَى التَّعَلُّم من آخر فِي عَهده أَنه كَمَا قيل: مُوسَى بن مِيشَا لَا مُوسَى بن عمرَان، لِأَن النَّبِي يجب أَن يكون أعلم أهل زَمَانه وإمامهم المرجوع إِلَيْهِ فِي أَبْوَاب الدّين؟ أُجِيب: لَا غَضَاضَة بِالنَّبِيِّ فِي أَخذ الْعلم من نَبِي مثله، وَإِنَّمَا يغض مِنْهُ أَن يَأْخُذ مِمَّن دونه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الْجَواب لَا يتم على تَقْدِير ولَايَته. قلت: هَذَا الْجَواب للزمخشري، وَهُوَ قَائِل بنبوته، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، بل هُوَ رَسُول وَيَنْبَغِي اعْتِقَاد ذَلِك لِئَلَّا يتوسل بِهِ أهل الزيغ وَالْفساد من المبتدعة الْمَلَاحِدَة فِي دَعوَاهُم: أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي، نَعُوذ بِاللَّه تَعَالَى من هَذِه الْبِدْعَة. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي هَذَا الْجَواب نظر، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم نفي مَا أوجب. قلت: هَذِه الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة، فَلَو بَين وَجههَا لأجيب عَن ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: فحملوهما، وهم ثَلَاثَة. فَقَالَ: كلموهم بِلَفْظَة الْجمع، فَلم قَالَ: فحملوهما بالتثنية؟ أُجِيب: بِأَن يُوشَع كَانَ تَابعا فَاكْتفى بِذكر الأَصْل عَن الْفَرْع. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن نِسْبَة النقرة إِلَى الْبَحْر نِسْبَة المتناهي إِلَى المتناهي، وَنسبَة علمهما إِلَى علم الله نِسْبَة المتناهي إِلَى غير المتناهي، وللنقرة إِلَى الْبَحْر فِي الْجُمْلَة نِسْبَة مَا بِخِلَاف علمهما، فَإِنَّهُ لَا نِسْبَة لَهُ إِلَى علم الله. أُجِيب: بِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ التَّشْبِيه فِي الْقلَّة والحقارة، لَا الْمُمَاثلَة من كل الْوُجُوه. وَمِنْهَا مَا قيل: مَتى كَانَت قصَّة الْخضر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام؟ أُجِيب: حَيْثُ كَانَ مُوسَى فِي التيه، فَلَمَّا فَارقه الْخضر رفع إِلَى قومه وهم فِي التيه. وَقيل: كَانَت قبل خُرُوجه من مصر. وَالله أعلم.
45 - (بابُ مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قائِمٌ عالِما جالِسا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سَأَلَ، وَالْحَال أَنه قَائِم، عَالما جَالِسا. و: من، مَوْصُولَة، و: الْوَاو، للْحَال. و: عَالما، مفعول: سَأَلَ. و: جَالِسا، صفة: عَالما. ومقصود البُخَارِيّ أَن سُؤال الْقَائِم الْعَالم الْجَالِس لَيْسَ من بَاب من يتَمَثَّل لَهُ النَّاس قيَاما، بل هَذَا جَائِز إِذا سلمت النَّفس فِيهِ من الْإِعْجَاب.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي كل مِنْهُمَا سؤالاً عَن الْعَالم، وَهَذَا لِأَن فِي الأول سُؤال مُوسَى عَن الْخضر، وَفِي هَذَا سُؤال الْقَائِم عَن الْعَالم الْجَالِس.
123 - حدّثنا عُثْمانُ قالَ: أخبرنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أبي وَائلٍ عَن أبي مُوسَى قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ: يَا رَسُول اللَّهِ! مَا القتالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فإنّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبا ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رأْسَهُ، قَالَ: وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلاَّ أنَّهُ كانَ قائِما، فقالَ: (مَنْ قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ اللَّهِ هيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ) .(2/196)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا رفع إِلَيْهِ رَأسه إلاَّ أَنه كَانَ قَائِما) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم، وَعُثْمَان هُوَ ابْن أبي شيبَة، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة، وَفِي كتاب الْخمس فِي: بَاب من قَاتل للمغنم هَل ينقص من أجره عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة، وَفِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الثَّوْريّ عَن الشّعبِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن غنْدر عَن شُعْبَة بن عَمْرو بن مرّة وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير وَابْن رَاهَوَيْه عَن جرير عَن مَنْصُور، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي وَائِل عَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن حَفْص بن عَمْرو عَن شُعْبَة، وَعَن عَليّ بن مُسلم عَن أبي دَاوُد عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة، قَالَ: سَمِعت عَن أبي وَائِل حَدِيثا أعجبني، فَذكر مَعْنَاهُ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِنَّمَا عداهُ بِكَلِمَة الِانْتِهَاء مَعَ أَن: جَاءَ، جَاءَ مُتَعَدِّيا بِنَفسِهِ إشعارا بِأَن الْمَقْصُود بَيَان انْتِهَاء الْمَجِيء إِلَيْهِ. قَوْله: (فَقَالَ) عطف على قَوْله: (فجَاء) . قَوْله: (مَا الْقِتَال؟) مُبْتَدأ وَخبر وَقع مقولاً لِلْقَوْلِ. قَوْله: (فَإِن أَحَدنَا) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل. قَوْله: (يُقَاتل) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (غَضبا) نصب على أَنه مفعول لَهُ، وَالْغَضَب حَالَة تحصل عِنْد غليان الدَّم فِي الْقلب لإِرَادَة الانتقام. قَوْله: (حمية) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: نصب على أَنه مفعول لَهُ أَيْضا. قَالَ الْجَوْهَرِي: حميت عَن كَذَا حمية، بِالتَّشْدِيدِ، وتحمية إِذا أنفت مِنْهُ وداخلك عَار وأنفة أَن تَفْعَلهُ. وَقَالَ غَيره: الحمية هِيَ الْمُحَافظَة على الْحرم. وَقيل: هِيَ الأنفة والغيرة والمحاماة عَن الْعَشِيرَة، وَالْأول: إِشَارَة إِلَى مُقْتَضى الْقُوَّة الغضبية، وَالثَّانِي: إِلَى مُقْتَضى الْقُوَّة الشهوانية. أَو الأول: لأجل دفع الْمضرَّة، وَالثَّانِي: لأجل جلب الْمَنْفَعَة. قَوْله: (فَرفع إِلَيْهِ) أَي: فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السَّائِل. قَوْله: (وَمَا رفع إِلَيْهِ رَأسه إِلَّا أَنه كَانَ قَائِما) ، ظَاهره أَن الْقَائِل هُوَ أَبُو مُوسَى، وَيحْتَمل أَن يكون من دونه فَيكون مدرجا فِي أثْنَاء الْخَبَر، وَهُوَ اسْتثِْنَاء مفرغ وَأَن مَعَ اسْمهَا وخبرها فِي تَقْدِير الْمصدر أَي: مَا رفع لأمر من الْأُمُور إِلَّا لقِيَام الرجل. قَوْله: (قَالَ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الْجَواب عَن سُؤال السَّائِل الْمَذْكُور. فَإِن قلت: السُّؤَال عَن مَاهِيَّة الْقِتَال، وَالْجَوَاب لَيْسَ عَنْهَا بل عَن الْمقَاتل. قلت: فِيهِ الْجَواب وَزِيَادَة، أَو أَن الْقِتَال بِمَعْنى اسْم الْفَاعِل أَي: الْمقَاتل، بِقَرِينَة لفظ: فَإِن أَحَدنَا. وَلَفْظَة: مَا إِن قُلْنَا: إِنَّه عَام للْعَالم وَلغيره فَظَاهر، وَإِن قُلْنَا إِنَّه لغيره فَكَذَلِك إِذا لم يعْتَبر معنى الوصفية فِيهِ إِذْ صَرَّحُوا بِنَفْي الْفرق بَين الْعَالم وَغَيره عِنْد اعْتِبَارهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض كل لَهُ قانتون} (الْبَقَرَة: 116) فَإِن قلت: كَيفَ جَاءَ بِمَا الَّذِي لغير أولي الْعلم مَعَ قَوْله: {قانتون} ؟ قلت: هُوَ كَقَوْلِه: سُبْحَانَ مَا سخركن لنا، أَو نقُول: ضمير (فَهُوَ) رَاجع إِلَى الْقِتَال الَّذِي فِي ضمن قَاتل، أَي: فقتاله قتال فِي سَبِيل الله. فَإِن قلت: فَمن قَاتل لطلب ثَوَاب الْآخِرَة أَو لطلب رضى الله تَعَالَى عَنهُ فَهَل هُوَ فِي سَبِيل الله؟ قلت: نعم لِأَن طلب إعلاء الْكَلِمَة، وَطلب الثَّوَاب والرضى كلهَا متلازمة، وَحَاصِل الْجَواب أَن الْقِتَال فِي سَبِيل الله قتال منشؤه الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة لَا الْقُوَّة الغضبية أَو الشهوانية، وانحصار القوى الإنسانية فِي هَذِه الثَّلَاث مَذْكُور فِي مَوْضِعه. قَوْله: (لتَكون) ، أَي: لِأَن تكون، وَاللَّام: لَام كي. قَوْله: (كلمة الله) أَي: دَعوته إِلَى الْإِسْلَام. وَقيل: هِيَ قَوْله: لَا إِلَه إِلَّا الله. قَوْله: (هِيَ) ، فصل، أَو مُبْتَدأ. وفيهَا تَأْكِيد فضل كلمة الله تَعَالَى فِي الْعُلُوّ، وَأَنَّهَا المختصة بِهِ دون سَائِر الْكَلَام. قَوْله: (فَهُوَ) مُبْتَدأ. و (فِي سَبِيل الله) خبر لقَوْله: (من) ، وَإِنَّمَا دخلت الْفَاء لتضمن من معنى الشَّرْط.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان أَن الْأَعْمَال إِنَّمَا تحسب بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَة. الثَّانِي: فِيهِ أَن الْإِخْلَاص شَرط فِي الْعِبَادَة، فَمن كَانَ لَهُ الْبَاعِث الدنياوي فَلَا شكّ فِي بطلَان عمله، وَمن إِذا كَانَ الْبَاعِث الديني أقوى فقد حكم الْحَارِث المحاسبي بِإِبْطَال الْعَمَل تمسكا بِهَذَا الحَدِيث، وَخَالفهُ الْجُمْهُور وَقَالُوا: الْعَمَل صَحِيح. وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: إِذا ابْتَدَأَ الْعَمَل بِهِ لَا يضرّهُ مَا عرض بعده من عجب يطْرَأ عَلَيْهِ. الثَّالِث: فِيهِ أَن الْفضل الَّذِي ورد فِي الْمُجَاهدين يخْتَص بِمن قَاتل لإعلاء كلمة الله تَعَالَى. الرَّابِع: فِيهِ أَنه لَا بَأْس أَن يكون المستفتي وَاقِفًا إِذا كَانَ هُنَاكَ عذر، وَكَذَلِكَ طلب الْحَاجة. الْخَامِس: فِيهِ إقبال الْمُتَكَلّم على الْمُخَاطب. السَّادِس:(2/197)
فِيهِ مَا أعطي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الفصاحة وجوامع الْكَلم لِأَنَّهُ أجَاب السَّائِل بِجَوَاب جَامع لِمَعْنى سُؤَاله لَا بِلَفْظِهِ من أجل أَن الْغَضَب وَالْحمية قد يكون لله عز وَجل، وَقد يكون لغَرَض الدُّنْيَا، فَأَجَابَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالْمَعْنَى مُخْتَصرا إِذْ لَو ذهب يقسم وُجُوه الْغَضَب لطال ذَلِك ولخشي أَن يلبس عَلَيْهِ. وَجَاء أَيْضا فِي الصَّحِيح: (يُقَاتل للمغنم وَالرجل يُقَاتل للذِّكر، وَالرجل يُقَاتل ليُرى مَكَانَهُ، فَمن فِي سَبِيل الله تَعَالَى، فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام: من قَاتل لتَكون كلمة الله أَعلَى فَهُوَ فِي سَبِيل الله) .
46 - (بابٌ السُّؤَال والفُتْيا عِنْدَ رَمْيِ الجِمارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السُّؤَال والفتيا، فالسؤال من جِهَة المستفتي والفتيا من جِهَة الْمُفْتِي، وَقد ذكرنَا أَن الْفتيا، بِضَم الْفَاء، وَالْفَتْوَى بِفَتْحِهَا إسم من: استفتيت الْفَقِيه فأفتاني، وَهِي جَوَاب الْحَادِثَة، والجمار جمع جَمْرَة وَهِي: الْحَصَاة. وَالْمرَاد جمرات الْمَنَاسِك. وَقَالَ ابْن بطال: معنى هَذَا الْبَاب أَنه يجوز أَن يُسأل الْعَالم عَن الْعلم، ويجيب وَهُوَ مشتغل فِي طَاعَة الله لَا يتْرك الطَّاعَة الَّتِي هُوَ فِيهَا، إلاَّ إِلَى طَاعَة أُخْرَى. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ معنى مَا ترْجم لَهُ. فَإِن قَوْله فِي الحَدِيث: (عِنْد الْجَمْرَة) لَيْسَ فِيهِ إلاَّ السُّؤَال، وَهُوَ بِموضع الْجَمْرَة وَلَيْسَ فِيهِ أَنه فِي خلال الرَّمْي. قلت: لَا نسلم ذَلِك. فَإِن قَوْله: (عِنْد رمي الْجمار) أَعم من أَن يكون مُقَارنًا بشروعه فِي رمي الْجمار، أَو فِي خلال رميه، أَو عقيب الْفَرَاغ مِنْهُ.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: الْمُنَاسبَة بَينهمَا ظَاهِرَة لِأَن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على السُّؤَال عَن الْعَالم وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى.
124 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ العَزِيز بنُ أبي سَلَمَةَ عَن الزُّهْرِيِّ عَنْ عِيسَى ابنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو قَالَ: رأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ الجَمْرَةِ وَهُوَ يُسألُ فقالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ اللَّهِ {نَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ. قالَ: (ارْمِ ولاَ حَرَجَ) قالَ آخَرُ: يَا رسولَ اللَّهِ} حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أنْحَر. قَالَ: (انْحَرْ ولاَ حَرَجَ) فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلاَّ قالَ: (افْعَلْ ولاَ حَرَج) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عِنْد الْجَمْرَة) وَهُوَ يسْأَل وَهَذَا من جَانب المستفتي، وَقَوله: (ارْمِ وَلَا حرج وَافْعل وَلَا حرج) . من جِهَة الْمُفْتِي فطابق التَّرْجَمَة بجزئيها.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة، نسب إِلَى جده أبي سَلمَة الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا: أَبُو عبد الله الْمدنِي الْفَقِيه التَّيْمِيّ، سكن بَغْدَاد وَمَات بهَا سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَصلى عَلَيْهِ الْمهْدي وَدفن فِي مَقَابِر قُرَيْش. قَالَ يحيى بن معِين: كَانَ يَقُول بِالْقدرِ ثمَّ أقبل إِلَى السّنة وَلم يكن من شَأْنه الحَدِيث، فَلَمَّا قدم بَغْدَاد كتبُوا عَنهُ، وَقَالَ: جعلني أهل بَغْدَاد مُحدثا، وَقَالَ بشر بن السّري: لم يسمع الْمَاجشون من الزُّهْرِيّ، وَقَالَ أَحْمد بن سِنَان: مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنه عرض. وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: أَنه كَانَ من أصفهان فَنزل الْمَدِينَة، وَكَانَ يلقى النَّاس فَيَقُول: جَوْنِي جَوْنِي. وَسُئِلَ أَحْمد بن حَنْبَل، فَقَالَ: تعلق بِالْفَارِسِيَّةِ بِكَلِمَة إِذا لَقِي الرجل يَقُول: شوني شوني، فلقب بِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: الْمَاجشون فَارسي، وَإِنَّمَا سمي بِهِ لِأَن وجنتيه كَانَتَا حمراوين، فَسُمي بِالْفَارِسِيَّةِ: الماي كَون، ثمَّ عرب أهل الْمَدِينَة بذلك، وَهُوَ: بِفَتْح الْجِيم وَضم الْمُعْجَمَة وبالنون. وَقَالَ الغساني: الْمَاجشون اسْمه يَعْقُوب بن أبي سَلمَة، وَابْن أبي سَلمَة: مَيْمُون، والماجشون بِالْفَارِسِيَّةِ: ماه كَون، فعرب. وَمَعْنَاهُ الْورْد. وَيُقَال: الْأَبْيَض الْأَحْمَر. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْأَوْسَط) : الْمَاجشون هُوَ يَعْقُوب بن أبي سَلمَة أَخُو عبد الله بن أبي سَلمَة، فَجرى على بنيه وعَلى بني أَخِيه. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّمَا لقب الْمَاجشون لحمرة فِي وَجهه، وَقَالَ: إِن سكينَة، بِضَم الْمُهْملَة: بنت الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لقبت بذلك. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله الْقرشِي التَّيْمِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني ومصري، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث مُسْتَوفى فِي بَاب: الْفتيا وَهُوَ وَاقِف على الدَّابَّة. قَوْله: (عِنْد الْجَمْرَة) اللَّام: إِمَّا للْجِنْس فَيشْمَل كل جَمْرَة كَانَت من الجمرات الثَّلَاث، للْعهد فَالْمُرَاد جَمْرَة الْعقبَة لِأَنَّهَا إِذا أطلقت كَانَت هِيَ المرادة.(2/198)
47 - (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} )
أَي: هَذَا بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) وَأَرَادَ بإيراد هَذَا الْبَاب المترجم بِهَذِهِ الْآيَة التَّنْبِيه على أَن من الْعلم أَشْيَاء لم يطلع الله عَلَيْهَا نَبيا وَلَا غَيره.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على سُؤال عَن عَالم، غير أَن المسؤول قد بيَّن فِي الأول لكَونه مِمَّا يحْتَاج إِلَى علمه السَّائِل، وَلم يبين فِي هَذَا لعدم الْحَاجة إِلَى بَيَانه لكَونه مِمَّا اخْتصَّ الله سُبْحَانَهُ فِيهِ، وَلِأَن فِي عدم بَيَانه تَصْدِيقًا لنبوة النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. حَيْثُ قَالَ الواحدي: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِن الْيَهُود اجْتَمعُوا فَقَالُوا: نسْأَل مُحَمَّدًا عَن الرّوح، وَعَن فتية فقدوا فِي أول الزَّمَان، وَعَن رجل بلغ مشرق الشَّمْس وَمَغْرِبهَا، فَإِن أجَاب فِي ذَلِك كُله فَلَيْسَ بِنَبِي وَإِن لم يجب فِي ذَلِك كُله فَلَيْسَ بِنَبِي، وَإِن أجَاب عَن بعض وَأمْسك عَن بعض فَهُوَ نَبِي فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْن الْفتية: {أم حسبت أَن أَصْحَاب الْكَهْف} (الْكَهْف: 9) إِلَى آخر الْقِصَّة. وَأنزل فِي شَأْن الرجل الَّذِي بلغ مشرق الأَرْض وَمَغْرِبهَا: {ويسألونك عَن ذِي القرنين} (الْكَهْف: 83) إِلَى آخر الْقِصَّة، وَأنزل فِي الرّوح قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) . قَوْله: {وَمَا أُوتِيتُمْ} (الْإِسْرَاء: 85) الْخطاب عَام، وَرُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ لَهُم ذَلِك قَالُوا: نَحن مختصون بِهَذَا الْخطاب أم أَنْت مَعنا فِيهِ؟ فَقَالَ: (بل نَحن وَأَنْتُم لم نُؤْت من الْعلم إلاَّ قَلِيلا) . فَقَالُوا: مَا أعجب شَأْنك؟ سَاعَة تَقول: {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} (الْبَقَرَة: 269) وَسَاعَة تَقول هَذَا {فَنزلت: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعده سَبْعَة أبحر مَا نفذت كَلِمَات الله} (لُقْمَان: 27) وَلَيْسَ مَا قَالُوهُ بِلَازِم، لِأَن الْقلَّة وَالْكَثْرَة يدوران مَعَ الْإِضَافَة، فيوصف الشَّيْء بالقلة مُضَافا إِلَى مَا فَوْقه، وَالْكَثْرَة مُضَافا إِلَى مَا تَحْتَهُ، فالحكمة الَّتِي أوتيها العَبْد خير كثير فِي نَفسهَا، إِلَّا أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى علم الله تَعَالَى فَهِيَ قَليلَة. وَقيل: هُوَ خطاب للْيَهُود خَاصَّة لأَنهم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد أوتينا التَّوْرَاة فِيهَا الْحِكْمَة، وَقد تَلَوت: {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} (الْبَقَرَة: 269) فَقيل لَهُم: إِن علم التَّوْرَاة قَلِيل فِي جنب علم الله تَعَالَى. قَوْله: {إِلَّا قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 85) اسْتثِْنَاء من الْعلم، أَي: إِلَّا علما قَلِيلا، أَو من الإيتاء، أَي إِلَّا إيتَاء قَلِيلا، أَو من الضَّمِير أَي إلاَّ قَلِيلا مِنْكُم.
125 - حدّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ قالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ: حدّثنا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْننَا أنَا أَمْشِي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عسيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عنِ الرُّوحِ؟ وقالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْألُوهُ} لاَ يجيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فقالَ بَعْضُهمْ: ولنَسْألَنَّهُ. فقامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فقالَ: يَا أَبَا القاسِمِ! مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَت، فَقُلْتُ: إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ فقالَ: {ويَسْألُونَكَ عَنْ الروحِ قلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} (الْإِسْرَاء: 85) قالَ الأعْمَشُ: هَكَذا فِي قِرَاءَتِنَا.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا بعض آيَة من الْقُرْآن، والْحَدِيث يبين سَبَب نُزُولهَا مَعَ مَا فِيهَا من التَّنْبِيه على أَن علم الرّوح علم قد اسْتَأْثر الله بِهِ وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا، كَمَا قد ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: قيس بن حَفْص بن الْقَعْقَاع الدَّارمِيّ، أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ أَحْمد بن سعيد الدَّارمِيّ وأبوزرعة وَأَبُو حَاتِم. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ عَن أَئِمَّة الْكتب الْخَمْسَة، وَلَيْسَ فِي مشايخهم من اسْمه قيس سواهُ، توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد أَبُو بشر الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش الْكُوفِي. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بصريين وَثَلَاثَة كوفيين. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين الْحفاظ المتقنين يروي بَعضهم عَن بعض. وهم: الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وعلقمة. وَمِنْهَا: أَن رِوَايَة الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة أصلح الْأَسَانِيد فِيمَا قيل.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه(2/199)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد أَيْضا، وَفِي التَّفْسِير عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه، وَفِي الِاعْتِصَام فِي: بَاب مَا يكره من كَثْرَة السُّؤَال وتكليف مَا لَا يعنيه، عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون عَن عِيسَى بن يُونُس وَفِي التَّوْحِيد عَن يحيى عَن وَكِيع وَأخرجه مُسلم فِي الرقَاق عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه وَعَن أبي بكر والأشج عَن وَكِيع وَعَن إِسْحَاق وَابْن خشرم عَن عِيسَى كلهم عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن خشرم بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (فِي خرب) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: جمع خربة، وَيُقَال بِالْعَكْسِ: أَعنِي الْخَاء وَكسر الرَّاء، هَكَذَا ضبط بَعضهم أخذا عَن بعض الشَّارِحين. قلت: هَذَا مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة. فَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخراب ضد الْعِمَارَة، وَقد خرب الْموضع بِالْكَسْرِ فَهُوَ خرب، وَفِي (الْعباب) : وَقد خرب الْموضع، بِالْكَسْرِ: فَهُوَ خرب، وَدَار خربة، وَالْجمع خرب مِثَال: كلمة وكلم، وخرَّب الدَّار وأخربها وخرَّبها، فَعلم من هَذَا أَن الخرب، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الرَّاء تَارَة تكون مُفْردَة، كَمَا يُقَال: مَكَان خرب، وَتارَة تكون جمعا كَمَا يُقَال: أَمَاكِن خرب، جمع خربة. وَأما خرب، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء: فَلَيْسَ بِجمع خربة. كَمَا زعم هَؤُلَاءِ الشارحون، وَإِنَّمَا جمع خربة: خرب ككلمة وكلم، كَمَا ذكره الصغاني. وَقَالَ القَاضِي: رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي غير هَذَا الْموضع: (حرث) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم فِي جَمِيع طرقه. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (يتَوَكَّأ) أَي: يعْتَمد، ومادته: وَاو وكاف وهمزة، وَمِنْه يُقَال: رجل تكأة، مِثَال: تؤدة، كثير الاتكاء، وَأَصلهَا: وكأة أَيْضا. والمتكأة مَا يتكأ عَلَيْهِ، هِيَ المتكأ، قَالَ الله تَعَالَى: {وأعتدت لَهُنَّ متكأ} (يُوسُف: 31) . قَوْله: (على عسيب) ، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. قَالَ الصغاني: العسيب من السعف فويق الكرب لم ينْبت عَلَيْهِ الخوص، وَمَا ينْبت عَلَيْهِ الخوص فَهُوَ السعف، وَالْجمع: عسب. وَقَالَ غَيره: العسيب جريد النّخل وَهُوَ عود قضبان النّخل، كَانُوا يكشطون خوصها ويتخذونها عصيا، وَكَانُوا يَكْتُبُونَ فِي طرفه العريض مِنْهُ، وَمِنْه قَوْله: فِي الحَدِيث: (فَجعلت أتتبعه فِي العسيب) يُرِيد الْقُرْآن. قَوْله: (بِنَفر) ، بِفَتْح الْفَاء: عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله، وَكَذَلِكَ النَّفر والنفرة بالإسكان. قَوْله: (من الْيَهُود) هَذَا اللَّفْظ مَعَ اللَّام وَدون اللَّام معرفَة، وَالْمرَاد بِهِ: اليهوديون، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء النِّسْبَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، للْفرق بَين الْمُفْرد وَالْجَمَاعَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَينا أَنا) قد مر غير مرّة أَن أصل: بَينا، بَين، فأشبعت الفتحة بِالْألف، وَالْعَامِل فِيهِ جَوَابه، وَهُوَ قَوْله: (فَمر بِنَفر من الْيَهُود) لَا يُقَال الْفَاء الجزائية تمنع عمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا، فَلَا يعْمل: مر، فِي: بَينا، لأَنا نقُول: لَا نسلم أَن الْفَاء هُنَا جزائية إِذْ لَيْسَ فِي: بَين، معنى المجازاة الصَّرِيحَة، بل فِيهَا رَائِحَة مِنْهَا، وَلَئِن سلمنَا، وَلَكِن لَا نسلم مَا ذكرْتُمْ من الْمَنْع، لِأَن النُّحَاة قَالُوا فِي: أما زيدا فَأَنا ضَارب، أَن الْعَامِل فِي: زيدا، هُوَ: ضَارب، سلمنَا ذَلِك، فَنَقُول: الْعَامِل فِيهِ مر مُقَدرا، وَالْمَذْكُور يفسره. وَلنَا أَن نقُول بَين الْفَاء وَإِذا أخوة، حَيْثُ اسْتعْملت الْفَاء هَهُنَا مَوضِع إِذا. وَالْغَالِب أَن جَوَاب: بَينا، يكون: بإذا وَإِذ. وَإِن كَانَ الْأَصْمَعِي يستفصح تَركهمَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السُّؤَال مُشْتَرك الْإِلْزَام إِذْ هُوَ بِعَيْنِه وَارِد فِي إِذْ وَإِذا حَيْثُ يَقع شي مِنْهُمَا جَوَابا لبين. لِأَن إِذْ وَإِذا أنَّى كَانَ هُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده، والمضاف إِلَيْهِ لَا يعْمل فِي الْمُضَاف، فبالطريق الأولى لَا يعْمل فِي الْمُقدم على الْمُضَاف، فَمَا هُوَ جوابكم فِي إِذْ، فَهُوَ جَوَابنَا فِي الْفَاء. قَوْله: (مَعَ النَّبِي) حَال، أَي: مصاحبا مَعَه. قَوْله: (وَهُوَ يتَوَكَّأ) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (مَعَه) صفة لعسيب قَوْله: (من الْيَهُود) بَيَان للنفر لعسيب. قَوْله: (سلوه) أَصله: اسألوه، أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لَا تسلوه) أَصله: لَا تسألوه. قَوْله: (لَا يَجِيء فِيهِ) يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. الأول: الْجَزْم على جَوَاب النَّهْي، أَي: لَا تسألوه لَا يجىء بمكروه. الثَّانِي: النصب على معنى: لَا تسألوه إِرَادَة أَن لَا يَجِيء فِيهِ، وَلَا زَائِدَة، وَهَذَا ماشٍ على مَذْهَب الْكُوفِيّين. وَقَالَ السُّهيْلي: النصب فِيهِ بعيد لِأَنَّهُ على معنى: أَن. الثَّالِث: الرّفْع على الْقطع، أَي: لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه. قلت: المُرَاد أَنه رفع على الِاسْتِئْنَاف. قَوْله: (لنسألنه) جَوَاب لقسم مَحْذُوف. قَوْله: (يابا الْقَاسِم) أَصله يَا أَبَا الْقَاسِم، حذفت الْهمزَة من الْأَب تَخْفِيفًا. قَوْله: (فَسكت) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقُمْت) عطف على: فَقلت. قَوْله: (قَالَ) جَوَاب قَوْله: (فَلَمَّا انجلى) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَقُمْت) : أَي: حَتَّى لَا أكون مشوشا عَلَيْهِ، أَو قُمْت حَائِلا بَينه وَبينهمْ. قَوْله: (فَلَمَّا انجلى) أَي: فحين انْكَشَفَ الكرب الَّذِي كَانَ يتغشاه حَال الْوَحْي، قَالَ: {ويسألونك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: 85) وسؤالهم عَن الرّوح بقَوْلهمْ: مَا الرّوح؟ مُشكل إِذْ لَا يعلم(2/200)
مُرَادهم، لِأَن الرّوح جَاءَ فِي الْقُرْآن على معَان. قَالَ الله تَعَالَى: {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} (الشُّعَرَاء: 193) وَقَالَ: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا} (الْقدر: 4) وَقَالَ: {روحا من أمرنَا} (الشورى: 52) {يَوْم يقوم الرّوح} (النبإ: 38) فَلَو عينوا سُؤَالهمْ لأمكنه أَن يُجِيبهُمْ. قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن أَن يكون سُؤَالهمْ عَن روح بني آدم، لِأَنَّهُ مَذْكُور فِي التَّوْرَاة أَنه لَا يُعلمهُ: إِلَّا الله. وَقَالَت الْيَهُود: إِن فسر الرّوح فَلَيْسَ بِنَبِي، فَلذَلِك لم يجبهم. قَالَ عِيَاض وَغَيره: اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الرّوح المسؤول عَنْهَا، فَقيل: سَأَلُوهُ عَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَقَالَ لَهُم: الرّوح من أَمر الله، يَعْنِي: إِنَّمَا هُوَ شَيْء من أَمر الله تَعَالَى، كَمَا تَقول النَّصَارَى، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يكتم تَفْسِير الرّوح. وَعَن ابْن عَبَّاس وَعلي رَضِي الله عَنْهُم: هُوَ ملك من الْمَلَائِكَة يقوم صفا، وَتقوم الْمَلَائِكَة صفا. قَالَ تَعَالَى: {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا} (النبإ: 38) وَقيل: جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ السَّلَام وَقيل: الْقُرْآن، لقَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} (الشورى: 52) وَقَالَ أَبُو صَالح: هُوَ خلق كخلق بني آدم لَيْسُوا ببني آدم لَهُم أيد وأرجل. وَقيل: طَائِفَة من الْخلق لَا ينزل ملك إِلَى الأَرْض إلاَّ نزل مَعَه أحدهم. وَقيل: ملك لَهُ أحد عشر ألف جنَاح وَألف وَجه يسبح الله تَعَالَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقيل: علم الله أَن الْأَصْلَح لَهُم أَن لَا يُخْبِرهُمْ مَا هُوَ، لِأَن الْيَهُود قَالُوا: إِن فسر الرّوح فَلَيْسَ بِنَبِي، وَهَذَا معنى قَوْله: (لَا تسألوه لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه) ، فقد جَاءَهُم بذلك لِأَن عِنْدهم فِي التَّوْرَاة كَمَا ذكره لَهُم أَنه من أَمر الله تَعَالَى، لن يطلع عَلَيْهِ أحد. وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن نَفرا من الْيَهُود قَالُوا: يَا مُحَمَّد {أخبرنَا عَن أَربع نَسْأَلك عَنْهُن ... وَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَالُوا يَا مُحَمَّد} أخبرنَا عَن الرّوح. قَالَ: أنْشدكُمْ بِاللَّه هَل تعلمُونَ جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الَّذِي يأتيني؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نعم، وَلكنه يَا مُحَمَّد هُوَ لنا عَدو وَهُوَ ملك يَأْتِي بالشدة وَسَفك الدِّمَاء، وَلَوْلَا ذَلِك لاتبعناك. فَأنْزل الله تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لجبريل} (الْبَقَرَة: 97) قَالَ بَعضهم: هَذَا يدل على أَن سُؤَالهمْ عَن الرّوح الَّذِي هُوَ جِبْرِيل، وَالله أعلم.
وَأما روح بني آدم فَقَالَ الْمَازرِيّ: الْكَلَام على الرّوح مِمَّا يدق، وَقد ألفت فِيهِ التآليف، وأشهرها مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ: إِنَّه النَّفس الدَّاخِل وَالْخَارِج. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: هُوَ مُتَرَدّد بَين مَا قَالَه الْأَشْعَرِيّ وَبَين الْحَيَاة. وَقيل: جسم مشارك للأجسام الظَّاهِرَة والأعضاء الظَّاهِرَة. وَقيل: جسم لطيف خلقه الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وأجرى الْعَادة بِأَن الْحَيَاة لَا تكون مَعَ فَقده فَإِذا شَاءَ الله مَوته أعدم هَذَا الْجِسْم مِنْهُ عِنْد انعدام الْحَيَاة، وَهَذَا الْجِسْم وَإِن كَانَ حَيا فَلَا يحيى إِلَّا بحياة تخْتَص بِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَصح عَلَيْهِ الْبلُوغ إِلَى جسمٍ مَا من الْأَجْسَام، وَيكون فِي مَكَان فِي الْعَالم، أَو فِي حواصل طير خضر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا وَقع فِي الظَّوَاهِر، إِلَى غَيره من جَوَاهِر الْقلب، والجسم الْحَيَاة. وَقَالَ غَيرهمَا: هُوَ الدَّم. وَقد ذكر بَعضهم فِي الرّوح سبعين قولا.
وَاخْتلف هَل الرّوح وَالنَّفس وَاحِد أم لَا؟ وَالأَصَح أَنَّهُمَا متغايران، فَإِن النَّفس الإنسانية هِيَ الْأَمر الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ كل وَاحِد منا بقوله: أَنا، وَأكْثر الفلاسفة لم يفرقُوا بَينهمَا. قَالُوا: النَّفس هُوَ الْجَوْهَر البُخَارِيّ اللَّطِيف الْحَامِل لقُوَّة الْحَيَاة والحس وَالْحَرَكَة الإرادية، ويسمونها: الرّوح الحيوانية، وَهِي الْوَاسِطَة بَين الْقلب الَّذِي هُوَ النَّفس الناطقة،، وَبَين الْبدن. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء وَالْغَزالِيّ: النَّفس مُجَرّدَة، أَي: غير جسم وَلَا جسماني. وَقَالَ الْغَزالِيّ: الرّوح جَوْهَر مُحدث قَائِم بِنَفسِهِ غير متحيز، وَإنَّهُ لَيْسَ بداخل الْجِسْم وَلَا خَارِجا عَنهُ، وَلَيْسَ مُتَّصِلا بِهِ وَلَا مُنْفَصِلا عَنهُ، وَذَلِكَ لعدم التحيز الَّذِي هُوَ شَرط الْكَوْن فِي الْجِهَات، وَاعْترض عَلَيْهِ بِوُجُوه قد عرفت فِي موضعهَا. وَقيل: الرّوح عرض لِأَنَّهُ لَو كَانَ جوهرا، والجواهر مُتَسَاوِيَة فِي الجوهرية، للَزِمَ أَن يكون للروح روح آخر وَهُوَ فَاسد. وَقيل: إِنَّه جَوْهَر فَرد متحيز وَإنَّهُ خلاف الْحَيَاة الْقَائِمَة بالجسم الحيواني، وَإنَّهُ حَامِل للصفات المعنوية. وَقيل: إِنَّه صُورَة لَطِيفَة على صُورَة الْجِسْم لَهَا عينان وأذنان ويدان ورجلان فِي دَاخل الْجِسْم يُقَابل كل جُزْء مِنْهُ عُضْو نَظِيره من الْبدن وَهُوَ خيال. وَقيل: إِنَّه جسم لطيف فِي الْبدن سَار فِيهِ سريان مَاء الْورْد فِيهِ، وَعَلِيهِ اعْتمد عَامَّة الْمُتَكَلِّمين من أهل السّنة.
وَقد كثر الِاخْتِلَاف فِي أَمر الرّوح بَين الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء الْمُتَقَدِّمين قَدِيما وحديثا، وأطلقوا أَعِنَّة النّظر فِي شَرحه، وخاضوا فِي غَمَرَات ماهيته، فأكثرهم تاهوا فِي التيه، فالأكثرون مِنْهُم على أَن الله تَعَالَى أبهم علم الرّوح على الْخلق واستأثره لنَفسِهِ حَتَّى قَالُوا: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن عَالما بِهِ. قلت: جلّ منصب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ حبيب الله وَسيد خلقه، أَن يكون غير عَالم بِالروحِ، وَكَيف وَقد منَّ الله عَلَيْهِ بقوله: {وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} (النِّسَاء: 113) . وَقد قَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الرّوح لَا يعلم وَلَا على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يعلمهَا.
قَوْله: (قَالَ الْأَعْمَش) أَي: سُلَيْمَان بن مهْرَان. قَوْله: (هَكَذَا فِي قراءتنا) رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: كَذَا فِي قراءتنا، يَعْنِي أُوتُوا بِصِيغَة الْغَائِب، وَلَيْسَت هَذِه(2/201)
الْقِرَاءَة فِي السَّبْعَة وَلَا فِي الْمَشْهُورَة فِي غَيرهَا، وَقد أغفلها أَبُو عبيد فِي كتاب الْقرَاءَات لَهُ من قِرَاءَة الْأَعْمَش. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَكثر نسخ البُخَارِيّ وَمُسلم: وَمَا أُوتُوا. وَذكر مُسلم الِاخْتِلَاف فِي هَذِه اللَّفْظَة عَن الْأَعْمَش، فَرَوَاهُ وَكِيع على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة. وَرَوَاهُ عِيسَى بن يُونُس عَنهُ: وَمَا أُوتُوا. قَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف المحدثون فِيمَا وَقع من ذَلِك، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْإِصْلَاح على الصَّوَاب، وَاحْتج أَنه إِنَّمَا قصد بِهِ الِاسْتِدْلَال على مَا سيقت بِسَبَبِهِ، وَلَا حجَّة إلاَّ فِي الصَّحِيح الثَّابِت فِي الْمُصحف. وَقَالَ قوم: تتْرك على حَالهَا وينبه عَلَيْهَا، لِأَن من الْبعيد خَفَاء ذَلِك على الْمُؤلف وَمن نقل عَنهُ وهلم جرا، فلعلها قِرَاءَة شَاذَّة. قَالَ عِيَاض: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ لَا يحْتَج بِهِ فِي حكم وَلَا يقْرَأ فِي صَلَاة. قَالَ: وَاخْتلف أَصْحَاب الْأُصُول فِيمَا نقل آحادا، وَمِنْه الْقِرَاءَة الشاذة كمصحف ابْن مَسْعُود وَغَيره، هَل هُوَ حجَّة أم لَا؟ فنفاه الشَّافِعِي، وأثبته أَبُو حنيفَة وَبنى عَلَيْهِ وجوب التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود من قَوْله: (ثَلَاث أَيَّام مُتَتَابِعَات) . وَبقول الشَّافِعِي قَالَ الْجُمْهُور، وَاسْتَدَلُّوا بِأَن الرَّاوِي لَهُ إِن ذكره على أَنه قُرْآن فخطأ وإلاَّ فَهُوَ مُتَرَدّد بَين أَن يكون خَبرا أَو مذهبا لَهُ، فَلَا يكون حجَّة بِالِاحْتِمَالِ وَلَا خَبرا، لِأَن الْخَبَر مَا صرح الرَّاوِي فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيحمل على أَنه مَذْهَب لَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة، إِذا لم يثبت كَونه قُرْآنًا فَلَا أقل من كَونه خَبرا. وَقَالَ الْغَزالِيّ وَالْفَخْر الرَّازِيّ: خبر الْوَاحِد لَا دَلِيل على كَونه كذبا، وَهَذَا خطأ قطعا، وَالْخَبَر الْمَقْطُوع بكذبه لَا يجوز أَن يعْمل بِهِ، وَنَقله قُرْآنًا خطأ. قلت: لَا نسلم أَن هَذَا خطأ قطعا، لِأَنَّهُ خبر صَحَابِيّ أَو خبر عَنهُ، وَأي دَلِيل قَامَ على أَنه خبر مَقْطُوع بكذبه، وَقَول الصَّحَابِيّ حجَّة عِنْده؟ .
48 - بابُ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الإِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْض النَّاسِ عَنْهُ فَيقعُوا فِي أشَدَّ مِنْهُ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من ترك ... الخ. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، وَأَرَادَ بِالِاخْتِيَارِ: الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى: من ترك فعل الشَّيْء الْمُخْتَار أَو الْإِعْلَام بِهِ، و: مَخَافَة، نصب على التَّعْلِيل أَي لأجل خوف أَن يقصر. و: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الْجَرّ بِالْإِضَافَة، و: فهم بعض النَّاس، بِالرَّفْع فَاعل يقصر. قَوْله: (فيقعوا) عطف على قَوْله: (يقصر) ، فَلذَلِك سقط مِنْهُ النُّون عَلامَة للنصب. قَوْله: (فِي أَشد مِنْهُ) أَي من ترك الِاخْتِيَار، وَفِي بعض النّسخ: (فِي أشر مِنْهُ) وَفِي بَعْضهَا: (فِي شَرّ مِنْهُ) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول ترك الْجَواب للسَّائِل لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وَهَهُنَا أَيْضا ترك بعض الْمُخْتَار لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وَهُوَ أَن بِنَاء الْكَعْبَة كَانَ جَائِزا، وَلكنه ترك إِعْلَام جَوَازه لكَوْنهم قريب الْعَهْد بالْكفْر، فخشي أَن تنكر ذَلِك قُلُوبهم، فَتَركه.
67 - (حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود قَالَ قَالَ لي ابْن الزبير كَانَت عَائِشَة تسر إِلَيْك كثيرا فَمَا حدثتك فِي الْكَعْبَة قلت قَالَت لي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عَائِشَة لَوْلَا قَوْمك حَدِيث عَهدهم قَالَ ابْن الزبير بِكفْر لنقضت الْكَعْبَة فَجعلت لَهَا بَابَيْنِ بَاب يدْخل النَّاس وَبَاب يخرجُون فَفعله ابْن الزبير الحَدِيث مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة الْمَعْنى وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك نقض الْكَعْبَة الَّذِي هُوَ الِاخْتِيَار مَخَافَة أَن تَتَغَيَّر عَلَيْهِ قُرَيْش لأَنهم كَانُوا يعظمونها جدا فيقعون بِسَبَب ذَلِك فِي أَمر أَشد من ذَلِك الِاخْتِيَار (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة تقدم ذكرهم مَا خلا إِسْرَائِيل وَالْأسود أما إِسْرَائِيل فَهُوَ ابْن يُونُس بن أبي اسحق السبيعِي الْهَمدَانِي الْكُوفِي أَبُو يُوسُف قَالَ أَحْمد كَانَ شَيخا ثِقَة وَجعل يتعجب من حفظه سمع جده أَبَا إِسْحَق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى سبيع ابْن سبع بن صَعب بن مُعَاوِيَة بن كثير بن مَالك بن جشم بن حاشد ولد إِسْرَائِيل فِي سنة مائَة وَمَات فِي سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَأما الْأسود فَهُوَ ابْن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ خَال إِبْرَاهِيم أدْرك زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره مَاتَ سنة خمس وَسبعين بِالْكُوفَةِ سَافر ثَمَانِينَ حجَّة وَعمرَة وَلم يجمع بَينهمَا وَكَذَا ابْنه عبد الرَّحْمَن بن الْأسود سَافر ثَمَانِينَ حجَّة وَعمرَة وَلم يجمع بَينهمَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانَ يَقُول فِي تلبيته لبيْك أَنا الْحَاج ابْن الْحَاج وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم سَبْعمِائة رَكْعَة وَصَارَ عظما وجلدا وَكَانُوا يسمون آل الْأسود أهل الْجنَّة مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين روى لَهُ الْجَمَاعَة وَفِي الصَّحِيحَيْنِ الْأسود جمَاعَة غير هَذَا مِنْهُم الْأسود بن عَامر شَاذان.(2/202)
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) وَمِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته إِلَى الْأسود كوفيون. وَمِنْهَا أَن فِيهِ صحابيين والْحَدِيث دائر بَينهمَا (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَفِي التَّمَنِّي عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص. وَمُسلم فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور عَن أبي الْأَحْوَص وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان كِلَاهُمَا عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن الْأسود عَن عَائِشَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث عُرْوَة وَحَدِيث عبد الله بن الزبير وَفِيه سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِيمَا انْفَرد بِهِ أَن عبد الْملك بن مَرْوَان بَيْنَمَا هُوَ يطوف بِالْبَيْتِ قَالَ قَاتل الله ابْن الزبير حَيْثُ يكذب على أم الْمُؤمنِينَ يَقُول سَمعتهَا تَقول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عَائِشَة لَوْلَا حدثان قَوْمك بالْكفْر لنقضت الْبَيْت حَتَّى أَزِيد فِيهِ من الْحجر فَإِن قَوْمك اقتصروا فِي الْبناء فَقَالَ الْحَارِث بن عبد الله ابْن أبي ربيعَة لَا تقل هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي سَمعتهَا تحدث بِهَذَا قَالَ لَو كنت سمعته قبل أَن أهدمه لتركته على بِنَاء ابْن الزبير (بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب) قَوْله تسر من الْإِسْرَار خلاف الإعلان فَإِن قلت قَوْله كَانَت للماضي وتسر للمضارع فَكيف اجْتمعَا قلت تسر بِمَعْنى أسررت وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة الْإِسْرَار وَهُوَ جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر كَانَت قَوْله كثيرا نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف اي إسرارا كثيرا قَوْله مَا حدثتك كلمة مَا استفهامية فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وحدثتك جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِيهِ الرَّاجِع إِلَى عَائِشَة وَالْمَفْعُول هُوَ الْكَاف وَهِي أَيْضا فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر الْمُبْتَدَأ قَوْله فِي الْكَعْبَة أَي فِي شَأْن الْكَعْبَة واشتقاقها من الكعوب وَهُوَ النُّشُوز وَهِي أَيْضا نَاشِرَة من الأَرْض وَقَالَ الْجَوْهَرِي سميت بذلك لتربيعها يُقَال برد مكعب أَي فِيهِ وشى مربع قَوْله قلت قائلة الْأسود وَقَوله قَالَت لي مقول القَوْل قَوْله لَوْلَا قَوْمك كلمة لَوْلَا هَهُنَا لربط امْتنَاع الثَّانِيَة بِوُجُود الأولى نَحْو لَوْلَا زيد لأكرمتك أَي لَوْلَا زيد مَوْجُود لأكرمتك وَقَوله قَوْمك كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَقَوله حَدِيث عَهدهم خبر الْمُبْتَدَأ فَإِن قلت قَالَت النُّحَاة يجب كَون خبر لَوْلَا كونا مُطلقًا محذوفا فَمَا باله هَهُنَا لم يحذف قلت إِنَّمَا يجب الْحَذف إِذا كَانَ الْخَبَر عَاما وَإِمَّا إِذا كَانَ خَاصّا فَلَا يجب حذفه قَالَ الشَّاعِر
(وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد)
وَقَوله حَدِيث بِالتَّنْوِينِ وَعَهْدهمْ كَلَام إضافي مَرْفُوع بِإِسْنَاد حَدِيث إِلَيْهِ لِأَن حَدِيثا صفة مشبهة وَهُوَ أَيْضا يعْمل عمل فعله وَفِي بعض النّسخ لَوْلَا أَن قَوْمك بِزِيَادَة أَن وَلَيْسَ بِمَشْهُور قَوْله قَالَ ابْن الزبير جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل قَوْله بِكفْر يتَعَلَّق بقوله حَدِيث عَهدهم وَلكنه من كَلَام ابْن الزبير قَوْله لنقضت الْكَعْبَة جَوَاب لَوْلَا قَوْله فَجعلت عطف على نقضت قَوْله بَاب يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا النصب على أَنه بدل أَو بَيَان لبابين وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْآخر رفع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره أَحدهمَا بَاب قَوْله يدْخل النَّاس جملَة وَقعت صفة لباب وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره يدْخلهُ النَّاس وَفِي بعض النّسخ يدْخل النَّاس مِنْهُ فعلى هَذَا لَا يقدر شَيْء وَكَذَا يخرجُون مِنْهُ فِي بعض النّسخ. (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله قَالَ ابْن الزبير وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ فَقَالَ ابْن الزبير بِكفْر أَرَادَ أَنه أذكرهُ ابْن الزبير بقولِهَا بِكفْر كَأَن الْأسود نسي ذَلِك وَأما مَا بعْدهَا وَهُوَ قَوْله لنقضت إِلَى آخِره فَيحْتَمل أَن يكون مِمَّا نسي أَيْضا أَو مِمَّا ذكر وَقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود بِتَمَامِهِ إِلَّا قَوْله بِكفْر فَقَالَ بدلهَا بجاهلية وَكَذَا البُخَارِيّ فِي الْحَج من طَرِيق أُخْرَى عَن الْأسود وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق وَلَفظه قلت حَدَّثتنِي حَدِيثا حفظت أَوله ونسيت آخِره ورجحها الْإِسْمَاعِيلِيّ على رِوَايَة إِسْرَائِيل وعَلى قَوْله يكون فِي رِوَايَة شُعْبَة أدراج وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي قَوْله قَالَ ابْن الزبير فَإِن قلت هَذَا الْكَلَام لَا دخل لَهُ فِي الْبَيَان لصِحَّة أَن يُقَال لَوْلَا قَوْمك حَدِيث عَهدهم بِكفْر لنقضت بل ذكره مخل لعدم انضباط الْكَلَام مَعَه قلت لَيْسَ مخلا إِذْ غَرَض الْأسود إِنِّي كَمَا وصلت إِلَى لفظ عَهدهم فسر ابْن الزبير الحداثة بالحداثة إِلَى الْكفْر فَيكون لفظ بِكفْر فَقَط من كَلَام ابْن الزبير وَالْبَاقِي(2/203)
من تَتِمَّة الحَدِيث أَو غَرَضه أَنِّي لما رويت أول الحَدِيث بَادر ابْن الزبير إِلَى رِوَايَة آخِره إشعارا بِأَن الحَدِيث مَعْلُوم لَهُ أَيْضا أَو أَن الْأسود أَشَارَ إِلَى أول الحَدِيث كَمَا يُقَال قَرَأت {الم ذَلِك الْكتاب} وَأَرَادَ بِهِ السُّورَة بِتَمَامِهَا فَبين ابْن الزبير أَن آخِره ذَلِك قلت هَذِه ثَلَاثَة أجوبة وَلَيْسَ الصَّوَاب مِنْهَا إِلَّا الْجَواب الثَّانِي لِأَن عبد الله بن الزبير روى الحَدِيث أَيْضا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ قَالَ أَيْضا فَإِن قلت فالقدر الَّذِي ذكره ابْن الزبير هَل هُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ قلت اللَّفْظ يَقْتَضِي الْوُقُوف إِذْ لم يسْندهُ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن السِّيَاق يدل على أَنه مَرْفُوع وَالرِّوَايَات الْأُخَر أَيْضا دَالَّة على رَفعه قلت من علم أَن ابْن الزبير أَيْضا روى هَذَا الحَدِيث عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا السُّؤَال وَلَا إِلَى جَوَابه قَوْله فَفعله ابْن الزبير أَي فعل الْمَذْكُور من النَّقْض وَجعل الْبَابَيْنِ قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين قَالُوا بني الْبَيْت خمس مَرَّات بنته الْمَلَائِكَة ثمَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة وَحضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْبناء وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ وَقيل خمس وَعشْرين وَفِيه سقط على الأَرْض حِين رفع إزَاره ثمَّ بناه ابْن الزبير ثمَّ بناه حجاج بن يُوسُف وَاسْتمرّ. ويروى أَن هَارُون سَأَلَ مَالِكًا عَن هدمها وردهَا إِلَى بِنَاء ابْن الزبير للأحاديث الْمَذْكُورَة فَقَالَ مَالك نشدتك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا تجْعَل هَذَا الْبَيْت لعبة للملوك لَا يَشَاء أحد إِلَّا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صُدُور النَّاس انْتهى قلت بنته الْمَلَائِكَة أَولا ثمَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ العمالقة ثمَّ جرهم ثمَّ قُرَيْش وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ رجل شَاب ثمَّ ابْن الزبير ثمَّ حجاج (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول قَالَ ابْن بطال فِيهِ أَنه قد يتْرك يسير من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ إِذا خشِي مِنْهُ أَن يكون سَببا لفتنة قوم ينكرونه. الثَّانِي فِيهِ أَن النُّفُوس تحب أَن تساس كلهَا لما تأنس إِلَيْهِ فِي دين الله من غير الْفَرَائِض. الثَّالِث قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ أَنه إِذا تَعَارَضَت مصلحَة ومفسدة وَتعذر الْجمع بَين فعل الْمصلحَة وَترك الْمفْسدَة بَدَأَ بالأهم لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَن رد الْكَعْبَة إِلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مصلحَة وَلَكِن يُعَارضهُ مفْسدَة أعظم مِنْهُ وَهِي خوف فتْنَة بعض من أسلم قَرِيبا لما كَانُوا يرَوْنَ تغييرها عَظِيما فَتَركهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّابِع فِيهِ فكر ولي الْأَمر فِي مصَالح رَعيته وَاجْتنَاب مَا يخَاف مِنْهُ تولد ضَرَر عَلَيْهِم فِي دين أَو دنيا إِلَّا الْأُمُور الشَّرْعِيَّة كأخذ الزَّكَاة وَإِقَامَة الْحَد الْخَامِس فِيهِ تأليف قُلُوبهم وَحسن حياطتهم وَأَن لَا ينفروا وَلَا يتَعَرَّض لما يخَاف تنفيرهم بِسَبَبِهِ مَا لم يكن فِيهِ ترك أَمر شَرْعِي السَّادِس اسْتدلَّ بِهِ أَبُو مُحَمَّد الْأصيلِيّ مِنْهُ فِي مسَائِل من النِّكَاح فِي جَارِيَة يتيمة غنية كَانَ لَهَا ابْن عَم وَكَانَ فِيهِ ميل إِلَى الصباء فَخَطب ابنت عَمه وخطبها رجل غَنِي فَمَال إِلَيْهِ الْوَصِيّ وَكَانَت الْيَتِيمَة تحب ابْن عَمها ويحبها فَأبى وصيها أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ وَرفع ذَلِك إِلَى القَاضِي وشاور فُقَهَاء بَلَده فكلهم أفتى أَن لَا يُزَوّج ابْن عَمها وَأفْتى الْأصيلِيّ أَن تزوج مِنْهُ خشيَة أَن يقعا فِي الْمَكْرُوه اسْتِدْلَالا بِهَذَا الحَدِيث فزوجت مِنْهُ
(بَاب من خص بِالْعلمِ قوما دون قوم كَرَاهِيَة أَن لَا يفهموا)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من خص وَكلمَة من مَوْصُولَة وَقَوله دون قوم بِمَعْنى غير قوم قَوْله كَرَاهِيَة بِالنّصب على التَّعْلِيل مُضَاف إِلَى قَوْله أَن لَا يفهموا وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير لأجل كَرَاهِيَة عدم فهم الْقَوْم الَّذين هم غير الْقَوْم الَّذين خصهم بِالْعلمِ والكراهية بتَخْفِيف الْيَاء مصدر الْكَرَاهَة من كره الشَّيْء يكرههُ كَرَاهَة وكراهية. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ أَن فِي الْبَاب الأول ترك بعض الْمُخْتَار مَخَافَة قُصُور فهم بعض النَّاس وَهَهُنَا أَيْضا ترك بعض النَّاس من التَّخْصِيص بِالْعلمِ لقُصُور فهمهم والترجمتان متقاربتان غير أَن الأولى فِي الْأَفْعَال وَهَذِه فِي الْأَقْوَال (وَقَالَ عَليّ حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله) أَي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ كَذَا وَقع هَذَا الْأَثر مُبْتَدأ بِهِ بِصُورَة التَّعْلِيق فِي أصل الْهَرَوِيّ والدمياطي ثمَّ عقب بِالْإِسْنَادِ وَسقط كُله فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني قَوْله حدثوا بِصِيغَة الْأَمر أَي كلموا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ أَي بِمَا يفهمون وَالْمرَاد كلموهم على قدر عُقُولهمْ وَفِي كتاب الْعلم لآدَم بن أبي إِيَاس عَن عبد الله بن دَاوُد عَن مَعْرُوف فِي آخِره(2/204)
ودعوا مَا يُنكرُونَ أَي مَا يشْتَبه عَلَيْهِم فهمه وَفِيه دَلِيل على أَن الْمُتَشَابه لَا يَنْبَغِي أَن يذكر عِنْد الْعَامَّة وَمثله قَوْله ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ذكره مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه بِسَنَد صَحِيح قَالَ مَا أَنْت بمحدث قوما حَدِيثا لَا يبلغهُ عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لبَعْضهِم فتْنَة قَوْله أتحبون الْهمزَة للاستفهام وتحبون بِالْخِطَابِ قَوْله أَن يكذب بِصِيغَة الْمَجْهُول وَذَلِكَ لِأَن الشَّخْص إِذا سمع مَا لَا يفهمهُ وَمَا لَا يتَصَوَّر إِمْكَانه يعْتَقد استحالته جهلا فَلَا يصدق وجوده فَإِذا أسْند إِلَى الله وَرَسُوله يلْزم تكذيبهما
حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن مَعْرُوف بن خَرَّبُوذ عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ بذلك أَي حَدثنَا بالأثر الْمَذْكُور عَن عَليّ عبيد الله بن مُوسَى بن باذام عَن مَعْرُوف بن خَرَّبُوذ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره ذال مُعْجمَة وَقد روى بَعضهم بِضَم الْخَاء الْمَكِّيّ مولى قُرَيْش قَالَ يحيى بن معِين ضَعِيف وَقَالَ أَبُو حَاتِم يكْتب حَدِيثه وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سواهُ وَأخرج لَهُ مُسلم حَدِيثا فِي الْحَج وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَهُوَ يروي عَن أبي الطُّفَيْل بِضَم الطَّاء وَفتح الْفَاء عَامر بن وَاثِلَة وَقيل عَمْرو بن وَاثِلَة بالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الله بن عَمْرو بن جحش بن جرير بن سعد بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ ولد عَام أحد كَانَ يسكن الْكُوفَة ثمَّ انْتقل إِلَى مَكَّة وَعَن سعيد الْجريرِي عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ لَا يحدثك أحد الْيَوْم على وَجه الأَرْض أَنه رأى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غَيْرِي وَكَانَ من أَصْحَاب عَليّ المحبين لَهُ وَشهد مَعَه مشاهده كلهَا وَكَانَ ثِقَة ثِقَة مَأْمُونا يعْتَرف بِفضل أبي بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وروى لَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تِسْعَة أَحَادِيث وَهُوَ آخر من مَاتَ من أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على الْإِطْلَاق أخرج لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الْأَثر خَاصَّة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَأخرج لَهُ مُسلم فِي الْحَج وَصفَة النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعَن معَاذ وَعمر وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة وَغَيرهم سكن الْكُوفَة ثمَّ أَقَامَ بِمَكَّة إِلَى أَن مَاتَ بهَا سنة عشر وَمِائَة وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي كتاب الكنى لَهُ كَانَ من كبار التَّابِعين وَكَانَ صَاحب بلاغة وَبَيَان شَاعِرًا محسنا ثِقَة فَاضلا بليغا عَاقِلا إِلَّا أَنه كَانَ فِيهِ تشيع وَذكر ابْن دُرَيْد فِي كتاب الِاشْتِقَاق الْكَبِير عَن عكراش بن ذُؤَيْب قَالَ لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَله حَدِيث وَشهد الْجمل مَعَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقَالَ الْأَحْنَف كأنكم بِهِ وَقد أُتِي بِهِ قَتِيلا وَبِه جِرَاحَة لَا تُفَارِقهُ حَتَّى يَمُوت فَضرب يَوْمئِذٍ ضَرْبَة على أَنفه فَعَاشَ بعْدهَا مائَة سنة وَأثر الضَّرْبَة بِهِ فعلى هَذَا تكون وَفَاته بعد سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَوَقع فِي بعض النّسخ حَدثنَا عبد الله هُوَ ابْن مُوسَى عَن مَعْرُوف بن خَرَّبُوذ عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بذلك أَي بالأثر الْمَذْكُور وَهَذَا الْإِسْنَاد من عوالي البُخَارِيّ لِأَنَّهُ مُلْحق بالثلاثيات من حَيْثُ أَن الرَّاوِي الثَّالِث مِنْهُ صَحَابِيّ وَهُوَ أَبُو الطُّفَيْل الْمَذْكُور وعَلى قَول من يَقُول أَنه تَابِعِيّ لَيْسَ مِنْهَا وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت لم أخر الْإِسْنَاد عَن ذكر الْمَتْن قلت إِمَّا للْفرق بَين طَريقَة إِسْنَاد الحَدِيث وَإسْنَاد الْأَثر وَإِمَّا لِأَن المُرَاد ذكر الْمَتْن دَاخِلا تَحت تَرْجَمَة الْبَاب وَأما لضعف فِي الْإِسْنَاد بِسَبَب ابْن خَرَّبُوذ وَإِمَّا للتفنن وَبَيَان جَوَاز الْأَمريْنِ بِلَا تفَاوت فِي الْمَقْصُود وَلِهَذَا وَقع فِي بعض النّسخ مقدما على الْمَتْن قلت وَإِمَّا لِأَنَّهُ لم يظفر بِالْإِسْنَادِ إِلَّا بعد وضع الْأَثر مُعَلّقا وَهَذَا أقرب من كل مَا ذكره وأبعده جَوَابه الأول لعدم اطراده والأبعد من الْكل جَوَابه الْأَخير على مَا لَا يخفى
67 - (حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا معَاذ بن هَاشم قَالَ حَدثنِي أبي عَن قَتَادَة قَالَ حَدثنَا أنس بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاذ رديفه على الرحل قَالَ يَا معَاذ بن جبل قَالَ لبيْك يَا رَسُول الله وَسَعْديك قَالَ يَا معَاذ قَالَ لبيْك يَا رَسُول الله وَسَعْديك ثَلَاثًا قَالَ مَا من أحد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صدقا من قلبه إِلَّا حرمه الله على النَّار قَالَ يَا رَسُول الله أَفلا أخبر بِهِ النَّاس فيستبشروا قَالَ إِذا يتكلوا وَأخْبر بهَا معَاذ عِنْد مَوته تأثما) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خص معَاذًا بِهَذِهِ الْبشَارَة الْعَظِيمَة دون قوم آخَرين مَخَافَة أَن يقصروا فِي الْعَمَل متكلين على هَذِه الْبشَارَة فَإِن قلت تَرْجَمَة الْبَاب لتخصيص قوم وَمَا فِي الحَدِيث دلّ على تَخْصِيص شخص وَاحِد وَهُوَ معَاذ قلت الْمَقْصُود جَوَاز التَّخْصِيص إِمَّا بشخص وَإِمَّا بِأَكْثَرَ أما أَمر اخْتِلَاف الْعبارَة فسهل أَو نقُول(2/205)
لَيْسَ هَهُنَا مَخْصُوصًا بشخص لِأَن أنسا أَيْضا سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاق وَأَقل اسْم الْجمع اثْنَان أَو معَاذ كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ وَقيل لَهُ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا فَقَالَ إِنَّا كُنَّا نشبه معَاذًا بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه وَتقدم ذكره فِي بَاب فضل من علم وَعلم الثَّانِي معَاذ بِضَم الْمِيم ابْن هِشَام بِكَسْر الْهَاء وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة ابْن أبي عبد الله الدستوَائي بِالْهَمْزَةِ وَقيل بالنُّون وَقيل بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْبَصْرِيّ روى عَن أَبِيه وَابْن عون وَعنهُ أَحْمد وَغَيره قَالَ ابْن معِين صَدُوق وَلَيْسَ بِحجَّة وَعنهُ ثِقَة ثِقَة وَعَن ابْن عدي رُبمَا يغلط فِي الشَّيْء وَأَرْجُو أَنه صَدُوق مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة مِائَتَيْنِ الثَّالِث أَبوهُ تقدم فِي زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه الرَّابِع قَتَادَة بن دعامة الْخَامِس أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإفراد وَفِيه الْإِخْبَار والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته بصريون مَا خلا إِسْحَاق وَهُوَ أَيْضا دخل الْبَصْرَة وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن إِسْحَق بن مَنْصُور عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله رديفه أَي رَاكب خَلفه قَالَ ابْن سَيّده ردف الرجل وأردفه وارتدفه جعله خَلفه على الدَّابَّة ورديفك الَّذين يرادفك وَالْجمع ردفاء وردافى والردف الرَّاكِب خَلفك والرداف مَوضِع مركب الرديف وَفِي الصِّحَاح كل شَيْء تبع شَيْئا فَهُوَ ردفه وَفِي مجمع الغرائب ردفته أَي ركبت خَلفه وأردفته أركبته خَلْفي وَفِي الْجَامِع للقزاز أنكر بَعضهم الرديف وَقَالَ إِنَّمَا هُوَ الردف وَحكى ردفت الرجل وأردفته إِذا ركبت وَرَاءه وَإِذا جِئْت بعده وأرداف الْمُلُوك فِي الْجَاهِلِيَّة هم الَّذين كَانُوا يخلفون الْمُلُوك كالوزراء وَعند ابْن حبيب يركب مَعَ الْملك عديله أَو خَلفه وَإِذا قَامَ الْملك جلس مَكَانَهُ وَإِذا سقِِي الْملك سقِِي بعده وَقد جمع ابْن مَنْدَه أرداف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبلغوا نيفا وَثَلَاثِينَ ردفا قَوْله على الرحل بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ للبعير وَهُوَ أَصْغَر من القتب وَلَكِن معَاذًا رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالة رديفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حمَار كَمَا سَيَأْتِي فِي الْجِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي الْعباب الرحل رَحل الْبَعِير وَهُوَ أَصْغَر من القتب وَهُوَ من مراكب الرِّجَال دون النِّسَاء وَثَلَاثَة أرحل وَالْكثير رحال ورحلت الْبَعِير أرحله رحلا إِذا شددت على ظَهره رحلا والقتب بِالتَّحْرِيكِ رَحل صَغِير على قدر السنام قَوْله لبيْك بِفَتْح اللَّام تَثْنِيَة لب وَمَعْنَاهُ الْإِجَابَة وَقَالَ الْخَلِيل لب بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عُبَيْدَة قَالَ الْفراء وَمِنْه قَوْلهم لبيْك أَي أَنا مُقيم على طَاعَتك وَكَانَ حَقه أَن يُقَال لبالك فَثنى على معنى التَّأْكِيد أَي إلبابا لَك بعد إلباب وَإِقَامَة بعد إِقَامَة قَالَ الْخَلِيل هَذَا من قَوْلهم دَار فلَان تلب دَاري أَي تحاذيها أَي مواجهك بِمَا تحب إِجَابَة لَك وَالْيَاء للتثنية وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي فِي لبيْك أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا إجَابَتِي لَك مَأْخُوذ من لب بِالْمَكَانِ وألب بِهِ إِذا أَقَامَ بِهِ وَقَالُوا لبيْك فثنوا لأَنهم أَرَادوا إِجَابَة بعد إِجَابَة كَمَا قَالُوا حنانيك أَي رَحْمَة بعد رَحْمَة وَقَالَ بعض النَّحْوِيين أصل لبيْك لبيْك فاستثقل الْجمع بَين ثَلَاث باآت فأبدلوا من الثَّالِثَة بَاء كَمَا قَالُوا تظنيت أَصله تظننت وَالثَّانِي اتجاهي يَا رب وقصدي لَك فَثنى للتَّأْكِيد أخذا من قَوْلهم دَاري تلب دَارك أَي تواجهها وَالثَّالِث محبتي لَك يَا رب من قَول الْعَرَب امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لولدها عاطفة عَلَيْهِ وَالرَّابِع إخلاصي لَك يَا رب من قَوْلهم حسب لباب إِذا كَانَ خَالِصا مَحْضا وَمن ذَلِك لب الطَّعَام ولبابه قَوْله وَسَعْديك بِفَتْح السِّين تَثْنِيَة سعد وَالْمعْنَى إسعادا بعد إسعاد أَي أَنا مسعد طَاعَتك إسعادا بعد إسعاد فَثنى للتَّأْكِيد كَمَا فِي لبيْك قَوْله يتكلوا بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من الاتكال وَهُوَ الِاعْتِمَاد وَأَصله الاوتكال لِأَنَّهُ من وكل أمره إِلَى آخر فقلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والكشميهني يتكلوا بِسُكُون النُّون من النّكُول وَهُوَ الِامْتِنَاع يَعْنِي يمتنعوا عَن الْعَمَل اعْتِمَادًا على مُجَرّد القَوْل بِلَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَة ينكلُوا بالنُّون من النكال قلت لَيْسَ بِصَحِيح وَإِنَّمَا هُوَ من النّكُول كَمَا ذَكرْنَاهُ والنكال الْعقُوبَة الَّتِي تنكل النَّاس عَن فعل مَا جعلت لَهُ جَزَاء وَقَالَ تَعَالَى {فجعلناها نكالا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَي جعلنَا المسخة عِبْرَة تنكل من اعْتبر بهَا أَي تَمنعهُ وَمِنْه النكل للقيد النكل بِكَسْر النُّون قَوْله تأثما بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق والهمزة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي تجنبا عَن الْإِثْم يُقَال تأثم فلَان إِذا فعل فعلا خرج بِهِ عَن الْإِثْم وَالْإِثْم الَّذِي يخرج بِهِ كتمان مَا أَمر(2/206)
الله بتبليغه حَيْثُ قَالَ {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه} وَقَالَ الْجَوْهَرِي تأثم أَي تحرج عَنهُ وكف قلت هَذَا من بَاب تفعل وَله معَان مِنْهَا التجنب يَعْنِي ليدل على أَن الْفَاعِل جَانب أصل الْفِعْل نَحْو تأثم وتحرج أَي جَانب الْإِثْم والحرج (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله ومعاذ بِالرَّفْع مُبْتَدأ أَو رَدِيف خَبره أَو الْجُمْلَة حَال قَوْله على الرحل حَال أَيْضا قَوْله قَالَ يَا معَاذ فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر إِن أَعنِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله يَا معَاذ بن جبل يجوز فِي معَاذ وَجْهَان من الْإِعْرَاب أَحدهمَا النصب على أَنه مَعَ مَا بعده كاسم وَاحِد مركب والمنادى الْمُضَاف مَنْصُوب وَالْآخر الرّفْع على أَنه منادى مُفْرد علم وَأما ابْن فَهُوَ مَنْصُوب بِلَا خلاف وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب النصب فِي معَاذ وَقَالَ ابْن مَالك الِاخْتِيَار فِيهِ الضَّم لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى اعتذار وَقَالَ ابْن التِّين يجوز النصب على أَن قَوْله معَاذ زَائِد فالتقدير يَابْنَ جبل وَفِيه مَا فِيهِ قَوْله لبيْك من المصادر الَّتِي يجب حذف فعلهَا ونصبها وَكَانَ حَقه أَن يُقَال لبالك كَمَا ذكرنَا وَلكنه ثنى على معنى التَّأْكِيد وَكَذَا قَوْله وَسَعْديك مثله وَقَالَ الْأَزْهَرِي معنى لبيْك أَنا مُقيم على طَاعَتك إِقَامَة بعد إِقَامَة أَصْلهَا لبين فحذفت النُّون للإضافة قَالَ الْفراء نصب على المصدرية وَقَالَ ابْن السّكيت كَقَوْلِك حمدا وشكرا قَوْله ثَلَاثًا يتَعَلَّق بقول كل وَاحِد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاذ أَي ثَلَاث مَرَّات يَعْنِي النداء والإجابة قيلا ثَلَاثًا وَصرح بذلك من رِوَايَة مُسلم وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا معَاذ ثَلَاث مَرَّات وَقَالَ معَاذ لبيْك ثَلَاث مَرَّات فَيكون من بَاب تنَازع العاملين قلت لَا معنى لذكر الِاحْتِمَال بل الْمَعْنى على مَا ذكرنَا وَأَرَادَ بتنازع لفظ قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَعنِي قَوْله قَالَ يَا معَاذ وَقَوله قَالَ لبيْك فَإِن كلا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْعَمَل فِي ثَلَاثًا قَوْله مَا من أحد كلمة مَا للنَّفْي وَكلمَة من زَائِدَة لتأكيد النَّفْي وَاحِد اسْم مَا وَيشْهد خَبَرهَا وَكلمَة أَن مفسرة قَوْله صدقا يجوز فِي انتصابه وَجْهَان أَحدهمَا أَن يكون حَالا بِمَعْنى صَادِقا وَالْآخر أَن يكون صفة مصدر مَحْذُوف أَي شَهَادَة صدقا قَوْله من قلبه يجوز أَن يتَعَلَّق بقوله صدقا فالشهادة لفظية وَيجوز أَن يتَعَلَّق بقوله يشْهد فالشهادة قلبية قَوْله إِلَّا حرمه الله اسْتثِْنَاء من أَعم عَام الصِّفَات أَي مَا أحد يشْهد كَائِنا بِصفة التَّحْرِيم قَوْله أَفلا أخبر الْهمزَة للاستفهام ومعطوف الْفَاء مَحْذُوف تَقْدِيره أقلت ذَلِك فَلَا أخبر وَبِهَذَا يُجَاب عَمَّا قيل أَن الْهمزَة تَقْتَضِي الصدارة وَالْفَاء تَقْتَضِي عدم الصدارة فَمَا وَجه جَمعهمَا وَاعْلَم أَن همزَة الِاسْتِفْهَام إِذا كَانَت فِي جملَة معطوفة بِالْوَاو أَو بِالْفَاءِ أَو بثم قدمت على العاطف تَنْبِيها على أصالتها فِي التصدر نَحْو {أولم ينْظرُوا} {أفلم يَسِيرُوا} {أَثم إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ} وَأَخَوَاتهَا وتتأخر عَن حُرُوف الْعَطف كَمَا هُوَ قِيَاس جَمِيع أَجزَاء الْكَلِمَة المعطوفة نَحْو {وَكَيف تكفرون} {فَأَيْنَ تذهبون} {فَأنى تؤفكون} {فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ} {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ} {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} هَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَالْجُمْهُور قَوْله النَّاس بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول أخبر قَوْله فيستبشروا بِحَذْف النُّون لِأَن الْفِعْل ينصب بعد الْفَاء المجاب بهَا بعد النَّفْي والاستفهام وَالْعرض وَالتَّقْدِير فَإِن يستبشروا وَفِي رِوَايَة أبي ذَر يستبشرون بِإِثْبَات النُّون وَالتَّقْدِير فهم يستبشرون قَوْله إِذا جَوَاب وَجَزَاء أَي إِن أَخْبَرتهم يتكلوا كَأَنَّهُ قَالَ لَا تخبرهم لأَنهم حِينَئِذٍ يتكلون على الشَّهَادَة الْمُجَرَّدَة فَلَا يشتغلون بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة قَوْله تأثما نصب على أَنه مفعول لَهُ أَي مَخَافَة التأثم (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله ومعاذ هُوَ معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَوْله صدقا من قلبه احْتَرز بِهِ عَن شَهَادَة الْمُنَافِقين وَقَالَ بَعضهم الصدْق كَمَا يعبر بِهِ قولا عَن مُطَابقَة القَوْل الْمخبر عَنهُ قد يعبر بِهِ فعلا عَن تحري الْأَفْعَال الْكَامِلَة قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ} أَي حقق مَا أوردهُ قولا بِمَا تحراه فعلا قلت أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى أَيْضا الطَّيِّبِيّ حَيْثُ قَالَ قَوْله صدقا هُنَا أقيم مقَام الاسْتقَامَة وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى دفع مَا قيل فِي أَن ظَاهر الْخَبَر يَقْتَضِي عدم دُخُول جَمِيع من شهد الشَّهَادَتَيْنِ النَّار لما فِيهِ من التَّعْمِيم والتأكيد وَذَلِكَ لِأَن الْأَدِلَّة القطعية قد دلّت عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن طَائِفَة من عصاة الْمُوَحِّدين يُعَذبُونَ ثمَّ يخرجُون من النَّار بالشفاعة قَالَ الطَّيِّبِيّ وَلأَجل خَفَاء ذَلِك لم يُؤذن لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ فِي التبشير بِهِ وَقد أُجِيب عَن هَذَا بأجوبة أُخْرَى مِنْهَا أَن هَذَا مُقَيّد بِمن يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ تَائِبًا ثمَّ مَاتَ على ذَلِك وَمِنْهَا أَنه أخرج مخرج الْغَالِب إِذْ الْغَالِب أَن الموحد يعْمل الطَّاعَة ويجتنب الْمعْصِيَة وَمِنْهَا أَن المُرَاد بِتَحْرِيمِهِ على النَّار تَحْرِيم خلوده فِيهَا لَا أصل دُخُوله فِيهَا وَمِنْهَا أَن(2/207)
المُرَاد تَحْرِيم جملَته لِأَن النَّار لَا تَأْكُل مَوَاضِع السُّجُود من الْمُسلم وَكَذَا لِسَانه النَّاطِق بِالتَّوْحِيدِ وَمِنْهَا أَن ذَلِك لمن قَالَه الْكَلِمَة وَأدّى حَقّهَا وفريضتها وَهُوَ قَول الْحسن وَمِنْهَا مَا قيل أَن هَذَا كَانَ قبل نزُول الْفَرَائِض وَالْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة وَقَالَ بَعضهم فِيهِ نظر لِأَن مثل هَذَا الحَدِيث وَقع لأبي هُرَيْرَة كَمَا رَوَاهُ مُسلم وصحبته مُتَأَخِّرَة عَن نزُول أَكثر الْفَرَائِض وَكَذَا ورد نَحوه من حَدِيث أبي مُوسَى رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل بِإِسْنَاد حسن وَكَانَ قدومه فِي السّنة الَّتِي قدم فِيهَا أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قلت فِي النّظر نظر لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو مُوسَى عَن أنس رَضِي الله عَنهُ كِلَاهُمَا قد روياه عَنهُ مَا رَوَاهُ قبل نزُول الْفَرَائِض وَوَقعت رِوَايَتهَا بعد نزُول أَكثر الْفَرَائِض قَوْله إِلَّا حرمه الله على النَّار معنى التَّحْرِيم الْمَنْع كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها} فَإِن قلت هَل فِي الْمَعْنى فرق بَين حرمه الله على النَّار وَحرم الله عَلَيْهِ النَّار قلت لَا اخْتِلَاف إِلَّا فِي المفهومين وَأما المعنيان فمتلازمان فَإِن قلت هَل تفَاوت بَين مَا فِي الحَدِيث وَمَا ورد فِي الْقُرْآن {حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة} قلت يحْتَمل أَن يُقَال النَّار منصرفة وَالْجنَّة منصرف مِنْهَا وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا هُوَ على المنصرف أنسب فروعي الْمُنَاسبَة قَوْله قَالَ إِذا يتكلوا قد قُلْنَا أَن مَعْنَاهُ إِن أَخْبَرتهم يمتنعوا عَن الْعَمَل اعْتِمَادًا على الْكَلِمَة وروى الْبَزَّار من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي هَذِه الْقَضِيَّة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن لِمعَاذ رَضِي الله عَنهُ فِي التبشير فَلَقِيَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ لَا تعجل ثمَّ دخل فَقَالَ يَا نَبِي الله أَنْت أفضل رَأيا أَن النَّاس إِذا سمعُوا ذَلِك اتكلوا عَلَيْهَا قَالَ فَرده فَرده وَهَذَا معدوده موافقات عمر رَضِي الله عَنهُ قلت فِيهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد بِحَضْرَتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله عِنْد مَوته أَي عِنْد موت معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الْكرْمَانِي الضَّمِير فِي مَوته يرجع إِلَى معَاذ وَإِن احْتمل أَن يرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والعندية على هَذَا الِاحْتِمَال بِاعْتِبَار التَّأَخُّر عَن الْمَوْت وعَلى الأول أَي على مَا هُوَ الظَّاهِر بِاعْتِبَار التَّقَدُّم على الْمَوْت وَقَالَ بَعضهم أغرب الْكرْمَانِي فَقَالَ يحْتَمل أَن يرجع الضَّمِير إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت وَيَردهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أَخْبرنِي من شهد معَاذًا حِين حَضرته الْوَفَاة يَقُول سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا لم يَمْنعنِي أَن أحدثكموه إِلَّا مَخَافَة أَن يتكلوا فَذكر الحَدِيث انْتهى كَلَامه قلت الحَدِيث الْمَذْكُور لَا يرد مَا قَالَه الْكرْمَانِي وَلَا يُنَافِيهِ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون أخبر بِهِ النَّاس عِنْد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والآخرين عِنْد موت نَفسه وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا ثمَّ إِن صَنِيع معَاذ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّهْي عَن التبشير كَانَ على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم وَإِلَّا لما كَانَ يخبر بِهِ أصلا وَقد قيل أَن النَّهْي كَانَ مُقَيّدا بالاتكال فَأخْبر بِهِ من لَا يخْشَى عَلَيْهِ ذَلِك وَبِهَذَا خرج الْجَواب عَمَّا قيل هَب أَنه تأثم من الكتمان فَكيف لَا يتأثم من مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التبشير وَقيل أَن الْمَنْع لم يكن إِلَّا من الْعَوام لِأَنَّهُ من الْأَسْرَار الإلهية لَا يجوز كشفها إِلَّا للخواص خوفًا من أَن يسمع ذَلِك من لَا علم لَهُ فيتكل عَلَيْهِ وَلِهَذَا لم يخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا من أَمن عَلَيْهِ الاتكال من أهل الْمعرفَة وسلك معَاذ أَيْضا هَذَا المسلك حَيْثُ أخبر بِهِ من الْخَاص من رَآهُ أَهلا لذَلِك وَلَا يبعد أَيْضا أَن يُقَال نِدَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا ثَلَاث مَرَّات كَانَ للتوقف فِي إفشاء هَذَا السِّرّ عَلَيْهِ أَيْضا وَقَالَ عِيَاض لَعَلَّ معَاذًا لم يفهم النَّهْي لَكِن كسر عزمه عَمَّا عرض لَهُ من تبشيرهم وَقَالَ بَعضهم الرِّوَايَة الْآتِيَة صَرِيحَة فِي النَّهْي قلت لَا نسلم أَن النَّهْي صَرِيح فِي الحَدِيث الْآتِي وَإِنَّمَا فهم النَّهْي من الْحَدِيثين كليهمَا بِدلَالَة النَّص وَهِي فحوى الْخطاب قَوْله وَأخْبر بهَا الخ مدرج من أنس رَضِي الله عَنهُ (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ أَنه يجب أَن يخص بِالْعلمِ قوم فيهم الضَّبْط وَصِحَّة الْفَهم وَلَا يبْذل الْمَعْنى اللَّطِيف لمن لَا يستأهله من الطّلبَة وَمن يخَاف عَلَيْهِ التَّرَخُّص والاتكال لتقصير فهمه الثَّانِي فِيهِ جَوَاز ركُوب الِاثْنَيْنِ على دَابَّة وَاحِدَة الثَّالِث فِيهِ منزلَة معَاذ رَضِي الله عَنهُ وعزته عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّابِع فِيهِ تكْرَار الْكَلَام لنكتة وَقصد معنى الْخَامِس فِيهِ جَوَاز الاستفسار من الإِمَام عَمَّا يتَرَدَّد فِيهِ واستئذانه فِي إِشَاعَة مَا يعلم بِهِ وَحده السَّادِس فِيهِ الْإِجَابَة بلبيك وَسَعْديك السَّابِع فِيهِ بِشَارَة عَظِيمَة للموحدين
68 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا مُعْتَمر قَالَ سَمِعت أبي قَالَ سَمِعت أنسا قَالَ ذكر لي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ من لَقِي الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل الْجنَّة قَالَ أَلا أبشر النَّاس قَالَ لَا إِنِّي أَخَاف أَن يتكلوا)(2/208)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة. الأول مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ لم يكن من بني تيم وَإِنَّمَا كَانَ نازلا فيهم وَهُوَ مولى بني مرّة روى عَن أَبِيه وَمَنْصُور وَغَيرهمَا وَعنهُ ابْن مهْدي وَغَيره وَكَانَ ثِقَة صَدُوقًا رَأْسا فِي الْعلم وَالْعِبَادَة كأبيه ولد سنة سِتّ وَمِائَة وَمَات سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ وَيُقَال كَانَ أكبر من سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِسنة روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث أَبوهُ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَكَانَ ينزل فِي بني مرّة فَلَمَّا تكلم بِالْقدرِ أَخْرجُوهُ فَقبله بَنو تَمِيم وقدموه وَصَارَ إِمَامًا لَهُم قَالَ شُعْبَة مَا رَأَيْت أصدق من سُلَيْمَان كَانَ إِذا حدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تغير لَونه وَكَانَ من الْعباد الْمُجْتَهدين يُصَلِّي اللَّيْل كُله بِوضُوء الْعشَاء الْآخِرَة كَانَ هُوَ وَابْنه مُعْتَمر يدوران بِاللَّيْلِ فِي الْمَسَاجِد فيصليان فِي هَذَا الْمَسْجِد مرّة وَفِي ذَلِك أُخْرَى مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة وَكَانَ مائلا إِلَى عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع مكررا وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم بصريون وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَمِنْهَا أَنه من الرباعيات العوالي وَهَذَا حَدِيث لم يُخرجهُ غير البُخَارِيّ. (بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني) قَوْله قَالَ ذكر لي الضَّمِير فِي قَالَ يرجع إِلَى أنس وَهِي جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَقَوله ذكر على صِيغَة الْمَجْهُول وَلم يسم أنس من ذكر لَهُ ذَلِك رَوَاهُ عَن معَاذ رَضِي الله عَنهُ وَكَذَلِكَ جَابر بن عبد الله قَالَ أَخْبرنِي من شهد معَاذًا حِين حَضرته الْوَفَاة الحَدِيث كَمَا بَيناهُ عَن قريب وَلم يسم من ذكر لَهُ وَذَلِكَ لِأَن معَاذًا رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا حدث بِهِ عِنْد مَوته بِالشَّام وَجَابِر وَأنس حِينَئِذٍ كَانَا بِالْمَدِينَةِ وَلم يشهداه وَقد حضر فِي ذَلِك من معَاذ عَمْرو بن مَيْمُون الأودي أحد المخضرمين كَمَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْجِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة الصَّحَابِيّ أَنه سمع ذَلِك من معَاذًا أَيْضا فَيحْتَمل أَن يكون الذاكر لأنس رَضِي الله عَنهُ إِمَّا عَمْرو بن مَيْمُون وَإِمَّا عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَالله أعلم وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت لفظ ذكر يَقْتَضِي أَن يكون هَذَا تَعْلِيقا من أنس وَلما لم يكن الذاكر لَهُ مَعْلُوما كَانَ من بَاب الرِّوَايَة عَن الْمَجْهُول فَهَل هُوَ قَادِح فِي الحَدِيث قلت التَّعْلِيق لَا يُنَافِي الصِّحَّة إِذا كَانَ الْمَتْن ثَابتا من طَرِيق آخر وَكَذَا الْجَهَالَة إِذْ مَعْلُوم أَن أنسا لَا يروي إِلَّا عَن الْعدْل سَوَاء رَوَاهُ عَن الصَّحَابِيّ أَو غَيره فَفِي الْجُمْلَة يحْتَمل فِي المتابعات والشواهد مَا لَا يحْتَمل فِي الْأُصُول قلت هَذَا لَيْسَ بتعليق أصلا والذاكر لَهُ مَعْلُوم عِنْده غير أَنه أبهمه عِنْد رِوَايَته وَلَيْسَ ذَلِك قادحا فِي رِوَايَة الصَّحَابِيّ قَوْله من لَقِي الله مقول القَوْل وَكلمَة من مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَقَوله دخل الْجنَّة خَبره وَالْمعْنَى من لَقِي الْأَجَل الَّذِي قدره الله يَعْنِي الْمَوْت قَوْله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا جملَة وَقعت حَالا وَالْمعْنَى من مَاتَ حَال كَونه موحدا حِين الْمَوْت وَبِهَذَا يُجَاب عَمَّا قيل الْإِشْرَاك لَا يتَصَوَّر فِي الْقِيَامَة وَحقّ الظَّاهِر أَن يُقَال وَلم يُشْرك بِهِ أَي فِي الدُّنْيَا وَجَوَاب آخر أَن أَحْكَام الدُّنْيَا مستصحبة إِلَى الْآخِرَة فَإِذا لم يُشْرك فِي الدُّنْيَا عِنْد الِانْتِقَال إِلَى الْآخِرَة صدق أَنه لَا يُشْرك فِي الْآخِرَة فَإِن قلت التَّوْحِيد بِدُونِ إِثْبَات الرسَالَة كَيفَ يَنْفَعهُ فَلَا بُد من انضمام مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله قلت هُوَ مثل من تَوَضَّأ صحت صلَاته أَي عِنْد حُصُول شَرَائِط الصِّحَّة فَمَعْنَاه من لَقِي الله موحدا عِنْد الْإِيمَان بِسَائِر مَا يجب الْإِيمَان بِهِ أَو علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من النَّاس من يعْتَقد أَن الْمُشرك أَيْضا يدْخل الْجنَّة فَقَالَ ردا لذَلِك الِاعْتِقَاد الْفَاسِد من لَقِي الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل الْجنَّة فَإِن قلت هَل يدْخل الْجنَّة وَإِن لم يعْمل عملا صَالحا قلت يدْخل وَإِن لم يعْمل إِمَّا قبل دُخُول النَّار وَإِمَّا بعده وَذَلِكَ بِمَشِيئَة الله تَعَالَى إِن شَاءَ عَفا عَنهُ وَإِن شَاءَ عذبه ثمَّ أدخلهُ الْجنَّة وَقَالَ بَعضهم قَوْله لَا يُشْرك بِهِ اقْتصر على نفي الْإِشْرَاك لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي التَّوْحِيد بالاقتضاء ويستدعي إِثْبَات الرسَالَة باللزوم إِذْ من كذب رسل الله فقد كذب الله وَمن كذب الله فَهُوَ مُشْرك قلت هَذَا تصور لَا يُوجد مَعَه التَّصْدِيق فَإِن أَرَادَ بالاقتضاء على اصْطِلَاح أهل الْأُصُول فَلَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفى وَإِن أَرَادَ بِهِ على اصْطِلَاح غير أهل الْأُصُول فَلم يذهب أحد مِنْهُم إِلَى هَذِه الْعبارَة فِي الدلالات وَقَوله أَيْضا وَمن كذب الله فَهُوَ مُشْرك لَيْسَ كَذَلِك فَإِن المكذب لَا يُقَال لَهُ إِلَّا كَافِر قَوْله قَالَ أَي معَاذ إِلَّا أبشر النَّاس أَي بذلك وَإِلَّا للتّنْبِيه وأبشر النَّاس جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول قَوْله قَالَ أَي النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي أَخَاف أَن يتكلوا وَهَذِه رِوَايَة كَرِيمَة أَعنِي بِإِثْبَات إِنِّي وَفِي رِوَايَة غَيرهَا قَالَ لَا أَخَاف بِغَيْر إِنِّي فكلمة لَا للنَّهْي وَلَيْسَت دَاخِلَة على أَخَاف وَإِنَّمَا الْمَعْنى لَا تبشر ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ أَخَاف وَفِي رِوَايَة الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده عَن عبيد الله بن معَاذ عَن مُعْتَمر قَالَ لَا دعهم فليتنافسوا فِي الْأَعْمَال فَإِنِّي أَخَاف أَن يتكلوا(2/209)
وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير إِنِّي أَخَاف اتكالهم على مُجَرّد الْكَلِمَة
(بَاب الْحيَاء فِي الْعلم)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحيَاء فِي الْعلم وَالْحيَاء مَمْدُود وَهُوَ تغير وانكسار يعتري الْإِنْسَان عِنْد خوف مَا يعاب أَو يذم وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي فَإِن قلت مَا مُرَاده بِالْحَيَاءِ فِي الْعلم اسْتِعْمَاله فِيهِ أَو تَركه قلت مُرَاده كِلَاهُمَا وَلَكِن بِحَسب الْموضع فاستعماله مَطْلُوب فِي مَوضِع وَتَركه مَطْلُوب فِي مَوضِع فَالْأول هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِحَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا وَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بالأثر الْمَرْوِيّ عَن مُجَاهِد وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا فالحياء فِي الْقسم الأول ممدوح وَفِي الثَّانِي مَذْمُوم وَلَكِن إِطْلَاق الْحيَاء على هَذَا الْقسم بطرِيق الْمجَاز لِأَنَّهُ لَيْسَ بحياء حَقِيقَة وَإِنَّمَا هُوَ عجز وكسل وَسمي حَيَاء لشبهه بِالْحَيَاءِ الْحَقِيقِيّ فِي التّرْك فَافْهَم فَإِن قلت مَا الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ قلت من حَيْثُ أَنه لما كَانَ الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق تَخْصِيص قوم دون قوم بِالْعلمِ لِمَعْنى ذكر فِيهِ ذكر هَذَا الْبَاب عَقِيبه تَنْبِيها على أَنه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يستحي من السُّؤَال مِمَّا لَهُ فِيهِ حَاجَة زاعما أَن الْعلم مَخْصُوص بِقوم دون قوم بل عَلَيْهِ أَن يسْأَل عَن كل مَا لَا يُعلمهُ من أَمر دينه ودنياه (وَقَالَ مُجَاهِد لَا يتَعَلَّم الْعلم مستحي وَلَا مستكبر) مُطَابقَة هَذَا الْأَثر الَّذِي أخرجه مُعَلّقا على مُجَاهِد بن جبر التَّابِعِيّ الْكَبِير لترجمة الْبَاب فِي الْوَجْه الثَّانِي من الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرناهما فِي الْحيَاء وَهُوَ الْوَجْه الَّذِي فِيهِ ترك الْحيَاء مَطْلُوب وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ قَوْله مستحي بِإِسْكَان الْحَاء وباليائين ثَانِيهمَا سَاكِنة من اسْتَحى يستحي فَهُوَ مستحي على وزن مستفعل وَيجوز فِيهِ مستحي بياء وَاحِدَة من اسْتَحى يستحي فَهُوَ مستحي على وزن مستفع وَيجوز مستح أَيْضا بِدُونِ الْيَاء على وزن مستف وَيكون الذَّاهِب فِيهِ عين الْفِعْل ولامه وفاؤه بَاقٍ وَكَذَلِكَ يُقَال فِي استحييت استحيت بياء وَاحِدَة فأعلوا الْيَاء الأولى وألقوا حركتها على الْحَاء قبلهَا استثقالا لما دخلت عَلَيْهِ الزَّوَائِد قَالَ سِيبَوَيْهٍ حذفت لالتقاء الساكنين لِأَن الْيَاء الأولى تقلب ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا قَالَ وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك حَيْثُ كثر فِي كَلَامهم وَقَالَ الْمَازرِيّ لم تحذف لالتقاء الساكنين لِأَنَّهَا لَو حذفت لذَلِك لردوها إِذا قَالُوا هُوَ يستحي ولقالوا يستحيي كَمَا قَالُوا يستبيع وَقَالَ الْأَخْفَش اسْتَحى بياء وَاحِدَة لُغَة تَمِيم وبيائين لُغَة أهل الْحجاز وَهُوَ الأَصْل لِأَن مَا كَانَ مَوضِع لامه مُعْتَلًّا لم يعلوا عينه أَلا ترى أَنهم قَالُوا أَحييت وحويت وَيَقُولُونَ قلت وبعت فيعلون الْعين لما لم تعتل اللَّام وَإِنَّمَا حذفوا الْيَاء لِكَثْرَة استعمالهم لهَذِهِ الْكَلِمَة كَمَا قَالُوا لَا أدر فِي لَا أَدْرِي قَوْله وَلَا مستكبر أَي مستعظم فِي نَفسه وَهُوَ الَّذِي يتعاظم ويستنكف أَن يتَعَلَّم الْعلم والاستكبار والتكبر هُوَ التعظم وللعلم آفَات فأعظمها الاستنكاف وثمرته الْجَهْل والذلة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَسُئِلَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بِمَ حصلت الْعلم الْعَظِيم فَقَالَ مَا بخلت بالإفادة وَلَا استنكفت عَن الاستفادة (وَقَالَت عَائِشَة نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار لم يمنعهن الْحيَاء أَن يتفقهن فِي الدّين) مُطَابقَة هَذَا الْأَثر الْمُعَلق أَيْضا مثل مُطَابقَة الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن مُجَاهِد وَقَالَ الْكرْمَانِي وَقَالَت عطف على وَقَالَ مُجَاهِد وَيحْتَمل أَن يكون عطفا على لَا يتَعَلَّم فَيكون من مقول مُجَاهِد أَيْضا وَالأَصَح أَن مُجَاهدًا سمع من عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قلت هَذَا تعسف وَالصَّوَاب مَا قَالَه أَولا من أَنه عطف على قَالَ مُجَاهِد فَهَذَا من كَلَام مُجَاهِد وَهَذَا من كَلَام عَائِشَة وَلَيْسَ لأَحَدهمَا تعلق بِالْآخرِ وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبيد الله بن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا شُعْبَة عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت نعم النِّسَاء نسَاء الْأَنْصَار لم يكن يمنعهن الْحيَاء أَن يسألن عَن الدّين ويتفقهن فِيهِ قَوْله نعم النِّسَاء كلمة نعم من أَفعَال الْمَدْح كَمَا أَن بئس من أَفعَال الذَّم وَهِي مَا وضع لإنشاء مدح أَو ذمّ وَشَرطهَا أَن يكون الْفَاعِل مُعَرفا بِاللَّامِ أَو مُضَافا إِلَى(2/210)
الْمُعَرّف بهَا وهما فعلان بِدَلِيل جَوَاز اتِّصَال تَاء التَّأْنِيث الساكنة بهما فِي كل اللُّغَات وَيجوز حذفهَا وَإِن كَانَ الْفَاعِل مؤنثا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ غير متصرف فَأشبه الْحَرْف وَمِنْه قَول عَائِشَة حَيْثُ قَالَت نعم النِّسَاء وَلم تقل نعمت النِّسَاء فارتفاع النِّسَاء على الفاعلية وارتفاع النِّسَاء الثَّانِيَة على أَنَّهَا مَخْصُوصَة بالمدح كَمَا فِي قَوْلك نعم الرجل زيد فَهُوَ مُبْتَدأ وَمَا قبله من الْجُمْلَة خَبره قَوْله الْحيَاء فَاعل لم يمنعهن قَوْله أَن يتفقهن تَقْدِيره عَن أَن يتفقهن وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير عَن التفقه فِي أُمُور الدّين وَالْمرَاد من نسَاء الْأَنْصَار نسَاء أهل الْمَدِينَة
69 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام قَالَ أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن أَبِيه عَن زَيْنَب ابْنة أم سَلمَة عَن أم سَلمَة قَالَت جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت يَا رَسُول الله إِن الله لَا يستحي من الْحق فَهَل على الْمَرْأَة من غسل إِذا احْتَلَمت قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رَأَتْ المَاء فغطت أم سَلمَة تَعْنِي وَجههَا وَقَالَت يَا رَسُول الله وتحتلم الْمَرْأَة قَالَ نعم تربت يَمِينك فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الأول من وَجْهي الْحيَاء اللَّذين ذكرناهما فِي أول الْبَاب. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول مُحَمَّد بن سَلام بتَخْفِيف اللَّام على الْأَكْثَر البيكندي الثَّانِي أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين الضَّرِير التَّيْمِيّ الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة الرَّابِع أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام الْخَامِس زَيْنَب بنت أم سَلمَة وَهِي زَيْنَب بنت عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي أبي سَلمَة ونسبت إِلَى الْأُم الَّتِي هِيَ أم الْمُؤمنِينَ بَيَانا لشرفها لِأَنَّهَا ربيبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإشعارا بِأَن رِوَايَتهَا عَن أمهَا وَاسْمهَا كَانَ برة فَغَيره النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى زَيْنَب وَكَانَت من أفقه نسَاء زمانها ولدتها أمهَا بِأَرْض الْحَبَشَة وقدمت بهَا وَهِي أُخْت عمر وَسَلَمَة ودرة روى لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا وَمُسلم آخر مَاتَت سنة ثَلَاث وَسبعين وروى لَهَا الْجَمَاعَة السَّادِس أم سَلمَة زوج النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة وَقد تقدم ذكرهَا فِي بَاب الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الْبِنْت عَن الْأُم. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْأَدَب عَن إِسْمَعِيل كِلَاهُمَا عَن مَالك وَفِيه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى وَفِي خلق آدم عَن زُهَيْر ثَلَاثَتهمْ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان كِلَاهُمَا عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطَّهَارَة عَن ابْن أبي عمر بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْعلم عَن شُعَيْب بن يُوسُف عَن يحيى بن سعيد بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة من حَدِيث عَائِشَة عَن أَحْمد بن صَالح عَن عَنْبَسَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن أم سليم الْأَنْصَارِيَّة وَهِي أم أنس بن مَالك قَالَت قَالَ يَا رَسُول الله إِن الله لَا يستحي من الْحق الحَدِيث (بَيَان اللُّغَات) قَوْله لَا يستحي فِيهِ لُغَتَانِ أفصحهما بالياءين وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب مُسْتَوْفِي قَوْله من الْحق وَهُوَ ضد الْبَاطِل قَوْله من غسل بِضَم الْغَيْن وَهُوَ اسْم للْفِعْل الْمَشْهُور وبفتح الْغَيْن الْمصدر وَأما الْغسْل بِالْكَسْرِ فَهُوَ اسْم مَا يغسل بِهِ كالسدر وَنَحْوه وَفِي الْمُحكم غسل الشَّيْء يغسلهُ غسلا وغسلا وَقيل الْغسْل الْمصدر وَالْغسْل الِاسْم قلت الْحَاصِل أَن الْغسْل بِالْفَتْح وَالضَّم مصدران عِنْد أَكثر أهل اللُّغَة وَبَعْضهمْ فرق بَينهمَا فَقَالُوا بِالْفَتْح الْمصدر وبالضم الِاسْم قَوْله إِذا احْتَلَمت مُشْتَقّ من الْحلم بِالضَّمِّ وَهُوَ مَا يرَاهُ النَّائِم تَقول مِنْهُ حلم بِالْفَتْح واحتلم تَقول حلمت بِكَذَا وحلمته أَيْضا والحلم بِالْكَسْرِ الأناة تَقول مِنْهُ حلم الرجل بِالضَّمِّ وتحلم تكلّف الْحلم بِالْكَسْرِ وتحلم إِذا ادّعى الرُّؤْيَا كَاذِبًا قَوْله تربت يَمِينك بِكَسْر الرَّاء من ترب الرجل إِذا افْتقر أَي لصق بِالتُّرَابِ وأترب إِذا اسْتغنى وَهَذِه الْكَلِمَة جَارِيَة على أَلْسِنَة الْعَرَب لَا يُرِيدُونَ(2/211)
بهَا الدُّعَاء على الْمُخَاطب وَلَا وُقُوع الْأَمر بهَا كَمَا يَقُولُونَ قَاتله الله وَقيل مَعْنَاهُ لله دَرك وَقيل أَرَادَ بهَا الْمثل ليرى الْمَأْمُور بذلك الْجد وَأَنه إِن خَالفه فقد أَسَاءَ وَقَالَ بَعضهم هُوَ دُعَاء على الْحَقِيقَة وَلَيْسَ بِصَحِيح وَكَثِيرًا مَا يرد للْعَرَب أَلْفَاظ ظَاهرهَا الذَّم وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بهَا الْمَدْح كَقَوْلِهِم لَا أَب لَك وَلَا أم لَك وهوت أمه وَلَا أَرض لَك وَنَحْو ذَلِك قَالَ الْهَرَوِيّ وَمِنْه قَوْله فِي حَدِيث خُزَيْمَة أنعم صباحا تربت يداك فَأَرَادَ الدُّعَاء لَهُ وَلم يرد الدُّعَاء عَلَيْهِ وَالْعرب تَقول لَا أم لَك وَلَا أَب لَك يُرِيدُونَ لله دَرك وَقَالَ عِيَاض هَذَا خطاب على عَادَة الْعَرَب فِي اسْتِعْمَال هَذِه الْأَلْفَاظ عِنْد الْإِنْكَار للشَّيْء والتأنيس أَو الْإِعْجَاب أَو الاستعظام لَا يُرِيدُونَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ قلت ولذوي الْأَلْبَاب فِي هَذَا الْبَاب أَن ينْظرُوا إِلَى اللَّفْظ وقائله فَإِن كَانَ وليا فَهُوَ الْوَلَاء وَإِن خشن وَإِن كَانَ عدوا فَهُوَ الْبلَاء وَإِن حسن (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله لَا يستحي جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر إِن قَوْله فَهَل للاستفهام وَكلمَة من فِي من غسل زَائِدَة أَي هَل غسل يجب على الْمَرْأَة قَوْله إِذا رَأَتْ المَاء كلمة إِذا ظرفية تَقْدِيره عَلَيْهَا غسل حِين رَأَتْ الْمَنِيّ إِذا انْتَبَهت وَيجوز أَن تكون شَرْطِيَّة تَقْدِيره إِذا رَأَتْ وَجب عَلَيْهَا غسل وَالْمَاء مَنْصُوب بقوله رَأَتْ من رُؤْيَة الْعين قَوْله فغطت فعل وَأم سَلمَة فَاعله ووجهها مَفْعُوله قَوْله وتحتلم الْمَرْأَة عطف على مُقَدّر يَقْتَضِيهِ السِّيَاق أَي أَتَقول ذَلِك أَو أَتَرَى الْمَرْأَة المَاء وتحتلم وَنَحْوه وروى أَو تحتلم الْمَرْأَة بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام قَوْله تربت فعل ويمينك كَلَام إضافي فَاعله وَالْجُمْلَة خبرية فِي الأَصْل وَلكنهَا دُعَاء فِي الِاسْتِعْمَال وَقيل على حَالهَا خبر لِأَنَّهُ لَا يُرَاد حَقِيقَتهَا قَوْله فَبِمَ أَصله فبمَا فحذفت الْألف قَوْله يشبهها فعل ومفعول وَالضَّمِير يرجع إِلَى الْمَرْأَة قَوْله وَلَدهَا بِالرَّفْع فَاعل (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله إِن الله لَا يستحي أَي لَا يمْتَنع من بَيَان الْحق فَكَذَا أَنا لَا أمتنع من سُؤَالِي عَمَّا أَنا محتاجة إِلَيْهِ مِمَّا تَسْتَحي النِّسَاء فِي الْعَادة من السُّؤَال عَنهُ لِأَن نزُول الْمَنِيّ مِنْهُنَّ يدل على شدَّة شهوتهن للرِّجَال وَإِنَّمَا فسرناه هَكَذَا لِأَن الْحيَاء تغير وانكسار يعتري الْإِنْسَان من تخوف مَا يعاب بِهِ أَو يذم وَهَذَا محَال على الله تَعَالَى فَيكون هَذَا جَارِيا على سَبِيل الِاسْتِعَارَة التّبعِيَّة التمثيلية كَمَا فِي حَدِيث سلمَان قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله حَيّ كريم يستحي إِذا رفع العَبْد يَدَيْهِ أَن يردهما صفرا حَتَّى يضع فيهمَا خيرا شبه ترك الله إِجَابَة العَبْد ورد يَدَيْهِ إِلَيْهِ صفرا بترك الْكَرِيم ورده الْمُحْتَاج حَيَاء فَقيل ترك الله الرَّد حَيَاء كَمَا قيل ترك الْكَرِيم رد الْمُحْتَاج حَيَاء فَأطلق الْحيَاء ثمَّة كَمَا أطلق الْحيَاء هَهُنَا فَلذَلِك استعير ترك الله المستحيي لترك الْحق ثمَّ نفى عَنهُ قَوْله فغطت أم سَلمَة الظَّاهِر أَن هَذَا من كَلَام زَيْنَب فَالْحَدِيث ملفق من رِوَايَة صحابيتين وَيحْتَمل أَن يكون من أم سَلمَة على سَبِيل الِالْتِفَات كَأَنَّهَا جردت من نَفسهَا شخصا فأسندت إِلَيْهِ التغطية إِذْ أصل الْكَلَام فغطيت وَجْهي وَقلت يَا رَسُول الله قَوْله يَعْنِي وَجههَا هَذَا الإدراج من عُرْوَة ظَاهرا وَيحْتَمل أَن يكون من راو آخر وَهَذَا إدراج فِي إدراج قَوْله فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث أنس فَمن أَيْن يكون الشّبَه مَاء الرجل غليظ أَبيض وَمَاء الْمَرْأَة رَقِيق أصفر فمني أَيهمَا علا أَو سبق يكون مِنْهُ الشّبَه وَفِي حَدِيث عَائِشَة وَهل يكون الشّبَه إِلَّا من قبل ذَلِك إِذا علا مَاؤُهَا مَاء الرجل أشبه الْوَلَد أَخْوَاله وَإِذا علا مَاء الرجل ماءها أشبه أَعْمَامه وَقَالَ بَعضهم فِيهِ رد على من يَقُول أَن مَاء الرجل يخالط دم الْمَرْأَة وَأَن مَاء الرجل كالأنفحة ودمها كاللبن الحليب (فَائِدَة) جَاءَ عَن جمَاعَة من الصحابيات أَنَّهُنَّ سألن كسؤال أم سليم مِنْهُنَّ خَوْلَة بنت حَكِيم أخرجه ابْن مَاجَه وَفِي إِسْنَاده عَليّ بن زيد بن جدعَان وبسرة ذكره ابْن أبي شيبَة وسهلة بنت سُهَيْل رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَفِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة وَالْأَحَادِيث فِيهِ عَن أم سَلمَة وَعَائِشَة وَأنس رَضِي الله عَنْهُم وَلم يخرج البُخَارِيّ غير حَدِيث أم سَلمَة وَأخرج مُسلم أَحَادِيث الثَّلَاثَة وَحَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت لَهُ وَعَائِشَة عِنْده يَا رَسُول الله الْمَرْأَة ترى مَا يرى الرجل فِي الْمَنَام وَترى من نَفسهَا مَا يرى الرجل من نَفسه فَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فضحت النِّسَاء تربت يَمِينك وَحَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ عُرْوَة عَنْهَا أَنَّهَا أخْبرته أَن أم سليم دخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر الحَدِيث وَفِيه قَالَت عَائِشَة فَقلت لَهَا أُفٍّ لَك أَتَرَى الْمَرْأَة ذَلِك قلت أم سليم بِضَم السِّين وَفتح اللَّام بنت ملْحَان بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبالنون النجارية الْأَنْصَارِيَّة اسْمهَا سهلة أَو رميلة أَو رميثة بالراء فيهمَا وبالمثلثة فِي الثَّانِي(2/212)
أَو مليكَة أَو الغميصاء أَو الرميصاء بالصَّاد الْمُهْملَة فيهمَا والخمسة الْأَخِيرَة بِصِيغَة التصغير تزَوجهَا مَالك بن النَّضر بالضاد الْمُعْجَمَة أَبُو أنس بن مَالك فَولدت لَهُ أنسا ثمَّ قتل عَنْهَا مُشْركًا فَأسْلمت فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَة وَهُوَ مُشْرك فَأَبت ودعته إِلَى الْإِسْلَام فَأسلم فَقَالَت إِنَّنِي أتزوجك وَلَا آخذ مِنْك صَدَاقا لإسلامك فَتَزَوجهَا أَبُو طَلْحَة رُوِيَ لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة عشر حَدِيثا أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا ثَلَاثَة وَأخرج مُسلم حديثين واتفقا على وَاحِد روى لَهَا الْجَمَاعَة سوى ابْن مَاجَه (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ ترك الاستحياء لمن عرضت لَهُ مَسْأَلَة الثَّانِي فِيهِ وجوب الْغسْل على الْمَرْأَة إِذا وجدت المَاء وَكَذَا على الرجل لِأَن حكمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على وَاحِد حكمه على الْجَمَاعَة إِلَّا إِذا دلّ دَلِيل على تَخْصِيصه بِهِ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم الْقزْوِينِي الشَّافِعِي حكم الْمَرْأَة فِي ثُبُوت الْغسْل بِخُرُوج منيها كَالرّجلِ وَالرجل لمنيه خَواص ثَلَاث إِحْدَاهَا الرَّائِحَة المشبهة برائحة الطّلع أَو الْعَجِين إِذا كَانَ رطبا وَإِذا جف أشبه رَائِحَة الْبيض الثَّانِيَة التدفق بدفقات الثَّالِثَة اللَّذَّة بِخُرُوجِهِ ويعقبه فتور وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط لَا يعرف فِي حَقّهَا إِلَّا بالشهوة وَقَالَ فِي كِتَابه الْوَجِيز إِذا تلذذت بِخُرُوج مَائِهَا لَزِمَهَا الْغسْل وَهَذَا إِشْعَار مِنْهُمَا أَن طَريقَة معرفَة الْمَنِيّ فِي حَقّهَا الشَّهْوَة والتلذذ لَا غير وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بالتسوية بَين مني الرجل ومني الْمَرْأَة فِي طرد الْخَواص الثَّلَاث قَالَ الْبَغَوِيّ إِذا خرج مني الْمَرْأَة بِشَهْوَة أَو غير شَهْوَة وَجب الْغسْل كمني الرجل وَقَالَ الرَّافِعِيّ وَإِذا وَجب مَعَ انْتِفَاء الشَّهْوَة كَانَ الِاعْتِمَاد على بَقِيَّة الْخَواص وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح مُعْتَرضًا على الْقزْوِينِي فِي قَوْله أَن قَول الْأَكْثَرين التَّسْوِيَة بَين مني الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْخَواص الثَّلَاث وَأنكر أَنه قَول الْأَكْثَرين قَالَ وَإِنَّمَا لَهُ خاصيتان الرَّائِحَة والشهوة فالشهوة ذكرهَا الإِمَام وَالْغَزالِيّ والرائحة ذكرهَا الرَّوْيَانِيّ وَأنكر الثَّالِثَة وَهِي التدفق بدفقات للْمَرْأَة وَقَالَ الشَّيْخ مُحي الدّين وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ إِلَّا أَنَّهَا إِن كَانَ الْمَنِيّ ينزل إِلَى فرجهَا وَوصل إِلَى الْموضع الَّذِي يجب عَلَيْهَا غسله فِي الْجَنَابَة والاستنجاء وَهُوَ الَّذِي يظْهر حَال قعودها لقَضَاء الْحَاجة يجب عَلَيْهَا الْغسْل لِأَنَّهُ فِي حكم الظَّاهِر وَإِن كَانَت بكرا لم يلْزمهَا مَا لم يخرج من فرجهَا لِأَن دَاخل فرجهَا كداخل احليل الرجل قلت لَا خلاف فِي مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يجب عَلَيْهَا الْغسْل إِلَّا بِرُؤْيَة المَاء وَمُرَاد الْغَزالِيّ وَغَيره بقوله لَا يعرف من جِهَتهَا إِلَّا بالشهوة والتلذذ يُرِيد بِهِ تعْيين هَذِه الْخَاصَّة فِي حَقّهَا دون الخاصيتين الموجودتين فِي مني الرجل على اخْتِيَاره لَا غير ذَلِك وَقد ذكر الْغَزالِيّ فِي الْوَجِيز إِذا تلذذت الْمَرْأَة بِخُرُوج منيها فَأثْبت خُرُوجه قلت هَذَا تَحْرِير مَذْهَب الشَّافِعِي فِي هَذَا الْموضع وَطول الْكَلَام فِيهِ لغلط جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة فِيهِ الثَّالِث فِيهِ إِثْبَات أَن الْمَرْأَة لَهَا مَاء الرَّابِع فِيهِ إِثْبَات الْقيَاس وإلحاق حكم النظير بالنظير
70 - (حَدثنَا إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنِي مَالك عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن من الشّجر شَجَرَة لَا يسْقط وَرقهَا وَهِي مثل الْمُسلم حَدثُونِي مَا هِيَ فَوَقع النَّاس فِي شجر الْبَادِيَة وَوَقع فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخْلَة قَالَ عبد الله فَاسْتَحْيَيْت فَقَالُوا يَا رَسُول الله أخبرنَا بهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ النَّخْلَة قَالَ عبد الله فَحدثت أبي بِمَا وَقع فِي نَفسِي فَقَالَ لِأَن تكون قلتهَا أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كمطابقة الحَدِيث السَّابِق وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب قَول الْمُحدث حَدثنَا وَأخْبرنَا وَذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع تعلقاته وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس بن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ قَوْله فَحدثت أبي أَي عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَوْله لِأَن تكون بِفَتْح اللَّام وَإِنَّمَا قَالَ قلتهَا بالماضي مَعَ قَوْله تكون وَهُوَ مضارع لِأَن الْغَرَض مِنْهُ لِأَن تكون فِي الْحَال مَوْصُوفا بِهَذَا القَوْل الصَّادِر فِي الْمَاضِي قَوْله أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا أَي من حمر النعم وَغَيرهَا وَلَفظ كَذَا مَوْضُوع للعدد الْمُبْهم وَهُوَ من الْكِنَايَات قَالَ ابْن بطال وَفِي تمني عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يُجَاوب ابْنه النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم بِمَا وَقع فِي نَفسه فِيهِ من الْفِقْه أَن الرجل يباخ لَهُ الْحِرْص على ظُهُور ابْنه فِي الْعلم على الشُّيُوخ وسروره بذلك. وَقيل إِنَّمَا تمنى ذَلِك رَجَاء أَن يسر النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم بإصابته(2/213)
فيدعو لَهُ وَفِيه أَن الابْن الْمُوفق الْعَالم أفضل مكاسب الدُّنْيَا لقَوْله لِأَن تكون قلتهَا أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا
(بَاب من استحيا فَأمر غَيره بالسؤال)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان الشَّخْص الَّذِي استحيى من الْعَالم أَن يسْأَل عَنهُ بِنَفسِهِ فَأمر غَيره بالسؤال عَنهُ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لِأَن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على الْحيَاء
71 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش عَن مُنْذر الثَّوْريّ عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن عَليّ قَالَ كنت رجلا مذاء فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ فِيهِ الْوضُوء) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول مُسَدّد بن مسرهد الثَّانِي عبد الله بن دَاوُد بن عَامر بن الرّبيع الْخُرَيْبِي نِسْبَة إِلَى خريبة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي محلّة بِالْبَصْرَةِ أَبُو مُحَمَّد أَو أَبُو عبد الرَّحْمَن الْهَمدَانِي الْكُوفِي الأَصْل قَالَ يحيى بن معِين ثِقَة مَأْمُون وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَمُحَمّد بن سعد كَانَ ثِقَة ناسكا وَيُقَال عَنهُ أَنه قَالَ مَا كذبت كذبة قطّ إِلَّا مرّة فِي صغري قَالَ لي أبي ذهبت إِلَى الْمَكَان فَقلت بلَى وَلم أكن ذهبت وَقَالَ أَبُو حَاتِم كَانَ يمِيل إِلَى الرَّأْي وَكَانَ صَدُوقًا روى لَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا مُسلما توفّي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ والكتب الْأَرْبَعَة عبد الله بن دَاوُد غير هَذَا نعم فِي التِّرْمِذِيّ آخر واسطي مُخْتَلف فِيهِ الثَّالِث سُلَيْمَان بن الْأَعْمَش الرَّابِع مُنْذر بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة ابْن يعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام أَبُو يعلى الثَّوْريّ بالثاء الْمُثَلَّثَة الْكُوفِي وَثَّقَهُ أَحْمد بن عبد الله وَعبد الرَّحْمَن روى لَهُ الْجَمَاعَة الْخَامِس مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة هُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب الْهَاشِمِي أَبُو الْقَاسِم وَالْحَنَفِيَّة أمه وَهِي خَوْلَة بنت جَعْفَر الْحَنَفِيّ اليمامي وَكَانَت من سبي بني حنيفَة ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ مَاتَ سنة ثَمَانِينَ أَو إِحْدَى وَثَمَانِينَ أَو أَربع عشرَة وَمِائَة وَدفن بِالبَقِيعِ روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي وحجازي. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ وَهُوَ الْأَعْمَش يروي عَن غير التَّابِعِيّ وَهُوَ مُنْذر. وَمِنْهَا مَا قيل لَا يعلم أحد أسْند عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر وَلَا أصح مِمَّا أسْند مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن جرير قَالَ وَرَوَاهُ شُعْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر عَن وَكِيع وَأبي مُعَاوِيَة وهشيم وَعَن يحيى بن حبيب بن عَرَبِيّ عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة خمستهم عَن الْأَعْمَش عَن الْمُنْذر بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ من وُجُوه مُخْتَلفَة فَأخْرجهُ مُسلم من حَدِيث عبد الله بن وهب عَن مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أرْسلت الْمِقْدَاد بن الْأسود إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان كَيفَ يفعل بِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وانضح فرجك وَأخرج النَّسَائِيّ عَن هناد بن السّري عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ كنت رجلا مذاء وَكَانَت ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتي فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل فَقلت لرجل جَالس إِلَى جَنْبي سَله فَسَأَلَهُ فَقَالَ فِيهِ الْوضُوء وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن عمر وَحدثنَا هشيم عَن يزِيد بن أبي زِيَاد وَعَن مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا حُسَيْن بن عَليّ عَن زَائِدَة عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ قَالَ سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي فَقَالَ من الْمَذْي الْوضُوء وَمن الْمَنِيّ الْغسْل قَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَأخرج أَحْمد فِي مُسْنده عَن أسود بن عَامر حَدثنَا إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَق عَن هانىء بن هانىء عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت رجلا مذاء فَإِذا مذيت اغْتَسَلت وَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَحِك فَقَالَ فِيهِ(2/214)
الْوضُوء وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدثنَا قُتَيْبَة عَن سعيد حَدثنَا عُبَيْدَة بن حميد الْحذاء عَن أبي بكر بن الرّبيع عَن حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت رجلا مذاء فَجعلت أَغْتَسِل حَتَّى تشقق ظَهْري قَالَ فَذكرت ذَلِك للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو ذكر لَهُ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تفعل إِذا رَأَيْت الْمَذْي فاغسل ذكرك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة فَإِذا نضحت المَاء فاغتسل وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَأخرج النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء عَن عايش بن أنس قَالَ سَمِعت عليا رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر يَقُول كنت رجلا مذاء فَأَرَدْت أَن أسأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتَحْيَيْت عَنهُ لِأَن ابْنَته كَانَت تحتي فَأمرت عمارا فَسَأَلَهُ فَقَالَ يَكْفِي مِنْهُ الْوضُوء وَأخرج الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد حَدثنَا أُميَّة بن بسطَام قَالَ حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع قَالَ حَدثنَا روح بن الْقَاسِم عَن ابْن أبي نجيح عَن عَطاء عَن إِيَاس بن خَليفَة عَن رَافع بن خديج أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَمر عمارا أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عُثْمَان بن عبد الله عَن أُميَّة بن بسطَام إِلَى آخِره نَحوه (بَيَان اللُّغَة وَالْإِعْرَاب) قَوْله رجلا خبر كَانَ ومذاء بِالنّصب صفته وَهُوَ على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ للْمُبَالَغَة فِي كَثْرَة الْمَذْي وَقد مذى الرجل يمذي من بَاب ضرب يضْرب وأمذى والمذاء المماذاة فعال مِنْهُ وَيُقَال مذى بِالتَّشْدِيدِ أَيْضا والمذي بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبكسر الذَّال وَتَشْديد الْيَاء وبكسر الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْيَاء حكى ذَلِك عَن ابْن الْأَعرَابِي وَهُوَ المَاء الرَّقِيق الَّذِي يخرج عِنْد الملاعبة والتقبيل وَقَالَ ابْن الْأَثِير هُوَ البلل اللزج الَّذِي يخرج من الذّكر عِنْد ملاعبة النِّسَاء وَلَا يعقبه فتور وَرُبمَا لَا يحس بِخُرُوجِهِ وَهُوَ فِي النِّسَاء أَكثر مِنْهُ فِي الرِّجَال وَقَالَ الْأمَوِي الْمَذْي والودي مشددتان كالمني قلت الْمَشْهُور أَن الودي بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الدَّال هُوَ البلل اللزج يخرج من الذّكر بعد الْبَوْل يُقَال ودي وَلَا يُقَال أودي قَالَه الْجَوْهَرِي وَقَالَ غَيره يُقَال أودي أَيْضا وَقيل التَّشْدِيد أصح وأفصح من السّكُون. والمني بتَشْديد الْيَاء مَاء خاثر أَبيض يتَوَلَّد مِنْهُ الْوَلَد وينكسر بِهِ الذّكر يُقَال مني الرجل وأمنى ومني مشددا الْكل بِمَعْنى قَوْله فَأمر الْمِقْدَاد جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول والمقداد بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وبالمهملتين ابْن عَمْرو بن ثَعْلَبَة البهراني الْكِنْدِيّ وَيُقَال لَهُ ابْن الْأسود لِأَن الْأسود بن عبد يَغُوث رباه أَو تبناه أَو حالفه أَو تزوج بِأُمِّهِ وَيُقَال لَهُ الْكِنْدِيّ لِأَنَّهُ أصَاب دَمًا فِي بهراء فهرب مِنْهُم إِلَى كِنْدَة فحالفهم ثمَّ أصَاب فيهم دَمًا فهرب إِلَى مَكَّة فحالف الْأسود وَهُوَ قديم الصُّحْبَة من السَّابِقين فِي الْإِسْلَام قيل أَنه سادس سِتَّة شهد بَدْرًا وَلم يثبت أَنه شهد فِيهِ فَارس مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره وَقيل أَن الزبير رَضِي الله عَنهُ أَيْضا كَانَ فَارِسًا روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا اتفقَا على حَدِيث وَاحِد وَلمُسلم ثَلَاثَة مَاتَ بالجرف وَهُوَ على عشرَة أَمْيَال من الْمَدِينَة ثمَّ حمل على رِقَاب الرِّجَال إِلَيْهَا سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عُثْمَان وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ ابْن سبعين سنة روى لَهُ الْجَمَاعَة قَوْله أَن يسْأَل أَي بِأَن يسْأَل وَأَن مَصْدَرِيَّة أَي بالسؤال عَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَوْله فِيهِ الْوضُوء جملَة اسمية لِأَن الْوضُوء مُبْتَدأ وَقَوله فِيهِ مقدما خَبره وَيتَعَلَّق فِيهِ بِمَحْذُوف تَقْدِيره الْوضُوء وَاجِب فِيهِ وَيجوز أَن يكون ارْتِفَاع الْوضُوء على الفاعلية وَالتَّقْدِير يجب فِيهِ الْوضُوء (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله فَأمرت الْمِقْدَاد لَيْسَ هُوَ أَمر الْوُجُوب للقرينة الدَّالَّة على عدم الْوُجُوب وَأَيْضًا الدَّال على الْوُجُوب هُوَ صِيغَة الْأَمر لَا لَفْظَة أَمر وَلَيْسَت هَهُنَا صِيغَة فَافْهَم قَوْله فَسَأَلَهُ أَي عَن حكم الْمَذْي من وجوب الْوضُوء يُقَال سَأَلته الشَّيْء وَسَأَلته عَن الشَّيْء سؤالا وَقد تعدى بِنَفسِهِ إِلَى الْمَفْعُول الأول وبعن وبفي إِلَى الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ وَقد تخفف همزته فَيُقَال سَأَلَهُ قَوْله فَقَالَ أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ أَي الْمَذْي الْوضُوء لَا يُقَال أَنه إِضْمَار قبل الذّكر لأَنا نقُول أَن قَوْله مذاء يدل على الْمَذْي وَهَذِه الْعبارَة تدل على أَن عليا رَضِي الله عَنهُ سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ لم يقل قَالَ الْمِقْدَاد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَئِن قُلْنَا أَنه لم يسمعهُ من النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم فَحكمه حكم مُرْسل الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَذْي لَا يُوجب الْغسْل بل يُوجب الْوضُوء فَإِنَّهُ نجس وَلِهَذَا يجب مِنْهُ غسل الذّكر وَالْمرَاد مِنْهُ عِنْد الشَّافِعِي غسل مَا أَصَابَهُ مِنْهُ وَاخْتلف عَن مَالك فِي غسل الذّكر كُله(2/215)
قَالَ عِيَاض وَالْخلاف مَبْنِيّ على أَنه هَل يتَعَلَّق الحكم بِأول الِاسْم أَو بِآخِرهِ لقَوْله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم يغسل ذكره وَاسم الذّكر يُطلق على الْبَعْض وعَلى الْكل وَاخْتلف عَن مَالك أَيْضا هَل يحْتَاج إِلَى النِّيَّة أم لَا وَعَن الزُّهْرِيّ لَا يغسل الْأُنْثَيَيْنِ من الْمَذْي إِلَّا أَن يكون أصابهما شَيْء وَفِي المغنى لِابْنِ قدامَة الْمَذْي ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا يخرج لزجا متسبسبا عِنْد الشَّهْوَة فَيكون على رَأس الذّكر وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والأنثيين مَعَ الْوضُوء وَقَالَ أَبُو عمر الْمَذْي عِنْد جَمِيعهم يُوجب الْوضُوء مَا لم يكن خَارِجا عَن عِلّة بَارِدَة وزمانة فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَيْضا كالبول عِنْد جَمِيعهم فَإِن كَانَ سلسا لَا يَنْقَطِع فَحكمه حكم سَلس الْبَوْل عِنْد جَمِيعهم أَيْضا إِلَّا أَن طَائِفَة توجب الْوضُوء على من كَانَت هَذِه حَاله لكل صَلَاة قِيَاسا على الْمُسْتَحَاضَة عِنْدهم وَطَائِفَة تستحبه وَلَا توجبه وَأما الْمَذْي الْمَعْهُود والمتعارف وَهُوَ الْخَارِج عِنْد ملاعبة الرجل أَهله لما يجْرِي من اللَّذَّة أَو لطول عزبة فعلى هَذَا الْمَعْنى خُرُوج السُّؤَال فِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعَلِيهِ يَقع الْجَواب وَهُوَ مَوضِع إِجْمَاع لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي إِيجَاب الْوضُوء مِنْهُ وَإِيجَاب غسله لنجاسته الثَّانِي فِيهِ جَوَاز الِاسْتِنَابَة فِي الاستفتاء وَأَنه يجوز الِاعْتِمَاد على الْخَبَر المظنون مَعَ الْقُدْرَة على الْمَقْطُوع لِأَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعث من يسْأَل لَهُ مَعَ الْقُدْرَة على المشافهة قَالَ بَعضهم لَعَلَّ عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ حَاضرا وَقت السُّؤَال فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ لَكِن يضعف هَذَا قَوْله فِي بعض طرقه فَأَرْسَلنَا الْمِقْدَاد وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه لم يحضر مجْلِس السُّؤَال قلت فِيهِ نظر لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قد حَضَره بعد إرْسَاله الْمِقْدَاد وَقَالَ الْمَازرِيّ لم يتَبَيَّن فِي هَذَا الحَدِيث كَيفَ أمره أَن يسْأَل وَلَا كَيْفيَّة سُؤال الْمِقْدَاد هَل سَأَلَهُ سؤالا يخص الْمِقْدَاد أَو يعمه وَغَيره فَإِن كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لم يسْأَل على أَي وَجه وَقع السُّؤَال فَفِيهِ دَلِيل على أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يرى أَن القضايا تتعدى وَقد اخْتلف أهل الْأُصُول لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يتَعَدَّى لأَمره أَن يُسَمِّيه إِذْ قد يجوز أَن يُبِيح لَهُ مَا لَا يُبِيح لغيره لكنه قد جَاءَ مُبينًا فِي الصَّحِيح فَسَأَلَهُ الْمِقْدَاد عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان كَيفَ يفعل بِهِ فَقَالَ تَوَضَّأ وانضح فرجك قلت قد جَاءَ مُبينًا كِلَاهُمَا أَمر عَليّ وسؤال الْمِقْدَاد أما الأول فَفِي الْمُوَطَّأ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ أَمر الْمِقْدَاد أَن يسْأَل لَهُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة والسلامعن الرجل إِذا دنا من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ قَالَ الْمِقْدَاد فَسَأَلته عَن ذَلِك وَجَاء أَيْضا فِي النَّسَائِيّ مَا يثبت الِاحْتِمَال الْمُتَقَدّم فَقلت لرجل جَالس إِلَى جَنْبي سَله فَقَالَ فِيهِ الْوضُوء الثَّالِث فِيهِ اسْتِحْبَاب حسن الْعشْرَة مَعَ الأصهار وَأَن الزَّوْج يَنْبَغِي أَن لَا يذكر مَا يتَعَلَّق بِالْجِمَاعِ والاستمتاع بِحَضْرَة أَبَوي الْمَرْأَة وَأُخْتهَا وَغَيرهمَا من أقاربهما لِأَن الْمَعْنى أَن الْمَذْي يكون غَالِبا عِنْد ملاعبة الزَّوْجَة الرَّابِع احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ على وجوب الْوضُوء من الْمَذْي مُطلقًا سَوَاء كَانَ عِنْد ملاعبة أَو استنكاح أَو غَيره وَقَالَ أَصْحَاب مَالك المُرَاد بِهِ مَا كَانَ عَن ملاعبة وَاسْتدلَّ عِيَاض وَغَيره لذَلِك بِمَا وَقع فِي الْمُوَطَّأ فِي الحَدِيث أَنه قَالَ فِي السُّؤَال عَن الرجل إِذا دنا من أَهله وأمذى مَاذَا عَلَيْهِ قَالَ فجواب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثله فِي الْمُعْتَاد بِخِلَاف المستنكح وَالَّذِي بِهِ عِلّة فَإِنَّهُ لَا وضوء عَلَيْهِ قَالُوا وَإِنَّمَا يتَوَضَّأ مِمَّا جرت الْعَادة بِهِ أَن يخرج من لَذَّة وَقَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب مؤيدا لمذهبهم السُّؤَال صدر عَن الْمَذْي الْخَارِج على وَجه اللَّذَّة لقَوْله إِذا دنا من أَهله وَأَيْضًا مِمَّا يدل عَلَيْهِ استحياء عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ على مرض أَو سَلس لم يستح من ذَلِك قلت فِيمَا قَالُوهُ نظر لِأَن سُؤال الْمِقْدَاد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَولا مُطلق غير مُقَيّد فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيح فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان كَيفَ يفعل بِهِ قَالَ اغسل ذكرك وَتَوَضَّأ فَالْحكم مُتَعَلق بسؤال الْمِقْدَاد الَّذِي وَقع الْجَواب عَنهُ فَصَارَ أَمر عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَجْنَبِيّا عَن الحكم وَقَول القَاضِي عبد الْوَهَّاب حِكَايَة قَول عَليّ لِلْمِقْدَادِ وَهُوَ حَاضر وَأما سُؤال الْمِقْدَاد فَكَانَ عَاما وَهُوَ من فقه الْمِقْدَاد فَوَقع السُّؤَال من الْمِقْدَاد عَاما وَالْجَوَاب من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مترتب عَلَيْهِ والتمسك بقول الْمِقْدَاد فَسَأَلته عَن ذَلِك لَا يُعَارض النَّص بِصَرِيح سُؤَاله وَالْأول مُحْتَمل للتأويل فِي تعْيين مَا يرجع الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَأما ثَانِيًا فَإِنَّهُ قد جَاءَ فِي سنَن أبي دَاوُد مَا يدل على خِلَافه وَهُوَ من عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت رجلا مذاء فَجعلت أَغْتَسِل حَتَّى تشقق ظَهْري فَهَذَا يدل على كَثْرَة وُقُوعه مِنْهُ ومعاودته وَجَاء فِيهِ أَيْضا أَن عليا أَمر عمارا أَن يسْأَل رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَ يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ وَفِي بَعْضهَا كنت رجلا مذاء فَأمرت عمار بن يَاسر يسْأَل رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من(2/216)
أجل ابْنَته عِنْدِي وَفِي بعض طرقه فِي أبي دَاوُد فليغسل ذكره وأنثييه وروى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَغَيرهَا أَنه يجب غسل أنثييه وَهَذَا خلاف قَول الْجُمْهُور وَأول الْجُمْهُور هَذِه الرِّوَايَة على الِاسْتِظْهَار وَفِي بعض أَحْوَال انتشاره وَيُقَال أَن المَاء الْبَارِد إِذا أصَاب الْأُنْثَيَيْنِ رد الْمَذْي وكسره على أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ هَذِه الزِّيَادَة قد علل بِالْإِرْسَال وَغَيره فَائِدَة فَإِن قلت قد جَاءَ أَنه أَمر مقدادا وَجَاء أَنه أَمر عمارا وَجَاء أَنه سَأَلَ بِنَفسِهِ فَكيف التَّوْفِيق بَينهمَا قلت يحْتَمل على أَنه أرسلهما ثمَّ سَأَلَ بِنَفسِهِ وَالله أعلم
(بَاب ذكر الْعلم والفتيا فِي الْمَسْجِد)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر الْعلم فِي الْمَسْجِد وَبَيَان ذكر الْفتيا فِي الْمَسْجِد وَقد مر أَن الْفتيا وَالْفَتْوَى جَوَاب الْحَادِثَة وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على السُّؤَال أما فِي الأول فَلِأَنَّهُ فِيهِ سُؤال الْمِقْدَاد عَن حكم الْمَذْي وَفِي هَذَا الْبَاب سُؤال ذَاك الرجل فِي الْمَسْجِد عَن حكم الإهلال لِلْحَجِّ وكل مِنْهُمَا سُؤال عَن أَمر ديني
72 - (حَدثنِي قُتَيْبَة بن سعيد قَالَ حَدثنَا اللَّيْث بن سعد قَالَ حَدثنَا نَافِع مولى عبد الله بن عمر بن الْخطاب عَن عبد الله بن عمر أَن رجلا قَامَ فِي الْمَسْجِد فَقَالَ يَا رَسُول الله من أَيْن تَأْمُرنَا أَن نهل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة ويهل أهل الشَّام من الْجحْفَة ويهل أهل نجد من قرن وَقَالَ ابْن عمر ويزعمون أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ويهل أهل الْيمن من يَلَمْلَم وَكَانَ ابْن عمر يَقُول لم أفقه هَذِه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَنه مُشْتَمل على ذكر الْعلم أَعنِي علم إهلال الْحَج فِي الْمَسْجِد واستفتاء ذَلِك الرجل عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وفتواه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كل ذَلِك فِي الْمَسْجِد. (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول قُتَيْبَة بن سعيد الثَّانِي اللَّيْث بن سعد الثَّالِث نَافِع بن سرجس بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْجِيم وَفِي آخِره سين أُخْرَى أَصله من الْمغرب وَقيل من نيسابور وَقيل من سبي كابل وَقيل من جبال الطلقان أَصَابَهُ عبد الله بن عمر فِي بعض غَزَوَاته وَبَعثه عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى مصر يعلمهُمْ السّنَن مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سبع عشرَة وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة الرَّابِع عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة قَوْله حَدثنِي قُتَيْبَة وَفِي بعض النّسخ حَدثنَا وَمِنْهَا أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء وَمِنْهَا أَنهم مَا بَين بلخي ومصري ومدني (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْعلم وَفِي الْحَج جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة عَنهُ بِهِ وَثَبت هَذَا الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَعَن جَابر أَيْضا أخرجه مُسلم وأكمل الْأَحَادِيث حَدِيث ابْن عَبَّاس لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ الْمَوَاقِيت الْأَرْبَعَة وَحَدِيث ابْن عمر لم يحفظ فِيهِ مِيقَات أهل الْيمن وَحَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ لم يجْزم بِرَفْعِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أَن نهل من الإهلال والإهلال بِالْحَجِّ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ وَمِنْه قيل للصَّبِيّ إِذا فَارق أمه أهل واستهل لرفعه صَوته قَوْله من ذِي الحليفة بِضَم الْحَاء وَفتح اللَّام تَصْغِير الحلفة بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَة كالقصبة وَهِي تنْبت فِي المَاء وَجَمعهَا حلفاء كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَقَالَ الصغاني الحلفاء نبت قَالَ الدينَوَرِي قَالَ أَبُو زِيَاد من الأغلاث الحلفاء وَقيل مَا ينْبت إِلَّا قَرِيبا من مَاء أَو بطن وَاد وَهِي سلسلة غَلِيظَة الْمس لَا يكَاد أحد يقبض عَلَيْهَا مَخَافَة أَن تقطع يَده وَقد تَأْكُل مِنْهَا الْغنم وَالْإِبِل أكلا قَلِيلا وَهِي أحب شَجَرَة إِلَى الْبَقر والواحدة مِنْهَا حلفاة وَقَالَ الْأَصْمَعِي حلفة بِكَسْر اللَّام وَقَالَ الْأَخْفَش وَأَبُو زيد حلفة بِفَتْح اللَّام وَقيل يُقَال حلفة وحلفاء وَحلف مِثَال قَصَبَة وقصباء وقصب وطرفة وطرفاء وطرف وشجرة وشجراء وَشَجر وَقَالَ أَبُو عمر الحلفاء وَاحِدَة وَجمع وَقد يجمع على حلافي على وزن بَخَاتِي(2/217)
وَقَالَ الْكرْمَانِي وَذُو الحليفة مَوضِع على عشر مراحل من مَكَّة وَقَالَ الرَّافِعِيّ على ميل من الْمَدِينَة وَقَالَ النَّوَوِيّ سِتَّة أَمْيَال وَقَالَ عِيَاض سَبْعَة أَمْيَال وَقَالَ ابْن حزم من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال وَمن مَكَّة على مِائَتي ميل غير ميلين وَقَالَ الْكرْمَانِي الْحَنَفِيّ فِي مَنَاسِكه بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ميل أَو ميلان والميل ثَلَاث فراسخ وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع وَمِنْهَا إِلَى مَكَّة عشر مراحل وَهِي الشَّجَرَة وَفِي مَوضِع آخر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة خَمْسَة أَمْيَال وَنصف مَكْتُوب على الْميل الَّذِي وَرَاءَهَا قريب من سِتَّة أَمْيَال من الْبَرِيد وَمن هَذَا الْبَرِيد أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبذي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِد الْكَبِير الَّذِي يحرم مِنْهُ النَّاس وَالْمَسْجِد الآخر مَسْجِد المعرس وَقَالَ ابْن التِّين هِيَ أبعد الْمَوَاقِيت من مَكَّة تَعْظِيمًا لإحرام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله من الْجحْفَة بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة من الْجَانِب الشَّامي يُحَاذِي ذَا الحليفة وَكَانَ اسْمهَا مهيعة بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف فأجحف السَّيْل بِأَهْلِهَا أَي أذهب فسميت جحفة وَهِي على سِتّ أَو سبع مراحل من مَكَّة قَالَ النَّوَوِيّ على ثَلَاث مراحل مِنْهَا وَهِي قريبَة من الْبَحْر وَكَانَت قَرْيَة كَبِيرَة وَقَالَ أَبُو عبيد هِيَ قَرْيَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر بَينهَا وَبَين الْبَحْر سِتَّة أَمْيَال وغدير خم على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهَا وَهِي مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب وَهِي على ثَلَاثَة مراحل من مَكَّة أَو أَكثر وعَلى ثَمَانِيَة مراحل من الْمَدِينَة وَقَالَ الْكَلْبِيّ أخرجت العماليق بني عيل وهم إخْوَة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة وَكَانَ اسْمهَا مهيعة فَجَاءَهُمْ السَّيْل فأجحفهم فسميت الْجحْفَة وَفِي كتاب أَسمَاء الْبلدَانِ لِأَن سيل الجحاف نزل بهَا فَذهب بِكَثِير من الْحَاج وبأمتعة النَّاس ورحالهم فَمن ذَلِك سميت الْجحْفَة وَقَالَ أَبُو عبيد رَحمَه الله وَقد سَمَّاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهيعة قَالَ الْقُرْطُبِيّ قيل بِكَسْر الْحَاء وَقَالَ ابْن حزم الْجحْفَة مَا بَين الْمغرب وَالشمَال من مَكَّة وَمِنْهَا إِلَى مَكَّة اثْنَان وَثَمَانُونَ ميلًا قَوْله أهل نجد النجد فِي اللُّغَة مَا أشرف من الأَرْض واستوى وَيجمع على أنجد وأنجاد ونجود ونجد بِضَمَّتَيْنِ وَقَالَ الْقَزاز سمي نجدا لعلوه وَقيل سمي بذلك لصلابة أرضه وَكَثْرَة حجارته وصعوبته من قَوْلهم رجل نجد إِذا كَانَ قَوِيا شَدِيدا وَقيل سمي نجدا لفزع من يدْخلهُ لاستيحاشه واتصال فزع السالكين من قَوْلهم رجل نجد إِذا كَانَ فَزعًا ونجد مُذَكّر قَالَ الشَّاعِر
(ألم تَرَ أَن اللَّيْل يقصر طوله ... بِنَجْد ويزداد النطاف بِهِ نجدا)
وَلَو أنثه أحد ورده على الْبَلَد لجَاز لَهُ ذَلِك وَالْعرب تَقول نجد ونجد بِفَتْح النُّون وَضمّهَا لُغَتَانِ وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي أَسمَاء الْبلدَانِ النجد مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب إِلَى الطَّائِف فالطائف من نجد وَالْمَدينَة من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان وَقَالَ أَبُو عمر نجد مَا بَين جرش إِلَى سَواد الْكُوفَة وَحده مِمَّا يَلِي الْمغرب الْحجاز وَعَن يسَاره الْكَعْبَة الْيمن ونجد كلهَا من عمل الْيَمَامَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير نجد مَا بَين العذيب إِلَى ذَات عرق وَإِلَى الْيَمَامَة وَإِلَى جبل طي وَإِلَى وجرة وَإِلَى الْيمن وَالْمَدينَة لَا تهامية وَلَا نجدية فَإِنَّهَا فَوق الْغَوْر وَدون نجد وَقَالَ الْحَازِمِي نجد اسْم للْأَرْض العريضة الَّتِي أَعْلَاهَا تهَامَة واليمن وَالْعراق وَالشَّام وَقَالَ الْبكْرِيّ حد نجد ذَات عرق من نَاحيَة الْحجاز كَمَا يَدُور الْجبَال مَعهَا إِلَى جبال الْمَدِينَة وَمَا وَرَاء ذَلِك ذَات عرق إِلَى تهَامَة وَقَالَ القتبي حَدثنَا الرياشي عَن الْأَصْمَعِي قَالَ الْعَرَب تَقول إِذا عَلَوْت نجدا مصعدا فقد أنجدت وَلَا تزَال منجدا حَتَّى تنحدر فِي ثنايا ذَات عرق فَإِذا فعلت ذَلِك فقد انْتَهَيْت إِلَى الْبَحْر فَإِذا عرض لَك الْحرار وَأَنت تنجد فَتلك الْحجاز وَقَالَ ياقوت نجد تِسْعَة مَوَاضِع ونجد الْمَشْهُورَة فِيهَا اخْتِلَاف كثير وَالْأَكْثَر أَنَّهَا اسْم للْأَرْض الَّتِي أَعْلَاهَا تهَامَة وأسفلها الْعرَاق وَالشَّام وَقَالَ الْخطابِيّ نجد نَاحيَة الْمشرق وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية الْعرَاق ونواحيها وَهِي مشرق أَهلهَا وَذكر فِي الْمُنْتَهى نجد من بِلَاد الْعَرَب وَهُوَ خلاف الْغَوْر أَعنِي تهَامَة وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد وَقَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ عَن الْكَلْبِيّ نجد مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب والطائف من نجد وَالْمَدينَة من نجد وَقَالَ فِي مَوضِع آخر ونجد كلهَا من عمل الْيَمَامَة وَقَالَ عمَارَة بن عقيل مَا سَالَ من ذَات عرق مُقبلا فَهُوَ نجد وحد نجد أسافل الْحجاز قَالَ سَمِعت الْبَاهِلِيّ يَقُول كل مَا رَوَاهُ الخَنْدَق خَنْدَق كسْرَى الَّذِي خندقه على سَواد الْعرَاق فَهُوَ نجد إِلَى أَن تميل إِلَى الْحرَّة فَإِذا ملت إِلَى الْحرَّة فَأَنت فِي الْحجاز حَتَّى تغور وَعَن الْأَصْمَعِي مَا ارْتَفع من بطن الرمة فَهُوَ نجد إِلَى ثنايا ذَات عرق والسرف كبد نجد وَكَانَت منَازِل الْمُلُوك من بني آكل المرار وَفِيه الْيَوْم حمى(2/218)
خربة وَفِيه الربذَة وَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الشرق فَهُوَ نجد قَوْله من قرن هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء وَهُوَ جبل مدور أملس كَأَنَّهُ هضبة مطل على عَرَفَات وَقَالَ ابْن حزم أَن من جَاءَ على طَرِيق نجد من جَمِيع الْبِلَاد فميقاته قرن الْمنَازل وَهُوَ شَرق مَكَّة شرفها الله تَعَالَى وَمِنْه إِلَى مَكَّة اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ميلًا وَقَالَ ابْن قرقول هُوَ قرن الْمنَازل وَقرن الثعالب وَقرن غير مُضَاف وَهُوَ على يَوْم وَلَيْلَة من مَكَّة وَقَالَ الْقَابِسِيّ من قَالَ قرن بالإسكان أَرَادَ الْجَبَل المشرف على الْموضع وَمن قَالَ بِالْفَتْح أَرَادَ الطَّرِيق الَّذِي يفرق مِنْهُ فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ طرق مُتَفَرِّقَة وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي شرح الْمسند وَكَثِيرًا مَا يَجِيء فِي أَلْفَاظ الْفُقَهَاء وَغَيرهم بِفَتْحِهَا وَلَيْسَ بِصَحِيح قلت غلط الْجَوْهَرِي فِي صحاحه غلطين أَحدهمَا أَنه بِفَتْح الرَّاء وَالْآخر زعم أَن أويسا الْقَرنِي مَنْسُوب إِلَيْهِ وَالصَّوَاب سُكُون الرَّاء وأويس مَنْسُوب إِلَى قَبيلَة يُقَال لَهُم بنوا قرن وَلَيْسَ هُوَ بمنسوب إِلَى مَكَان فَافْهَم. قَوْله من يَلَمْلَم بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح اللامين وَهُوَ جبل من جبال تهَامَة على مرحلَتَيْنِ من مَكَّة وَقَالَ ابْن حزم هُوَ جنوب مَكَّة وَمِنْه إِلَى مَكَّة ثَلَاثُونَ ميلًا وَفِي شرح الْمُهَذّب يصرف وَلَا يصرف قلت إِن أُرِيد الْجَبَل فمنصرف وَإِن أُرِيد الْبقْعَة فَغير منصرف الْبَتَّةَ بِخِلَاف قرن فَإِنَّهُ على تَقْدِير إِرَادَة الْبقْعَة يجوز صرفه لأجل سُكُون وَسطه وَقَالَ عِيَاض وَيُقَال الملم يَعْنِي بقلب الْيَاء همزَة وَفِي الْمُحكم يَلَمْلَم والملم جبل وَقَالَ الْبكْرِيّ أَهله كنَانَة وتنحدر أوديته إِلَى الْبَحْر وَهُوَ فِي طَرِيق الْيمن وَهُوَ من كبار جبال تهَامَة وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ هُوَ وَاد بِهِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِه عسكرت هوَازن يَوْم حنين فَإِن قلت مَا وَزنه قلت فعنعل كصمحمح وَلَيْسَ هُوَ من لملمت لِأَن ذَوَات الْأَرْبَعَة لَا يلْحقهَا الزِّيَادَة فِي أَولهَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاء الْجَارِيَة على أفعالها نَحْو مدحرج قلت فلأجل هَذَا حكمنَا بِأَن الْمِيم الأولى وَاللَّام الثَّانِيَة زائدتان وَلِهَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي فِي بَاب الْمِيم وَفصل الْيَاء يلم ثمَّ قَالَ يَلَمْلَم لُغَة فِي الملم وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله قَامَ فِي الْمَسْجِد فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر أَن قَوْله فَقَالَ عطف على قَوْله قَامَ قَوْله من أَيْن يتَعَلَّق بقوله تَأْمُرنَا وَكلمَة أَيْن اسْتِفْهَام عَن الْمَكَان قَوْله أَن نهل أَصله بِأَن نهل وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير بالإهلال قَوْله يهل أهل الْمَدِينَة جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَقعت مقول القَوْل قَوْله من ذِي الحليفة يتَعَلَّق بيهل وَكلمَة من ابتدائية أَي ابْتِدَاء إهلالهم من ذِي الحليفة قَوْله ويهل أهل الشَّام عطف على قَوْله يهل أهل الْمَدِينَة وَكَذَا قَوْله ويهل أهل نجد عطف عَلَيْهِ وَالتَّقْدِير فِي الْكل ليهل لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر على صُورَة الْخَبَر وَلكنه فِي الْمَعْنى على صُورَة الْأَمر قَوْله وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عطف على لفظ عَن عبد الله بن عمر عطفا من جِهَة الْمَعْنى على صُورَة الْأَمر كَأَنَّهُ قَالَ قَالَ نَافِع قَالَ ابْن عمر وَقَالَ ويزعمون وَالْوَاو فِي ويزعمون عطف على مُقَدّر وَهُوَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير لِأَن الْوَاو لَا تدخل بَين القَوْل وَالْمقول وَالْمرَاد من الزَّعْم إِمَّا القَوْل الْمُحَقق أَو الْمَعْنى الْمَشْهُور قَوْله أَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِفَتْح همزَة أَن لِأَن أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مسد مفعولي زعم قَوْله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر كَانَ (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله فِي الْمَسْجِد أَي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله أَن نهل أَي نحرم والإهلال فِي الأَصْل رفع الصَّوْت وَلَكِن المُرَاد هُنَا الْإِحْرَام مَعَ التَّلْبِيَة قَوْله قَالَ ابْن عمر ويزعمون قَالَ الْكرْمَانِي يحْتَمل احْتِمَالا بَعيدا أَن يكون هَذَا تَعْلِيقا من البُخَارِيّ وَهَكَذَا حكم وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قلت هَذَا مثل مَا قَالَه احْتِمَال بعيد لِأَنَّهُ قَالَ ويزعمون وَلَا يُرِيد من هَؤُلَاءِ الزاعمين إِلَّا أهل الْحجَّة وَالْعلم بِالسنةِ ومحال أَن يَقُولُوا ذَلِك بآرائهم لِأَن هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُقَال من جِهَة الرَّأْي وَلَكنهُمْ زَعَمُوا بِمَا وقفهم عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي رِوَايَة مَالك قَالَ وَبَلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ويهل أهل الْيمن من يَلَمْلَم قَوْله لم أفقه أَي لم أفهم وَلم أعرف هَذِه أَي هَذِه الْمقَالة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي ويهل أهل الْيمن من يَلَمْلَم وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ فِي الْحَج لم أسمع هَذِه من رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ بَيَان الْمَوَاقِيت الثَّلَاثَة بِالْقطعِ وَهِي مِيقَات أهل الْمَدِينَة وميقات أهل الشَّام وميقات أهل نجد وَالرَّابِع شكّ فِيهِ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن وَقد ثَبت هَذَا أَيْضا بِالْقطعِ فِي حَدِيث(2/219)
ابْن عَبَّاس أخرجه الشَّيْخَانِ وَآخَرُونَ وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر وَزَاد مُسلم فِيهِ ومهل الْعرَاق ذَات عرق وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْمشرق العقيق قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي أجمع الْعلمَاء على الْمَوَاقِيت الْأَرْبَعَة وَاخْتلفُوا فِي ذَات عرق لأهل الْعرَاق وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا مِيقَات وَاسْتحبَّ الشَّافِعِي لأهل الْعرَاق أَن يحرموا من العقيق مُعْتَمدًا على حَدِيث أبي دَاوُد الْمَذْكُور وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدِيث حسن قلت وَفِي إِسْنَاده يزِيد بن أبي زِيَاد وَهُوَ ضَعِيف وَإِنَّمَا استحبه الشَّافِعِي لِأَنَّهُ أحوط عملا بِالْحَدِيثين على تَقْدِير الصِّحَّة فَإِن العقيق فَوق ذَات عرق وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف الْعلمَاء هَل صَارَت ذَات عرق ميقاتا لأهل الْعرَاق بِالنَّصِّ أَو الِاجْتِهَاد من عمر رَضِي الله عَنهُ وَفِيه وَجْهَان لأَصْحَاب الشَّافِعِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْأُم أَنه بتوقيت عمر واجتهاده لحَدِيث البُخَارِيّ الْمَذْكُور وَدَلِيل الثَّانِي حَدِيث جَابر لكنه لم يجْزم الرَّاوِي بِرَفْعِهِ قلت قد أخرج هَذِه الزِّيَادَة أَبُو دَاوُد بِالْجَزْمِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا لَكِن فِي حَدِيث أبي دَاوُد أَفْلح بن حميد وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يُنكر عَلَيْهِ قَوْله هَذَا وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق قَالَ ابْن عدي تفرد بِهِ عَنهُ الْمعَافي ابْن عمرَان قلت قد أخرج لأفلح مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو حَاتِم وَقَالَ يحيى بن معِين وَأحمد بن عبد الله وَغَيرهمَا الْمعَافي بن عمرَان ثِقَة وروى للمعافي البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ بَعضهم هَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا بأسانيد ضَعِيفَة لَكِن يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا لما تقرر من أَن الضعْف إِذا كَانَ بِغَيْر فسق الرَّاوِي فَإِن الحَدِيث ينْتَقل إِلَى دَرَجَة الْحسن ويحتج بِهِ وَأما تَعْلِيل الدَّارَقُطْنِيّ للْحَدِيث بقوله إِنَّه لم يكن عراق يَوْمئِذٍ فقد ضعفه الْعلمَاء وَقَالُوا مثل هَذَا لَا يُعلل بِهِ الحَدِيث فقد أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا لم يكن فِي زَمَانه مِمَّا كَانَ وَيكون وَهَذَا كَانَ من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مَا أخبر بِهِ أَنه سَيكون لَهُم مهل ويسلمون ويحجون فَكَانَ ذَلِك وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الشَّام الْجحْفَة وَلم يكن فتح وَقد أقطع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلد الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لتميم الدَّارِيّ وَكتب لَهُ بذلك وَلم يكن الشَّام إِذْ ذَاك قلت قَالَ الطَّحَاوِيّ ذهب قوم إِلَى أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت لَهُم كوقت سَائِر أهل الْبِلَاد وَأَرَادَ بهم طَاوس بن كيسَان وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ الْعرَاق وَقَالُوا أهل الْعرَاق يهلون من الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من هَذِه الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أجمع عوام أهل الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر وَاخْتلفُوا فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق فَثَبت أَن عمر رَضِي الله عَنهُ وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة انْتهى قلت الصَّحِيح هُوَ الَّذِي وقته النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا ذكره فِي مطامح الأفهام ثمَّ قَالَ ابْن الْمُنْذر اخْتلفُوا فِي الْمَكَان الَّذِي يحرم من أَتَى من الْعرَاق على ذَات عرق فَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ يحرم من العقيق وَاسْتحبَّ ذَلِك الشَّافِعِي وَكَانَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَق وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي يرَوْنَ الْإِحْرَام من ذَات عرق قَالَ أَبُو بكر الْإِحْرَام من ذَات عرق يجزىء وَهُوَ من العقيق أحوط وَقد كَانَ الْحسن بن صَالح يحرم من الربذَة وروى ذَلِك عَن خصيف وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن قلت أخرج الطَّحَاوِيّ فِي كَون الْمِيقَات لأهل الْعرَاق ذَات عرق أَحَادِيث أَرْبَعَة من الصَّحَابَة وهم عبد الله بن عمر وَأنس وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس عِنْد التِّرْمِذِيّ والْحَارث بن عَمْرو السَّهْمِي عِنْد أبي دَاوُد وَعَمْرو بن الْعَاصِ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ الثَّانِي فِيهِ أَن هَذِه الْمَوَاقِيت لَا تجوز مجاوزتها بِغَيْر إِحْرَام سَوَاء أَرَادَ حجا أَو عمْرَة فَإِن جاوزها بِغَيْر إِحْرَام يلْزمه دم وَيصِح حجه الثَّالِث فِيهِ معْجزَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أخبر فِي زَمَانه عَن أَمر سَيكون بعده وَقد كَانَ
(بَاب من أجَاب السَّائِل بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من أجَاب الشَّخْص الَّذِي سَأَلَ عَنهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على السُّؤَال وَالْجَوَاب وَهُوَ ظَاهر(2/220)
73 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا سَأَلَهُ مَا يلبس الْمحرم فَقَالَ لَا يلبس الْقَمِيص وَلَا الْعِمَامَة وَلَا السَّرَاوِيل وَلَا الْبُرْنُس وَلَا ثوبا مَسّه الورس أَو الزَّعْفَرَان فَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما حَتَّى يَكُونَا تَحت الْكَعْبَيْنِ) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ إِلَى آخِره لِأَن هَذَا الْمِقْدَار زَائِد على السُّؤَال وَقيل أَنه نبه على مَسْأَلَة أصولية وَهِي أَن اللَّفْظ يحمل على عُمُومه لَا على خُصُوص السَّبَب لِأَنَّهُ جَوَاب وَزِيَادَة فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن مُطَابقَة الْجَواب للسؤال حِين يكون عَاما أما إِذا كَانَ السُّؤَال خَاصّا فَغير لَازم لَا سِيمَا إِذا كَانَ الزَّائِد لَهُ تعلق. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة كلهم ذكرُوا. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس وَابْن أبي ذِئْب بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وبالهمزة الساكنة هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْمدنِي وَنَافِع هُوَ مولى ابْن عمر. وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَهنا إسنادان أَحدهمَا عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَالْآخر عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر. وَقَوله وَعَن الزُّهْرِيّ عطف على قَوْله عَن نَافِع وَفِي بعض النّسخ وَقع لَفْظَة (ح) قبل قَوْله وَعَن الزُّهْرِيّ إِشَارَة إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر الْمَتْن (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا آدم وَمِنْهَا مَا قيل أصح الْأَسَانِيد الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما الزُّهْرِيّ وَسَالم. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيق نَافِع هَهُنَا عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَنهُ بِهِ وَمن طَرِيق سَالم هَهُنَا أَيْضا عَن آدم عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بِهِ وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن آدم عَنهُ بِهِ وَفِي الصَّلَاة عَن عَاصِم بن عَليّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَأَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك وَابْن مَاجَه عَن أبي مُصعب عَن مَالك وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعمر بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن يزِيد عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن عمر بن نَافِع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (بَيَان اللُّغَات) قَوْله لَا يلبس من اللّبْس بِضَم اللَّام يُقَال لبس الثَّوْب يلبس من بَاب علم يعلم وَأما اللّبْس بِالْفَتْح فَهُوَ من بَاب ضرب يضْرب يُقَال لبست عَلَيْهِ الْأَمر البس بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل إِذا خلطت عَلَيْهِ وَمِنْه التباس الْأَمر وَهُوَ اشتباهه قَوْله الْعِمَامَة بِكَسْر الْعين قَالَ الْجَوْهَرِي الْعِمَامَة وَاحِدَة العمائم وعممته ألبسته الْعِمَامَة وعمم الرجل سود لِأَن العمائم تيجان الْعَرَب كَمَا قيل فِي الْعَجم توج واعتم بالعمامة وتعمم بهَا بِمَعْنى وَفُلَان حسن الْعمة أَي الاعتمام قَوْله وَلَا السَّرَاوِيل قَالَ الْكرْمَانِي السَّرَاوِيل أَعْجَمِيَّة عربت وَجَاء على لفظ الْجمع وَهُوَ وَاحِد تذكر وتؤنث وَلم يعرف الْأَصْمَعِي فِيهَا إِلَّا التَّأْنِيث وَيجمع على السراويلات وَقد يُقَال هُوَ جمع ومفرده سروالة قَالَ الشَّاعِر
(عَلَيْهِ من اللؤم سروالة ... فَلَيْسَ يرق لمستضعف)
وَهُوَ غير منصرف على الْأَكْثَر وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ سَرَاوِيل وَاحِدَة وَهِي أَعْجَمِيَّة فأعربت فَأَشْبَهت فِي كَلَامهم مَا لَا ينْصَرف فِي معرفَة وَلَا نكرَة فَهِيَ مصروفة فِي النكرَة وَقَالَ وَإِن سميت بهَا رجلا لم تصرفها وَمن النَّحْوِيين من لَا يصرفهُ أَيْضا فِي النكرَة وَيَزْعُم أَنه جمع سروال وسروالة ويحتج فِي ترك صرفه بقوله ابْن الرُّومِي
(فنحى فَارسي فِي سَرَاوِيل رامح ... )
وَالْعَمَل على القَوْل الأول وَالثَّانِي أقوى وسرولته ألبسته السَّرَاوِيل فتسرول قَوْله وَلَا الْبُرْنُس بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَضم النُّون وَهُوَ ثوب رَأسه مِنْهُ ملتزق بِهِ وَقيل قلنسوة طَوِيلَة وَكَانَ النساك يلبسونها فِي صدر الْإِسْلَام وَهُوَ من البرس بِكَسْر الْبَاء وَهُوَ الْقطن وَالنُّون زَائِدَة وَقيل غير عَرَبِيّ وَقَالَ ابْن حزم كل مَا جب فِيهِ مَوضِع لإِخْرَاج الرَّأْس مِنْهُ فَهُوَ(2/221)
جُبَّة فِي لُغَة الْعَرَب وكل مَا خيط أَو نسج فِي طَرفَيْهِ ليتمسك على اللابسين فَهُوَ برنس كالغفارة وَنَحْوهَا وَيُقَال هُوَ ثوب رَأسه مُتَّصِل بِهِ من دراعة أَو جُبَّة أَو ممطر أَو غَيره قَوْله الورس بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة وَهُوَ نبت أصفر يكون بِالْيمن تصبغ بِهِ الثِّيَاب ويتخذ مِنْهُ الغمرة للْوَجْه وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي الورس يزرع بِالْيمن زرعا وَلَا يكون بِغَيْر الْيمن وَلَا يكون مِنْهُ شَيْء بريا ونباته مثل حب السمسم فَإِذا جف عِنْد إِدْرَاكه يفتق فينفض مِنْهُ الورس ويزرع سنة فيجلس عشر سِنِين أَي يُقيم فِي الأَرْض ينْبت ويثمر وَفِيه جنس يُسمى بالحبشي وَفِيه سَواد وَهُوَ أكبر الورس وللعرعر ورس وللريث ورس وَقَالَ أَبُو حنيفَة لست أعرفهُ بِغَيْر أَرض الْعَرَب وَلَا من أَرض الْعَرَب غير بِلَاد الْيمن وَقَالَ الْأَصْمَعِي ثَلَاثَة أَشْيَاء لَا تكون إِلَّا بِالْيمن وَقد مَلَأت الأَرْض الورس واللبان والعصب وَأَخْبرنِي ابْن بنت عبد الرَّزَّاق وَقَالَ الورس عندنَا بِالْيمن بجفاش وملجان وطمام وسحبان والرقعة وَجَوَاز وهوزن وجبال ابْن أبي جَعْفَر كلهَا وَيُقَال لَهُ الحض وَقَالَ ابْن بيطار فِي جَامعه يُؤْتى بالورس من الصين واليمن والهند وَلَيْسَ بنبات يزرع كَمَا زعم من زعم وَهُوَ يشبه زهر العصفر وَمِنْه شَيْء يشبه نشارة البابونج وَمِنْه شَيْء يشبه البنفسج وَيُقَال أَن الكركم عروقه انْتهى يُقَال أورس الْمَكَان وورست الثَّوْب توريسا صبغته بالورس وريسته صبغته بالورس قَوْله والزعفران بِفَتْح الزَّاي وَالْفَاء جمعه زعافر وَهُوَ اسْم أعجمي وَقد صرفته الْعَرَب يُقَال ثوب مزعفر وَقد زعفر ثَوْبه يزعفره زعفرة وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي لَا أعلمهُ ينْبت بِشَيْء من أَرض الْعَرَب وَفِي كتاب الطِّبّ للمفضل بن سَلمَة يُقَال أَن الكركم عروق الزَّعْفَرَان وَقَالَ مورج يُقَال لورق الزَّعْفَرَان الفيد وَمِنْه يُسمى مورج أبافيد قَوْله النَّعْلَيْنِ تَثْنِيَة نعل وَهُوَ الْحذاء بِكَسْر الْحَاء وبالمد يُقَال احتذى إِذا انتعل وَهِي مُؤَنّثَة قَوْله الْكَعْبَيْنِ تَثْنِيَة كَعْب وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا هُوَ الْمفصل الَّذِي فِي وسط الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك لَا الْعظم الناتىء عِنْد مفصل السَّاق فَإِنَّهُ فِي بَاب الْوضُوء (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله سَأَلَهُ جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله مَا يلبس كلمة مَا استفهامية أَو مَوْصُولَة أَو مَوْصُوفَة فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لسأل قَوْله فَقَالَ عطف على سَأَلَهُ قَوْله لَا يلبس يجوز بِضَم السِّين على أَن تكون لَا نَافِيَة وبكسرها على أَن تكون لَا ناهية والقميص بِالنّصب مَفْعُوله وَمَا بعده من الْمَذْكُورَات معطوفات عَلَيْهِ قَوْله وَلَا ثوبا بِالنّصب وروى وَلَا ثوب بِالرَّفْع فوجهه أَن يكون مَرْفُوعا بِتَقْدِير فعل مَا لم يسم فَاعله أَي وَلَا يلبس ثوب قَوْله مَسّه فعل ومفعول والورس بِالرَّفْع فَاعله وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب أَو الرّفْع صفة للثوب قَوْله فليلبس الْخُفَّيْنِ جَوَاب الشَّرْط فَلذَلِك دخله الْفَاء قَوْله وليقطعهما بِكَسْر اللَّام وسكونها وَهُوَ عطف على قَوْله فليلبس فَإِن قلت اللّبْس بعد الْقطع فَكيف وَجه هَذَا الْعَطف قلت الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب وَمَعْنَاهَا الشّركَة وَالْجمع مُطلقًا من غير دلَالَة على تَقْدِيم أَو مصاحبة وَلِهَذَا صَحَّ جَاءَ زيد وَبكر قبله وَعَمْرو مَعَه وخَالِد بعده وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة {وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة} وَفِي الْأَعْرَاف {وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا} والقصة وَاحِدَة قَالَ سِيبَوَيْهٍ الْوَاو للشَّرِكَة تَقول مَرَرْت بِرَجُل وحمار وَلم يفد تَقْدِيم رجل فِي الْمَعْنى شَيْئا وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي اللَّفْظ فكأنك قلت مَرَرْت بهما قَوْله حَتَّى يَكُونَا التَّقْدِير حَتَّى أَن يَكُونَا وَكلمَة حَتَّى للغاية وَالْمعْنَى حَتَّى يكون غَايَته الْقطع تَحت الْكَعْبَيْنِ (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله مَا يلبس الْمحرم قَالَ الْمَازرِيّ وَغَيره سُئِلَ عَمَّا يلبس فَأجَاب بِمَا لَا يلبس لِأَن الْمَتْرُوك منحصر والملبوس لَا ينْحَصر لِأَن الْإِبَاحَة هِيَ الأَصْل فحصر مَا يتْرك ليبين أَن مَا سواهُ مُبَاح وَهَذَا من بديع كَلَامه وجزله وفصاحته قلت وَفَائِدَة أُخْرَى وَهُوَ مُرَاعَاة الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ لَو أجَاب بِمَا يلبس لتوهم الْمَفْهُوم وَهُوَ أَن غير الْمحرم لَا يلْبسهُ فانتقل إِلَى مَا لَا يلْبسهُ لِأَن مَفْهُومه ومنطوقه مُسْتَعْمل فَكَانَ أفْصح وأبلغ وأوجه وَقد أُجِيب بِأَن السُّؤَال كَانَ من حَقه أَن يكون عَمَّا لَا يلبس لِأَن الحكم الْعَارِض الْمُحْتَاج إِلَى الْبَيَان هُوَ الْحُرْمَة وَأما جَوَاز مَا يلبس فثابت فِي الأَصْل مَعْلُوم بالاستصحاب فَلذَلِك أَتَى بِالْجَوَابِ على وَفقه تَنْبِيها عَلَيْهِ وَقَالَ القَاضِي عِيَاض أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا ذكر فِي الحَدِيث لَا يلْبسهُ الْمحرم وَأَنه نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط فنبه بالسراويل على كل مَا يعم الْعَوْرَة من الْمخيط وبالعمائم والبرانس على كل مَا يغطى بِهِ الرَّأْس مخيطا أَو غَيره وبالخفاف على مَا يستر الرجل وَإِن لِبَاس ذَلِك جَائِز للرِّجَال فِي غير الْإِحْرَام لِأَن الْخطاب إِنَّمَا كَانَ لَهُم وَلِأَن النِّسَاء مأمورات بستر رُؤْسهنَّ قلت وَفِي عطف البرانس على الْعِمَامَة دَلِيل على أَن الْمحرم يَنْبَغِي أَن لَا يُغطي رَأسه بالمعتاد وَغَيره وَكَذَا(2/222)
نبه بالورس والزعفران على مَا سواهُمَا من أَنْوَاع الطّيب وَهُوَ حرَام على الرجل وَالْمَرْأَة فَإِن قلت مَا تقدم عَلَيْهِ وَمَا تَأَخّر عَنهُ خَاص بِالرِّجَالِ فَمن أَيْن علم عُمُومه وخصوصهما قلت الْخُصُوص من حَيْثُ أَن الْأَلْفَاظ كلهَا للمذكرين وَأما الْعُمُوم فَمن الْأَدِلَّة الْخَارِجَة عَن هَذَا الحَدِيث وَلَو كَانَت الرِّوَايَة بِرَفْع وَلَا ثوب فَالْجَوَاب أظهر قَالَ الْعلمَاء وَالْحكمَة فِي تَحْرِيم اللبَاس الْمَذْكُور على الْمحرم أَن يبعد من الترفه ويتصف بِصفة الخاشع الذَّلِيل وليتذكر أَنه محرم فِي كل وَقت فَيكون أقرب إِلَى كَثْرَة أذكاره وأبلغ فِي مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارْتِكَاب الْمَحْظُورَات وليتذكر بِهِ الْمَوْت ولباس الأكفان والبعث يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة مهطعين إِلَى الدَّاعِي وَالْحكمَة فِي تَحْرِيم الطّيب أَن يبعد من زِينَة الدُّنْيَا وَلِأَنَّهُ دَاع إِلَى الْجِمَاع وَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْحَاج فَإِنَّهُ أَشْعَث أغبر ومحصله إِرَادَة أَن يجمع همه لمقاصد الْآخِرَة قَوْله وَلَا ثوبا مَسّه الورس فَإِن قلت فَلم عدل عَن طَريقَة أخواته قلت لِأَن الطّيب حرَام على الرجل وَالْمَرْأَة فَأَرَادَ أَن يعمم الحكم للْمحرمِ والمحرمة بِخِلَاف الثِّيَاب الْمَذْكُورَة فَإِنَّهَا حرَام على الرِّجَال فَقَط قَوْله فليقطعهما قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت فَإِذا فقد النَّعْل فَهَل يجب لبس الْخُف الْمَقْطُوع لِأَن ظَاهر الْأَمر الْوُجُوب قلت لَا إِذْ هُوَ شرع للتسهيل فَلَا يُنَاسب التثقيل قلت هَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ مَذْهَب إِمَامه فَإِن الْقطع وَاجِب بِظَاهِر الْأَمر عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء إِلَّا أَن أَحْمد جوزه بِدُونِ الْقطع وَزعم أَصْحَابه أَن الْقطع إِضَاعَة وَهُوَ القَوْل بِالرَّأْيِ بِعَيْنِه ومنازعة السّنة بِهِ وَأوجب أَبُو حنيفَة الْفِدْيَة على من لم يقطعهُ (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول قَالَ ابْن بطال فِيهِ من الْفِقْه أَنه يجوز للْعَالم إِذا سُئِلَ عَن الشَّيْء أَن يُجيب بِخِلَافِهِ إِذا كَانَ فِي جَوَابه بَيَان مَا يسْأَل عَنهُ وَأما الزِّيَادَة على السُّؤَال فَحكم الْخُف وَإِنَّمَا زَاد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعلمه بِمَشَقَّة السّفر وَمِمَّا يلْحق النَّاس من الحفي بِالْمَشْيِ رَحْمَة لَهُم وَلذَلِك يجب على الْعَالم أَن يُنَبه النَّاس فِي الْمسَائِل على مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ ويتسعون فِيهِ مَا لم يكن ذَرِيعَة إِلَى ترخيص شَيْء من حُدُود الله تَعَالَى الثَّانِي فِيهِ بَيَان حُرْمَة لبس الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة على الْمحرم وَهَذَا إِجْمَاع الثَّالِث فِيهِ حُرْمَة لبس الثَّوْب الَّذِي مَسّه ورس أَو زعفران وَأطلق حرمته جمَاعَة مِنْهُم مُجَاهِد وَهِشَام بن عُرْوَة وَعُرْوَة بن الزبير وَمَالك فِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم عَنهُ فَإِنَّهُم قَالُوا كل ثوب مَسّه ورس وزعفران لَا يجوز لبسه للْمحرمِ سَوَاء كَانَ مغسولا أَو لم يكن لإِطْلَاق الحَدِيث وَإِلَيْهِ ذهب ابْن حزم الظَّاهِرِيّ وَخَالفهُم جمَاعَة وهم سعيد بن جُبَير وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَطَاوُس وَقَتَادَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر فَإِنَّهُم أَجَازُوا للْمحرمِ لبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالورس أَو الزَّعْفَرَان إِذا كَانَ غسيلا لَا ينفض لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور إِلَّا أَن يكون غسيلا وَأورد هَذِه الزِّيَادَة الطَّحَاوِيّ فِي مَعَاني الْآثَار قَالَ حَدثنَا يحيى بن عبد الحميد قَالَ حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ح وَحدثنَا ابْن أبي عمرَان قَالَ حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ قَالَ حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عبيد الله بن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الحَدِيث الْمَذْكُور وَزَاد إِلَّا يكون غسيلا قَالَ ابْن أبي عمرَان رَأَيْت يحيى بن معِين وَهُوَ يتعجب من الْحمانِي إِذْ يحدث بِهَذَا الحَدِيث فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن هَذَا عِنْدِي ثمَّ وثب من فوره فجَاء بِأَصْلِهِ فَأخْرج مِنْهُ هَذَا الحَدِيث عَن أبي مُعَاوِيَة كَمَا ذكره يحيى الْحمانِي فَكتب عَنهُ يحيى بن معِين فقد ثَبت بِمَا ذكرنَا اسْتثِْنَاء رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الغسيل مِمَّا قد مَسّه ورس أَو زعفران انْتهى كَلَامه فَإِن قلت قَالَ ابْن حزم وَلَا نعلمهُ صَحِيحا وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل أَبُو مُعَاوِيَة مُضْطَرب الحَدِيث فِي أَحَادِيث عبيد الله وَلم يَجِيء بِهَذَا أحد غَيره إِلَّا أَن يكون غسيلا قلت هَذَا يحيى بن معِين كَانَ أَولا يُنكر على يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي يَقُول كَيفَ يحدث بِهَذَا الحَدِيث ثمَّ لما قَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ هَذَا الحَدِيث عِنْدِي وَأخرج لَهُ من أَصله عَن أبي مُعَاوِيَة كَمَا ذكره الْحمانِي بِهَذِهِ الزِّيَادَة كتب عَنهُ يحيى بن معِين وَكفى حجَّة لصِحَّة هَذِه الزِّيَادَة شَهَادَة عبد الرَّحْمَن وَكِتَابَة يحيى بن معِين وَرِوَايَة أبي مُعَاوِيَة وَأَبُو مُعَاوِيَة ثِقَة ثَبت وَقَول ابْن حزم وَلَا نعلمهُ صَحِيحا نفى علمه بِصِحَّتِهِ وَهَذَا لَا يسْتَلْزم نفي صِحَّته فِي علم غَيره فَافْهَم الرَّابِع فِيهِ جَوَاز لبس الْخُفَّيْنِ إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ وَلَكِن بِشَرْط قطعهمَا فالجمهور على وجوب الْقطع كَمَا ذكرنَا وَجوزهُ أَحْمد بِغَيْر قطع وَهُوَ مَذْهَب عَطاء أَيْضا واستدلا فِي ذَلِك بِظَاهِر حَدِيث جَابر أخرجه مُسلم من لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ وَبِحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه البُخَارِيّ وَمن(2/223)
لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هذَيْن الْحَدِيثين أَعنِي حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور وَحَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر فَزعم أَصْحَاب أَحْمد أَن حَدِيث ابْن عَبَّاس وَجَابِر نَاسخ لحَدِيث عبد الله بن عمر بِالْقطعِ لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال وَقَالَ الْجُمْهُور الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة والإضاعة إِنَّمَا تكون فِيمَا نهى عَنهُ أما مَا ورد الشَّرْع بِهِ فَلَيْسَ إِضَاعَة بل هُوَ حق يجب الْإِيمَان بِهِ وادعاء النّسخ ضَعِيف جدا فَإِن قلت قَالَ ابْن قدامَة يحْتَمل أَن يكون الْأَمر بقطعهما قد نسخ فَإِن عَمْرو بن دِينَار روى الْحَدِيثين جَمِيعًا وَقَالَ انْظُرُوا أَيهمَا كَانَ قبل وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي حَدِيث ابْن عمر قبل لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي بعض رواياته نَادَى رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد يَعْنِي فِي الْمَدِينَة فَكَأَنَّهُ كَانَ قبل الْإِحْرَام وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يَقُول سمعته يخْطب بِعَرَفَات الحَدِيث فَيدل على تَأَخره عَن حَدِيث ابْن عمر فَيكون نَاسِخا لَهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْقطع وَاجِبا لبينه للنَّاس إِذْ لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ قلت يُفَسر هَذَا كُله مَا ذكره ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن ابْن عَبَّاس سَمِعت النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم وَهُوَ يخْطب وَيَقُول السَّرَاوِيل لمن لَا يجد الْإِزَار وَحدثنَا أَحْمد بن الْمِقْدَاد حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِذَاكَ الْمَكَان فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا يلبس الْمحرم الحَدِيث كَأَنَّهُ يُشِير بذلك الْمَكَان إِلَى عَرَفَات فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على مَا ذَكرُوهُ وادعوه من النّسخ وَالله أعلم فَإِن قلت قد قيل أَن قَوْله وليقطعهما من كَلَام نَافِع وَكَذَا فِي أمالي أبي قَاسم بن بشر بِسَنَد صَحِيح أَن نَافِعًا قَالَ بعد رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث وليقطع الْخُفَّيْنِ أَسْفَل الْكَعْبَيْنِ وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن التِّين أَن جَعْفَر بن برْقَان قَالَ فِي رِوَايَته قَالَ نَافِع وَيقطع الخفان أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ روى حَدِيث ابْن عمر مَالك وَعبيد الله وَأَيوب فِي آخَرين فوقفوه على ابْن عمر وَحَدِيث ابْن عَبَّاس سَالم من الْوَقْف مَعَ مَا عضده من حَدِيث جَابر وَقد أَخذ بِحَدِيث عمر وَعلي وَسَعِيد وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ أَنا نحمل قَوْله وليقطعهما على الْجَوَاز من غير كَرَاهَة لأجل الْإِحْرَام وَينْهى عَن ذَلِك فِي غير الْإِحْرَام لما فِيهِ من الْفساد قلت قَالَ أَبُو عمر قد اتّفق الْحفاظ من أَصْحَاب مَالك على لَفْظَة وليقطعهما أَنَّهَا من لفظ الحَدِيث وَأما جَعْفَر بن برْقَان فَوَهم فِيهِ فِي موضِعين. الأول جعله هَذَا من قَول نَافِع أَنه قَالَ فِيهِ من لم يجد إزارا فليلبس سَرَاوِيل وَلَيْسَ هَذَا حَدِيث ابْن عمر. وَالثَّانِي جعله هَذَا مَوْقُوفا وَقد روى أَحْمد بن حَنْبَل حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا وَفِيه ذكر الْقطع وَقَالَ لَيْسَ نجد أحدا رَفعه غير زُهَيْر قَالَ وَكَانَ زُهَيْر من معادن الصدْق ذكره عَنهُ الْمَيْمُونِيّ الْخَامِس قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا السَّرَاوِيل أطلق الْمَنْع فِيهِ وَجَاء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس إِبَاحَة لبس السَّرَاوِيل لمن لم يجد الْإِزَار بقوله من لم يجد إزارا فليلبس السَّرَاوِيل فَأخذ بِهِ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور مِنْهُم عَطاء وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَق وَدَاوُد وَمنعه أَبُو حنيفَة وَمَالك قَالَ فالشافعي أَخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول إِن هَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِحجَّة علينا وَلَا نَحن نخالفه وَلَا تركنَا الْعَمَل بِهِ فَنحْن أَيْضا نقُول بِهِ ونجوز لبس السَّرَاوِيل للضَّرُورَة كَمَا جوزتم أَنْتُم وَلَكنَّا نقيد الْجَوَاز بِالْكَفَّارَةِ فَإِذا لبس وَجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على نفي وجوب الْكَفَّارَة غَايَة مَا فِي الْبَاب الَّذِي يدل عَلَيْهِ الحَدِيث جَوَاز لبس الْخُفَّيْنِ عِنْد عدم النَّعْلَيْنِ وَجَوَاز لبس السَّرَاوِيل عِنْد عدم الْإِزَار ثمَّ أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لدلائل أُخْرَى دلّت عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد وَأَجْمعُوا أَن الْمحرم إِذا وجد إزارا لم يجز لَهُ لبس السَّرَاوِيل وَاخْتلفُوا فِيهِ إِذا لم يجد الْإِزَار هَل يلبس السَّرَاوِيل وَإِن لبسهَا على ذَلِك هَل عَلَيْهِ فديَة أم لَا فَكَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة يريان على من لبس السَّرَاوِيل وَهُوَ محرم الْفِدْيَة وَسَوَاء عِنْد مَالك وجد الْإِزَار أَو لم يجد وَفِي الْبَدَائِع الْمحرم إِذا لم يجد الْإِزَار وَأمكنهُ فتق السَّرَاوِيل والتستر فِيهِ فتقه فَإِن لبسه وَلم يفتقه فَعَلَيهِ دم فِي قَول أَصْحَابنَا وَقَالَ الشَّافِعِي يلْبسهُ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن لم يجد رِدَاء وَله قَمِيص فَلَا بَأْس أَن يشق قَمِيصه ويرتدي بِهِ لِأَنَّهُ لما شقَّه صَار بِمَنْزِلَة الرِّدَاء وَكَذَا إِذا لم يجد إزارا فَلَا بَأْس أَن يفتق سراويله خلاف مَوضِع التكة ويأتزر بِهِ لِأَنَّهُ إِذا فتقه صَار بِمَنْزِلَة الْإِزَار وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب(2/224)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(كتاب الْوضُوء)
قد ذكرنَا أَنه افْتتح الْكتاب أَولا بالمقدمة وَهُوَ بَاب الْوَحْي ثمَّ ذكر الْكتب الْمُشْتَملَة على الْأَبْوَاب وَقدم كتاب الْإِيمَان وَكتاب الْعلم للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ عِنْد كتاب الْإِيمَان ثمَّ شرع بِذكر الْكتب الْمُتَعَلّقَة بالعبادات وقدمها على غَيرهَا من الْكتب الْمُتَعَلّقَة بِنَحْوِ الْمُعَامَلَات والآداب وَالْحُدُود وَغير ذَلِك لِأَن ذكرهَا عقيب كتاب الْعلم وَالْإِيمَان أنسب لِأَن أصل الْعِبَادَات ومبناها الْإِيمَان ومعرفتها على مَا يجب وَيَنْبَغِي بِالْعلمِ ثمَّ قدم كتاب الصَّلَاة بأنواعها على غَيرهَا من كتب الْعِبَادَات لكَونهَا تالية الْإِيمَان فِي الْكتاب وَالسّنة وَلِأَن الِاحْتِيَاج إِلَى مَعْرفَتهَا أَشد لِكَثْرَة دورانها ثمَّ قدم كتاب الْوضُوء لِأَنَّهَا شَرط الصَّلَاة وَشرط الشَّيْء يسْبقهُ وَوَقع فِي بعض النّسخ كتاب الطَّهَارَة وَبعده بَاب مَا جَاءَ فِي الْوضُوء وَهَذَا أنسب لِأَن الطَّهَارَة أَعم من الْوضُوء وَالْكتاب الَّذِي يذكر فِيهِ نوع من الْأَنْوَاع يَنْبَغِي أَن يترجم بِلَفْظ عَام حَتَّى يَشْمَل جَمِيع أَقسَام ذَلِك الْكتاب ثمَّ الْكَلَام فِي لفظ الْكتاب قد مر عِنْد كتاب الْإِيمَان. وَالطَّهَارَة فِي اللُّغَة مصدر من طهر الشَّيْء بِضَم الْهَاء وَفتحهَا وَفِي الْعباب طهر الشَّيْء وطهر أَيْضا بِالضَّمِّ وبالفتح أَعلَى طَهَارَة وَالطُّهْر بِالضَّمِّ الِاسْم والطهرة اسْم من التَّطْهِير وَالطُّهْر نقيض الْحيض والتركيب يدل على نقاء وَإِزَالَة دنس. وَفِي الشَّرْع الطَّهَارَة هِيَ النَّظَافَة وَالْوُضُوء بِضَم الْوَاو من الْوَضَاءَة وَهُوَ الْحسن والنظافة تَقول وضؤ الرجل أَي صَار وضيئا وَالْمَرْأَة وضيئة وَالْوُضُوء بِالْفَتْح المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ وَفِي الْعباب الْوضُوء أَيْضا يَعْنِي بِالْفَتْح مصدر من تَوَضَّأت للصَّلَاة مثل الْقبُول وَأنكر أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء الْفَتْح فِي غير الْقبُول وَقَالَ الْأَصْمَعِي قلت لأبي عَمْرو مَا الْوضُوء بِالْفَتْح قَالَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ قلت فَمَا الْوضُوء بِالضَّمِّ قَالَ لَا أعرفهُ وَأما إسباغ الْوضُوء فبفتح الْوَاو لَا غير لِأَنَّهُ فِي معنى إبلاغ الْوضُوء موَاضعه وَذكر الْأَخْفَش فِي قَوْله تَعَالَى {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} فَقَالَ الْوقُود بِالْفَتْح الْحَطب والوقود بِالضَّمِّ الإيقاد وَهُوَ الْمصدر قَالَ وَمثل ذَلِك الْوضُوء وَهُوَ المَاء وَالْوُضُوء وَهُوَ الْمصدر ثمَّ قَالَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد تَقول الْوقُود والوقود يجوز أَن يَعْنِي بهما الْحَطب وَيجوز أَن يَعْنِي بهما الْمصدر وَقَالَ غَيره الْقبُول والولوع مفتوحان وهما مصدران شَاذان وَمَا سواهُمَا من المصادر فمبني على الضَّم قلت الْحَاصِل أَن فِي الْوضُوء ثَلَاث لُغَات أشهرها أَنه بِضَم الْوَاو اسْم للْفِعْل وَبِفَتْحِهَا اسْم للْمَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ ونقلها ابْن الْأَنْبَارِي عَن الْأَكْثَرين الثَّانِي أَنه بِفَتْح الْوَاو فيهمَا وَهُوَ قَول جماعات مِنْهُم الْخَلِيل قَالَ وَالضَّم لَا يعرف الثَّالِث أَنه بِالضَّمِّ فيهمَا وَهِي غَرِيبَة ضَعِيفَة حَكَاهَا صَاحب الْمطَالع وَهَذِه اللُّغَات الثَّلَاث مثلهَا فِي الطّهُور
(بَاب مَا جَاءَ فِي الْوضُوء وَقَول الله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} )
هَكَذَا وَقع فِي النّسخ الصَّحِيحَة وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة. بَاب فِي الْوضُوء وَقَوله عز وَجل إِذا قُمْتُم. الخ وَوَقع فِي أصل الدمياطي بَاب مَا جَاءَ فِي الْوضُوء وَقَول الله عز وَجل وَعَلِيهِ مَشى ابْن بطال فِي شَرحه وَكَذَا مَشى عَلَيْهِ الْكرْمَانِي فِي شَرحه غير أَن قبله كتاب الطَّهَارَة وَكَذَا فِي شرح الْحَافِظ مغلطاي كتاب الطَّهَارَة مَوضِع كتاب الْوضُوء ثمَّ قَوْله بَاب مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده وَالتَّقْدِير هَذَا بَاب فِي بَيَان ماجاء فِي قَول الله عز وَجل وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا جَاءَ من اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي معنى قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} هَل فِيهِ تَقْدِير أَو الْأَمر على ظَاهره وعمومه على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَنَقُول الْكَلَام فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة على أَنْوَاع (الأول) افْتتح كتاب الْوضُوء بِهَذِهِ الْآيَة لكَونهَا أصلا فِي استنباط مسَائِل هَذَا الْبَاب أَو لأجل التَّبَرُّك فِي الِافْتِتَاح بِآيَة من الْقُرْآن وَإِن كَانَ حق الدَّلِيل أَن يُؤَخر عَن الْمَدْلُول لِأَن الأَصْل فِي الدَّعْوَى تَقْدِيم الْمُدَّعِي (الثَّانِي فِي بَيَان أَلْفَاظ هَذِه الْآيَة) فَقَوله يَا حرف نِدَاء للبعيد حَقِيقَة أَو حكما وَقد يُنَادى بِهِ الْقَرِيب توكيدا وَقيل هِيَ مُشْتَركَة بَين الْبعيد والقريب وَقيل بَينهمَا وَبَين الْمُتَوَسّط وَهِي أَكثر حُرُوف النداء اسْتِعْمَالا وَلِهَذَا لَا يقدر عِنْد الْحَذف سواهَا نَحْو {يُوسُف أعرض عَن هَذَا} وَلَا يُنَادى اسْم الله تَعَالَى وَالِاسْم المستغاث وأيها وأيتها إِلَّا بهَا وَلَا الْمَنْدُوب(2/225)
إِلَّا بهَا أَو بوا. وَقَول من قَالَ أَن الْيَاء مُشْتَركَة بَين الْقَرِيب والبعيد هُوَ الْأَصَح لِأَن أَصْحَاب اللُّغَة ذكرُوا أَن يَا حرف يُنَادى بِهِ الْقَرِيب والبعيد فَإِن قلت مَا تَقول فِي قَول الدَّاعِي يَا الله وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} قلت هَذَا استقصار مِنْهُ لنَفسِهِ واستبعاد عَن مظان الْقبُول لعمله وَأي اسْم يَأْتِي لخمسة معَان الأول للشّرط نَحْو {أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} الثَّانِي للاستفهام نَحْو {أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} الثَّالِث يكون مَوْصُولا نَحْو {لننزعن من كل شيعَة أَيهمْ أَشد} التَّقْدِير لننزعن الَّذِي هُوَ أَشد نَص عَلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ الرَّابِع يكون صفة لنكرة نَحْو زيد أَي رجل أَي كَامِل فِي صِفَات الرِّجَال وَحَالا للمعرفة نَحْو مَرَرْت بِعَبْد الله أَي رجل الْخَامِس وصلَة إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ ال نَحْو يَا أَيهَا الرجل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} وَزعم الْأَخْفَش أَن أيا هَذِه هِيَ الموصولة حذف صدر صلتها وَهُوَ الْعَائِد وَالْمعْنَى يَا من هُوَ الرجل وَكَذَلِكَ يكون التَّقْدِير هَهُنَا على قَوْله يَا من هم الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة. وَهَا تسْتَعْمل على ثَلَاثَة أوجه. الأول يكون اسْما لفعل وَهُوَ خُذ تَقول هَاء للمذكر بِالْفَتْح وهاء للمؤنث بِالْكَسْرِ وهاؤما وهاؤم وهاؤن قَالَ الله تَعَالَى {هاؤم اقرؤا كِتَابيه} وَالثَّانِي يكون ضميرا للمؤنث نَحْو ضربهَا وغلامها وَالثَّالِث يكون للتّنْبِيه فَتدخل على أَرْبَعَة: الأول الْإِشَارَة نَحْو هَذَا. الثَّانِي ضمير الرّفْع الْمخبر عَنهُ باسم الْإِشَارَة نَحْو {هَا أَنْتُم أولاء} الثَّالِث اسْم الله تَعَالَى فِي الْقسم عِنْد حذف الْحَرْف نَحْوهَا الله بِقطع الْهمزَة وَوَصلهَا وَكِلَاهُمَا مَعَ إِثْبَات ألفها وحذفها. الرَّابِع نعت أَي فِي النداء نَحْو أَيهَا الرجل وَهِي فِي هَذَا وَاجِبَة للتّنْبِيه على أَنه الْمَقْصُود بالنداء وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} قَوْله {الَّذين} اسْم مَوْصُول مَوْضُوع للْجمع وَلَيْسَ هُوَ جمع الَّذِي لِأَن الَّذِي عَام لذِي الْعلم وَغَيره وَالَّذين يخْتَص بذوي الْعلم وَلَا يكون الْجمع أخص من مفرده وَقَول بعض شرَّاح الْهِدَايَة من أَصْحَابنَا أَن الَّذين جمع الَّذِي صادر من غير تَحْقِيق ثمَّ إِن الَّذين لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون صفة لأي أَو يكون موصوفها محذوفا تَقْدِيره يَا أَيهَا النَّاس الَّذين آمنُوا أَو يَا أَيهَا الْقَوْم الَّذين آمنُوا وَنَحْو ذَلِك لِأَن الموصولات وضعت وصلَة إِلَى المعارف بالجمل وَأي لَيْسَ بِمَعْرِِفَة فَلَا يكون الَّذين صفة لَهُ فَإِن قلت كَيفَ يكون الَّذين صفة لأي وَصفَة أَي هُوَ الْمُقدر من النَّاس أَو الْقَوْم قلت الْمَجْمُوع كُله هُوَ صفة أَي لَا الْمُقدر وَحده وَلَا الْمَوْصُول وَحده فَعَن هَذَا سقط اعْتِرَاض الشَّيْخ قوام الدّين الْأَتْقَانِيّ على الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ فِي قَوْله {الَّذين آمنُوا} صفة لأي بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك لِأَن صفة أَي هُوَ الْمُقدر من الْقَوْم أَو النَّاس ثمَّ آمنُوا صفة لتِلْك الصّفة الْمقدرَة لأي بِوَاسِطَة الَّذين قَوْله {آمنُوا} فعل مَاض للْجمع الْمُذكر الغائبين من آمن يُؤمن إِيمَانًا قَوْله {إِذا} تسْتَعْمل فِي الْكَلَام على وَجْهَيْن الأول أَن تكون للمفاجأة فتختص بالجمل الاسمية وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب وَلَا تقع فِي الِابْتِدَاء وَمَعْنَاهَا الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال نَحْو خرجت فَإِذا الْأسد بِالْبَابِ وَمِنْه {فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} وَالثَّانِي أَن تكون ظرفا للمستقبل متضمنة معنى الشَّرْط وتختص بِالدُّخُولِ على الْجُمْلَة الفعلية وَمن هَذَا الْقَبِيل قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} فَإِن إِذا هُنَا ظرف تضمن معنى الشَّرْط قَوْله {قُمْتُم} فعل مَاض للْجمع الْمُذكر المخاطبين قَوْله {إِلَى الصَّلَاة} كلمة إِلَى تَأتي لثمانية معَان الأول انْتِهَاء الْغَايَة الزمانية نَحْو {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} والمكانية نَحْو {من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} الثَّانِي الْمَعِيَّة نَحْو {من أَنْصَارِي إِلَى الله} الثَّالِث التَّبْيِين وَهِي المبينة لفاعلية مجرورها بعد مَا يُفِيد حبا أَو بغضا من فعل تعجب أَو اسْم تَفْضِيل نَحْو {رب السجْن أحب إِلَيّ} الرَّابِع بِمَعْنى اللَّام نَحْو الْأَمر إِلَيْك الْخَامِس بِمَعْنى فِي نَحْو {ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} السَّادِس الِابْتِدَاء كَقَوْلِه
(تَقول وَقد عاليت بالكوز فَوْقهَا ... أيسقى فَلَا يرْوى إِلَى ابْن احمرا)
السَّابِع بِمَعْنى عِنْد نَحْو أشهى إِلَيّ من الرَّحِيق السلسل أَي عِنْدِي الثَّامِن التوكيد وَهِي الزَّائِدَة أثبت ذَلِك الْفراء مستدلا بِقِرَاءَة بَعضهم {أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم} بِفَتْح الْوَاو قَوْله {الصَّلَاة} على وزن فعلة من صلى كَالزَّكَاةِ من زكى واشتقاقها من الصلا وَهُوَ الْعظم الَّذِي عَلَيْهِ الأليان لِأَن الْمُصَلِّي يُحَرك صلويه فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَقيل للثَّانِي من خيل السباق الْمُصَلِّي لِأَن رَأسه يَلِي صلوي السَّابِق وَيُقَال الصَّلَاة الدُّعَاء وَمِنْه قَول الْأَعْشَى فِي وصف الْخمر
(وقابلها الرّيح فِي دنها ... وَصلى على دنها وارتسم)
أَي دَعَا لَهَا بالسلامة وَالْبركَة. وَأما فِي الشَّرْع فَهِيَ عبارَة عَن الْأَفْعَال الْمَعْهُودَة والأذكار الْمَعْلُومَة فَإِن قلت كَيفَ يكون(2/226)
الْمَعْنى فِي الْوَجْهَيْنِ قلت على الْوَجْه الأول يكون لفظ الصَّلَاة من الْأَسْمَاء الْمُغيرَة شرعا وعَلى الْوَجْه الثَّانِي يكون من الْأَسْمَاء المنقولة شرعا لوُجُود الْمَعْنى اللّغَوِيّ مَعَ زِيَادَة فِيهَا شرعا وَفِي النَّقْل المعني اللّغَوِيّ مرعي وَفِي التَّغْيِير يكون بَاقِيا وَلكنه زيد عَلَيْهَا شَيْء آخر قَوْله {فَاغْسِلُوا} أَمر للْجمع الْمُذكر الْحَاضِرين من غسل يغسل غسلا وغسلا بِالْفَتْح وَالضَّم كِلَاهُمَا مصدران وَقيل الْغسْل بِالْفَتْح مصدر وبالضم اسْم للاغتسال وَفِي الشَّرْع الْغسْل إمرار المَاء على الْموضع إِذا لم يكن هُنَاكَ نَجَاسَة فَإِن كَانَ هُنَاكَ نَجَاسَة فغسلها إِزَالَتهَا بِالْمَاءِ أَو مَا يقوم مقَامه قَوْله {وُجُوهكُم} جمع وَجه وَحكى الْفراء حَيّ الْوُجُوه وَحي الْأَوْجه وَقَالَ ابْن السّكيت ويفعلون ذَلِك كثيرا فِي الْوَاو إِذا انضمت وَهُوَ فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من المواجهة وَهِي الْمُقَابلَة وَحده فِي الطول من مُبْتَدأ سطح الْجَبْهَة إِلَى مُنْتَهى اللحيين وهما عظما الحنك ويسميان الفكين وَعَلَيْهِمَا منابت الْأَسْنَان السُّفْلى وَمن الْأذن إِلَى الْأذن فِي الْعرض وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ والأقطع حَده من قصاص الشّعْر إِلَى أَسْفَل الذقن إِلَى شحمة الْأذن حكى ذَلِك أَبُو الْحسن الْكَرْخِي عَن أبي سعيد البردعي وَقَالَ الرَّازِيّ وَلَا نعلم خلافًا بَين الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْمَعْنى وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهر الِاسْم إِذا كَانَ إِنَّمَا سمي وَجها لظُهُوره وَلِأَنَّهُ يواجه الشَّيْء ويقابل بِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من تَحْدِيد الْوَجْه هُوَ الَّذِي يواجه الْإِنْسَان ويقابله من غَيره فَإِن قلت فَيَنْبَغِي أَن يكون الأذنان من الْوَجْه بِهَذَا الْمَعْنى قلت لَا يجب ذَلِك لِأَن الْأُذُنَيْنِ تستران بالعمامة والإزار والقلنسوة وَنَحْوهَا وَقَالَ فِي الْبَدَائِع لم يذكر حد الْوَجْه فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَذكر فِي غير الْأُصُول كَمَا ذكره فِي الْكتاب وَقَالَ هَذَا حد صَحِيح فَيخرج دَاخل الْعَينَيْنِ وَالْأنف والفم وأصول شعر الحاجبين واللحية والشارب ودنيم الذُّبَاب وَدم البراغيث لخروجها عَن المواجهة وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي لَا تسْقط وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْخَفِيف والمزني وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَق مُطلقًا وَحكى الرَّافِعِيّ قولا وَفِي الْمَبْسُوط الْعين غير دَاخل فِي غسل الْوَجْه لما فِي إِيصَال المَاء إِلَيْهَا من الْحَرج لِأَنَّهُ شَحم لَا يقبل المَاء وَمن تكلّف من الصَّحَابَة فِيهِ كف بَصَره فِي آخر عمره كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَفِي الْغَايَة للسروجي عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم أَن من غمض عَيْنَيْهِ فِي غسل الْوَجْه تغميضا شَدِيدا لَا يجْزِيه الْوضُوء وَقل من رمدت عينه فرمصت وَاجْتمعَ رماصها تكلّف إِيصَال المَاء تَحت مُجْتَمع الرمص وَيجب إِيصَال المَاء إِلَى الماق كَذَا فِي الْمُجْتَبى وَفِي المغنى وَالْوَجْه من منابت شعر الرَّأْس إِلَى ماانحدر من اللحيين والذقن إِلَى أصُول الْأُذُنَيْنِ وَلَا يعْتَبر كل أحد بِنَفسِهِ بل لَو كَانَ أجلح ينحسر شعره عَن مقدم رَأسه غسل إِلَى حد منابت الشّعْر فِي الْغَالِب والأقرع الَّذِي ينزل شعره إِلَى الْوَجْه يجب عَلَيْهِ غسل الشّعْر الَّذِي ينزل عَن حد الْغَالِب وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة للْوَجْه حد طولا وعرضا فحده طولا من منابت الشّعْر الْمُعْتَاد إِلَى الذقن وَقَوْلنَا الْمُعْتَاد احْتِرَاز عَن الأغم والأقرع وَاخْتلف الْمَذْهَب فِي حَده عرضا على أَرْبَعَة أَقْوَال فَقيل من الْأذن إِلَى الْأذن وَقيل من العذار إِلَى العذار فِي حق الملتحي وَمن الْأذن إِلَى الْأذن فِي حق الْأَمْرَد وَالْقَوْل الرَّابِع أَن غسل الْبيَاض الَّذِي بَين الصدغ وَالْأُذن سنة قَوْله {وَأَيْدِيكُمْ} جمع يَد وَأَصلهَا يدى على وزن فعل بِسُكُون الْعين لِأَن جمعهَا أَيدي ويدى مثل فلس وأفلس وفلوس وَلَا يجمع فعل على أفعل إِلَّا أحرف يسيرَة مَعْدُودَة مثل زمن وأزمن وجبل وأجبل وعصا وأعص وَقد جمعت الْأَيْدِي فِي الشّعْر على أياد قَالَ الشَّاعِر
(كَأَنَّهُ بالصحصحان الأنجد ... قطن سخام بأيادي غزل)
وَهُوَ جمع الْجمع مثل أكرع وأكارع وَالْيَد اسْم يَقع على هَذَا الْعُضْو من طرف الْأَصَابِع إِلَى الْمنْكب وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن عمارا رَضِي الله عَنهُ تيَمّم إِلَى الْمنْكب وَقَالَ تيممنا إِلَى المناكب مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ذَلِك بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَلم يُنكر عَلَيْهِ من جِهَة اللُّغَة بل هُوَ كَانَ من أهل اللُّغَة فَكَانَ عِنْده أَن الِاسْم للعضو إِلَى الْمنْكب فَثَبت بذلك أَن الِاسْم يتَنَاوَل إِلَى الْمنْكب فَإِذا كَانَ الْإِطْلَاق يَقْتَضِي ذَلِك ثمَّ ذكر التَّحْدِيد فَجعل الْمرَافِق غَايَة كَانَ ذكرهَا لإِسْقَاط مَا وَرَاءَهَا قَوْله {إِلَى الْمرَافِق} جمع مرفق بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْفَاء وعَلى الْعَكْس وَهُوَ مُجْتَمع طرف الساعد والعضد قلت الأول هُوَ اسْم الْآلَة كالمحلب وَالثَّانِي اسْم الْمَكَان وَيجوز فِيهِ فتح الْمِيم وَالْفَاء على أَن يكون مصدرا أَو اسْم مَكَان على الأَصْل وَذكر ابْن سَيّده فِي الْمُخَصّص أَن أَبَا عُبَيْدَة قَالَ الْمرْفق والمرفق من الْإِنْسَان وَالدَّابَّة على الذِّرَاع وأسفل الْعَضُد والمرفق المتكأ قَالَ الْأَصْمَعِي الْمرْفق من الْإِنْسَان وَالدَّابَّة بِكَسْر الْفَاء والمرفق الْأَمر الرفيق(2/227)
بِفَتْحِهَا وَفِي الْجَامِع للقزاز قَالَ قوم الْمرْفق من الْيَد والمتكأ وَالْأَمر بِكَسْر الْمِيم وَلذَلِك قَرَأَ الْأَعْمَش وَالْحسن وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {ويهيء لكم من أَمركُم مرفقا} بِكَسْر الْمِيم وَقرأَهَا أهل الْمَدِينَة وَعَاصِم بِالْفَتْح وَبِهَذَا يرد على الْجَوْهَرِي حَيْثُ زعم أَن الْفَتْح لم يقْرَأ أحد بِهِ وَفِي الغريبين الْفَتْح أَقيس وَالْكَسْر أَكثر فِي مرفق الْيَد قَوْله {وامسحوا} أَمر من مسح يمسح مسحا من بَاب فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا قَالَ الْجَوْهَرِي مسح بِرَأْسِهِ وتمسح بِالْأَرْضِ وَمسح الأَرْض مساحة أَي ذرعها وَمسح الْمَرْأَة أَي جَامعهَا ومسحه بِالسَّيْفِ أَي قطعه ومسحت الْإِبِل يَوْمهَا أَي سَارَتْ وَمسح الرحل بِالْكَسْرِ مسحا من الأمسح وَهُوَ الَّذِي يُصِيب أحد ربلتيه قلت الربلة بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتحهَا هُوَ بَاطِن الْفَخْذ وَقَالَ الْأَصْمَعِي الْفَتْح أفْصح وَالْجمع ربلات وَفِي الشَّرْع الْمسْح الْإِصَابَة وَقد يَجِيء بِمَعْنى الْغسْل على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى والرؤس جمع رَأس وَهُوَ جمع كَثْرَة وَجمع الْقلَّة أرؤس قَوْله {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الأرجل جمع رجل والكعب فِيهِ أَقْوَال الأول هُوَ الناشز عِنْد ملتقى السَّاق والقدم وَأنكر الْأَصْمَعِي قَول النَّاس أَنه فِي ظهر الْقدَم نَقله عَنهُ الْجَوْهَرِي وَقَالَ الزّجاج الكعبان العظمان الناتئان فِي آخر السَّاق مَعَ الْقدَم وكل مفصل للعظام فَهُوَ كَعْب إِلَّا أَن هذَيْن الْكَعْبَيْنِ ظاهران عَن يمنة الْقدَم ويسرته فَلذَلِك لم يحْتَج أَن يُقَال الكعبان اللَّذَان من صفتهما كَذَا وَكَذَا وَفِي الْمُخَصّص فِي كل رجل كعبان وهما طرفا عظمي السَّاق وملتقى الْقَدَمَيْنِ قَالَ ابْن جني وَقَول أبي كَبِير
(وَإِذا يهب من الْمَنَام رَأَيْته ... كرتوب كَعْب السَّاق لَيْسَ بزمل)
يدل على أَن الْكَعْبَيْنِ هما الناجمان فِي أَسْفَل كل سَاق من جنبيها وَأَنه لَيْسَ الشاخص فِي ظهر الْقدَم وَفِي التَّهْذِيب للأزهري عَن ثَعْلَب الكعبان المنجمان الناتئان قَالَ وَهُوَ قَول أبي عَمْرو بن الْعَلَاء والأصمعي وَفِي كتاب الْمُنْتَهى وجامع الْقَزاز الكعب الناشر عِنْد ملتقى السَّاق والقدم وَلكُل رجل كعبان الْجمع كعوب وكعاب وَقَالَت الإمامية وكل من ذهب إِلَى الْمسْح أَنه عظم مستدير مثل كَعْب الْغنم وَالْبَقر مَوْضُوع تَحت عظم السَّاق حَيْثُ يكون مفصل السَّاق والقدم عِنْد معقد الشرَاك وَقَالَ فَخر الدّين ابْن الْخَطِيب اخْتَار الْأَصْمَعِي قَول الإمامية فِي الكعب وَقَالَ الطرفان الناتئان يسميان النجمين وَهُوَ خلاف مَا نَقله عَنهُ الْجَوْهَرِي وَحجَّة الْجُمْهُور لَو كَانَ الكعب مَا ذَكرُوهُ لَكَانَ فِي كل رجل كَعْب وَاحِد فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول إِلَى الكعاب لِأَن الأَصْل أَن مَا يُوجد من خلق الْإِنْسَان مُفردا فتثنيته بِلَفْظ الْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَتقول رَأَيْت الزيدين أَنفسهمَا وَمَتى كَانَ مثنى فتثنيته بِلَفْظ التَّثْنِيَة فَلَمَّا لم يقل إِلَى الكعاب علم أَن المُرَاد من الكعب مَا أردناه الثَّانِي أَنه شَيْء خَفِي لَا يعرفهُ إِلَّا المشرحون وَمَا ذَكرْنَاهُ مَعْلُوم لكل أحد ومناط التَّكْلِيف على الظُّهُور دون الخفاء الثَّالِث حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ غسل رجله الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ الْيُسْرَى كَذَلِك أخرجه مُسلم فَدلَّ على أَن فِي كل رجل كعبين وَحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي تَسْوِيَة الصُّفُوف فقد رَأَيْت الرجل يلصق كَعبه بكعب صَاحبه ومنكبه بمنكبه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ بأسانيد جَيِّدَة وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَعْلِيقا وَلَا يتَحَقَّق إلصاق الكعب بالكعب فِيمَا ذَكرُوهُ وَحَدِيث طَارق بن عبد الله أخرجه إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده وَقَالَ حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى عَن يزِيد بن زِيَاد ابْن أبي الْجَعْد عَن جَامع بن شَدَّاد عَن طَارق بن عبد الله الْمحَاربي رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سوق ذِي الْمجَاز وَعَلِيهِ جُبَّة حَمْرَاء وَهُوَ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله تُفْلِحُوا وَرجل يتبعهُ ويرميه بِالْحِجَارَةِ وَقد أدْمى عرقوبه وكعبيه وَهُوَ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس لَا تطيعوه فَإِنَّهُ كَذَّاب فَقلت من هَذَا فَقَالُوا هَذَا ابْن عبد الْمطلب قلت فَمن هَذَا الَّذِي يتبعهُ ويرميه بِالْحِجَارَةِ قَالُوا هَذَا عبد الْعُزَّى أَبُو لَهب وَهَذَا يدل على أَن الكعب هُوَ الْعظم الناتىء فِي جَانب الْقدَم لِأَن الرَّمية إِذا كَانَت من وَرَاء الْمَاشِي لَا تصيب ظهر الْقدَم فَإِن قلت روى هِشَام بن عبد الله الرَّازِيّ عَن مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله أَنه فِي ظهر الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك قلت قَالُوا أَن ذَلِك سَهْو عَن هِشَام فِي نَقله عَن مُحَمَّد لِأَن مُحَمَّدًا قَالَ ذَلِك فِي مَسْأَلَة الْمحرم إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ حَيْثُ يقطع خفيه أَسْفَل الْكَعْبَيْنِ وَأَشَارَ مُحَمَّد بِيَدِهِ إِلَى مَوضِع الْقطع فنقله هِشَام إِلَى الطَّهَارَة وَقَالَ ابْن بطال فِي شَرحه قَالَ أَبُو حنيفَة الكعب هُوَ الْعظم الشاخص فِي ظهر الْقدَم ثمَّ قَالَ وَأهل اللُّغَة لَا يعْرفُونَ مَا قَالَه قلت هَذَا جهل مِنْهُ بِمذهب أبي(2/228)
حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَإِن ذَلِك لَيْسَ قَوْله وَلَا نَقله عَنهُ أحد من أَصْحَابه فَكيف يَقُول قَالَ أَبُو حنيفَة كَذَا وَكَذَا وَهَذَا جَرَاءَة على الْأَئِمَّة (النَّوْع الثَّالِث فِي إِعْرَاب الْآيَة) فَقَوله {يَا} حرف نِدَاء وَأي منادى وَالْهَاء مقحمة للتّنْبِيه وَالَّذِي صفة لأي وَالتَّقْدِير يَا أَيهَا الْقَوْم الَّذين كَمَا بَيناهُ وَنَظِير ذَلِك يَا أَيهَا الرجل قَوْله {آمنُوا} جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَقعت صلَة للموصول وَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب لِأَن الْجُمْلَة لَا يكون لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب إِلَّا إِذا وَقعت موقع الْمُفْرد كَمَا بَين ذَلِك فِي مَوْضِعه قَوْله {إِذا} للشّرط و {قُمْتُم} جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فعل الشَّرْط وَقَوله {فَاغْسِلُوا} جَوَاب الشَّرْط فَلذَلِك دخلت الْفَاء وَهُوَ جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل قَوْله {وُجُوهكُم} كَلَام إضافي مَفْعُوله وَقَوله {أَيْدِيكُم} بِالنّصب عطف على وُجُوهكُم التَّقْدِير فَاغْسِلُوا أَيْدِيكُم وَقَوله {وامسحوا} جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل عطف على {فَاغْسِلُوا} وَقَوله {برؤسكم} جَار ومجرور فِي مَحل النصب على المفعولية قَوْله {وأرجلكم} بِنصب اللَّام وخفضها فالنصب فِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ والخفض فِي قِرَاءَة البَاقِينَ وَقَالَ الرَّازِيّ فِي الْأَحْكَام قَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَحَمْزَة وَابْن كثير {وأرجلكم} بالخفض وتأولوها على الْمسْح وَقَرَأَ عَليّ وَعبد الله بن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وَإِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك وَنَافِع وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَحَفْص عَن عَاصِم بِالنّصب وَكَانُوا يرَوْنَ غسلهمَا وَاجِبا وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى (النَّوْع الرَّابِع فِيمَا يتَعَلَّق بالمعاني وَالْبَيَان) فِيهَا الِافْتِتَاح بالنداء الَّذِي هُوَ نوع من أَنْوَاع الطّلب لِأَنَّهُ طلب إقبال الْمُخَاطب بِحرف نَائِب مناب ادعوا وفيهَا تَقْيِيد الْفِعْل بِحرف الشَّرْط وَذَلِكَ يكون فِي التراكيب لاعتبارات شَتَّى لَا تعرف ذَلِك إِلَّا بِمَعْرِِفَة أدوات الشَّرْط الَّتِي هِيَ إِن وَإِمَّا وَإِذا وَإِذا مَا وَإِذ وإذما وَمَتى وَمَتى مَا وَأَيْنَ وأينما وَحَيْثُ وحيثما وَمن وَمَا وَمهما وَأي وأنى وَلَو وَصَاحب الْمعَانِي لَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي إِذا وَإِن وَلَو لِكَثْرَة دورانها مَعَ تعلق اعتبارات لَطِيفَة بهَا أما إِن وَإِذا فللشرط مَعَ الِاسْتِقْبَال يَعْنِي لتعليق الْفِعْل على الْفَاعِل فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل لَكِن أصل إِن عدم الْجَزْم بِوُقُوع الشَّرْط يَعْنِي عدم جزم الْقَائِل بِوُقُوع شَرطهَا وَلَا وُقُوعه بل تَجْوِيز كل مِنْهُمَا لكَونه غير مُحَقّق الْوُقُوع كَمَا فِي إِذا طلعت الشَّمْس واللاوقوع كَمَا فِي إِن طَار إِنْسَان وَنَحْو إِن يكرمني أكرمك إِذا لم يعلم الْقَائِل أيكرمه أم لَا وأصل إِذا الْجَزْم أَي جزم الْقَائِل بِوُقُوع الشَّرْط تَحْقِيقا كَمَا مر أَو خطابيا كَقَوْلِك إِذا جَاءَ محبي فَإِن مَجِيئه لَيْسَ قَطْعِيا تَحْقِيقا كطلوع الشَّمْس بل تَقْديرا بِاعْتِبَار خطابي أَي ظَنِّي وَهُوَ أَن الْمُحب يزوره الْمُحب فَإِذا تمهد هَذَا فَنَقُول ذكر فِي الْآيَة الْكَرِيمَة بإذا دون إِن وَذكر فِي آيَة الْغسْل بإن دون إِذا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما كَانَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة من الْأُمُور اللَّازِمَة والأشياء الْغَالِبَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الْمُؤمن ذكره بإذا الَّذِي تدخل على أَمر كَائِن أَو منتظر لَا محَالة بِخِلَاف الْجَنَابَة فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيام إِلَى الصَّلَاة قَليلَة جدا وَهُوَ من الْأَشْيَاء المترددة الْوُجُود والأمور الْعَارِضَة فَلذَلِك خصت بِأَن فَإِن قلت مَا تَقول فِي قَوْلهم إِن مَاتَ فلَان قلت هَذِه الْجَهَالَة فِي وَقت الْمَوْت لَا فِي وُقُوعه فَلَا يقْدَح ذَلِك وفيهَا اسْتِعْمَال الْغَائِب مَوضِع الْمُخَاطب وَذَلِكَ لِأَن الْقيَاس فِي قَوْله {آمنُوا} أَن يُقَال آمنتم لِأَن من حق المنادى بِكَوْنِهِ مُخَاطبا أَن يعبر عَنهُ بالضمير فَيُقَال يَا إياك وَيَا أَنْت إِذْ مُقْتَضى الْحَال فِي الْمُخَاطب أَن يعبر عَنهُ بضميره لَكِن لما كَانَ النداء لطلب الإقبال ليخاطب بعده بِالْمَقْصُودِ والمنادى ذاهل عَن كَونه مُخَاطبا نزل منزلَة الْغَائِب فَعبر عَنهُ بالمظهر الَّذِي هُوَ للْغَائِب ليَكُون أقضى لحق الْبَيَان. وفيهَا اخْتِيَار لفظ الْمَاضِي على الْمُضَارع فِي قَوْله {قُمْتُم} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما تمّ النداء واستحضر المنادى أَتَى بضمير الْمُخَاطب بقوله {قُمْتُم} وَلما جَاءَ الِاخْتِلَاف بَين {آمنُوا} و {قُمْتُم} ذهب بَعضهم إِلَى أَن هَذَا من قبيل الِالْتِفَات لِأَن آمنُوا مغايبة وقمتم مُخَاطبَة وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ فِي الْمُسْتَصْفى فِي شرح النافع وشنع عَلَيْهِ الشَّيْخ قوام الدّين الأتراوي فِي شَرحه وَنسبه فِي ذَلِك إِلَى الْغَلَط وَقَالَ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَن الِالْتِفَات إِنَّمَا يكون فِيمَا إِذا كَانَ حق الْكَلَام بالغيبة وَذكر بِالْخِطَابِ أَو بِالْعَكْسِ وَلم يَقع الْكَلَام فِي الْآيَة إِلَّا فِي الْموضع الَّذِي اقْتَضَاهُ قلت على تَقْرِيره كَلَام النَّسَفِيّ صَحِيح والحط عَلَيْهِ مَرْدُود يفهم ذَلِك من التَّقْرِير الَّذِي سبق بل الصَّحِيح أَن منع الِالْتِفَات هَهُنَا مَبْنِيّ على أَن آمنُوا صلَة الَّذين والموصولات غيب وَالضَّمِير الَّذِي يكون رَاجعا من الصِّلَة إِلَى الْمَوْصُول لَا يكون إِلَّا غَائِبا وَلَكِن الْجُمْلَة كلهَا أَعنِي قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي حكم الْخطاب لِأَنَّهُ(2/229)
منادى فَوَجَبَ أَن يكون مَا بعده خطابا فَكَانَ قَوْله {قُمْتُم} بِالْخِطَابِ وَاقعا فِي مَحَله مخرج على مُقْتَضى ظَاهره فَلَا يكون من الِالْتِفَات لِأَنَّهُ انْتِقَال من صِيغَة إِلَى صِيغَة أُخْرَى سَوَاء كَانَ من الضمائر بَعْضهَا إِلَى بعض أَو من غَيرهَا ثمَّ اعْلَم أَن بَعضهم قد ذكر بِنَاء على مَا سبق من أَن قَوْله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي حكم الْخطاب أَن الغائبين إِنَّمَا يدْخلُونَ تَحت الْخطاب بِالدّلَالَةِ أَو الْإِجْمَاع وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا قَالَ {آمنُوا} وَلم يقل آمنتم ليدْخل تَحْتَهُ كل من آمن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلَو قَالَ آمنتم لاختص بِمن كَانُوا فِي عصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. وفيهَا إِرَادَة الْفِعْل بِالْفِعْلِ لِأَن معنى قَوْله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون فَاغْسِلُوا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} التَّقْدِير فَإِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت لم جَازَ أَن يعبر عَن إِرَادَة الْفِعْل بِالْفِعْلِ قلت لِأَن الْفِعْل يُوجد بقدرة الْفَاعِل عَلَيْهِ وإرادته لَهُ وَهِي قَصده إِلَيْهِ وخلوص داعيه فَكَمَا عبر عَن الْقُدْرَة على الْفِعْل بِالْفِعْلِ فِي قَوْلهم الْإِنْسَان لَا يطير وَالْأَعْمَى لَا يبصر أَي لَا يقدران على الطيران والإبصار كَذَلِك عبر عَن إِرَادَة الْفِعْل بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ لِأَن الْفِعْل مسبب عَن الْقُدْرَة والإرادة فأقيم الْمُسَبّب مقَام السَّبَب للملابسة بَينهمَا ولإيجاز الْكَلَام (النَّوْع الْخَامِس فِي استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على أَنْوَاع الأول ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي وجوب الطَّهَارَة بعد الْقيام إِلَى الصَّلَاة لِأَنَّهُ جعل الْقيام إِلَيْهَا شرطا لفعل الطَّهَارَة وَحكم الْجَزَاء أَن يتَأَخَّر عَن الشَّرْط أَلا ترى أَن من قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق إِنَّمَا يَقع الطَّلَاق بعد الدُّخُول وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين أهل اللُّغَة أَنه مُقْتَضى اللَّفْظ وَحَقِيقَته وَإِلَى هَذَا ذهب أهل الظَّاهِر فَقَالُوا الْوضُوء سَببه الْقيام إِلَى الصَّلَاة فَكل من قَامَ إِلَيْهَا فَعَلَيهِ أَن يتَوَضَّأ وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن معنى الْآيَة إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من مضاجعكم فَاغْسِلُوا الخ أَو إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون فَاغْسِلُوا وَالدَّلِيل على ذَلِك من السّنة وَالْقِيَاس أما السّنة فَمَا رَوَاهُ مُسلم وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد وحَدثني مُحَمَّد بن حَاتِم وَاللَّفْظ لَهُ قَالَ أخبرنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان قَالَ حَدثنِي عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الصَّلَوَات يَوْم الْفَتْح بِوضُوء وَاحِد وَمسح على خفيه فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ لقد صنعت الْيَوْم شَيْئا لم تكن تَصنعهُ فَقَالَ عمدا صَنعته يَا عمر وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح فَدلَّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْقيام إِلَى الصَّلَاة غير مُوجب للطَّهَارَة إِذْ لم يجدد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الطَّهَارَة لكل صَلَاة فَثَبت بذلك أَن فِي الْآيَة مُقَدرا يتَعَلَّق بِهِ إِيجَاب الْوضُوء وَهُوَ إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من مضاجعكم وروى الطَّحَاوِيّ فِي مَعَاني الْآثَار وَأَبُو بكر الرَّازِيّ فِي الْأَحْكَام وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من طَرِيق جَابر عَن عبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم عَن عبد الله بن عَلْقَمَة بن الغفراء عَن أَبِيه كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أجنب أَو أهرق المَاء إِنَّمَا نكلمه فَلَا يُكَلِّمنَا ونسلم عَلَيْهِ فَلَا يرد علينا حَتَّى نزلت {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} فَدلَّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْآيَة نزلت فِي إِيجَاب الْوضُوء من الْحَدث عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَأَن التَّقْدِير فِي الْآيَة إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون فَإِن قلت حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ غير ثَابت فَلَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال قلت لَا نسلم ذَلِك لِأَن سُفْيَان يَقُول كَانَ جَابر ورعا فِي الحَدِيث مَا رَأَيْت أورع فِي الحَدِيث مِنْهُ وَعَن شُعْبَة هُوَ صَدُوق فِي الحَدِيث وَعَن وَكِيع ثِقَة وروى ذَلِك أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فروى البُخَارِيّ عَن مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سُفْيَان قَالَ حَدثنِي عَمْرو بن عَامر عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يتَوَضَّأ عِنْد كل صَلَاة قلت كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ قَالَ يَجْزِي أَحَدنَا الْوضُوء مَا لم يحدث وَقَالَ الطَّحَاوِيّ حَدثنَا أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن عَامر قَالَ سَمِعت أنسا رَضِي الله عَنهُ يَقُول كُنَّا نصلي الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد مَا لم نُحدث وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه وَقَالَ حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن مَسْعُود بن عَليّ عَن عِكْرِمَة قَالَ قَالَ سعد إِذا تَوَضَّأت فصل بوضوئك ذَلِك مَا لم تحدث وروى الطَّحَاوِيّ وَقَالَ حَدثنَا أَبُو بكرَة قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي مَسْعُود بن عَليّ عَن عِكْرِمَة أَن سَعْدا كَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد مَا لم يحدث وَرِجَاله ثِقَات وَأَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيّ صَاحب الْمسند ومسعود بن عَليّ الْبَصْرِيّ وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَغَيره وروى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه وَقَالَ حَدثنَا معمر عَن قَتَادَة عَن يُونُس بن جُبَير أبي غلاب عَن عَطاء بن عبد الله الرقاشِي قَالَ كُنَّا مَعَ أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي جَيش على سَاحل دجلة إِذْ حضرت(2/230)
الصَّلَاة فَنَادَى مناديه لِلظهْرِ فَقَامَ النَّاس إِلَى الْوضُوء فَتَوَضَّأ ثمَّ صلى بهم ثمَّ جَلَسُوا حلقا فَلَمَّا حضرت الْعَصْر نَادَى مُنَاد الْعَصْر فَهَب النَّاس للْوُضُوء أَيْضا فَأمر مناديه أَلا لَا وضوء إِلَّا على من أحدث قَالَ أوشك الْعلم أَن يذهب وَيظْهر الْجَهْل حَتَّى يضْرب الرجل أمه بِالسَّيْفِ من الْجَهْل وروى ذَلِك أَيْضا عَن جمَاعَة من التَّابِعين فروى الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن خُزَيْمَة قَالَ حَدثنَا الْحجَّاج قَالَ حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد أَن شريحا كَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَحَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه وَقَالَ حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن هِشَام عَن الْحسن قَالَ يُصَلِّي الرجل الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد مَا لم يحدث فَكَذَلِك التَّيَمُّم وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا نَحوا مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا حَدثنَا حَفْص عَن لَيْث عَن عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد أَنهم كَانُوا يصلونَ الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن مجَالد قَالَ رَأَيْت سَعْدا يُصَلِّي الصَّلَوَات كلهَا بِوضُوء وَاحِد وروى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه وَقَالَ حَدثنَا يحيى بن الْعَلَاء عَن الْأَعْمَش عَن عمَارَة بن عُمَيْر قَالَ كَانَ الْأسود بن يزِيد يتَوَضَّأ بقدح قدري الرجل ثمَّ يُصَلِّي بذلك الْوضُوء الصَّلَوَات كلهَا مَا لم يحدث وَأما الْقيَاس فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرُوا كَانَ كل من جلس يتَوَضَّأ لزمَه إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة وضوء آخر وَفِي ذَلِك تَفْوِيت الصَّلَاة بالاشتغال بِالْوضُوءِ وَهَذَا تَفْوِيت الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ بالاشتغال بمقدماته وَهَذَا لَا يجوز وَلِأَن الْحَدث شَرط وجوب الْوضُوء بِدلَالَة النَّص فَإِنَّهُ ذكر التَّيَمُّم فِي قَوْله {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} مَقْرُونا بِذكر الْحَدث وَهُوَ بدل عَن الْوضُوء وَالنَّص فِي الْبَدَل نَص فِي الأَصْل فَإِن قلت إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلم أضمر الْحَدث فِي الْآيَة قلت كَرَاهَة أَن يفْتَتح آيَة الطَّهَارَة بِذكر الْحَدث كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هدى لِلْمُتقين} حَيْثُ لم يقل هدى للضالين الصائرين إِلَى التَّقْوَى بعد الضلال كَرَاهَة أَن يفْتَتح أولى الزهراوين بِذكر الضَّلَالَة فَإِن اعْترض على الأول بِأَن الْجُلُوس فِي الْوضُوء لَيْسَ بِوَاجِب فَلَا يتم مَا ذكرْتُمْ وعَلى الثَّانِي بِأَن الْآيَة بعبارتها تدل على وجوب الْوضُوء على كل قَائِم وَآيَة التَّيَمُّم تدل بدلالتها على وُجُوبه على الْمُحدثين والعبارة قاضية على الدّلَالَة كَمَا عرف فَالْجَوَاب عَن الأول سلمنَا أَن الْجُلُوس فِي الْوضُوء غير وَاجِب لَكِن خلاف مَا ذكرنَا يُفْضِي إِلَى وجوب الْقيام للْوُضُوء دَائِما لِأَن أَدَاء الصَّلَاة لَا يتَحَقَّق إِذْ ذَاك وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع وَمَا يُفْضِي إِلَى الْبَاطِل بَاطِل وَإِذا ثَبت هَذَا ظهر أَن ظَاهر الْآيَة غير مُرَاد فَلَا يَقْتَضِي وجوب الْوضُوء على كل قَائِم فتسلم الدّلَالَة عَن الْمعَارض وَيسْقط السُّؤَال الثَّانِي فَإِن الْمُعْتَرض اعْترض بِأَن الِاسْتِدْلَال فَاسد هَهُنَا لِأَنَّهَا تدل على اشْتِرَاط وجوب التَّيَمُّم بِوُجُود الْحَدث وَالتَّيَمُّم يدل وَيجوز أَن يتَخَلَّف الْبَدَل عَن الأَصْل فِي الشَّرْط فَإِنَّهُ خَالفه فِي اشْتِرَاط النِّيَّة وَهِي شَرط لَا محَالة أُجِيب بِأَن كلامنا فِي مُخَالفَة الْبَدَل الأَصْل فِي شَرط السَّبَب فَإِن إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة بِشَرْط الْحَدث سَبَب لوُجُوب التَّيَمُّم وَالْبدل لَا يُخَالف الأَصْل فِي سَببه وَمَا ذكره لَيْسَ بِشَرْط السَّبَب فَإِن إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة بِشَرْط نِيَّة التَّيَمُّم لَيست بِسَبَب لَهُ وَإِنَّمَا النِّيَّة شَرط صِحَة التَّيَمُّم لَا شَرط سَببه (فَإِن قلت) قد رُوِيَ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يتوضؤن لكل صَلَاة قلت هُوَ مَحْمُول على الْفَضِيلَة للدلائل الَّتِي ذَكرنَاهَا فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن سَبَب وجوب الْوضُوء إِرَادَة الصَّلَاة بِشَرْط الْحَدث وَهَكَذَا ذكر فِي الْمُحِيط والمفيد وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ سَببه الْحَدث عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَالْمُخْتَار هُوَ الأول وَفِي الْحَوَاشِي الْحَدث شَرطه بِدلَالَة النَّص وصيغته أما صيغته فَلِأَنَّهُ ذكر الْحَدث فِي التَّيَمُّم الَّذِي هُوَ بدل عَن الْوضُوء وَالْبدل إِنَّمَا وَجب بِمَا وَجب بِهِ فِي الأَصْل فَكَانَ ذكر الْحَدث فِي الْبَدَل ذكرا فِي الْمُبدل وَأما الدّلَالَة فَقَوله {إِذا قُمْتُم} أَي من مضاجعكم وَهُوَ كِنَايَة عَن النّوم وَهُوَ حدث وَإِنَّمَا صرح بِذكر الْحَدث فِي الْغسْل وَالتَّيَمُّم دون الْوضُوء ليعلم أَن الْوضُوء يكون سنة وفرضا وَالْحَدَث شَرط فِي الْفَرْض دون السّنة لِأَن الْوضُوء على الْوضُوء نور على نور وَالْغسْل على الْغسْل وَالتَّيَمُّم على التَّيَمُّم لَيْسَ كَذَلِك وَهُوَ الْمَشْهُور فيهمَا عِنْد الشَّافِعِي قَالَ الْمُتَوَلِي والشاشي من الشَّافِعِيَّة فِي مُوجب الْوضُوء ثَلَاثَة أوجه. أَحدهَا الْحَدث فلولاه لم يجب. الثَّانِي الْقيام إِلَى الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ قبله. الثَّالِث وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْمُتَوَلِي وَغَيره أَنه يجب بهما. ثمَّ الْحَدث على جَمِيع الْبدن فِي وَجه كالجنابة حَتَّى منع من مس الْمُصحف بظهره وبطنه والاكتفاء بِغسْل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة تَخْفيف وَفِي وَجه يخْتَص بالأربعة وَعدم جَوَاز الْمس لعدم(2/231)
طَهَارَة جَمِيع الْبدن وَيشكل بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّة وَفِي الْأَصَح اخْتِلَاف عِنْدهم قَالَ الشاطي الْعُمُوم وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيره الِاخْتِصَاص وَرجحه النَّوَوِيّ (النَّوْع الثَّانِي من النَّوْع الْخَامِس) أَن قَوْله {إِلَى الصَّلَاة} يتَنَاوَل سَائِر الصَّلَوَات من المفروضات والنوافل لِأَن الصَّلَاة اسْم للْجِنْس فَاقْتضى أَن يكون من شَرط الصَّلَاة الطَّهَارَة أَي صَلَاة كَانَت الثَّالِث اسْتدلَّ بِظَاهِر الْآيَة طَائِفَة أَن الْوضُوء لَا يجزىء إِلَّا بعد دُخُول وَقت الصَّلَاة وَكَذَلِكَ التَّيَمُّم وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ لم يُقيد فِي النَّص دُخُول وَقت الصَّلَاة وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسل الْجَنَابَة وَرَاح فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب بقرة وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قرب كَبْشًا وَمن رَاح فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قرب دجَاجَة وَمن رَاح فِي السَّاعَة الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا قرب بَيْضَة فَإِذا خرج الإِمَام حضرت الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُون الذّكر فَهَذَا نَص جلي على جَوَاز الْوضُوء للصَّلَاة قبل دُخُول وَقتهَا لِأَن الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة لَا بُد ضَرُورَة من أَن يخرج قبل الْوَقْت أَو بعده وَأي الْأَمريْنِ كَانَ يتَطَهَّر الرَّائِح من أول النَّهَار كَانَ قبل وَقت الْجُمُعَة بِلَا شكّ الرَّابِع {فَاغْسِلُوا} يَقْتَضِي إِيجَاب الْغسْل وَهُوَ اسْم لإمرار المَاء على الْموضع إِذا لم يكن هُنَاكَ نَجَاسَة فَإِن كَانَت هُنَاكَ نَجَاسَة فغسلها إِزَالَتهَا بإمرار المَاء أَو مَا يقوم مقَامه وَلَيْسَ عَلَيْهِ غسل ذَلِك الْموضع بِيَدِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إمرار المَاء حَتَّى يجْرِي على الْموضع قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ وَقد اخْتلف فِي ذَلِك على ثَلَاثَة أوجه فَقَالَ مَالك بن أنس عَلَيْهِ إمرار المَاء ودلك الْموضع بِهِ وَإِلَّا لم يكن غاسلا وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَعَامة الْفُقَهَاء عَلَيْهِ إِجْرَاء المَاء وَلَيْسَ عَلَيْهِ دلكه بِهِ وروى هِشَام عَن أبي يُوسُف أَنه يمسح الْموضع بِالْمَاءِ كَمَا يمسح بالدهن وَفِي التُّحْفَة الْغسْل تسييل المَاء على الْموضع وَالْمسح إمراره عَلَيْهِ فقد فسر الْمسْح بِمَا فسر الرَّازِيّ الْغسْل بِهِ وَفِي الْبَدَائِع لَو اسْتعْمل المَاء من غير إسالة كالتدهن بِهِ لَا يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَعَن أبي يُوسُف أَنه يجوز وعَلى هَذَا لَو تَوَضَّأ بالثلج وَلم يقطر مِنْهُ شَيْء لَا يجوز وَلَو قطر قطرتان أَو ثَلَاث جَازَ لوُجُود الإسالة وَفِي الذَّخِيرَة تَأْوِيل مَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِن سَالَ من الْعُضْو قَطْرَة أَو قطرتان وَلم يتدارك وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة صفة الْغسْل فِي الْأَعْضَاء المغسولة أَن يلقى الْعُضْو بِالْمَاءِ لِأَن يبله وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا مسح الْأَعْضَاء كمسح الدّهن يجوز وَقَالَ بعض التَّابِعين مَا عهدناهم يلطمون وُجُوههم بِالْمَاءِ وَجَمَاعَة الْعلمَاء على خلاف مَا قَالَه أَبُو يُوسُف لِأَن تِلْكَ الْهَيْئَة الَّتِي قَالَ بهَا لَا تسميها الْعَرَب غسلا الْبَتَّةَ الْخَامِس قَوْله {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} يَقْتَضِي فَرضِيَّة غسل الْوَجْه وَقد ذكرنَا حَده السَّادِس مَا ذكرنَا من حد الْوَجْه يدل على أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق غير واجبتين بِالْآيَةِ إِذْ لَيْسَ دَاخل الْأنف والفم مواجهين لمن قَابل الْوَجْه فَمن قَالَ بوجوبهما فقد زَاد على الْكتاب وَهُوَ غير جَائِز السَّابِع أَن اللِّحْيَة يحْتَمل أَن تكون من الْوَجْه لِأَنَّهَا تواجه الْمُقَابل وَلَا تتغطى فِي الْأَكْثَر كَسَائِر الْوَجْه فَيَقْتَضِي ذَلِك وجوب غسلهَا وَيحْتَمل أَن لَا تكون من الْوَجْه لِأَن الْوَجْه مَا واجهك من الْبشرَة دون الشّعْر النَّابِت عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَت الْبشرَة ظَاهِرَة دونه فَلذَلِك اخْتلفُوا فِي غسل اللِّحْيَة وتخليلها ومسحها الثَّامِن قَوْله {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} يَقْتَضِي جَوَاز الصَّلَاة بِوُجُود الْغسْل سَوَاء قارنته النِّيَّة أَو لم تقارنه وَذَلِكَ لِأَن الْغسْل اسْم شَرْعِي مَفْهُوم الْمَعْنى فِي اللُّغَة وَهُوَ إمرار المَاء على الْموضع وَلَيْسَ هُوَ عبارَة عَن النِّيَّة فَمن شَرط فِيهِ النِّيَّة فقد زَاد على النَّص التَّاسِع قَوْله {وَأَيْدِيكُمْ} يدل على فَرضِيَّة غسل الْيَدَيْنِ وَيجب غسل كل مَا كَانَ مركبا على الْيَدَيْنِ من الْأَصَابِع الزَّائِدَة والكف الزَّائِدَة وَإِن خلق على الْعَضُد غسل مَا يُحَاذِي مَحل الْفَرْض لَا مَا فَوْقه وَفِي مغنى الْحَنَابِلَة وَإِن خلق لَهُ اصبع زَائِد أَو يَد زَائِدَة فِي مَحل الْفَرْض كالعضد أَو الْمنْكب لم يجب غسلهَا سَوَاء كَانَت قَصِيرَة أَو طَوِيلَة هَذَا قَول ابْن حَامِد وَابْن عقيل وَقَالَ القَاضِي إِن كَانَ بَعْضهَا يُحَاذِي مَحل الْفَرْض غسل مَا يحاذيه مِنْهَا وَالْأول أصح وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي ذَلِك كَمَا ذكرنَا وَإِن تعلّقت جلدَة من غير مَحل الْفَرْض حَتَّى تدلت من مَحل الْفَرْض وَجب غسلهَا لِأَن أَصْلهَا فِي مَحل الْفَرْض فَأَشْبَهت الْأصْبع الزَّائِدَة وَإِن تعلّقت فِي مَحل الْفَرْض حَتَّى صَارَت متدلية من غير مَحل الْفَرْض غسلهَا قَصِيرَة كَانَت أَو طَوِيلَة بِلَا خلاف وَإِن تعلّقت فِي أحد المحلين والتحم رَأسهَا فِي الآخر وَبَقِي وَسطهَا متجافيا صَارَت كالنابتة فِي المحلين يجب غسل مَا يُحَاذِي مَحل الْفَرْض من ظَاهرهَا وباطنها وَغسل مَا تحتهَا من مَحل الْفَرْض وَفِي الْحِلْية لَو خلق لَهُ يدان على منْكب(2/232)
إِحْدَاهمَا نَاقِصَة فالتامة هِيَ الْأَصْلِيَّة والناقصة خلقَة زَائِدَة فَإِن حَاذَى مِنْهَا مَحل الْفَرْض وَجب غسله عندنَا وَالشَّافِعِيّ وَمن أَصْحَابه من قَالَ لَا يجب غسلهَا بِحَال وَفِي الْغَايَة وَمن شلت يَده الْيُسْرَى وَلم يجد من يصب عَلَيْهِ المَاء وَلَا مَاء جَارِيا لَا يستنجي وَإِن وجد ذَلِك يستنجي بِيَمِينِهِ وَإِن شلت يَدَاهُ مسح يَدَيْهِ على الأَرْض وَوجه على الْحَائِط وَلَا يدع الصَّلَاة وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن مَقْطُوع الْيَدَيْنِ من الْمرْفقين وَالرّجلَيْنِ من الْكَعْبَيْنِ يوضىء وَجهه ويمس أَطْرَاف الْمرْفقين والكعبين بِالْمَاءِ وَلَا يجْزِيه غير ذَلِك وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَفِي الدِّرَايَة لَو قطعت يَده من الْمرْفق لَا فرض عَلَيْهِ وَفِي المغنى وَإِن قطعت يَده من دون الْمرْفق غسل مَا بَقِي من مَحل الْفَرْض وَإِن قطعت من الْمرْفق غسل الْعظم الَّذِي هُوَ طرف الْعَضُد وَإِن كَانَ من فَوق الْمرْفقين سقط الْغسْل لعدم مَحَله وَإِن كَانَ أقطع الْيَدَيْنِ فَوجدَ من يوضئه مُتَبَرعا لزمَه ذَلِك لِأَنَّهُ قَادر عَلَيْهِ وَإِن لم يجد من يوضئه إِلَّا بِأَجْر يقدر عَلَيْهِ لزمَه أَيْضا كَمَا يلْزمه شِرَاء المَاء وَقَالَ ابْن عقيل يحْتَمل أَن لَا يلْزمه كَمَا لَو عجز عَن الْقيام لم يلْزمه استيجار من يقيمه ويعتمد عَلَيْهِ وَإِن عجز عَن الْأجر أَو لم يقدر على من يستأجره صلى على حسب حَاله كعادم المَاء وَالتُّرَاب إِن وجد من ييممه وَلم يجد من يوضئه لزمَه التَّيَمُّم وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَا أعلم فِيهِ خلافًا وَفِي مَبْسُوط أبي بكر قَالَ الإسكاف يجب إِيصَال المَاء إِلَى مَا تَحت الْعَجِين أَو الطين فِي الْأَظْفَار دون الدَّرن لتولده فِيهِ وَقَالَ الصفار يجب إِيصَال المَاء إِلَى مَا تَحْتَهُ إِن طَال الظفر وَإِلَّا فَلَا وَفِي النَّوَازِل يجب فِي حق الْمصْرِيّ دون الْقَرَوِي لِأَن فِي أظفار الْمصْرِيّ دسومة فَيمْنَع وُصُول المَاء إِلَى مَا تَحْتَهُ وَفِي أظفار الْقَرَوِي طين لَا يمْنَع وَلَو كَانَ جلد سمك أَو خبز ممضوغ جَاف يمْنَع وُصُول المَاء لم يجز وَفِي ونيم الذُّبَاب والبرغوث جَازَ وَفِي الْجَامِع الْأَصْغَر إِذا كَانَ وافر الْأَظْفَار وفيهَا طين أَو عجين أَو الْمَرْأَة تضع الْحِنَّاء جَازَ فِي الْقَرَوِي وَالْمَدَنِي إِذْ لَا يَسْتَطِيع الِامْتِنَاع عَنهُ إِلَّا بحرج قَالَ الدبوسي وَهَذَا صَحِيح وَعَلِيهِ الْفَتْوَى وَفِي فَتَاوَى مَا وَرَاء النَّهر وَلَو بَقِي من مَوضِع الْغسْل قدر رَأس إبرة أَو لزق بِأَصْل ظفره طين يَابِس لم يجزه وَلَو تلطخت يَدهَا بخميرة أَو حناء جَازَ وَفِي المغنى إِذا كَانَ تَحت أَظْفَاره وسخ يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى مَا تَحْتَهُ فَقَالَ ابْن عقيل لَا تصح طَهَارَته حَتَّى يُزِيلهُ وَيحْتَمل أَن لَا يلْزمه ذَلِك لِأَن هَذَا مستتر عَادَة وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة إِذا طَالَتْ الْأَظْفَار فقد اخْتلف الْعلمَاء هَل يجب غسلهَا لِأَنَّهَا من الْيَدَيْنِ حسا وإطلاقا وَحكما وَمن الْعلمَاء من اسْتحبَّ تقصيص الزَّائِد على الْمُعْتَاد وَلم يُوجب بعض الْعلمَاء غسل الْأَظْفَار إِذا طَالَتْ وَفِي الْمُجْتَبى وَلَا يجب نزع الْخَاتم وتحريكه فِي الْوضُوء إِذا كَانَ وَاسِعًا وَفِي الضّيق اخْتِلَاف الْمَشَايِخ وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة عدم اشْتِرَاط النزع والتحريك فَإِن قلت روى الدَّارَقُطْنِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه قلت فِي سَنَده معمر بن مُحَمَّد بن عبد الله هُوَ وَأَبوهُ ضعيفان وَفِي الْأَحْكَام لِابْنِ بزيزة تَحْرِيك الْخَاتم فِي الْوضُوء وَالْغسْل اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقيل يحركه فِي الْوضُوء وَالْغسْل وَالتَّيَمُّم وَقيل لَا يحركه مُطلقًا وَقيل إِن كَانَ ضيقا حركه وَإِن كَانَ وَاسِعًا لَا يحركه وَقيل يحركه فِي الْوضُوء وَالْغسْل ويزيله فِي التَّيَمُّم النَّوْع الْعَاشِر قَوْله {إِلَى الْمرَافِق} يدل على أَن الْمرَافِق غَايَة والغاية هَل تدخل تَحت المغيا أم لَا فِيهِ خلاف فَقَالَ زفر الْغَايَة لَا تدخل تَحت المغيا وَأَرَادَ بالغاية الْحَد وبالمغيا الْمَحْدُود كَمَا لَا يدْخل اللَّيْل فِي الصَّوْم فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} بِخِلَاف قَوْله {حَتَّى يطهرن} حَيْثُ دخلت الْغَايَة فِي المغيا لِأَنَّهَا إِنَّمَا لم تدخل إِذا كَانَت عينا أَو وقتا وَهَهُنَا الْغَايَة لَا عين وَلَا وَقت بل فعل وَالْفِعْل لَا يُوجد بِنَفسِهِ فَلَا بُد من وجود الْفِعْل الَّذِي هُوَ غَايَة النَّهْي لانْتِهَاء النَّهْي فَيبقى الْفِعْل دَاخِلا فِي النَّهْي ضَرُورَة وَهَذَا الَّذِي ذكره الإِمَام المرغيناني لزفَر وَذكر غَيره تعَارض الْأَشْيَاء وَهُوَ أَن من الغايات مَا يدْخل كَقَوْلِه قَرَأت الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره وَمِنْهَا مَا لَا يدْخل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} وَقَوله {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَهَذِه الْغَايَة أَعنِي الْمرَافِق تشبه كلا مِنْهُمَا فَلَا تدخل بِالشَّكِّ وَبقول زفر قَالَ أَبُو بكر بن دَاوُد وَأَشْهَب فِي رِوَايَة عَن مَالك وَذكر المرغيناني لِأَصْحَابِنَا أَن هَذِه الْغَايَة لإِسْقَاط مَا وَرَاءَهَا إِذْ لولاها لشملت وَظِيفَة الْغسْل كل الْيَد وكل الرجل بَيَان ذَلِك أَن الْغَايَة على نَوْعَيْنِ غَايَة إِسْقَاط وَغَايَة إِثْبَات فَيعلم ذَلِك بصدر الْكَلَام فَإِن كَانَ صدر الْكَلَام يثبت الحكم فِي الْغَايَة وَمَا وَرَاءَهَا قبل ذكر الْغَايَة فَذكرهَا لإِسْقَاط مَا وَرَاءَهَا وَإِلَّا فلإمداد الحكم إِلَى تِلْكَ الْغَايَة والغاية فِي صُورَة النزاع من قبيل الْإِسْقَاط وَفِي الْمَقِيس عَلَيْهِ من قبيل الْإِثْبَات فَلَا يَصح الْقيَاس هَذَا(2/233)
تَقْرِيره قَالَه المرغيناني وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن هُنَا مدارك الأول أَن إِلَى بِمَعْنى مَعَ قَالَه ثَعْلَب وَغَيره من أهل اللُّغَة وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} وبقولهم إِلَى الذودابل وَفِيه ضعف فَإِنَّهُ يُوجب غسل الْعَضُد لاشتمال الْيَد عَلَيْهِ وعَلى الْمرْفق مَعَ أَنا نمْنَع أَن يكون إِلَى فِيمَا اسْتشْهد بِهِ بِمَعْنى مَعَ لِأَن معنى الْآيَة وَلَا تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَة إِلَى أَمْوَالكُم أَي وَلَا تضموها إِلَى أَمْوَالكُم آكلين لَهَا وَكَذَا الذوداي مَضْمُومَة إِلَى الزودابل الْمدْرك الثَّانِي أَن الْحَد يدْخل إِذا كَانَ التَّحْدِيد شَامِلًا للحد والمحدود قَالَ سِيبَوَيْهٍ والمبرد وَغَيرهمَا مَا بعد إِلَى إِذا كَانَ من نوع مَا قبلهَا دخل فِيهِ وَالْيَد عِنْد الْعَرَب من رُؤْس الْأَصَابِع إِلَى الْمنْكب وَالرجل إِلَى أَعلَى الْفَخْذ حَتَّى تيَمّم عمار رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْمنْكب وَلِهَذَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذِه الْأَشْجَار من هَذِه إِلَى هَذِه دخل الْحَد وَيكون المُرَاد بالغاية إِخْرَاج مَا وَرَاء الْحَد فَكَانَ المُرَاد بِذكر الْمرَافِق والكعبين إِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا الثَّالِث أَن إِلَى تفِيد الْغَايَة ودخولها فِي الحكم وخروجها مِنْهُ يَدُور مَعَ الدَّلِيل فَقَوله تَعَالَى {فنظرة إِلَى ميسرَة} مِمَّا لَا يدْخل فِيهِ لِأَن الْإِعْسَار عِلّة الِانْتِظَار فيزول بِزَوَال علته وَكَذَا اللَّيْل فِي الصَّوْم لَو دخل لوَجَبَ الْوِصَال وَمِمَّا فِيهِ دَلِيل الدُّخُول قَوْلك حفظت الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره وَقطعت يَد فلَان من الْخِنْصر إِلَى السبابَة فالحد يدْخل فِي الْمَحْدُود فَإِذا كَانَ الدُّخُول وَعدم الدُّخُول يقف على دَلِيل فقد وجد دَلِيل الدُّخُول هَهُنَا لوجوه ثَلَاثَة. الأول حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه تَوَضَّأ فَغسل يَدَيْهِ حَتَّى أشرع فِي العضدين وَغسل رجلَيْهِ حَتَّى أشرع فِي السَّاقَيْن ثمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ رَوَاهُ مُسلم وَلم ينْقل تَركهَا فَكَانَ فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا أَنه مِمَّا يدْخل قَوْله حَتَّى أشرع الْمَعْرُوف شرع فِي كَذَا أَي دخل وَحكى فِيهِ شرع وأشرع وروى حَتَّى أَسْبغ فِي الْعَضُد وَحَتَّى أَسْبغ فِي السَّاق. الْوَجْه الثَّانِي أَن الْمرْفق مركب من عظمي الساعد والعضد وجانب الساعد وَاجِب الْغسْل دون الْعَضُد وَقد تعذر التَّمْيِيز بَينهمَا فَوَجَبَ غسل الْمرْفق لِأَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب. الْوَجْه الثَّالِث قد وَجَبت الصَّلَاة فِي ذمَّته وَالطَّهَارَة شَرط سُقُوطهَا فَلَا تسْقط بِالشَّكِّ. الْمدْرك الرَّابِع مَتى كَانَ ذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَيْهَا لَا تدخل الْغَايَة فِي المغيا كَمَا فِي الصَّوْم لِأَنَّهُ عبارَة عَن الْإِمْسَاك أدنى سَاعَة حَقِيقَة وَشرعا حَتَّى لَو حلف لَا يَصُوم يَحْنَث بِالصَّوْمِ سَاعَة وَكَذَا لَو قَالَ ثمَّ أَتموا الصّيام اقْتضى صَوْم سَاعَة وَمَتى كَانَ يتأبد قبل ذكر الْغَايَة أَو يتَنَاوَل زِيَادَة على الْغَايَة تدخل الْغَايَة فِي الحكم وَيكون المُرَاد بهَا إِخْرَاج مَا وَرَاء الْغَايَة مَعَ بَقَاء الْغَايَة وَالْحَد دَاخِلا فِي الحكم وَاسم الْيَد يتَنَاوَل من رُؤْس الْأَصَابِع إِلَى الْإِبِط وَاسم الرجل يَتَنَاوَلهَا إِلَى أَعلَى الْفَخْذ فَكَانَ ذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وإسقاطه من الْإِيجَاب فَبَقيت الْغَايَة وَمَا قبلهَا دَاخِلا تَحت الْإِيجَاب. وَأورد على هَذَا الْمدْرك مَسْأَلَة الْيَمين وَهِي أَنه لَو حلف لَا يكلم فلَانا إِلَى رَمَضَان لَا يدْخل رَمَضَان فِي الْيَمين مَعَ أَنه لَوْلَا الْغَايَة لكَانَتْ الْيَمين متأبدة وَلم يَجْعَل ذكر الْغَايَة مسْقطًا لما وَرَاءَهَا فاليد هَهُنَا كالأيد فِي الْيَمين قَالَ خُوَاهَر زَاده وَلَا وَجه لتخريج هَذَا النَّقْض إِلَّا بِالْمَنْعِ على رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة وَقَالَ رَضِي الدّين النَّيْسَابُورِي هَذِه الْغَايَة لمد الْيَمين لَا للإسقاط لِأَن قَوْله لَا أكلم للْحَال فَكَانَ مدا لَهَا إِلَى الْأَبَد قلت هَذَا مَمْنُوع فَإِن الْمُضَارع مُشْتَرك بَين الْحَال والاستقبال والمشترك يعم فِي النَّفْي حَتَّى لَو حلف لَا يكلم موَالِي فلَان يتَنَاوَل الْأَعْلَى والأسفل ذكره فِي وَصَايَا الْهِدَايَة وَغَيرهَا وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَو شَرط الْخِيَار فِي البيع وَالشِّرَاء إِلَى الْغَد فَلهُ الْخِيَار فِي الْغَد كُله لِأَنَّهُ لَو اقْتصر على قَوْله أَنى بِالْخِيَارِ يتَنَاوَل الْأَبَد فَيكون ذكر الْغَد لإِسْقَاط مَا وَرَاءه أما وَجه ظَاهر الرِّوَايَة فِي الْيَمين فالعرف ومبنى الْإِيمَان عَلَيْهِ حَتَّى لَو حلف لَا يكلمهُ إِلَى عشرَة أَيَّام يدْخل الْيَوْم الْعَاشِر وَلَو قَالَ إِن تزوجت إِلَى خمس سِنِين دخلت السّنة الْخَامِسَة فِي الْيَمين وَكَذَا لَو اسْتَأْجر دَارا إِلَى خمس سِنِين دخلت الْخَامِسَة فِيهَا وَهَذَا الْمدْرك الرَّابِع هُوَ المتداول فِي الْكتب. النَّوْع الْحَادِي عشر قَوْله {وامسحوا برؤسكم} يدل على فَرضِيَّة مسح الرَّأْس وَاخْتلفُوا فِي الْمَفْرُوض مِنْهُ فروى أَصْحَابنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا ربع الرَّأْس وَالْأُخْرَى مِقْدَار ثَلَاثَة أَصَابِع وَيبدأ بِمقدم الرَّأْس وَقَالَ الْحسن بن الصَّالح يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث يمسح بِمقدم الرَّأْس وَقَالَ مَالك الْفَرْض مسح جَمِيع الرَّأْس وَإِن ترك الْقَلِيل مِنْهُ جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِي الْفَرْض مسح بعض رَأسه وَلم يحد شَيْئا قلت للفقهاء فِي هَذَا ثَلَاثَة عشر قولا سِتَّة عَن الْمَالِكِيَّة حَكَاهَا ابْن الْعَرَبِيّ والقرطبي وَقَالَ ابْن مسلمة صَاحب مَالك يجْزِيه مسح ثُلثَيْهِ وَقَالَ أَشهب وَأَبُو الْفرج يجْزِيه الثُّلُث وروى(2/234)
البرقي عَن أَشهب يجْزِيه مقدم رَأسه وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَظَاهر مَذْهَب مَالك الِاسْتِيعَاب وعنهم يجْزِيه أدنى مَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح وَالسَّادِس مسح كُله فرض ويعفى عَن ترك شَيْء يسير مِنْهُ يعزى إِلَى الطرطوشي وللشافعية قَولَانِ صرح أَكْثَرهم بِأَن مسح بعض شَعْرَة وَاحِدَة يجْزِيه وَقَالُوا يتَصَوَّر ذَلِك بِأَن يكون رَأسه مطليا بِالْحِنَّاءِ بِحَيْثُ لم يبْق من الشّعْر ظَاهرا إِلَّا شَعْرَة وَاحِدَة فَأمر يَده عَلَيْهَا وَهَذَا ضَعِيف جدا فَإِن الشَّرْع لَا يرد بالصورة النادرة الَّتِي يتَكَلَّف فِي تصورها وَقَالَ ابْن القَاضِي الْوَاجِب ثَلَاث شَعرَات وَهُوَ أخف من الأول وَيحصل أَضْعَاف ذَلِك بِغسْل الْوَجْه وَهُوَ يجزىء عَن الْمسْح فِي الصَّحِيح وَالنِّيَّة عِنْد كل عُضْو لَيست بِشَرْط بِلَا خلاف عِنْدهم وَدَلِيل التَّرْتِيب ضَعِيف وَعِنْدنَا فِي الْمَفْرُوض مِنْهُ ثَلَاث رِوَايَات فِي ظَاهر الرِّوَايَات ثَلَاث أَصَابِع ذكره فِي الْمُحِيط والمفيد وَهُوَ رِوَايَة هِشَام عَن أبي حنيفَة وَفِي رِوَايَة الْكَرْخِي والطَّحَاوِي مِقْدَار الناصية وَذكر فِي اخْتِلَاف زفر عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَنَّهُمَا قَالَا لَا يجْزِيه إِلَّا أَن يمسح مِقْدَار ثلث رَأسه أَو ربعه وروى يحيى بن أكتم عَن مُحَمَّد أَنه اعْتبر ربع الرَّأْس وَقَالَ أَبُو بكر عندنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ الرّبع وَثَلَاث أَصَابِع وَبَعض الْمَشَايِخ صحّح الرِّوَايَة بِثَلَاث أَصَابِع وَبَعْضهمْ رِوَايَة الرّبع احْتِيَاطًا وَفِي جَوَامِع الْفِقْه عَن الْحسن يجب مسح أَكثر الرَّأْس وَعَن أَحْمد يجب مسح جَمِيعه وَعنهُ يجزىء مسح بعضه وَالْمَرْأَة يجزيها مسح مقدم رَأسهَا فِي ظَاهر قَوْله وَفِي المغنى وَاخْتلف فِي قدر الْوَاجِب فروى عَن أَحْمد وجوب مسح جَمِيعه فِي حق كل أحد وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْخرقِيّ وَمذهب مَالك وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجزىء مسح بعضه قَالَ أَبُو الْحَارِث قلت لِأَحْمَد فَإِن مسح بِرَأْسِهِ وَترك بعضه قَالَ يجْزِيه ثمَّ قَالَ وَمن يُمكنهُ أَن يَأْتِي على الرَّأْس كُله وَنقل عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يمسح مقدم رَأسه وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مسح اليافوخ وَمِمَّنْ قَالَ بمسح الْبَعْض الْحسن وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي إِلَّا أَن الظَّاهِر عَن أَحْمد فِي حق الرجل وجوب الِاسْتِيعَاب وَفِي حق الْمَرْأَة يجزيها مقدم الرَّأْس قَالَ الْخلال الْعَمَل فِي مَذْهَب أبي عبد الله أَنَّهَا إِن مسحته بِمقدم رَأسهَا أجزأها وَقَالَ مهني قَالَ أَحْمد أَرْجُو أَن تكون الْمَرْأَة فِي مسح الرَّأْس أسهل وَقَالَ فِي الرَّوْضَة الْوَاجِب فِي مسح الرَّأْس مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَلَو بعض شَعْرَة أَو قدره من الْبشرَة وَفِي وَجه شَاذ يشْتَرط ثَلَاث شَعرَات وَشرط الشّعْر الْمَمْسُوح أَن لَا يخرج عَن حد الرَّأْس لَو مد سبطا كَانَ أَو جَعدًا انْتهى اعْلَم أَن الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس لم يُوجد لَهُ نَص فِي الْأَحَادِيث الَّتِي رويت فِي صفة وضوء النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِخِلَاف مَا ذهب إِلَيْهِ مَالك وأصحابنا أما مَا ذهب إِلَيْهِ مَالك فَهُوَ حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم رَوَاهُ مَالك عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني عَن أَبِيه قَالَ شهِدت عَمْرو بن أبي حسن سَأَلَ عبد الله بن زيد عَن وضوء رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فأكفأ على يَدَيْهِ من التور فَغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثمَّ أَدخل يَده فِي التور فَمَضْمض واستنشق واستنثر ثَلَاثًا بِثَلَاث غرفات ثمَّ أَدخل يَده فِي التور فَغسل وَجهه ثَلَاثًا وَيَديه إِلَى الْمرْفقين مرَّتَيْنِ ثمَّ أَدخل يَده فِي التور فَمسح رَأسه فَأقبل بهما وَأدبر مرّة وَاحِدَة ثمَّ غسل رجلَيْهِ أخرجه الْجَمَاعَة كلهم من حَدِيث مَالك وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا فَهُوَ حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تَوَضَّأ وَمسح بناصيته وعَلى الْعِمَامَة وعَلى الْخُفَّيْنِ رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه مطولا ومختصرا وَقَالَ أَصْحَابنَا قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤسكم} مُجمل فالتحق الحَدِيث بَيَانا بِهِ فَإِن قلت الحَدِيث يَقْتَضِي بَيَان عين الناصية وَالْمُدَّعِي ربع غير معِين وَهُوَ مِقْدَار الناصية فَلَا يُوَافق الدَّلِيل الْمَذْكُور قلت الحَدِيث يحْتَمل مَعْنيين بَيَان الْمُجْمل وَبَيَان الْمِقْدَار وَخبر الْوَاحِد يصلح بَيَانا لمجمل الْكتاب والإجمال فِي الْمِقْدَار دون الْمحل لِأَنَّهُ الرَّأْس وَهُوَ مَعْلُوم فَلَو كَانَ المُرَاد مِنْهُ الْمعِين يلْزم نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد فَإِن قلت لَا نسلم أَن الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار لِأَن المُرَاد مِنْهُ مُطلق الْبَعْض بِدَلِيل دُخُول الْبَاء فِي الْمحل وَالْمُطلق لَا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان قلت المُرَاد بعض لَا مُطلق الْمِقْدَار لوجوه الأول أَن الْمسْح على أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ مِقْدَار شَعْرَة غير مُمكن إِلَّا بِزِيَادَة غير مَعْلُومَة. وَالثَّانِي أَن الله أفرد الْمسْح بِالذكر وَلَو كَانَ المُرَاد بِالْمَسْحِ مسح مُطلق الْبَعْض وَهُوَ حَاصِل فِي ضمن الْغسْل لم يكن للإفراد بِالذكر فَائِدَة. وَالثَّالِث أَن الْمَفْرُوض فِي سَائِر الْأَعْضَاء غسل مِقْدَار فَكَذَا فِي هَذِه الْوَظِيفَة فَكَانَ مُجملا فِي حق الْمِقْدَار فَيكون فعله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم بَيَانا وَيُقَال الْبَاء للإلصاق فَاقْتضى إلصاق آلَة الْمسْح بِالرَّأْسِ لَكِن الإلصاق يحصل مَعَ(2/235)
الْبَعْض كَمَا يحصل مَعَ الْكل وَالْبَعْض الملصق مُجمل فَكَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَانا وَقَالَ صَاحب الِاخْتِيَار الْإِجْمَال فِي النَّص من حَيْثُ أَنه يحْتَمل إِرَادَة الْجَمِيع كَمَا قَالَ مَالك وَيحْتَمل إِرَادَة الرّبع كَمَا قُلْنَا وَيحْتَمل إِرَادَة الْأَقَل كَمَا قَالَ الشَّافِعِي وَهَذَا ضَعِيف لِأَن فِي احْتِمَال إِرَادَة الْجَمِيع تكون الْبَاء فِي برؤسكم زَائِدَة وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمجَاز لَا يُعَارض الأَصْل كَمَا ذكر فِي الْأُصُول وَالْعَمَل هُنَا مُمكن بِأَيّ بعض كَانَ فَلَا يكون النَّص بِهَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُجملا فَإِن قلت لَا نسلم أَن الْكتاب مُجمل لِأَن الْمُجْمل مَا لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِبَيَان من الْمُجْمل وَالْعَمَل بِهَذَا النَّص مُمكن بِحمْلِهِ على الْأَقَل لتيقنه قلت لَا نسلم أَن الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان مُمكن والأقل لَا يكون أقل من شَعْرَة وَالْمسح عَلَيْهَا لَا يكون إِلَّا بِزِيَادَة عَلَيْهَا وَمَا لَا يُمكن إِلَّا بِهِ فَهُوَ فرض وَالزِّيَادَة غير مَعْلُومَة فتحقق الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار فَإِن قلت سلمنَا أَنه مُجمل وَالْخَبَر بَيَان لَهُ وَلَكِن الدَّلِيل أخص من الْمَدْلُول فَإِن الْمَدْلُول مِقْدَار الناصية وَهُوَ ربع الرَّأْس وَالدَّلِيل يدل على تعْيين الناصية وَمثله لَا يُفِيد الْمَطْلُوب قلت الْبَيَان لما فِيهِ من الْإِجْمَال فَكَأَن الناصية بَيَانا للمقدار لَا للمحل الْمُسَمّى نَاصِيَة إِذْ لَا إِجْمَال فِي الْمحل فَكَانَ من بَاب ذكر الْخَاص وَإِرَادَة الْعَام وَهُوَ مجَاز شَائِع فَكَانَا متساويين فِي الْعُمُوم فَإِن قلت لَا نسلم أَن مِقْدَار الناصية فرض لِأَن الْفَرْض مَا ثَبت بِدَلِيل قَطْعِيّ وَخبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْقطع وَلَئِن سلمناه وَلَكِن لَازمه هُوَ تَكْفِير الجاحد مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُوم قلت الأَصْل فِي هَذَا أَن خبر الْوَاحِد إِذا لحق بَيَانا للمجمل كَانَ الحكم بعده مُضَافا إِلَى الْمُجْمل دون الْبَيَان والمجمل من الْكتاب وَالْكتاب دَلِيل قَطْعِيّ وَلَا نسلم انْتِفَاء اللَّازِم لِأَن الجاحد من لَا يكون مؤولا وَمُوجب الْأَقَل والجميع مؤول يعْتَمد شُبْهَة قَوِيَّة وَقُوَّة الشُّبْهَة تمنع التَّكْفِير من الْجَانِبَيْنِ أَلا ترى أَن أهل الْبدع لَا يكفرون بِمَا منعُوا مِمَّا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل الْقطعِي فِي نظر أهل السّنة لتأويلهم فَافْهَم. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي الْأَحْكَام قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤسكم} يَقْتَضِي مسح بعضه وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن هَذِه الأدوات مَوْضُوعَة لإِفَادَة الْمعَانِي وَإِن كَانَ قد يجوز دُخُولهَا فِي بعض الْمَوَاضِع صلَة فَتكون ملغاة وَيكون وجودهَا وَعدمهَا سَوَاء وَلَكِن لما أمكن هَهُنَا اسْتِعْمَالهَا على وَجه الْفَائِدَة لم يجز الغاؤها فَلذَلِك قُلْنَا أَنَّهَا للتَّبْعِيض وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك إِذا قلت مسحت يَدي بِالْحَائِطِ كَانَ معقولا مسحها بِبَعْضِه دون جَمِيعه وَلَو قلت مسحت الْحَائِط كَانَ الْمَعْقُول مسح جَمِيعه دون بعضه فوضح الْفرق بَين إدخالها وإسقاطها فِي الْعرف واللغة فَإِذا كَانَ كَذَلِك تحمل الْبَاء فِي الْآيَة على التَّبْعِيض تَوْفِيَة لحقها وَإِن كَانَت فِي الأَصْل للإلصاق إِذْ لَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَنَّهَا تكون مستعملة للإلصاق فِي الْبَعْض الْمَفْرُوض وَالدَّلِيل على أَنَّهَا للتَّبْعِيض مَا روى عمر بن عَليّ بن مقدم عَن إِسْمَعِيل بن حَمَّاد عَن أَبِيه حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم فِي قَوْله {وامسحوا برؤسكم} قَالَ إِذا مسح بِبَعْض الرَّأْس أَجزَأَهُ قَالَ فَلَو قَالَ وامسحوا رؤسكم كَانَ الْفَرْض مسح الرَّأْس كُله فَأخْبر أَن الْبَاء للتَّبْعِيض وَقد كَانَ من أهل اللُّغَة مَقْبُول القَوْل فِيهَا وَيدل على أَنه قد أُرِيد بهَا التَّبْعِيض فِي الْآيَة اتِّفَاق الْجَمِيع على جَوَاز ترك الْقَلِيل من الرَّأْس فِي الْمسْح والاقتصار على الْبَعْض وَهَذَا هُوَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ على التَّبْعِيض فَحِينَئِذٍ احْتَاجَ إِلَى دلَالَة فِي إِثْبَات الْمِقْدَار الَّذِي هُوَ حَده فَإِن قلت إِذا كَانَت للتَّبْعِيض لما جَازَ أَن يُقَال مسحت برأسي كُله كَمَا لَا يُقَال مسحت بِبَعْض رَأْسِي كُله قلت قد بَينا أَن حَقِيقَتهَا إِذا أطلقت التَّبْعِيض مَعَ احْتِمَال كَونهَا ملغاة فَإِذا قَالَ مسحت برأسي كُله علمنَا أَنه أَرَادَ أَن تكون الْبَاء ملغاة نَحْو قَوْله تَعَالَى {مَا لكم من إِلَه غَيره} وَنَحْو ذَلِك فَإِن قلت قَالَ ابْن جنى وَابْن برهَان من زعم أَن الْبَاء للتَّبْعِيض فقد جَاءَ أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعرفونه قلت أثبت الْأَصْمَعِي والفارسي والقتيبي وَابْن مَالك التَّبْعِيض وَقيل هُوَ مَذْهَب الْكُوفِيّين وَجعلُوا مِنْهُ (عينا يشرب بهَا عباد الله) وَقَول الشَّاعِر
(شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... )
وَيُقَال أَن الْبَاء فِي الْآيَة للاستعانة وَأَن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا فَإِن مسح يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ وَإِلَى المزيل بِالْبَاء فَالْأَصْل امسحوا رؤسكم بِالْمَاءِ وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن الْبَاء للإلصاق فَإِن دخلت فِي آلَة الْمسْح نَحْو مسحت الْحَائِط بيَدي يتَعَدَّى إِلَى الْمحل فَيتَنَاوَل كُله وَإِن دخلت فِي الْمحل نَحْو فامسحوا برؤسكم لَا يتَنَاوَل كل الْمحل تَقْدِيره الصقوها برؤسكم فَإِذا لم يتَنَاوَل كل الْمحل يَقع الْإِجْمَال فِي قدر الْمَفْرُوض مِنْهُ وَيكون الحَدِيث مُبينًا لذَلِك كَمَا قَرَّرْنَاهُ. النَّوْع الثَّانِي عشر قَوْله {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} يدل على فَرضِيَّة غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء بَيَان ذَلِك أَن قَوْله {وأرجلكم} قرىء بِالنّصب والخفض كَمَا ذكرنَا والقراءتان نقلهما الْأَئِمَّة تلقيا من رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم وَلَا يخْتَلف أهل اللُّغَة أَن كل وَاحِدَة من الْقِرَاءَتَيْن مُحْتَملَة للمسح بعطفها على الرَّأْس ومحتملة للْغسْل بعطفها على المغسول فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ القَوْل من أحد معَان ثَلَاثَة أما أَن يُقَال أَن المُرَاد هما(2/236)
جَمِيعًا فَيكون عَلَيْهِ أَن يمسح وَيغسل أَو يكون المُرَاد أَحدهمَا على وَجه التَّخْيِير يفعل المتوضىء أَيهمَا شَاءَ وَيكون مَا يَفْعَله هُوَ الْمَفْرُوض أَو يكون المُرَاد أَحدهمَا بِعَيْنِه لَا على التَّخْيِير فَلَا سَبِيل إِلَى الأول لِاتِّفَاق الْجَمِيع على خِلَافه وَكَذَا لَا سَبِيل إِلَى الثَّانِي إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَة ذكر التَّخْيِير وَلَا دلَالَة عَلَيْهِ فَتعين الْوَجْه الثَّالِث ثمَّ يحْتَاج بعد ذَلِك إِلَى طلب الدَّلِيل على المُرَاد مِنْهُمَا فالدليل على أَن المُرَاد الْغسْل دون الْمسْح اتِّفَاق الْجَمِيع على أَنه إِذا غسل فقد أدّى فَرْضه وأتى بالمراد وَأَنه غير ملوم على ترك الْمسْح فَثَبت أَن المُرَاد الْغسْل وَالصَّحَابَة أَيْضا فَهُوَ صَار فِي حكم الْمُجْمل المفتقر إِلَى الْبَيَان فَمَا ورد فِيهِ من الْبَيَان عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فعل أَو قَول علمنَا أَنه مُرَاد الله تَعَالَى وَقد ورد الْبَيَان عَنهُ بِالْغسْلِ قولا وفعلا أما فعلا فَهُوَ مَا ثَبت بِالنَّقْلِ المستفيض الْمُتَوَاتر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غسل رجلَيْهِ فِي الْوضُوء وَلم تخْتَلف الْأَئِمَّة فِيهِ وَأما قولا فَمَا رَوَاهُ جَابر وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ وخَالِد بن الْوَلِيد وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وشرحبيل بن حَسَنَة وَأَبُو أُمَامَة وَأَبُو بكر الصّديق وَأنس بن مَالك وَمُحَمّد بن مَحْمُود وَله صُحْبَة وَبَعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم. أما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه ثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَق عَن سعيد ابْن أبي كريب عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم يَقُول ويل لِلْعَرَاقِيبِ من النَّار وَأخرجه ابْن مَاجَه من طَرِيق ابْن أبي شيبَة وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَلَفظه رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قدم رجل لمْعَة لم يغسلهَا فَقَالَ ويل لِلْعَرَاقِيبِ من النَّار. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ البُخَارِيّ حَدثنَا آدم بن أبي إِيَاس قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ يمر بِنَا وَالنَّاس يتوضؤن من المطهرة فَقَالَ أَسْبغُوا الْوضُوء فَإِن أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَأخرجه الدَّارمِيّ أَيْضا فِي مُسْنده وَلَفظه ويل للعقب وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَأخْرجهُ مُسلم من طَرِيق سَالم مولى شَدَّاد قَالَ دخلت على عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم توفّي سعد بن أبي وَقاص فَدخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَتَوَضَّأ عِنْدهَا فَقَالَت يَا عبد الرَّحْمَن أَسْبغ الْوضُوء فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سُفْيَان حَدثنِي مَنْصُور عَن هِلَال بن يسَاف عَن أبي يحيى عَن عبد الله بن عَمْرو أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى قوما وَأَعْقَابهمْ تلوح فَقَالَ ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار أَسْبغُوا الْوضُوء وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَرِجَاله ثِقَات وَأَبُو يحيى اسْمه مصدع مولى عبد الله بن عَمْرو وروى لَهُ الْجَمَاعَة سوى البُخَارِيّ والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا وَلما ذكر ابْن مَاجَه حَدِيث جَابر ويل لِلْعَرَاقِيبِ من النَّار قَالَ هَذَا أعجب إِلَيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو وَحَدِيث عبد الله بن عمر وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي مستخرجه وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَلَفْظهمَا وَأَعْقَابهمْ بيض تلوح لم يَمَسهَا المَاء. وَأما حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء فَأخْرجهُ أَحْمد فِي مُسْنده حَدثنَا هَارُون قَالَ حَدثنَا عبد الله بن وهب أَخْبرنِي حَيْوَة بن شُرَيْح أَخْبرنِي عقبَة بن مُسلم عَن عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ وَهُوَ من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم يَقُول ويل لِلْأَعْقَابِ وبطون الْأَقْدَام من النَّار وَإِسْنَاده جيد حسن وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَصَححهُ الْحَاكِم. وَأما حَدِيث خَالِد بن الْوَلِيد وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وشرحبيل بن حَسَنَة فَأخْرجهُ ابْن أبي خُزَيْمَة وَلَفظه أَسْبغُوا الْوضُوء وَأَتمُّوا الرُّكُوع وَالسُّجُود ويل لِلْأَعْقَابِ. وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَأخْرجهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث لَيْث عَن ابْن سابط عَن أبي أُمَامَة أَو عَن أخي أبي أُمَامَة رأى قوما يتوضؤن فَبَقيَ على أَقْدَامهم قدر الدِّرْهَم لم يصبهُ المَاء فَقَالَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار فَكَانَ أحدهم ينظر فَإِن رأى موضعا لم يصبهُ المَاء أعَاد الْوضُوء وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط عَن أبي أُمَامَة وأخيه من غير شكّ وَلَا تردد وَقَالَ أَبُو زرْعَة لما سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث أَخُو أبي أُمَامَة لَا أعرف اسْمه وَأما حَدِيث أبي بكر الصّديق فَأخْرجهُ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه من حَدِيث عمر عَن أبي بكر الصّديق تَوَضَّأ رجل وَبَقِي على ظهر قدمه مثل ظفر إبهامه فَقَالَ لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ارْجع فَأَتمَّ وضوءك قَالَ فَفعل وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه نَحْو حَدِيث أبي بكر وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن مَحْمُود فَأخْرجهُ(2/237)
أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَأخرجه الشَّافِعِي فِي مُسْنده قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لأعمى يتَوَضَّأ اغسل بطن الْقدَم فَجعل الْأَعْمَى يغسل بطن الْقدَم وَقَالَ أَبُو إِسْحَق الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره فَسمى الْأَعْمَى أَبَا غسيل وَأما حَدِيث بعض الصَّحَابَة فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد عَن خَالِد بن معدان عَن بعض الصَّحَابَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يُصَلِّي وَفِي ظهر قدمه لمْعَة قدر الدِّرْهَم لم يصبهَا المَاء فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة وَزعم أَبُو إِسْحَق الفيروزباذي فِي كتاب غسل الرجلَيْن أَن أَبَا سعيد رَوَاهُ أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا غير مُسْتَقِيم لِأَن حَدِيث أبي سعيد لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَسْبغُوا الْوضُوء وَلم يذكر فِيهِ الأعقاب كَذَا ذكره الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ وَأحمد بن حَنْبَل فِي آخَرين فَقَوله ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار وَعِيد لايجوز أَن يسْتَحق إِلَّا بترك الْمَفْرُوض فَهَذَا يُوجب اسْتِيعَاب الرجل بِالْغسْلِ وَفِي الْغَايَة أما وَظِيفَة الرجلَيْن ففيهما أَرْبَعَة مَذَاهِب الأول هُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن وظيفتهما الْغسْل وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خَالف ذَلِك الثَّانِي مَذْهَب الإمامية من الشِّيعَة أَن الْفَرْض مسحهما الثَّالِث هُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَأبي عَليّ الجبائي أَنه مُخَيّر بَين الْمسْح وَالْغسْل الرَّابِع مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَهُوَ رِوَايَة عَن الْحسن أَن الْوَاجِب الْجمع بَينهمَا وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا هما غسلتان ومسحتان وَعنهُ أَمر الله بِالْمَسْحِ وأبى النَّاس إِلَّا الْغسْل وروى أَن الْحجَّاج خطب بالأهواز فَذكر الْوضُوء فَقَالَ اغسلوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء من ابْن آدم أقرب من مَسّه من قَدَمَيْهِ فَاغْسِلُوا بطونهما وَظُهُورهمَا وعراقيبهما فَسمع ذَلِك أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ صدق الله وَكذب الْحجَّاج قَالَ الله تَعَالَى {وامسحوا برؤسكم وأرجلكم} وَكَانَ عِكْرِمَة يمسح رجلَيْهِ وَيَقُول لَيْسَ فِي الرجلَيْن غسل وَإِنَّمَا هُوَ مسح وَقَالَ الشّعبِيّ نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْمَسْحِ وَقَالَ قَتَادَة افْترض الله غسلين ومسحين وَلِأَن قِرَاءَة الْجَرّ محكمَة فِي الْمسْح لِأَن الْمَعْطُوف يُشَارك الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي حكمه لِأَن الْعَامِل الأول ينصب عَلَيْهِمَا انصبابة وَاحِدَة بِوَاسِطَة الْوَاو عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَعند آخَرين يقدر للتابع من جنس الأول وَالنّصب يحْتَمل الْعَطف على الأول على بعد فَإِن أَبَا عَليّ قَالَ قد أجَاز قوم النصب عطفا على وُجُوهكُم وَإِنَّمَا يجوز شبهه فِي الْكَلَام المعقد وَفِي ضَرُورَة الشّعْر وَمَا يجوز على مثله محبَّة العي وظلمة اللّبْس وَنَظِيره اعط زيدا وعمرا جوائزهما وَمر ببكر وخَالِد فَأَي بَيَان فِي هَذَا وَأي لبس أقوى من هَذَا ذكره المرسي حاكيا عَنهُ فِي ري الظمآن وَيحْتَمل الْعَطف على مَحل برؤسكم كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير} بِالنّصب عطفا على الْمحل لِأَنَّهُ مفعول بِهِ وكقول الشَّاعِر
(معاوي أننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال وَلَا الحديدا)
بِالنّصب على مَحل الْجبَال لِأَنَّهُ خبر لَيْسَ فَوَجَبَ أَن يحمل الْمُحْتَمل على الْمُحكم. وَلنَا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المستفيضة فِي صفة وضوء النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه غسل رجلَيْهِ وَهُوَ حَدِيث عُثْمَان الْمُتَّفق على صِحَّته وَحَدِيث عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن زيد وَالربيع بنت معوذ بن عفراء وَعَمْرو بن عبسة رَضِي الله عَنْهُم وَثَبت أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رأى جمَاعَة توضؤا وَبقيت أَعْقَابهم تلوح فَلم يَمَسهَا المَاء فَقَالَ ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار وَلم يثبت عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه مسح رجلَيْهِ بِغَيْر خف فِي حضر وَلَا سفر وَالْآيَة قُرِئت بالحركات الثَّلَاث بِالنّصب وَله وَجْهَان أَحدهمَا أَن يكون مَعْطُوفًا على وُجُوهكُم فيشاركها فِي حكمهَا وَهُوَ الْغسْل وَإِنَّمَا أخرت عَن الْمسْح بعد المغسولين لوُجُوب تَأْخِير غسلهمَا عَن مسح الرَّأْس عِنْد قوم ولاستحبابه عِنْد آخَرين وَالثَّانِي أَن يكون عَامله مُقَدرا وَهُوَ واغسلوا لَا بالْعَطْف على وُجُوهكُم كَمَا تَقول أكلت الْخبز وَاللَّبن أَي شربته وَإِن لم يتَقَدَّم للشُّرْب ذكر وَهَهُنَا تقدم للْغسْل ذكر فَكَانَ أولى بالاضمار وَمِنْه علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا أَي سقيتها وَقَالَ رَأَيْت زَوجك فِي الوغى مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا أَي وحاملا رمحا وَقَالَ. شراب البان وتمر وأقط. أَي وآكل تمر وأقط. وبالجر وَعنهُ أجوبة. الأول أَنَّهَا جرت على مجاورة رؤسكم وَإِن كَانَت مَنْصُوبَة كَقَوْلِه تَعَالَى {إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم أَلِيم} على جوَار يَوْم وَإِن كَانَ صفة للعذاب وكقولهم هَذَا جُحر ضَب خرب صفة جُحر وَإِن كَانَ مَرْفُوعا فَإِذا قلت جحرا ضَب خربين وجحرة ضباب خربة لم يجزه الْخَلِيل فِي التَّثْنِيَة وَأَجَازَهُ فِي الْجمع وَاشْترط أَن يكون الآخر مثل الأول وَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهٍ فِي الْكل الْجَواب الثَّانِي أَنَّهَا عطفت على الرؤس لِأَنَّهَا تغسل(2/238)
بصب المَاء عَلَيْهَا فَكَانَت مَظَنَّة لإسراف المَاء الْمنْهِي عَنهُ لَا لتمسح وَلَكِن لينبه على وجوب الاقتصاد فِي صب المَاء عَلَيْهَا فجيء بالغاية ليعلم أَن حكمهَا مُخَالف لحكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا غَايَة فِي الْمَمْسُوح قَالَه صَاحب الْكَشَّاف. الْجَواب الثَّالِث هُوَ مَحْمُول على حَالَة اللّبْس للخف وَالنّصب على الْغسْل عِنْد عَدمه وروى همام بن الْحَارِث أَن جرير بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ بَال ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح على خفيه فَقيل لَهُ أتفعل هَذَا قَالَ وَمَا يَمْنعنِي وَقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله وَكَانَ يعجبهم حَدِيث جرير لِأَن إِسْلَامه كَانَ بعد نزُول الْمَائِدَة قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ اتّفق النَّاس على صِحَة حَدِيث جرير وَهَذَا نَص يرد مَا ذَكرُوهُ فَإِن قلت روى مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ أَن جَرِيرًا أسلم فِي سنة عشر فِي شهر رَمَضَان وَأَن الْمَائِدَة نزلت فِي ذِي الْحجَّة يَوْم عَرَفَة قلت هَذَا لَا يثبت لِأَن الْوَاقِدِيّ فِيهِ كَلَام وَإِنَّمَا نزل يَوْم عَرَفَة {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} الْجَواب الرَّابِع أَن الْمسْح يسْتَعْمل بِمَعْنى الْغسْل الْخَفِيف يُقَال مسح على أَطْرَافه إِذا تَوَضَّأ قَالَه أَبُو زيد وَابْن قُتَيْبَة وَأَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَفِيه نظر وَمَا ذكر عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مُحَمَّد بن جرير إِسْنَاده صَحِيح والضعيف الثَّابِت عَنهُ أَنه كَانَ يقرؤ وأرجلكم بِالنّصب فَيَقُول عطف على المغسول هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ عَنهُ مِنْهُم الْقَاسِم بن سَلام وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهمَا وَثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَنهُ أَنه تَوَضَّأ وَغسل رجلَيْهِ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما قَوْله {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير} بِالنّصب على الْمحل فَمَمْنُوع لِأَنَّهُ مفعول مَعَه وَلَو سلم الْعَطف على الْمحل فَإِنَّمَا يجوز مثل ذَلِك عِنْد عدم اللّبْس نقل ذَلِك عَن سِيبَوَيْهٍ وَهَهُنَا لبس فَلَا يجوز وَأما الْبَيْت فَغير مُسلم فَإِنَّهُ ذكر فِي العقد أَن سِيبَوَيْهٍ غلط فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّاعِر بالخفض وَالْقَصِيدَة كلهَا مجرورة فَمَا كَانَ مُضْطَرّا إِلَى أَن ينصب هَذَا الْبَيْت ويحتال بحيلة ضَعِيفَة قَالَ
(معاوي أننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال وَلَا الْحَدِيد)
(أكلْتُم أَرْضنَا وجزرتموها ... فَهَل من قَائِم أَو من حصيد)
(أتطمع فِي الخلود إِذا هلكنا ... وَلَيْسَ لنا وَلَا لَك من خُلُود)
وَقيل هما قصيدتان مجرورة. ومنصوبة وَفِيه بعد قلت ملخص الْكَلَام هَهُنَا أَنه ثَبت الْأَوْجه الثَّلَاثَة فِي قَوْله {وأرجلكم} الرّفْع قَرَأَ بِهِ نَافِع رَوَاهُ عَنهُ الْوَلِيد بن مُسلم وَهُوَ قِرَاءَة الْأَعْمَش وَالنّصب قَرَأَ بِهِ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وَإِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَحَفْص وَعَاصِم وَعلي بن حَمْزَة وَقَالَ الْأَزْهَرِي وَهِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس وَالْأَعْمَش وَحَفْص عَن أبي بكر وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي والجر قَرَأَ بِهِ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَحَمْزَة وَابْن كثير وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَقَرَأَ أنس وعلقمة وَأَبُو جَعْفَر بالخفض وَالْمَشْهُور هُوَ قِرَاءَة النصب والجر وَبَينهمَا تعَارض وَالْحكم فِي تعَارض الرِّوَايَتَيْنِ كَالْحكمِ فِي تعَارض الْآيَتَيْنِ وَهُوَ أَنه إِن أمكن الْعَمَل بهما مُطلقًا يعْمل وَإِن لم يُمكن يعْمل بهما بِالْقدرِ الْمُمكن وَهَهُنَا لَا يُمكن الْجمع بَين الْغسْل وَالْمسح فِي عُضْو وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة لِأَنَّهُ لم يقل بِهِ أحد من السّلف وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تكْرَار الْمسْح لِأَن الْغسْل يتَضَمَّن الْمسْح وَالْأَمر الْمُطلق لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَيعْمل فِي حالتين فَيحمل فِي قِرَاءَة النصب على مَا إِذا كَانَت الرّجلَانِ باديتين وَتحمل قِرَاءَة الْخَفْض على مَا إِذا كَانَتَا مستورتين بالخفين تَوْفِيقًا بَين الْقِرَاءَتَيْن وَعَملا بهما بِالْقدرِ الْمُمكن وَقد يُقَال أَن قِرَاءَة من قَرَأَ وأرجلكم بِالْجَرِّ مُعَارضَة لمن نصبها فَلَا حجَّة إِذا لوُجُود الْمُعَارضَة فَإِن قلت نَحن نحمل قِرَاءَة النصب على أَنَّهَا مَنْصُوبَة على الْمحل فَإِذا حملناه على ذَلِك لم يكن بَينهمَا تعَارض بل يكون مَعْنَاهُمَا النصب وَإِن اخْتلف اللَّفْظ فيهمَا وَمَتى أمكن الْجمع لم يجز الْحمل على التَّعَارُض وَالِاخْتِلَاف وَالدَّلِيل على جَوَاز الْعَطف على الْمحل قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام} وَقَالَ الشَّاعِر
(أَلا حَيّ نَدْمَانِي عُمَيْر بن عَامر ... إِذا مَا تلاقينا من الْيَوْم أَو غَدا)
فنصب غَدا على الْمحل قلت الْعَطف على الْمحل خلاف السّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أما السّنة فَحَدِيث عَمْرو بن عبسة الَّذِي أخرجه مُسلم وَفِيه ثمَّ يغسل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الحَدِيث وَأما الْإِجْمَاع فَهُوَ مَا روى عَاصِم عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ بَينا يَوْم نَحن وَالْحسن يقْرَأ على عَليّ رَضِي الله عَنهُ وجليس قَاعد إِلَى جنبه يحادثه فَسَمعته يقْرَأ (وأرجلكم) فَفتح عَلَيْهِ الجليس بالخفض فَقَالَ عَليّ وزجره إِنَّمَا هُوَ (فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم واغسلوا أَرْجُلكُم) من(2/239)
تَقْدِيم الْقُرْآن الْعَظِيم وتأخيره وَكَذَلِكَ عَن عُرْوَة وَمُجاهد وَالْحسن وَمُحَمّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج وَالضَّحَّاك وَعبد الله بن عَمْرو بن غيلَان زَاد الْبَيْهَقِيّ عَطاء وَيَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد التَّيْمِيّ وَأَبا بكر بن عَيَّاش وَذكر ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ أَنه نصب على الِاسْتِئْنَاف وَقيل المُرَاد بِالْمَسْحِ فِي حق الرجل الْغسْل وَلَكِن أطلق عَلَيْهِ لفظ الْمسْح للمشاكلة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَقيل إِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْمسْح لِأَن الأرجل من بَين سَائِر الْأَعْضَاء مَظَنَّة إِسْرَاف المَاء بالصب فعطف على الْمَمْسُوح وَإِن كَانَت مغسولة للتّنْبِيه على وجوب الاقتصاد فِي الصب لَا للمسح وَجِيء بالغاية فَقيل إِلَى الْكَعْبَيْنِ إمَاطَة لظن ظان يحسبها أَنَّهَا ممسوحة إِذْ الْمسْح لم يصرف لَهُ غَايَة فَافْهَم فَإِن قلت رويت أَحَادِيث فِي مسح الرجلَيْن مِنْهَا حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ لَا يتم صَلَاة لأحد حَتَّى يسبغ الْوضُوء كَمَا أمره الله تَعَالَى فَيغسل وَجهه وَيَديه إِلَى الْمرْفقين وَيمْسَح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حسنه أَبُو عَليّ الطوسي الْحَافِظ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَأَبُو بكر الْبَزَّار وَصَححهُ الْحَافِظ ابْن حبَان وَابْن حزم وَمِنْهَا حَدِيث عبد الله بن زيد أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُسْنده عَن أبي عبد الرَّحْمَن بن الْمقري عَن سعيد ابْن أبي أَيُّوب حَدثنِي أَبُو الْأسود عَن عباد بن تَمِيم عَن عبد الله بن زيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وَمسح بِالْمَاءِ على رجلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن أبي زُهَيْر عَن الْمقري بِهِ وَمِنْهَا حَدِيث رجل من قيس رَوَاهُ أَبُو مُسلم الْكَجِّي فِي سنَنه عَن حجاج حَدثنَا حَمَّاد عَن أبي جَعْفَر الخطمي عُمَيْر بن يزِيد عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة بن ثَابت عَن رجل من قُرَيْش قَالَ تبِعت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بقدح فِيهِ مَاء فَلَمَّا قضى حَاجته تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة قَالَ فِيهِ ثمَّ مسح على قدمه الْيُمْنَى ثمَّ قبض أُخْرَى فَمسح قدمه الْيُسْرَى وَمِنْهَا حَدِيث جَابر بن عبد الله أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَمِنْهَا حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أخرجه ابْن شاهين فِي كتاب النَّاسِخ والمنسوخ وَمِنْهَا حَدِيث أَوْس بن أَوْس أخرجه ابْن شاهين أَيْضا وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا فَقبض قَبْضَة من المَاء فرش على رجله الْيُمْنَى وفيهَا النَّعْل ثمَّ مسحها بيدَيْهِ يَد فَوق الْقدَم وَيَد تَحت النَّعْل ثمَّ صنع باليسرى مثل ذَلِك وَمِنْهَا حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ذكره أَحْمد بن عَليّ القَاضِي فِي كِتَابه مُسْند عُثْمَان بِسَنَد صَحِيح أَنه تَوَضَّأ ثمَّ مسح رَأسه ثمَّ ظهر قَدَمَيْهِ ثمَّ رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت أما حَدِيث رِفَاعَة فقد قَالَ ابْن القطام فِي إِسْنَاده يحيى بن عَليّ بن خَلاد وَهُوَ مَجْهُول وَلَكِن يخدشه قَول من صَححهُ أَو حسنه كَمَا ذَكرْنَاهُ وَيحيى ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَأما حَدِيث عبد الله بن زيد فقد قَالَ أَبُو عمر إِسْنَاده لَا تقوم بِهِ حجَّة وَقَالَ الجوزقاني فِي كِتَابه هَذَا حَدِيث مُنكر وَأما حَدِيث رجل من قيس فَإِن الْمسْح فِيهِ مَحْمُول على الْغسْل الْخَفِيف وَأما حَدِيث جَابر وَعمر فَفِي إسنادهما عبد الله بن لَهِيعَة وَأما حَدِيث أَوْس بن أَوْس فَإِنَّهُ كَأَن فِي مبدأ الْإِسْلَام ثمَّ نسخ وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَإِن أَبَا إِسْحَق الْحَرْبِيّ لما ذكره من جِهَة معمر قَالَ لَو شِئْت لحدثتكم أَن زيد بن أسلم حَدثنِي عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أَبُو إِسْحَق الْحَمد لله الَّذِي لم يقدر على لِسَان عمر أَن يحدث بِهِ على حَقِيقَته إِنَّمَا حدث بِهِ على حسبان لِأَنَّهُ حَدِيث مُنكر الْإِسْنَاد وَالْخَبَر جَمِيعًا. وَأما حَدِيث عُثْمَان فَإِنَّهُ مَحْمُول على أَن الْمسْح فِيهِ كَانَ على الْخُف (قَالَ أَبُو عبد الله وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فرض الْوضُوء مرّة مرّة وَتَوَضَّأ أَيْضا مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَلم يزدْ على ثَلَاث) أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه قَوْله وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْلِيق وسيذكره مَوْصُولا فِي بَاب مُفْرد لذَلِك وَكَذَا قَوْله وَتَوَضَّأ أَيْضا إِلَى آخِره تَعْلِيق وسيذكره مَوْصُولا فِي بَاب مُفْرد لذَلِك وَأَشَارَ بهما إِلَى أَن الْأَمر من حَيْثُ هُوَ لإيجاد حَقِيقَة الشَّيْء الْمَأْمُور بِهِ لَا يَقْتَضِي الْمرة وَلَا التّكْرَار بل هُوَ مُحْتَمل لَهما فَبين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد مِنْهُ الْمرة حَيْثُ غسل مرّة وَاحِدَة وَاكْتفى بهَا إِذْ لَو لم يكن الْفَرْض إِلَّا مرّة وَاحِدَة لم يجز الاجتزاء بهَا وَأَشَارَ أَيْضا بقوله مرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا إِلَى أَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا لِأَن فعل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدل على النّدب غَالِبا إِذا لم يكن دَلِيل على الْوُجُوب لكَونه بَيَانا للْوَاجِب مثلا فَإِن قلت فِي أَيْن وَقع بَيَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن فرض الْوضُوء مرّة مرّة قلت هُوَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/240)
تَوَضَّأ مرّة مرّة وَهُوَ بَيَان بِالْفِعْلِ لمجمل الْآيَة وَحَدِيث أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ مرّة مرّة وَقَالَ هَذَا وضوء لَا تقبل الصَّلَاة إِلَّا بِهِ فَفِيهِ بَيَان بالْقَوْل وَالْفِعْل وَهَذَا أخرجه ابْن مَاجَه وَلكنه ضَعِيف وَله طرق أُخْرَى كلهَا ضَعِيفَة وَقَالَ مهنى سَأَلت أَبَا عبد الله يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْوضُوء مرّة مرّة فَقَالَ الْأَحَادِيث فِيهِ ضَعِيفَة وَفِيه نظر لِأَنَّهُ صَحَّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْمَذْكُور وَجَمِيع مَا ذكره البُخَارِيّ وَقع فِي حَدِيث ابْن مَاجَه عَن عبد الله بن عَامر حَدثنَا شريك عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ سَأَلت أَبَا جَعْفَر قلت لَهُ حَدثَك جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة قَالَ نعم قلت مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا قَالَ نعم قلت قَالَ التِّرْمِذِيّ روى وَكِيع هَذَا عَن ثَابت قلت لأبي جَعْفَر حَدثَك جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة وَهَذَا أصح من حَدِيث شريك لِأَنَّهُ روى من غير وَجه هَذَا غير ثَابت نَحْو رِوَايَة وَكِيع وَشريك كثير الْغَلَط وَسُئِلَ البُخَارِيّ عَن الْحَدِيثين فِيمَا ذكره فِي الْعِلَل الْكَبِير فَقَالَ الصَّحِيح مَا رَوَاهُ وَكِيع وَحَدِيث شريك لَيْسَ بِصَحِيح وَلما ذكر الْبَزَّار حَدِيث شريك قَالَ لَا نعلمهُ يروي عَن جَابر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عَليّ إِلَّا أَبُو حَمْزَة الثمالِي انْتهى وَفِيه نظر لما ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُعْجَمه حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن حَفْص حَدثنَا عبد الله بن هَاشم الطوسي حَدثنَا الْحَارِث بن عمرَان الْجَعْفَرِي عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قلت لجَابِر فَذكره وَقَالَ ابْن مَاجَه أَيْضا أَنبأَنَا أَبُو بكر بن خَلاد حَدثنِي مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز حَدثنِي عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي عَن أَبِيه عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ تَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحِدَة وَاحِدَة وَقَالَ هَذَا وضوء من لَا يقبل الله مِنْهُ صَلَاة إِلَّا بِهِ ثمَّ تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَقَالَ هَذَا وضوء الْقدر من الْوضُوء وَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ هَذَا أَسْبغ الْوضُوء وَهُوَ وضوئي ووضوء الْخَلِيل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ الْمَقْدِسِي هَذَا حَدِيث غير ثَابت وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي الْعِلَل لَا يَصح هَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ أَبُو زرْعَة هُوَ عِنْدِي حَدِيث واه وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة لم يلْحق ابْن عمر قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب الْعِلَل رَوَاهُ إِسْرَائِيل الْملَائي عَن الْعمي عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَوهم فِيهِ وَالصَّوَاب قَول من قَالَ عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة وَرَوَاهُ أَبُو عرُوبَة الْحَرَّانِي فِي كتاب الطَّبَقَات الْكَبِير عَن الْمسيب بن وَاضح حَدثنَا جَعْفَر بن ميسرَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَلما رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه قَالَ تفرد بِهِ الْمسيب وَهُوَ ضَعِيف وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه تفرد بِهِ الْمسيب وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ فِي الْمعرفَة وَالْمُسَيب غير مُحْتَج بِهِ وَرُوِيَ من أوجه كلهَا ضَعِيفَة قلت قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ صَدُوق وَكَانَ يخطىء كثيرا فَإِذا قيل لَهُ لم يقبل وَقَالَ ابو عرُوبَة كَانَ لَا يحدث إِلَّا بِشَيْء يعرفهُ يقف عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو نصر بن فاخر كَانَ شَيخا جَلِيلًا ثِقَة يخطىء وَكَانَ النَّسَائِيّ حسن الرَّأْي فِيهِ وَيَقُول النَّاس يؤذوننا فِيهِ وَقَالَ ابْن عدي لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه قَوْله مرّة مرّة روى فيهمَا الرّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فعلى الخبرية لِأَن وَهُوَ أقرب الْأَوْجه وَأما النصب فعلى أوجه الأول مفعول مُطلق أَي فرض الْوضُوء غسل الْأَعْضَاء غسلة وَاحِدَة. الثَّانِي أَنه ظرف أَي فرض الْوضُوء ثَابت فِي الزَّمَان الْمُسَمّى بالمرة وَهَذَا ذكره الْكرْمَانِي وَفِيه بعد. الثَّالِث أَنه حَال قد سدت مسد الْخَبَر كَقِرَاءَة بَعضهم {وَنحن عصبَة} بِنصب عصبَة. الرَّابِع أَنه نصب على لُغَة من ينصب الجزئين لِأَن فَإِن قلت مَا فَائِدَة تكْرَار لفظ مرّة قلت إِمَّا التَّأْكِيد وَإِمَّا إِرَادَة التَّفْصِيل أَي فرض الْوضُوء غسل الْوَجْه مرّة وَغسل الْيَدَيْنِ مرّة وَغسل الرجل مرّة نَحْو بوبت الْكتاب بَابا بَابا أَو فرض الْوضُوء فِي كل الْوضُوء مرّة فِي هَذَا الْوضُوء وَمرَّة فِي ذَاك الْوضُوء. فالتفصيل إِمَّا بِالنّظرِ إِلَى أَجزَاء الْوضُوء وَإِمَّا بِالنّظرِ إِلَى جزئيات الْوضُوء قَوْله مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر بالتكرار وَفِي رِوَايَة غَيره بِلَا تكْرَار وَوجه انتصابهما مثل انتصاب مرّة قَوْله وَثَلَاثًا أَي وَتَوَضَّأ أَيْضا ثَلَاثًا أَي ثَلَاث مَرَّات وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي بعض النّسخ وَثَلَاثَة بِالْهَاءِ قَوْله وَلم يزدْ على ثَلَاث أَي وَلم يزدْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وضوئِهِ على ثَلَاث مَرَّات وَقَالَ بعض الشَّارِحين وَلم يزدْ على ثَلَاثَة كَذَا ثَبت وَكَأن الأَصْل ثَلَاث كَمَا تَقول عِنْدِي ثَلَاث نسْوَة قلت بل النّسخ الصَّحِيحَة على ثَلَاث على الأَصْل وَلَا يحْتَاج إِلَى التعسف(2/241)
الْمَذْكُور وَحَاصِل الْمَعْنى لم يَأْتِ فِي شَيْء من الْأَحَادِيث المرفوعة فِي صفة وضوء النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه زَاد على ثَلَاث بل ورد عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذمّ من زَاد عَلَيْهَا وَهُوَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ من زَاد على هَذَا أَو نقص فقد أَسَاءَ وظلم. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الإِمَام هَذَا الحَدِيث صَحِيح عِنْد من يصحح حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده لصِحَّة الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو فَإِن قلت كَيفَ يكون ظَالِما فِي النُّقْصَان وَقد ورد فِي الْأَحَادِيث الْوضُوء مرّة مرّة ومرتين مرَّتَيْنِ كَمَا ذكر قلت أُجِيب عَنهُ بأجوبة. الأول فِيهِ حذف تَقْدِيره أَو نقص من وَاحِدَة وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم بن حَمَّاد من طَرِيق الْمطلب بن حنْطَب مَرْفُوعا الْوضُوء مرّة ومرتين وَثَلَاثًا فَإِن نقص من وَاحِدَة أَو زَاد على ثَلَاث فقد أَخطَأ وَهُوَ مُرْسل وَرِجَاله ثِقَات الثَّانِي أَن الروَاة لم يتفقوا على ذكر النَّقْص فِيهِ بل أَكْثَرهم اقتصروا على قَوْله فَمن زَاد فَقَط كَذَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَسَأَلَهُ عَن الْوضُوء فَأرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ هَذَا الْوضُوء فَمن زَاد على هَذَا فقد أَسَاءَ وتعدى وظلم ثمَّ قَالَ لم يُوصل هَذَا الْخَبَر غير الْأَشْجَعِيّ ويعلى وَزعم أَبُو دَاوُد فِي كتاب التفرد أَنه من منفردات أهل الطَّائِف وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه كَذَلِك وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالنَّسَائِيّ فِي سنَنه بِلَفْظ فقد أَسَاءَ وتعدى وظلم الثَّالِث أَنه يكون ظَالِما لنَفسِهِ فِي ترك الْفَضِيلَة والكمال وَإِن كَانَ يجوز مرّة مرّة أَو مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ الرَّابِع أَنه إِنَّمَا يكون ظَالِما إِذا اعْتقد خلاف السّنيَّة فِي الثَّلَاث وَيُقَال معنى أَسَاءَ فِي الْأَدَب بِتَرْكِهِ السّنة والتأدب بآداب الشَّرِيعَة وَمعنى ظلم أَي ظلم نَفسه بِمَا نَقصهَا من الثَّوَاب وَفِي تَركه الْفَضِيلَة والكمال وَيُقَال إِنَّمَا يكون ظَالِما إِذا اعْتقد خلاف السّنيَّة فِي الثَّلَاث وَيُقَال الْإِسَاءَة ترجع إِلَى الزِّيَادَة وَالظُّلم إِلَى النُّقْصَان لِأَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَحَله قلت الزِّيَادَة على الثَّلَاث أَيْضا وضع الشَّيْء فِي غير مَحَله وَأَيْضًا إِنَّمَا يتمشى هَذَا فِي رِوَايَة تَقْدِيم الْإِسَاءَة على النُّقْصَان وَفِي الْبَدَائِع اخْتلف فِي تَأْوِيله فَقيل زَاد على مَوضِع الْوضُوء وَنقص عَن موَاضعه وَقيل زَاد على ثَلَاث مَرَّات وَلم ينْو ابْتِدَاء الْوضُوء وَنقص عَن الْوَاحِدَة وَالصَّحِيح أَنه مَحْمُول على الِاعْتِقَاد دون نفس الْعَمَل مَعْنَاهُ فَمن زَاد على الثَّلَاث أَو نقص وَلم ير الثَّلَاث سنة لِأَن من لم ير سنة النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فقد ابتدع فيلحقه الْوَعيد حَتَّى لَو زَاد على الثَّلَاث أَو نقص وَرَأى الثَّلَاث سنة لَا يلْحقهُ هَذَا الْوَعيد لِأَن الزِّيَادَة على الثَّلَاث من بَاب الْوضُوء على الْوضُوء إِذا نوى بِهِ وَأَنه نور على نور على لِسَان النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. ثمَّ اعْلَم أَن الثَّلَاث سنة والواحدة تجزىء وَقَالَ أَصْحَابنَا الأولى فرض وَالثَّانيَِة مُسْتَحبَّة وَالثَّالِثَة سنة وَقيل الأولى فرض وَالثَّانيَِة سنة وَالثَّالِثَة إِكْمَال السّنة وَقيل الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة سنة وَقيل الثَّانِيَة سنة وَالثَّالِثَة نفل وَقيل عَكسه وَعَن أبي بكر الأسكاف أَن الثَّلَاث تقع فرضا كَمَا إِذا أَطَالَ الرُّكُوع وَالسُّجُود وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا أَن الزَّائِد على الثَّلَاث لَا يَقع طَهَارَة وَلَا يصير المَاء بِهِ مُسْتَعْملا إِلَّا إِذا قصد بِهِ تَجْدِيد الْوضُوء وَمَا ذكر فِي الْجَامِع أَن مَاء الرَّابِعَة فِي غسل الثَّوْب النَّجس طهُور وَفِي الْعُضْو النَّجس مُسْتَعْمل مَحْمُول على مَا إِذا نوى بِهِ الْقرْبَة وَفِي العتابي وَمَاء الرَّابِعَة مُسْتَعْمل فِي الْعُضْو النَّجس لِأَن الظَّاهِر هُوَ قصد الْقرْبَة حَتَّى يقوم الدَّلِيل على خِلَافه وَفِي شرح النَّسَفِيّ فِيهِ لِأَنَّهُ وجد فِيهِ معنى الْقرْبَة لِأَن الْوضُوء على الْوضُوء نور على نور وَلِهَذَا صَار المَاء مُسْتَعْملا بِهِ وَفِي الْمُحِيط والاسبيجاني أَن مَاء الرَّابِعَة لَا يصير مُسْتَعْملا إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَعند الشَّافِعِيَّة خَمْسَة أوجه أَصَحهَا إِن صلى بِالْوضُوءِ الأول فرضا أَو نفلا اسْتحبَّ وَإِلَّا فَلَا وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَثَانِيها إِن صلى فرضا اسْتحبَّ وَإِلَّا فَلَا وَبِه قطع الفوراني. وَثَالِثهَا مُسْتَحبّ إِن فعل بِالْوضُوءِ الأول مَا يقْصد لَهُ الْوضُوء وَإِلَّا فَلَا ذكره الشَّاشِي. وَرَابِعهَا إِن صلى بِالْأولِ أَو سجد لتلاوة أَو شكر أَو قَرَأَ الْقُرْآن فِي مصحف اسْتحبَّ وَإِلَّا فَلَا وَبِه قطع أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ. وخامسها مُسْتَحبّ وَإِن لم يفعل بِالْوضُوءِ الأول شَيْئا أصلا حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ وَهَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا تخَلّل بَين الْوضُوء والتجديد زمن يَقع بِمثلِهِ تَفْرِيق فَأَما إِذا وَصله بِالْوضُوءِ فَهُوَ فِي حكم غسلة رَابِعَة (وَكره أهل الْعلم الْإِسْرَاف فِيهِ وَأَن يجاوزوا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كره مُشْتَقّ من الْكَرَاهَة وَهِي اقْتِضَاء التّرْك مَعَ عدم الْمَنْع من النقيض وَقد يعرف الْمَكْرُوه بِأَنَّهُ مَا يمدح تَاركه وَلَا يذم فَاعله كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت هَذَا لَا يمشي على إِطْلَاقه وَإِنَّمَا يمشي هَذَا فِي كَرَاهَة التَّنْزِيه وَأما فِي كَرَاهَة التَّحْرِيم فَلَا قَوْله الْإِسْرَاف(2/242)
هُوَ صرف الشَّيْء فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدا على مَا يَنْبَغِي بِخِلَاف التبذير فَإِنَّهُ صرف الشَّيْء فِيمَا لَا يَنْبَغِي قَوْله فِيهِ أَي فِي الْوضُوء وَأَشَارَ بذلك إِلَى مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه من طَرِيق هِلَال بن يسَاف أحد التَّابِعين قَالَ كَانَ يُقَال فِي الْوضُوء إِسْرَاف وَلَو كنت على شاطىء نهر وَأخرج نَحوه عَن أبي الدَّرْدَاء وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا وروى فِي مَعْنَاهُ حَدِيث مَرْفُوع أخرجه ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد لين حَدثنَا ابْن مصفى حَدثنَا بَقِيَّة عَن مُحَمَّد بن الْفضل عَن سَالم عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم رجلا يتَوَضَّأ فَقَالَ لَا تسرف لَا تسرف قَالَ وَحدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن يحيى بن عبد الله عَن الجباني عَن ابْن عَمْرو أَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مر بِسَعْد وَهُوَ يتَوَضَّأ فَقَالَ مَا هَذَا السَّرف قَالَ أَفِي الْوضُوء إِسْرَاف قَالَ نعم وَإِن كنت على نهر جَار وَقَالَ بعض الشَّارِحين قَول البُخَارِيّ هَذَا إِشَارَة إِلَى نقل الْإِجْمَاع على منع الزِّيَادَة على الثَّلَاث قلت وَفِيه نظر فَإِن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ فِي الْأُم لَا أحب الزِّيَادَة عَلَيْهَا فَإِن زَاد لم أكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحَاصِل مَا ذكره الشَّافِعِيَّة فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه. أَصَحهَا أَن الزِّيَادَة عَلَيْهَا مَكْرُوهَة كَرَاهَة تَنْزِيه. وَثَانِيها أَنَّهَا حرَام. وَثَالِثهَا أَنَّهَا خلاف الأولى وَأبْعد قوم فَقَالُوا أَنه إِذا زَاد على الثَّلَاث يبطل الْوضُوء كَمَا لَو زَاد فِي الصَّلَاة حَكَاهُ الدَّارمِيّ فِي استذكاره عَنْهُم وَهُوَ خطأ ظَاهر وَخلاف مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء قَوْله وَإِن يجاوزوا عطف على قَوْله الْإِسْرَاف فِيهِ وَهُوَ عطف تفسيري للإسراف إِذْ لَيْسَ المُرَاد بالإسراف إِلَّا الْمُجَاوزَة عَن فعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَي الثَّلَاث وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لَيْسَ بعد الثَّلَاث شَيْء وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَق لَا تجوز الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَقَالَ ابْن الْمُبَارك لَا آمن إِن يَأْثَم. فَإِن قلت الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب كُله تَرْجَمَة فَأَيْنَ الحَدِيث قلت لَا نسلم ذَلِك لِأَن قَوْله وَبَين النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم أَن فرض الْوضُوء مرّة مرّة حَدِيث لِأَن المُرَاد من الحَدِيث أَعم من قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه ذكره على سَبِيل التَّعْلِيق وَكَذَا قَوْله وَتَوَضَّأ أَيْضا مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ حَدِيث لما ذكرنَا وَلَا شكّ أَن كلا مِنْهُمَا بَيَان للسّنة وَهُوَ الْمَقْصُود من الْبَاب وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ على مَا وجد فِي بعض النّسخ من ذكر لفظ بَاب هَهُنَا وَأما على بعض النّسخ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ذكر لفظ بَاب فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف
(بَاب لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور)
بَاب منون غير مُضَاف خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هَذَا بَاب وَفِي بعض النّسخ لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور وَهُوَ بِضَم الطَّاء وَهُوَ الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمصدر وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا أَعم من الْوضُوء وَالْغسْل وَلَيْسَ كَمَا قَالَه الْكرْمَانِي وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الْوضُوء وَأما بِفَتْح الطَّاء فَهُوَ المَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ وَتَقْدِيم هَذَا الْبَاب على مَا بعده من الْأَبْوَاب ظَاهر لِأَن الْكتاب فِي أَحْكَام الْوضُوء وَالْغسْل اللَّذين لَا تجوز الصَّلَاة أصلا إِلَّا بِأَحَدِهِمَا وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث رَوَاهُ مُسلم وَغَيره من حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بِزِيَادَة قَوْله وَلَا صَدَقَة من غلُول وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من طَرِيق أبي الْمليح عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم قَالَ لَا يقبل الله تَعَالَى صَدَقَة من غلُول وَلَا صَلَاة بِغَيْر طهُور وَله طرق كَثِيرَة لَكِن لَيْسَ فِيهَا شَيْء على شَرط البُخَارِيّ فَلهَذَا عدل عَنهُ إِلَى مَا ذكره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَعَ أَن حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مُطَابق لما ترْجم لَهُ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة يقوم مقَامه
1 - (حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي قَالَ أخبرنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا معمر عَن همام بن مُنَبّه أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل صَلَاة من أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ قَالَ رجل من حضر موت مَا الْحَدث يَا أَبَا هُرَيْرَة قَالَ فسَاء أَو ضراط) قيل أَن الحَدِيث لَيْسَ بمطابق للتَّرْجَمَة لِأَن التَّرْجَمَة عَام والْحَدِيث خَاص وَجَوَابه أَنه وَإِن كَانَ خَاصّا وَلكنه يسْتَدلّ بِهِ على أَن الْأَعَمّ مِنْهُ نَحوه بل أولى على أَنا قُلْنَا أَن الْأَحَادِيث الَّتِي تطابق التَّرْجَمَة بِحَسب الظَّاهِر لَيست على شَرطه فَلذَلِك لم يذكرهَا وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا على شَرطه فَذكره عوضا عَنْهَا لِأَنَّهُ يقوم مقَامهَا من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن(2/243)
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة كلهم ذكرُوا وَأخرج أَصْحَاب السِّتَّة للْجَمِيع إِلَّا إِسْحَق بن رَاهَوَيْه فَإِن ابْن مَاجَه لم يخرج لَهُ وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه وَعبد الرَّزَّاق هُوَ ابْن همام وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد ومنبه بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم يمانيون إِلَّا إِسْحَق وَمِنْهَا أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء أَصْحَاب مسانيد (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ترك الْحِيَل عَن إِسْحَق بن نصر وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان كلهم عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح. (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أحدث أَي وجد مِنْهُ الْحَدث أَو أَصَابَهُ الْحَدث أَو دخل فِي الْحَدث من الْحُدُوث وَهُوَ كَون شَيْء لم يكن قَالَ الصغاني أحدث الرجل من الْحَدث فَأَما قَول الْفُقَهَاء أحدث أَي أَتَى مِنْهُ مَا نقض طَهَارَته فَلَا تعرفه الْعَرَب قَوْله من حضر موت بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم وَهُوَ اسْم بلد بِالْيمن وقبيلة أَيْضا وهما اسمان جعلا اسْما وَاحِدًا وَالِاسْم الأول مِنْهُ مَبْنِيّ على الْفَتْح على الْأَصَح إِن قيل ببنائهما وَقيل بإعرابهما فَيُقَال حضر موت بِرَفْع الرَّاء وجر التَّاء وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِيهِ لُغَتَانِ التَّرْكِيب وَمنع الصّرْف وَالثَّانيَِة الْإِضَافَة فَإِذا أضيف جَازَ فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ الصّرْف وَتَركه وَفِي الْمطَالع حضر موت من بِلَاد الْيمن وهذيل وَيُقَال حضر موت بِضَم الْمِيم وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ حضرمي والتصغير حضيرموت يصغر الْمصدر مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ الْجمع فَيُقَال فلَان من الحضارمة قَوْله فسَاء بِضَم الْفَاء وبالمد والضراط بِضَم الضَّاد وهما مشتركان فِي كَونهمَا ريحًا خَارِجا من الدبر ممتازان بِكَوْن الأول بِدُونِ الصَّوْت وَالثَّانِي مَعَ الصَّوْت وَفِي الصِّحَاح فسا يفسو فسوا وَالِاسْم الفساء بِالْمدِّ وتفاست الخنافس إِذا أخرجت استها لذَلِك وَفِي الْعباب قَالَ ابْن دُرَيْد الضراط مَعْرُوف يُقَال ضرط يضرط ضرطا وضروطا وضريطا وضراطا. (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله يَقُول جملَة وَقعت حَالا قَوْله لَا يقبل الله إِلَى آخِره مقول القَوْل قَوْله صَلَاة مَنْصُوب أَو مَرْفُوع على اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ مُضَاف إِلَى قَوْله من وَهِي مَوْصُولَة وأحدث جملَة صلتها قَوْله حَتَّى للغاية بِمَعْنى إِلَى وَالْمعْنَى عدم قبُول الصَّلَاة مغيا بالتوضىء قَوْله قَالَ رجل فعل وفاعل وَقَوله من حضر موت جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لرجل قَوْله مَا الْحَدث جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت مقول القَوْل قَوْله يابا هُرَيْرَة حذفت الْهمزَة للتَّخْفِيف قَوْله فسَاء مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي هُوَ فسَاء أَي الْحَدث فسَاء أَو ضراط (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله لَا يقبل الله صَلَاة من أحدث كَذَا وَقع فِي بعض النّسخ وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي ترك الْحِيَل عَن إِسْحَاق بن نصر وَكَذَا روى أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق وَفِي أَكثر النّسخ لَا تقبل صَلَاة من أحدث على الْبناء لما لم يسم فَاعله وَالْمرَاد بِالْقبُولِ هُنَا مَا يرادف الصِّحَّة وَهُوَ الْإِجْزَاء وَحَقِيقَة الْقبُول وُقُوع الطَّاعَة مجزئة رَافِعَة لما فِي الذِّمَّة وَلما كَانَ الْإِتْيَان بشروطها مَظَنَّة الْإِجْزَاء الَّذِي هُوَ الْقبُول عبر عَنهُ بِالْقبُولِ مجَازًا وَأما الْقبُول الْمَنْفِيّ فِي مثل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أَتَى عرافا لم تقبل لَهُ صَلَاة فَهُوَ الْحَقِيقِيّ لِأَنَّهُ قد يَصح الْعَمَل وَلَكِن يتَخَلَّف الْقبُول لمَانع وَلِهَذَا كَانَ يَقُول بعض السّلف لِأَن تقبل لي صَلَاة وَاحِدَة أحب إِلَيّ من جَمِيع الدُّنْيَا. وَالتَّحْقِيق هَهُنَا أَن الْقبُول يُرَاد بِهِ شرعا حُصُول الثَّوَاب وَقد تخلف عَن الصِّحَّة بِدَلِيل صِحَة صَلَاة العَبْد الْآبِق وشارب الْخمر مَا دَامَ فِي جسده شَيْء مِنْهَا وَالصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة على الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَيْضا وَأما مُلَازمَة الْقبُول للصِّحَّة فَفِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يقبل الله صَلَاة حَائِض إِلَّا بخمار وَالْمرَاد بالحائض من بلغت سنّ الْحيض فَإِنَّهَا لَا تقبل صلَاتهَا إِلَّا بالسترة وَلَا تصح وَلَا تقبل مَعَ انكشاف الْعَوْرَة وَالْقَبُول يُفَسر بترتب الْغَرَض الْمَطْلُوب من الشَّيْء على الشَّيْء فَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يقبل الله صَلَاة من أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ عَام فِي عدم الْقبُول فِي جَمِيع الْمُحدثين فِي جَمِيع أَنْوَاع الصَّلَاة وَالْمرَاد بِالْقبُولِ وُقُوع الصَّلَاة مجزئة بمطابقتها لِلْأَمْرِ فعلى هَذَا يلْزم من الْقبُول الصِّحَّة ظَاهرا وَبَاطنا وَكَذَلِكَ الْعَكْس وَنقل عَن بعض الْمُتَأَخِّرين أَن الصِّحَّة عبارَة عَن ترَتّب الثَّوَاب والدرجات على الْعِبَادَة والإجزاء عبارَة عَن مُطَابقَة الْأَمر فهما متغايران أَحدهمَا أخص من الآخر وَلَا يلْزم من نفى الْأَخَص نفى الْأَعَمّ فالقبول على هَذَا(2/244)
التَّفْسِير أخص من الصِّحَّة فَكل مَقْبُول صَحِيح وَلَا عكس قَوْله من أحدث قد قُلْنَا أَن مَعْنَاهُ من وجد مِنْهُ الْحَدث وَهُوَ عبارَة عَمَّا نقض الْوضُوء وَهُوَ بموضوعه يُطلق على الْأَكْبَر كالجنابة وَالْحيض وَالنّفاس والأصغر كنواقض الْوضُوء وَقد يُسمى الْمَنْع الْمُرَتّب عَلَيْهِ حَدثا وَبِه يَصح قَوْلهم رفعت الْحَدث ونويت رَفعه وَإِلَّا اسْتَحَالَ مَا يرفع أَن لَا يكون رَافعا وَكَأن الشَّارِع جعل أمد الْمَنْع الْمُرَتّب على خُرُوج الْخَارِج إِلَى اسْتِعْمَال المطهر وَبِهَذَا يقوى قَول من يرى أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث لكَون الْمُرْتَفع هُوَ الْمَنْع وَهُوَ مُرْتَفع بِالتَّيَمُّمِ لكنه مَخْصُوص بِحَالَة مَا أَو بِوَقْت مَا وَلَيْسَ ذَلِك ببدع فَإِن الْأَحْكَام قد تخْتَلف باخْتلَاف محلهَا وَقد كَانَ الْوضُوء فِي صدر الْإِسْلَام وَاجِبا لكل صَلَاة فقد ثَبت أَنه كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْت مَعَ كَونه رَافعا للْحَدَث اتِّفَاقًا وَلَا يلْزم من انتهائه فِي ذَلِك الْوَقْت بانتهاء وَقت الصَّلَاة إِلَّا يكون رَافعا للْحَدَث ثمَّ زَالَ ذَلِك الْوُجُوب كَمَا عرف. وَقد ذكر الْفُقَهَاء أَن الْحَدث وصف حكمي مُقَدّر قِيَامه بالأعضاء على معنى الْوَصْف الْحسي وينزلون الْوَصْف الْحكمِي منزلَة الْحسي فِي قِيَامه بالأعضاء فَمن يَقُول بِأَن التَّيَمُّم لَا يرفع الْحَدث يَقُول أَن الأمد الْمُقدر الْحكمِي بَاقٍ لم يزل وَالْمَنْع الَّذِي هُوَ مُرَتّب عَلَيْهِ التَّيَمُّم زائل قَوْله حَتَّى يتَوَضَّأ نفى الْقبُول إِلَى غَايَة وَهُوَ الْوضُوء وَمَا بعد الْغَايَة مُخَالف لما قبلهَا فَاقْتضى قبُول الصَّلَاة بعد الْوضُوء مُطلقًا وَدخل تَحْتَهُ الصَّلَاة الثَّانِيَة قبل الْوضُوء لَهَا ثَانِيًا وتحقيقه أَن لفظ صَلَاة اسْم جنس فَيعم ثمَّ اعْلَم أَن معنى قَوْله حَتَّى يتَوَضَّأ بِالْمَاءِ أَو مَا يقوم مقَامه لِأَنَّهُ قد أَتَى بِمَا أَمر بِهِ على أَن التَّيَمُّم من أَسْمَائِهِ الْوضُوء قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم وَإِن لم يجد المَاء عشر سِنِين رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأطلق الشَّارِع على التَّيَمُّم أَنه وضوء لكَونه قَامَ مقَامه وَإِنَّمَا اقْتصر على ذكر الْوضُوء نظرا إِلَى كَونه الأَصْل وَهَهُنَا قيد آخر ترك ذكره للْعلم بِهِ وَهُوَ حَتَّى يتَوَضَّأ مَعَ بَاقِي شُرُوط الصَّلَاة وَالضَّمِير فِي قَوْله حَتَّى يتَوَضَّأ يرجع إِلَى قَوْله من أحدث وَسَماهُ مُحدثا وَإِن كَانَ طَاهِرا بِاعْتِبَار مَا كَانَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتوا الْيَتَامَى أَمْوَالهم} وَقَوله حَتَّى يتَوَضَّأ هُوَ آخر الحَدِيث وَالْبَاقِي إدراج وَالظَّاهِر أَنه من همام قَوْله فسَاء أَو ضراط قَالَ ابْن بطال إِنَّمَا اقْتصر على بعض الْأَحْدَاث لِأَنَّهُ أجَاب سَائِلًا سَأَلَهُ عَن الْمُصَلِّي يحدث فِي صلَاته فَخرج جَوَابه على مَا سبق الْمُصَلِّي من الإحداث فِي صلَاته لِأَن الْبَوْل وَالْغَائِط وَنَحْوهمَا غير مَعْهُود فِي الصَّلَاة وَقَالَ الْخطابِيّ لم يرد بِذكر هذَيْن النَّوْعَيْنِ تخصيصهما وَقصر الحكم عَلَيْهِمَا بل دخل فِي مَعْنَاهُ كل مَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ وَالْمعْنَى إِذا كَانَ أوسع من الحكم كَانَ الحكم للمعنى وَلَعَلَّه أَرَادَ بِهِ أَن يثبت الْبَاقِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ للمعنى الْمُشْتَرك بَينهمَا قلت وَلَعَلَّ ذَلِك لِأَن مَا هُوَ أغْلظ من الفساء بِالطَّرِيقِ الأولى وَيحْتَمل أَن يُقَال الْمجمع عَلَيْهِ من أَنْوَاع الْحَدث لَيْسَ إِلَّا الْخَارِج النَّجس من الْمُعْتَاد وَمَا يكون مَظَنَّة لَهُ كزوال الْعقل فَأَشَارَ إِلَيْهِ على سَبِيل الْمِثَال كَمَا يُقَال الِاسْم زيد أَو كزيد وَيُسمى مثله تعريفا بالمثال أَو يُقَال كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يعلم أَنه عَارِف بِسَائِر أَنْوَاع الْحَدث جَاهِل بكونهما حَدثا فتعرض لحكمهما بَيَانا لذَلِك كَذَا قَالَ بعض الشَّارِحين وَفِيه بعد وَالْأَقْرَب أَن يُقَال أَنه أجَاب السَّائِل بِمَا يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته فِي غَالب الْأَمر كَمَا ورد نَحْو ذَلِك فِي حَدِيث آخر لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا. (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ الدّلَالَة على أَن الصَّلَوَات كلهَا مفتقرة إِلَى الطَّهَارَة وَيدخل فِيهَا صَلَاة الْجِنَازَة وَالْعِيدَيْنِ وَغَيرهمَا وَحكى عَن الشّعبِيّ وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَنَّهُمَا أجازا صَلَاة الْجِنَازَة بِغَيْر وضوء وَهُوَ بَاطِل لعُمُوم هَذَا الحَدِيث وَالْإِجْمَاع وَمن الْغَرِيب أَن قَوْلهمَا قَالَ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة فَلَو صلى مُحدثا مُتَعَمدا بِلَا عذر أَثم وَلَا يكفر عِنْد الْجُمْهُور وَبِه قَالَت الشَّافِعِيَّة وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه يكفر لتلاعبه الثَّانِي فِيهِ الدَّلِيل على بطلَان الصَّلَاة بِالْحَدَثِ سَوَاء كَانَ خُرُوجه اختياريا أَو اضطراريا لعدم التَّفْرِقَة فِي الحَدِيث بَين حدث وَحدث فِي حَالَة دون حَالَة الثَّالِث قَالَ بعض الشَّارِحين هَذَا الحَدِيث رد على من يَقُول إِذا سبقه الْحَدث يتَوَضَّأ وَيَبْنِي على صلَاته قلت هَذَا قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَحكى عَن مَالك وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَهُوَ لَيْسَ يرد عَلَيْهِم أصلا لِأَن من سبقه الْحَدث إِذا ذهب وَتَوَضَّأ وَبنى على صلَاته يصدق عَلَيْهِ أَنه تَوَضَّأ وَصلى بِالْوضُوءِ وَإِن كَانَ الْقيَاس يَقْتَضِي بطلَان صلَاته على أَنه ورد الْأَثر فِيهِ الرَّابِع قَالَ الْكرْمَانِي فِيهِ أَن الطّواف لَا يجزىء بِغَيْر طهُور لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمَّاهُ صَلَاة فَقَالَ الطّواف صَلَاة إِلَّا أَنه أُبِيح فِيهِ الْكَلَام قلت اشْتِرَاط الطَّهَارَة للطَّواف بِخَبَر(2/245)
الْوَاحِد زِيَادَة على النَّص وَهِي نسخ فَلَا يثبت بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ} غير أَنا نقُول بِوُجُوبِهَا لخَبر الْوَاحِد وَمعنى الحَدِيث الطّواف كَالصَّلَاةِ والتشبيه فِي الثَّوَاب دون الحكم لِأَن التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ أَلا ترى أَن الانحراف وَالْمَشْي فِيهِ لَا يُفْسِدهُ
(بَاب فضل الْوضُوء والغر المحجلون من آثَار الْوضُوء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْوضُوء وَالْبَاب مُضَاف إِلَى قَوْله فضل الْوضُوء قَوْله والغر المحجلين بِالْجَرِّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي عطفا على الْوضُوء وَالتَّقْدِير وَفضل الغر المحجلين وَصرح بِهِ الْأصيلِيّ فِي رِوَايَته وَفِي أَكثر الرِّوَايَات والغر المحجلون بِالرَّفْع وَذكر فِي وَجهه أَقْوَال فَقَالَ الْكرْمَانِي وَجهه أَن يكون الغر مُبْتَدأ وَخَبره محذوفا أَي مفضلون على غَيرهم وَنَحْوه أَو يكون من آثَار الْوضُوء خَبره أَي الغر المحجلون منشؤهم آثَار الْوضُوء وَقَالَ بَعضهم الْوَاو استئنافية والغر المحجلون مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره لَهُم فضل قلت بل الْوَاو عاطفة لِأَن التَّقْدِير بَاب فضل الْوضُوء وَبَاب هَذِه الْجُمْلَة وَقَالَ بعض الشُّرَّاح والغر المحجلون بِالرَّفْع وَإِنَّمَا قطعه عَمَّا قبله لِأَنَّهُ لَيْسَ من جملَة التَّرْجَمَة قلت لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالَه بل هُوَ من جملَة التَّرْجَمَة لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهَا صَرِيحًا لمطابقة مَا فِي حَدِيث الْبَاب إِيَّاهَا على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يكون مَرْفُوعا على سَبِيل الْحِكَايَة مِمَّا ورد هَكَذَا أمتِي الغر المحجلون من آثَار الْوضُوء قلت وَقع فِي رِوَايَة مُسلم أَنْتُم الغر المحجلون فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ قلت من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق عدم قبُول الصَّلَاة إِلَّا بِالْوضُوءِ وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب فضل هَذَا الْوضُوء الَّذِي يحصل بِهِ الْقبُول ويفضل بِهِ على غَيره من الْأُمَم
2 - (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن خَالِد عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن نعيم المجمر قَالَ رقيت مَعَ أبي هُرَيْرَة على ظهر الْمَسْجِد فَتَوَضَّأ فَقَالَ إِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن أمتِي يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة غرا محجلين من آثَار الْوضُوء فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يُطِيل غرته فَلْيفْعَل) مُطَابقَة الحَدِيث للترجمتين ظَاهِرَة أما مطابقته للأولى وَهِي قَوْله فضل الْوضُوء فبطريق سوق الْكَلَام لَهُ وَأما مطابقته للثَّانِيَة وَهِي قَوْله والغر المحجلين من آثَار الْوضُوء فبطريق التَّصْرِيح فِي لفظ الحَدِيث (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول يحيى بن بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْكَاف الْمصْرِيّ وَقد تقدم الثَّانِي اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ وَقد تقدم غير مرّة الثَّالِث خَالِد بن يزِيد من الزِّيَادَة الإسْكَنْدراني الْبَرْبَرِي الأَصْل أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمصْرِيّ الْفَقِيه الْمُفْتِي التَّابِعِيّ الثِّقَة مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة الرَّابِع سعيد بن أبي هِلَال اللَّيْثِيّ مَوْلَاهُم أَبُو الْعَلَاء الْمصْرِيّ ولد بِمصْر وَنَشَأ بِالْمَدِينَةِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى مصر فِي خلَافَة هِشَام وَتُوفِّي فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة الْخَامِس نعيم بِضَم النُّون وَفتح الْعين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن عبد الله وَقيل مُحَمَّد الْمدنِي الْعَدوي من آل عمر روى عَن أبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَغَيرهمَا وَعنهُ ابْنه مُحَمَّد وَمَالك وَجَمَاعَة وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَآخَرُونَ وجالس أَبَا هُرَيْرَة عشْرين سنة قَوْله المجمر اسْم فَاعل من الإجمار على الْأَشْهر وَيُقَال المجمر بتَشْديد الْمِيم من التجمير وَهُوَ التبخير سمى بِهِ نعيم وَأَبوهُ أَيْضا بذلك لِأَنَّهُمَا كَانَا يبخران مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّوَوِيّ المجمر صفة لعبد الله وَيُطلق على ابْنه نعيم مجَازًا وَقَالَ بَعضهم فِيهِ نظر فقد جزم إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ بِأَن نعيما كَانَ يُبَاشر ذَلِك قلت كل مِنْهُمَا كَانَ يبخر الْمَسْجِد نقل ذَلِك عَن جمَاعَة فَحِينَئِذٍ إِطْلَاق المجمر على كل مِنْهُمَا بطرِيق الْحَقِيقَة فَلَا يَصح دَعْوَى الْمجَاز فِي نعيم فَائِدَة فِي الصَّحَابَة نعيم بن عبد الله النحام وَهُوَ من الْأَفْرَاد وَفِيهِمْ نعيم جمَاعَة بِدُونِ ابْن عبد الله السَّادِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع وَمِنْهَا أَن نصف الْإِسْنَاد مصري وَنصفه مدنِي وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض وَمِنْهَا أَن فِيهِ من بَاب رِوَايَة الأقران وَهِي رِوَايَة خَالِد عَن سعيد وَمِنْهَا أَن رِجَاله كلهم من فرسَان الْكتب السِّتَّة إِلَّا يحيى بن بكير فَإِنَّهُ من رجال البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مَاجَه فَقَط (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث(2/246)
عَن سعيد بن أبي هِلَال وَعَن أبي كريب وَالقَاسِم بن زَكَرِيَّا وَعبد بن حميد ثَلَاثَتهمْ عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عمَارَة بن غزيَّة كِلَاهُمَا عَن نعيم المجمر بِهِ وَقَالَ بعض الشَّارِحين هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَعَ أبي هُرَيْرَة سَبْعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم ذكرهم ابْن مَنْدَه فِي مستخرجه ابْن مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَعبد الله بن بسر الْمَازِني وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قلت وَرَوَاهُ أَيْضا أَبُو الدَّرْدَاء أخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ ابْن لَهِيعَة فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا أول من يُؤذن لَهُ بِالسُّجُود يَوْم الْقِيَامَة وَأول من يرفع رَأسه فَأنْظر بَين يَدي فأعرف أمتِي من بَين سَائِر الْأُمَم وَمن خَلْفي مثل ذَلِك وَعَن يَمِيني مثل ذَلِك وَعَن شمَالي مثل ذَلِك فَقَالَ رجل كَيفَ تعرف أمتك يَا رَسُول الله من بَين سَائِر الْأُمَم فِيمَا بَين نوح إِلَى أمتك قَالَ هم غر محجلون من أثر الْوضُوء لَيْسَ لأحد كَذَلِك غَيرهم وأعرفهم أَنه يُؤْتونَ كتبهمْ بأيمانهم وأعرفهم تسْعَى بَين أَيْديهم ذُرِّيتهمْ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله رقيت بِكَسْر الْقَاف أَي صعدت وَحكى صَاحب الْمطَالع فتح الْقَاف بِالْهَمْز وَبِدُون الْهَمْز قلت فَهَذِهِ ثَلَاث لُغَات واللغة الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة كسر الْقَاف وَقَالَ كرَاع الْهَمْز أَجود وَخَالفهُ صَاحب الْجَامِع فَقَالَ عَدمه أصح وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ لَا أعلم صِحَة الْفَتْح وَهَذَا من الرقى أما من الرّقية فرقيت بِالْفَتْح كَمَا اخْتَارَهُ ثَعْلَب فِي فصيحه وَقَالَ الْجَوْهَرِي رقيت فِي السّلم بِالْكَسْرِ رقيا ورقيا إِذا صعدت وارتقيت مثله وَفِي الْعباب رقأت الدرجَة لُغَة فِي رقيت قَوْله غرا بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ جمع أغر أَي ذُو غرَّة بِالضَّمِّ قَالَ ابْن سَيّده الْغرَّة بَيَاض فِي الْجَبْهَة فرس أغر وغراء وَقيل الْأَغَر من الْخَيل الَّذِي غرته أَكثر من الدِّرْهَم قد وسطت جَبهته وَلم تصب وَاحِدَة من الْعَينَيْنِ وَلم تمل على وَاحِدَة من الدّين وَلم تسل سفلى وَهِي أفشى من القرحة وَقَالَ بَعضهم بل يُقَال للأغر أقرح لِأَنَّك إِذا قلت أغر فَلَا بُد من أَن تصف الْغرَّة بالطول وَالْعرض والصغر والعظم والدقة وكلهن غرر فالغرة جَامِعَة لَهُنَّ وغرة الْفرس بَيَاض يكون فِي وَجهه فَإِن كَانَت مؤزرة فَهِيَ وتيرة وَإِن كَانَت طَوِيلَة فَهِيَ شادخة وَعِنْدِي أَن الْغرَّة نفس الْقدر الَّذِي يشْغلهُ الْبيَاض والأغر الْأَبْيَض من كل شَيْء وَقد غر وَجهه يغر بِالْفَتْح غرا وغرة وعرارة صَار ذَا غرَّة قَوْله محجلين جمع محجل بتَشْديد الْجِيم الْمَفْتُوحَة من التحجيل قَالَ ابْن سَيّده هُوَ بَيَاض يكون فِي قَوَائِم الْفرس كلهَا قَالَ
(ذُو ميعة محجل القوائم ... )
وَقيل هُوَ أَن يكون الْبيَاض فِي ثَلَاث قَوَائِم مِنْهُنَّ دون الْأُخْرَى فِي رجل ويدين قَالَ
(تعادى من قَوَائِمهَا ثَلَاث ... بتحجيل وقائمة بهيم)
وَلَا يكون التحجيل فِي الْيَدَيْنِ خَاصَّة إِلَّا مَعَ الرجلَيْن وَلَا فِي يَد وَاحِدَة دون الْأُخْرَى إِلَّا مَعَ الرجلَيْن والتحجيل بَيَاض قل أَو كثر حَتَّى يبلغ نصف الوظيف ولون سائره مَا كَانَ وَفِي الصِّحَاح يُجَاوز الأرساغ وَلَا يُجَاوز الرُّكْبَتَيْنِ والعرقوبين وَفِي المغيث فَإِذا كَانَ الْبيَاض فِي طرف الْيَد فَهُوَ الْعِصْمَة يُقَال فرس أعصم وَفِي الْعباب التحجيل بَيَاض فِي قَوَائِم الْفرس أَو فِي ثَلَاث مِنْهَا أَو فِي رجلَيْنِ قل أَو كثر بعد أَن يُجَاوز الأرساغ وَلَا يُجَاوز الرُّكْبَتَيْنِ والعرقوبين لِأَنَّهَا مَوَاضِع الأحجال وَهِي الخلاخيل والقيود يُقَال فرس محجل وحجلت قوائمه تحجيلا فَإِذا كَانَ الْبيَاض فِي قوائمه الْأَرْبَع فَهُوَ محجل أَربع وَإِن كَانَ فِي الرجلَيْن جَمِيعًا فَهُوَ محجل الرجلَيْن وَإِن كَانَ بِإِحْدَى رجلَيْهِ وَجَاوَزَ الأرساغ فَهُوَ محجل الرجل الْيُمْنَى أَو الْيُسْرَى وَإِن كَانَ الْبيَاض فِي ثَلَاث قَوَائِم دون رجل أَو دون يَد فَهُوَ محجل ثَلَاث مُطلق يَد أَو رجل فَإِن كَانَ محجل يَد وَرجل من شقّ فَهُوَ مُمْسك الأيامن مُطلق الأياسر أَو مُمْسك الأياسر مُطلق الأيامن وَإِن كَانَ من خلاف قل أَو كثر فَهُوَ مشكول انْتهى قلت الأحجال جمع حجل بِالْفَتْح وَهُوَ الْقَيْد والخلخال أَيْضا والحجل بِالْكَسْرِ والحجل لُغَة فيهمَا وَالْأَصْل فِيهِ الْقَيْد والحجلان مشْيَة الْمُقَيد (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله على ظهر الْمَسْجِد يتَعَلَّق بقوله رقيت قَوْله فَتَوَضَّأ هَكَذَا وَقع لجمهور الروَاة بِلَفْظ تَوَضَّأ وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني يَوْمًا بدل تَوَضَّأ وَهُوَ تَصْحِيف ثمَّ هُوَ فَتَوَضَّأ بِالْفَاءِ فِي غَالب النّسخ وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره من الْوَجْه الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ ثمَّ تَوَضَّأ وَوَقع فِي بعض النّسخ تَوَضَّأ بِدُونِ حرف الْعَطف وَإِلَى هَذَا ذهب الْكرْمَانِي وَلِهَذَا قَالَ تَوَضَّأ اسْتِئْنَاف كَأَن قَائِلا يَقُول مَاذَا فعل قَالَ تَوَضَّأ ثمَّ قَالَ وَلِهَذَا لم يذكر فِيهِ وَاو الْعَطف ثمَّ قَالَ وَفِي بعض النّسخ وَتَوَضَّأ بِالْوَاو وَقلت فِي أَكثر النّسخ فَتَوَضَّأ بِالْفَاءِ التعقيبية كَمَا ذكرنَا قَوْله قَالَ اسْتِئْنَاف وَلِهَذَا لم يذكر فِيهِ حرف(2/247)
للْعَطْف كَأَن قَائِلا قَالَ ثمَّ مَاذَا قَالَ فَقَالَ قَالَ إِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله يَقُول جملَة وَقعت حَالا من النَّبِي قَوْله إِن أمتِي الخ مقول القَوْل وَقَوله أمتِي كَلَام إضافي اسْم إِن وَقَوله يدعونَ على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر إِن قَوْله يَوْم الْقِيَامَة نصب على الظّرْف قَوْله غرا فِي انتصابه وَجْهَان أَحدهمَا أَن يكون حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي يدعونَ وَالْمعْنَى يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة وهم بِهَذِهِ الصّفة وَيدعونَ يتَعَدَّى فِي الْمَعْنى بالحرف وَالتَّقْدِير يدعونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يدعونَ إِلَى كتاب الله} وَالْوَجْه الآخر أَن يكون مَفْعُولا ثَانِيًا ليدعون على تضمنه معنى يسمون بِهَذَا الِاسْم كَمَا يُقَال فلَان يدعى زيدا وأصل يدعونَ يدعوون بواوين تحركت الأولى وَانْفَتح مَا قبلهَا فقلبت ألفا فَاجْتمع ساكنان الْألف وَالْوَاو بعْدهَا فحذفت الْألف لالتقاء الساكنين فَصَارَ يدعونَ قَوْله محجلين يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين قَوْله من آثَار الْوضُوء كلمة من تصلح أَن تكون للتَّعْلِيل أَي لأجل آثَار الْوضُوء قَوْله فَمن كلمة من مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله فَلْيفْعَل وَدخلت الْفَاء فِيهِ لتضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط قَوْله اسْتَطَاعَ جملَة صلَة الْمَوْصُول قَوْله أَن يُطِيل فِي مَحل النصب بقوله اسْتَطَاعَ وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم إطالة غرته فَلْيفْعَل ومفعول فَلْيفْعَل مَحْذُوف للْعلم بِهِ أَي فَلْيفْعَل الْغرَّة أَو الإطالة (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله الْمَسْجِد الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد أَي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله يَقُول بِصُورَة الْمُضَارع لأجل الاستحضار لصورة الْمَاضِيَة أَو لأجل الْحِكَايَة عَنْهَا وَإِلَّا فَالْأَصْل أَن يُقَال قَالَ بِلَفْظ الْمَاضِي قَوْله إِن أمتِي الْأمة فِي اللَّفْظ وَاحِد وَفِي الْمَعْنى جمع وَهِي فِي اللُّغَة الْجَمَاعَة وكل جنس من الْحَيَوَان أمة وَفِي الحَدِيث لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها وتستعمل فِي اللُّغَة لمعان كَثِيرَة الطَّرِيقَة وَالدّين يُقَال فلَان لَا أمة لَهُ أَي لَا دين لَهُ وَلَا تَحِلَّة لَهُ والحين قَالَ تَعَالَى {وادكر بعد أمة} أَي بعد حِين وَالْملك وَالرجل الْجَامِع للخير وَالرجل الْمُنْفَرد بِدِينِهِ لَا يشركهُ فِيهِ أحد وَالْأمة اتِّبَاع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تطلق على مَعْنيين أمة الدعْوَة وَهِي من بعث إِلَيْهِم وَأمة الْإِجَابَة وَهِي من صدقه وآمن بِهِ وَهَذِه هِيَ المرادة مِنْهَا قَوْله يدعونَ أما من الدُّعَاء بِمَعْنى النداء أَي يدعونَ إِلَى موقف الْحساب أَو إِلَى الْمِيزَان أَو إِلَى غير ذَلِك وَأما من الدُّعَاء بِمَعْنى التَّسْمِيَة نَحْو دَعَوْت ابْني زيدا أَي سميته بِهِ قَوْله يَوْم الْقِيَامَة يَوْم من الْأَسْمَاء الشاذة لوُقُوع الْفَاء وَالْعين فِيهِ حرفي عِلّة فَهُوَ من بَاب وَيْح وويل وَهُوَ اسْم لبياض النَّهَار وَهُوَ من طُلُوع الْفجْر الصَّادِق إِلَى غرُوب الشَّمْس وَالْقِيَامَة فعالة من قَامَ يقوم وَأَصلهَا قَوَّامَة قلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا قَوْله من آثَار الْوضُوء الْآثَار جمع أثر وَأثر الشَّيْء هُوَ بَقِيَّته وَمِنْه أثر الْجرْح وَالْوُضُوء بِضَم الْوَاو وَيجوز فتحهَا أَيْضا فَإِن الْغرَّة والتحجيل نشآ عَن الْغسْل بِالْمَاءِ فَيجوز أَن ينْسب إِلَى كل مِنْهُمَا قَوْله فَمن اسْتَطَاعَ أَي قدر أَن يُطِيل غرته أَي يغسل غرته بِأَن يُوصل المَاء من فَوق الْغرَّة إِلَى تَحت الحنك طولا وَمن الْأذن إِلَى الْأذن عرضا وَفِيه بَاب الِاخْتِصَار حَيْثُ حذف الْمَفْعُول فِي قَوْله فَلْيفْعَل لأَنا قُلْنَا أَن التَّقْدِير فَلْيفْعَل الْغرَّة أَو الإطالة وَفِيه أَيْضا الِاحْتِرَاز عَن التّكْرَار والإشعار بِأَن أصل هَذَا الْفِعْل مهتم بِهِ وَفِيه بَاب الِاكْتِفَاء حَيْثُ اقْتصر على ذكر الْغرَّة وَلم يذكر التحجيل وَذَلِكَ للْعلم بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سرابيل تقيكم الْحر} وَالْمرَاد الْحر وَالْبرد وَلم يذكر الْبرد للْعلم بِهِ وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد كِلَاهُمَا مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم بِذكر كليهمَا مُصَرحًا من طَرِيق عمَارَة بن غزيَّة وَهُوَ قَوْله فليطل غرته وتحجيله وَإِنَّمَا اقْتصر على ذكر الْغرَّة وَهِي مُؤَنّثَة دون التحجيل وَهُوَ مُذَكّر لِأَن مَحل الْغرَّة أشرف أَعْضَاء الْوضُوء وَأول مَا يَقع عَلَيْهِ النّظر من الْإِنْسَان وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي كَانَ ذَلِك من بَاب التغليب بِالذكر لأحد الشَّيْئَيْنِ على الآخر وَإِن كَانَا بسبيل وَاحِد للترغيب فِيهِ وَقد اسْتعْمل الْفُقَهَاء ذَلِك فَقَالُوا يسْتَحبّ تَطْوِيل الْغرَّة ومرادهم الْغرَّة والتحجيل قلت هَذَا لَيْسَ بتغليب حَقِيقِيّ إِذْ لم يُؤْت فِيهِ إِلَّا بِأحد الاسمين والتغليب اجْتِمَاع الاسمين أَو الْأَسْمَاء ويغلب أَحدهمَا على الآخر نَحْو القمرين والعمرين وَنَحْوهمَا ورد عَلَيْهِ بعض الشَّارِحين بِأَن الْقَاعِدَة فِي التغليب أَن يغلب الْمُذكر على الْمُؤَنَّث لَا بِالْعَكْسِ وَالْأَمر هُنَا بِالْعَكْسِ لتأنيث الْغرَّة وتذكير التحجيل قلت نقل عَن ابْن بابشاد أَنه قَالَ تَغْلِيب الْمُؤَنَّث على الْمُذكر وَقع فِي موضِعين أَحدهمَا ضبعان للخفة وَالْآخر فِي بَاب التَّارِيخ وَأَن التَّارِيخ عِنْد الْعَرَب من اللَّيْل لَا من النَّهَار فغلبوا اللَّيْلَة على النَّهَار وَالثَّانِي مَرْدُود لما ذكرنَا أَن حَقِيقَة التغليب أَن(2/248)
يجْتَمع شَيْئَانِ ويغلب أَحدهمَا على الآخر وَهَذَا لم يجْتَمع فِيهِ شَيْئَانِ وَإِنَّمَا جعلت التَّارِيخ بالليلة دون النَّهَار لِأَن أشهر الْعَرَب قمرية فَافْهَم ثمَّ اعْلَم أَن هَذَا كُله على تَقْدِير أَن يكون قَوْله فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم إِلَى آخِره من الحَدِيث لِأَن الْمَرْفُوع مِنْهُ إِلَى قَوْله من آثَار الْوضُوء وَبَاقِي ذَلِك من قَول أبي هُرَيْرَة أدرجه فِي آخر الحَدِيث وَقد أنكر ذَلِك بعض الشَّارِحين فَقَالَ وَفِي هَذِه الدَّعْوَى بعد عِنْدِي قلت لَيْسَ فِيهَا بعد وَكَيف وَقد رَوَاهُ أَحْمد رَحمَه الله من طَرِيق فليح عَن نعيم وَفِي آخِره قَالَ نعيم لَا أَدْرِي قَوْله من اسْتَطَاعَ إِلَى آخِره من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من قَول أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقد روى هَذَا الحَدِيث عشرَة من الصَّحَابَة وَلَيْسَ فِي رِوَايَة وَاحِد مِنْهُم هَذِه الْجُمْلَة وَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة عَن أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أحد مِنْهُم غير مَا وجد فِي رِوَايَة نعيم عَنهُ فَهَذَا كُله أَمارَة الإدراج وَالله أعلم (بَيَان الْبَيَان) فِيهِ تَشْبِيه بليغ حَيْثُ شبه النُّور الَّذِي يكون على مَوضِع الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة بغرة الْفرس وتحجيله وَيجوز أَن يكون كِنَايَة بِأَن يكون كنى بالغرة عَن نور الْوَجْه وَقد علم أَن الْأُصُول فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة التَّشْبِيه وَالْمجَاز وَالْكِنَايَة فالتشبيه هُوَ الدّلَالَة على مُشَاركَة أَمر لأمر فِي وصف من أَوْصَاف أَحدهمَا فِي نَفسه كالشجاعة فِي الْأسد والنور فِي الشَّمْس وَاللَّفْظ المُرَاد بِهِ لَازم مَا وضع لَهُ أَن قَامَت قرينَة على عدم إِرَادَته فمجاز كَقَوْلِه رَأَيْت أسدا يرْمى وَإِن لم تقم قرينَة على عدم إِرَادَة مَا وضع لَهُ فَهُوَ كِنَايَة كَقَوْلِك زيد طَوِيل النجاد وَمعنى الْمجَاز كجزء معنى الْكِنَايَة من حَيْثُ أَن الْكِنَايَة لَا تنَافِي إِرَادَة الْحَقِيقَة فَلَا يمْتَنع أَن يُرَاد من قَوْلهم فلَان طَوِيل النجاد طول نجاده من غير ارْتِكَاب تَأَول مَعَ إِرَادَة طول قامته بِخِلَاف الْمجَاز فَإِنَّهُ يُنَافِي الْحَقِيقَة فَيمْتَنع أَن يُرَاد معنى الْأسد من غير تَأْوِيل فِي نَحْو رَأَيْت أسدا فِي الْحمام فالحقيقة جَائِزَة الْإِرَادَة مَعَ الْكِنَايَة غير جَائِزَة الْإِرَادَة مَعَ الْمجَاز فَإِن الْمجَاز بِهَذَا الِاعْتِبَار جُزْء من الْكِنَايَة فَافْهَم (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه الأول قَالُوا فِيهِ تَطْوِيل الْغرَّة وَهُوَ غسل شَيْء من مقدم الرَّأْس وَمَا يُجَاوز الْوَجْه زَائِدا على الْقدر الَّذِي يجب غسله لاستيقان كَمَال الْوَجْه وَفِيه تَطْوِيل التحجيل وَهُوَ غسل مَا فَوق الْمرْفقين والكعبين وَادّعى ابْن بطال ثمَّ القَاضِي عِيَاض ثمَّ ابْن التِّين اتِّفَاق الْعلمَاء على أَنه لَا يسْتَحبّ الزِّيَادَة فَوق الْمرْفق والكعب وَهِي دَعْوَى بَاطِلَة فقد ثَبت ذَلِك عَن فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي هُرَيْرَة وَعمل الْعلمَاء وفتواهم عَلَيْهِ فهم محجوجون بِالْإِجْمَاع وَقد ثَبت عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا من فعله أخرجه ابْن أبي شيبَة وَأَبُو عبيد بِإِسْنَاد حسن ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي الْقدر الْمُسْتَحبّ من التَّطْوِيل فِي التحجيل فَقيل إِلَى الْمنْكب وَالركبَة وَقد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة ورأيا وَقيل الْمُسْتَحبّ الزِّيَادَة إِلَى نصف الْعَضُد والساق وَقيل إِلَى فَوق ذَلِك وَنقل ذَلِك عَن الْبَغَوِيّ وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة حاصلها ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَنه يسْتَحبّ الزِّيَادَة فَوق الْمرْفقين والكعبين من غير تَوْقِيت وَثَانِيها إِلَى نصف الْعَضُد والساق وَثَالِثهَا إِلَى الْمنْكب والركبتين قَالَ وَالْأَحَادِيث تَقْتَضِي ذَلِك كُله وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي لَيْسَ فِي الحَدِيث تَقْيِيد وَلَا تَحْدِيد لمقدار مَا يغسل من العضدين والساقين وَقد اسْتعْمل أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث على إِطْلَاقه وَظَاهره من طلب إطالة الْغرَّة فَغسل إِلَى قريب من الْمَنْكِبَيْنِ وَلم ينْقل ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كثر اسْتِعْمَاله فِي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَلذَلِك لم يقل بِهِ الْفُقَهَاء وَرَأَيْت بعض النَّاس قد ذكر أَن حد ذَلِك نصف الْعَضُد والساق انْتهى قلت قَوْله لم يقل بِهِ الْفُقَهَاء مَرْدُود بِمَا ذَكرْنَاهُ وَمن أَوْهَام ابْن بطال وَالْقَاضِي عِيَاض إنكارهما على أبي هُرَيْرَة بُلُوغه المَاء إِلَى إبطَيْهِ وَأَن أحدا لم يُتَابِعه عَلَيْهِ فقد قَالَ بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَآخَرُونَ من الشَّافِعِيَّة وَفِي مُصَنف ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ رُبمَا بلغ بِالْوضُوءِ إبطه فِي الصَّيف فَإِن قلت روى ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن وَكِيع عَن عقبَة بن أبي صَالح عَن إِبْرَاهِيم أَنه كرهه قلت هَذَا مَرْدُود بِذَاكَ فَإِن قلت اسْتدلَّ ابْن بطال فِيمَا ذهب إِلَيْهِ وَمن تبعه أَيْضا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَاد على هَذَا اَوْ نقص فقد أَسَاءَ وظلم قلت هَذَا اسْتِدْلَال فَاسد لِأَن المُرَاد بِهِ الزِّيَادَة فِي عدد المرات أَو النَّقْص عَن الْوَاجِب أَو الثَّوَاب الْمُرَتّب على نقص الْعدَد لَا الزِّيَادَة على تَطْوِيل الْغرَّة أَو التحجيل وَكَذَلِكَ تَأْوِيل ابْن بطال الِاسْتِطَاعَة فِي الحَدِيث على إطالة الْغرَّة والتحجيل بالمواظبة على الْوضُوء لكل صَلَاة فتطول غرته بتقوية نور أَعْضَائِهِ وَبِأَن الطول والدوام مَعْنَاهُمَا مُتَقَارب فَاسد وَوَجهه ظَاهر وَكَذَلِكَ قَوْله الْوَجْه لَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِي غسله إِذْ اسْتِيعَاب الْوَجْه بِالْغسْلِ وَاجِب فَاسد لَا مَكَان(2/249)
الإطالة فِي الْوَجْه بِأَن يغسل إِلَى صفحة الْعُنُق مثلا الثَّانِي فِيهِ اسْتِحْبَاب الْمُحَافظَة على الْوضُوء وسننه الْمَشْرُوعَة فِيهِ وإسباغه الثَّالِث فِيهِ مَا أعد الله من الْفضل والكرامة لأهل الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة الرَّابِع فِيهِ دلَالَة قَطْعِيَّة على أَن وَظِيفَة الرجلَيْن غسلهمَا وَلَا يجزىء مسحهما الْخَامِس فِيهِ مَا أطلع الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من المغيبات الْمُسْتَقْبلَة الَّتِي لم يطلع عَلَيْهَا نَبيا غَيره من أُمُور الْآخِرَة وصفات مَا فِيهَا السَّادِس فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد وَهُوَ مستفيض فِي الْأَحَادِيث السَّابِع فِيهِ الدَّلِيل على كَون يَوْم الْقِيَامَة والنشور الثَّامِن فِيهِ جَوَاز الْوضُوء على ظهر الْمَسْجِد وَهُوَ من بَاب الْوضُوء فِي الْمَسْجِد وَقد كرهه قوم وَأَجَازَهُ آخَرُونَ وَمن كرهه كرهه لأجل التَّنْزِيه كَمَا ينزه عَن البصاق والنخامة وَحُرْمَة أَعلَى الْمَسْجِد كَحُرْمَةِ دَاخله وَمِمَّنْ أجَازه فِي الْمَسْجِد ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَطَاوُس وَهُوَ قَول ابْن الْقَاسِم وَأكْثر الْعلمَاء وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين وَهُوَ قَول مَالك وَسَحْنُون وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ الْعلم الْوضُوء فِيهِ إِلَّا ان يبله ويتأذى بِهِ النَّاس فَإِنَّهُ يكره وَصرح جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة بِجَوَازِهِ فِيهِ وَأَن الأولى أَن يكون فِي إِنَاء قَالَ الْبَغَوِيّ وَيجوز نضحه بِالْمَاءِ الْمُطلق وَلَا يجوز بِالْمُسْتَعْملِ لِأَن النَّفس تعافه وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة يكره الْوضُوء فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَن يكون فِي مَوضِع مِنْهُ قد أعد لَهُ التَّاسِع اسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة من الْعلمَاء على أَن الْوضُوء من خَصَائِص هَذِه الْأمة وَبِه جزم الْحَلِيمِيّ فِي منهاجه وَفِي الصَّحِيح أَيْضا لكم سيماء لَيست لأحد من الْأُمَم تردون عَليّ غرا محجلين من أثر الْوضُوء وَقَالَ الْآخرُونَ لَيْسَ الْوضُوء مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأمة وَإِنَّمَا الَّذِي اخْتصّت بِهِ الْغرَّة والتحجيل وَادعوا أَنه الْمَشْهُور من قَول الْعلمَاء وَاحْتَجُّوا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا وضوئي ووضوء الْأَنْبِيَاء قبلي وَأجَاب الْأَولونَ عَن هَذَا بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه حَدِيث ضَعِيف وَالْآخر أَنه لَو صَحَّ لاحتمل اخْتِصَاص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي هَذِه الخصوصية وامتازت بالغرة والتحجيل وَلَكِن ورد فِي حَدِيث جريج كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه أَنه قَامَ فَتَوَضَّأ وَصلى ثمَّ كلم الْغُلَام وَثَبت أَيْضا عِنْد البُخَارِيّ فِي قصَّة سارة عَلَيْهَا السَّلَام مَعَ الْملك الَّذِي أَعْطَاهَا هَاجر أَن سارة لما هم الْملك بالدنو مِنْهَا قَامَت تتوضأ وَتصلي وَفِيهِمَا دلَالَة على أَن الْوضُوء كَانَ مَشْرُوعا لَهُم وعَلى هَذَا فَيكون خَاصَّة هَذِه الْأمة الْغرَّة والتحجيل الناشئين عَن الْوضُوء لَا أصل الْوضُوء وَنقل الزناتي الْمَالِكِي شَارِح الرسَالَة عَن الْعلمَاء أَن الْغرَّة والتحجيل حكم ثَابت لهَذِهِ الْأمة من تَوَضَّأ مِنْهُم وَمن لم يتَوَضَّأ كَمَا قَالُوا لَا يكفر أحد من أهل الْقبْلَة كل من آمن بِهِ من أمته سَوَاء صلى أَو لم يصل وَهَذَا نقل غَرِيب وَظَاهر الْأَحَادِيث يَقْتَضِي خُصُوصِيَّة ذَلِك لمن تَوَضَّأ مِنْهُم وَفِي صَحِيح ابْن حبَان يَا رَسُول الله كَيفَ تعرف من لم يَرك من أمتك قَالَ غر محجلون بلق من آثَار الْوضُوء
(بَاب لَا يتَوَضَّأ من الشَّك حَتَّى يستيقن)
أَي هَذَا بَاب وَهُوَ منون غير مُضَاف قَوْله لَا يتَوَضَّأ بِفَتْح أَوله على الْبناء للْفَاعِل وَكلمَة من للتَّعْلِيل أَي لأجل الشَّك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مِمَّا خطاياهم اغرقوا} وَقَول الشَّاعِر
(وَذَلِكَ من نبأ جَاءَنِي ... )
الشَّك فِي اللُّغَة خلاف الْيَقِين وَالْيَقِين الْعلم وَزَوَال الشَّك قَالَه الْجَوْهَرِي وَغَيره وَفِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء الشَّك فِيهِ مَا يَسْتَوِي فِيهِ طرف الْعلم وَالْجهل وَهُوَ الْوُقُوف بَين الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يمِيل إِلَى أَحدهمَا فَإِذا قوي أَحدهمَا وترجح على الآخر وَلم يَأْخُذ بِمَا ترجح وَلم يطْرَح الآخر فَهُوَ ظن وَإِذا عقد الْقلب على أَحدهمَا وَترك الآخر فَهُوَ أكبر الظَّن وغالب الرَّأْي وَيُقَال الشَّك مَا اسْتَوَى فِيهِ طرفا الْعلم وَالْجهل فَإِذا ترجح أَحدهمَا على الآخر فالطرف الرَّاجِح ظن والطرف الْمَرْجُوح وهم قَوْله حَتَّى يستيقن أَي حَتَّى يتَيَقَّن يُقَال يقنت الْأَمر بِالْكَسْرِ يَقِينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كُله بِمَعْنى فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ قلت من حَيْثُ اشْتِمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا على حكم من أَحْكَام الْوضُوء أما الأول فَلِأَنَّهُ فِي فضل الْوضُوء وَهُوَ حكم من أَحْكَامه وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ فِي حكم الْوضُوء الَّذِي يَقع فِيهِ الشَّك وَلَا يُؤثر فِيهِ مَا لم يحصل الْيَقِين فتناسبا من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا حكم من أَحْكَام الْوضُوء وَإِن كَانَت الْجِهَة مُخْتَلفَة
3 - (حَدثنَا عَليّ قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعَن عباد بن تَمِيم عَن عَمه أَنه شكا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجل الَّذِي يخيل إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَا يَنْفَتِل أَو لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا)(2/250)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله لَا يَنْفَتِل إِلَى آخِره لِأَنَّهُ يفهم مِنْهُ ترك الْوضُوء من الشَّك حَتَّى يستيقن وَهُوَ معنى قَوْله حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عَليّ بن عبد الله الْمَشْهُور بِابْن الْمَدِينِيّ وَقد مر الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقد مر غير مرّة الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ كَذَلِك الرَّابِع سعيد بن الْمسيب بِفَتْح الْيَاء وَقد تقدم الْخَامِس عباد بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ الْمدنِي وَقَالَ أعي يَوْم الخَنْدَق وَأَنا ابْن خمس سِنِين فَيَنْبَغِي إِذا أَن يعد فِي الصَّحَابَة وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَغَيره أَنه تَابِعِيّ لَا صَحَابِيّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يُسمى عباد بن تَمِيم سواهُ على قَول من يعده صحابيا وَمِمَّنْ عده من الصَّحَابَة الذَّهَبِيّ وَوَقع فِي بعض نسخ ابْن مَاجَه رِوَايَة عباد عَن أَبِيه عَن عَمه حَدِيث الاسْتِسْقَاء وَتَبعهُ ابْن عَسَاكِر وَالصَّوَاب عَن عبد الله بن أبي بكر قَالَ سَمِعت عباد بن تَمِيم يحدث عَن أَبِيه عَن عَمه وَعباد بالضبط الْمَذْكُور يشْتَبه بعباد بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء وَهُوَ وَالِد قيس وَغَيره وبعباد بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء وبعياذ بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف والذال الْمُعْجَمَة وبعناد بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف النُّون وبالدال الْمُهْملَة السَّادِس عَم عباد الْمَذْكُور وَهُوَ عبد الله بن زيد بن عَاصِم بن كَعْب بن عَمْرو بن عَوْف بن مبدول بن غنم بن مَازِن بن النجار الْأنْصَارِيّ الْمَازِني من بني مَازِن ابْن النجار الْمدنِي لَهُ ولأبويه صُحْبَة ولأخيه حبيب بن زيد الَّذِي قطعه مُسَيْلمَة عضوا عضوا فَقضى أَن عبد الله هُوَ الَّذِي شَارك وحشيا فِي قتل مُسَيْلمَة وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث صَلَاة الاسْتِسْقَاء أَيْضا الْآتِي فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَغَيرهمَا من الْأَحَادِيث وَوهم ابْن عُيَيْنَة فَزعم أَنه روى الْأَذَان أَيْضا وَهُوَ عَجِيب فَإِن ذَاك عبد بن زيد بن عبد ربه بن ثَعْلَبَة بن زيد الْأنْصَارِيّ فكلاهما اتفقَا فِي الِاسْم وَاسم الْأَب والقبيلة وافترقا فِي الْجد والبطن من الْقَبِيلَة فَالْأول مازني وَالثَّانِي حارثي وَكِلَاهُمَا أنصاريان خزرجيان فيدخلان فِي نوع الْمُتَّفق والمفترق وَبَين غلط ابْن عُيَيْنَة فِي ذَلِك البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي بَاب الاسْتِسْقَاء كَمَا ستعلمه هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وروى لعبد الله الْمَذْكُور فِي الحَدِيث ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا اتفقَا على ثَمَانِيَة مِنْهَا وَأما عبد الله بن زيد صَاحب الْأَذَان فَلم يشْتَهر لَهُ إِلَّا حَدِيث وَاحِد وَهُوَ حَدِيث الْأَذَان حَتَّى قَالَ البُخَارِيّ فِيمَا نَقله التِّرْمِذِيّ عَنهُ لَا يعرف لَهُ غَيره لَكِن لَهُ حديثان آخرَانِ وَعبد الله رَاوِي هَذَا الحَدِيث قتل فِي ذِي الْحجَّة بِالْحرَّةِ عَن سبعين سنة وَكَانَت الْحرَّة فِي آخر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَهُوَ أحدي وَقَالَ ابْن مَنْدَه وَأَبُو أَحْمد الْحَاكِم وَأَبُو عبد الله صَاحب الْمُسْتَدْرك أَنه بَدْرِي وَهُوَ وهم وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه عبد الله بن زيد بن عَاصِم سوى هَذَا وَفِيهِمْ أَرْبَعَة أخر اسْم كل مِنْهُم عبد الله بن زيد مِنْهُم صَاحب الْأَذَان (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا ان رِجَاله كلهم من رجال الْكتب السِّتَّة إِلَّا عَليّ بن الْمَدِينِيّ فَإِنَّهُ من رجال البُخَارِيّ وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فَقَط وَمِنْهَا أَنهم كلهم مدنيون خلا ابْن الْمَدِينِيّ فَإِنَّهُ بَصرِي وخلا سُفْيَان فَإِنَّهُ مكي وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ على قَول من يعد عبادا صحابيا قَوْله وَعَن عباد مَعْطُوف على قَوْله عَن سعيد بن الْمسيب لِأَن الزُّهْرِيّ رَحمَه الله يروي عَن سعيد وَعباد كليهمَا وَكِلَاهُمَا يرويان عَن عَم عباد الْمَذْكُور فَقَوله عَن عَمه يتَعَلَّق بهما فَإِن قلت وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة عَن سعيد بن الْمسيب عَن عباد بِدُونِ وَاو الْعَطف قلت هُوَ غلط قطعا لِأَن سعيدا لَا رِوَايَة لَهُ عَن عباد أصلا فَتنبه لذَلِك. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب من لم ير الْوضُوء إِلَّا من المخرجين الْقبل والدبر عَن أبي الْوَلِيد عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن أبي نعيم عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن أَحْمد بن أبي خلف عَن سُفْيَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان. (بَيَان اللُّغَات) قَوْله شكى من شَكَوْت فلَانا أشكوه شكوا وشكاية وشكية وشكاة إِذا أخْبرت عَنهُ بِسوء فعله فَهُوَ مشكو وشكى وَالِاسْم الشكوى وَالْيَاء فِي شكى منقلبة عَن وَاو وَأَصله شكو بِدَلِيل يشكو والشكوى وَيجوز أَن تكون أَصْلِيَّة غير منقلبة فِي لُغَة من قَالَ شكى يشكي قَوْله يخيل على صِيغَة الْمَجْهُول أَي يشبه ويخايل وَفُلَان(2/251)
يمْضِي على المخيل أَي على مَا خيلت أَي شبهت يَعْنِي على غرر من غير تعين وخيل إِلَيْهِ أَنه كَذَا على مَا لم يسم فَاعله من التخييل وَالوهم قَالَ الله تَعَالَى {يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} قَوْله لَا يَنْفَتِل بِالْفَاءِ وَاللَّام من الانفتال وَهُوَ الِانْصِرَاف يُقَال فتله فَانْفَتَلَ أَي صرفه فَانْصَرف وَهُوَ قلب لفت (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله شكى جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر أَن وَهُوَ صِيغَة الْمَعْلُوم وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى عبد الله بن زيد عَم عباد لِأَنَّهُ هُوَ الشاكي وَقَوله الرجل بِالنّصب مَفْعُوله وَضَبطه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم رِوَايَة مُسلم عَن عَمه شكى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجل يخيل إِلَيْهِ الحَدِيث فَقَالَ شكى بِضَم الشين وَكسر الْكَاف وَالرجل مَرْفُوع ثمَّ قَالَ وَلم يسم هُنَا الشاكي وَجَاء فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَنه عبد الله بن زيد الرَّاوِي قَالَ وَلَا يَنْبَغِي أَن يتَوَهَّم من هَذَا أَن شكى بِفَتْح الشين وَالْكَاف وَيجْعَل الشاكي عَمه الْمَذْكُور فَإِن هَذَا الْوَهم غلط قلت دَعْوَى الْغَلَط غلط بل يجوز الْوَجْهَانِ شكى بِصِيغَة الْمَعْلُوم والشاكي هُوَ عبد الله بن زيد وَالرجل حِينَئِذٍ بِالنّصب مَفْعُوله وشكى بِصِيغَة الْمَجْهُول والشاكي غير مَعْلُوم وَالرجل حِينَئِذٍ بِالرَّفْع على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل وَقَالَ الْكرْمَانِي الرجل هُوَ فَاعل شكى وَهُوَ غلط لَا يخفى قَوْله الَّذِي يخيل إِلَيْهِ مَوْصُول مَعَ صلته صفة فِي مَحل الرّفْع أَو النصب على تَقْدِير الْوَجْهَيْنِ فِي الرجل وَفِي بعض النّسخ الرجل يخيل إِلَيْهِ بِدُونِ الَّذِي وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يكون الَّذِي يخيل مفعول شكى قلت هَذَا الِاحْتِمَال بعيد قَوْله أَنه يجد الشَّيْء أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها مفعول لقَوْله يخيل نَاب عَن الْفَاعِل وَقَوله يجد فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن وَقَوله الشَّيْء بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول يجد قَوْله فَقَالَ أَي رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله لَا يَنْفَتِل قَالَ الْكرْمَانِي روى مَرْفُوعا بِأَنَّهُ نفى ومجزوما بِأَنَّهُ نهى قَوْله حَتَّى للغاية بِمَعْنى إِلَى أَن يسمع وَيسمع بِالنّصب بِتَقْدِير أَن الناصبة قَوْله أَو يجد بِالنّصب أَيْضا لِأَنَّهُ عطف على مَا قبله من الْمَنْصُوب (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله يجد الشَّيْء أَي خَارِجا من الدبر قَوْله أَو لَا ينْصَرف كلمة أَو للشَّكّ من الرَّاوِي قَالَ الْكرْمَانِي وَالظَّاهِر أَنه من عبد الله بن زيد قلت يجوز أَن يكون مِمَّن دونه من الروَاة وَوَقع فِي كتاب الْخطابِيّ وَلَا ينْصَرف بِحَذْف الْهمزَة وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ لَا ينْصَرف من غير شكّ قَوْله حَتَّى يسمع صَوتا أَي من الدبر قَوْله أَو يجد ريحًا أَي من الدبر أَيْضا وَكلمَة أَو للتنويع قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا من رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِيمَن شكّ فِي خُرُوج ريح مِنْهُ لَا نفي الْوضُوء إِلَّا من سَماع صَوت أَو وجدان ريح وَفِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان ومستدرك الْحَاكِم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا جَاءَ أحدكُم الشَّيْطَان فَقَالَ إِنَّك أحدثت فَلْيقل كذبت إِلَّا مَا وجد ريحًا بِأَنْفِهِ أَو سمع صَوتا بأذنه وَفِي مُسْند أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد أَيْضا أَن الشَّيْطَان ليَأْتِي أحدكُم وَهُوَ فِي صلَاته فَيَأْخُذ شَعْرَة من دبره فيمدها فَيرى أَنه أحدث فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا وَفِي إِسْنَاده عَليّ بن زيد بن جدعَان وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة قَوْله فَلْيقل كذبت أَرَادَ فَلْيقل كذبت بضميره لَا بنطق بِلِسَانِهِ إِذْ الْمُصَلِّي غير جَائِز لَهُ أَن يَقُول كذبت نطقا قلت وَيُؤَيّد مَا قَالَه مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي سعيد أَيْضا مَرْفُوعا إِذا جَاءَ أحدكُم الشَّيْطَان فَقَالَ إِنَّك قد أحدثت فَلْيقل فِي نَفسه كذبت وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ أخرج مِنْهُ شَيْء أم لَا فَلَا يخْرجن من الْمَسْجِد وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ فَوجدَ ريحًا بَين النتنة وَفِي علل ابْن أبي حَاتِم فَوجدَ ريحًا من نَفسه وَفِي كتاب الطّهُور لأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام يجد الشَّيْء فِي مقعدته قَالَ لَا يتَوَضَّأ إِلَّا أَن يجد ريحًا يعرفهَا أَو صَوتا يسمعهُ وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد فِيهِ ضعف عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء قَالَ رَأَيْت السَّائِب بن يزِيد يشم ثَوْبه فَقلت مِم ذَلِك قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا وضوء إِلَّا من ريح أَو سَماع وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَليّ بن طلق يرفعهُ إِذا نسي أحدكُم فَليَتَوَضَّأ قَالَ مهنى قَالَ أَبُو عبيد الله عَاصِم الْأَحول يخطىء فِي هَذَا الحَدِيث يَقُول عَليّ بن طلق وَإِنَّمَا هُوَ طلق بن عَليّ وأبى ذَلِك البُخَارِيّ فَقَالَ فِيمَا ذكره أَبُو عِيسَى عَنهُ فِي الْعِلَل وَذكر حَدِيث عَليّ بن طلق هَذَا بِلَفْظ جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة والسلامفقال إِنَّا نَكُون بالبادية فَيكون من أَحَدنَا الرويحة فَقَالَ إِن الله تَعَالَى لَا يستحي من الْحق إِذْ فسى أحدكُم فَليَتَوَضَّأ فَقَالَ لَا أعرف(2/252)
لعَلي بن طلق عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير هَذَا الحَدِيث وَهُوَ عِنْدِي غير طلق بن عَليّ وَلَا يعرف هَذَا من حَدِيث طلق بن عَليّ وَلما ذكره التِّرْمِذِيّ فِي الْجَامِع من حَدِيث عَليّ بن طلق حسنه وَذكره ابْن حبَان فِي صَحِيحه بِلَفْظ إِذا فسى أحدكُم فِي الصَّلَاة فلينصرف ثمَّ ليتوضأ وليعد صلَاته ثمَّ قَالَ لم يقل أحد وليعد صلَاته إِلَّا جرير بن عبد الحميد وَقَالَ أَبُو عبيد فِي كتاب الطّهُور إِنَّمَا هُوَ عندنَا عَليّ بن طلق لِأَنَّهُ حَدِيثه الْمَعْرُوف وَكَانَ رجلا من بني حنيفَة وَأَحْسبهُ وَالِد طلق بن عَليّ الَّذِي سَأَلَ عَن مس الذّكر وَمِمَّنْ ذكره فِي مُسْند عَليّ بن طلق أَحْمد بن منيع فِي مُسْنده وَالنَّسَائِيّ والكجي فِي سنَنَيْهِمَا وَأَبُو الْحُسَيْن بن قَانِع فِي آخَرين. ثمَّ اعْلَم أَن حَقِيقَة الْمَعْنى فِي قَوْله حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا حَتَّى يعلم وجود أَحدهمَا وَلَا يشْتَرط السماع والشم بِالْإِجْمَاع فَإِن الْأَصَم لَا يسمع صَوتا والأخشم الَّذِي راحت حاسة شمه لَا يشم أصلا وَقَالَ الْخطابِيّ لم يرد بِذكر هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الْحَدث تخصيصهما وَقصر الحكم عَلَيْهِمَا حَتَّى لَا يحدث بِغَيْرِهِمَا وَإِنَّمَا هُوَ جَوَاب خرج على حرف الْمَسْأَلَة الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِل وَقد دخل فِي مَعْنَاهُ كل مَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ وَقد يخرج مِنْهُ الرّيح وَلَا يسمع لَهَا صَوت وَلَا يجد لَهَا ريحًا فَيكون عَلَيْهِ اسْتِئْنَاف الْوضُوء إِذا تَيَقّن ذَلِك وَقد يكون بأذنه وقر فَلَا يسمع الصَّوْت أَو يكون أخشم فَلَا يجد الرّيح وَالْمعْنَى إِذا كَانَ أوسع من الِاسْم كَانَ الحكم للمعنى وَهَذَا كَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ إِذا اسْتهلّ الصَّبِي ورث وَصلى عَلَيْهِ لم يرد تَخْصِيص الاستهلال الَّذِي هُوَ الصَّوْت دون غَيره من إمارات الْحَيَاة من حَرَكَة وَقبض وَبسط وَنَحْوهَا (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول أَن هَذَا الحَدِيث أصل من أصُول الْإِسْلَام وَقَاعِدَة من قَوَاعِد الْفِقْه وَهِي أَن الْأَشْيَاء يحكم ببقائها على أُصُولهَا حَتَّى يتَيَقَّن خلاف ذَلِك وَلَا يضر الشَّك الطارىء عَلَيْهَا وَالْعُلَمَاء متفقون على هَذِه الْقَاعِدَة وَلَكنهُمْ مُخْتَلفُونَ فِي كَيْفيَّة اسْتِعْمَالهَا مِثَاله مَسْأَلَة الْبَاب الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الحَدِيث وَهِي أَن من تَيَقّن الطَّهَارَة وَشك فِي الْحَدث يحكم بِبَقَائِهِ على الطَّهَارَة سَوَاء حصل الشَّك فِي الصَّلَاة أَو خَارِجهَا وَهَذَا بالاجماع بَين الْفُقَهَاء إِلَّا عَن مَالك رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه يلْزمه الْوضُوء إِن كَانَ شكه خَارج الصَّلَاة وَلَا يلْزمه إِن كَانَ فِي الصَّلَاة وَالْأُخْرَى يلْزمه بِكُل حَال وحكيت الأولى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَهُوَ وَجه شَاذ عِنْد الشَّافِعِيَّة ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وحكيت الثَّانِيَة أَيْضا وَجها للشَّافِعِيَّة وَهُوَ غَرِيب وَعَن مَالك رِوَايَة ثَالِثَة رَوَاهَا ابْن قَانِع عَنهُ أَنه لَا وضوء عَلَيْهِ كَمَا قَالَه الْجُمْهُور وحكاها ابْن بطال عَنهُ وَنقل القَاضِي ثمَّ الْقُرْطُبِيّ عَن ابْن حبيب الْمَالِكِي أَن هَذَا الشَّك فِي الرّيح دون غَيره من الْأَحْدَاث وَكَأَنَّهُ تبع ظَاهر الحَدِيث وَاعْتذر عَنهُ بعض الْمَالِكِيَّة بِأَن الرّيح لَا يتَعَلَّق بِالْمحل مِنْهُ شَيْء بِخِلَاف الْبَوْل وَالْغَائِط وَعَن بعض أَصْحَاب مَالك أَنه إِن كَانَ الشَّك فِي سَبَب حَاضر كَمَا فِي الحَدِيث طرح الشَّك وَإِن كَانَ فِي سَبَب مُتَقَدم فَلَا وَأما إِذا تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يلْزمه الْوضُوء بِالْإِجْمَاع وعَلى هَذَا الأَصْل من شكّ فِي طَلَاق زَوجته أَو عتق عَبده أَو نَجَاسَة المَاء الطَّاهِر أَو طَهَارَة النَّجس أَو نَجَاسَة الثَّوْب أَو غَيره أَو أَنه صلى ثَلَاثًا أَو أَرْبعا أَو أَنه ركع أَو سجد أم لَا أَو نوى الصَّوْم أَو الصَّلَاة أَو الِاعْتِكَاف وَهُوَ فِي أثْنَاء هَذِه الْعِبَادَات وَمَا أشبه هَذِه الْأَمْثِلَة فَكل هَذِه الشكوك لَا تَأْثِير لَهَا وَالْأَصْل عدم الْحَادِث. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة تستثنى من هَذِه الْقَاعِدَة بضع عشرَة مَسْأَلَة. مِنْهَا من شكّ فِي خُرُوج وَقت الْجُمُعَة قبل الشُّرُوع فِيهَا قيل أَو فِيهَا وَمن شكّ فِي ترك بعض وضوء أَو صَلَاة بعد الْفَرَاغ لَا أثر لَهُ على الْأَصَح. وَمِنْهَا عشر ذكرهن ابْن الْقَاص بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة من الشَّافِعِيَّة فِي مُدَّة خف وَإِن إِمَامه مُسَافر أَو وصل وَطنه أَو نوى إِقَامَة وَمسح مُسْتَحَاضَة وثوب خفيت نَجَاسَته وَمَسْأَلَة الظبية وَبطلَان التَّيَمُّم بتوهم المَاء وَتَحْرِيم صيد جرحه فَغَاب فَوَجَدَهُ مَيتا قَالَ الْقفال لم يعْمل بِالشَّكِّ فِي شَيْء مِنْهَا لِأَن الأَصْل فِي الأولى الْغسْل وَفِي الثَّانِيَة الْإِتْمَام وَكَذَا فِي الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة أَن أوجبناه وَالْخَامِسَة وَالسَّادِسَة اشْتِرَاط الطَّهَارَة وَلَو ظنا أَو استصحابا وَالسَّابِعَة بَقَاء النَّجَاسَة وَالثَّامِنَة لقُوَّة الظَّن والتاسعة للشَّكّ فِي شَرط التَّيَمُّم وَهُوَ عدم المَاء وَفِي الصَّيْد تَحْرِيمه إِن قُلْنَا بِهِ الثَّانِي من الْأَحْكَام مَا قالته الشَّافِعِيَّة لَا فرق فِي الشَّك بَين تَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ فِي وجوب الْحَدث وَعَدَمه وَبَين تَرْجِيح أَحدهمَا وَغَلَبَة الظَّن فِي أَنه لَا وضوء عَلَيْهِ فالشك عِنْدهم خلاف الْيَقِين وَإِن كَانَ خلاف الِاصْطِلَاح الأصولي وَقَوْلهمْ مُوَافق لقَوْل أهل اللُّغَة الشَّك خلاف الْيَقِين نعم يسْتَحبّ الْوضُوء احْتِيَاطًا فَلَو بَان حَدثهُ أَولا فَوَجْهَانِ أصَحهمَا لَا يجْزِيه هَذَا الْوضُوء لتردده فِي نِيَّته بِخِلَاف مَا إِذا تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَتَوَضَّأ ثمَّ بَان مُحدثا فَإِنَّهُ يجْزِيه قطعا(2/253)
لِأَن الأَصْل بَقَاء الْحَدث فَلَا يضر التَّرَدُّد مَعَه وَلَو تَيَقّن الطَّهَارَة وَالْحَدَث مَعًا وَشك فِي السَّابِق مِنْهُمَا فأوجه أَصَحهَا أَنه يَأْخُذ بضد مَا قبلهمَا إِن عرفه فَإِن لم يعرفهُ لزمَه الْوضُوء مُطلقًا الثَّالِث قَالَ الْخطابِيّ فِيهِ حجَّة لمن أوجب الْحَد على من وجدت مِنْهُ رَائِحَة الْمُسكر وَإِن لم يُشَاهد شربه وَلَا شهد عَلَيْهِ الشُّهُود وَلَا اعْترف بِهِ قلت فِيهِ نظر لِأَن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبْهَةِ والشبهة هُنَا قَائِمَة فَافْهَم الرَّابِع فِيهِ مَشْرُوعِيَّة سُؤال الْعلمَاء عَمَّا يحدث من الوقائع وَجَوَاب السَّائِل الْخَامِس فِيهِ ترك الاستحياء فِي الْعلم وَأَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يعلمهُمْ كل شَيْء وَأَنه يُصَلِّي بِوضُوء صلوَات مَا لم يحدث السَّادِس فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد السَّابِع فِيهِ أَن من كَانَ على حَال لَا ينْتَقل عَنهُ إِلَّا بِوُجُود خِلَافه الثَّامِن فِيهِ أَنهم كَانُوا يَشكونَ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جَمِيع مَا ينزل بهم التَّاسِع اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن رُؤْيَة الْمُتَيَمم المَاء فِي صلَاته لَا ينْقض طَهَارَته قلت لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَاب مَا ذَكرْنَاهُ من أَن الْمَعْنى إِذا كَانَ أوسع من الِاسْم كَانَ الحكم للمعنى لِأَنَّهُ هُوَ فِيمَا يَقع تَحت الْجِنْس الْوَاحِد وَلَا شكّ أَن الْمَقْصُود بِهِ جنس الخارجات من الْبدن فالتعدي إِلَى غير الْجِنْس الْمَقْصُود بِهِ اغتصاب الْأَحْكَام
(بَاب التَّخْفِيف فِي الْوضُوء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز التَّخْفِيف فِي الْوضُوء والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على حكم من أَحْكَام الْوضُوء
4 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي كريب عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَام حَتَّى نفخ ثمَّ صلى وَرُبمَا قَالَ اضْطجع حَتَّى نفخ ثمَّ قَامَ فصلى ثمَّ حَدثنَا بِهِ سُفْيَان مرّة بعد مرّة عَن عَمْرو عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة لَيْلَة فَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيْل قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَوَضَّأ من شن مُعَلّق وضوء خَفِيفا يخففه عَمْرو ويقلله وَقَامَ يُصَلِّي فَتَوَضَّأت نَحوا مِمَّا تَوَضَّأ ثمَّ جِئْت فَقُمْت عَن يسَاره وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان عَن شِمَاله فحولني فجعلني عَن يَمِينه ثمَّ صلى مَا شَاءَ الله ثمَّ اضْطجع فَنَامَ حَتَّى نفخ ثمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فآذنه بِالصَّلَاةِ فَقَامَ مَعَه إِلَى الصَّلَاة فصلى وَلم يتَوَضَّأ قُلْنَا لعَمْرو إِن نَاسا يَقُولُونَ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تنام عينه وَلَا ينَام قلبه قَالَ عَمْرو سَمِعت عبيد بن عُمَيْر يَقُول رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي ثمَّ قَرَأَ {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وضوأ خَفِيفا. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة قد ذكر مِنْهُم عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَمْرو بن دِينَار وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وكريب بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره يَاء مُوَحدَة ابْن أبي مُسلم القريشي الْهَاشِمِي مولى عبد الله بن عَبَّاس ويكنى أَبَا رشدين بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون روى عَن مَوْلَاهُ ابْن عَبَّاس وَغَيره وروى عَنهُ ابناه مُحَمَّد وَرشْدِين ومُوسَى بن عقبَة وَخلق مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَهُوَ من أَفْرَاد الْكتب السِّتَّة (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رِجَاله كلهم من فرسَان الْكتب السِّتَّة إِلَّا عَليّ بن الْمَدِينِيّ فَإِن مُسلما وَابْن مَاجَه لم يخرجَا لَهُ. وَمِنْهَا أَن كلهم مكيون مَا خلا عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَابْن عَبَّاس مكي أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيْضا. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ عَمْرو عَن كريب. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عقبَة عَن دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن ابْن أبي عمر وَمُحَمّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الشَّافِعِي عَن(2/254)
سُفْيَان بِبَعْضِه وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْعلم عَن آدم عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَمن أخرجه أَيْضا بِهَذَا الطَّرِيق وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع من الصَّحِيح عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وَأبي جَمْرَة وَطَاوُس وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس (بَيَان اللُّغَات) قَوْله نفخ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي من خيشومه وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بالغطيط قَوْله بت بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة من بَات يبيت ويبات بيتوتة قَوْله من شن بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون وَهُوَ الْقرْبَة الْخلق وَكَذَلِكَ الشنة وَكَأَنَّهَا صَغِيرَة وَالْجمع أشنان وَيُقَال الشن الْقرْبَة الَّتِي قربت للبلى قَوْله فآذنه بِالْمدِّ أَي أعلمهُ من الإيذان وَهُوَ الْإِعْلَام. (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله نَام جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله حَتَّى نفخ بِمَعْنى إِلَى أَن نفخ قَوْله وَرُبمَا أَصله للتقليل وَقد تسْتَعْمل للتكثير وَهَهُنَا يحْتَمل الْأَمريْنِ قَوْله ثمَّ حَدثنَا بِفَتْح الثَّاء جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَقَوله سُفْيَان بِالرَّفْع فَاعله قَوْله مرّة نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي تحديثا مرّة وَقَوله بعد مرّة كَلَام إضافي صفة لقَوْله مرّة قَوْله مَيْمُونَة لَا ينْصَرف للعلمية والتأنيث وَهُوَ فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهُ عطف بَيَان عَن قَوْله خَالَتِي وَهُوَ مجرور بِالْإِضَافَة قَوْله لَيْلَة نصب على الظّرْف قَوْله فَقَامَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من اللَّيْل كلمة من هُنَا للابتداء وَالْمعْنَى قَامَ مبتدئا من اللَّيْل أَو التَّقْدِير قَامَ من مضى زمن من اللَّيْل هَذَا على رِوَايَة الْأَكْثَرين قَوْله فَقَامَ بِالْقَافِ من الْقيام وَأما على رِوَايَة ابْن السكن فَنَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل بالنُّون من النّوم فَكَذَلِك للابتداء وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى فِي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} أَي فِي يَوْم الْجُمُعَة وَالْمعْنَى فَنَامَ فِي بعض اللَّيْل كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَنَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى انتصف اللَّيْل أَو قبله بِقَلِيل وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَآخَرُونَ أَن رِوَايَة ابْن السكن هِيَ الصَّوَاب لِأَن بعده فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيْل قَامَ فَتَوَضَّأ وَقَالَ بَعضهم لَا يَنْبَغِي الْجَزْم بخطئها لِأَن توجيهها ظَاهر وَهُوَ أَن الْفَاء فِي قَوْله فَلَمَّا تفصيلية فالجملة الثَّانِيَة وَإِن كَانَ مضمونها مَضْمُون الأولى لَكِن الْمُغَايرَة بَينهمَا بالإجمال وَالتَّفْصِيل قلت الصَّوَاب مَا استصوبه القَاضِي وتوجيه هَذَا الْقَائِل غير موجه لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَضْمُون الْجُمْلَة الأولى إِجْمَال وَلَا فِي مَضْمُون الثَّانِيَة تَفْصِيل بل مَضْمُون الْجُمْلَة الأولى إِخْبَار عَن نوم النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم فِي بعض اللَّيْل ومضمون الْجُمْلَة الثَّانِيَة إِخْبَار عَن قِيَامه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم فِي بعض اللَّيْل فَإِن أَرَادَ هَذَا الْقَائِل إِجْمَال مَا فِي قَوْله من اللَّيْل فَكَذَلِك الْإِجْمَال مَوْجُود فِي قَوْله فِي بعض اللَّيْل فَكيف تكون الثَّانِيَة تَفْصِيلًا للأولى فَإِذا تحقق هَذَا يلْزم من رِوَايَة فَقَامَ بِالْقَافِ التّكْرَار فِي الْكَلَام من غير فَائِدَة وعَلى رِوَايَة فَنَامَ بالنُّون يسلم التَّرْكِيب من هَذَا على مَا لَا يخفى فعلى هَذَا تكون الْفَاء فِي قَوْله فَلَمَّا كَانَ للْعَطْف الْمَحْض لَا كَمَا قَالَه هَذَا الْقَائِل أَنَّهَا تفصيلية وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله فَلَمَّا كَانَ أَي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَبعهُ بَعضهم فِي شَرحه على هَذَا التَّفْسِير قلت التَّرْكِيب يسمح بِهَذَا التَّفْسِير لَا يخفى ذَلِك على من لَهُ ذوق وَالْأَحْسَن أَن يُقَال التَّقْدِير فَلَمَّا كَانَ بعض اللَّيْل قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت فعلى هَذَا تكون كلمة فِي زَائِدَة وَهل جَاءَ زيادتها فِي الْكَلَام قلت نعم أجَاز ذَلِك بَعضهم حَتَّى قَالَ التَّقْدِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} وَقَالَ اركبوها وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ مَا رَوَاهُ الْكشميهني فَلَمَّا كَانَ من بعض اللَّيْل بِكَلِمَة من عوض كلمة فِي وَلَا شكّ أَن من على هَذِه الرِّوَايَة زَائِدَة وكل مِنْهُمَا يَأْتِي بِمَعْنى الآخر كَمَا ثَبت فِي مَوْضِعه ثمَّ اعْلَم أَن كَانَ هَهُنَا تَامَّة بِمَعْنى وجد وَقَوله قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاب لما وَقَوله فَتَوَضَّأ عطف عَلَيْهِ قَوْله مُعَلّق بِالْجَرِّ صفة لقَوْله شن على تَأْوِيل الشن بِالْجلدِ وَفِي رِوَايَة معلقَة بالتأنيث على مَا يَأْتِي بعد أَبْوَاب على تَأْوِيل الشن بالقربة قَوْله وضوأ نصب على المصدرية وَقَوله خَفِيفا صفته قَوْله يخففه عَمْرو جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَالْفَاعِل ويقلله جملَة مثلهَا عطف عَلَيْهَا فَإِن قلت مَا محلهَا من الْإِعْرَاب قلت النصب على أَنَّهُمَا صفتان لقَوْله خَفِيفا قَوْله وَقَامَ عطف على قَوْله فَتَوَضَّأ قَوْله يُصَلِّي جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي قَامَ قَوْله فَتَوَضَّأت عطف على قَوْله فَتَوَضَّأ قَوْله نَحوا نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي تَوَضَّأ نَحوا وَكلمَة مَا فِي قَوْله مِمَّا تَوَضَّأ يجوز أَن تكون مَوْصُولَة وَأَن تكون مَصْدَرِيَّة وَبَقِيَّة الْإِعْرَاب ظَاهِرَة(2/255)
(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله وَرُبمَا قَالَ اضْطجع أَي وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة اضْطجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى نفخ بدل قَوْله نَام حَتَّى نفخ وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ فِي هَذِه الرِّوَايَة بدل نَام اضْطجع وَزَاد لَفْظَة قَامَ قلت لَفْظَة قَامَ لَا بُد مِنْهَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال زَاد لَفْظَة قَامَ لِأَن تَقْدِير الرِّوَايَة الأولى نَام حَتَّى نفخ ثمَّ قَامَ فصلى وَتَقْدِير الثَّانِيَة اضْطجع حَتَّى نفخ ثمَّ قَامَ فصلى وَقَالَ بَعضهم أَي كَانَ سُفْيَان يَقُول تَارَة نَام وَتارَة اضْطجع وليسا مترادفين بل بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه لكنه لم يرد إِقَامَة أَحدهمَا مقَام الآخر بل كَانَ إِذا روى الحَدِيث مطولا قَالَ اضْطجع فَنَامَ وَإِذا اخْتَصَرَهُ قَالَ نَام أَي مُضْطَجعا واضطجع أَي نَائِما قلت الِاضْطِجَاع فِي اللُّغَة وضع الْجنب بِالْأَرْضِ وَلَكِن المُرَاد بِهِ هَهُنَا النّوم فَحِينَئِذٍ يكون بَين قَوْله نَام حَتَّى نفخ وَبَين قَوْله اضْطجع حَتَّى نفخ مُسَاوَاة فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل وليسا مترادفين بل بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه وَقَوله لم يرد إِقَامَة أَحدهمَا مقَام الآخر غير صَحِيح لِأَنَّهُ أطلق قَوْله اضْطجع على نَام فِي قَوْله فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اضْطجع حَتَّى نفخ لِأَن مَعْنَاهُ نَام حَتَّى نفخ قَوْله ثمَّ حَدثنَا بِهِ سُفْيَان يَعْنِي قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ ثمَّ حَدثنَا بِالْحَدِيثِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه كَانَ يُحَدِّثهُمْ بِهِ تَارَة مُخْتَصرا وَتارَة مطولا قَوْله مَيْمُونَة هِيَ أم الْمُؤمنِينَ بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة وَأُخْتهَا لبَابَة بِضَم اللَّام وبالموحدتين زَوْجَة الْعَبَّاس عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم عبد الله وَالْفضل وَغَيرهمَا قَوْله يخففه عَمْرو ويقلله أَي عَمْرو بن دِينَار الْمَذْكُور فِي السَّنَد وَهَذَا إدراج من سُفْيَان بن عُيَيْنَة بَين أَلْفَاظ ابْن الْعَبَّاس وَالْفرق بَين التَّخْفِيف والتقليل أَن التَّخْفِيف يُقَابل التثقيل وَهُوَ من بَاب الكيف والتقليل يُقَابله التكثير وَهُوَ من بَاب الْكمّ وَقَالَ ابْن بطال يُرِيد بِالتَّخْفِيفِ تَمام غسل الْأَعْضَاء دون التكثير من إمرار الْيَد عَلَيْهَا وَذَلِكَ أدنى مَا تجوز الصَّلَاة بِهِ وَإِنَّمَا خففه الْمُحدث لعلمه بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا للفضل والمرة الْوَاحِدَة بِالْإِضَافَة إِلَى الثَّلَاث تَخْفيف وَقَالَ ابْن الْمُنِير يخففه أَي لَا يكثر الدَّلْك ويقلله أَي لَا يزِيد على مرّة مرّة ثمَّ قَالَ وَفِيه دَلِيل إِيجَاب الدَّلْك لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُمكن اختصاره لاختصره قلت فِيهِ نظر لِأَن قَوْله يخففه يُنَافِي وجود الدَّلْك فَكيف يكون فِيهِ دَلِيل على وُجُوبه وَالْمرَاد بِالْوضُوءِ الْخَفِيف أَن يكون بَين الوضوءين وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ ترك الإسباغ بل الِاكْتِفَاء بالمرة الْوَاحِدَة مَعَ الإسباغ وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الْوتر فَتَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء قَوْله فَتَوَضَّأت نَحوا مِمَّا تَوَضَّأ أَرَادَ أَنه تَوَضَّأ وضُوءًا خَفِيفا مثل وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الْكرْمَانِي قَالَ نَحوا وَلم يقل مثلا لِأَن حَقِيقَة مِمَّا ثلته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقدر عَلَيْهَا غَيره قلت يرد على مَا ذكره مَا ثَبت فِي هَذَا الحَدِيث على مَا يَأْتِي بعد أَبْوَاب فَقُمْت فصنعت مثل مَا صنع فَعلم من ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله نَحوا مثلا لِأَن الحَدِيث وَاحِد والقضية وَاحِدَة وَبَعض أَلْفَاظه يُفَسر بَعْضهَا قَوْله فَقُمْت عَن يسَاره كلمة عَن هَهُنَا على مَعْنَاهَا الْمَوْضُوع لَهَا وَهِي الْمُجَاوزَة وَالْمعْنَى قُمْت مجاوزا عَن يسَاره وَلم يذكر البصريون لَهَا معنى سوى معنى الْمُجَاوزَة وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن تكون هَهُنَا لِمَعْنى الظَّرْفِيَّة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر
(وَأسر سراة الْحَيّ حَيْثُ لقيتهم ... وَلَا تَكُ عَن حمل الرباعة وانيا)
والرباعة نُجُوم الجمالة قَوْله وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان عَن شِمَاله هَذَا إدراج من عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَالشمَال بِكَسْر الشين هِيَ الْجَارِحَة وَهِي خلاف الْيَمين وبفتح الشين الرّيح الَّتِي تهب من نَاحيَة القطب وَهِي خلاف الْجنُوب قَوْله فآذنه أَي أعلمهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفِي بعض النّسخ يُؤذنهُ بِلَفْظ الْمُضَارع بِدُونِ الْفَاء وَفِي بَعْضهَا فناداه بِالصَّلَاةِ قَوْله فَقَامَ مَعَه أَي قَامَ الْمُنَادِي مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى الصَّلَاة وَيجوز أَن يُقَال فَقَامَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعَ الْمُنَادِي إِلَى الصَّلَاة وَقَالَ الْكرْمَانِي مَعَه أَي مَعَ الْمُنَادِي أَو مَعَ الإيذان قلت قَوْله مَعَ الْمُنَادِي تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَقَوله أَو مَعَ الإيذان بعيد وَإِن كَانَ لَهُ وَجه قَوْله قُلْنَا لعَمْرو أَي قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة قُلْنَا لعَمْرو بن دِينَار قَوْله أَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تنام عينه وَلَا ينَام قلبه حَدِيث صَحِيح وَسَيَأْتِي من وَجه آخر قَوْله عبيد بن عُمَيْر كِلَاهُمَا بِصِيغَة التصغير ابْن قَتَادَة اللَّيْثِيّ الْمَكِّيّ وَعبيد هَذَا من كبار التَّابِعين وَقيل إِنَّه رأى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ قاص أهل مَكَّة مَاتَ قبل ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا روى لَهُ الْجَمَاعَة وَأَبوهُ عُمَيْر بن قَتَادَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم قَوْله رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي رَوَاهُ مُسلم مَرْفُوعا الرُّؤْيَا مصدر كالرجعى تخْتَص برؤيا الْمَنَام كَمَا اخْتصَّ الرَّأْي بِالْقَلْبِ والرؤية بِالْعينِ وَالِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَيْهِ من جِهَة أَن الرُّؤْيَا لَو لم تكن وَحيا لما جَازَ لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْإِقْدَام على ذبح وَلَده لِأَنَّهُ محرم فلولا أَنه أُبِيح لَهُ فِي الرُّؤْيَا بِالْوَحْي لما ارْتكب الْحَرَام وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي شَرحه قَول عبيد بن عُمَيْر لَا تعلق لَهُ بِهَذَا الْبَاب قلت يُرِيد بذلك أَن التَّبْوِيب على تَخْفيف الْوضُوء فَقَط وَلَكِن ذكر هَذَا لأجل أَن مُرَاده فِيهِ هُوَ نوم الْعين دون نوم الْقلب وَلم يلْتَزم البُخَارِيّ أَن لَا يذكر من الحَدِيث إِلَّا مَا يتَعَلَّق بالترجمة فَقَط وَهَذَا لم يَشْتَرِطه أحد بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول فِيهِ أَن نوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تنام عينه وَلَا ينَام قلبه قَالَ عَمْرو سَمِعت عبيد بن عُمَيْر يَقُول(2/256)
رَضِي الله عَنْهُم قَوْله رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي رَوَاهُ مُسلم مَرْفُوعا الرُّؤْيَا مصدر كالرجعى تخْتَص برؤيا الْمَنَام كَمَا اخْتصَّ الرَّأْي بِالْقَلْبِ والرؤية بِالْعينِ وَالِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَيْهِ من جِهَة أَن الرُّؤْيَا لَو لم تكن وَحيا لما جَازَ لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْإِقْدَام على ذبح وَلَده لِأَنَّهُ محرم فلولا أَنه أُبِيح لَهُ فِي الرُّؤْيَا بِالْوَحْي لما ارْتكب الْحَرَام وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي شَرحه قَول عبيد بن عُمَيْر لَا تعلق لَهُ بِهَذَا الْبَاب قلت يُرِيد بذلك أَن التَّبْوِيب على تَخْفيف الْوضُوء فَقَط وَلَكِن ذكر هَذَا لأجل أَن مُرَاده فِيهِ هُوَ نوم الْعين دون نوم الْقلب وَلم يلْتَزم البُخَارِيّ أَن لَا يذكر من الحَدِيث إِلَّا مَا يتَعَلَّق بالترجمة فَقَط وَهَذَا لم يَشْتَرِطه أحد (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ أَن نوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجعا لَا ينْقض الْوضُوء وَكَذَا سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فيقظة قلبهم تمنعهم من الْحَدث وَلِهَذَا قَالَ عبيد بن عُمَيْر رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي وَقَالَ الْخطابِيّ إِنَّمَا منع النّوم من قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليعي الْوَحْي إِذا أوحى إِلَيْهِ فِي الْمَنَام فَإِن قلت روى أَنه تَوَضَّأ بعد النّوم قلت ذَاك على اخْتِلَاف حَاله فِي النّوم فَرُبمَا كَانَ يعلم أَنه استثقل نوما فَاحْتَاجَ مِنْهُ إِلَى الْوضُوء الثَّانِي فِيهِ جَوَاز مبيت من لم يَحْتَلِم عِنْد محرمه الثَّالِث فِيهِ مبيته عِنْد الرجل مَعَ أَهله وَقد روى أَنَّهَا كَانَت حَائِضًا الرَّابِع فِيهِ تواضعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من مَكَارِم الْأَخْلَاق الْخَامِس فِيهِ صلَة الْقَرَابَة السَّادِس فِيهِ فضل ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا السَّابِع فِيهِ الِاقْتِدَاء بأفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّامِن فِيهِ جَوَاز الْإِمَامَة فِي النَّافِلَة وَصِحَّة الْجَمَاعَة فِيهَا التَّاسِع فِيهِ جَوَاز ائتمام وَاحِد بِوَاحِد الْعَاشِر فِيهِ جَوَاز ائتمام صبي ببالغ وَعَلِيهِ ترْجم الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه الْحَادِي عشر فِيهِ أَن موقف الْمَأْمُوم الْوَاحِد عَن يَمِين الإِمَام وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن موقف الْوَاحِد مَعَ الإِمَام عَن يسَاره وَعَن أَحْمد إِن وقف عَن يسَاره بطلت صلَاته وَقَالَ ابْن بطال وَهُوَ رد على أبي حنيفَة فِي قَوْله أَن الإِمَام إِذا صلى مَعَ رجل وَاحِد أَنه يقوم خَلفه لَا عَن يَمِينه وَهُوَ مُخَالف لفعل الشَّارِع قلت هَذَا بَاطِل وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَابْن بطال جازف فِي كَلَامه وَقد قَالَ صَاحب الْهِدَايَة وَمن صلى مَعَ وَاحِد أَقَامَهُ عَن يَمِينه لحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِهِ وأقامه عَن يَمِينه وَلَا يتَأَخَّر عَن الإِمَام وَإِن صلى خَلفه أَو فِي يسَاره جَازَ وَهُوَ مسيء لِأَنَّهُ خلاف السّنة هَذَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة فَكيف شنع عَلَيْهِ ابْن بطال مَعَ إساءة الْأَدَب على الإِمَام الثَّانِي عشر فِيهِ أَن أقل الْوضُوء يجزىء إِذا أَسْبغ وَهُوَ مرّة مرّة الثَّالِث عشر فِيهِ تَعْلِيم الإِمَام الْمَأْمُوم الرَّابِع عشر فِيهِ التَّعْلِيم فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ من أمرهَا الْخَامِس عشر فِيهِ إيذان الإِمَام بِالصَّلَاةِ السَّادِس عشر فِيهِ قيام الإِمَام مَعَ الْمُؤَذّن إِذا آذنه السَّابِع عشر فِيهِ الْجمع بَين النَّوَافِل وَالْفَرْض بِوضُوء وَاحِد وَلَا شكّ فِي جَوَازه الثَّامِن عشر فِيهِ أَن النّوم الْخَفِيف لَا يجب فِيهِ الْوضُوء قَالَه الدَّاودِيّ فِي شَرحه وَفِيه نظر لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اضْطجع فَنَامَ حَتَّى نفخ وَهَذَا لَا يكون فِي الْغَالِب خَفِيفا التَّاسِع عشر فِيهِ الِاضْطِجَاع على الْجنب بعد التَّهَجُّد الْعشْرُونَ مَا قيل إِن تقدم الْمَأْمُوم على إِمَامه مُبْطل لِأَن الْمَنْقُول أَن الإدارة كَانَت من خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من قدامه كَمَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن تَفْسِير مُحَمَّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الشَّافِعِي عَن سُفْيَان بِبَعْضِه وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْعلم عَن آدم عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَمن أخرجه أَيْضا بِهَذَا الطَّرِيق وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع من الصَّحِيح عَن عَطاء بن أبي حَاتِم وَفِيه نظر لِأَنَّهُ يجوز أَن تكون إدارته من خَلفه لِئَلَّا يمر بَين يَدَيْهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوه الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ قيام اللَّيْل وَكَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نسخ على الْأَصَح الثَّانِي وَالْعشْرُونَ فِيهِ الْمبيت عِنْد الْعَالم ليراقب أَفعاله فيقتدي بهَا الثَّالِث وَالْعشْرُونَ فِيهِ طلب الْعُلُوّ فِي السَّنَد فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتَفِي بِإِخْبَار خَالَته أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا الرَّابِع وَالْعشْرُونَ فِيهِ أَن النَّافِلَة كالفريضة فِي تَحْرِيم الْكَلَام لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَكَلَّم الْخَامِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ أَن من الْأَدَب أَن يمشي الصَّغِير عَن يَمِين الْكَبِير والمفضول عَن يَمِين الْفَاضِل ذكره الْخطابِيّ السَّادِس وَالْعشْرُونَ فِيهِ جَوَاز فتل أذن الصَّغِير للتّنْبِيه على التَّعْلِيم والإرشاد وَلم يذكر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذِه الرِّوَايَة كَيْفيَّة التَّحْوِيل وَقد اخْتلف فِيهِ رِوَايَات الصَّحِيح فَفِي بَعْضهَا أَخذ بِرَأْسِهِ فَجعله عَن يَمِينه وَفِي بَعْضهَا فَوضع يَده الْيُمْنَى على رَأْسِي فَأخذ بأذني الْيُمْنَى ففتلها وَفِي بَعْضهَا فَوضع يَده الْيُمْنَى على رَأْسِي فَأخذ بأذني الْيُمْنَى ففتلها فِي بَعْضهَا فَأخذ برأسي من ورائي وَفِي بَعْضهَا بيَدي أَو عضدي وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة جَامِعَة لهَذِهِ الرِّوَايَات(2/257)
(بَاب إسباغ الْوضُوء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان إسباغ الْوضُوء والإسباغ مصدر أَسْبغ وثلاثيه من سبغت النِّعْمَة تسبغ سبوغا أَي اتسعت وَقَالَ اللَّيْث كل شَيْء طَال إِلَى الأَرْض فَهُوَ سابغ وأسبغ الله عَلَيْهِ النِّعْمَة أَي أتمهَا قَالَ الله تَعَالَى {وأسبغ عَلَيْكُم نعمه ظَاهِرَة وباطنة} وإسباغ الْوضُوء إبلاغه موَاضعه وإيفاء كل عُضْو حَقه والتركيب يدل على تَمام الشَّيْء وكماله وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول تَخْفيف الْوضُوء وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب مَا يُقَابله صُورَة وَإِن كَانَ لَا بُد فِي التَّخْفِيف من الإسباغ أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ (وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إسباغ الْوضُوء الإنقاء) هَذَا تَعْلِيق أخرجه عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه مَوْصُولا بِإِسْنَاد صَحِيح وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فسر الإسباغ بالإنقاء فَإِن قلت قد مر أَن الإسباغ فِي اللُّغَة الْإِتْمَام والاتساع قلت هَذَا من بَاب تَفْسِير الشَّيْء بلازمه إِذْ الْإِتْمَام يسْتَلْزم الإنقاء عَادَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح أَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يغسل رجلَيْهِ فِي الْوضُوء سبع مَرَّات فَإِنَّهُ كَانَ يقْصد بذلك الإنقاء فَإِن قلت لم اقْتصر فِي ذَلِك على الرجلَيْن قلت لِأَنَّهُمَا مَحل الأوساخ غَالِبا لاعتيادهم الْمَشْي حُفَاة بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَعْضَاء فَإِن قلت مَا وَجه ذَلِك وَقد مر أَن الزِّيَادَة على الثَّلَاث ظلم وتعد قلت قد ذكرنَا أَن وَجه ذَلِك فِيمَن لم ير الثَّلَاث سنة وَأما إِذا رَآهَا وَزَاد على أَنه من بَاب الْوضُوء على الْوضُوء يكون نورا على نور
5 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن أُسَامَة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سَمعه يَقُول دفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَة حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ نزل فَبَال ثمَّ تَوَضَّأ وَلم يسبغ الْوضُوء فَقلت الصَّلَاة يَا رَسُول الله فَقَالَ الصَّلَاة أمامك فَركب فَلَمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَة نزل فَتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء ثمَّ أُقِيمَت الصَّلَاة فصلى الْمغرب ثمَّ أَنَاخَ كل إِنْسَان بعيره فِي منزله ثمَّ أُقِيمَت الْعشَاء فصلى وَلم يصل بَينهمَا) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَتَوَضَّأ وأسبغ الْوضُوء فَإِن قلت الْمَذْكُور فِيهِ شَيْئَانِ الإسباغ وَتَركه فَمَا الْمُرَجح فِي تبويب التَّرْجَمَة على الإسباغ قلت لِأَنَّهُ بوب الْبَاب السَّابِق فِي تَخْفيف الْوضُوء فَتعين أَن يكون الْبَاب الَّذِي يتلوه فِي الإسباغ. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول عبد الله بن مسلمة بِفَتْح الميمين وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة القعْنبِي وَقد مر الثَّانِي الإِمَام مَالك رَحمَه الله الثَّالِث مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي مولى الزبير بن الْعَوام وَيُقَال مولى أم خَالِد زَوْجَة الزبير القريشي أَخُو مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم وَكَانَ إِبْرَاهِيم أكبر من مُوسَى روى عَن كريب وَأم خَالِد الصحابية وَغَيرهمَا وَعنهُ مَالك والسفيانان وَغَيرهم وَكَانَ من الْمُفْتِينَ الثِّقَات مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة ومغازيه أصح الْمَغَازِي كَمَا قَالَه مَالك وَغَيره وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اسْمه مُوسَى بن عقبَة غَيره الرَّابِع كريب وَقد تقدم عَن قريب الْخَامِس أُسَامَة بِضَم الْهمزَة بن زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل الْكَلْبِيّ الْمدنِي الْحبّ ابْن الْحبّ وَكَانَ نقش خَاتمه حب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ مولى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَابْن حاضنته ومولاته أم أَيمن اسْتَعْملهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة وَقبض النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ ابْن عشْرين روى لَهُ مائَة حَدِيث وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ حَدِيثا اتفقَا على خَمْسَة عشر حَدِيثا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين وَمُسلم بحديثين مَاتَ بوادي الْقرى سنة أَربع وَخمسين على الْأَصَح وَهُوَ ابْن خمس وَخمسين وَذكر الله أَبَاهُ زيدا فِي الْقُرْآن باسمه وَأُسَامَة بن زيد سِتَّة أحدهم هَذَا وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه أُسَامَة بن زيد سواهُ وَإِن كَانَ فيهم من اسْمه أُسَامَة الثَّانِي تنوخي روى عَن زيد بن أسلم وَغَيره الثَّالِث ليثي روى عَن نَافِع وَغَيره الرَّابِع مدنِي مولى عمر بن الْخطاب ضَعِيف الْخَامِس كَلْبِي روى عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة وَغَيره السَّادِس شيرازي روى عَن أبي حَامِد الفضلي(2/258)
(بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع وَمِنْهَا أَن رِجَاله كلهم مدنيون وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ مُوسَى عَن كريب وَمِنْهَا أَن رِجَاله كلهم من رجال الْكتب السِّتَّة إِلَّا عبد الله بن مسلمة فَإِن ابْن مَاجَه لم يخرج لَهُ (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن سعيد عَن مُوسَى بن عقبَة عَن كريب وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن يزِيد بن هرون عَن يحيى بن سعيد بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رمح عَن لَيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن ابْن الْمُبَارك وَعَن إِسْحَق عَن يحيى بن آدم عَن زُهَيْر كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة وَعَن إِسْحَق عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن عقبَة كِلَاهُمَا عَن كريب بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان عَن يزِيد بن هَارُون بِهِ وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ مُخْتَصرا (بَيَان اللُّغَات) قَوْله دفع من عَرَفَة أَي أَفَاضَ مِنْهَا يُقَال دفع السَّيْل من الْجَبَل إِذا انصب مِنْهُ وَدفعت إِلَيْهِ شَيْئا أدفعه دفعا وَدفعت الرجل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس} وَدفعت عَنهُ الْأَذَى واندفعوا فِي الحَدِيث أَو الإنشاد أفاضوا فِيهِ والاندفاع مُطَاوع الدّفع وتدافع الْقَوْم فِي الْحَرْب أَي دفع بَعضهم بَعْضًا قَالَ الصغاني التَّرْكِيب يدل على تنحية الشَّيْء قَوْله من عَرَفَة على وزن فعلة اسْم للزمان وَهُوَ الْيَوْم التَّاسِع من ذِي الْحجَّة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل عَرَفَة وعرفات كِلَاهُمَا اسمان للمكان الْمَخْصُوص وَقَالَ الصغاني وَيَوْم عَرَفَة التَّاسِع من ذِي الْحجَّة وَتقول هَذَا يَوْم عَرَفَة غير منون وَلَا تدْخلهَا الْألف وَاللَّام وعرفات الْموضع الَّذِي يقف الْحَاج بِهِ يَوْم عَرَفَة قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} وَهِي اسْم فِي لفظ الْجمع فَلَا تجمع قَالَ الْفراء لَا وَاحِد لَهَا وَقَول النَّاس نزلنَا عَرَفَة شَبيه بمولد وَلَيْسَ بعربي مَحْض سميت بِهِ لِأَن آدم عرف حَوَّاء بهَا فَإِن الله تَعَالَى أهبط آدم بِالْهِنْدِ وحواء بجدة فتعارفا فِي الْموقف أَو لِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عرف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمَنَاسِك هُنَاكَ أَو للجبال الَّتِي فِيهَا وَالْجِبَال الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاف وكل بَاب فَهُوَ عرف وَمِنْه عرف الديك أَو لِأَن النَّاس يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ ويسألون غفرانها وَقيل لِأَنَّهَا مَكَان مقدس مُعظم كَأَنَّهُ قد عرف أَي طيب قَوْله بِالشعبِ بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل وَالْمرَاد بِهِ الشّعب الْمَعْهُود للحجاج قَوْله الْمزْدَلِفَة هِيَ مَوضِع مَخْصُوص بَين عَرَفَات وَمنى وَقيل سميت بهَا لِأَن الْحجَّاج يزدلفون فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى أَي يَتَقَرَّبُون بِالْوُقُوفِ فِيهَا إِلَيْهِ وَيُسمى أَيْضا جمعا لِأَن آدم اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء عَلَيْهِمَا السَّلَام وازدلف إِلَيْهَا أَي دنا فَلذَلِك سميت مُزْدَلِفَة أَيْضا وَعَن قَتَادَة لِأَنَّهُ يجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ قلت الْمزْدَلِفَة بِضَم الْمِيم من الازدلاف وَهُوَ التَّقَرُّب أَو الِاجْتِمَاع فَمن الأول قَوْله تَعَالَى {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} أَي قربت وَمن الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} أَي جمعناهم وَلذَلِك قيل لَهَا جمع (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله سَمعه جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله دفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقول القَوْل قَوْله حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ كلمة حَتَّى هَذِه ابتدائية أَعنِي حرفا يبتدأ بعده الْجُمْلَة سَوَاء كَانَت اسمية أَو فعلية وَيجوز أَن تكون جَارة على مَا نقل عَن الْأَخْفَش فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا فشلتم} فعلى هَذَا قَوْله إِذا فِي مَحل الْجَرّ بهَا وعَلى الأول يكون موضعهَا النصب وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله نزل وَالْبَاء فِي بِالشعبِ ظرفية قَوْله فَبَال عطف على نزل قَوْله فَقلت الصَّلَاة بِالنّصب وَاخْتلفُوا فِي الناصب فَقَالَ القَاضِي على الاغراء وَقيل على تَقْدِير أَتُرِيدُ الصَّلَاة وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة تَأتي فَقلت أَتُصَلِّي يَا رَسُول الله يَعْنِي أَتُرِيدُ الصَّلَاة قلت الأولى أَن يقدر نصلي الصَّلَاة يَا رَسُول الله وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير حانت الصَّلَاة أَو حضرت قَوْله الصَّلَاة أمامك بِرَفْع الصَّلَاة على الِابْتِدَاء وَخَبره أمامك قَوْله الْمزْدَلِفَة بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول جَاءَ وَفِي الأَصْل جَاءَ إِلَى الْمزْدَلِفَة وَقَوله نزل جَوَاب لما (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله دفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَة أَي رَجَعَ من وقُوف عَرَفَة بِعَرَفَات لأَنا قُلْنَا أَن عَرَفَة اسْم الْيَوْم التَّاسِع من ذِي الْحجَّة فَحِينَئِذٍ يكون الْمُضَاف فِيهِ محذوفا وعَلى قَول من يَقُول أَن عَرَفَة اسْم للمكان أَيْضا لَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير وَقد مر أَنه لُغَة بلدية قَوْله وَلم يسبغ الْوضُوء أَي خففه وَيُؤَيِّدهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم فَتَوَضَّأ وضوأ خَفِيفا(2/259)
وَيُقَال مَعْنَاهُ لم يكمله يَعْنِي تَوَضَّأ مرّة مرّة لَكِن بالإسباغ وَقيل مَعْنَاهُ خفف اسْتِعْمَال المَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالب عاداته وَقيل المُرَاد بِهِ الْوضُوء اللّغَوِيّ أَي اقْتصر على بعض الْأَعْضَاء وَهُوَ بعيد وَأبْعد مِنْهُ مَا قيل أَن المُرَاد بِهِ الِاسْتِنْجَاء كَمَا قَالَ عِيسَى بن دِينَار وَجَمَاعَة وَمِمَّا يوهنه رِوَايَة البُخَارِيّ الْآتِيَة فِي بَاب الرجل يوضىء صَاحبه أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عدل إِلَى الشّعب فَقضى حَاجته فَجعلت أصب المَاء عَلَيْهِ وَيتَوَضَّأ وَلَا يجوز أَن يصب أُسَامَة عَلَيْهِ إِلَّا وضوء الصَّلَاة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يقرب مِنْهُ أحد وَهُوَ على حَاجته وَأَيْضًا فقد قَالَ أُسَامَة عقيب ذَلِك الصَّلَاة يَا رَسُول الله ومحال أَن يَقُول لَهُ الصَّلَاة وَلم يتَوَضَّأ وضوء الصَّلَاة وَأبْعد من قَالَ إِنَّمَا لم يسبغه لِأَنَّهُ لم يرد أَن يُصَلِّي بِهِ فَفعله ليَكُون مستصحبا للطَّهَارَة فِي مسيره فَإِنَّهُ كَانَ فِي عَامَّة أَحْوَاله على طهر وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد إِنَّمَا لم يسبغه ليذكر الله لأَنهم يكثرون مِنْهُ عَشِيَّة الدّفع من عَرَفَة وَقَالَ غَيره إِنَّمَا فعله لإعجاله الدّفع إِلَى الْمزْدَلِفَة فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ وضُوءًا يرفع بِهِ الْحَدث لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ لَا يبْقى بِغَيْر طَهَارَة وَكَذَا قَالَ الْخطابِيّ إِنَّمَا ترك إسباغه حَتَّى نزل الشّعب ليَكُون مستصحبا للطَّهَارَة فِي طَرِيقه وَيجوز فِيهِ لِأَنَّهُ لم يرد أَن يُصَلِّي بِهِ فَلَمَّا نزل وَأَرَادَهَا أسبغه قَوْله الصَّلَاة أمامك بِفَتْح الْهمزَة أَي قدامك وَقَالَ الْخطابِيّ يُرِيد أَن مَوضِع هَذِه الصَّلَاة الْمزْدَلِفَة وَهِي أمامك وَهَذَا تَخْصِيص لعُمُوم الْأَوْقَات المؤقتة للصلوات الْخمس لبَيَان فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه دَلِيل على أَنه لَا يُصليهَا الْحَاج إِذا أَفَاضَ من عَرَفَة حَتَّى يبلغهَا وَأَن عَلَيْهِ أَن يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء بِجمع على مَا سنه الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِفِعْلِهِ وَبَينه بقوله وَلَو أَجْزَأته فِي غير الْمَكَان لما أَخّرهَا عَن وَقتهَا الْمُؤَقت لَهَا فِي سَائِر الْأَيَّام وَقَالَ الْكرْمَانِي لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يجوز إِذْ فعله الْمُجَرّد لَا يدل إِلَّا على النّدب وملازمة الشّرطِيَّة فِي قَوْله لما أَخّرهَا مَمْنُوعَة لِأَن ذَلِك لبَيَان جَوَاز تَأْخِيرهَا أَو بَيَان ندبية التَّأْخِير إِذْ الأَصْل عدم الْجَوَاز قلت لَا نسلم نفي الدَّلِيل على عدم الْجَوَاز لِأَن فعله قارنه قَوْله فَدلَّ على عدم الْجَوَاز وَإِنَّمَا يمشي كَلَامه إِن لَو كَانَ أُسَامَة عَالما بِالسنةِ وَلم يكن يعلم ذَلِك لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أول من سنّهَا فِي حجَّة الْوَدَاع والموضع مَوضِع الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فقر أَن بقوله دَلِيل على عدم الْجَوَاز وَوُجُوب تَأْخِيرهَا إِلَى غير وَقتهَا الْمَعْهُود وَالله أعلم فَإِن قلت الصَّلَاة أمامك قَضِيَّة حملية فَكيف يَصح هَذَا الْحمل لِأَن الصَّلَاة لَيست بِإِمَام قلت الْمُضَاف فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره وَقت الصَّلَاة أمامك إِذْ نَفسهَا لَا تُوجد قبل إيجادها وَعند إيجادها لَا تكون أَمَامه وَقيل مَعْنَاهُ الْمصلى أمامك أَي مَكَان الصَّلَاة فَيكون من قبيل ذكر الْحَال وَإِرَادَة الْمحل وَهُوَ أَعم من أَن يكون مَكَانا أَو زَمَانا قَوْله ثمَّ أَنَاخَ كل إِنْسَان بعيره كَأَنَّهُمْ فعلوا ذَلِك خشيَة مَا يحصل مِنْهَا من التشويش بقيامها قَوْله ثمَّ أُقِيمَت الْعشَاء بِكَسْر الْعين وبالمد وَالْمرَاد بِهِ صَلَاة الْعشَاء وَهِي الَّتِي وَقتهَا من غرُوب الشَّفق إِلَى طُلُوع الْفجْر الصَّادِق وَهُوَ فِي اللُّغَة من صَلَاة الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة وَقيل من الزَّوَال إِلَى الطُّلُوع (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ دَلِيل لأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن فِيمَا ذَهَبا إِلَيْهِ من وجوب تَأْخِير صَلَاة الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء حَتَّى لَو صلى الْمغرب فِي الطَّرِيق لم يجز وَعَلِيهِ إِعَادَتهَا مَا لم يطلع الْفجْر وَبِه قَالَ زفر وَجَمَاعَة من الْكُوفِيّين وَقَالَ مَالك لَا يجوز أَن يُصليهَا قبلهَا إِلَّا من بِهِ أَو بدابته عذر فَلهُ أَن يُصليهَا قبلهَا بِشَرْط كَونه بعد مغيب الشَّفق وَحكى ابْن التِّين عَن الْمُدَوَّنَة أَنه يُعِيد إِذا صلى الْمغرب قبل أَن يَأْتِي الْمزْدَلِفَة أَو جمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء بعد مغيب الشَّفق وَقبل أَن يَأْتِيهَا وَعَن أَشهب الْمَنْع إِلَّا أَن يكون صلى قبل مغيب الشَّفق فَيُعِيد الْعشَاء بعْدهَا أبدا وَبئسَ مَا صنع وَقيل يُعِيد الْأَخِيرَة فَقَط وَقَالَ فِي المعونة إِن صلى الْمغرب بِعَرَفَة فِي وَقتهَا فقد ترك الِاخْتِيَار وَالسّنة ويجزيه خلافًا لأبي حنيفَة وَقَالَ أَشهب وَإِذا أسْرع فوصل الْمزْدَلِفَة قبل مغيب الشَّفق جمع وَخَالفهُ ابْن الْقَاسِم فَقَالَ لَا يجمع حَتَّى يغيب وَقَالَت الشَّافِعِيَّة لَو جمع بَينهمَا فِي وَقت الْمغرب فِي أَرض عَرَفَات أَو فِي الطَّرِيق أَو فِي مَوضِع آخر وَصلى كل صَلَاة فِي وَقتهَا جَازَ جَمِيع ذَلِك وَإِن خَالف الْأَفْضَل وَبِه قَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَقَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَشْهَب وفقهاء أَصْحَاب الحَدِيث. الثَّانِي فِيهِ عدم وجوب الْمُوَالَاة فِي جمع التَّأْخِير فَإِنَّهُ وَقع الْفَصْل بَينهَا بإناخة كل إِنْسَان بعيره فِي منزله. الثَّالِث فِيهِ الْإِقَامَة لكل من صَلَاتي الْجمع وَهُوَ مَذْهَب عبد الرَّحْمَن بن يزِيد وَالْأسود وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَهُوَ مَذْهَب عمر بن الْخطاب وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك كل صَلَاة إِلَى الْأَئِمَّة فلهَا أَذَان وَإِقَامَة وَقَالَ(2/260)
أَحْمد بن خَالِد أعجب من مَالك أَخذ فِي هَذَا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود وَلم يروه وَترك مَا روى وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بِأَذَان وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة لَهما وَهُوَ المروى عَن جَابر وَعبد الله بن عمر وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قلت لم يذكر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور الْأَذَان وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه يُؤذن للأولى وَبِه قَالَ أَحْمد وَأَبُو ثَوْر وَعبد الْملك بن الْمَاجشون الْمَالِكِي وَهُوَ مَذْهَب الطَّحَاوِيّ وَللشَّافِعِيّ وَأحمد قَول أَنه يُصَلِّي كل وَاحِدَة بِإِقَامَة بِلَا أَذَان وَهُوَ محكي عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم وَعَن كل وَاحِد من مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَنه يُصَلِّي بأذانين. الرَّابِع فِيهِ تَنْبِيه الْمَفْضُول الْفَاضِل إِذا خَافَ عَلَيْهِ النسْيَان لما كَانَ فِيهِ من الشّغل لقَوْل أُسَامَة الصَّلَاة يَا رَسُول الله. الْخَامِس فِي قَوْله فَتَوَضَّأ فأسبغ الْوضُوء إِن الْوضُوء عبَادَة وَإِن لم يصل بِهِ يَعْنِي بِالْأولِ نبه عَلَيْهِ الْخطابِيّ وَقد قَالَت جمَاعَة من تَوَضَّأ ثمَّ أَرَادَ أَن يجدد وضوءه قبل أَن يُصَلِّي لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يُوقع بِهِ عبَادَة وَيكون كمن زَاد على ثَلَاث فِي وضوء وَاحِد وَهَذَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة قَالُوا وَلَا يسن تجديده إِلَّا إِذا صلى بِالْأولَى صَلَاة فرضا كَانَت أَو نفلا قلت اسْتِدْلَال الْخطابِيّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على مَا ادَّعَاهُ غير تَامّ لَا يخفى ذَلِك. السَّادِس فِيهِ أَنهم صلوا قبل حط رحالهم وَقد جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الصَّحِيح وَعَن مَالك يبْدَأ بِالصَّلَاةِ قبل حط الرَّوَاحِل وَقَالَ أَشهب لَهُ أَن يحط رَحْله قبل أَن يُصَلِّي وَبعد الْمغرب أحب إِلَى مَا لم تكن دَابَّته معقلة وَلَا يتعشى قبل الْمغرب وَأَن خفف عشاءه وَلَا يتعشى بعْدهَا وَإِن كَانَ عشاؤه خَفِيفا وَإِن طَال فَبعد الْعشَاء أحب إِلَيّ. السَّابِع فِيهِ ترك النَّافِلَة فِي السّفر كَذَا استنبطه الْمُهلب من قَوْله وَلم يصل بَينهمَا وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَو كنت مسبحا لأتممت وَقَالَ غَيره لَا دلَالَة فِيهِ لِأَن الْوَقْت بَين الصَّلَاتَيْنِ لَا يَتَّسِع لذَلِك أَلا ترى أَن بَعْضهَا قَالَ لَا يحطون رواحلهم تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى يجمعوا وَمِنْهُم من قَالَ يحط بعد الاولى مَعَ مَا فِي ترك الرَّوَاحِل مَا وقى مَا نهى عَنهُ وَلم يُتَابع ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا على قَوْله وَالْفُقَهَاء متفقون على اخْتِيَار التَّنَفُّل فِي السّفر وَقَالَ ابْن بطال وَقد تنفل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجِلا وراكبا. الثَّامِن اسْتدلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيّ على جَوَاز التَّنَفُّل بَين صَلَاتي الْجمع قَالَ وَهُوَ قَول ابْن وهب قَالَ وَخَالفهُ بَقِيَّة أَصْحَابنَا فمنعوه قلت الحَدِيث نَص على أَنه لم يصل بَينهمَا وَلَعَلَّه أَخذه من إناخة الْبَعِير بَينهمَا وَمذهب الشَّافِعِيَّة أَنه جَائِز فِي جمع التَّأْخِير مُمْتَنع فِي جمع التَّقْدِيم وَمذهب الْحَنَفِيَّة الْمَنْع من التَّطَوُّع بَينهمَا لِأَنَّهُ يخل بِالْجمعِ وَلَو تطوع أَو تشاغل بِشَيْء أعَاد الْإِقَامَة لوُقُوع الْفَصْل نَص عَلَيْهِ فِي الْهِدَايَة. التَّاسِع فِيهِ الدّفع من عَرَفَة إِلَى مُزْدَلِفَة رَاكِبًا. الْعَاشِر قَالَ الدَّاودِيّ فِيهِ الِاسْتِنْجَاء من الْبَوْل لغير صَلَاة تنظفا وقطعا لمادته قلت كَأَنَّهُ حمل الْوضُوء الأول فِيهِ على الِاسْتِنْجَاء وَقد رددنا عَلَيْهِ ذَلِك. الْحَادِي عشر فِيهِ اشْتِرَاك وَقت الْمغرب وَالْعشَاء فِي الْجمع خَاصَّة وَكَذَا وَقت الظّهْر وَالْعصر فِي عَرَفَة خَاصَّة وَلَيْسَ ذَلِك فِي غَيرهمَا فَإِن قلت مَا السَّبَب فِي جمع التَّأْخِير بِمُزْدَلِفَة قلت السّفر عِنْد الشَّافِعِيَّة وَلِهَذَا لَا يجمع المزدلفي والنسك عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلهَذَا يجمع المزدلفي وَالله أعلم. الثَّانِي عشر اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِيَّة على أَن الْفَوَائِت لَا يُؤذن لَهَا لَكِن يُقَام قلت هَذَا الِاسْتِدْلَال غير تَامّ لِأَن تَأْخِير الْمغرب إِلَى الْعشَاء لَيْسَ بِقَضَاء وَإِنَّمَا هُوَ أَدَاء لِأَن وقته قد تحول إِلَى وَقت الْعشَاء لأجل الْعذر المرخص فَكيف يَصح الْقيَاس عَلَيْهِ فِيمَا ذكره وَالله أعلم. الثَّالِث عشر قَالَ ابْن بطال فِيهِ أَن يسير الْعَمَل إِذا تخَلّل بَين الصَّلَاتَيْنِ غير قَاطع نظام الْجمع بَينهمَا لقَوْله ثمَّ أَنَاخَ وَلكنه لَا يتَكَلَّم قلت لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على عدم جَوَاز التَّكَلُّم بَينهمَا وَلَا مَا يدل على عدم قطع الْيَسِير وعَلى قطع الْكثير بل يدل على عدم الْقطع مُطلقًا يَسِيرا أَو كثيرا.
(بَاب غسل الْوَجْه باليدين من غرفَة وَاحِدَة)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الْوَجْه إِلَى آخِره والغرفة بِالْفَتْح بِمَعْنى الْمصدر وبالضم بِمَعْنى المغروف وَهِي ملْء الْكَفّ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو (إِلَّا من اغترف غرفَة) بِفَتْحِهَا وَفِي الْعباب غرفت المَاء بيَدي غرفا فالغرفة الْمرة الْوَاحِدَة والغرفة بِالضَّمِّ اسْم للْمَفْعُول مِنْهُ لِأَنَّك مَا لم تغرفه لَا تسميه غرفَة وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو جَعْفَر وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو إِلَّا من اغترف غرفَة بِالْفَتْح وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ وَجمع المضمومة غراف كنطفة ونطاف والغرفة بِالضَّمِّ أَيْضا الْعلية وَالْجمع غرفات وغرف والغرفة أَيْضا الْخصْلَة من الشّعْر وَالْحَبل الْمَعْقُود بالشوطة أَيْضا انْتهى ويحكي أَن أَبَا عَمْرو وتطلب شَاهدا على قِرَاءَته من أشعار(2/261)
الْعَرَب فَلَمَّا طلبه الْحجَّاج هرب مِنْهُ إِلَى الْيمن فَخرج ذَات يَوْم فَإِذا هُوَ بِرَاكِب ينشد قَول أُميَّة بن الصَّلْت
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحل العقال)
قَالَ فَقلت لَهُ مَا الْخَبَر قَالَ مَاتَ الْحجَّاج قَالَ أَبُو عَمْرو فَلَا أَدْرِي بِأَيّ الْأَمريْنِ كَانَ فرحي أَكثر بِمَوْت الْحجَّاج أَو بقوله فُرْجَة لِأَنَّهُ شَاهد لقرَاءَته أَي كَمَا أَن مَفْتُوح الفرجة هُنَا بِمَعْنى المنفرج كَذَا مَفْتُوح الغرفة بِمَعْنى المغروف فقراءة الضَّم وَالْفَتْح يتطابقان فَإِن قلت مَا المُرَاد من هَذِه التَّرْجَمَة قلت التَّنْبِيه على عدم اشْتِرَاط الاغتراف باليدين جَمِيعًا فَإِن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما تَوَضَّأ كوضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ غرفَة من المَاء بِيَدِهِ الْوَاحِدَة ثمَّ ضم إِلَيْهَا يَده الْأُخْرَى ثمَّ غسل بِتِلْكَ الغرفة وَجهه على مَا يَأْتِي الْآن إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ قلت الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ الْمَذْكُورين وَبَين أَكثر أَبْوَاب كتاب الْوضُوء غير ظَاهِرَة وَلذَلِك قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت مَا وَجه التَّرْتِيب لهَذِهِ الْأَبْوَاب وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة هَهُنَا ثمَّ قَالَ فِي بَاب التَّسْمِيَة إِذْ التَّسْمِيَة إِنَّمَا هِيَ قبل غسل الْوَجْه لَا بعده ثمَّ إِن توَسط أَمر الْخَلَاء بَين أَبْوَاب الْوضُوء لَا يُنَاسب مَا عَلَيْهِ الْوُجُوه ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بقوله قلت البُخَارِيّ لَا يُرَاعِي حسن التَّرْتِيب وَجُمْلَة قَصده إِنَّمَا هُوَ فِي نقل الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِتَصْحِيحِهِ لَا غير وَنعم الْمَقْصد انْتهى قلت لَا نسلم أَن جملَة قَصده نقل الحَدِيث وَمَا يتَعَلَّق بِتَصْحِيحِهِ فَقَط بل مُعظم قَصده ذَلِك مَعَ سرده فِي أَبْوَاب مَخْصُوصَة وَلِهَذَا بوب الْأَبْوَاب على تراجم مُعينَة حَتَّى وَقع مِنْهُ تكْرَار كثير لأجل ذَلِك فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يَنْبَغِي أَن تتطلب وُجُوه المناسبات بَين الْأَبْوَاب وَإِن كَانَت غير ظَاهِرَة بِحَسب الظَّاهِر فَنَقُول وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ الْمَذْكُورين من حَيْثُ أَن من جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول بعض وصف وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي هَذَا الْبَاب الْمَذْكُور أَيْضا وصف وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما تَوَضَّأ على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْبَاب قَالَ هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ فَهَذَا الْمِقْدَار من الْوَجْه كَاف على أَن الْمُنَاسبَة الْعَامَّة مَوْجُودَة بَين الْأَبْوَاب كلهَا لكَونهَا من وَاد وَاحِد ثمَّ تَوْجِيه المناسبات الْخَاصَّة إِنَّمَا يكون بِقدر الْإِدْرَاك.
6 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم قَالَ أخبرنَا أَبُو سَلمَة الْخُزَاعِيّ مَنْصُور بن سَلمَة قَالَ أخبرنَا ابْن بِلَال يَعْنِي سُلَيْمَان عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس أَنه تَوَضَّأ فَغسل وَجهه أَخذ غرفَة من مَاء فَمَضْمض بهَا واستنشق ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَجعل بهَا هَكَذَا أضافها إِلَى يَده الْأُخْرَى فَغسل بهَا وَجهه ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَغسل بهَا يَده الْيُمْنَى ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فَغسل بهَا يَده الْيُسْرَى ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ ثمَّ أَخذ غرفَة من مَاء فرش على رجله الْيُمْنَى حَتَّى غسلهَا ثمَّ أَخذ غرفَة أُخْرَى فَغسل بهَا رجله يَعْنِي الْيُسْرَى ثمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ) . مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله ثمَّ أَخذ غرفَة فَجعل بهَا هَكَذَا أضافها إِلَى يَده الْأُخْرَى فَغسل بهَا وَجهه. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن أبي زُهَيْر أَبُو يحيى الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بصاعقة لقب بذلك لسرعة حفظه وَشدَّة ضَبطه روى عَن يزِيد بن هَارُون وروح وطبقتهما وَعنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وابو حَامِد والمحاملي وَآخَرُونَ وَكَانَ بزازا مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ الثَّانِي أَبُو سَلمَة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة مَنْصُور بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ روى عَن مَالك وَغَيره وَعنهُ الصغاني وَغَيره خرج إِلَى الثغر فَمَاتَ بِالْمصِّيصَةِ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقيل سِتَّة عشر وَقيل سنة سبع أَو تسع وَمِائَتَيْنِ الثَّالِث سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي وَقد مر فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان الرَّابِع زيد بن أسلم وَقد مر الْخَامِس عَطاء بن يسَار وَقد مر السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ يزِيد عَن عَطاء وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي ومدني. وَمِنْهَا ان فِيهِ تَفْسِير الْبَعْض الروَاة الْمُجْمل وَهُوَ قَوْله يَعْنِي سُلَيْمَان وَهُوَ يحْتَمل أَن(2/262)
يكون كَلَام البُخَارِيّ وَيحْتَمل أَن يكون كَلَام شَيْخه مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا شَاهده ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي مَعْدُودَة قَالَ الدَّاودِيّ الَّذِي صَحَّ مِمَّا سمع من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اثْنَا عشر حَدِيثا وَحكى غَيره عَن غنْدر عشرَة أَحَادِيث وَعَن يحيى الْقطَّان وَأبي دَاوُد تِسْعَة وَوَقع فِي الْمُسْتَصْفى للغزالي أَن ابْن عَبَّاس مَعَ كَثْرَة رِوَايَته قيل أَنه لم يسمع من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث لصِغَر سنه وَصرح بذلك فِي حَدِيث إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة وَقَالَ حَدثنِي بِهِ أُسَامَة بن زيد وَلما روى حَدِيث قطع التَّلْبِيَة حِين رمى جَمْرَة الْعقبَة قَالَ حَدثنِي بِهِ أخي الْفضل. (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن بشر عَن هِشَام بن سعد عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار قَالَ قَالَ لنا ابْن عَبَّاس أتحبون أَن أريكم كَيفَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ فدعى بِإِنَاء فِيهِ مَاء فاغترف غرفَة وَذكر الحَدِيث نَحوه بِطُولِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْهَيْثَم بن أَيُّوب الطلقاني وقتيبة بن سعيد كِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن الدَّرَاورْدِي وَعَن مُجَاهِد بن مُوسَى عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن أبي عجلَان كِلَاهُمَا عَن زيد بن أسلم نَحوه وَحَدِيث ابْن عجلَان أتم وَعَن هناد بن السّري عَن ابْن إِدْرِيس بِبَعْضِه فَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما وَأخرجه ابْن ماجة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن ابْن إِدْرِيس بِمثل حَدِيث هناد وَعَن عبد الله بن الْجراح وَأبي بكر بن خَلاد كِلَاهُمَا عَن الدَّرَاورْدِي بِبَعْضِه مضمض واستنشق من غرفَة وَاحِدَة وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم وَلم يخرج مُسلم عَن ابْن عَبَّاس فِي صفة الْوضُوء شَيْئا. (بَيَان اللُّغَات) قَوْله فَتَمَضْمَض من الْمَضْمَضَة وَهِي تَحْرِيك المَاء فِي الْفَم وَقَالَ ابْن سَيّده مضمض وتمضمض وكماله أَن يَجْعَل المَاء فِي فِيهِ ثمَّ يديره ويمجه وَأقله أَن يَجْعَل المَاء فِي فِيهِ وَلَا يشْتَرط إدارته على مَشْهُور مَذْهَب الشَّافِعِي وَقَالَ جمَاعَة من أَصْحَابه يشْتَرط وأصل الْمَضْمَضَة التحريك وَمِنْه مضمض النعاس فِي عَيْنَيْهِ إِذا تحرّك وَاسْتعْمل فِي الْمَضْمَضَة لتحريك المَاء فِي الْفَم قَوْله واستنشق من الِاسْتِنْشَاق وَهُوَ إِدْخَال المَاء فِي الْأنف وَقَالَ ابْن طريف نثر المَاء من أَنفه دفْعَة وَقَالَ ابْن سَيّده استنشق المَاء فِي أَنفه صبه فِي أَنفه وَقَالَ فِي الغريين يستنشق أَي يبلغ المَاء خياشيمه وَذكر ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد وَقَالَ ابْن سَيّده يُقَال استنثر إِذا استنشق المَاء فِي أَنفه وصبه مِنْهُ وَفِي جَامع الْقَزاز نثرت الشَّيْء أنثره وأنثره نثرا إِذا بددته فَأَنت ناثر وَالشَّيْء منثور والمتوضىء يستنشق إِذا جذب المَاء برِيح أَنفه ثمَّ يستنثره وَفِي الْعباب استنشقت المَاء وَغَيره إِذا أدخلته فِي الْأنف واستنشقت الرّيح إِذا شممتها والتركيب يدل على نشوب شَيْء فِي شَيْء والمنشق الْأنف ونشقت مِنْهُ ريحًا طيبَة بِالْكَسْرِ أَي شممت وَهَذِه ريح مَكْرُوهَة النشق أَي الشم وَقَالَ رؤبة الراجز يصف حمارا وحشيا
(كَأَنَّهُ مستنشق من الشرق ... حرا من الْخَرْدَل مَكْرُوه النشق)
(بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله فَغسل وَجهه عطف على قَوْله تَوَضَّأ وَهُوَ من قبيل عطف مفصل على مُجمل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} وَقَوله {فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة} وَقد علم أَن الْفَاء العاطفة تفِيد ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا التَّرْتِيب وَهُوَ نَوْعَانِ معنوي كَمَا فِي قَامَ زيد فعمر وذكرى وَهُوَ عطف مفصل على مُجمل الثَّانِي التعقيب وَهُوَ فِي كل شَيْء بِحَسبِهِ الثَّالِث السَّبَبِيَّة قَوْله أَخذ غرفَة بِدُونِ حرف الْعَطف وَإِنَّمَا ترك لِأَنَّهُ بَيَان لقَوْله غسل على وَجه الِاسْتِئْنَاف فَإِن قلت كَيفَ يكون بَيَانا والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق ليستا من غسل الْوَجْه قلت أعطي لَهما حكم الْوَجْه قَوْله ثمَّ أَخذ غرفَة إِنَّمَا عطف بثم لوُجُود المهلة بَين الغرفتين وَقد علم أَن ثمَّ حرف عطف يَقْتَضِي ثَلَاثَة أُمُور التَّشْرِيك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب والمهلة قَوْله أضافها بِدُونِ حرف الْعَطف لِأَنَّهُ بَيَان لقَوْله جعل بهَا هَكَذَا قَوْله ثمَّ أَخذ غرفَة عطف على ثمَّ أَخذ غرفَة الْمَذْكُور أَولا قَوْله من مَاء كلمة من للْبَيَان مَعَ إِفَادَة التَّبْعِيض قَوْله حَتَّى غسلهَا أَي إِلَى أَن غسلهَا وَكلمَة حَتَّى للغاية قَوْله يتَوَضَّأ جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله عَن ابْن عَبَّاس أَنه تَوَضَّأ زَاد أَبُو دَاوُد فِي أَوله أتحبون أَن أريكم كَيفَ كَانَ رَسُول الله عَلَيْهِ(2/263)
الصَّلَاة وَالسَّلَام يتَوَضَّأ فدعى بِإِنَاء فِيهِ مَاء كَمَا قد ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله أضافها مَعْنَاهُ جعل المَاء الَّذِي فِي يَده فِي يَدَيْهِ جَمِيعًا فَإِنَّهُ أمكن فِي الْغسْل قَوْله فَغسل بهَا أَي بالغرفة وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة فَغسل بهما أَي باليدين قَوْله ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ قَالَ الْكرْمَانِي وَهَهُنَا تَقْدِير إِذْ لَا يجوز الْمسْح بِمَاء غسل بِهِ يَده وَذَلِكَ نَحْو أَن يقدر ثمَّ بل يَده فَمسح بِرَأْسِهِ قلت فِي رِوَايَة أبي دَاوُد ثمَّ قبض قَبْضَة من المَاء ثمَّ نفض يَده ثمَّ مسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ وَلَو وقف الْكرْمَانِي على هَذِه الرِّوَايَة لقَالَ الحَدِيث يُفَسر بعضه بَعْضًا وَالتَّقْدِير هَهُنَا هَكَذَا وَذكر رِوَايَة أبي دَاوُد وَزَاد النَّسَائِيّ من طَرِيق الدَّرَاورْدِي عَن زيد وَأُذُنَيْهِ مرّة وَاحِدَة وَمن طَرِيق ابْن عجلَان باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهاميه وَزَاد ابْن خُزَيْمَة من هَذَا الْوَجْه وَأدْخل أصبعيه فيهمَا قَوْله فرش على رجله الْيُمْنَى أَي صبه قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى صَار غسلا وَقَوله حَتَّى غسلهَا صَرِيح فِي أَنه لم يكتف بالرش وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت الْمَشْهُور أَن الرش وَالْغسْل يتمايزان بسيلان المَاء وَعَدَمه فَكيف قَالَ أَولا رش ثمَّ قَالَ ثَانِيًا حَتَّى غسلهَا وَأَيْضًا لَا يُمكن غسل الرجل بغرفة وَاحِدَة قلت الْفرق مَمْنُوع وَكَذَا عدم إِمْكَان غسلهَا بغرفة وَلَعَلَّ الْغَرَض من ذكره على هَذَا الْوَجْه بَيَان تقليل المَاء فِي الْعُضْو الَّذِي هُوَ مَظَنَّة للإسراف فِيهِ انْتهى قلت قَوْله الْفرق مَمْنُوع مَمْنُوع من حَيْثُ اللُّغَة وَلَكِن الْجَواب هُوَ أَن يُقَال أَن الرش قد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي حَدِيث أَسمَاء رَضِي الله عَنْهَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ حتيه ثمَّ اقرضيه ثمَّ رشيه وَصلي فِيهِ زَاد اغسليه قَالَه الْبَغَوِيّ وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ قَوْله حَتَّى غسلهَا فَإِنَّهُ قرينَة على أَن المُرَاد من الرش هُوَ الْغسْل وَفَائِدَته التَّنْبِيه على الِاحْتِرَاز عَن الْإِسْرَاف لِأَن الرجل مَظَنَّة الْإِسْرَاف فِي الْغسْل فَإِن قلت وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالْحَاكِم فرش على رجله الْيُمْنَى وفيهَا النَّعْل ثمَّ مسحها بيدَيْهِ يَد فَوق الْقدَم وَيَد تَحت النَّعْل قلت المُرَاد من الْمسْح هَهُنَا الْغسْل وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وابو زيد الْأنْصَارِيّ الْمسْح فِي كَلَام الْعَرَب يكون غسلا وَيكون مسحا وَمِنْه يُقَال للرجل إِذا تَوَضَّأ فَغسل أعضاءه قد تمسح وَأما قَوْله تَحت النَّعْل فَمَحْمُول على التَّجَوُّز عَن الْقدَم على أَنا نقُول هَذِه رِوَايَة شَاذَّة رَوَاهَا هِشَام بن سعد وَهُوَ مِمَّن لَا يحْتَج بهم عِنْد الِانْفِرَاد فَكيف إِذا خَالفه غَيره قَوْله فَغسل بهَا رجله يَعْنِي الْيُسْرَى هُوَ بغين مُعْجمَة وسين مُهْملَة من الْغسْل كَذَا وَقع فِي الْأُصُول وَقَالَ ابْن التِّين روينَاهُ بِالْعينِ الْمُهْملَة وَلَعَلَّه على الرجلَيْن بِمَنْزِلَة الْعُضْو الْوَاحِد فَكَأَنَّهُ كرر غسله لِأَن الْعلَّة هُوَ الشّرْب الثَّانِي ثمَّ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْحسن أرَاهُ فَغسل فَسَقَطت السِّين انْتهى هَذَا كُله غَرِيب وتكلف وَالصَّوَاب مَا وَقع فِي الْأُصُول فَغسل بهَا وَقَوله يَعْنِي رجله الْيُسْرَى قَائِل لَفْظَة يَعْنِي زيد بن أسلم أَو من هُوَ دونه من الروَاة وَقَالَ الْكرْمَانِي وَلَفظ يَعْنِي لَيْسَ من كَلَام عَطاء بل من راو آخر بعده قلت لم لَا يجوز أَن يكون من كَلَام عَطاء وَلم أدر وَجه النَّفْي عَنهُ مَا هُوَ ثمَّ إِن هَذِه اللَّفْظَة قد وَقعت فِي بعض النّسخ بعد لَفْظَة رجله قبل لفظ الْيُسْرَى وَفِي بَعْضهَا قبل رجله. (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول أَن الْوضُوء مرّة مرّة هُوَ مجمع عَلَيْهِ الثَّانِي فِيهِ الْجمع بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق بغرفة وَهُوَ حجَّة للشَّافِعِيَّة فِي أحد الْوُجُوه فيهمَا وَقَالُوا فِي كيفيتها خَمْسَة أوجه الأول أَن يجمع بَينهمَا بغرفة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا. وَالثَّانِي أَن يجمع أَيْضا بغرفة لَكِن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق وَلَفظ الرَّاوِي هَهُنَا يحْتَمل هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. وَالثَّالِث أَنه يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات يتمضمض من كل وَاحِدَة ثمَّ يستنشق مِنْهَا. وَالرَّابِع أَن يفصل بَينهمَا بغرفتين فيتمضمض من إِحْدَاهمَا بِثَلَاث ثمَّ يستنشق من الْأُخْرَى ثَلَاثًا. وَالْخَامِس أَن يفصل بست غرفات يتمضمض بِثَلَاث ثمَّ يستنشق بِثَلَاث. قَالَ الْكرْمَانِي وَالأَصَح أَن الْأَفْضَل هُوَ الرَّابِع وَقَالَ النَّوَوِيّ هُوَ الثَّالِث وَاتَّفَقُوا على أَن الْمَضْمَضَة على كل قَول مُقَدّمَة على الِاسْتِنْشَاق وَهل هُوَ تَقْدِيم اسْتِحْبَاب أَو اشْتِرَاط فِيهِ وَجْهَان أظهرهمَا اشْتِرَاط لاخْتِلَاف العضوين وَالثَّانِي اسْتِحْبَاب كتقديم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَفِي الرَّوْضَة فِي كيفيته وَجْهَان أصَحهمَا يتمضمض من غرفَة ثَلَاثًا ويستنشق من أُخْرَى ثَلَاثًا وَالثَّانِي بست غرفات وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية حكى ابْن سَابق فِي ذَلِك قَوْلَيْنِ أَحدهمَا يغْرف غرفَة وَاحِدَة لفيه وَأَنْفه وَالثَّانِي يتمضمض ثَلَاثًا فِي غرفَة ويستنشق ثَلَاثًا فِي غرفَة فَقَالَ وَهَذَا اخْتِيَار مَالك وَالْأول اخْتِيَار الشَّافِعِي وَفِي الْمُغنِي للحنابلة وَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يتمضمض(2/264)
ويستنشق ثَلَاثًا من غرفَة أَو بِثَلَاث غرفات فَإِن عبد الله بن زيد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مضمض واستنشق ثَلَاثًا ثَلَاثًا من غرفَة وَاحِدَة وروى الْأَثْرَم وَابْن ماجة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا من كف وَاحِد وَإِن أفرد لكل عُضْو ثَلَاث غرفات جَازَ لِأَن الْكَيْفِيَّة فِي الْغسْل غير وَاجِبَة وَفِي التَّلْوِيح شرح البُخَارِيّ وَالْأَفْضَل أَن يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات كَمَا فِي الصِّحَاح وَغَيرهَا وَوجه ثَان يجمع بَينهمَا بغرفة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَرَوَاهُ أَيْضا وَائِل بن حجر بِسَنَد ضَعِيف عِنْد الْبَزَّار وثالث يجمع بَينهمَا بغرفة وَهُوَ أَن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ الثَّانِيَة كَذَلِك ثمَّ الثَّالِثَة رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم عِنْد التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن غَرِيب ورابع يفصل بَينهمَا بغرفتين يتمضمض من إِحْدَاهمَا ثَلَاثًا ثمَّ يستنشق من الْأُخْرَى ثَلَاثًا وخامس يفصل بست غرفات يتمضمض بِثَلَاث ويستنشق بِثَلَاث انْتهى قلت احْتج أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا هناد وقتيبة قَالَا حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي حَيَّة قَالَ رَأَيْت عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تَوَضَّأ فَغسل كفيه حَتَّى أنقاهما ثمَّ تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة ثمَّ غسل قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ قَامَ فَأخذ فضل طهوره فشربه وَهُوَ قَائِم ثمَّ قَالَ أَحْبَبْت أَن أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح فَإِن قلت لم يحك فِيهِ أَن كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِد بل حُكيَ أَنه تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا قلت مَدْلُوله ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ أَن يتمضمض ثَلَاثًا يَأْخُذ لكل مرّة مَاء جَدِيدا ثمَّ يستنشق كَذَلِك وَهُوَ رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُ روى عَنهُ أَن يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق وَفِي رِوَايَة غَيره عَنهُ فِي الْأُم يغْرف غرفَة يتمضمض بهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف غرفَة يتمضمض بهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف ثَالِثَة يتمضمض بهَا ويستنشق فَيجمع فِي كل غرفَة بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَاخْتلف نَصه فِي الكيفيتين فنص فِي الْأُم وَهُوَ نَص مُخْتَصر الْمُزنِيّ أَن الْجمع أفضل وَنَصّ الْبُوَيْطِيّ أَن الْفَصْل أفضل وَنَقله التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ النَّوَوِيّ قَالَ صَاحب الْمُهَذّب القَوْل بِالْجمعِ أَكثر فِي كَلَام الشَّافِعِي وَهُوَ أَيْضا أَكثر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالْجَوَاب عَن كل مَا روى من ذَلِك أَنه مَحْمُول على الْجَوَاز وَقَالَ المرغيناني لَو أَخذ المَاء بكفه وتمضمض بِبَعْضِه واستنشق بِالْبَاقِي جَازَ وعَلى عَكسه لَا يجوز لصيرورة المَاء مُسْتَعْملا وَالْجَوَاب عَمَّا ورد فِي الحَدِيث فَتَمَضْمَض واستنشق من كف وَاحِد أَنه مُحْتَمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه تمضمض واستنشق بكف وَاحِد بِمَاء وَاحِد وَيحْتَمل أَنه فعل ذَلِك بكف وَاحِد بمياه لَا يقوم بِهِ حجَّة أَو يرد هَذَا الْمُحْتَمل إِلَى الْمُحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ تَوْفِيقًا بَين الدَّلِيلَيْنِ وَقد يُقَال أَن المُرَاد اسْتِعْمَال الْكَفّ الْوَاحِد بِدُونِ الِاسْتِعَانَة بالكفين كَمَا فِي الْوَجْه وَقد يُقَال أَنه فعلهمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى ردا على قَول من يَقُول يسْتَعْمل فِي الِاسْتِنْشَاق الْيَد الْيُسْرَى لِأَن الْأنف مَوضِع الْأَذَى كموضع الِاسْتِنْجَاء كَذَا فِي الْمَبْسُوط وَفِيه نظر لَا يخفى. وَأما وَجه الْفَصْل بَينهمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا فَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن جده كَعْب بن عَمْرو اليمامي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا فَأخذ لكل وَاحِدَة مَاء جَدِيدا وَكَذَا روى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه وَسكت عَنهُ وَهُوَ دَلِيل رِضَاهُ بِالصِّحَّةِ. ثمَّ اعْلَم أَن السّنة أَن تكون الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق باليمنى وَقَالَ بَعضهم الْمَضْمَضَة بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِنْشَاق باليسار لِأَن الْفَم مطهرة وَالْأنف مقذرة واليمنى للاطهار واليسار للاقذار وَلنَا مَا روى عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه استنثر بِيَمِينِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة جهلت السّنة فَقَالَ كَيفَ أَجْهَل السّنة وَالسّنة من بُيُوتنَا خرجت أما علمت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْيَمين للْوَجْه واليسار للمقعد كَذَا ذكره صَاحب الْبَدَائِع وَالتَّرْتِيب بَينهمَا سنة ذكره فِي الْخُلَاصَة لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي صفة وضوئِهِ إِلَّا هَكَذَا. الحكم الثَّالِث قَالَ ابْن بطال فِيهِ أَن المَاء الْمُسْتَعْمل طَاهِر مطهر وَهُوَ قَول مَالك وَالْحجّة لَهُ أَن الْأَعْضَاء كلهَا إِذا غسلت مرّة فَإِن المَاء إِذا لَاقَى أول جُزْء من أَجزَاء الْعُضْو فقد صَار مُسْتَعْملا مَعَ أَنه يُجزئهُ فِي سَائِر أَجزَاء ذَلِك الْعُضْو فَلَو كَانَ الْوضُوء بِالْمُسْتَعْملِ لَا يجوز لم يجز الْوضُوء مرّة مرّة وَلما أَجمعُوا أَنه جَازَ اسْتِعْمَاله فِي الْعُضْو الْوَاحِد كَانَ فِي سَائِر الْأَعْضَاء كَذَلِك قلت هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن المَاء مَا دَامَ بالعضو فَهُوَ فِي(2/265)
نفس الِاسْتِعْمَال بعد فَلَا يصدق عَلَيْهِ أَنه صَار مُسْتَعْملا وَلَا يصدق اسْم الِاسْتِعْمَال عَلَيْهِ إِلَّا بعد انْفِصَاله عَن الْعُضْو فَافْهَم الرَّابِع فِيهِ غسل الْوَجْه باليدين جَمِيعًا إِذا كَانَ بغرفة وَاحِدَة لِأَن الْيَد الْوَاحِدَة قد لَا تستوعبه. الْخَامِس فِيهِ الْبدَاءَة باليمنى وَهُوَ سنة بِالْإِجْمَاع وَمن نقل خِلَافه فقد غلط ثمَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَد وَالرجل أما الخدان والكفان فيطهران دفْعَة وَاحِدَة وَكَذَا الأذنان على الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة. السَّادِس فِيهِ أَخذ المَاء للْوَجْه بِالْيَدِ الْوَاحِدَة وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم فِي حَدِيث عبد الله بن زيد ثمَّ أَدخل يَده فَغسل وَجهه ثَلَاثًا وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ بالتثنية وهما وَجْهَان للشَّافِعِيَّة وجمهورهم على الثَّانِي وَقَالَ زاهد السَّرخسِيّ أَنه يغْرف بكفه الْيُمْنَى وَيَضَع ظهرهَا على بطن كَفه الْيُسْرَى ويصبه من أَعلَى جَبهته وَحَدِيث الْبَاب قد يدل لَهُ. السَّابِع فِيهِ أَن مسح الرَّأْس بِغَيْر أَخذ مَاء جَدِيد وَاحْتج بِهِ بَعضهم على أَنه يمسح رَأسه بِفضل الذِّرَاع كَمَا ورد فِي سنَن أبي دَاوُد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح رَأسه بِفضل مَا كَانَ فِي يَده وَهَذَا قَول الْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن وَعُرْوَة وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك لَا يجْزِيه أَن يمسح بِفضل ذِرَاعَيْهِ وَلَا لحيته وَأَجَازَهُ ابْن الْمَاجشون فِي تَخْلِيل اللِّحْيَة إِذا نفذ مِنْهُ المَاء وَقد قُلْنَا أَن فِي الْكَلَام حذفا دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثمَّ قبض قَبْضَة من المَاء ثمَّ نفض يَده ثمَّ مسح رَأسه فَافْهَم
(بَاب التَّسْمِيَة على كل حَال وَعند الوقاع)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر اسْم الله تَعَالَى على كل حَال يَعْنِي سَوَاء كَانَ طَاهِرا أَو مُحدثا أَو جنبا وَالتَّسْمِيَة هِيَ قَول بِسم الله قَوْله وَعند الوقاع أَي الْجِمَاع فَإِن قلت قَوْله على كل حَال يَشْمَل حَال الوقاع وَغَيره فَمَا فَائِدَة تَخْصِيصه بِالذكر قلت للاهتمام بِهِ لِأَن حَالَة الوقاع تخَالف سَائِر أَحْوَال الْأَشْيَاء وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب وَقَالَ بَعضهم وَلَيْسَ الْعُمُوم ظَاهرا من المُرَاد الَّذِي أوردهُ لَكِن يُسْتَفَاد من بَاب الأولى أَنه إِذا شرع فِي حَالَة الْجِمَاع وَهِي مِمَّا أَمر فِيهِ بِالصَّمْتِ فَغَيره أولى قلت لَيْت شعري مَا معنى هَذَا الْكَلَام فَمن تَأمل كَلَامه وجده فِي غَايَة الوهاء فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ قلت قد ذكرت لَك مَا قَالَه الْكرْمَانِي من أَن البُخَارِيّ لَا يُرَاعِي حسن التَّرْتِيب وَجُمْلَة قَصده إِنَّمَا هُوَ فِي نقل الحَدِيث وتصحيحه لَا غير وَقد ذكرت لَك مَا يرد هَذَا الْكَلَام فالمتأمل فِيهِ إِذا أمعن فِي نظره عرف وُجُوه المناسبات بَين الْأَبْوَاب وَإِن كَانَ الْوَجْه فِي بعض الْمَوَاضِع يُوجد بِبَعْض التَّكَلُّف فَنَقُول لما ذكر كتاب الْوضُوء عقيب كتاب الْعلم للمناسبة الَّتِي ذَكرنَاهَا هُنَاكَ ذكر عَقِيبه سِتَّة أَبْوَاب لَيْسَ فِيهَا شَيْء من أَوْصَاف الْوضُوء وَإِنَّمَا هِيَ كالمقدمات لَهَا ثمَّ ذكر الْبَاب السَّابِع الَّذِي فِيهِ صفة الْوضُوء وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكرهُ بعد ذكر أَبْوَاب الِاسْتِنْجَاء فِي أثْنَاء الْأَبْوَاب الَّتِي يذكر فِيهَا صِفَات الْوضُوء وَلكنه ذكره عقيب الْبَاب السَّادِس بطرِيق الاستطراد والاستتباع للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ ثمَّ شرع يذكر أَبْوَاب الِاسْتِنْجَاء وَبعدهَا أَبْوَاب صِفَات الْوضُوء على مَا يَقْتَضِيهِ التَّرْتِيب وَقدم بَاب التَّسْمِيَة على الْجَمِيع لِأَن المتوضىء أَولا يستنجىء فبالضرورة قدم أَبْوَاب الِاسْتِنْجَاء على أَبْوَاب الْوضُوء ثمَّ لَا بُد أَن يقدم التَّسْمِيَة قبل كل شَيْء لأَنا أمرنَا أَن نسمي الله تَعَالَى فِي ابْتِدَاء كل أَمر ذِي بَال ليَقَع المبدؤ بِهِ مبروكا ببركة اسْم الله تَعَالَى فبالضرورة قدم بَاب التَّسْمِيَة
7 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن سَالم ابْن أبي الْجَعْد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَو أَن أحدكُم إِذا أَتَى أَهله قَالَ بِسم الله اللَّهُمَّ جنبنا الشَّيْطَان وجنب الشَّيْطَان مَا رزقتنا فقضي بَينهمَا ولد لم يضرّهُ) مُطَابقَة الحَدِيث لأحد شقي التَّرْجَمَة الَّذِي هُوَ الْخَاص وَهُوَ قَوْله عِنْد الوقاع وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق الشق الآخر الَّذِي هُوَ الْعَام وَهُوَ قَوْله على كل حَال وَلَكِن لما كَانَ حَال الوقاع أبعد حَال من ذكر الله تَعَالَى وَمَعَ ذَلِك تسن التَّسْمِيَة فِيهِ فَفِي سَائِر الْأَحْوَال بِالطَّرِيقِ الأولى فَلذَلِك أوردهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب للتّنْبِيه على مَشْرُوعِيَّة التَّسْمِيَة عِنْد الْوضُوء فَإِن قلت كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر حَدِيث لَا وضوء لمن لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ قلت هَذَا الحَدِيث لَيْسَ على شَرطه وَإِن كثرت طرقه وَقد طعن فِيهِ الْحفاظ واستدركوا على الْحَاكِم تَصْحِيحه بِأَنَّهُ انْقَلب عَلَيْهِ إِسْنَاده واشتبه وَقَالَ الإِمَام أَحْمد لَا أعلم فِي التَّسْمِيَة حَدِيثا ثَابتا قلت هَذَا(2/266)
الحَدِيث رَوَاهُ يَعْقُوب بن سَلمَة عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه أَبُو دَاوُد وَغَيره وَقَالَ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير لَا يعرف لسَلمَة سَماع من أبي هُرَيْرَة وَلَا ليعقوب من أَبِيه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث سعيد بن زيد عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَفِي إِسْنَاده أَبُو ثعال عَن رَبَاح عَن جدته وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي كتاب الْوَهم وَالْإِيهَام فِيهِ ثَلَاث مَجَاهِيل الْأَحْوَال جدة رَبَاح لَا يعرف لَهَا اسْم وَلَا حَال وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا ورباح أَيْضا مَجْهُول الْحَال وَكَذَلِكَ أَبُو ثعال وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي كتاب الْعِلَل هَذَا الحَدِيث لَيْسَ عندنَا بِذَاكَ الصَّحِيح وَأَبُو ثعال مَجْهُول ورباح مَجْهُول وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَفِي إِسْنَاده ربيح بن عبد الرَّحْمَن وهومنكر الحَدِيث قَالَ البُخَارِيّ وَأَصَح مَا فِي التَّسْمِيَة حَدِيث أنس أَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وضع يَده فِي الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء وَقَالَ توضؤوا بِسم الله الحَدِيث وَبِه احْتج الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه الْمعرفَة وَيقرب مِنْهُ حَدِيث كل أَمر ذِي بَال الحَدِيث (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة قد ذكر عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ وَجَرِير بن عبد الحميد وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وكريب مولى ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَبَّاس وَأما سَالم فَهُوَ ابْن أبي الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة رَافع الْأَشْجَعِيّ مَوْلَاهُم الْكُوفِي التَّابِعِيّ روى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأرْسل عَن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ أَحْمد لم يسمع من ثَوْبَان وَلم يلقه وَعنهُ مَنْصُور وَالْأَعْمَش مَاتَ سنة مائَة وَهُوَ من الثِّقَات لكنه يُرْسل وَيُدَلس وَحَدِيثه عَن النُّعْمَان بن بشير وَعَن جَابر فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَعَن عبد الله بن عَمْرو وَابْن عمر فِي البُخَارِيّ وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي ابي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم من رجال الْكتب السِّتَّة إِلَّا ابْن الْمَدِينِيّ فَإِن مُسلما وَابْن مَاجَه لم يخرجَا لَهُ وَمِنْهَا أَنهم مَا بَين مكي ومدني وكوفي وبصري ورازي وَمِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم مَنْصُور وَهُوَ من صغَار التَّابِعين وَسَالم وكريب وَمِنْهَا أَن فِيهِ الْبَلَاغ وَهُوَ قَوْله يبلغ بِهِ أَي يصل ابْن عَبَّاس بِالْحَدِيثِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهَذَا كَلَام كريب وغرضه أَنه لَيْسَ مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس بل هُوَ مُسْند إِلَى الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لكنه يحْتَمل أَن يكون بالواسطة بِأَن يكون سَمعه من صَحَابِيّ سَمعه من الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَن يكون بِدُونِهَا وَلما لم يكن قَاطعا بِأَحَدِهِمَا أَو لم يرد بَيَانه ذكره بِهَذِهِ الْعبارَة (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن قُتَيْبَة وَفِي الدَّعْوَات عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة كِلَاهُمَا عَن جرير وَفِي النِّكَاح عَن سعيد بن حَفْص عَن شَيبَان وَفِي صفة إِبْلِيس عَن مُوسَى بن إِسْمَعِيل عَن همام وَعَن آدم عَن شُعْبَة أربعتهم عَن مَنْصُور عَن سَالم بن أبي الْجَعْد بِهِ وَفِي حَدِيث شُعْبَة وَحدثنَا الْأَعْمَش عَنهُ بِهِ وَلم يرفعهُ وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ وَلم يذكر الْأَعْمَش وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه وَعَن عبد الله بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عِيسَى عَن جرير بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بِمَعْنَاهُ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد بن الْمقري عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله الغيلاني عَن بهز عَن شُعْبَة بِإِسْنَاد حَدِيث آدم وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الصَّمد عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش فرقهما كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ مَرْفُوعا عَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة عَن الْفضل بن مُوسَى عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن كريب وَلم يذكر سالما وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم بن نعيم عَن ابْن أبي عمر عَن فُضَيْل بن عِيَاض عَن مَنْصُور عَن سَالم عَن ابْن عَبَّاس بِهِ مَوْقُوفا وَلم يذكر كريبا وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن عَمْرو بن رَافع عَن جرير بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أَهله المُرَاد زَوجته وَفِي الْعباب الْأَهْل أهل الرجل وَأهل الدَّار وَكَذَلِكَ الْأَهِلّة وَالْجمع الأهلات وأهلات وأهلون وَكَذَلِكَ الأهالي زادوا فِيهِ الْيَاء على غير قِيَاس كَمَا جمعُوا لَيْلًا على ليَالِي وَقد جَاءَ فِي الشّعْر آهال مِثَال فرخ وأفراخ وزند وأزناد قَوْله جنبنا من جنب الشَّيْء يجنب تجنيبا إِذا أبعده مِنْهُ وَمِنْه الْجنب لِأَنَّهُ بعيد عَن ذكر الله تَعَالَى وأجنب تبَاعد وأجنبته الشَّيْء مثل جنبته وَقَرَأَ الجحدري وَعِيسَى بن عمر وَطَاوُس وَأَبُو الهجهاج الْأَعرَابِي {واجنبني وَبني} وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَفِيه ثَلَاث لُغَات جنبته الشَّرّ وجنبه وأجنبه فَأهل الْحجاز يَقُولُونَ جنبني شَره بِالتَّشْدِيدِ وَأهل نجد(2/267)
جنبني شَره واجنبني والشيطان وَزنه فيعال إِذا كَانَ من شطن وفعلان إِذا كَانَ من شاط وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَقد جعل سِيبَوَيْهٍ نون الشَّيْطَان فِي مَوضِع من كِتَابه أَصْلِيَّة وَفِي آخر زَائِدَة وَالدَّلِيل على أصالتها قَوْلهم تشيطن واشتقاقه من شطن إِذا بعد لبعده من الصّلاح وَالْخَيْر أَو من شاط إِذا بَطل إِذا جعلت نونه زَائِدَة وَمن أَسْمَائِهِ الْبَاطِل وَقَالَ الْجَوْهَرِي شطن عَنهُ بعد وأشطنه أبعده قَالَ ابْن السّكيت شطنه يشطنه شطنا إِذا خَالفه عَن نِيَّة وجهة وبئر شطون بعيدَة والشيطان مَعْرُوف وكل عَاتٍ متمرد فِي الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان وَالْعرب تسمى الْحَيَّة شَيْطَانا ونونه أَصْلِيَّة وَيُقَال أَنَّهَا زَائِدَة فَإِن جعلته فيعالا من قَوْلهم تشيطن الرجل صرفته وَإِن جعلته من تشيط لم تصرفه لِأَنَّهُ فعلان وَفِي الْعباب الشَّيْطَان وَاحِد الشَّيَاطِين وَاخْتلفُوا فِي اشتقاقه فَقَالَ قوم إِنَّه من شاط يشيط أَي هلك ووزنه فعلان وَيدل على ذَلِك قِرَاءَة الْحسن الْبَصْرِيّ وَالْأَعْمَش وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي البرهسم وَطَاوُس {وَمَا تنزلت بِهِ الشياطون} وَقَالَ قوم أَنه من شطن أَي بعد وَقَالَ وأصل شاط من شاط الزَّيْت أَو السّمن إِذا نضج حَتَّى يَحْتَرِق لِأَنَّهُ يهْلك حِينَئِذٍ وتشيط احْتَرَقَ وَغَضب فلَان واستشاط أَي احتد كَأَنَّهُ التهب فِي غَضَبه والتركيب يدل على ذهَاب الشَّيْء إِمَّا احتراقا وَإِمَّا غير ذَلِك قَوْله مَا رزقتنا من الرزق وَفِي الْعباب الرزق مَا ينْتَفع بِهِ وَالْجمع الأرزاق وَقَالَ بَعضهم الرزق بِالْفَتْح الْمصدر الْحَقِيقِيّ والرزق بِالْكَسْرِ الِاسْم يُقَال رزقه الله يرزقه وَقد يُسمى الْمَطَر رزقا وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق} {وَفِي السَّمَاء رزقكم} وَهُوَ على الاتساع فِي اللُّغَة انْتهى وَيُقَال الرزق فِي كَلَام الْعَرَب الْحَظ قَالَ تَعَالَى {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} أَي حظكم من هَذَا الْأَمر والحظ هُوَ نصيب الرجل وَمَا هُوَ خَاص لَهُ دون غَيره وَقيل الرزق كل شَيْء يُؤْكَل أَو يسْتَعْمل وَهَذَا بَاطِل لِأَن الله تَعَالَى أمرنَا بِأَن ننفق مِمَّا رزقنا فَقَالَ تَعَالَى {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} فَلَو كَانَ الرزق هُوَ الَّذِي يُؤْكَل لما أمكن إِنْفَاقه وَقيل الرزق هُوَ مَا يملك وَهُوَ أَيْضا بَاطِل لِأَن الْإِنْسَان قد يَقُول اللَّهُمَّ ارزقني ولدا صَالحا وَزَوْجَة صَالِحَة وَهُوَ لَا يملك الْوَلَد وَالزَّوْجَة. وَأما فِي عرف الشَّرْع فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ هُوَ تَمْكِين الْحَيَوَان من الِانْتِفَاع بالشَّيْء والحظر على غَيره أَي مَنعه من الِانْتِفَاع بِهِ وَلما فسرت الْمُعْتَزلَة الرزق بِهَذَا لَا جرم قَالُوا الْحَرَام لَا يكون رزقا وَقَالَ أهل السّنة الْحَرَام رزق لِأَنَّهُ فِي أصل اللُّغَة الْحَظ والنصيب كَمَا ذكرنَا فَمن انْتفع بالحرام فَذَلِك الْحَرَام صَار حظا لَهُ ونصيبا فَوَجَبَ أَن يكون رزقا لَهُ وَأَيْضًا قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَقد يعِيش الرجل طول عمره لَا يَأْكُل إِلَّا من السّرقَة فَوَجَبَ أَن يُقَال طول عمره لم يَأْكُل من رزقه شَيْئا قَوْله فَقضى من الْقَضَاء وَله معَان مُتعَدِّدَة يُقَال قضى أَي حكم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَقضى رَبك أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} وَقضى حَاجته أَي فرغ مِنْهَا وضربه فَقضى عَلَيْهِ أَي قَتله كَأَنَّهُ فرغ مِنْهُ وسم قَاض أَي قَاتل وَقضى نحبه قَضَاء أَي مَاتَ وَقضى دينه أَي أَدَّاهُ وَقضى إِلَيْهِ الْأَمر أَي أنهاه إِلَيْهِ وأبلغه وَقَالَ تَعَالَى {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر} وَقضى إِلَيْهِ أَي مضى إِلَيْهِ وقضاه أَي صنعه وقضاه أَي قدره قَالَ تَعَالَى {فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ} وَمِنْه الْقَضَاء وَالْقدر وَالْمُنَاسِب هَهُنَا إِمَّا حكم أَو قدر فَافْهَم (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله ليبلغ بِفَتْح الْبَاء من الْبَلَاغ جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَقَوله بِهِ صلَة يبلغ وَالنَّبِيّ بِالنّصب مَفْعُوله قَوْله لَو أَن أحدكُم كلمة لَو هَذِه هَهُنَا لمُجَرّد الرَّبْط تفِيد تَرْتِيب الْوُجُود عِنْد الْوُجُود كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا} وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ نعم العَبْد صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ وَكلمَة أَن فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية إِذْ التَّقْدِير لَو ثَبت قَول أحدكُم بِسم الله قَوْله قَالَ بِسم الله خبر أَن وَقَوله إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ظرف لَهُ وَقَوله لم يضرّهُ جَوَاب لَو وَالتَّقْدِير لَو ثَبت قَول أحدكُم بِسم الله عِنْد إتْيَان أَهله لم يضر الشَّيْطَان ذَلِك الْوَلَد قَوْله جنبنا جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَقَوله الشَّيْطَان بِالنّصب مفعول ثَان لجنب وَقَوله وجنب جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل والشيطان مَفْعُوله وَقَوله مَا رزقتنا فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان وَكلمَة مَا مَوْصُولَة والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره الَّذِي رزقتناه وَقَول من قَالَ من الشَّارِحين مَا هَهُنَا بِمَعْنى شَيْء لَيْسَ بِشَيْء قَوْله فَقضى عطف على قَوْله قَالَ الْمَعْنى عقيب قَوْله قدر الله بَينهمَا ولدا وَيحْتَمل أَن تكون للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} قَوْله لم يضرّهُ يجوز بِضَم الرَّاء وَفتحهَا وَيُقَال الضَّم أفْصح قلت فِي مثل هَذِه الْمَادَّة يجوز ثَلَاثَة أوجه(2/268)
الضَّم لأجل ضمه مَا قبلهَا وَالْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات وَفك الْإِدْغَام كَمَا علم فِي مَوْضِعه فَافْهَم (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله إِذا أَتَى أَهله أَي جَامعهَا وَهُوَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع قَوْله اللَّهُمَّ مَعْنَاهُ يَا الله وَقد مر فِيمَا مضى تَحْقِيقه قَوْله فَقضى بَينهمَا أَي بَين الْأَحَد والأهل هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي فَقضى بَينهم وَوَجهه بِالنّظرِ إِلَى معنى الْجمع فِي الْأَهْل وَالْولد يَشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى قَوْله لم يضرّهُ أَي لم يضر الشَّيْطَان الْوَلَد يَعْنِي لَا يكون لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَان ببركة اسْمه عز وَجل بل يكون من جملَة الْعباد المحفوظين الْمَذْكُورين فِي قَوْله تَعَالَى {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} وَيُقَال يحْتَمل أَن يُؤْخَذ قَوْله لم يضرّهُ عَاما فَيدْخل تَحْتَهُ الضَّرَر الديني وَيحْتَمل أَن يُؤْخَذ خَاصّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضَّرَر البدني بِمَعْنى أَن الشَّيْطَان لَا يتخبطه وَلَا يداخله بِمَا يضر عقله وبدنه وَهُوَ الْأَقْرَب وَإِن كَانَ التَّخْصِيص خلاف الأَصْل لأَنا إِذا حملناه على الْعُمُوم اقْتضى أَن يكون الْوَلَد مَعْصُوما عَن الْمعاصِي وَقد لَا يتَّفق ذَلِك وَلَا بُد من وُقُوع مَا أخبر بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أما إِذا حملناه على الضَّرَر فِي الْعقل وَالْبدن فَلَا يمْتَنع وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قيل المُرَاد أَنه لَا يصرعه الشَّيْطَان وَقيل لَا يطعن فِيهِ عِنْد وِلَادَته بِخِلَاف غَيره قَالَ وَلم نحمله على الْعُمُوم فِي جَمِيع الضَّرَر لوُجُود الوسوسة والإغراء يَعْنِي الْحمل على فعل الْمعاصِي وَقَالَ الدَّاودِيّ لم يضرّهُ بِأَن يفتنه بالْكفْر (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ اسْتِحْبَاب التَّسْمِيَة وَالدُّعَاء الْمَذْكُور فِي ابْتِدَاء الوقاع وَاسْتحبَّ الْغَزالِيّ فِي الْأَحْيَاء أَن يقْرَأ بعد بِسم الله قل هُوَ الله أحد وَيكبر ويهلل وَيَقُول بِسم الله الْعلي الْعَظِيم اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذُرِّيَّة طيبَة إِن كنت قدرت ولدا يخرج من صلبي قَالَ وَإِذا قربت الأنزال فَقل فِي نَفسك وَلَا تحرّك بِهِ شفتيك {الْحَمد لله الَّذِي خلق من المَاء بشرا} الْآيَة الثَّانِي فِيهِ الِاعْتِصَام بِذكر الله تَعَالَى ودعائه من الشَّيْطَان والتبرك باسمه والاستشعار بِأَن الله تَعَالَى هُوَ الميسر لذَلِك الْعَمَل والمعين عَلَيْهِ الثَّالِث فِيهِ الْحَث على الْمُحَافظَة على تَسْمِيَته ودعائه فِي كل حَال لم ينْه الشَّرْع عَنهُ حَتَّى فِي حَال ملاذ الْإِنْسَان وَقَالَ ابْن بطال فِيهِ الْحَث على ذكر الله فِي كل وَقت على طَهَارَة وَغَيرهَا ورد قَول من قَالَ لَا يذكر الله تَعَالَى إِلَّا وَهُوَ طَاهِر وَمن كره ذكر الله تَعَالَى على حالتين على الْخَلَاء وعَلى الوقاع قلت روى عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه كَانَ لَا يذكر الله إِلَّا وَهُوَ طَاهِر وروى مثله عَن أبي الْعَالِيَة وَالْحسن وروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كره أَن يذكر الله تَعَالَى على حَالين على الْخَلَاء وَالرجل يواقع أَهله وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد وَقَالَ مُجَاهِد رَحمَه الله يجْتَنب الْملك الْإِنْسَان عِنْد جمَاعه وَعند غائطه وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث خلاف قَوْلهم قلت لَيْسَ كَذَلِك فَإِن المُرَاد بإتيانه أَهله إِرَادَة ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ خلاف قَوْلهم وَكَرَاهَة الذّكر على غير طهر لأجل تَعْظِيمه الرَّابِع قَالَ ابْن بطال لما كَانَ فِي هَذَا الْحَث على التَّسْمِيَة فِي كل حَال اسْتحبَّ مَالك التَّسْمِيَة عِنْد الْوضُوء قلت فِيهِ مَذَاهِب أَحدهَا أَنه سنة وَلَيْسَت بواجبة فَلَو تَركهَا عمدا صَحَّ وضوؤه وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ أظهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَعبارَة ابْن بطال أَن مَالِكًا استحبها وَكَذَا عَامَّة أهل الْفَتْوَى. الثَّانِي أَنَّهَا وَاجِبَة وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد وَقَول أهل الظَّاهِر. الثَّالِث أَنَّهَا وَاجِبَة إِن تَركهَا عمدا بطلت طَهَارَته وَإِن تَركهَا سَهوا أَو مُعْتَقدًا أَنَّهَا غير وَاجِبَة لم تبطل طَهَارَته وَهُوَ قَول إِسْحَق بن رَاهَوَيْه كَمَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ الرَّابِع أَنَّهَا لَيست بمستحبة وَهِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَعَن مَالك رِوَايَة أَنَّهَا بِدعَة وَقَالَ مَا سَمِعت بِهَذَا يُرِيد أَن يذبح وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا مُبَاحَة لَا فضل فِي فعلهَا وَلَا فِي تَركهَا الْخَامِس فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى مُلَازمَة الشَّيْطَان لِابْنِ آدم من حِين خُرُوجه من ظهر أَبِيه إِلَى رحم أمه إِلَى حِين مَوته أعاذنا الله مِنْهُ فَهُوَ يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم وعَلى خيشومه إِذا نَام وعَلى قلبه إِذا اسْتَيْقَظَ فَإِذا غفل وسوس وَإِذا ذكر الله خنس وَيضْرب على قافية رَأسه إِذا نَام ثَلَاث عقد عَلَيْك ليل طَوِيل وتنحل بِالذكر وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة
(بَاب مَا يَقُول عِنْد الْخَلَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَقُول الشَّخْص عِنْد إِرَادَة دُخُول الْخَلَاء وَهُوَ بِفَتْح الْخَاء وبالمد مَوضِع قَضَاء الْحَاجة سمي بذلك لخلائه فِي غير أَوْقَات قَضَاء الْحَاجة وَهُوَ الكنيف والحش والمرفق والمرحاض أَيْضا وَأَصله الْمَكَان الْخَالِي ثمَّ كثر(2/269)
اسْتِعْمَاله حَتَّى تجوز بِهِ عَن ذَلِك وَأما الخلا بِالْقصرِ فَهُوَ الْحَشِيش الرطب والكلأ الخشن أَيْضا وَقد يكون خلا مُسْتَعْملا فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء فَإِن كسرت الْخَاء مَعَ الْمَدّ فَهُوَ عيب فِي الْإِبِل كالحران فِي الْخَيل وَقَالَ الْجَوْهَرِي الْخَلَاء مَمْدُود المتوضىء والخلاء أَيْضا الْمَكَان الَّذِي لَا شَيْء بِهِ قلت كل مِنْهُمَا يَصح أَن يكون مرَادا هَهُنَا. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لِأَن فِي كل مِنْهُمَا بَيَان ذكر اسْم الله تَعَالَى
8 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب قَالَ سَمِعت أنسا يَقُول كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْخَلَاء قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي اعوذ بك من الْخبث والخبائث) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة تقدم ذكرهم وآدَم ابْن أبي إِيَاس وصهيب بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع وَمِنْهَا أَنه من رباعيات البُخَارِيّ وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وواسطي وبصري. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُحَمَّد بن عُرْوَة عَن شُعْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن إِسْمَعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الْعَزِيز بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن الْحسن بن عَمْرو عَن وَكِيع عَن شُعْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة وهناد كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْبعُوث عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَعِيل بن إِبْرَاهِيم عَنهُ بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عَمْرو بن رَافع عَن إِسْمَعِيل عَنهُ بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله أعوذ بك أَي ألوذ وألتجىء من العوذ وَهُوَ عود إِلَيْهِ يلجأ الْحَشِيش فِي مهب الرّيح وَقَالَ ابْن الْأَثِير يُقَال عذت بِهِ عوذا وعياذا وَمعَاذًا أَي لجأت إِلَيْهِ والمعاذ الْمصدر وَالْمَكَان وَالزَّمَان أَي لقد لجأت إِلَى ملْجأ ولذت بملاذ قَوْله من الْخبث قَالَ الْخطابِيّ بِضَم الْخَاء وَالْبَاء جمَاعَة الْخَبيث والخبائث جمع الخبيثة يُرِيد ذكران الشَّيَاطِين وإناثهم. وَعَامة أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ الْخبث مسكنة الْبَاء وَهُوَ غلط وَالصَّوَاب مَضْمُومَة الْبَاء قَالَ وَقَالَ ذَلِك لِأَن الشَّيَاطِين يحْضرُون الأخلية وَهِي مَوَاضِع يهجر فِيهَا ذكر الله تَعَالَى فَقدم لَهَا الِاسْتِعَاذَة احْتِرَازًا مِنْهُم انْتهى وَفِيه نظر لِأَن أَبَا عبيد الْقَاسِم بن سَلام حكى تسكين الْبَاء وَكَذَا الفارابي فِي ديوَان الْأَدَب والفارسي فِي مجمع الغرائب وَلِأَن فعلا بِضَمَّتَيْنِ قد يسكن عينه قِيَاسا ككتب وَكتب فَلَعَلَّ من سكنها سلك هَذَا المسلك وَقَالَ التوربشتي هَذَا مستفيض لَا يسع أحدا مُخَالفَته إِلَّا أَن يزْعم إِن ترك التَّخْفِيف فِيهِ أولى لِئَلَّا يشْتَبه بالخبث الَّذِي هُوَ الْمصدر. وَفِي شرح السّنة الْخبث بِضَم الْبَاء وَبَعْضهمْ يروي بِالسُّكُونِ وَقَالَ الْخبث الْكفْر والخبائث الشَّيَاطِين وَقَالَ ابْن بطال الْخبث بِالضَّمِّ يعم الشَّرّ والخبائث الشَّيَاطِين وبالسكون مصدر خبث الشَّيْء يخْبث خبثا وَقد يَجْعَل اسْما وَزعم ابْن الْأَعرَابِي أَن أصل الْخبث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه فَإِن كَانَ من الْكَلَام فَهُوَ الشتم وَإِن كَانَ من الْملَل فَهُوَ الْكفْر وَإِن كَانَ من الطَّعَام فَهُوَ الْحَرَام وَإِن كَانَ من الشَّرَاب فَهُوَ الضار وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي وَصَاحب الْمُنْتَهى الْخبث الْكفْر وَيُقَال الشَّيْطَان والخبائث الْمعاصِي جمع خبيثة وَيُقَال الْخبث خلاف طيب الْفِعْل من فجور وَغَيره والخبائث الْأَفْعَال المذمومة والخصال الرَّديئَة (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول جملَة وَقعت مقول القَوْل وَقَوله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر كَانَ وَكلمَة إِذا ظرف بِمَعْنى حِين والخلاء مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي لِأَن تَقْدِيره إِذا دخل فِي الْخَلَاء وَهَذَا من قبيل قَوْلهم دخلت الدَّار وَكَانَ حَقه أَن يُقَال دخلت فِي الدَّار إِلَّا أَنهم حذفوا حرف الْجَرّ اتساعا وأوصلوا الْفِعْل إِلَيْهِ ونصبوه نصب الْمَفْعُول بِهِ فَمن هَذَا قَول بعض الشَّارِحين وانتصب الْخَلَاء على أَنه مفعول بِهِ لَا على الظَّرْفِيَّة غير صَحِيح اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يذهب إِلَى مَا قَالَه الْجرْمِي من أَنه فعل مُتَعَدٍّ نصب الدَّار نَحْو بنيت الدَّار وَلَكِن يَدْفَعهُ قَوْله بِأَن مصدره يَجِيء على فعول وَهُوَ من مصَادر الْأَفْعَال اللَّازِمَة نَحْو قعد قعُودا وَجلسَ جُلُوسًا وَلِأَن مُقَابِله لَازم نَحْو خرج قلت التَّعْلِيل الثَّانِي غير مطرد لِأَن ذهب لَازم وَمَا يُقَابله جَاءَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ كَقَوْلِه تَعَالَى {أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ} قَوْله اللَّهُمَّ أَصله يَا الله وَقد ذَكرْنَاهُ قَوْله أعوذ بك جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن وَقَوله من الْخبث يتَعَلَّق بأعوذ(2/270)
(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ذكر لفظ كَانَ لدلالته على الثُّبُوت والدوام وَذكر لفظ يَقُول بِلَفْظ الْمُضَارع استحضار الصُّورَة القَوْل قَوْله إِذا دخل الْخَلَاء أَي إِذا أَرَادَ دُخُول الْخَلَاء لِأَن اسْم الله تَعَالَى مُسْتَحبّ التّرْك بعد الدُّخُول وَهَذَا التَّقْدِير مُصَرح بِهِ فِي رِوَايَة سعيد بن زيد على مَا يَأْتِي عَن قريب وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} وَالتَّقْدِير إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يذكر فِي الْخَلَاء بِالْقَلْبِ لَا بِاللِّسَانِ وَقَالَ الْقشيرِي المُرَاد بِهِ ابْتِدَاء الدُّخُول قلت لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل فَإِن الْمَكَان الَّذِي تقضى فِيهِ الْحَاجة لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون معدا لذَلِك كالكنيف أَو لَا يكون معدا كالصحراء فَإِن لم يكن معدا فَإِنَّهُ يجوز ذكر الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْمَكَان وَإِن كَانَ معدا فَفِيهِ خلاف للمالكية فَمن كرهه أول الدُّخُول بِمَعْنى الْإِرَادَة لِأَن لَفْظَة دخل أقوى فِي الدّلَالَة على الكنف المبنية مِنْهَا على الْمَكَان البراح أَو لِأَنَّهُ بَين فِي حَدِيث آخر كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَيْضا إِن هَذِه الحشوش محتضرة أَي للجان وَالشَّيَاطِين فَإِذا أَرَادَ أحدكُم الْخَلَاء فَلْيقل أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث وَمن أجَازه اسْتغنى عَن هَذَا التَّأْوِيل وَيحمل دخل على حَقِيقَتهَا وَهَذَا الحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن زيد بن أَرقم عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَفظه فَإِذا أَتَى أحدكُم الْخَلَاء وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث زيد بن أَرقم فِي إِسْنَاده اضْطِرَاب وَأَشَارَ إِلَى اخْتِلَاف الرِّوَايَة فِيهِ وَسَأَلَ التِّرْمِذِيّ البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ لَعَلَّ قَتَادَة سَمعه من الْقَاسِم بن عَوْف الشَّيْبَانِيّ وَالنضْر بن أنس عَن أنس وَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء وَلِهَذَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَقَالَ الْبَزَّار اخْتلفُوا فِي إِسْنَاده وَقَالَ الْحَاكِم مُخْتَلف فِيهِ على قَتَادَة وَقد احْتج مُسلم بِحَدِيث لِقَتَادَة عَن النَّضر عَن زيد وَرَوَاهُ سعيد عَن الْقَاسِم وكلا الإسنادين على شَرط الصَّحِيح وَقَالَ مُحَمَّد الإشبيلي اخْتلف فِي إِسْنَاده وَالَّذِي أسْندهُ ثِقَة قلت هَذَا الْكَلَام غير جيد لِأَنَّهُ لم يرم بِالْإِرْسَال حَتَّى يكون الحكم لمن أسْندهُ وَإِنَّمَا رمى بِالِاضْطِرَابِ عَن قَتَادَة كَمَا مر. (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه عِنْد إِرَادَة الدُّخُول فِي الْخَلَاء وَقد أجمع على استحبابها وَسَوَاء فِيهَا الْبُنيان والصحراء لِأَنَّهُ يصير مأوى لَهُم بِخُرُوج الْخَارِج فَلَو نسى التَّعَوُّذ فَدخل فَذهب ابْن عَبَّاس وَغَيره إِلَى كَرَاهَة التَّعَوُّذ وَأَجَازَهُ جمَاعَة مِنْهُم ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. الثَّانِي قَالَ ابْن بطال فِيهِ جَوَاز ذكر الله تَعَالَى على الْخَلَاء وَهَذَا مِمَّا اخْتلفت فِيهِ الْآثَار فروى عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه أقبل من نَحْو بِئْر جمل فَلَقِيَهُ رجل فَسلم عَلَيْهِ فَلم يرد عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى تيَمّم بالجدار وَاخْتلف فِي ذَلِك أَيْضا الْعلمَاء فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كره أَن يذكر الله تَعَالَى عِنْد الْخَلَاء وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَقَالَ عِكْرِمَة لَا يذكر الله فِيهِ بِلِسَانِهِ بل بِقَلْبِه وَأَجَازَ ذَلِك جمَاعَة من الْعلمَاء وروى ابْن وهب أَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ يذكر الله تَعَالَى فِي المرحاض وَقَالَ الْعَرْزَمِي قلت لِلشَّعْبِيِّ أعطس وَأَنا فِي الْخَلَاء أَحْمد الله قَالَ لَا حَتَّى تخرج فَأتيت النَّخعِيّ فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ لي احْمَد الله فَأَخْبَرته بقول الشّعبِيّ فَقَالَ النَّخعِيّ الْحَمد يصعد وَلَا يهْبط وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَمَالك. وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لمن أجَاز ذَلِك قلت فِيهِ نظر لَا يخفى وَذكر البُخَارِيّ فِي كتاب خلق الله تَعَالَى أَفعَال الْعباد عَن عَطاء رَحمَه الله الْخَاتم فِيهِ ذكر الله لَا بَأْس أَن يدْخل بِهِ الْإِنْسَان الكنيف أَو يلم بأَهْله وَهُوَ فِي يَده لَا بَأْس بِهِ وَهُوَ قَول الْحسن وَذكر وَكِيع عَن سعيد بن الْمسيب مثله قَالَ البُخَارِيّ وَقَالَ طَاوس فِي المنطقة يكون على الرجل فِيهَا الدَّرَاهِم يقْضِي حَاجته لَا بَأْس بذلك وَقَالَ إِبْرَاهِيم لَا بُد للنَّاس من نفقاتهم وَأحب بعض النَّاس أَن لَا يدْخل الْخَلَاء بالخاتم فِيهِ ذكر الله تَعَالَى قَالَ البُخَارِيّ وَهَذَا من غير تَحْرِيم يَصح. وَأما حَدِيث بِئْر جمل فَهُوَ على الِاخْتِيَار وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْفضل لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرط رد السَّلَام أَن يكون على وضوء قَالَه الطَّحَاوِيّ وَقَالَ الطَّبَرِيّ أَن ذَلِك مِنْهُ كَانَ على وَجه التَّأْدِيب للْمُسلمِ عَلَيْهِ أَن لَا يسلم بَعضهم على بعض على الْحَدث وَذَلِكَ نَظِير نَهْيه وهم كَذَلِك أَن يحدث بَعضهم بَعْضًا بقوله لَا يتحدث المتغوطان على طوفهما يَعْنِي حاجتهما فَإِن الله يمقت على ذَلِك وروى أَبُو عُبَيْدَة الْبَاجِيّ عَن الْحسن عَن الْبَراء رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه سلم على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ يتَوَضَّأ فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا حَتَّى فرغ. الثَّالِث فِيهِ أَن لفظ الِاسْتِعَاذَة أَن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك وَقد اخْتلف فِيهِ أَلْفَاظ الروَاة(2/271)
فَفِي رِوَايَة عَن شُعْبَة أعوذ بِاللَّه وَفِي رِوَايَة وهب فليتعوذ بِاللَّه وَهُوَ يَشْمَل كل مَا يَأْتِي بِهِ من أَنْوَاع الِاسْتِعَاذَة من قَوْله أعوذ بك أستعيذ بك أعوذ بِاللَّه أستعيذ بِاللَّه اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك وَنَحْو ذَلِك من أشباه ذَلِك. الرَّابِع فِيهِ أَن الِاسْتِعَاذَة من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِظْهَار للعبودية وَتَعْلِيم للْأمة وَإِلَّا فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَحْفُوظ من الْجِنّ وَالْإِنْس وَقد ربط عفريتا على سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد. قَالُوا وَيسْتَحب أَن يَقُول بِسم الله مَعَ التَّعَوُّذ وَقد روى المعمري الحَدِيث الْمَذْكُور من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب إِذا دَخَلْتُم الْخَلَاء فَقولُوا بِسم الله أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث وَإِسْنَاده على شَرط مُسلم وَعَن ابْن عرْعرة عَن شُعْبَة وَقَالَ غنْدر عَن شُعْبَة إِذا أَتَى الْخَلَاء وَقَالَ مُوسَى عَن حَمَّاد إِذا دخل وَقَالَ سعيد بن زيد فِي كتاب ابْن عدي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الكنيف قَالَ بِسم الله ثمَّ يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك قَالَ رَوَاهُ أَبُو معشر وَهُوَ ضَعِيف عَن اسحق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة عَن أنس وَفِي أَفْرَاد الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ عدي بن أبي عمَارَة عَن قَتَادَة عَن أنس قَالَ وَهُوَ غَرِيب من حَدِيث قَتَادَة تفرد بِهِ عدي عَنهُ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ قَالَ لم يروه عَن الزُّهْرِيّ إِلَّا صَالح تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن حميد الطَّوِيل
(تَابعه ابْن عرْعرة عَن شُعْبَة قَالَ غنْدر عَن شُعْبَة إِذا أَتَى الْخَلَاء وَقَالَ مُوسَى عَن حَمَّاد إِذا دخل وَقَالَ سعيد بن زيد حَدثنَا عبد الْعَزِيز إِذا أَرَادَ أَن يدْخل) أَي تَابع آدم بن أبي إِيَاس مُحَمَّد بن عرْعرة فِي رِوَايَته هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة كَمَا رَوَاهُ آدم وَالْحَاصِل أَن مُحَمَّد بن عرْعرة روى هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة كَمَا رَوَاهُ آدم عَن شُعْبَة وَهَذِه هِيَ الْمُتَابَعَة التَّامَّة وفائدتها التقوية وَحَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة عَن شُعْبَة أخرجه البُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عرْعرة حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْخَلَاء قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث قَوْله وَقَالَ غنْدر عَن شُعْبَة هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَزَّار فِي مُسْنده عَن مُحَمَّد بن بشار بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَنهُ بِلَفْظِهِ وَرَوَاهُ أَحْمد عَن غنْدر بِلَفْظ إِذا دخل وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة على الْمَشْهُور وبالراء وَمَعْنَاهُ المشغب وَهُوَ لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ ربيب شُعْبَة وَقد مر فِي بَاب ظلم دون ظلم قَوْله وَقَالَ مُوسَى عَن حَمَّاد إِذا دخل هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي وَقد مر غير مرّة وَحَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة بن دِينَار أَبُو سَلمَة الربعِي وَكَانَ يعد من الابدال وعلامة الابدال أَن لَا يُولد لَهُم تزوج سبعين امْرَأَة فَلم يُولد لَهُ وَقيل فضل حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار على حَمَّاد بن زيد بن دِرْهَم كفضل الدِّينَار على الدِّرْهَم مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة وَالْبُخَارِيّ مُتَابعَة وَهَذِه الْمُتَابَعَة نَاقِصَة لَا تَامَّة قَوْله وَقَالَ سعيد بن زيد إِلَى آخِره هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان قَالَ حَدثنَا سعيد بن زيد قَالَ حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب قَالَ حَدثنِي أنس قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ أَن يدْخل الْخَلَاء قَالَ فَذكر مثل حَدِيث الْبَاب وَسَعِيد بن زيد بن دِرْهَم أَبُو الْحسن الْجَهْضَمِي الْبَصْرِيّ أَخُو حَمَّاد بن زيد بن دِرْهَم وَبَعْضهمْ يُضعفهُ روى لَهُ البُخَارِيّ اسْتِشْهَادًا مَاتَ سنة وَفَاة ابْن سَلمَة وَهَذَا كَمَا ترى اخْتلفت فِيهِ أَلْفَاظ الروَاة وَالْمعْنَى فِيهَا مُتَقَارب يرجع إِلَى معنى وَاحِد وَهُوَ أَن التَّقْدِير كَانَ يَقُول هَذَا الذّكر عِنْد إِرَادَة الدُّخُول فِي الْخَلَاء لَا بعده وَجَاء لفظ الْغَائِط مَعَ مَوضِع الْخَلَاء على مَا روى الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُعْجَمه بِسَنَد جيد عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دخل الْغَائِط قَالَ أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث وَكَذَا جَاءَ لفظ الكنيف وَلَفظ الْمرْفق فالاول فِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِسَنَد صَحِيح وَإِن كَانَ أَبُو عِيسَى قَالَ إِسْنَاده لَيْسَ بالقوى مَرْفُوعا ستر مَا بَين الْجِنّ وعورات بني آدم إِذا دخل الكنيف أَن يَقُول بِسم الله وَالثَّانِي فِي حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن ماجة مَرْفُوعا لَا يعجز أحدكُم إِذا دخل مرفقه أَن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث الشَّيْطَان الرَّجِيم وَسَنَده ضَعِيف فَإِن قلت هَل جَاءَ شَيْء فِيمَا يَقُول إِذا خرج من الْخَلَاء قلت لَيْسَ فِيهِ شَيْء على شَرط البُخَارِيّ وروى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج من الْغَائِط قَالَ غفرانك أخرجه ابْن حبَان وَابْن خُزَيْمَة وَابْن الْجَارُود وَالْحَاكِم فِي صحيحهم وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ هُوَ أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب فَإِن قلت لما أخرجه التِّرْمِذِيّ وَأَبُو عَليّ(2/272)
الطوسي قَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب حسن لَا يعرف إِلَّا من حَدِيث إِسْرَائِيل عَن يُوسُف بن أبي بردة وَلَا يعرف فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قلت قَوْله غَرِيب مَرْدُود بِمَا ذكرنَا من تَصْحِيحه وَيُمكن أَن تكون الغرابة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاوِي لَا إِلَى الحَدِيث إِذْ الغرابة وَالْحسن فِي الْمَتْن لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِن قلت غرابة السَّنَد بتفرد إِسْرَائِيل وغرابة الْمَتْن لكَونه لَا يعرف غَيره قلت إِسْرَائِيل مُتَّفق على إِخْرَاج حَدِيثه عِنْد الشَّيْخَيْنِ والثقة إِذا انْفَرد بِحَدِيث وَلم يُتَابع عَلَيْهِ لَا ينقص عَن دَرَجَة الْحسن وَإِن لم يرتق إِلَى دَرَجَة الصِّحَّة وقولهما لَا يعرف فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا حَدِيث عَائِشَة لَيْسَ كَذَلِك فَإِن فِيهِ أَحَادِيث وَإِن كَانَت ضَعِيفَة مِنْهَا حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ ابْن ماجة قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج من الْخَلَاء قَالَ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني وَمِنْهَا حَدِيث أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ مثله أخرجه النَّسَائِيّ وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعا الْحَمد لله الَّذِي أخرج عني مَا يُؤْذِينِي وَأمْسك عَليّ مَا يَنْفَعنِي. وَمِنْهَا حَدِيث سهل ابْن أبي خَيْثَمَة نَحوه وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْعِلَل. وَمِنْهَا حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ الْحَمد لله الَّذِي أذاقني لذته وابقى عَليّ قوته وأذهب عني أَذَاهُ فَإِن قلت مَا الْحِكْمَة فِي قَوْله غفرانك إِذا خرج من الْخَلَاء قلت قد ذكرُوا فِيهِ أوجها وأحسنها أَنه إِنَّمَا يسْتَغْفر من تَركه ذكر الله تَعَالَى مُدَّة مكثه فِي الْخَلَاء وَيقرب مِنْهُ مَا قيل أَنه لشكر النِّعْمَة الَّتِي أنعم عَلَيْهِ بهَا إِذْ أطْعمهُ وهضمه فَحق على من خرج سالما مِمَّا استعاذه مِنْهُ أَن يُؤَدِّي شكر النِّعْمَة فِي إعاذته وَإجَابَة سُؤَاله وَأَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى خوفًا أَن لَا يُؤَدِّي شكر تِلْكَ النعم
(بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء ليستعمله المتوضىء بعد خُرُوجه مِنْهَا. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لِأَن كل مَا فيهمَا مِمَّا يسْتَعْمل عِنْد الْخَلَاء
9 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم قَالَ حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبيد الله بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل الْخَلَاء فَوضعت لَهُ وضُوءًا قَالَ من وضع هَذَا فَأخْبر فَقَالَ اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي مر فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان. الثَّانِي هَاشم بن الْقَاسِم أَبُو النَّضر بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة التَّمِيمِي اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي الْخُرَاسَانِي نزل بَغْدَاد وتلقب بقيصر وَهُوَ حَافظ ثِقَة صَاحب سنة كَانَ أهل بَغْدَاد يفتخرون بِهِ مَاتَ سنة سبع وَمِائَتَيْنِ عَن ثَلَاث وَسبعين سنة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة هَاشم بن الْقَاسِم سواهُ وَفِي ابْن ماجة وَحده هَاشم بن الْقَاسِم الْحَرَّانِي شَيْخه وَلَا ثَالِث فيهمَا سواهُمَا. الثَّالِث وَرْقَاء مؤنث الأورق ابْن عمر الْيَشْكُرِي الْكُوفِي أَبُو بشر وَيُقَال أَصله من خوارزم سكن الْمَدَائِن قَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ قَالَ لي شُعْبَة عَلَيْك بورقاء فَإنَّك لن ترى عَيْنَاك مثله روى عَن عبيد الله هَذَا وَغَيره وَعنهُ الْفرْيَابِيّ. وَيحيى بن آدم صَدُوق صَالح قيل مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة وَرْقَاء غَيره. الرَّابِع عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ ابْن أبي يزِيد من الزِّيَادَة الْمَكِّيّ مولى آل قارظ بِالْقَافِ وبالراء وبالظاء الْمُعْجَمَة من حلفاء بني زهرَة كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة عبيد الله بن أبي يزِيد غَيره نعم فِي النَّسَائِيّ عبيد الله بن يزِيد الطَّائِفِي روى عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني عبيد الله بن أبي زَائِدَة وَهُوَ غلط وَالصَّحِيح ابْن أبي يزِيد وَلَا يعرف اسْمه. الْخَامِس عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومكي: وَمِنْهَا أَنه على شَرط السِّتَّة خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ من رِجَاله وَرِجَال التِّرْمِذِيّ فَقَط. وَمِنْهَا أَن هَذَا الحَدِيث من الْأَحَادِيث الَّتِي صرح ابْن عَبَّاس فِيهَا بِالسَّمَاعِ من رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل ابْن عَبَّاس عَن(2/273)
زُهَيْر بن حَرْب وَأبي بكر بن أبي النَّضر كِلَاهُمَا عَن هَاشم بن الْقَاسِم عَن وَرْقَاء عَنهُ بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن أبي بكر بن أبي النَّضر بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله وضوأ بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ وبالضم الْمصدر وَقد مر تَحْقِيقه فِي أول كتاب الْوضُوء قَوْله فقهه فِي الدّين من الْفِقْه وَهُوَ فِي اللُّغَة الْفَهم تَقول فقه الرجل بِالْكَسْرِ وَفُلَان لَا يفقه وَلَا يفقه ثمَّ خص بِهِ علم الشَّرِيعَة والعالم بِهِ فَقِيه وَقد فقه بِالضَّمِّ فقاهة وفقهه الله وتفقه إِذا تعاطى ذَلِك وفاقهته إِذا باحثته فِي الْعلم. (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله دخل الْخَلَاء جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله فَوضعت لَهُ جملَة معطوفة على الْجُمْلَة السَّابِقَة قَوْله وضوأ نصب بقوله فَوضعت قَوْله من استفهامية مُبْتَدأ وَقَوله وضع هَذَا خَبره قَوْله فَأخْبر على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على مَا قبله وَقد علم أَن فِي عطف الاسمية على الفعلية وَالْعَكْس أقوالا وَالْمَفْهُوم من كَلَام النُّحَاة جَوَاز ذَلِك كَمَا عرف فِي مَوْضِعه قَوْله اللَّهُمَّ أَصله يَا الله فَحذف حرف النداء وَعوض عَنْهَا الْمِيم قَوْله فقهه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ أَنْت المستكن فِيهِ وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَوله فِي الدّين يتَعَلَّق بِهِ. (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله قَالَ من وضع هَذَا أَي قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعد الْخُرُوج من الْخَلَاء من وضع الْوضُوء قَوْله فَأخْبر أَي النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث خَالَة ابْن عَبَّاس هِيَ المخبرة بذلك لِأَن وضع ابْن عَبَّاس الْوضُوء للنَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم كَانَ فِي بَيتهَا قَوْله اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين مُنَاسبَة دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِابْنِ عَبَّاس بالتفقه فِي الدّين لأجل وَضعه الْوضُوء لَهُ لكَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفرس فِيهِ الذكاء والفطنة فالمناسبة أَن يَدعِي لَهُ بالتفقه فِي الدّين ليطلع بِهِ على أسرار الْفِقْه فِي الدّين فينتفع وينفع وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَضعه عِنْد الْخَلَاء لِأَنَّهُ كَانَ أيسر لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ لَو وَضعه فِي مَكَان بعيد مِنْهُ كَانَ يحْتَاج إِلَى طلب المَاء وَفِيه مشقة مَا وَلَو دخل بِهِ إِلَيْهِ كَانَ تعرضا للاطلاع على حَاله وَهُوَ يقْضِي حَاجته فَلَمَّا رأى ابْن عَبَّاس هَذِه الْحَالة أوفق وأيسر اسْتدلَّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على غَايَة ذكائه مَعَ صغر سنه فَدَعَا لَهُ بِمَا دَعَا بِهِ (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ جَوَاز خدمَة الْعَالم بِغَيْر أمره ومراعاته حَتَّى حَال دُخُوله الْخَلَاء. الثَّانِي فِيهِ اسْتِحْبَاب الْمُكَافَأَة بِالدُّعَاءِ. الثَّالِث قَالَ الدَّاودِيّ فِيهِ دلَالَة على أَنه رُبمَا لَا يستنجي عِنْدَمَا يَأْتِي الْخَلَاء ليَكُون ذَلِك سنة لِأَنَّهُ لم يَأْمر بِوَضْع المَاء وَقد اتبعهُ عمر رَضِي الله عَنهُ بِالْمَاءِ فَقَالَ لَو استنجيت كلما أتيت الْخَلَاء لَكَانَ سنة وَفِيه نظر وَمَا اسْتشْهد بِهِ حَدِيث ضَعِيف. الرَّابِع قَالَ الْخطابِيّ فِيهِ أَن حمل الْخَادِم المَاء إِلَى المغتسل غير مَكْرُوه وَأَن الْأَدَب فِيهِ أَن يَلِيهِ الأصاغر من الخدم دون الأكابر. الْخَامِس فِيهِ دَلِيل قَاطع على إِجَابَة دُعَاء الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَنَّهُ صَار فَقِيها أَي فَقِيه. السَّادِس قَالَ ابْن بطال مَعْلُوم أَن وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء إِنَّمَا هُوَ للاستنجاء بِهِ عِنْد الْحَدث وَفِيه رد على من يُنكر الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَقَالَ إِنَّمَا ذَلِك وضوء النِّسَاء وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ الرِّجَال يتمسحون بِالْحِجَارَةِ وَنقل ابْن التِّين فِي شَرحه عَن مَالك أَنه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم لم يسْتَنْج عمره بِالْمَاءِ وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ وَقد عقد البُخَارِيّ قَرِيبا بَابا للاستنجاء بِالْمَاءِ وَذكر فِيهِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام استنجى على مَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي صَحِيح ابْن حبَان أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من غَائِط قطّ إِلَّا مس مَاء وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ من حَدِيثهَا أَيْضا أَنَّهَا قَالَت مرن أزواجكن أَن يغسلوا أثر الْغَائِط وَالْبَوْل فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَفْعَله ثمَّ قَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَفِي صَحِيح ابْن حبَان أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى حَاجته ثمَّ استنجى من تور وَقَالَ ابْن بطال أَن مَالِكًا روى فِي موطئِهِ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يتَوَضَّأ بِالْمَاءِ وضوأ لما تَحت الْإِزَار قَالَ مَالك يُرِيد الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَقَالَ الْخطابِيّ فِي الحَدِيث اسْتِحْبَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَإِن كَانَت الْحِجَارَة مجزئة وَكره قوم من السّلف الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ وَزعم بعض الْمُتَأَخِّرين أَن المَاء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذَلِك وَكَانَ بعض الْقُرَّاء يكره الْوضُوء فِي مشارع الْمِيَاه الْجَارِيَة وَكَانَ يسْتَحبّ أَن يُؤْخَذ لَهُ المَاء فِي ركوة وَنَحْوهَا لِأَنَّهُ(2/274)
لم يبلغهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ على نهر أَو مشرع فِي مَاء جَار قَالَ وَهَذَا عِنْدِي من أجل أَنه لم يكن بِحَضْرَتِهِ الْمِيَاه الْجَارِيَة والأنهار فَأَما من كَانَ بَين ظهراني مياه جَارِيَة فَأَرَادَ أَن يشرع فِيهَا وَيتَوَضَّأ مِنْهَا كَانَ لَهُ ذَلِك من غير حرج وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلف فِي الْمَسْأَلَة فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر فيستعمل الْحجر أَولا لتخف النَّجَاسَة وتقل مباشرتها بِيَدِهِ ثمَّ يسْتَعْمل المَاء فَإِن أَرَادَ الِاقْتِصَار على أَحدهمَا جَازَ وَسَوَاء وجد الآخر أَو لم يجده فَإِن اقْتصر فالماء أفضل من الْحجر لِأَن المَاء يطهر الْمحل طَهَارَة حَقِيقِيَّة وَأما الْحجر فَلَا يطهر وَإِنَّمَا يُخَفف النَّجَاسَة ويبيح الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة المعفو عَنْهَا وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْحجر أفضل وَرُبمَا أوهم كَلَام بَعضهم أَن المَاء لَا يجزىء وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي لَا يجزىء الْحجر إِلَّا لمن عدم المَاء السَّابِع اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن الْمُسْتَحبّ أَن يتَوَضَّأ من الْأَوَانِي دون المشارع والبرك وَقَالَ القَاضِي عِيَاض هَذَا لَا أصل لَهُ وَلم ينْقل أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وجدهَا فَعدل عَنْهَا إِلَى الْأَوَانِي وَالله تَعَالَى أعلم
(بَاب لَا تسْتَقْبل الْقبْلَة بغائط أَو بَوْل إِلَّا عِنْد الْبناء جِدَار أَو نَحوه)
أَي هَذَا بَاب فباب مَرْفُوع على الخبرية منون لعدم صِحَة الْإِضَافَة قَوْله لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن يكون تسْتَقْبل بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق على صِيغَة الْمَجْهُول وَقَوله الْقبْلَة مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل وَالْآخر أَن يكون يسْتَقْبل بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي لَا يسْتَقْبل قَاضِي حَاجته الْقبْلَة والقبلة مَنْصُوب بِهِ وَلَام يسْتَقْبل يجوز فِيهَا وَجْهَان أَيْضا أَحدهمَا الضَّم على أَن تكون لَا نَافِيَة وَالْآخر الْكسر على أَن تكون ناهية قَوْله بغائط الْبَاء فِيهِ ظرفية وَفِي الْمُحكم الْغَائِط والغوط المتسع من الأَرْض مَعَ طمأنينة وَجمعه أغواط وغياط وغيطان وكل مَا انحدر من الأَرْض فقد غاط وَمن بواطن الأَرْض المنبتة الْغِيطَان الْوَاحِد مِنْهَا غَائِط وَزَعَمُوا أَن الْغَائِط رُبمَا كَانَ فرسخا وَالْغَائِط اسْم للعذرة نَفسهَا لأَنهم كَانُوا يلقونها بالغيطان وَقيل لأَنهم كَانُوا إِذا أَرَادوا ذَلِك أَتَوا الْغَائِط وتغوط الرجل كِنَايَة عَن الخرأة والغوط أغمض من الْغَائِط وَأبْعد وَفِي الصِّحَاح وَجمع الْغَائِط غوط وَفِي الْمُخَصّص الْغَائِط أَصله المطمئن من الأَرْض وسمى المتوضأ غائطا لأَنهم كَانُوا يأتونه لقَضَاء الْحَاجة ثمَّ سمى الشَّيْء بِعَيْنِه غائطا وَقِرَاءَة الزُّهْرِيّ (أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الغيط) مُخَفّفَة الْيَاء وَأَصله الغوط وَقيل لكل من قضى حَاجته قد أَتَى الْغَائِط يكنى بِهِ عَن الْعذرَة وَقَالَ الْخطابِيّ أَصله المطمئن من الأَرْض كَانُوا يأتونه للْحَاجة فكنوا بِهِ عَن نفس الْحَدث كَرَاهَة لذكره بخاص اسْمه وَمن عَادَة الْعَرَب التعفف فِي ألفاظها وَاسْتِعْمَال الْكِنَايَة فِي كَلَامهَا وصون الْأَلْسِنَة عَمَّا تصان الْأَبْصَار والأسماع عَنهُ قلت الْحَاصِل أَنه اسْتعْمل للْخَارِج وَغلب على الْحَقِيقَة الوضعية فَصَارَ حَقِيقَة عرفية لَكِن لَا يقْصد بِهِ إِلَّا الْخَارِج من الدبر فَقَط للتفرقة فِي الحَدِيث بَينهمَا فِي قَوْله بغائط أَو بَوْل وَقد يقْصد بِهِ مَا يخرج من الْقبل أَيْضا فَإِن الحكم عَام وَفِي الْعباب غاط فِي الشَّيْء يغوط ويغيط غوطا وغيطا دخل فِيهِ يُقَال هَذَا رمل تغوط فِيهِ الْأَقْدَام وتغيط والغوط وَالْغَائِط المطمئن من الأَرْض الْوَاسِع. وَقَالَ ابْن دُرَيْد الغوط أَشد انحطاطا من الْغَائِط وَأبْعد وَفِي قصَّة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام انسدت ينابيع الغوط الْأَكْبَر وأبواب السَّمَاء وَالْجمع غوط وأغواط وغياط صَارَت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا وَالْغَائِط أَيْضا الغوط من الأَرْض والغوطة الوهدة فِي الأَرْض المطمئنة والتركيب يدل على اطمئنان وغور قَوْله إِلَّا عِنْد الْبناء اسْتثِْنَاء من قَوْله لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب دلَالَة على الِاسْتِثْنَاء الَّذِي ذكره ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِمَا حَاصله أَنه أَرَادَ بالغائط مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ لَا مَعْنَاهُ الْعرفِيّ فَحِينَئِذٍ يَصح اسْتثِْنَاء الْأَبْنِيَة مِنْهُ وَقَالَ بَعضهم هَذَا قوي الْأَجْوِبَة قلت لَيْسَ كَذَلِك لأَنهم لما استعملوه للْخَارِج وَغلب هَذَا الْمَعْنى على الْمَعْنى الْأَصْلِيّ صَار حَقِيقَة عرفية غلبت على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة فهجرت حَقِيقَته اللُّغَوِيَّة فَكيف ترَاد بعد ذَلِك وَقَالَ ابْن بطال هَذَا الِاسْتِثْنَاء لَيْسَ مأخوذا من الحَدِيث وَلَكِن لما علم من حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا اسْتثِْنَاء الْبيُوت بوب بِهِ لِأَن حَدِيثه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كُله كَأَنَّهُ شَيْء وَاحِد وَإِن اخْتلفت طرقه كَمَا أَن الْقُرْآن كُله كالآية الْوَاحِدَة وَإِن كثر وَتَبعهُ ابْن الْمُنِير فِي شَرحه وَاسْتَحْسنهُ بعض الشَّارِحين قلت فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي هَذَا الْبَاب عقيب حَدِيث أبي أَيُّوب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ الْكرْمَانِي(2/275)
يحْتَمل أَن يكون أَي الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور مأخوذا من هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث أبي أَيُّوب إِذْ لفظ الْغَائِط مشْعر بِأَن الحَدِيث ورد فِي شَأْن الصحارى إِذْ الاطمئنان أَي الانخفاض والارتفاع إِنَّمَا يكون فِي الْأَرَاضِي الصحراوية لَا فِي الْأَبْنِيَة قلت الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب وَقَالَ ابْن الْمُنِير أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الفضاء وَأما الْجِدَار والأبنية فَإِنَّهَا إِذا اسْتقْبلت أضيف إِلَيْهَا الِاسْتِقْبَال عرفا قلت كل من توجه إِلَى نَحْو الْكَعْبَة يُطلق عَلَيْهِ أَنه مُسْتَقْبل الْكَعْبَة سَوَاء كَانَ فِي الصَّحرَاء أَو فِي الْأَبْنِيَة فَإِن كَانَ فِي الْأَبْنِيَة فالحائل بَينه وَبَين الْقبْلَة هُوَ الْأَبْنِيَة وَإِن كَانَ فِي الصَّحرَاء فَهُوَ الْجبَال والتلال وَالصَّوَاب أَن يُقَال أَن الحَدِيث عِنْده عَام مَخْصُوص وَعَلِيهِ يُوَجه الِاسْتِثْنَاء قَوْله جِدَار بِالْجَرِّ بدل من الْبناء قَوْله أَو نَحوه أَي نَحْو الْجِدَار كالأحجار الْكِبَار والسواري والأساطين وَنَحْو ذَلِك وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أَو غَيره وهما متقاربان. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر
10 - (حَدثنَا آدم قَالَ حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب قَالَ حَدثنَا الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى أحدكُم الْغَائِط فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يولها ظَهره شرقوا أَو غربوا) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة الْمُسْتَثْنى مِنْهَا ظَاهِرَة وَلَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للمستثنى على مَا ذكرنَا وَمَا يطابقه هُوَ حَدِيث عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا على الْوَجْه الَّذِي نَقَلْنَاهُ الْآن عَن ابْن بطال فَمن هَذَا قَالَ صَاحب التَّلْوِيح فِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على عكس مَا قَالَه البُخَارِيّ وَذَلِكَ أَن أَبَا أَيُّوب رَاوِي الحَدِيث فهم مِنْهُ غير مَا ذكره البُخَارِيّ وَهُوَ تَعْمِيم النَّهْي والتسوية فِي ذَلِك بَين الصَّحَارِي والأبنية بَين ذَلِك بقوله فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت نَحْو الْكَعْبَة فَكُنَّا ننحرف عَنْهَا ونستغفر الله تَعَالَى وَفِي حَدِيث مَالك قَالَ أَبُو أَيُّوب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض بنيت قبل الْكَعْبَة فننحرف ونستغفر الله تَعَالَى وَعَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء سَمِعت أَبَا أَيُّوب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله ذكره البُخَارِيّ فِي بَاب قبْلَة أهل الْمَدِينَة فِي أَوَائِل الصَّلَاة وَفِي حَدِيث مَالك للنسائي عَن أبي أَيُّوب أَنه قَالَ وَالله مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع بِهَذِهِ الكرابيس وَقد قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الحَدِيث (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول آدم ابْن أبي إِيَاس وَقد تكَرر ذكره الثَّانِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب هِشَام الْمدنِي العامري وَقد مر الثَّالِث مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَقد تكَرر ذكره الرَّابِع أَبُو يزِيد عَطاء بن يزِيد من الزِّيَادَة اللَّيْثِيّ ثمَّ الجندعي بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَضم الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة الْمدنِي وَيُقَال الشَّامي التَّابِعِيّ لِأَنَّهُ سكن رَملَة الشَّام مَاتَ سنة سبع وَقيل خمس وَمِائَة عَن اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة الْخَامِس أَبُو أَيُّوب خَالِد بن زيد بن كُلَيْب بن ثَعْلَبَة بن عبد عَوْف بن غنم الْأنْصَارِيّ النجاري شهد بَدْرًا والعقبة الثَّانِيَة وَعَلِيهِ نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم الْمَدِينَة شهرا وَهُوَ من نجباء الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم روى لَهُ مائَة وَخَمْسُونَ حَدِيثا اتفقَا مِنْهَا على سَبْعَة وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث وَكَانَ مَعَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي حروبه مَاتَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ غازيا سنة خمسين وَذَلِكَ مَعَ يزِيد بن مُعَاوِيَة خرج مَعَه فَمَرض فَلَمَّا ثقل عَلَيْهِ الْمَرَض قَالَ لأَصْحَابه إِذا أَنا مت فاحملوني فَإِذا صافقتم الْعَدو فادفنوني تَحت أقدامكم فَفَعَلُوا فقبره قريب من سورها مَعْرُوف إِلَى الْيَوْم مُعظم فيستسقون بِهِ فيسقون وَأَبُو أَيُّوب فِي الصَّحَابَة ثَلَاثَة هَذَا أَجلهم وثانيهم يماني لَهُ رِوَايَة وثالثهم روى لَهُ عَن عَليّ بن مسْهر عَن الأفريقي عَن أَبِيه عَن أبي أَيُّوب فَلَعَلَّهُ الأول وَأَيوب يشْتَبه بأثوب بِسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْوَاو وَهُوَ أثوب بن عتبَة صَحَابِيّ روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الديك الْأَبْيَض خليلي إِسْنَاده لَا يثبت رَوَاهُ عبد الْبَاقِي بن قَانِع حَدثنَا حُسَيْن حَدثنَا عَليّ بن بَحر حَدثنَا ملاذ بن عَمْرو عَن هَارُون بن نجيد عَن جَابر عَن أثوب بن عتبَة قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والْحَارث ابْن أثوب تَابِعِيّ قَالَه عبد الْغَنِيّ وَقَالَ ابْن مَاكُولَا وَالصَّوَاب ثوب بِضَم الثَّاء وَفتح الْوَاو وأثوب بن أَزْهَر زوج قيلة بنت مخرمَة الصحابية رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا آدم فَإِنَّهُ أَيْضا دخل إِلَيْهَا(2/276)
وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَليّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر وَابْن نمير وَأَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن مُسَدّد وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِمَعْنَاهُ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ نَحوه (بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب) قَوْله إِذا أَتَى من الْإِتْيَان وَهُوَ الْمَجِيء وَقد أتيه أَتَيَا وأتوتة وأتوة لُغَة فِيهِ وَكلمَة إِذا للشّرط وَلِهَذَا دخلت الْفَاء فِي جوابها وَهُوَ قَوْله فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة قَوْله الْغَائِط مَنْصُوب بقوله أَتَى قَوْله فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن يكون نهيا فَتكون اللَّام مَكْسُورَة لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ وَالْآخر أَن يكون نفيا فَتكون اللَّام مَضْمُومَة قَوْله وَلَا يولها نهى وَلِهَذَا حذفت مِنْهُ الْيَاء وَأَصله وَلَا يوليها من ولاه الشَّيْء إِذا استقبله وَفِي الْمطَالع وَقد يكون التولي بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} أَي توَلّوا وُجُوهكُم وَالْهَاء مَفْعُوله الأول وظهره مَفْعُوله الثَّانِي وَهُوَ يَسْتَدْعِي مفعولين وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} أَي موليها وَجهه فَحذف أحد المفعولين وَقَالَ الْجَوْهَرِي {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} أَي يستقبلها بِوَجْهِهِ وَهَهُنَا أَيْضا الْمَعْنى لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة بظهره وَحَاصِل الْمَعْنى لَا يستدبر الْقبْلَة بظهره أَو لَا يَجْعَلهَا مُقَابل ظَهره قَوْله شرقوا جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَكَذَلِكَ أَو غربوا من التَّشْرِيق وَهُوَ الْأَخْذ فِي نَاحيَة الْمشرق والتغريب وَهُوَ الْأَخْذ فِي نَاحيَة الْمغرب. يُقَال شتان بَين مشرق ومغرب (بَيَان الْمعَانِي) فِيهِ تَقْيِيد الْفِعْل بِالشّرطِ وَقد علم الْفرق بَين تَقْيِيده بِأَن وَبَين تَقْيِيده بإذا بِأَن أصل أَن عدم الْجَزْم بِوُقُوع الشَّرْط وأصل إِذا الْجَزْم بِوُقُوعِهِ وَغلب لفظ الْمَاضِي بإذا على الْمُسْتَقْبل لِأَن لفظ الْمَاضِي أنسب إِلَى مَدْلُول إِذا من لفظ الْمُسْتَقْبل لكَون الْمَاضِي أقرب إِلَى الْقطع بالوقوع من الْمُسْتَقْبل نظرا إِلَى اللَّفْظ لَا إِلَى الْمَعْنى فَإِنَّهُ يدل على الِاسْتِقْبَال لوُقُوعه فِي سِيَاق الشَّرْط وَفِيه أسلوب الِالْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب وَإِذا وَقع الْكَلَام على أساليب مُخْتَلفَة يزْدَاد رونقا وبهجة وحسنا سِيمَا هُوَ من كَلَام أفْصح النَّاس وَقَالَ الْخطابِيّ قَوْله شرقوا أَو غربوا خطاب لأهل الْمَدِينَة وَلمن كَانَت قبلته على ذَلِك السمت وَأما من قبلته إِلَى جِهَة الْمشرق أَو الْمغرب فَإِنَّهُ لَا يشرق وَلَا يغرب وَقَالَ الدَّاودِيّ اخْتلف فِي قَوْله شرقوا أَو غربوا فَقيل إِنَّمَا ذَلِك فِي الْمَدِينَة وَمَا أشبههَا كَأَهل الشَّام واليمن وَأما من كَانَت قبلته من جِهَة الْمشرق أَو الْمغرب فَإِنَّهُ يتيامن أَو يتشاءم وَقَالَ بَعضهم الْبَيْت قبْلَة لمن فِي الْمَسْجِد وَالْمَسْجِد قبْلَة لأهل مَكَّة وَمَكَّة قبْلَة لأهل الْحرم وَالْحرم قبْلَة لسَائِر أهل الأَرْض وَقَالُوا فِي قَوْله مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة فِيمَا يُحَاذِي الْكَعْبَة أَنه يُصَلِّي إِلَيْهِ من الْجِهَتَيْنِ وَلَا يشرق وَلَا يغرب يُحَاذِي كل طَائِفَة الْأُخْرَى فِي هَذَا لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كرم الْبَيْت وَجعله مصلى يصلى إِلَيْهِ من كل جِهَة (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول احْتج أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على عدم جَوَاز اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها بالبول وَالْغَائِط سَوَاء كَانَ فِي الصَّحرَاء أَو فِي الْبُنيان أخذا فِي ذَلِك بِعُمُوم الحَدِيث هُوَ مَذْهَب مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي ثَوْر وَأحمد فِي رِوَايَة وَهُوَ مَذْهَب الرَّاوِي أَيْضا وَهُوَ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلِأَن الْمَنْع لأجل تَعْظِيم الْقبْلَة وَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء والبنيان فالجواز فِي الْبُنيان إِن كَانَ لوُجُود الْحَائِل فَهُوَ مَوْجُود فِي الصَّحرَاء فِي الْبِلَاد النائية لِأَن بَينهَا وَبَين الْكَعْبَة جبالا وأودية وَغير ذَلِك لَا سِيمَا عِنْد من يَقُول بكروية الأَرْض فَإِنَّهُ لَا موازاة إِذْ ذَاك بِالْكُلِّيَّةِ وَمَا ورد من قَول الشّعبِيّ أَنه علل ذَلِك بِأَن لله خلقا من عباده يصلونَ فِي الصَّحرَاء فَلَا تستقبلوهم وَلَا تستدبروهم وَأَنه لَا يُوجد فِي الْأَبْنِيَة فَهُوَ تَعْلِيل فِي مُقَابلَة النَّص وَلَهُم فِي ذَلِك أَحَادِيث أُخْرَى كلهَا عَامَّة فِي النَّهْي مِنْهَا حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء أَنا أول من سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا يبولن أحدكُم مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَأَنا أول من حدث النَّاس بذلك فَإِن قلت قَالَ ابْن يُونُس فِي تَارِيخه وَهُوَ حَدِيث مَعْلُول قلت لَا الْتِفَات إِلَى قَوْله هَذَا فَإِن ابْن حبَان قد صَححهُ. وَمِنْهَا(2/277)
حَدِيث معقل بن أبي معقل نهى رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن تسْتَقْبل الْقبْلَتَيْنِ ببول أَو غَائِط أخرجه ابْن مَاجَه وَأَبُو دَاوُد وَأَرَادَ بالقبلتين الْكَعْبَة وَبَيت الْمُقَدّس وَيحْتَمل أَن يكون على معنى الاحترام لبيت الْمُقَدّس إِذْ كَانَ مرّة قبْلَة لنا وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك من أجل استدبار الْكَعْبَة لِأَن من استقبله فقد استدبر الْكَعْبَة وَمِنْهَا حَدِيث سلمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لقد نَهَانَا أَن نستقبل الْقبْلَة بغائط أَو بَوْل الحَدِيث أخرجه مُسلم وَالْأَرْبَعَة. وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة إِنَّمَا أَنا لكم بِمَنْزِلَة الْوَالِد أعلمكُم فَإِذا أَتَى أحدكُم الْغَائِط فَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يستدبرها الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فَإِن قلت حَدِيث أبي أَيُّوب فِي إِسْنَاده اخْتِلَاف فَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن حَارِثَة عَن أبي أَيُّوب وَقيل عَن إِبْرَاهِيم عَن الزُّهْرِيّ عَن رجل عَن أبي أَيُّوب وَرَوَاهُ أَيُّوب بن أبي تَمِيمَة عَن الزُّهْرِيّ عَن رجلَيْنِ لم يسمهما عَن أبي أَيُّوب وأرسله نَافِع بن عمر الجُمَحِي عَن الزُّهْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت رَوَاهُ عَن أبي أَيُّوب جمَاعَة مِنْهُم رَافع بن إِسْحَق وَعمر بن ثَابت وَأَبُو الْأَحْوَص وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن حَارِثَة وَعَن الزُّهْرِيّ ابْن أبي ذِئْب وَمعمر وَيُونُس وَابْن أخي الزُّهْرِيّ والنعمان بن رَاشد وَسليمَان بن كثير وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَق وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَمُحَمّد بن أبي حَفْصَة وَيزِيد بن أبي حبيب وَعقيل وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْقَوْل قَول ابْن أبي ذِئْب وَمن تَابعه وَفِي مُسْند الْحميدِي تَصْرِيح الزُّهْرِيّ بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من عَطاء وَعَطَاء من أبي أَيُّوب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. ثمَّ اعْلَم أَن حَاصِل مَا للْعُلَمَاء فِي ذَلِك أَرْبَعَة مَذَاهِب. أَحدهَا الْمَنْع الْمُطلق وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي الْجَوَاز مُطلقًا وَهُوَ قَول عُرْوَة بن الزبير وَرَبِيعَة الرَّأْي وَدَاوُد وَرَأى أَي هَؤُلَاءِ أَن حَدِيث أبي أَيُّوب مَنْسُوخ وَزَعَمُوا أَن ناسخه حَدِيث مُجَاهِد عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ نَهَانَا رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن نستقبل الْقبْلَة أَو نستدبرها ببول ثمَّ رَأَيْته قبل أَن يقبض بعام يستقبلها أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَزعم أَنه صَحِيح على شَرط مُسلم وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن غَرِيب قلت قَول الْحَاكِم صَحِيح على شَرط مُسلم غير صَحِيح لِأَن أبان رَاوِيه عَن مُجَاهِد عَن جَابر لم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا والْحَدِيث حَدِيثه وَعَلِيهِ يَدُور نعم صَححهُ البُخَارِيّ فِيمَا سَأَلَهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ فَقَالَ حَدِيث صَحِيح ذكره فِي الخلافيات للبيهقي وتقريب المدارك فِي الْكَلَام على موطأ مَالك فَإِن قلت قَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث ضَعِيف لِأَنَّهُ رَوَاهُ أبان بن صَالح وَلَيْسَ هُوَ الْمَشْهُور قلت هَذَا مَرْدُود بتصحيح البُخَارِيّ وَغَيره وَقَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَيَعْقُوب بن شيبَة وَالْعجلِي أبان بن صَالح ثِقَة وَقَالَ النَّسَائِيّ كَانَ حَاكما بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِهِ بَأْس فَأَي شهرة أرفع من هَذِه وَقَالَ الْبَزَّار هَذَا حَدِيث لَا نعرفه ويروى عَن جَابر بِهَذَا اللَّفْظ بِإِسْنَاد أحسن من هَذَا الْإِسْنَاد فَإِن قلت قَالَ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد رد أَحْمد بن حَنْبَل حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ هَذَا وَهُوَ حَدِيث لَيْسَ بِصَحِيح فيعرج عَلَيْهِ لِأَن أبان ضَعِيف قلت إِن أَرَادَ بقوله رده أَحْمد الْعَمَل بِهِ فمحتمل وَإِن أَرَادَ بِهِ الرَّد الصناعي فَغير مُسلم لثُبُوته فِي مُسْنده لم يضْرب عَلَيْهِ كعادته فِيمَا لَيْسَ بِصَحِيح عِنْده أَو مَرْدُود على مَا بَينه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي خَصَائِص مُسْنده وَأما تَضْعِيفه الحَدِيث بِأَبَان فَغير موجه لثُبُوت توثيقه من الْجَمَاعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ وَأما قَول التِّرْمِذِيّ حسن غَرِيب فَهُوَ وَإِن كَانَ جمعا بَين الضدين بِحَسب الظَّاهِر وَلكنه لَعَلَّه أَرَادَ تفرد بعض رُوَاته وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن أبان هُوَ الْمُنْفَرد بِهِ فِيمَا أرى وَالله أعلم. وَأما دَعْوَى النّسخ الْمَذْكُور فَلَيْسَتْ بظاهرة بل هُوَ اسْتِدْلَال ضَعِيف لِأَنَّهُ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْجمع وَهُوَ مُمكن كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن حَدِيث جَابر مَحْمُول على أَنه رَآهُ فِي بِنَاء أَو نَحوه لِأَن ذَلِك هُوَ الْمَعْهُود من حَال النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لمبالغته فِي التستر. الْمَذْهَب الثَّالِث أَنه لَا يجوز الِاسْتِقْبَال فِي الْأَبْنِيَة والصحراء وَيجوز الاستدبار فيهمَا وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع أَنه يحرم الِاسْتِقْبَال والاستدبار فِي الصَّحرَاء دون الْبُنيان وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأحمد فِي رِوَايَة وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْآتِي ذكره عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة مَشْهُورَة عَن الْعلمَاء وَلم يذكر النَّوَوِيّ فِي شرح الْمَذْهَب غَيرهَا وَكَذَلِكَ عَامَّة شرَّاح البُخَارِيّ وَهَهُنَا ثَلَاثَة مَذَاهِب أُخْرَى. مِنْهَا جَوَاز الاستدبار(2/278)
فِي الْبُنيان فَقَط تمسكا بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف. وَمِنْهَا التَّحْرِيم مُطلقًا حَتَّى فِي الْقبْلَة المنسوخة وَهِي بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم وَابْن سِيرِين عملا بِحَدِيث معقل الْأَسدي الْمَذْكُور عَن قريب. وَمِنْهَا أَن التَّحْرِيم مُخْتَصّ بِأَهْل الْمَدِينَة وَمن كَانَ على سمتها وَأما من كَانَت قبلته فِي جِهَة الْمشرق أَو الْمغرب فَيجوز لَهُ الِاسْتِقْبَال والاستدبار مُطلقًا لعُمُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام شرقوا أَو غربوا قَالَه أَبُو عوَانَة صَاحب الْمُزنِيّ وبعكسه قَالَ البُخَارِيّ وَاسْتدلَّ بِهِ على أَنه لَيْسَ فِي الْمشرق وَلَا فِي الْمغرب قبله كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب قبْلَة أهل الْمَدِينَة فِي كتاب الصَّلَاة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قلت ادّعى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع على عدم تَحْرِيم اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس لمن لَا يستدبر فِي استقباله الْكَعْبَة قلت فِيهِ نظر لما ذَكرْنَاهُ عَن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن سِيرِين وَهُوَ قَول بعض الشَّافِعِيَّة أَيْضا. الثَّانِي من الْأَحْكَام فِيهِ إكرام الْقبْلَة عَن المواجهة بِالنَّجَاسَةِ مُطلقًا تَعْظِيمًا لَهَا وَلَا سِيمَا عِنْد الْغَائِط وَالْبَوْل. الثَّالِث فِيهِ الْمُحَافظَة على الْأَدَب ومراعاته فِي كل حَال. الرَّابِع استنبط ابْن التِّين مِنْهُ منع اسْتِقْبَال النيرين فِي حَالَة الْغَائِط وَالْبَوْل وَكَأَنَّهُ قاسه على اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَلَيْسَ الْقيَاس بِظَاهِر على مَا لَا يخفى. (فروع) من آدَاب الِاسْتِنْجَاء الإبعاد إِذا كَانَ فِي براح من الأَرْض أَو ضرب حجاب أَو ستر وأعماق الْآبَار والحفائر وَأَن لَا يرفع ثَوْبه حَتَّى يدنو من الأَرْض جَاءَ ذَلِك فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الْأَعْمَش عَن أنس عَن أبي دَاوُد وتغطية الرَّأْس كَمَا كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَفْعَله وَترك الْكَلَام كَفعل عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ والاستنجاء باليسار وَغسل الْيَد بعد الْفَرَاغ بِالتُّرَابِ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه والاستجمار وَاجْتنَاب الروث والرمة وَأَن لَا يتَوَضَّأ فِي المغتسل لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يبولن أحدكُم فِي مغتسله وَينْزع خَاتمه إِذا كَانَ فِيهِ اسْم الله تَعَالَى رَوَاهُ النَّسَائِيّ وارتياد الْموضع الدمث وَأَن لَا يسْتَقْبل الشَّمْس وَالْقَمَر وَأَن لَا يَبُول قَائِما وَلَا فِي طَرِيق النَّاس وَلَا ظلهم وَلَا فِي المَاء الراكد ومساقط الثِّمَار وَصفَة الْأَنْهَار وَأَن يتكئ على رجله الْيُسْرَى وينثر ذكره ثَلَاثًا
(بَاب من تبرز على لبنتين)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من تبرز على لبنتين وَبَاب مَرْفُوع مُضَاف إِلَى مَا بعده وَكلمَة من مَوْصُولَة وتبرز صلتها على وزن تفعل من التبرز وَهُوَ التغوط وأصل التبرز الْخُرُوج إِلَى البرَاز للْحَاجة وَالْبرَاز بِفَتْح الْمُوَحدَة اسْم للفضاء الْوَاسِع من الأَرْض وكنوا بِهِ عَن حَاجَة الْإِنْسَان قَوْله لبنتين تَثْنِيَة لبنة بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَيجوز تسكينها أَيْضا مَعَ فتح اللَّام وَكسرهَا وَكَذَا كل مَا كَانَ على هَذَا الْوَزْن أَعنِي مَفْتُوح الأول مكسور الثَّانِي يجوز فِيهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة ككتف وَإِن كَانَ ثَانِيه أَو ثالثه حرف حلق جَازَ فِيهِ وَجه رَابِع وَهُوَ كسر الأول وَالثَّانِي كفخذ قَالَ الْجَوْهَرِي اللبنة واللبنة الَّتِي يبْنى بهَا وَالْجمع لبن مثل كلمة وكلم قيل اللبنة هِيَ الطوب قَالَه ابْن قرقول وَهُوَ الطوب النيء وَالَّذِي توقد عَلَيْهِ النَّار يُسمى بالآجر وَقَالَ بَعضهم اللبنة هِيَ مَا يصنع من الطين أَو غَيره للْبِنَاء قبل أَن يحرق قلت لَيْت شعري مَا معنى قَوْله أَو غَيره فَهَل تصنع اللبنة من غير الطين عَادَة. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر وَهُوَ أَن حَدِيث هَذَا الْبَاب مُخَصص لحَدِيث الْبَاب الأول على رَأْي البُخَارِيّ وَمن ذهب إِلَى مذْهبه فِي ذَلِك كَمَا ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ
11 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن عَمه وَاسع بن حبَان عَن عبد الله بن عمر أَنه كَانَ يَقُول إِن نَاسا يَقُولُونَ إِذا قعدت على حَاجَتك فَلَا تسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا بَيت الْمُقَدّس فَقَالَ عبد الله بن عمر لقد ارتقيت يَوْمًا على ظهر بَيت لنا فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على لبنتين مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لَعَلَّك من الَّذين يصلونَ على أوراكهم فَقلت لَا أَدْرِي وَالله قَالَ مَالك يَعْنِي(2/279)
الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يرْتَفع عَن الأَرْض يسْجد وَهُوَ لاصق بِالْأَرْضِ) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم على لبنتين مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عبد الله بن يُوسُف التنيسِي وَقد تقدم الثَّانِي الإِمَام مَالك بن أنس وَقد تكَرر ذكره الثَّالِث يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي وَقد تقدم. الرَّابِع مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْأنْصَارِيّ النجاري بالنُّون وَالْجِيم الْمَازِني كَانَ لَهُ حَلقَة فِي مَسْجِد رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ مفتيا ثِقَة كثير الحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس عَم مُحَمَّد بن يحيى وَهُوَ وَاسع بن حبَان بِالْفَتْح الْأنْصَارِيّ النجاري الْمَازِني الثِّقَة قيل أَن لَهُ رِوَايَة فَلذَلِك ذكر فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَأَبوهُ حبَان هُوَ ابْن منقذ بن عَمْرو لَهُ ولأبيه صُحْبَة. السَّادِس عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار. وَمِنْهَا أَن هَذَا الْإِسْنَاد كُله على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَالْأَرْبَعَة إِلَّا عبد الله بن يُوسُف فَإِنَّهُ من رجال البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. وَمِنْهَا أَنهم كلهم مدنيون سوى عبد الله فَإِنَّهُ مصري تنيسي بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد النُّون. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض يحيى بن سعيد وَمُحَمّد بن يحيى وواسع بن حبَان. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ على قَول من يعد وَاسِعًا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن يزِيد بن هرون عَن يحيى بن سعيد وَفِيه وَفِي الْخمس أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله بن عمر عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن بشر عَن عبيد الله وَأَبُو دَاوُد فِيهِ أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا فِيهِ عَن هناد عَن عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وللنسائي أَيْضا فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَابْن ماجة أَيْضا فِيهِ عَن أبي بكر بن خَلاد وَمُحَمّد بن يحيى كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن هَارُون بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار عَن عبد الحميد بن حبيب عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ يزِيد بَعضهم على بعض (بَيَان اللُّغَات) قَوْله بَيت الْمُقَدّس فِيهِ لُغَتَانِ مشهورتان فتح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر الدَّال المخففة وَضم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَالدَّال الْمُشَدّدَة والمشدد مَعْنَاهُ المطهر والمخفف لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مصدرا أَو مَكَانا وَمَعْنَاهُ بَيت الْمَكَان الَّذِي جعل فِيهِ الطَّهَارَة وتطهيره أخلاؤه من الْأَصْنَام وأبعاده مِنْهَا أَو من الْقُلُوب قَوْله ارتقيت مَعْنَاهُ صعدت من رقيت فِي السّلم بِالْكَسْرِ رقيا ورقيا إِذا صعدت وَهَذِه هِيَ اللُّغَة الفصيحة الْمَشْهُورَة وَحكى صَاحب الْمطَالع لغتين أُخْرَيَيْنِ إِحْدَاهمَا فتح الْقَاف بِغَيْر همز وَالْأُخْرَى فتحهَا مَعَ الْهمزَة قَوْله أوراكهم جمع ورك قَالَ الْكرْمَانِي وَهُوَ مَا بَين الفخذين قلت لَيْسَ كَذَلِك بل الوركان مَا قَالَه الْأَصْمَعِي الوركان العظمان على طرف عظم الفخذين وَفِي الْعباب الورك الورك الورك كفخذ وفخذ وفخذ وَهِي مُؤَنّثَة (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله كَانَ فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن وَقَوله يَقُول فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر كَانَ وَقَوله أَن نَاسا بِكَسْر الْهمزَة مقول القَوْل وَقَوله يَقُولُونَ فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن قَوْله وَلَا بَيت الْمُقَدّس بِالنّصب عطف على قَوْله الْقبْلَة وَالْإِضَافَة فِيهِ إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته نَحْو مَسْجِد الْجَامِع قَوْله لقد ارتقيت اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف قَوْله يَوْمًا نصب على الظّرْف وَقَوله على ظهر بَيت يتَعَلَّق بقوله ارتقيت قَوْله فَرَأَيْت عطف على قَوْله ارتقيت وَهُوَ بِمَعْنى أَبْصرت فَلَا يَقْتَضِي إِلَّا مَفْعُولا وَاحِدًا قَوْله على لبنتين فِي مَحل النصب على الْحَال من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَكَذَا قَوْله مُسْتَقْبلا حَال مِنْهُ وَيجوز أَن يَكُونَا حَالين مترادفتين ومتداخلتين قَوْله بَيت الْمُقَدّس كَلَام إضافي مَنْصُوب بقوله مُسْتَقْبل وَاللَّام فِي لِحَاجَتِهِ للتَّعْلِيل وَيجوز أَن تكون للتوقيت أَي وَقت حَاجته قَوْله يسْجد جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَكَذَا قَوْله وَهُوَ لاصق بِالْأَرْضِ جملَة وَقعت حَالا(2/280)
(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله أَنه كَانَ أَي أَن وَاسِعًا كَانَ يَقُول كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَقَالَ ابْن بطال أما قَول ابْن عمر أَن نَاسا يَقُولُونَ إِلَى آخِره قلت هَذَا يدل على أَن الضَّمِير فِي قَوْله أَنه كَانَ يعود إِلَى عبد الله بن عمر وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا جعل ابْن بطال أَن نَاسا مَفْعُولا لِابْنِ عمر لَا لواسع والسياق لَا يساعده قلت الصَّوَاب مَعَ ابْن بطال على مَا لَا يخفى وَقَالَ الْخطابِيّ قد يتَوَهَّم السَّامع من قَول ابْن عمر أَن نَاسا يَقُولُونَ إِلَى آخِره فَهَذَا أَيْضا يُؤَيّد تَفْسِير ابْن بطال فَافْهَم قَوْله أَن نَاسا كَانُوا يَقُولُونَ أَرَادَ بِالنَّاسِ هَؤُلَاءِ من كَانَ يَقُول بِعُمُوم النَّهْي فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها عِنْد الْحَاجة فِي الصَّحرَاء والبنيان وهم أَمْثَال أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَأبي هُرَيْرَة وَمَعْقِل الْأَسدي وَغَيرهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَوْله إِذا قعدت ذكر الْقعُود لكَونه الْغَالِب وَإِلَّا فحال الْقيام كَذَلِك قَوْله على حَاجَتك كِنَايَة عَن التبرز قَوْله على ظهر بَيت لنا وَفِي رِوَايَة يزِيد عَن يحيى الْآتِيَة على ظهر بيتنا وَفِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر الْآتِيَة على ظهر بَيت حَفْصَة يَعْنِي أُخْته كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم قَوْله مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس وَفِي رِوَايَة تَأتي عَن قريب مُسْتَقْبل الشَّام مستدبر الْكَعْبَة وَوَقع فِي صَحِيح ابْن حبَان مُسْتَقْبل الْقبْلَة مستدبر الشَّام وَكَأَنَّهُ مقلوب وَالله أعلم. فَإِن قلت كَيفَ نظر ابْن عمر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالة وَلَا يجوز ذَلِك قلت وَقعت مِنْهُ تِلْكَ اتِّفَاقًا من غير قصد لذَلِك فَنقل مَا رَآهُ وقصده ذَلِك لَا يجوز كَمَا لَا يتَعَمَّد الشُّهُود النّظر إِلَى الزِّنَا ثمَّ يجوز أَن يَقع أَبْصَارهم عَلَيْهِ ويتحملوا الشَّهَادَة بعد ذَلِك وَقَالَ الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يكون ابْن عمر قصد ذَلِك وَرَأى رَأسه دون مَا عداهُ من بدنه ثمَّ تَأمل قعوده فَعرف كَيفَ هُوَ جَالس ليستفيد فعله فَنقل مَا شَاهد قَوْله وَقَالَ أَي ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَوْله لَعَلَّك الْخطاب فِيهِ لواسع أَي لَعَلَّك من الَّذين لَا يعْرفُونَ السّنة إِذْ لَو كنت عَارِفًا بِالسنةِ لعرفت جَوَاز اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس وَلما الْتفت إِلَى قَوْلهم وَإِنَّمَا كنى عَن الْجَاهِلين بِالسنةِ بالذين يصلونَ على أوراكهم لِأَن الْمُصَلِّي على الورك لَا يكون إِلَّا جَاهِلا بِالسنةِ وَإِلَّا لما صلى عَلَيْهِ وَالسّنة فِي السُّجُود التخوية أَي لَا يلصق الرجل بِالْأَرْضِ بل يرفع عَنْهَا قَوْله فَقلت لَا أَدْرِي أَي قَالَ وَاسع لَا أَدْرِي أَنا مِنْهُم أم لَا وَلَا أَدْرِي السّنة فِي اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس قَوْله قَالَ مَالك إِلَى آخِره تَفْسِير الصَّلَاة على الورك وَهُوَ اللصوق بِالْأَرْضِ حَالَة السُّجُود قَوْله قَالَ مَالك إِلَى آخِره إِن كَانَ من قَول البُخَارِيّ نَقله عَنهُ يكون تَعْلِيقا وَإِن كَانَ من قَول عبد الله يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد الْمَذْكُور (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَق وَآخَرُونَ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من جَوَاز اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها عِنْد قَضَاء الْحَاجة فِي الْبُنيان وَأَنه مُخَصص لعُمُوم النَّهْي كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق وَمِنْهُم من رأى هَذَا الحَدِيث نَاسِخا لحَدِيث أبي أَيُّوب الْمَذْكُور واعتقد الْإِبَاحَة مُطلقًا وقاس الِاسْتِقْبَال على الاستدبار وَترك حكم تَخْصِيصه بالبنيان وَرَأى أَنه وصف ملغى الِاعْتِبَار وَمِنْهُم من رأى الْعَمَل بِحَدِيث أبي أَيُّوب وَمَا فِي مَعْنَاهُ واعتقد هَذَا خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهُم من جمع بَينهمَا وأعملهما وَمِنْهُم من توقف فِي الْمَسْأَلَة قلت دَعْوَى النّسخ غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْجمع وَهُوَ مُمكن كَمَا قد ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت قد ورد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا حَدِيث بَين فِيهِ وَجه النّسخ مُطلقًا رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد ثَنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن خَالِد الْحذاء عَن خَالِد بن أبي الصَّلْت عَن عرَاك بن مَالك عَنْهَا قَالَت ذكر عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قوم يكْرهُونَ أَن يستقبلوا الْقبْلَة بفروجهم فَقَالَ أَرَاهُم قد فعلوا استقبلوا بمقعدتي الْقبْلَة قلت فِي علل التِّرْمِذِيّ قَالَ مُحَمَّد هَذَا حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب وَالصَّحِيح عَن عَائِشَة قَوْلهَا وَقَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث سَاقِط لِأَن خَالِد بن أبي الصَّلْت مَجْهُول لَا يدْرِي من هُوَ وَأَخْطَأ فِيهِ عبد الرَّزَّاق فَرَوَاهُ عَن خَالِد الْحذاء عَن كثير بن أبي الصَّلْت وَهَذَا أبطل وأبطل لِأَن الْحذاء لم يدْرك كثيرا انْتهى كَلَامه قَوْله ابْن أبي الصَّلْت لَا يدْرِي من هُوَ غير مُسلم لِأَن ابْن حبَان ذكره فِي الثِّقَات وَلِأَن بخشلا ذكر أَنه كَانَ عينا لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ بواسط وَذكر من صَلَاحه وَدينه وَقَوله كثير بن أبي الصَّلْت لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا الْمَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَعند ابْن أبي حَاتِم فِي كِتَابه الْجرْح وَالتَّعْدِيل كثير بن الصَّلْت وَكَذَا ذكره أَبُو عمر العسكري وَابْن حبَان وَابْن مَنْدَه والبارودي وَآخَرُونَ وَلَعَلَّ ذَلِك يكون من خطأ عبد الرَّزَّاق فِيهِ وَقَالَ الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله أحسن مَا روى فِي الرُّخْصَة حَدِيث عرَاك وَإِن كَانَ مُرْسلا فَإِن مخرجه(2/281)
حسن وَفِي الْمَرَاسِيل عَنهُ هَذَا حَدِيث مُرْسل وَأنكر أَن يكون عرَاك سمع عَائِشَة وَقَالَ من أَيْن سمع عَائِشَة مَاله ولعائشة إِنَّمَا يروي عَن عُرْوَة هَذَا خطأ فَمن روى هَذَا قبل حَمَّاد بن سَلمَة عَن خَالِد فَقَالَ غير وَاحِد عَن خَالِد لَيْسَ فِيهِ سَمِعت وَغير وَاحِد أَيْضا عَن حَمَّاد وَلَيْسَ فِيهِ سَمِعت قلت أَبُو عبد الله لم يجْزم بِعَدَمِ سَمَاعه مِنْهَا إِنَّمَا ذكره استبعادا وَأما رِوَايَته عَن عُرْوَة عَنْهَا فَلَا يدل على عدم سَمَاعه مِنْهَا لَا سِيمَا وَقد جَمعهمَا بلد وعصر وَاحِد فسماعه مِنْهَا مُمكن جَائِز وَقد صرح فِي الْكَمَال والتهذيب بِسَمَاعِهِ مِنْهَا وَقد وجدنَا مُتَابعًا لحماد على قَوْله عَن عرَاك سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ عَليّ بن عَاصِم عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ وصحيح ابْن حبَان وَهُوَ مِنْهُمَا مَحْمُول على الِاتِّصَال حَتَّى يقوم دَلِيل وَاضح بِعَدَمِ سَمَاعه عَنْهَا وَالله أعلم الثَّانِي من الْأَحْكَام اسْتِعْمَال الْكِنَايَة بِالْحَاجةِ عَن الْبَوْل وَالْغَائِط وَجَوَاز الْإِخْبَار عَن مثل ذَلِك للاقتداء وَالْعَمَل الثَّالِث فِي قَوْله أَن نَاسا يَقُولُونَ دَلِيل على أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم يَخْتَلِفُونَ فِي مَعَاني السّنَن وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم يسْتَعْمل مَا سمع على عُمُومه فَمن هَهُنَا وَقع بَينهم الِاخْتِلَاف وَقَالَ الْخطابِيّ قد يتَوَهَّم السَّامع من قَول ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن نَاسا يَقُولُونَ الخ أَنه يُرِيد إِنْكَار مَا روى فِي النَّهْي من اسْتِقْبَال الْقبْلَة عِنْد الْحَاجة نسخا لما حَكَاهُ من رُؤْيَته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يقْضِي حَاجته مستدبر الْقبْلَة وَلَيْسَ الْأَمر فِي ذَلِك على مَا يتَوَهَّم لِأَن الْمَشْهُور من مذْهبه أَنه لَا يجوز الِاسْتِقْبَال والاستدبار فِي الصَّحرَاء ويجيزهما فِي الْبُنيان وَإِنَّمَا أنكر قَول من يزْعم أَن الِاسْتِقْبَال فِي الْبُنيان غير جَائِز وَلذَلِك مثل لما شَاهد من قعوده فِي الْأَبْنِيَة قلت ظَاهر عبارَة الْكَلَام يدل على إِنْكَار ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على من يزْعم أَن اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس عِنْد الْحَاجة غير جَائِز فَمن ذَلِك قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نَاسخ للنَّهْي عَن اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس واستدباره وَالدَّلِيل على هَذَا مَا روى مَرْوَان الْأَصْغَر عَن ابْن عمر أَنه أَنَاخَ رَاحِلَته مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس ثمَّ جلس يَبُول إِلَيْهَا فَقلت يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن أَلَيْسَ قد نهى عَن هَذَا قَالَ إِنَّمَا نهى عَن هَذَا فِي الفضاء وَأما إِذا كَانَ بَيْنك وَبَين الْقبْلَة شَيْء يسترك فَلَا بَأْس الرَّابِع فِيهِ تتبع أَحْوَال النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كلهَا ونقلها وَأَنَّهَا كلهَا أَحْكَام شَرْعِيَّة
(بَاب خُرُوج النِّسَاء إِلَى البرَاز)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان خُرُوج النِّسَاء إِلَى البرَاز وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة اسْم للفضاء الْوَاسِع من الأَرْض ويكنى بِهِ عَن الْحَاجة وَقَالَ الْخطابِيّ وَأكْثر الروَاة يَقُولُونَ بِكَسْر الْبَاء وَهُوَ غلط لِأَن البرَاز بِالْكَسْرِ مصدر بارزت الرجل مبارزة وبرازا وَقَالَ بَعضهم قلت بل هُوَ موجه لِأَنَّهُ يُطلق بِالْكَسْرِ على نفس الْخَارِج قَالَ الْجَوْهَرِي البرَاز المبارزة فِي الْحَرْب وَالْبرَاز أَيْضا كِنَايَة عَن ثفل الْغذَاء وَهُوَ الْغَائِط وَالْبرَاز بِالْفَتْح الفضاء الْوَاسِع انْتهى فعلى هَذَا من فتح أَرَادَ الفضاء وَهُوَ من إِطْلَاق اسْم الْمحل على الْحَال كَمَا تقدم مثله فِي الْغَائِط وَمن كسر أَرَادَ نفس الْخَارِج انْتهى قلت الَّذِي قَالَه غير موجه والتوجيه مَعَ الْخطابِيّ قَالَ فِي الْعباب قَالَ ابْن الْأَعرَابِي برز بِكَسْر الرَّاء إِذا ظهر بعد خمول وبرز بِفَتْحِهَا إِذا خرج إِلَى البرَاز للغائط وَهُوَ الفضاء الْوَاسِع قَالَ الْفراء هُوَ الْموضع الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خمر من شجر وَلَا غَيره وَالْبرَاز الْحَاجة سميت باسم الصَّحرَاء كَمَا سميت بالغائط وَمِنْه حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث. البرَاز فِي الْمَوَارِد. وقارعة الطَّرِيق. والظل والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن فِي الأول حكم التبرز وَهنا حكم البرَاز
12 - (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث قَالَ حَدثنِي عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كن يخْرجن بِاللَّيْلِ إِذا تبرزن إِلَى المناصع وَهُوَ صَعِيد أفيح فَكَانَ عمر يَقُول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احجب نِسَاءَك فَلم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل فَخرجت سَوْدَة بنت زَمعَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة من اللَّيَالِي عشَاء وَكَانَت امْرَأَة طَوِيلَة فناداها عمر أَلا قد عرفناك يَا سَوْدَة حرصا على أَن ينزل الْحجاب فَأنْزل الله آيَة الْحجاب)(2/282)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِذا تبرزن إِلَى المناصع وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب إِلَى أَن تبرز النِّسَاء إِلَى البرَاز كَانَ أَولا لعدم الكنف فِي الْبيُوت وَكَانَ رخصَة لَهُنَّ ثمَّ لما اتَّخذت الكنف فِي الْبيُوت منعن عَن الْخُرُوج مِنْهَا إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَعقد على ذَلِك الْبَاب الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة تقدم ذكرهم بِهَذَا التَّرْتِيب فِي كتاب الْوَحْي وَعقيل بِضَم الْعين وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ صِيغَة التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ تابعيين ابْن شهَاب وَعُرْوَة وقرينين اللَّيْث وَعقيل. وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني وَمِنْهَا أَن هَذَا الْإِسْنَاد على شَرط السِّتَّة إِلَّا يحيى فَإِنَّهُ على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله إِذا تبرزن أَي إِذا خرجن إِلَى البرَاز للبول وَالْغَائِط فأصله من تبرز بِفَتْح عين الْفِعْل إِذا خرج إِلَى البرَاز للغائط وَهُوَ الفضاء الْوَاسِع قَوْله إِلَى المناصع جمع منصع مفعل من النصوع وَهُوَ الخلوص والناصع الْخَالِص من كل شَيْء يُقَال نصع ينصع نصاعة ونصوعا وَيُقَال أَبيض ناصع وأصفر ناصع قَالَ الْأَصْمَعِي كل ثَوْر خَالص الْبيَاض أَو الصُّفْرَة أَو الْحمرَة فَهُوَ ناصع وَفِي الْعباب المناصع الْمجَالِس فِيمَا يُقَال وَقَالَ أَبُو سعيد المناصع الْمَوَاضِع الَّتِي يتخلى فِيهَا لبول أَو لغائط الْوَاحِد منصع بِفَتْح الصَّاد وَقَالَ الْأَزْهَرِي أَرَاهَا مَوَاضِع خَارج الْمَدِينَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هِيَ الْمَوَاضِع الَّتِي يتخلى فِيهَا للْحَاجة وَكَانَ صَعِيدا أفيح خَارج الْمَدِينَة يُقَال لَهُ المناصع والصعيد وَجه الأَرْض وَقد فسره فِي الحَدِيث بقوله وَهُوَ صَعِيد أفيح والأفيح بِالْفَاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة الْوَاسِع وَزَاد فيحا أَي وسعة وَقَالَ الصغاني بَحر أفيح بَين الفيح أَي وَاسع وبحر فياح أَيْضا بِالتَّشْدِيدِ وَقَالَ الْأَصْمَعِي أَنه لجواد فياح وفياض بِمَعْنى وَاحِد قلت كَأَنَّهُ سمى بالمناصع لخلوصه عَن الْأَبْنِيَة والأماكن (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله كن جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر أَن قَوْله يخْرجن جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر كَانَ وَالْبَاء فِي بِاللَّيْلِ ظرفية وَكلمَة إِذا ظرفية قَوْله إِلَى المناصع جَار ومجرور يتَعَلَّق بقوله يخْرجن قَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بقوله تبرزن قلت احْتِمَال بعيد قَوْله وَهُوَ مُبْتَدأ وَقَوله صَعِيد أفيح صفة وموصوف خَبره قَوْله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب أَيْضا لِأَنَّهَا خبر كَانَ قَوْله احجب نِسَاءَك مقول القَوْل قَوْله يَفْعَلُوا جملَة فِي مَحل النصب أَيْضا لِأَنَّهَا خبر كَانَ قَوْله بنت زَمعَة كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة لسودة وَقَوله زوج النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَلَام إضافي أَيْضا مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة أُخْرَى لسودة قَوْله لَيْلَة نصب على الظّرْف قَوْله عشَاء هُوَ بِكَسْر الْعين وبالمد نصب على أَنه بدل من قَوْله لَيْلَة قَوْله أَلا بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام حرف استفتاح يُنَبه بهَا على تحقق مَا بعْدهَا قَوْله يَا سَوْدَة منادى مُفْرد معرفَة وَلِهَذَا يبْنى على الضَّم قَوْله حرصا نصب على أَنه مفعول لَهُ وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله فناداها قَوْله على أَن ينزل على صِيغَة الْمَجْهُول وَأَن مَصْدَرِيَّة (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله وَهُوَ صَعِيد أفيح تَفْسِير لقَوْله إِلَى المناصع وَقَالَ بَعضهم الظَّاهِر أَن التَّفْسِير مقول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قلت لَا دَلِيل على الظَّاهِر وَإِنَّمَا هُوَ يحْتَمل أَن يكون مِنْهَا أَو من عُرْوَة أَو مِمَّن دونه من الروَاة قَوْله احجب نِسَاءَك أَي امنعهن من الْخُرُوج من الْبيُوت وَسِيَاق الْكَلَام يدل على هَذَا الْمَعْنى وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ أَولا الْأَمر بستر وجوههن فَلَمَّا وَقع الْأَمر بوفق مَا أَرَادَ أحب أَيْضا أَن يحجب أشخاصهن مُبَالغَة فِي التستر فَلم يجب لأجل الضَّرُورَة وَهَذَا أظهر الِاحْتِمَالَيْنِ قلت لَيْسَ الْأَظْهر إِلَّا مَا قُلْنَا بِشَهَادَة سِيَاق الْكَلَام وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره لَا يدل عَلَيْهِ هَذَا الحَدِيث وَإِنَّمَا الَّذِي يدل عَلَيْهِ هُوَ حَدِيث آخر وَذَلِكَ لِأَن الْحجب ثَلَاثَة الأول الْأَمر بستر وجوههن يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} الْآيَة قَالَ القَاضِي عِيَاض والحجاب الَّذِي خص بِهِ خلاف أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ هُوَ فرض عَلَيْهِنَّ بِلَا خلاف فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَلَا يجوز لَهُنَّ كشف ذَلِك لشهادة وَلَا لغَيْرهَا الثَّانِي هُوَ الْأَمر بإرخاء الْحجاب بَينهُنَّ وَبَين النَّاس يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} الثَّالِث هُوَ الْأَمر بمنعهن من الْخُرُوج من الْبيُوت إِلَّا لضَرُورَة شَرْعِيَّة فَإِذا(2/283)
خرجن لَا يظهرن شخصهن كَمَا فعلت حَفْصَة يَوْم مَاتَ أَبوهَا سترت شخصها حِين خرجت وَزَيْنَب عملت لَهَا قبَّة لما توفيت وَكَانَ لَهُنَّ فِي التستر عِنْد قَضَاء الْحَاجة ثَلَاث حالات الأولى بالظلمة لِأَنَّهُنَّ كن يخْرجن بِاللَّيْلِ دون النَّهَار كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث كن يخْرجن بِاللَّيْلِ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة الْإِفْك فَخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وَهُوَ متبرزنا وَكُنَّا لَا نخرج إِلَّا لَيْلًا الحَدِيث ثمَّ نزل الْحجاب فتسترن بالثياب لَكِن رُبمَا كَانَت أشخاصهن تتَمَيَّز وَلِهَذَا قَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قد عرفناك يَا سَوْدَة وَهَذِه هِيَ الْحَالة الثَّانِيَة ثمَّ لما اتَّخذت الكنف فِي الْبيُوت منعن عَن الْخُرُوج مِنْهَا وَهِي الْحَالة الثَّالِثَة فَدلَّ عَلَيْهِ حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة الْإِفْك فَإِن فِيهَا وَذَلِكَ قبل أَن تتَّخذ الكنف وَكَانَت قصَّة الْإِفْك قبل نزُول آيَة الْحجاب وَالله أعلم قَوْله سَوْدَة بنت زَمعَة بالزاي وَالْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحتين وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَأكْثر مَا سمعنَا من أهل الحَدِيث وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَهُ بِسُكُون الْمِيم ابْن قيس القريشية العامرية أسلمت قَدِيما وبايعت وَكَانَت تَحت ابْن عَم لَهَا يُقَال لَهُ السَّكْرَان بن عَمْرو أسلم مَعهَا وهاجرا جَمِيعًا إِلَى الْحَبَشَة فَلَمَّا قدم مَكَّة مَاتَ زَوجهَا فَتَزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدخل بهَا بِمَكَّة وَذَلِكَ بعد موت خَدِيجَة قبل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة فَلَمَّا كَبرت أَرَادَ طَلاقهَا فَسَأَلته أَن لَا يفعل وَجعلت يَوْمهَا لعَائِشَة فَأَمْسكهَا رُوِيَ لَهَا خَمْسَة أَحَادِيث أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا حديثين توفيت آخر خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَقيل زمن مُعَاوِيَة سنة أَربع وَخمسين بِالْمَدِينَةِ قَوْله فَأنْزل الله الْحجاب وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فَأنْزل الله آيَة الْحجاب وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه من طَرِيق الزبيدِيّ عَن ابْن شهَاب فَأنْزل الله الْحجاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي} الْآيَة وَقَالَ الْكرْمَانِي الْحجاب أَي حكم الْحجاب يَعْنِي حجاب النِّسَاء عَن الرِّجَال فَأنْزل الله آيَة الْحجاب وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِآيَة الْحجاب الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْآيَات الثَّلَاث قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} وَقَوله تَعَالَى {وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ} الْآيَة وَأَن يُرَاد بِهِ الْعَهْد من وَاحِدَة من هَذِه الثَّلَاث قلت رِوَايَة أبي عوَانَة الْمَذْكُورَة فسرت المُرَاد من آيَة الْحجاب صَرِيحًا كَمَا ذكرنَا وَسبب نُزُولهَا قصَّة زَيْنَب بنت جحش لما أولم عَلَيْهَا وَتَأَخر النَّفر الثَّلَاثَة فِي الْبَيْت واستحيى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ فَنزلت آيَة الْحجاب وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِير الْأَحْزَاب وَسَيَأْتِي أَيْضا حَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت يَا رَسُول الله إِن نِسَاءَك يدخلن عَلَيْهِنَّ الْبر والفاجر فَلَو أمرتهن أَن يحتجبن فَنزلت آيَة الْحجاب وروى ابْن جرير فِي تَفْسِيره من طَرِيق مُجَاهِد قَالَ بَينا النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَأْكُل وَمَعَهُ بعض أَصْحَابه وَعَائِشَة تَأْكُل مَعَهم إِذْ أَصَابَت يَد رجل مِنْهُم يَدهَا فكره النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِك فَنزلت آيَة الْحجاب فَإِن قلت مَا طَريقَة الْجمع بَين هَذِه قلت أَسبَاب نزُول الْحجاب تعدّدت وَكَانَت قصَّة زَيْنَب آخرهَا للنَّص على قصَّتهَا فِي الْآيَة وَقَالَ التَّيْمِيّ الْحجاب هُنَا استتارهن بالثياب حَتَّى لَا يرى مِنْهُنَّ شَيْء عِنْد خروجهن وَأما الْحجاب الثَّانِي فَهُوَ إرخاؤهن الْحجاب بَينهُنَّ وَبَين النَّاس قلت رِوَايَة أبي عوَانَة تخدش هَذَا الْكَلَام على مَا لَا يخفى ثمَّ اعْلَم أَن الْحجاب كَانَ فِي السّنة الْخَامِسَة فِي قَول قَتَادَة وَقَالَ أَبُو عبيد فِي الثَّالِثَة وَقَالَ ابْن إِسْحَق بعد أم سَلمَة وَعند ابْن سعيد فِي الرَّابِعَة فِي ذِي الْقعدَة (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول قَالَ ابْن بطال فِيهِ مُرَاجعَة الأدون للأعلى فِي الشَّيْء الَّذِي يتَبَيَّن لَهُ الثَّانِي فِيهِ فضل الْمُرَاجَعَة إِذا لم يقْصد بهَا التعنت فَإِنَّهُ قد يتَبَيَّن فِيهَا من الْعلم مَا خَفِي فَإِن نزُول الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ} الْآيَة كَانَ سَببه الْمُرَاجَعَة الثَّالِث فِيهِ فضل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِن الله تَعَالَى أيد بِهِ الدّين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَهَذِه من إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي وَافق فِيهَا نزُول الْقُرْآن قلت هَذِه إِحْدَى مَا وَافق فِيهَا ربه وَالثَّانيَِة فِي قَوْله {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} وَالثَّالِثَة {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} وَهَذِه الثَّلَاثَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيح. وَالرَّابِعَة مُوَافقَة فِي أسرى بدر. وَالْخَامِسَة فِي منع الصَّلَاة على الْمُنَافِقين وَهَاتَانِ فِي صَحِيح مُسلم. وَالسَّادِسَة مُوَافَقَته فِي آيَة الْمُؤمنِينَ وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده من حَدِيث عَليّ بن زيد وَافَقت رَبِّي لما نزلت {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَقلت أَنا {تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَنزلت. وَالسَّابِعَة مُوَافَقَته فِي تَحْرِيم الْخمر كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَالثَّامِنَة مُوَافَقَته(2/284)
فِي قَوْله {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته} الْآيَة ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قدمنَا فِي الْكتاب الْكَبِير أَنه وَافق ربه تَعَالَى تِلَاوَة وَمعنى فِي أحد عشر موضعا وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ مصححا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا نزل بِالنَّاسِ أَمر قطّ فَقَالُوا فِيهِ وَقَالَ عمر فِيهِ إِلَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن على نَحْو مَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع فِيهِ كَلَام الرِّجَال مَعَ النِّسَاء فِي الطّرق. الْخَامِس فِيهِ جَوَاز وعظ الْإِنْسَان أمه فِي الْبر لِأَن سَوْدَة من أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. السَّادِس فِيهِ جَوَاز الإغلاظ فِي القَوْل والعتاب إِذا كَانَ قَصده الْخَيْر فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قد عرفناك يَا سَوْدَة وَكَانَ شَدِيد الْغيرَة لَا سِيمَا فِي أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. السَّابِع فِي الْتِزَام النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ فِي قَول عمر رَضِي الله عَنهُ احجب نِسَاءَك وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يعلم أَن حجبهن خير من غَيره لكنه كَانَ يترقب الْوَحْي بِدَلِيل أَنه لم يُوَافق عمر رَضِي الله عَنهُ حِين أَشَارَ بذلك وَكَانَ ذَلِك من عَادَة الْعَرَب. الثَّامِن فِيهِ جَوَاز تصرف النِّسَاء فِيمَا لَهُنَّ حَاجَة إِلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أذن لَهُنَّ فِي الْخُرُوج إِلَى البرَاز بعد نزُول الْحجاب فَلَمَّا جَازَ ذَلِك لَهُنَّ جَازَ لَهُنَّ الْخُرُوج إِلَى غَيره من مصالحهن وَقد أَمر النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْخرُوجِ إِلَى الْعِيدَيْنِ وَلَكِن فِي هَذَا الزَّمَان لما كثر الْفساد وَلَا يُؤمن عَلَيْهِنَّ من الْفِتْنَة يَنْبَغِي أَن يمنعن من الْخُرُوج إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة وَالله تَعَالَى أعلم
13 - (حَدثنَا زَكَرِيَّاء قَالَ حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قد أذن أَن تخرجن فِي حاجتكن قَالَ هِشَام يَعْنِي البرَاز) مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الْبَاب مَعْقُود فِي خروجهن إِلَى البرَاز وَفِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَن الله تَعَالَى قد أذن لَهُنَّ بِالْخرُوجِ عَن بُيُوتهنَّ إِلَى البرَاز كَمَا يَجِيء هَذَا الحَدِيث فِي التَّفْسِير مطولا أَن سَوْدَة خرجت بعد مَا ضرب الْحجاب لحاجتها وَكَانَت عَظِيمَة الْجِسْم فرآها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا سَوْدَة أما وَالله مَا تخفين علينا فانظري كَيفَ تخرجين فَرَجَعت فشكت ذَلِك للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ يتعشى فَأوحى إِلَيْهِ فَقَالَ أَنه قد أذن لَكِن أَن تخرجن لحاجتكن. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول زَكَرِيَّا بن يحيى بن صَالح اللؤْلُؤِي أَبُو يحيى الْبَلْخِي الْحَافِظ الْفَقِيه المُصَنّف فِي السّنة مَاتَ بِبَغْدَاد وَدفن عِنْد قُتَيْبَة بن سعيد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة الْكُوفِي وَقد مر. الثَّالِث هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع أَبُو عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن زَكَرِيَّا بن يحيى الْمَذْكُور وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة بِهِ (بَيَان مَا فِيهِ من الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى) قَوْله قد أذن مقول القَوْل وَفِي بعض النّسخ أذن بِلَا لَفْظَة قد وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول والآذن هُوَ الله تَعَالَى وَبنى الْفِعْل على صِيغَة الْمَجْهُول للْعلم بالفاعل قَوْله أَن تخرجن أَصله بِأَن تخرجن وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير بخروجكن وَكلمَة فِي مُتَعَلق بِهِ قَوْله قَالَ هِشَام يَعْنِي ابْن عُرْوَة الْمَذْكُور وَهُوَ إِمَّا تَعْلِيق من البُخَارِيّ وَإِمَّا من مقول أبي أُسَامَة قَالَ الْكرْمَانِي قلت لم لَا يجوز أَن يكون مقول هِشَام أَو عُرْوَة قَوْله تَعْنِي البرَاز مقول القَوْل وَالضَّمِير فِي تَعْنِي يرجع إِلَى عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَرَادَ أَن عَائِشَة تقصد من قَوْلهَا تخرجن فِي حاجتكن البرَاز الْخُرُوج إِلَى البرَاز وانتصابه بقوله تَعْنِي وَقَالَ الدَّاودِيّ قَوْله قد أذن أَن تخرجن دَال على أَنه لم يرد هُنَا حجاب الْبيُوت فَإِن ذَلِك وَجه آخر إِنَّمَا أَرَادَ أَن يستترن بالجلباب حَتَّى لَا يَبْدُو مِنْهُنَّ إِلَّا الْعين قَالَت عَائِشَة كُنَّا نتأذى بالكنف وَكُنَّا نخرج إِلَى المناصع
(بَاب التبرز فِي الْبيُوت)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان التبرز فِي الْبيُوت عقب الْبَاب السَّابِق بِهَذَا الْبَاب لما ذكرنَا من أَن خُرُوج النِّسَاء إِلَى الصَّحرَاء لقَضَاء الْحَاجة إِنَّمَا كَانَ لأجل عدم الكنف فِي الْبيُوت فَلَمَّا اتَّخذت بعد ذَلِك الأخلية والكنف منعن عَن الْخُرُوج إِلَّا للضَّرُورَة الشَّرْعِيَّة والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لَا تخفى(2/285)
14 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنَا أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن وَاسع بن حبَان عَن عبد الله بن عمر قَالَ ارتقيت فَوق ظهر بَيت حَفْصَة لبَعض حَاجَتي فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْضِي حَاجته مستدبر الْقبْلَة مُسْتَقْبل الشأم) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِنْذَار وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الثَّانِي أنس بن عِيَاض أَبُو ضَمرَة اللَّيْثِيّ الْمدنِي ثِقَة عَالم روى عَن شُعْبَة وعدة وَعنهُ أَحْمد وأمم مَاتَ سنة مِائَتَيْنِ عَن سِتّ وَتِسْعين سنة وَهُوَ من الْأَفْرَاد لَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة أنس بن عِيَاض سواهُ. الثَّالِث عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب أَبُو عُثْمَان القريشي الْمدنِي روى عَن أَبِيه وَالقَاسِم وَسَالم وعدة وَيُقَال أَنه أدْرك أم خَالِد بنت خَالِد وَعنهُ خلق آخِرهم عبد الرَّزَّاق مَاتَ سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. الْخَامِس عَمه وَاسع بن حبَان كِلَاهُمَا تقدما فِي بَاب من تبرز على لبنتين. السَّادِس عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا أَن فِي رُوَاته ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض وهم عبيد الله بن عمر فَإِنَّهُ تَابِعِيّ صَغِير من فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة وأثباتهم وَمُحَمّد بن يحيى وواسع بن حبَان وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ على قَول من يعد وَاسِعًا من الصَّحَابَة (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) قد ذكرنَا فِي بَاب من تبرز على لبنتين تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره عَن قريب (بَيَان مَا فِيهِ من اللُّغَة وَالْإِعْرَاب وَالْمعْنَى) قَوْله ارتقيت أَي صعدت قَوْله يقْضِي حَاجته جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَرَأَيْت بِمَعْنى أَبْصرت فَلَا يَقْتَضِي إِلَّا مَفْعُولا وَاحِدًا قَوْله مستدبر الْقبْلَة نصب على الْحَال لَا يُقَال شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة لأَنا نقُول إِضَافَته لفظية لَا تفِيد التَّعْرِيف وَفَائِدَة ذكره التَّأْكِيد وَالتَّصْرِيح بِهِ وَإِلَّا فمستقبل الشَّام فِي الْمَدِينَة مستدبر الْقبْلَة قطعا فَإِن قلت قد قَالَ هَهُنَا فَوق ظهر بَيت حَفْصَة وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة عَن قريب على ظهر بيتنا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى وَقد مضيت على ظهر بَيت لنا فَمَا وَجه ذَلِك قلت بَيت حَفْصَة بَيته أَو كَانَ لَهَا بَيت فِي بَيت عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يعرف بهَا أَو صَار إِلَيْهَا بعد فَإِن قلت فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس وَكَذَا فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة مُسْتَقْبل الشَّام قلت الْعبارَة مُخْتَلفَة وَالْمعْنَى وَاحِد لِأَنَّهُمَا فِي جِهَة وَاحِدَة فَافْهَم
15 - (حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ أخبرنَا يحيى عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان أَن عَمه وَاسع بن حبَان أخبرهُ أَن عبد الله بن عمر أخبرهُ قَالَ لقد ظَهرت ذَات يَوْم على ظهر بيتنا فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعِدا على لبنتين مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس) الْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا قبله (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم أَبُو يُوسُف الدَّوْرَقِي وَقد تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان الثَّانِي يزِيد بن هَارُون وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وَهُوَ الْحَافِظ المتقن أحد الْأَعْلَام روى عَنهُ الذهلي وَخلق مَاتَ وَقد عمي سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ بواسط عَن ثَمَان وَثَمَانِينَ سنة وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة مشارك لَهُ فِي اسْمه وَاسم أَبِيه الثَّالِث يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي روى مَالك عَنهُ هَذَا الحَدِيث كَمَا تقدم الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس تكَرر ذكرهم (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء أَعْلَام وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين بَعضهم عَن بعض (بَيَان بَقِيَّة الْكَلَام) قَوْله لقد ظَهرت أَي عَلَوْت وارتقيت وَاللَّام وَقد فِيهِ للتَّأْكِيد قَوْله ذَات يَوْم مَعْنَاهُ يَوْمًا وَهُوَ من بَاب إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه أَي ظَهرت فِي زمَان هُوَ مُسَمّى لفظ الْيَوْم وَصَاحبه وَيحْتَمل أَن يكون من إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص أَي ظَهرت نفس الْيَوْم فَيُفِيد التَّأْكِيد أَي الْيَوْم فِي نَفسه وَإِنَّمَا لم يتَصَرَّف ذَات يَوْم وَذَات مرّة لأمرين أَحدهمَا أَن إضافتهما من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الِاسْم كَمَا ذكرنَا لِأَن معنى لقيتك(2/286)
ذَات مرّة وَذَات يَوْم قِطْعَة من الزَّمَان ذَات مرّة وَذَات يَوْم وَالْآخر أَن ذَات لَيْسَ لَهما تمكن فِي ظروف الزَّمَان لِأَنَّهُمَا ليسَا من أَسمَاء الزَّمَان وَزعم السُّهيْلي أَن ذَات مرّة وَذَات يَوْم لَا يتصرفان فِي لُغَة خثعم وَلَا غَيرهَا وَحكى عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه ادّعى جَوَاز التَّصَرُّف فِي ذَات فِي لُغَة خثعم قَوْله مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس نصب على الْحَال وَلم يَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة مستدبر الْقبْلَة أَي الْكَعْبَة كَمَا فِي رِوَايَة عبد الله بن عمر لِأَن ذَلِك من لَازم من اسْتقْبل الشَّام بِالْمَدِينَةِ وَأما ذكره فِي رِوَايَة عبد الله فقد ذكرنَا عَن قريب وَجهه فَافْهَم
(بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ قَالَ الْخطابِيّ الِاسْتِنْجَاء فِي اللُّغَة الذّهاب إِلَى النجوة من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة والنجوة المرتفعة من الأَرْض كَانُوا يستترون بهَا إِذا قعدوا للتخلي وَفِي الْمطَالع الِاسْتِنْجَاء إِزَالَة النجو وَهُوَ الْأَذَى الْبَاقِي فِي فَم الْمخْرج وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي المَاء وَقد يسْتَعْمل فِي الْأَحْجَار وَأَصله من النجو وَهُوَ القشر والإزالة وَقيل من النجوة لاستتارهم بِهِ وَقيل لارتفاعهم وتجافيهم عَن الأَرْض عِنْد ذَلِك وَقَالَ الْأَزْهَرِي عَن شمر الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ مَأْخُوذ من نجوت الشَّجَرَة وأنجيتها واستنجيتها إِذا قطعتها كَأَنَّهُ يقطع الْأَذَى عَنهُ بِالْمَاءِ أَو بِحجر يتمسح بِهِ قَالَ وَيُقَال استنجيت الْعقب إِذا خلصته من اللَّحْم ونقيته مِنْهُ وَقَالَ الْجَوْهَرِي استنجى مسح مَوضِع النجو أَو غسله والنجو مَا يخرج من الْبَطن واستنجى الْوتر أَي مد الْقوس وَأَصله الَّذِي يتَّخذ أوتار القسي لِأَنَّهُ يخرج مَا فِي المصارين من النجو وَيُقَال أنجى أَي أحدث ونجوت الْجلد من الْبَعِير وأنجيته إِذا سلخته وَفُلَان فِي أَرض نجاة يستنجي من شَجَرهَا العصي والقسي واستنجى النَّاس فِي كل وَجه أَي أَصَابُوا الرطب وَقَالَ الْأَصْمَعِي استنجيت النَّخْلَة إِذا التقطت رطبها قَالَ ونجوت غصون الشَّجَرَة أَي قطعتها وأنجيت غَيْرِي وَقَالَ أَبُو زيد استنجيت الشّجر قطعته من أَصله وأنجيت قَضِيبًا من الشّجر أَي قطعت. وَفِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء الِاسْتِنْجَاء إِزَالَة النجو من أحد المخرجين بِالْحجرِ أَو بِالْمَاءِ فَإِن قلت الاستفعال للطلب فَيكون مَعْنَاهُ طلب النجو قلت الاستفعال قد جَاءَ أَيْضا لطلب الْمَزِيد فِيهِ نَحْو الاستعتاب فَإِنَّهُ لَيْسَ لطلب العتب بل لطلب الأعتاب والهمزة فِيهِ للسلب فَكَذَا هَذَا هُوَ لطلب الإنجاء وَتجْعَل الْهمزَة للسلب والإزالة وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى
16 - ((2/287)
(بَاب من حمل مَعَه المَاء لطهوره)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من حمل مَعَه المَاء لِأَن يتَطَهَّر بِهِ وَالطهُور هَهُنَا بِضَم الطَّاء لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمصدر وَأما الطّهُور بِفَتْح الطَّاء فَهُوَ اسْم للْمَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ وَقد حكى الْفَتْح فيهمَا وَكَذَا حكى الضَّم فيهمَا وَلَكِن بِالضَّمِّ هَهُنَا كَمَا ذكرنَا على اللُّغَة الْمَشْهُورَة وَفِي بعض النّسخ لطهور بِدُونِ الضَّمِير فِي آخِره. وَالطَّهَارَة فِي اللُّغَة النَّظَافَة والتنزه. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء أَلَيْسَ فِيكُم صَاحب النَّعْلَيْنِ وَالطهُور والوساد)(2/290)
هَذَا تَعْلِيق أخرجه مَوْصُولا فِي المناقب حَدثنَا مُوسَى عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة دخلت الشَّام فَصليت رَكْعَتَيْنِ فَقلت اللَّهُمَّ يسر لي جَلِيسا صَالحا فَرَأَيْت شَيخا مُقبلا فَلَمَّا دنا قلت أَرْجُو أَن يكون اسْتَجَابَ قَالَ مِمَّن أَنْت قلت من أهل الْكُوفَة قَالَ أفلم يكن فِيكُم صَاحب النَّعْلَيْنِ والوساد والمطهرة الحَدِيث وَأَرَادَ بِإِخْرَاج طرف هَذَا الحَدِيث هَهُنَا مَعَ حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ التَّنْبِيه على مَا ترْجم عَلَيْهِ من حمل المَاء إِلَى الكنيف لأجل التطهر وَأَبُو الدَّرْدَاء اسْمه عُوَيْمِر بن مَالك بن عبد الله بن قيس وَيُقَال عُوَيْمِر بن زيد بن قيس الْأنْصَارِيّ من أفاضل الصَّحَابَة وَفرض لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ رزقا فألحقه بالبدريين لجلالته وَولي قَضَاء دمشق فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَاتَ سنة إِحْدَى أَو اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وقبره بِالْبَابِ الصَّغِير بِدِمَشْق قَوْله أَلَيْسَ فِيكُم الْخطاب فِيهِ لأهل الْعرَاق وَيدخل فِيهِ عَلْقَمَة بن قيس قَالَ لَهُم حِين كَانُوا يسألونه مسَائِل وَأَبُو الدَّرْدَاء كَانَ يكون بِالشَّام أَي لم لَا تسْأَلُون من عبد الله بن مَسْعُود هُوَ فِي الْعرَاق وَبَيْنكُم لَا يحْتَاج الْعِرَاقِيُّونَ مَعَ وجوده إِلَى أهل الشَّام وَإِلَى مثلي قَوْله صَاحب النَّعْلَيْنِ أَي صَاحب نَعْلي رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن عبد الله كَانَ يَلْبسهُمَا إِيَّاه إِذا قَامَ فَإِذا جلس أدخلهما فِي ذِرَاعَيْهِ وَإسْنَاد النَّعْلَيْنِ إِلَيْهِ مجَاز لأجل الملابسة وَفِي الْحَقِيقَة صَاحب النَّعْلَيْنِ هُوَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله وَالطهُور هُوَ بِفَتْح الطَّاء لَا غير قطعا إِذْ المُرَاد صَاحب المَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله والوساد بِكَسْر الْوَاو وبالسين الْمُهْملَة وَفِي آخِره دَال وَفِي الْمطَالع قَوْله صَاحب الوساد والمطهرة يَعْنِي عبد الله بن مَسْعُود كَذَا فِي البُخَارِيّ من غير خلاف فِي كتاب الطَّهَارَة وَفِي رِوَايَة مَالك بن إِسْمَاعِيل ويروي الوسادة أَو السوَاد بِكَسْر السِّين وَكَانَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يمشي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ انْصَرف ويخدمه وَيحمل مطهرته وسواكه ونعليه وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَلَعَلَّهُ أَيْضا كَانَ يحمل وسَادَة إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَأما أَبُو عمر فَإِنَّهُ يَقُول كَانَ يعرف بِصَاحِب السوَاد أَي صَاحب السِّرّ لقَوْله آذنك على أَن ترفع الْحجاب وَتسمع سوَادِي انْتهى كَلَامه وَقَالَ الْكرْمَانِي وَلَعَلَّ السوَاد والوسادة هما بِمَعْنى وَاحِد وكأنهما من بَاب الْقلب وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنه رَضِي الله عَنهُ صَاحب الْأَسْرَار يُقَال ساودته مساودة وسوادا أَي ساررته وَأَصله إدناء سوادك من سوَاده وَهُوَ الشَّخْص وَيحْتَمل أَن يحمل على معنى المخدة لكنه لم يثبت قلت تصرف اللَّفْظ على احْتِمَال مَعَاني لَا يحْتَاج إِلَى الثُّبُوت وَقَالَ الصغاني ساودت الرجل أَي ساررته وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ آذنك على أَن ترفع الْحجاب وَتسمع سوَادِي حَتَّى أَنهَاك أَي سراري وَهُوَ من إدناء السوَاد من السوَاد أَي الشَّخْص من الشَّخْص وَقَالَ والوساد والوسادة المخدة وَالْجمع وسد ووسائد
17 - (حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي معَاذ هُوَ عَطاء بن أبي مَيْمُونَة قَالَ سَمِعت أنسا يَقُول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج لِحَاجَتِهِ تَبعته أَنا وَغُلَام منا مَعنا إداوة من مَاء مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة ذكرُوا جَمِيعًا وَحرب بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم بصريون وَمِنْهَا أَنه من رباعيات البُخَارِيّ وَقد ذكرنَا فِي الْبَاب السَّابِق تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره (بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب وَالْمعْنَى) قَوْله تَبعته قَالَ ابْن سَيّده تبع الشَّيْء تبعا وتباعا وَأتبعهُ وَاتبعهُ وَتَبعهُ قَفاهُ وَقيل اتبع الرجل سبقه فَلحقه وَتَبعهُ تبعا وَاتبعهُ مر بِهِ فَمضى مَعَه وَفِي التَّنْزِيل {ثمَّ أتبع سَببا الْكَهْف و 92} وَمَعْنَاهُ تبع وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو {ثمَّ أتبع سَببا} الْكَهْف و 92 يُرِيد لحق وَأدْركَ واستتبعه طلب إِلَيْهِ أَن يتبعهُ وَالْجمع تبع وتباع وتبعة وَحكى الْقَزاز أَن أَبَا عَمْرو وَقَرَأَ {ثمَّ أتبع سَببا} وَالْكسَائِيّ {ثمَّ أتبع سَببا} يُرِيد الْحق وَأدْركَ وَذكر أَن تبعه وَاتبعهُ بِمَعْنى وَاحِد وَكَذَا ذكر فِي الغريبين وَفِي الْأَفْعَال لِابْنِ طريف الْمَشْهُور تَبعته سرت فِي أَثَره واتبعته لحقته وَكَذَلِكَ فسر فِي التَّنْزِيل {فأتبعوهم مشرقين} أَي لحقوهم وَفِي الصِّحَاح تبِعت الْقَوْم تباعا وتباعا وتباعة بِالْفَتْح إِذا مشيت أَو مروا بك فمضيت مَعَهم وَقَالَ الْأَخْفَش تَبعته واتبعته بِمَعْنى مثل ردفته(2/291)
وأردفته قَوْله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْمُضَارع مَعَ أَن حق الظَّاهِر أَن يكون بِلَفْظ الْمَاضِي لإِرَادَة استحضاره صُورَة القَوْل تَحْقِيقا وتأكيدا لَهُ كَأَنَّهُ يبصر الْحَاضِرين ذَلِك قَوْله إِذا خرج أَي من بَيته أَو من بَين النَّاس لِحَاجَتِهِ أَي للبول أَو الْغَائِط فَإِن قلت إِذا للاستقبال وَإِن دخل للمضي فَكيف يَصح هَهُنَا إِذْ الْخُرُوج مضى وَوَقع قلت هُوَ هَهُنَا لمُجَرّد الظَّرْفِيَّة فَيكون مَعْنَاهُ تَبعته حِين خرج أَو هُوَ حِكَايَة للْحَال الْمَاضِيَة قَوْله تَبعته جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر كَانَ وَقد مر الْكَلَام فِي بَقِيَّة الْإِعْرَاب فِي الْبَاب السَّابِق قَوْله منا أَي من الْأَنْصَار وَبِه صرح فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَقَالَ الْكرْمَانِي أَي من قَومنَا أَو من خَواص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن جملَة الْمُسلمين قلت الْكل بِمَعْنى وَاحِد لِأَن قوم أنس هم الْأَنْصَار وهم من خَواص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن جملَة الْمُسلمين وَقَالَ بَعضهم وإيراد المُصَنّف لحَدِيث أنس مَعَ هَذَا الطّرف من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء يشْعر إشعارا قَوِيا بِأَن الْغُلَام الْمَذْكُور فِي حَدِيث أنس هُوَ ابْن مَسْعُود وَلَفظ الْغُلَام يُطلق على غير الصَّغِير مجَازًا وعَلى هَذَا قَول أنس وَغُلَام منا أَي من الصَّحَابَة أَو من خدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت فِيمَا قَالَه محذوران أَحدهمَا ارْتِكَاب الْمجَاز من غير دَاع وَالْآخر مُخَالفَته لما ثَبت فِي صَرِيح رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ وَمن أقوى مَا يرد كَلَامه أَن أنسا رَضِي الله عَنهُ وصف الْغُلَام بالصغر فِي رِوَايَة أُخْرَى فَكيف يَصح أَن يكون المُرَاد هُوَ ابْن مَسْعُود وَلَكِن روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى الْخَلَاء أَتَيْته بِمَاء فِي ركوة فاستنجى فَيحْتَمل أَن يُفَسر بِهِ الْغُلَام الْمَذْكُور فِي حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمَعَ هَذَا هُوَ احْتِمَال بعيد لمُخَالفَته رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ لِأَنَّهُ نَص فِيهَا أَنه من الْأَنْصَار وَأَبُو هُرَيْرَة لَيْسَ مِنْهُم وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عَاصِم بن عَليّ عَن شُعْبَة فَأتبعهُ وَأَنا غُلَام بِصُورَة الْجُمْلَة الاسمية الْوَاقِعَة حَالا بِالْوَاو وَلَكِن الصَّحِيح أَنا وَغُلَام بواو الْعَطف وَالله أعلم
(بَاب حمل العنزة مَعَ المَاء فِي الِاسْتِنْجَاء)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حمل العنزة وَهِي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح النُّون أطول من الْعَصَا وأقصر من الرمْح وَفِي طرفها زج كزج الرمْح والزج الحديدة الَّتِي فِي أَسْفَل الرمْح يَعْنِي السنان وَفِي التَّلْوِيح العنزة عَصا فِي طرفها الْأَسْفَل زج يتَوَكَّأ عَلَيْهَا الشَّيْخ وَفِي البُخَارِيّ قَالَ الزبير بن الْعَوام رَأَيْت سعيد بن العَاصِي وَفِي يَدي عنزة فأطعن بهَا فِي عينه حَتَّى أخرجتها متفقئة على حدقته فَأَخذهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت تحمل بَين يَدَيْهِ وَبعده بَين يَدي أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ثمَّ طلبَهَا ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا فَكَانَت عِنْده حَتَّى قتل. وَفِي مَفَاتِيح الْعُلُوم لأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْخَوَارِزْمِيّ هَذِه الحربة وَتسَمى العنزة كَانَ النَّجَاشِيّ أهداها للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَكَانَت تُقَام بَين يَدَيْهِ إِذا خرج إِلَى الْمصلى وتوارثها من بعده الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَفِي الطَّبَقَات أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَلَاث عنزات فَأمْسك وَاحِدَة لنَفسِهِ وَأعْطى عليا وَاحِدَة وَأعْطى عمر وَاحِدَة وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى
18 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عَطاء بن أبي مَيْمُونَة سمع أنس بن مَالك يَقُول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل الْخَلَاء فأحمل أَنا وَغُلَام إداوة من مَاء وعنزة يستنجي بِالْمَاءِ مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وعنزة يستنجي بِالْمَاءِ. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة وَقد ذكرُوا غير مرّة وَمُحَمّد بن بشار لقبه بنْدَار وَمُحَمّد بن جَعْفَر لقبه غنْدر وَقد ذكرنَا مَبْسُوطا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا أَن فِيهِ سمع أنس بن مَالك وَفِي الرِّوَايَة السَّابِقَة سَمِعت أنسا وَالْفرق بَينهمَا من جِهَة الْمَعْنى أَن(2/292)
الأول إِخْبَار عَن عَطاء وَالثَّانِي حِكَايَة عَن لَفظه ومحصلهما وَاحِد. وَمِنْهَا أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء (بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب وَالْمعْنَى) قَوْله الْخَلَاء بِالْمدِّ هُوَ التبرز وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الفضاء وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى كَانَ إِذا خرج لِحَاجَتِهِ وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا حمل العنزة مَعَ المَاء فَإِن الصَّلَاة إِلَيْهَا إِنَّمَا تكون حَيْثُ لَا ستْرَة غَيرهَا وَأَيْضًا فَإِن الأخلية الَّتِي هِيَ الكنف فِي الْبيُوت يتَوَلَّى خدمته فِيهَا عَادَة أَهله قَوْله يدْخل الْخَلَاء جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر كَانَ والخلاء مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي أَي فِي الْخَلَاء وَهُوَ من قبيل دخلت الدَّار قَوْله وعنزة بِالنّصب عطف على قَوْله إداوة قَوْله يستنجي بِالْمَاءِ جملَة استئنافية كَأَن قَائِلا يَقُول مَا كَانَ يفعل بِالْمَاءِ قَالَ يستنجي بِهِ قَوْله سمع أنس بن مَالك تَقْدِيره أَنه سمع وَلَفْظَة أَنه تحذف فِي الْخط وَتثبت فِي التَّقْدِير قَوْله وعنزة أَي ونحمل أَيْضا عنزة. وَكَانَت الْحِكْمَة فِي حملهَا كَثِيرَة مِنْهَا ليُصَلِّي إِلَيْهَا فِي الفضاء وَمِنْهَا ليتقي بهَا كيد الْمُنَافِقين وَالْيَهُود فَإِنَّهُم كَانُوا يرومون قَتله واغتياله بِكُل حَالَة وَمن أجل هَذَا اتخذ الْأُمَرَاء الْمَشْي أمامهم بهَا وَمِنْهَا لاتقاء السَّبع والمؤذيات من الْحَيَوَانَات وَمِنْهَا لنبش الأَرْض الصلبة عِنْد قَضَاء الْحَاجة خشيَة الرشاش وَمِنْهَا لتعليق الْأَمْتِعَة. وَمِنْهَا للتوكأ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا قَالَ بَعضهم أَنَّهَا كَانَت تحمل ليستتر بهَا عِنْد قَضَاء الْحَاجة وَهَذَا بعيد لِأَن ضَابِط الستْرَة فِي هَذَا مِمَّا يستر الأسافل والعنزة لَيست كَذَلِك (تَابعه النَّضر وشاذان عَن شُعْبَة) أَي تَابع مُحَمَّد بن جَعْفَر النَّضر بن شُمَيْل وَحَدِيثه مَوْصُول عِنْد النَّسَائِيّ وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل بِضَم الشين الْمُعْجَمَة الْمَازِني الْبَصْرِيّ أَبُو الْحسن من تبع التَّابِعين السَّاكِن بمرو وَقَالَ ابْن الْمُبَارك هُوَ درة بَين مروين ضائعة يَعْنِي كورة مرو وكورة مرو الروذ وَهُوَ إِمَام فِي الْعَرَبيَّة والْحَدِيث وَهُوَ أول من أظهر السّنة بمرو وَجَمِيع خُرَاسَان وَكَانَ أروى النَّاس عَن شُعْبَة ألف كتبا لم يسْبق إِلَيْهَا مَاتَ آخر سنة ثَلَاث أَو أَربع وَمِائَتَيْنِ عَن نَيف وَثَمَانِينَ سنة قَوْله وشاذان بِالرَّفْع عطف على النَّضر أَي وتابع مُحَمَّد بن جَعْفَر بن شَاذان وَحَدِيثه مَوْصُول عِنْد البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وشاذان بالشين الْمُعْجَمَة والذال الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره نون وَهُوَ لقب الْأسود بن عَامر الشَّامي الْبَغْدَادِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن روى عَن شُعْبَة وَخلق وَعنهُ الدَّارمِيّ وَخلق مَاتَ سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ وشاذان أَيْضا لقب عبد الْعَزِيز بن عُثْمَان بن جبلة الْأَزْدِيّ مَوْلَاهُم الْمروزِي أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَهُوَ وَالِد خلف بن شَاذان وَكَأَنَّهُ مُعرب وَمَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ فرحان وَقَالَ الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن البُخَارِيّ روى عَنهُ أَي بِلَا وَاسِطَة أَو روى لَهُ أَي بالواسطة فَهُوَ إِمَّا مُتَابعَة تَامَّة أَو مُتَابعَة نَاقِصَة وفائدتها التقوية قلت روى لَهُ البُخَارِيّ كَمَا ذكرنَا بِوَاسِطَة فَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن حَاتِم بن بزيع قَالَ حَدثنَا شَاذان عَن شُعْبَة عَن عَطاء بن أبي مَيْمُونَة قَالَ سَمِعت أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول كَانَ النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم إِذا خرج لِحَاجَتِهِ تَبعته أَنا وَغُلَام مَعنا عكازة أَو عَصا أَو عنزة ومعنا إداوة فَإِذا فرغ من حَاجته ناولناه الْإِدَاوَة (العنزة عَصا عَلَيْهِ زج) هَذَا التَّفْسِير وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة لَا غير والزج بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وبالجيم الْمُشَدّدَة هُوَ السنان وَفِي الْعباب الزج نصل السهْم والحديدة فِي أَسْفَل الرمْح وَالْجمع زججة وزجاج وَلَا تقل أزجة ثمَّ اعْلَم أَن العنزة هَل هِيَ قَصِيرَة أَو طَوِيلَة فِيهِ اضْطِرَاب لأهل اللُّغَة صحّح الأول القَاضِي عِيَاض وَالثَّانِي النَّوَوِيّ فِي شَرحه وَجزم الْقُرْطُبِيّ فِي بَاب من قدم من سفر بِأَنَّهَا عَصا مثل نصب الرمْح أَو أَكثر وفيهَا زج وَنَقله ابْن عبيد وَفِي غَرِيب ابْن الْجَوْزِيّ أَنَّهَا مثل الحربة قَالَ الثعالبي فَإِن طَالَتْ شَيْئا فَهِيَ النيزك ومطرد فَإِذا زَاد طولهَا وفيهَا سِنَان عريض فَهِيَ آلَة وحربة وَقَالَ ابْن التِّين العنزة أطول من الْعَصَا وأقصر من الرمْح وَفِيه زج كزج الرمْح وَعبارَة الدَّاودِيّ العنزة العكاز أَو الرمْح أَو الحربة أَو نَحْوهَا يكون فِي أَسْفَلهَا قرن أَو زج وَقَالَ الْحَرْبِيّ عَن الْأَصْمَعِي العنزة مَا دور نصله والآلة والحربة العريضة النصل وَقيل الحربة مَا لم يعرض نصله وَالله أعلم(2/293)
(بَاب النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ أَي بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَقَالَ بَعضهم عبر بِالنَّهْي إِشَارَة إِلَى أَنه لم يظْهر لَهُ أهوَ للتَّحْرِيم أَو للتنزيه أَو أَن الْقَرِينَة الصارفة للنَّهْي عَن التَّحْرِيم لم تظهر لَهُ قلت هَذَا كَلَام فِيهِ خبط لِأَن فِي الحَدِيث الَّذِي عقد عَلَيْهِ الْبَاب النَّهْي عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء فَلَا بُد من التَّعْبِير بِالنَّهْي وَإِمَّا أَنه للتَّحْرِيم أَو للتنزيه فَهُوَ أَمر آخر وَلَيْسَ تَعْبِيره بِالنَّهْي لعدم ظُهُور ذَلِك وَلَا لعدم الْقَرِينَة الصارفة عَن التَّحْرِيم فعلى أَي حَال يكون لَا بُد من التَّعْبِير بِالنَّهْي فَلَا يحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار عَنهُ فِي ذَلِك. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ بل بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهر لِأَن جَمِيعهَا مَعْقُود فِي أُمُور الِاسْتِنْجَاء
19 - (حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام هُوَ الدستوَائي عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا شرب أحدكُم فَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء وَإِذا أَتَى الْخَلَاء فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ وَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ مُطَابقَة الحَدِيث فِي قَوْله وَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول معَاذ بِضَم الْمِيم وبالذال الْمُعْجَمَة بن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة الْبَصْرِيّ الزهْرَانِي أَبُو زيد روى عَن الثَّوْريّ وَغَيره وَعنهُ البُخَارِيّ وَآخَرُونَ الثَّانِي هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي بِفَتْح الدَّال وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبهمزة بِلَا نون وَقيل بِالْقصرِ وبالنون وَقد مر تَحْقِيقه فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان الثَّالِث يحيى بن أبي كثير أَبُو نصر الطَّائِي وَقد مر فِي بَاب كِتَابَة الْعلم الرَّابِع عبد الله بن أبي قَتَادَة أَبُو إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي روى عَن أَبِيه وَعنهُ يحيى وَغَيره مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين روى لَهُ الْجَمَاعَة الْخَامِس أَبُو قَتَادَة الْحَارِث أَو النُّعْمَان أَو عَمْرو بن ربعي بن بلدمة بن خناس بن سِنَان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كَعْب بن سَلمَة بِكَسْر اللَّام السّلمِيّ بِفَتْحِهَا وَيجوز فِي لُغَة كسرهَا الْمدنِي فَارس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهد أحدا وَالْخَنْدَق وَمَا بعْدهَا وَالْمَشْهُور أَنه لم يشْهد بَدْرًا رُوِيَ لَهُ مائَة حَدِيث وَسَبْعُونَ حَدِيثا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين وَمُسلم بِثمَانِيَة واتفقا على أحد عشر ومناقبه جمة مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَقيل بِالْكُوفَةِ سنة أَربع وَخمسين على أحد الْأَقْوَال عَن سبعين سنة وَلَا يعلم فِي الصَّحَابَة من يكنى بِهَذِهِ الكنية سواهُ ورِبْعِي بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وبلدمة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَيُقَال بِضَم الْبَاء وبضم الذَّال الْمُعْجَمَة وخناس بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون المخففة (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني وَمِنْهَا أَن قَوْله هُوَ الدستوَائي قيد لإِخْرَاج هِشَام بن حسان لِأَنَّهُمَا بصريان ثقتان مشهوران من طبقَة وَاحِدَة فقيد بِهِ لدفع الالتباس وغرض التَّعْرِيف وَقَالَ الْكرْمَانِي وَإِنَّمَا قَالَ بِهَذِهِ الْعبارَة اقتصارا على مَا ذكره شَيْخه واحترازا عَن الزِّيَادَة على لَفظه (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن وَكِيع بن هِشَام بِهِ وَفِيه وَفِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن همام بن يحيى عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن وَكِيع عَن هِشَام بِهِ وَفِيه وَفِي الْأَشْرِبَة عَن ابْن أبي عمر عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن يحيى بن أبي كثير وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل كِلَاهُمَا عَن أبان بن يزِيد عَن يحيى بن أبي كثير وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن يحيى بن درسْتوَيْه عَن أبي إِسْمَاعِيل القناوي عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ وَعَن هناد بن السّري عَن وَكِيع بِهِ وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن هِشَام بِهِ وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن هِشَام بن عمار عَن عبد الحميد بن حبيب بن أبي الْعشْرين وَعَن دُحَيْم نَحوه عَن الْوَلِيد بن مُسلم كِلَاهُمَا عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَلم يذكر التنفس فِي الْإِنَاء(2/294)
(بَيَان اللُّغَات) قَوْله فَلَا يتنفس من بَاب التفعل يُقَال تنفس يتنفس تنفسا والتنفس لَهُ مَعْنيانِ أَحدهمَا أَن يشرب ويتنفس فِي الْإِنَاء من غير أَن يُبينهُ عَن فِيهِ وَهُوَ مَكْرُوه وَالْآخر أَن يشرب المَاء وَغَيره من الْإِنَاء بِثَلَاثَة أنفاس فيبين فَاه عَن الْإِنَاء فِي كل نفس وأصل التَّرْكِيب يدل على خُرُوج النسيم كَيفَ كَانَ من ريح أَو غَيرهَا وَإِلَيْهِ ترجع فروعه والتنفس خُرُوج النَّفس من الْفَم وكل ذِي رئة يتنفس وَذَوَات المَاء لَا ريات لَهَا كَذَا قَالَه الْجَوْهَرِي قَوْله فِي الْإِنَاء وَهِي الْوِعَاء وَجَمعهَا آنِية وَجمع الْآنِية الْأَوَانِي مثل سقاء وأسقية وأساقي وَأَصله غير مَهْمُوز وَلِهَذَا ذكره الْجَوْهَرِي فِي بَاب أَنِّي فعلى هَذَا أَصله أناي قلبت الْيَاء همزَة لوقوعها فِي الطّرف بعد ألف سَاكِنة قَوْله الْخَلَاء مَمْدُود المتوضأ وَيُطلق على الفضاء أَيْضا قَوْله فَلَا يمس من مسست الشَّيْء بِالْكَسْرِ أمس مسا ومسيسا ومسيسي مِثَال خصيصي هَذِه هِيَ اللُّغَة الفصيحة وَحكى أَبُو عُبَيْدَة مَسسْته بِالْفَتْح أمسه بِالضَّمِّ وَرُبمَا قَالُوا أمست الشَّيْء يحذفون مِنْهُ السِّين الأولى ويحولون كسرتها إِلَى الْمِيم وَمِنْهُم لَا يحول وَيتْرك الْمِيم على حَالهَا مَفْتُوحَة وَهُوَ مثل قَوْله {فظلتم تفكهون} بِكَسْر الظَّاء وتفتح وَأَصله ظللتم وَهُوَ من شواذ التَّخْفِيف وَيجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه من حَيْثُ الْقَاعِدَة فتح السِّين لخفة الفتحة وَكسرهَا لِأَن السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ وَفك الْإِدْغَام على مَا عرف فِي مَوْضِعه قَوْله وَلَا يتمسح أَي وَلَا يستنجي وَهُوَ من بَاب التفعل أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه لَا يتَكَلَّف الْمسْح بِالْيَمِينِ لِأَن بَاب التفعل للتكلف غَالِبا (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله فَلَا يتنفس بجزم السِّين لِأَنَّهُ صِيغَة النَّهْي وَكَذَا قَوْله فَلَا يمس وَلَا يتمسح وروى بِالضَّمِّ فِي هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة على صِيغَة النَّفْي وَالْفَاء فِي قَوْله فَلَا يتنفس وفلا يمس جَوَاب الشَّرْط وَقَوله وَلَا يتمسح بِالْوَاو عطف على قَوْله فَلَا يمس وَإِنَّمَا لم يظْهر الْجَزْم فِي فَلَا يمس لأجل الْإِدْغَام وَعند الفك يظْهر الْجَزْم تَقول فَلَا يمسس (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله فَلَا يتنفس قد ذكرنَا أَنه نهي وَيحْتَمل النَّفْي وعَلى كل تَقْدِير هُوَ نهي أدب وَذَلِكَ أَنه إِذا فعل ذَلِك لم يَأْمَن أَن يبرز من فِيهِ الرِّيق فيخالط المَاء فيعافه الشَّارِب وَرُبمَا يروح بنكهة المتنفس إِذا كَانَت فَاسِدَة وَالْمَاء للطفه ورقة طبعه تسرع إِلَيْهِ الروائح ثمَّ أَنه يعد من فعل الدَّوَابّ إِذا كرعت فِي الْأَوَانِي جرعت ثمَّ تنفست فِيهَا ثمَّ عَادَتْ فَشَرِبت وَإِنَّمَا السّنة أَن يشرب المَاء فِي ثَلَاثَة أنفاس كلما شرب نفسا من الْإِنَاء نحاه عَن فَمه ثمَّ عَاد مصا لَهُ غير عب إِلَى أَن يَأْخُذ ريه مِنْهُ والتنفس خَارج الْإِنَاء أحسن فِي الْأَدَب وَأبْعد عَن الشره وأخف للمعدة وَإِذا تنفس فِيهِ تكاثر المَاء فِي حلقه وأثقل معدته وَرُبمَا شَرق وأذى كبده وَهُوَ فعل الْبَهَائِم وَقد قيل أَن فِي الْقلب بَابَيْنِ يدْخل النَّفس من أَحدهمَا وَيخرج من الآخر فَيبقى مَا على الْقلب من هم أَو قذى وَلذَلِك لَو احْتبسَ النَّفس سَاعَة هلك الْآدَمِيّ ويخشى من كَثْرَة التنفس فِي الْإِنَاء أَن يَصْحَبهُ شَيْء مِمَّا فِي الْقلب فَيَقَع فِي المَاء ثمَّ يشربه فَيَتَأَذَّى بِهِ وَقيل عِلّة الْكَرَاهَة أَن كل عبة شربة مستأنفة فَيُسْتَحَب الذّكر فِي أَولهَا وَالْحَمْد فِي آخرهَا فَإِذا وصل وَلم يفصل بَينهمَا فقد أخل بعدة سنَن فَإِن قلت لم يبين فِي الحَدِيث عدد التنفس خَارج الْإِنَاء غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه نهى عَن التنفس فِيهَا قلت قد بَينه فِي الحَدِيث الآخر بالتثليث وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَي هَذِه الأنفاس الثَّلَاثَة أطول على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا الأول وَالثَّانِي أَن الأول أقصر وَالثَّانِي أَزِيد مِنْهُ وَالثَّالِث أَزِيد مِنْهُمَا فَيجمع بَين السّنة والطب لِأَنَّهُ إِذا شرب قَلِيلا قَلِيلا وصل إِلَى جَوْفه من غير إزعاج وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث مصوا المَاء مصا وَلَا تعبوه عبا فَإِنَّهُ أهنأ وأمرأ وَأَبْرَأ فَإِن قلت قد صَحَّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يتنفس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا قلت الْمَعْنى يتنفس فِي مُدَّة شربه عِنْد إبانة الْقدح عَن الْفَم لَا التنفس فِي الْإِنَاء لَا سِيمَا مَعَ قَوْله هُوَ أهنأ وأمرأ وَأَبْرَأ أَو فعله بَيَانا للْجُوَاز أَو النَّهْي خَاص بِغَيْرِهِ لِأَن مَا يتقذر من غَيره يستطاب مِنْهُ فَإِن قلت هَل الحكم مَقْصُور على المَاء أم غَيره من الْأَشْرِبَة مثله قلت النَّهْي الْمَذْكُور غير مُخْتَصّ بِشرب المَاء بل غَيره مثله وَكَذَلِكَ الطَّعَام مثله فكره النفخ فِيهِ والتنفس فِي معنى النفخ وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ مصححا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن النفخ فِي الشَّرَاب فَقَالَ رجل القذاة أَرَاهَا فِي الْإِنَاء قَالَ أهرقها قَالَ فَإِنِّي لَا أروى من نفس وَاحِد قَالَ فَابْن الْقدح إِذا عَن فِيك فَإِن قلت مَا الدَّلِيل على الْعُمُوم قلت حذف الْمَفْعُول فِي قَوْله وَإِذا شرب وَذَلِكَ لِأَن حذف(2/295)
الْمَفْعُول ينبىء عَن الْعُمُوم قَوْله فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ النَّهْي فِيهِ تَنْزِيه لَهَا عَن مبشارة الْعُضْو الَّذِي يكون فِيهِ الْأَذَى وَالْحَدَث وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجْعَل يمناه لطعامه وَشَرَابه ولباسه مصونة عَن مُبَاشرَة الثفل ومماسة الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ مجاري الأثفال والنجاسات ويسراه لخدمة أسافل بدنه وإماطة مَا هُنَاكَ من القاذورات وتنظيف مَا يحدث فِيهَا من الأدناس فَإِن قلت الحَدِيث يَقْتَضِي النَّهْي عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ حَالَة الْبَوْل وَكَيف الحكم فِي غير هَذِه الْحَالة قلت روى أَبُو دَاوُد بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَت يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيُمْنَى لطهوره وَطَعَامه وَكَانَت يَده الْيُسْرَى لخلائه وَمَا كَانَ من أَذَى وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة أَيْضا وروى أَيْضا من حَدِيث حَفْصَة زوج النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَت كَانَ يَجْعَل يَمِينه لطعامه وَشَرَابه ولباسه وَيجْعَل شِمَاله لما سوى ذَلِك وَظَاهر هَذَا يدل على عُمُوم الحكم على أَنه قد رُوِيَ النَّهْي عَن مَسّه بِالْيَمِينِ مُطلقًا غير مُقَيّد بِحَالَة الْبَوْل فَمن النَّاس من أَخذ بِهَذَا الْمُطلق وَمِنْهُم من حمله على الْخَاص بعد أَن ينظر فِي الرِّوَايَتَيْنِ هَل هما حديثان أَو حَدِيث وَاحِد فَإِن كَانَا حَدِيثا وَاحِدًا مخرجه وَاحِد وَاخْتلفت فِيهِ الروَاة فَيَنْبَغِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لِأَنَّهَا تكون زِيَادَة من عدل فِي حَدِيث وَاحِد فَتقبل وَإِن كَانَا حديثين فَالْأَمْر فِي حكم الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد على مَا ذكر فَإِن قلت النَّهْي فِيهِ تَنْزِيه أَو تَحْرِيم قلت للتنزيه عِنْد الْجُمْهُور لِأَن النَّهْي فِيهِ لمعنيين أَحدهمَا لرفع قدر الْيَمين وَالْآخر أَنه لَو بَاشر النَّجَاسَة بهَا يتَذَكَّر عِنْد تنَاوله الطَّعَام مَا باشرت يَمِينه من النَّجَاسَة فينفر طبعه من ذَلِك وَحمله أهل الظَّاهِر على التَّحْرِيم حَتَّى قَالَ الْحُسَيْن بن عبد الله الناصري فِي كِتَابه الْبُرْهَان على مَذْهَب أهل الظَّاهِر وَلَو استنجى بِيَمِينِهِ لَا يجْزِيه وَهُوَ وَجه عِنْد الْحَنَابِلَة وَطَائِفَة من الشَّافِعِيَّة قَوْله وَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ النَّهْي فِيهِ للتنزيه عِنْد الْجُمْهُور خلافًا للظاهرية كَمَا ذكرنَا وَقد أورد الْخطابِيّ هَهُنَا إشْكَالًا وَهُوَ أَنه مَتى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بِيَمِينِهِ وَمَتى مَسّه بيساره استلزم استجماره بِيَمِينِهِ وَكِلَاهُمَا قد شَمله النَّهْي ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بقوله أَنه يقْصد الْأَشْيَاء الضخمة الَّتِي لَا تَزُول بالحركة كالجدار وَنَحْوه من الْأَشْيَاء البارزة فيستجمر بهَا بيساره فَإِن لم يجد فليلصق مقعدته بِالْأَرْضِ ويمسك مَا يستجمر بِهِ بَين عَقِبَيْهِ أَو إبهامي رجلَيْهِ ويستجمر بيساره فَلَا يكون متصرفا فِي شَيْء من ذَلِك بِيَمِينِهِ وَقَالَ الطَّيِّبِيّ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ مُخْتَصّ بالدبر وَالنَّهْي عَن الْمس مُخْتَصّ بِالذكر فَلَا إِشْكَال فِيهِ قلت قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الحَدِيث الْآتِي وَلَا يستنجي بِيَمِينِهِ يرد عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ الِاخْتِصَاص على مَا لَا يخفى وَقَالَ بَعضهم الَّذِي ذكره الْخطابِيّ هَيْئَة مُنكرَة بل قد يتَعَذَّر فعلهَا فِي غَالب الْأَوْقَات وَالصَّوَاب مَا قَالَه إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَمن بعده كالغزالي فِي الْوَسِيط وَالْبَغوِيّ فِي التَّهْذِيب أَنه يمر الْعُضْو بيساره على شَيْء يمسِكهُ بِيَمِينِهِ وَهِي قارة غير متحركة فَلَا يعد مستجمرا بِالْيَمِينِ وَلَا ماسا بهَا فَهُوَ كمن صب المَاء بِيَمِينِهِ على يسَاره حَالَة الِاسْتِنْجَاء قلت دَعْوَاهُ بِأَن هَذِه هَيْئَة مُنكرَة فَاسِدَة لِأَن الِاسْتِجْمَار بالجدار وَنَحْوه غير بشيع وَهَذَا ظَاهر وتصويبه مَا قَالَه هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يمشي فِي استجمار الذّكر وَأما فِي الدبر فَلَا على مَا لَا يخفى (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول كَرَاهَة التنفس فِي الْإِنَاء وَقد ذَكرْنَاهُ مفصلا. الثَّانِي فِيهِ جَوَاز الشّرْب من نفس وَاحِد لِأَنَّهُ إِنَّمَا نهى عَن التنفس فِي الْإِنَاء وَالَّذِي شرب فِي نفس وَاحِد لم يتنفس فِيهِ فَلَا يكون مُخَالفا للنَّهْي وَكَرِهَهُ جمَاعَة وَقَالُوا هُوَ شرب الشَّيْطَان وَفِي التِّرْمِذِيّ محسنا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا لَا تشْربُوا وَاحِدًا كشرب الْبَعِير وَلَكِن اشربوا مثنى وَثَلَاث وَسموا إِذا أَنْتُم شربتم واحمدوا إِذا أَنْتُم رفعتم الثَّالِث فِيهِ النَّهْي عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ الرَّابِع فِيهِ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ الْخَامِس فِيهِ فضل الميامن وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
(بَاب لَا يمسك ذكره بِيَمِينِهِ إِذا بَال)
أَي هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان حكم مس الذّكر بِالْيَمِينِ وَقت الْبَوْل وَبَاب منون غير مُضَاف وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر وَقَالَ بَعضهم أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن النَّهْي الْمُطلق عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ كَمَا فِي الْبَاب الَّذِي قبله مَحْمُول على الْمُقَيد بِحَالَة الْبَوْل فَيكون مَا عداهُ مُبَاحا قلت هَذَا كَلَام فِيهِ خباط لِأَن الْحَاصِل من معنى الْحَدِيثين وَاحِد وَكِلَاهُمَا مُقَيّد أما الأول فَلِأَن إتْيَان الْخَلَاء فِي قَوْله إِذا أَتَى الْخَلَاء فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ كِنَايَة عَن التبول وَالْمعْنَى إِذا بَال أحدكُم فَلَا يمس(2/296)
ذكره بِيَمِينِهِ وَالْجَزَاء قيد الشَّرْط وَأما الثَّانِي فَهُوَ صَرِيح بالقيد وَكِلَاهُمَا وَاحِد فِي الْحَقِيقَة فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل أَن ذَلِك الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد وَالْمَفْهُوم مِنْهُمَا جَمِيعًا النَّهْي عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ عِنْد الْبَوْل فَلَا يدل على مَنعه عِنْد غير الْبَوْل وَلَا سِيمَا جَاءَ فِي الحَدِيث مَا يدل على الْإِبَاحَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لطلق بن عَليّ حِين سَأَلَهُ عَن مس الذّكر إِنَّمَا هُوَ بضعَة مِنْك فَهَذَا يدل على الْجَوَاز فِي كل حَال وَلَكِن خرجت حَالَة الْبَوْل بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح وَمَا عدا ذَلِك فقد بَقِي على الْإِبَاحَة فَافْهَم فَإِن قلت فَمَا فَائِدَة تَخْصِيص النَّهْي بِحَالَة الْبَوْل قلت مَا قرب من الشَّيْء يَأْخُذ حكمه وَلما منع الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ منع مس آلَته حسما للمادة فَإِن قلت إِذا كَانَ الْأَمر على مَا ذكرت من الرَّد على الْقَائِل الْمَذْكُور فَمَا فَائِدَة تَرْجَمَة البُخَارِيّ بِالْحَدِيثِ فِي بَابَيْنِ وَلم يكتف بِبَاب وَاحِد قلت فَائِدَته من وُجُوه. الأول التَّنْبِيه على اخْتِلَاف الْإِسْنَاد. الثَّانِي التَّنْبِيه على الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي لفظ الْمَتْن فَإِن فِي السَّنَد الأول إِذا أَتَى الْخَلَاء فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ وَفِي الْإِسْنَاد الثَّانِي إِذا بَال أحدكُم فَلَا يَأْخُذن ذكره بِيَمِينِهِ وَلَا يخفى التَّفَاوُت الَّذِي بَين إِذا أَتَى الْخَلَاء وَبَين إِذا بَال وَبَين فَلَا يمس ذكره وفلا يَأْخُذن ذكره أَيْضا فَفِي الحَدِيث الأول وَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ وَفِي هَذَا الحَدِيث وَلَا يستنجي بِيَمِينِهِ وَهَذَا يُفَسر ذَاك فَافْهَم. الثَّالِث أَنه عقد الْبَاب الأول على الحكم الثَّالِث من الحَدِيث وَهُوَ كَرَاهَة الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ وَعقد هَذَا الْبَاب على الحكم الأول وَهُوَ كَرَاهَة مس الذّكر عِنْد الْبَوْل وَمن أبين الدَّلَائِل على هَذَا الْوَجْه أَنه عقد بَابا آخر فِي الْأَشْرِبَة على الحكم الأول وَهُوَ كَرَاهَة التنفس فِي الْإِنَاء
20 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف قَالَ حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله ابْن أبي قَتَادَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا بَال أحدكُم فَلَا يَأْخُذن ذكره بِيَمِينِهِ وَلَا يستنجي بِيَمِينِهِ وَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِذا بَال أحدكُم فَلَا يَأْخُذن ذكره بِيَمِينِهِ فَإِن قلت كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال بَاب لَا يَأْخُذ ذكره بِيَمِينِهِ إِذا بَال للتطابق قلت أَشَارَ البُخَارِيّ بذلك إِلَى دقيقة تخفى على كثير من النَّاس وَهِي أَن فِي رِوَايَة همام عَن يحيى بن كثير عَن عبد الله فَلَا يمسكن ذكره بِيَمِينِهِ وَكَذَا أخرجه مُسلم من هَذِه الرِّوَايَة بِهَذَا اللَّفْظ وَالْبُخَارِيّ أخرجه هَهُنَا من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور فَذكر فِي التَّرْجَمَة اللَّفْظ الَّذِي أخرجه مُسلم من رِوَايَة همام وَفِي الحَدِيث اللَّفْظ الَّذِي رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى وَقَالَ بَعضهم وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ لَا يمس فَاعْترضَ على تَرْجَمَة البُخَارِيّ بِأَن الْمس أَعم من الْمسك يَعْنِي فَكيف يسْتَدلّ بالأعم على الْأَخَص قلت لَيْت شعري مَا وَجه هَذَا الِاعْتِرَاض وَهَذَا كَلَام واه وَلَو أَعم إِذْ لَيْسَ فِي حَدِيث البُخَارِيّ لفظ الْمس فَكيف يعْتَرض عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ترْجم بالمسك والمس أَعم من الْمسك وَهَذَا كَلَام فِيهِ خباط. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو إِمَام أهل الشَّام. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين شَامي وبصري ومدني. وَمِنْهَا أَنهم أَئِمَّة أجلاء. (ذكر بَقِيَّة الْكَلَام) قَوْله فَلَا يَأْخُذن جَوَاب الشَّرْط وَهُوَ بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره بِدُونِ النُّون قَوْله وَلَا يستنجي بِيَمِينِهِ أَعم من أَن يكون بالقبل أَو بالدبر وَبِه يرد على من يَقُول فِي الحَدِيث السَّابِق لفظ لَا يتمسح بِيَمِينِهِ مُخْتَصّ بالدبر قَوْله وَلَا يتنفس يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن تكون لَا فِيهِ نَافِيَة فَحِينَئِذٍ تضم السِّين وَالْآخر أَن تكون ناهية فَحِينَئِذٍ تجزم السِّين فَإِن قلت هَذِه الْجُمْلَة عطف على مَاذَا قلت عطف على الْجُمْلَة المركبة من الشَّرْط وَالْجَزَاء مجموعا وَلِهَذَا غير الأسلوب حَيْثُ لم يذكر بالنُّون وَلَا يجوز أَن يكون مَعْطُوفًا على الْجَزَاء لِأَنَّهُ مُقَيّد بِالشّرطِ فَيكون الْمَعْنى إِذا بَال أحدكُم فَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن النَّهْي مُطلق وَذهب السكاكي إِلَى أَن الْجُمْلَة الجزائية جملَة خبرية مُقَيّدَة بِالشّرطِ فَيحْتَمل على مذْهبه أَن تكون عطفا على الجزائية وَلَا يلْزم من كَون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُقَيّدا بِقَيْد أَن يكون الْمَعْطُوف مُقَيّدا بِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ أَكثر النُّحَاة(2/297)
(بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ وَنبهَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة على الرَّد على من زعم اخْتِصَاص الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ. وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب والأبواب الَّتِي قبله ظَاهر
21 - (حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو الْمَكِّيّ عَن جده عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ اتبعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يلْتَفت فدنوت مِنْهُ فَقَالَ أبغني أحجارا أستنفض بهَا أَو نَحوه وَلَا تأتني بِعظم وَلَا رَوْث فَأَتَيْته بأحجار بِطرف ثِيَابِي فَوَضَعتهَا إِلَى جنبه وأعرضت عَنهُ فَلَمَّا قضى أتبعه بِهن) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أبغني أحجارا أستنفض بهَا لِأَن مَعْنَاهُ أستنجي بهَا كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول أَحْمد بن مُحَمَّد بن عون بالنُّون أَبُو الْوَلِيد الغساني الْأَزْرَقِيّ الْمَكِّيّ جد أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن عبد الله صَاحب تَارِيخ مَكَّة وَفِي طبقته أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ أَيْضا لَكِن كنيته أَبُو مُحَمَّد وجده عون يعرف بالقواس وَقد وهم من زعم أَن البُخَارِيّ روى عَن أبي مُحَمَّد الَّذِي فِي طبقته وَإِنَّمَا روى عَن أبي الْوَلِيد وهم أَيْضا من جَعلهمَا وَاحِدًا روى أَبُو الْوَلِيد الْمَذْكُور عَن مَالك وَغَيره وروى عَنهُ البُخَارِيّ وحفيده مؤرخ مَكَّة مُحَمَّد بن عبد الله وَأَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ وَآخَرُونَ مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ الثَّانِي عَمْرو بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن العَاصِي أَبُو أُميَّة القريشي الْمَكِّيّ الْأمَوِي وَعَمْرو بن سعيد هُوَ الْمَعْرُوف بالأشدق الَّذِي ولي إمرة الْمَدِينَة وَكَانَ يُجهز الْبعُوث إِلَى مَكَّة وَكَانَ عَمْرو هَذَا قد تغلب على دمشق فِي زمن عبد الْملك بن مَرْوَان فَقتله عبد الْملك وسير أَوْلَاده إِلَى الْمَدِينَة وَسكن وَلَده مَكَّة لما ظَهرت دولة بني الْعَبَّاس فاستمروا بهَا وَعَمْرو بن يحيى روى عَن أَبِيه وجده وَعنهُ سُوَيْد وَغَيره روى لَهُ البُخَارِيّ وَابْن مَاجَه الثَّالِث جده سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن العَاصِي بن أبي أحيحة التَّابِعِيّ الثِّقَة روى عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره وَعنهُ ابناه إِسْحَق وخَالِد وحفيده عَمْرو بن يحيى روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى التِّرْمِذِيّ. الرَّابِع أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ مكيين ومدنيين. وَمِنْهَا أَنه من رباعيات البُخَارِيّ وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْجد. (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مطولا فِي ذكر الْجِنّ عَن مُوسَى بن إِسْمَعِيل عَن عَمْرو بن يحيى بن سعيد عَن جده بِهِ وَلم يُخرجهُ مُسلم وَلَا الْأَرْبَعَة وَأخرجه رزين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبغني أحجارا أستنفض بهَا وَلَا تأتني بِعظم وَلَا بروثة قلت مَا بَال الْعظم والروثة قَالَ هما من طَعَام الْجِنّ وَأَنه أَتَانِي وَفد جن نَصِيبين وَنعم الْجِنّ فسألوني عَن الزَّاد فدعوت الله تَعَالَى لَهُم أَن لَا يمروا بِعظم وَلَا بروث إِلَّا وجدوا عَلَيْهِمَا طَعَاما (بَيَان اللُّغَات) قَوْله اتبعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق أَي سرت وَرَاءه وَقد أشبعنا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب من حمل المَاء لطهوره عَن قريب قَوْله أبغني يجوز فِي همزته الْوَصْل إِذا كَانَ من الثلاثي مَعْنَاهُ اطلب لي يُقَال بغيتك الشَّيْء أَي طلبته لَك وَالْقطع إِذا كَانَ من الْمَزِيد مَعْنَاهُ أَعنِي على الطّلب يُقَال أبغيتك الشَّيْء إِذا أعنتك على طلبه وَكِلَاهُمَا رِوَايَتَانِ وَقَالَ الْجَوْهَرِي بغيت الشَّيْء طلبته وبغيتك الشَّيْء طلبته لَك وأبغيته الشَّيْء أعنته على طلبه وَقَالَ ابْن التِّين روينَاهُ بالوصل قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ اطلب لي من بغيت الشَّيْء طلبته وبغيتك الشَّيْء طلبته لَك وأبغيتك الشَّيْء جعلتك طَالبا لَهُ قَالَ تَعَالَى {يبغونكم الْفِتْنَة} أَي يَبْغُونَهَا لكم وَقَالَ أَبُو عَليّ الهجري فِي أَمَالِيهِ بغيت الْخَيْر بغاء قلت بِكَسْر الْبَاء وَقَالَ أَبُو الْحسن اللحياني فِي نوادره يُقَال بغى الرجل الْحَاجة وَالْعلم وَالْخَيْر وكل شَيْء يطْلب يَبْغِي بغاء قلت بِضَم الْبَاء وبغية بِكَسْر الْبَاء وبغى كَذَلِك وبغية بِالضَّمِّ وبغى كَذَلِك واستبغى الْقَوْم فبغوه وبغوا لَهُ أَي طلبُوا لَهُ وَفِي الْمُحكم الْمَعْرُوف بغاء قلت بِالضَّمِّ وَالِاسْم البغية والبغية وَقَالَ ثَعْلَب بغى الْخَيْر بغية وبغية فجعلهما مصدرين والبغية والبغبة والبغية مَا ابْتغى وأبغاه الشَّيْء طلبه لَهُ أَو أَعَانَهُ على طلبه وَالْجمع بغاة وبغيان(2/298)
وأبتغى الشَّيْء تيَسّر وتسهل وبغى الشَّيْء بغوا نظر إِلَيْهِ كَيفَ هُوَ وَفِي الْجَامِع للقزاز أبغني كَذَا أَي أَعنِي عَلَيْهِ واطلبه معي وَفِي الواعي لعبد الْحق الإشبيلي الْبغاء الطّلب قلت بِالضَّمِّ وَفِي الصِّحَاح كل طلبة بغاء بِالضَّمِّ وبالمد وبغاية أَيْضا وابتغيت الشَّيْء وتبغيته إِذا طلبته قَالَ سَاعِدَة بن جوية الْهُذلِيّ
(سِبَاع تبغى النَّاس مثنى وموحد ... )
قَوْله أستنفض على وزن أستفعل من النفض بالنُّون وَالْفَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ أَن يهز الشَّيْء ليطير غباره أَو يَزُول مَا عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ هَهُنَا أستنظف بهَا أَي أنظف بهَا نَفسِي من الْحَدث وَفِي الْمطَالع أبغي أحجارا أستنفض بهَا أَي أستنج بهَا مِمَّا هُنَالك ونفاضة كل شَيْء مَا نفضته فَسقط مِنْهُ وَفِي الواعي أستنفض بهَا أَي أستنجى بهَا وَهُوَ أَن ينفض عَن نَفسه أَذَى الْحَدث فَقَالَ هَذَا مَوضِع مستنفض أَي متبرز وَفِي كتاب ابْن طريف نفضت الأَرْض تتبعت مغانيها ونفضت الشَّيْء نفضا حركته ليسقط عَنهُ مَا علق بِهِ وَقَالَ المطرزي الاستنفاض الاستخراج ويكنى بِهِ عَن الِاسْتِنْجَاء وَقَالَ وَمن رَوَاهُ بِالْقَافِ وَالصَّاد الْمُهْملَة فقد صحف قلت قَالَ الصغاني فِي الْعباب استنفاض الذّكر وانتقاصه استبراؤه مِمَّا فِيهِ من بَقِيَّة الْبَوْل قلت الأول بِالْفَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَالثَّانِي بِالْقَافِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة أَيْضا وَالثَّالِث بِالْقَافِ والمهملة وَذكر أَيْضا فِي بَاب نقص بِالْقَافِ والمهملة وَقَالَ أَبُو عبيد انتقاص المَاء غسل الذّكر بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ إِذا غسل بِالْمَاءِ ارْتَدَّ الْبَوْل وَلم ينزل وَإِن لم يغسل نزل مِنْهُ الشَّيْء بعد الشَّيْء حَتَّى يستبرىء (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله اتبعت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جملَة وَقعت مقول القَوْل قَوْله وَخرج لِحَاجَتِهِ جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير قد وَالتَّقْدِير وَقد خرج وَقد علم أَن الْفِعْل الْمَاضِي إِذا وَقع حَالا فَلَا بُد فِيهِ من قد إِمَّا ظَاهِرَة أَو مقدرَة وَيجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ} وَالتَّقْدِير قد حصرت وَقد وَقع بِدُونِ الْوَاو قَوْله فَكَانَ لَا يلْتَفت بفاء الْعَطف فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره وَكَانَ بِالْوَاو فَإِن قلت مَا وَجه الْوَاو فِيهِ قلت للْحَال وَقَول بَعضهم وَكَانَ استئنافية غير صَحِيح على مَا لَا يخفى قَوْله فَقَالَ أبغني بوصل الْهمزَة وقطعها كَمَا ذَكرْنَاهُ قَوْله أحجارا نصب على أَنه مفعول ثَان لأبغنى قَوْله أستنفض مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر وَيجوز رَفعه على الِاسْتِئْنَاف قَوْله أَو نَحوه بِالنّصب لِأَنَّهُ مقول القَوْل وَهُوَ فِي الْمَعْنى جملَة وَالتَّقْدِير أَو قَالَ نَحْو قَوْله أستنفض بهَا وَذَلِكَ نَحْو قَوْله أستنجي بهَا وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ أستنجي بهَا والتردد فِيهِ من بعض الروَاة قَوْله بِطرف ثِيَابِي الْبَاء ظرفية (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله فَكَانَ لَا يلْتَفت أَي فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَشى لَا يلْتَفت وَرَاءه وَكَانَ هَذَا عَادَة مَشْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله فدنوت مِنْهُ أَي قربت مِنْهُ لأستأنس بِهِ وأقضي حَاجته وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ أستأنس فَقَالَ من هَذَا قلت أَبُو هُرَيْرَة قَوْله فَقَالَ أبغني أحجارا وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ ائْتِنِي قَوْله وَلَا تأتني بِعظم كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خشِي أَن يفهم أَبُو هُرَيْرَة من قَوْله أستنفض بهَا أَن كل مَا يزِيل الْأَثر وينقي كَاف وَلَا اخْتِصَاص لذَلِك بالأحجار فنبه باقتصاره فِي النَّهْي على الْعظم والروث على أَن مَا سواهُمَا يجزىء وَلَو كَانَ ذَلِك مُخْتَصًّا بالأحجار كَمَا يَقُول أهل الظَّاهِر وَبَعض الْحَنَابِلَة لم يكن لتخصيص هذَيْن بِالنَّهْي معنى قَالَ الْخطابِيّ وَفِي النَّهْي عَنْهُمَا دَلِيل على أَن أَعْيَان الْحِجَارَة غير مُخْتَصَّة بِهَذَا الْمَعْنى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما أَمر بالأحجار ثمَّ اسْتثْنى هذَيْن وخصهما بِالنَّهْي دلّ على أَن مَا عداهما قد دخل فِي الْإِبَاحَة وَلَو كَانَت الْحِجَارَة مَخْصُوصَة بذلك لم يكن لتخصيصهما بِالذكر معنى وَإِنَّمَا جرى ذكر الْحِجَارَة وسيق اللَّفْظ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَت أَكثر الْأَشْيَاء الَّتِي يستنجى بهَا وجودا وأقربها تناولا وَقَالَ أهل الظَّاهِر الْحجر مُتَعَيّن لَا يجزىء غَيره وَقَالَ أَصْحَابنَا الَّذِي يقوم مقَام الْحجر كل جامد طَاهِر مزيل للعين لَيْسَ لَهُ حُرْمَة وَقَالَ ابْن بطال لما نهى عَنْهُمَا دلّ على أَن مَا عداهما بخلافهما وَإِلَّا لم يكن لتخصيصهما فَائِدَة تدبر. فَإِن قيل إِنَّمَا نَص عَلَيْهِمَا تَنْبِيها على أَن مَا عداهما فِي مَعْنَاهُمَا قُلْنَا هَذَا لَا يجوز لِأَن التَّنْبِيه إِنَّمَا يُفِيد إِذا كَانَ فِي المنبه عَلَيْهِ معنى المنبه لَهُ وَزِيَادَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقل لَهما أُفٍّ} وَلَيْسَ فِي سَائِر الطاهرات مَعْنَاهُمَا فَلم يَقع التَّنْبِيه عَلَيْهِمَا انْتهى قلت التَّعْلِيل فِي الْعظم والروث إِن كَانَ هُوَ كَونهمَا من طَعَام الْجِنّ على مَا سَيَجِيءُ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي المبعث فِي هَذَا الحَدِيث أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَن فرغ مَا بَال الْعظم والروث قَالَ هما من طَعَام الْجِنّ فَيلْحق بهما سَائِر المطعومات للآدميين بطرِيق الْقيَاس وَكَذَا المحترمات كأوراق كتب الْعلم وَإِن كَانَ هُوَ النَّجَاسَة فِي الروث(2/299)
فَيلْحق بِهِ كل نجس وَفِي الْعظم هُوَ كَونه لزجا فَلَا يزِيل إِزَالَة تَامَّة فَيلْحق بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كالزجاج الأملس وَقَالَ الْخطابِيّ قيل الْمَعْنى فِي ذَلِك أَن الْعظم لزج لَا يكَاد يتماسك فيقلع النَّجَاسَة وينشف البلة وَقيل أَن الْعظم لَا يكَاد يعرى من بَقِيَّة دسم قد علق بِهِ وَنَوع الْعظم قد يَتَأَتَّى فِيهِ الْأكل لبني آدم لِأَن الرخو الرَّقِيق مِنْهُ قد يتمشش فِي حَال الرَّفَاهِيَة والغليظ الصلب مِنْهُ يدق ويستف مِنْهُ عِنْد المجاعة والشدة وَقد حرم الِاسْتِنْجَاء بالمطعوم قلت هَذَانِ وَجْهَان وَالثَّالِث كَونه طَعَام الْجِنّ وَأما الروث فَلِأَنَّهُ نجس كَمَا ذَكرْنَاهُ أَو لِأَنَّهُ طَعَام دَوَاب الْجِنّ وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي دَلَائِل النُّبُوَّة أَن الْجِنّ سَأَلُوا هَدِيَّة مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَعْطَاهُمْ الْعظم والروث فالعظم لَهُم والروث لدوابهم فَإِذا لَا يستنجى بهما رَأْسا وَأما لِأَنَّهُ طَعَام للجن أنفسهم روى أَبُو عبد الله الْحَاكِم فِي الدَّلَائِل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَيْلَة الْجِنّ أُولَئِكَ جن نَصِيبين جاؤني فسألوني الزَّاد فَمَتَّعْتهمْ بالعظم والروث فَقَالَ لَهُ وَمَا يُغني مِنْهُم ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّهُم لَا يَجدونَ عظما إِلَّا وجدوا عَلَيْهِ لَحْمه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَوْم أَخذ وَلَا وجدوا رَوْثًا إِلَّا وجدوا فِيهِ حبه الَّذِي كَانَ يَوْم أكل فَلَا يستنجي أحد لَا بِعظم وَلَا بروث وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد أَنهم قَالُوا يَا مُحَمَّد انه أمتك لَا يستنجوا بِعظم وَلَا بروث أَو حممة فَإِن الله تَعَالَى جعل لنا رزقا فِيهَا فَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ قلت الحممة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الميمين وَهِي الفحم وَمَا احْتَرَقَ من الْخشب وَالْعِظَام وَنَحْوهَا وَجَمعهَا حمم قَوْله بِطرف ثِيَابِي أَي فِي جَانب ثِيَابِي وَفِي صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي طرف ملائي وَقَالَ الْكرْمَانِي وَالثيَاب يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْجمع وَأَن يُرَاد بِهِ الْجِنْس كَمَا يُقَال فلَان يركب الْخُيُول قلت فِيهِ نظر لِأَن مَا ذكره إِنَّمَا يمشي فِي الْجمع الْمحلى بِالْألف وَاللَّام كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور قَوْله وأعرضت عَنهُ كَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة الْكشميهني واعترضت بِزِيَادَة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعد الْعين قَوْله فَلَمَّا قضى أَي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره فَلَمَّا قضى حَاجته قَوْله أتبعه بِهن أَي بالأحجار وهمزة أتبعه همزَة قطع وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْقَضَاء الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله فَلَمَّا قضى وكنى بذلك عَن الِاسْتِنْجَاء (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ جَوَاز استنجاء بالأحجار وَفِيه الرَّد على من أنكر ذَلِك كَمَا بَيناهُ مستقصى الثَّانِي فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِنْجَاء وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَمنهمْ من قَالَ بِوُجُوبِهِ واشتراطه فِي صِحَة الصَّلَاة وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَبُو دَاوُد وَمَالك فِي رِوَايَة وَمِنْهُم من قَالَ بِأَنَّهُ سنة وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك فِي رِوَايَة والمزني من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ قَالَ أخبرنَا عِيسَى بن يُونُس عَن ثَوْر عَن الْحصين الحمراني عَن أبي سعيد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج وَمن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج الحَدِيث وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده حَدثنَا شُرَيْح حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن ثَوْر عَن الْحصين كَذَا قَالَ عَن أبي سعيد الْخَيْر وَكَانَ من أَصْحَاب عمر عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره نَحوه وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي الْآثَار حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ أخبرنَا يحيى بن حسن قَالَ حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس قَالَ حَدثنَا ثَوْر بن يزِيد عَن حُصَيْن الحمراني عَن أبي سعيد الْخَيْر عَن أبي هُرَيْرَة إِلَى آخِره نَحوه فَالْحَدِيث صَحِيح وَرِجَاله ثِقَات فَإِن قلت قَالَ أَبُو عَمْرو بن حزم وَالْبَيْهَقِيّ لَيْسَ إِسْنَاده بالقائم مَجْهُولَانِ يعنون حصينا فِيهِ الحمراني وَأَبا سعيد الْخَيْر قلت هَذَا كَلَام سَاقِط لِأَن أَبَا زرْعَة الدِّمَشْقِي قَالَ فِي حُصَيْن هَذَا شيخ مَعْرُوف وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان فِي تَارِيخه لَا أعلم إِلَّا خيرا وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ شيخ وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات وَأما أَبُو سعيد الْخَيْر فقد قَالَ أَبُو دَاوُد وَيَعْقُوب بن سُفْيَان والعسكري وَابْن بنت منيع فِي آخَرين أَنه من الصَّحَابَة والْحَدِيث أخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي صَحِيحه وَذكر أَبَا سعيد فِي كتاب الصَّحَابَة وَسَماهُ عَامِرًا وَسَماهُ الْبَغَوِيّ عمرا وَسَماهُ صَاحب التَّهْذِيب زيادا وَسَماهُ البُخَارِيّ سَعْدا. وَقَالُوا أَيْضا أَنه كَدم البراغيث لِأَنَّهُ نَجَاسَة لَا تجب إِزَالَة أَثَرهَا فَكَذَا عينهَا لَا يجب إِزَالَتهَا بِالْمَاءِ فَلَا يجب بِغَيْرِهِ وَقَالَ الْمُزنِيّ لأَنا أجمعنا على جَوَاز مسحها بِالْحجرِ فَلم تجب إِزَالَتهَا كالمني فَإِن قلت استدلالهم بِالْحَدِيثِ غير تَامّ لِأَن المُرَاد لَا حرج فِي ترك الإيتار أَي الزَّائِد على ثَلَاثَة أَحْجَار وَلَيْسَ المُرَاد ترك أصل الِاسْتِنْجَاء وَقَالَ الْخطابِيّ معنى الحَدِيث التَّمْيِيز بَين المَاء الَّذِي هُوَ الأَصْل(2/300)
وَبَين الْأَحْجَار الَّتِي هِيَ للترخيص لكنه إِذا استجمر بِالْحِجَارَةِ فليجعل وترا وَإِلَّا فَلَا حرج إِلَى تَركه إِلَى غَيره وَلَيْسَ مَعْنَاهُ ترك التَّعَبُّد أصلا بِدَلِيل حَدِيث سلمَان نَهَانَا أَن نستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار قلت الشَّارِع نفى الْحَرج عَن تَارِك الِاسْتِنْجَاء فَدلَّ على أَنه لَيْسَ بِوَاجِب وَكَذَلِكَ ترك الإيتار لَا يضر لِأَن ترك أَصله لما لم يكن مَانِعا فَمَا ظَنك بترك وَصفه فَدلَّ الحَدِيث على انْتِفَاء الْمَجْمُوع فَإِن قلت قَالَ الْخطابِيّ فِيهِ وَجه آخر وَهُوَ رفع الْحَرج فِي الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَذَلِكَ أَن مُجَاوزَة الثَّلَاث فِي المَاء عدوان وَترك للسّنة وَالزِّيَادَة فِي الْأَحْجَار لَيست بعدوان وَإِن صَارَت شفعا قلت هَذَا الْوَجْه لَا يفهم من هَذَا الْكَلَام على مَا لَا يخفى على الفطن وَأَيْضًا مُجَاوزَة الثَّلَاث فِي المَاء كَيفَ تكون عُدْوانًا إِذا لم تحصل الطَّهَارَة بِالثلَاثِ وَالزِّيَادَة فِي الْأَحْجَار وَإِن كَانَت شفعا كَيفَ لَا يصير عُدْوانًا وَقد نَص على الإيتار فَافْهَم وَأهل الْمقَالة الأولى احْتَجُّوا بِظَاهِر الْأَوَامِر الْوَارِدَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار وَفِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي أخرجه ابْن ماجة وَأحمد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا ذهب أحدهم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار يَسْتَطِيب بِهن وَأَحَادِيث غَيرهمَا وَأجِيب بِأَن الْأَمر يحْتَمل أَن يكون على وَجه الِاسْتِحْبَاب والمحتمل لَا يصلح حجَّة إِلَّا بمرجح لأحد الْمعَانِي وَفِيمَا ذكر أهل الْمقَالة الثَّانِيَة أَيْضا أَعمال الْأَحَادِيث كلهَا وَفِيمَا قَالَه هَؤُلَاءِ إهمال لبعضها وَالْعَمَل بِالْكُلِّ أولى على مَا لَا يخفى الثَّالِث أَن الْأَحْجَار لَا تتَعَيَّن للاستنجاء بل يقوم مقَامهَا كل جامد طَاهِر قالع غير مُحْتَرم وتنصيصه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهَا لكَونهَا الْغَالِب الميسر وجودهَا بِلَا مشقة وَلَا كلفة فِي تَحْصِيلهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ مَبْسُوطا الرَّابِع فِيهِ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بالعظم والروث وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق والظاهرية لَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بالعظام وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِظَاهِر الحَدِيث وَقَالَ ابْن قدامَة فِي الْمُغنِي والخشب والخروق وكل مَا أنقى بِهِ كالأحجار إِلَّا الروث وَالْعِظَام وَالطَّعَام مقتاتا أَو غير مقتات فَلَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بِهِ وَلَا بالروث وَالْعِظَام طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَقَالَ ابْن حزم فِي الْمحلى وَمِمَّنْ قَالَ لَا يجزىء بالعظام وَلَا بِالْيَمِينِ الشَّافِعِي وَأَبُو سُلَيْمَان وَقَالَ القَاضِي وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن مَالك فِي كَرَاهِيَة هَذَا يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء بالعظم وَالْمَشْهُور عَنهُ النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِهِ على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث وَعنهُ أَيْضا أَنه أجَاز ذَلِك وَقَالَ مَا سَمِعت فِي ذَلِك بنهي عَام وَذهب بعض البغداديين إِلَى جَوَاز ذَلِك إِذا وَقع بمَكَان وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَفِي الْبَدَائِع فَإِن فعل ذَلِك يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء بالعظم يعْتد بِهِ عندنَا فَيكون مُقيما سنة ومرتكبا كَرَاهِيَة قلت ذكر ابْن جرير الطَّبَرِيّ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَهُ عظم يستنجي بِهِ ثمَّ يتَوَضَّأ وَيُصلي وشذ ابْن جرير فَأجَاز الِاسْتِنْجَاء بِكُل طَاهِر ونجس وَيكرهُ بِالذَّهَب وَالْفِضَّة عِنْد أبي حنيفَة وَعند الشَّافِعِي فِي قَول لَا يكره وَكره بعض الْعلمَاء الِاسْتِنْجَاء بِعشْرَة أَشْيَاء الْعظم والرجيع والروث وَالطَّعَام والفحم والزجاج وَالْوَرق والخرق وورق الشّجر والسعتر وَلَو استنجي بهَا أَجزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَة وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة يجوز الِاسْتِنْجَاء بالعظم إِن كَانَ طَاهِرا لَا زهومة عَلَيْهِ لحُصُول الْمَقْصُود وَلَو أحرق الْعظم الطَّاهِر بالنَّار وَخرج عَن حَال الْعظم فَوَجْهَانِ عِنْد الشَّافِعِيَّة حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ أَحدهمَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بِهِ لِأَن النَّار أحالته. وَالثَّانِي لَا لعُمُوم النَّهْي عَن الرمة وَهِي الْعظم الْبَالِي وَلَا فرق بَين البلي بالنَّار أَو بمرور الزَّمَان وَهَذَا أصح الْخَامِس فِيهِ كَرَاهَة الِاسْتِنْجَاء بِجَمِيعِ المطعومات فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نبه بالعظم على ذَلِك ويلتحق بهَا المحترمات كأجزاء الْحَيَوَان وأوراق كتب الْعلم وَغير ذَلِك السَّادِس فِيهِ أعداد الْأَحْجَار للاستنجاء كي لَا يحْتَاج إِلَى طلبَهَا بعد قِيَامه فَلَا يَأْمَن من التلوث السَّابِع فِيهِ جَوَاز اتِّبَاع السادات بِغَيْر إذْنهمْ الثَّامِن فِيهِ اسْتِخْدَام المتبوعين الِاتِّبَاع. التَّاسِع فِيهِ اسْتِحْبَاب الْإِعْرَاض عَن قَاضِي الْحَاجة. الْعَاشِر فِيهِ جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ أَو نَحوه
(بَاب لَا يستنجى بروث)
بَاب مَرْفُوع منون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَقَوله لَا يستنجى على صِيغَة الْمَجْهُول وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ ذكر الْبَاب وَإِنَّمَا ذكر حَدِيث عبد الله مَعَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَفِي بعض النّسخ بَاب الِاسْتِنْجَاء بروث والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة(2/301)
22 - (حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ حَدثنَا زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة ذكره وَلَكِن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه أَنه سمع عبد الله يَقُول أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَائِط فَأمرنِي أَن آتيه بِثَلَاثَة أَحْجَار فَوجدت حجرين والتمست الثَّالِث فَلم أَجِدهُ فَأخذت رَوْثَة فَأَتَيْته بهَا فَأخذ الحجرين وَألقى الروثة وَقَالَ هَذَا ركس) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وَألقى الروثة وَقَالَ هَذَا ركس لِأَن إلقاءه إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَا يستنجى بِهِ. (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول أَبُو نعيم بِضَم النُّون الْفضل بن دُكَيْن وَقد مر الثَّانِي زُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ الْكُوفِي وَقد مر الثَّالِث أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان الرَّابِع عبد الرَّحْمَن بن الْأسود أَبُو حَفْص النَّخعِيّ كُوفِي عَالم عَامل روى عَن أَبِيه وَعَائِشَة وَعنهُ الْأَعْمَش وَغَيره كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم سَبْعمِائة رَكْعَة وَكَانَ يُصَلِّي الْعشَاء وَالْفَجْر بِوضُوء وَاحِد مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عبد يَغُوث زهري تَابِعِيّ وَلَيْسَ فِيهِ غَيرهمَا. وَفِي شُيُوخ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عبد الرَّحْمَن بن الْأسود الْوراق وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة عبد الرَّحْمَن بن الْأسود غير هَؤُلَاءِ وَوَقع فِي كتاب الدَّاودِيّ وَابْن التِّين أَن عبد الرَّحْمَن الْوَاقِع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هُوَ ابْن عبد يَغُوث وَهُوَ وهم فَاحش مِنْهُمَا إِذْ الْأسود الزُّهْرِيّ لم يسلم فضلا أَن يعِيش حَتَّى يروي عَن عبد الله بن مَسْعُود الْخَامِس الْأسود بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن قيس الْكُوفِي النَّخعِيّ وَقد مر فِي بَاب من ترك بعض الِاخْتِيَار فِي كتاب الْعلم السَّادِس عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ (بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا أَن رُوَاته كلهم ثِقَات كوفيون. وَمِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض وهم أَبُو إِسْحَق وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَأَبوهُ الْأسود بن يزِيد. وَمِنْهَا نفى أَبُو إِسْحَق رِوَايَته هَهُنَا عَن أبي عُبَيْدَة وتصريحه بِأَنَّهُ لَا يروي هَذَا الحَدِيث هَهُنَا إِلَّا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَهُوَ معنى قَوْله قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة ذكره أَي قَالَ أَبُو إِسْحَق لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة ذكره لي وَلَكِن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود هُوَ الَّذِي ذكره لي بِدَلِيل قَوْله فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة الْمُعَلقَة حَدثنِي عبد الرَّحْمَن وَقَالَ بَعضهم وَإِنَّمَا عدل أَبُو إِسْحَق عَن الرِّوَايَة عَن أبي عُبَيْدَة إِلَى الرِّوَايَة عَن عبد الرَّحْمَن مَعَ أَن الرِّوَايَة عَن أبي عُبَيْدَة أَعلَى لَهُ لكَون أبي عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه على الصَّحِيح فَتكون مُنْقَطِعَة بِخِلَاف رِوَايَة عبد الرَّحْمَن فَإِنَّهَا مَوْصُولَة قلت قَول أبي إِسْحَق هَذَا يحْتَمل أَن يكون نفيا لحديثه وإثباتا لحَدِيث عبد الرَّحْمَن وَيحْتَمل أَن يكون إِثْبَاتًا لحديثه أَيْضا وَأَنه كَانَ غَالِبا يحدثه بِهِ عَن أبي عُبَيْدَة فَقَالَ يَوْمًا لَيْسَ هُوَ حَدثنِي وَحده وَلَكِن عبد الرَّحْمَن أَيْضا وَقَالَ الْكَرَابِيسِي فِي كتاب المدلسين أَبُو إِسْحَق يَقُول فِي هَذَا الحَدِيث مرّة حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عبد الله وَمرَّة حَدثنِي عَلْقَمَة عَن عبد الله وَمرَّة حَدثنِي أَبُو عُبَيْدَة عَن عبد الله وَمرَّة يَقُول لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة حَدَّثَنِيهِ وَإِنَّمَا حَدثنِي عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله وَهَذَا دَلِيل وَاضح أَنه رَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود سَمَاعا فَافْهَم وَأما قَول هَذَا الْقَائِل لكَون أبي عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه فمردود بِمَا ذكر فِي المعجم الْأَوْسَط للطبراني من حَدِيث زِيَاد بن سعد عَن أبي الزبير قَالَ حَدثنِي يُونُس بن عتاب الْكُوفِي سَمِعت أَبَا عُبَيْدَة بن عبد الله يذكر أَنه سمع أَبَاهُ يَقُول كنت مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي سفر الحَدِيث وَبِمَا أخرج الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه حَدِيث أبي إِسْحَق عَن أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه فِي ذكر يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَصحح إِسْنَاده وَرُبمَا حسن التِّرْمِذِيّ عدَّة أَحَادِيث رَوَاهَا عَن أَبِيه مِنْهَا لما كَانَ يَوْم بدر وَجِيء بالأسرى وَمِنْهَا كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين كَأَنَّهُ على الرصف وَمِنْهَا قَوْله {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله} وَمن شَرط الحَدِيث الْحسن أَن يكون مُتَّصِل الْإِسْنَاد عِنْد الْمُحدثين (ذكر رجال هَذَا الحَدِيث) وَهُوَ صَحِيح كَمَا ترى إِذْ لَو لم يكن صَحِيحا لما أخرجه هَهُنَا وَيُؤَيِّدهُ أَن ابْن الْمَدِينِيّ لما سُئِلَ عَنهُ لم يقْض فِيهِ بِشَيْء فَلَو كَانَ مُنْقَطِعًا أَو مدلسا لبينه فَإِن قلت قَالَ ابْن الشَّاذكُونِي هَذَا الحَدِيث مَرْدُود لِأَنَّهُ مُدَلّس لِأَن السبيعِي لم يُصَرح فِيهِ بِسَمَاع وَلم يَأْتِ فِيهِ بِصِيغَة مُعْتَبرَة وَمَا سَمِعت بتدليس أعجب من هَذَا وَلَا أخْفى فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة لم يحدثني(2/302)
وَلَكِن عبد الرَّحْمَن عَن فلَان وَلم يقل حَدثنِي فَجَاز الحَدِيث وَسَار قلت أَبُو إِسْحَق سَمعه من جمَاعَة وَلكنه كَانَ غَالِبا إِنَّمَا يحدث بِهِ عَن أبي عُبَيْدَة فَلَمَّا نشط يَوْمًا قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَة الَّذِي فِي ذهنكم أَنِّي حدثتكم عَنهُ حَدثنِي وَحده وَلَكِن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَلَعَلَّ البُخَارِيّ لم يرد ذَلِك متعارضا وجعلهما إسنادين أَو أَسَانِيد فَإِن قلت قَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أبي زرْعَة اخْتلفُوا فِي هَذَا الحَدِيث وَالصَّحِيح عِنْدِي حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله عَن أَبِيه وَزعم التِّرْمِذِيّ أَن أصح الرِّوَايَات عِنْده حَدِيث قيس بن الرّبيع وَإِسْرَائِيل عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله قَالَ لِأَن إِسْرَائِيل أثبت وأحفظ لحَدِيث أبي إِسْحَق من هَؤُلَاءِ وَتَابعه على ذَلِك قيس وَزُهَيْر عَن أبي إِسْحَق لَيْسَ بذلك لِأَن سَمَاعه مِنْهُ بآخرة سَمِعت أَحْمد بن الْحسن سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول إِذا سَمِعت الحَدِيث عَن زَائِدَة وَزُهَيْر فَلَا تبال أَن لَا تسمعه من غَيرهمَا إِلَّا حَدِيث أبي إِسْحَق وَرَوَاهُ زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أبي إِسْحَق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عبد الله وَهَذَا حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب قَالَ وَسَأَلت الدَّارمِيّ أَي الرِّوَايَات فِي هَذَا أصح عَن أبي إِسْحَق فَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء وَسَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا فَلم يقْض بِشَيْء وَكَأَنَّهُ رأى حَدِيث زُهَيْر أشبه وَوَضعه فِي جَامعه قلت كَون حَدِيث أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه صَحِيحا عِنْد أبي زرْعَة لَا يُنَافِي صِحَة طَرِيق البُخَارِيّ وَأما تَرْجِيح التِّرْمِذِيّ حَدِيث إِسْرَائِيل على حَدِيث زُهَيْر فمعارض بِمَا حَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي صَحِيحه لِأَنَّهُ رَوَاهُ من حَدِيث يحيى بن سعيد وَيحيى بن سعيد لَا يرضى أَن يَأْخُذ عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَق مَا لَيْسَ بِسَمَاع لأبي إِسْحَق وَقَالَ الْآجُرِيّ سَأَلت أَبَا دَاوُد عَن زُهَيْر وَإِسْرَائِيل فِي أبي إِسْحَق فَقَالَ زُهَيْر فَوق إِسْرَائِيل بِكَثِير وَتَابعه إِبْرَاهِيم بن يُوسُف عَن أَبِيه وَابْن حَمَّاد الْحَنَفِيّ وَأَبُو مَرْيَم وَشريك وزَكَرِيا بن أبي زَائِدَة فِيمَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ. وَإِسْرَائِيل اخْتلف عَلَيْهِ فَرَوَاهُ كَرِوَايَة زُهَيْر وَرَوَاهُ عباد الْقَطوَانِي وخَالِد العَبْد عَنهُ عَن أبي إِسْحَق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله وَرَوَاهُ الْحميدِي عَن ابْن عُيَيْنَة عَنهُ عَن أبي إِسْحَق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد ذكره الدَّارَقُطْنِيّ والعدوي فِي مُسْنده وَزُهَيْر لم يخْتَلف عَلَيْهِ واعتماده على مُتَابعَة قيس بن الرّبيع لَيْسَ بِشَيْء لشدَّة مَا رمي بِهِ من نَكَارَة الحَدِيث والضعف وإضرابه عَن مُتَابعَة الثَّوْريّ وَيُونُس وهما هما وَمن أكبر مَا يُؤَاخذ بِهِ التِّرْمِذِيّ أَنه أضْرب عَن الحَدِيث الْمُتَّصِل الصَّحِيح إِلَى مُنْقَطع على مَا زَعمه فَإِنَّهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه وَلَا يعرف اسْمه وَقَالَ فِي جَامعه حَدثنَا هناد وقتيبة قَالَا حَدثنَا وَكِيع عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَق عَن أبي عُبَيْدَة عَن عبد الله خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَاجَة فَقَالَ التمس لي ثَلَاثَة أَحْجَار قَالَ فَأَتَيْته بحجرين وروثة فَأخذ الحجرين وَرمى الروثة وَقَالَ إِنَّهَا ركس وَقد أجبنا عَن قَول من يَقُول أَبُو عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه وَكَيف مَا سمع وَقد كَانَ عمره سبع سِنِين حِين مَاتَ أَبوهُ عبد الله قَالَه غير وَاحِد من أهل النَّقْل وَابْن سبع سِنِين لَا يُنكر سَمَاعه من الغرباء عِنْد الْمُحدثين فَكيف من الْآبَاء القاطنين وَأما اسْمه فقد ذكر فِي الكنى لمُسلم والكنى لأبي أَحْمد وَكتاب الثِّقَات لِابْنِ حبَان وَغَيرهَا أَنه عَامر وَالله أعلم وَقيل اسْمه كنيته وَهُوَ هذلي كُوفِي أَخُو عبد الرَّحْمَن وَكَانَ يفضل عَلَيْهِ كَمَا قَالَه أَحْمد حدث عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَغَيرهَا وَحدث عَن أَبِيه فِي السّنَن وَعنهُ السبيعِي وَغَيره مَاتَ لَيْلَة دجيل. (بَيَان من أخرجه غَيره) هُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ مُسلم وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان عَن أبي نعيم بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن خَلاد عَن يحيى بن سعيد عَن زُهَيْر بِهِ. (بَيَان اللُّغَات) قَوْله الْغَائِط أَي الأَرْض المطمئنة لقَضَاء الْحَاجة وَالْمرَاد بِهِ مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ قَوْله رَوْثَة فِي الْعباب الروثة وَاحِدَة الروث والأرواث وَقد راث الْفرس يروث وَقَالَ التَّيْمِيّ قيل الروثة إِنَّمَا تكون للخيل وَالْبِغَال وَالْحمير قَوْله ركس بِكَسْر الرَّاء الرجس وبالفتح رد الشَّيْء مقلوبا وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي سنَنه الركس طَعَام الْجِنّ وَقَالَ الْخطابِيّ الركس الرجيع يَعْنِي قد رد عَن حَال الطَّهَارَة إِلَى حَال النَّجَاسَة وَيُقَال ارتكس الرجل فِي الْبلَاء إِذا رد فِيهِ بعد الْخَلَاص مِنْهُ وَقد جَاءَ الرجس بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والشرك كَقَوْلِه تَعَالَى {فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم} وَقيل نَحوه فِي قَوْله تَعَالَى {ليذْهب عَنْكُم الرجس} أَي ليطهركم من جَمِيع هَذِه الْخَبَائِث وَقد يَجِيء بِمَعْنى الْعَذَاب وَالْعَمَل الَّذِي يُوجِبهُ كَقَوْلِه {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} وَقيل بِمَعْنى اللَّعْنَة فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة وَقَالَ ابْن التِّين الرجس والركس فِي هَذَا الحَدِيث قيل النَّجس وَقيل القذر وَقَالَ ابْن بطال يُمكن أَن يكون معنى ركس رِجْس قَالَ وَلم أجد لأهل اللُّغَة شرح هَذِه الْكَلِمَة وَالنَّبِيّ(2/303)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعلم الْأمة باللغة وَقَالَ الدَّاودِيّ يحْتَمل أَن يُرِيد بالركس النَّجس وَيحْتَمل أَن يُرِيد لِأَنَّهَا طَعَام الْجِنّ وَفِي الْعباب الركس فعل بِمَعْنى مفعول كَمَا أَن الرجيع من رجعته والرجس بِالْكَسْرِ والرجس بِالتَّحْرِيكِ والرجس مِثَال كتف القذر يُقَال رِجْس نجس ورجس نجس ورجس نجس اتِّبَاع وَقَالَ الْأَزْهَرِي الرجس اسْم لكل مَا استقذر من الْعَمَل وَيُقَال الرجس المأثم (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله ذكره جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر لَيْسَ قَوْله وَلَكِن للاستدراك وَقَوله عبد الرَّحْمَن مَرْفُوع بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره وَلَكِن حَدثنِي عبد الرَّحْمَن قَوْله أَنه أَصله بِأَنَّهُ وَقَوله عبد الله مفعول لقَوْله سمع فَقَوله يَقُول جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله الْغَائِط مَنْصُوب بقوله أَتَى قَوْله أَن آتيه كلمة أَن مَصْدَرِيَّة صلَة لِلْأَمْرِ أَي أَمرنِي بإتيان الْأَحْجَار وَلَيْسَت أَن هَذِه مفسرة بِخِلَاف أَن فِي قَوْله أَمرته أَن يفعل فَإِنَّهَا تحْتَمل أَن تكون صلَة وَأَن تكون مفسرة قَوْله فَوجدت بِمَعْنى أصبت وَلِهَذَا اكْتفى بمفعول وَاحِد وَهُوَ حجرين قَوْله هَذَا ركس مُبْتَدأ وَخبر وَقعت مقول القَوْل فَإِن قلت الْمشَار إِلَيْهِ يؤنث وَهُوَ قَوْله رَوْثَة فَكيف ذكر الضَّمِير قلت التَّذْكِير بِاعْتِبَار تذكير الْخَبَر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هَذَا رَبِّي} وَفِي بعض النّسخ هَذِه على الأَصْل (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله والتمست الثَّالِث أَي طلبت الْحجر الثَّالِث قَوْله فَلم أَجِدهُ بالضمير الْمَنْصُوب رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره فَلم أجد بِدُونِ الضَّمِير قَوْله فَأَتَيْته بهَا أَي أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالثَّلَاثَةِ من الحجرين والروثة وَلَيْسَ الضَّمِير فِي بهَا عَائِدًا إِلَى الروثة فَقَط قَوْله هَذَا ركس كَذَا وَقع هَهُنَا فَقيل هُوَ لُغَة فِي رِجْس بِالْجِيم وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة ابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة فِي هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ عِنْدهمَا بِالْجِيم وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا زِيَاد بن الْحسن بن فرات عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتبرز فَقَالَ ائْتِنِي بِثَلَاثَة أَحْجَار فَوجدت لَهُ حجرين وروثة حمَار فَأمْسك الحجرين وَطرح الروثة وَقَالَ هِيَ رِجْس (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول فِيهِ منع الِاسْتِنْجَاء بالروث وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن فِيهِ بَيَان أَن أرواث الْحمر نَجِسَة وَإِذا كَانَت أرواث الْحمر نَجِسَة بِحكم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ حكم جَمِيع أرواث مَا لَا يجوز أكل لَحمهَا من ذَوَات الْأَرْبَع مثل أرواث الْحمر قلت قد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة نَجَاسَة الأرواث فَعِنْدَ أبي حنيفَة هِيَ نجس مغلظ وَبِه قَالَ زفر وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد نجس مخفف وَقَالَ مَالك الروث طَاهِر الثَّانِي فِيهِ منع الِاسْتِنْجَاء بِالنَّجسِ فَإِن الركس هُوَ النَّجس كَمَا ذَكرْنَاهُ الثَّالِث قَالَ الْخطابِيّ فِيهِ إِيجَاب عدد الثَّلَاث فِي الِاسْتِنْجَاء إِذْ كَانَ معقولا أَنه إِنَّمَا استدعاها ليستنجي بهَا كلهَا وَلَيْسَ فِي قَوْله فَأخذ الحجرين دَلِيل على أَنه اقْتصر عَلَيْهِمَا لجَوَاز أَن يكون بِحَضْرَتِهِ ثَالِث فَيكون قد استوفاها عددا وَيدل على ذَلِك خبر سلمَان قَالَ نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نكتفي بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار وَخبر أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يستنجي بِدُونِ ثَلَاثَة أَحْجَار قَالَ وَلَو كَانَ الْقَصْد الإنقاء فَقَط لخلا اشْتِرَاط الْعدَد عَن الْفَائِدَة فَلَمَّا اشْترط الْعدَد لفظا وَعلم الانقاء فِيهِ معنى دلّ على إِيجَاب الْأَمريْنِ وَنَظِيره الْعدة بالإقراء فَإِن الْعدَد مشترط وَلَو تحققت بَرَاءَة الرَّحِم بقرء وَاحِد انْتهى قلت لَا نسلم أَن فِيهِ إِيجَاب عدد الثَّلَاث بل كَانَ ذَلِك للِاحْتِيَاط لِأَن التَّطْهِير بِوَاحِد أَو اثْنَيْنِ لم يكن محققا فَلذَلِك نَص على الثَّلَاث لِأَن بِالثلَاثِ يحصل التَّطْهِير غَالِبا وَنحن نقُول أَيْضا إِذا تحقق شخص أَنه لَا يطهر إِلَّا بِالثلَاثِ يتَعَيَّن عَلَيْهِ الثَّلَاث وَالتَّعْيِين لَيْسَ لأجل التوفية فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ للانقاء الْحَاصِل فِيهِ حَتَّى إِذا احْتَاجَ إِلَى رَابِع أَو خَامِس وهلم جرا يتَعَيَّن عَلَيْهِ ذَلِك على أَن الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر فَإِنَّهُ لَو استنجى بِحجر لَهُ ثَلَاثَة أحرف جَازَ بِالْإِجْمَاع وَقَوله وَلَيْسَ فِي قَوْله فَأخذ الحجرين دَلِيل على أَنه اقْتصر عَلَيْهِمَا لَيْسَ كَذَلِك بل فِيهِ دَلِيل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ الثَّلَاث شرطا لطلب الثَّالِث فَحَيْثُ لم يطْلب دلّ على مَا قُلْنَاهُ وتعليله بقوله لجَوَاز أَن يكون بِحَضْرَتِهِ ثَالِث مَمْنُوع لِأَن قعوده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للغائط كَانَ فِي مَكَان لَيْسَ فِيهِ أَحْجَار إِذْ لَو كَانَت هُنَاكَ أَحْجَار لما قَالَ لَهُ ائْتِنِي بِثَلَاثَة أَحْجَار لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة لطلب الْأَحْجَار وَهِي حَاصِلَة عِنْده وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَقَوله وَلَو كَانَ الْمَقْصد الإنقاء فَقَط لخلا(2/304)
اشْتِرَاط الْعدَد عَن الْفَائِدَة قُلْنَا أَن ذكر الثَّلَاث لم يكن للاشتراط بل للِاحْتِيَاط إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن قَوْله وَنَظِيره الْعدة بالإقراء غير مُسلم لِأَن الْعدَد فِيهِ شَرط بِنَصّ الْقُرْآن والْحَدِيث وَلم يُعَارضهُ نَص آخر بِخِلَاف الْعدَد هَهُنَا لِأَنَّهُ ورد من فعل فقد أحسن وَمن لَا فَلَا حرج فَهَذَا لما دلّ على ترك أصل الِاسْتِنْجَاء دلّ على ترك وَصفه أَيْضا بِالطَّرِيقِ الأولى. وَقَالَ بَعضهم اسْتدلَّ بِهِ الطَّحَاوِيّ على عدم اشْتِرَاط الثَّلَاثَة قَالَ لِأَنَّهُ لَو كَانَ شرطا لطلب ثَالِثا كَذَا قَالَه وغفل عَمَّا أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده من طَرِيق معمر عَن أبي إِسْحَق عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود فِي هَذَا الحَدِيث فَإِن فِيهِ فَألْقى الروثة وَقَالَ أَنَّهَا ركس ائْتِنِي بِحجر وَرِجَاله ثِقَات أثبات وَقد تَابع معمرا عَلَيْهِ أَبُو شيبَة الوَاسِطِيّ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وتابعهما عمار بن زُرَيْق أحد الثِّقَات عَن أبي إِسْحَق قلت لم يغْفل الطَّحَاوِيّ عَن ذَلِك وَإِنَّمَا الَّذِي نسبه إِلَى الْغَفْلَة هُوَ الغافل وَكَيف يغْفل عَن ذَلِك وَقد ثَبت عِنْده عدم سَماع أبي إِسْحَق عَن عَلْقَمَة فَالْحَدِيث عِنْده مُنْقَطع والمحدث لَا يرى الْعَمَل بِهِ وَأَبُو شيبَة الوَاسِطِيّ ضَعِيف فَلَا يعْتَبر بمتابعته فَالَّذِي يَدعِي صَنْعَة الحَدِيث كَيفَ يرضى بِهَذَا الْكَلَام وَقد قَالَ أَبُو الْحسن بن الْقصار الْمَالِكِي روى أَنه أَتَاهُ بثالث لَكِن لَا يَصح وَلَو صَحَّ فالاستدلال بِهِ لمن لَا يشْتَرط الثَّلَاثَة قَائِم لِأَنَّهُ اقْتصر فِي الْمَوْضِعَيْنِ على ثَلَاثَة فَحصل لكل مِنْهُمَا أقل من ثَلَاثَة وَقَول ابْن حزم هَذَا بَاطِل لِأَن النَّص ورد فِي الِاسْتِنْجَاء وَمسح الْبَوْل لَا يُسمى استنجاء بَاطِل على مَا لَا يخفى ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل واستدلال الطَّحَاوِيّ أَيْضا فِيهِ نظر لاحْتِمَال أَن يكون اكْتفى بِالْأَمر الأول فِي طلب الثَّلَاثَة فَلم يجدد الْأَمر بِطَلَب الثَّالِث أَو اكْتفى بِطرف أَحدهمَا عَن الثَّالِث لِأَن الْمَقْصُود بِالثَّلَاثَةِ أَن يمسح بهَا ثَلَاث مسحات وَذَلِكَ حَاصِل وَلَو بِوَاحِد وَالدَّلِيل على صِحَّته أَنه لَو مسح بِطرف وَاحِد ثمَّ رَمَاه ثمَّ جَاءَ شخص آخر فَمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بِلَا خلاف قلت نظره مَرْدُود عَلَيْهِ لِأَن الطَّحَاوِيّ اسْتدلَّ بِصَرِيح النَّص لما ذهب إِلَيْهِ وبالاحتمال الْبعيد كَيفَ يدْفع هَذَا وَقَوله لِأَن الْمَقْصُود بِالثَّلَاثَةِ أَن يمسح بهَا ثَلَاث مسحات يُنَافِيهِ اشتراطهم الْعدَد فِي الْأَحْجَار لأَنهم مستدلون بِظَاهِر قَوْله وَلَا يسْتَنْج أحدكُم بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار وَقَوله وَذَلِكَ حَاصِل وَلَو بِوَاحِد مُخَالف لصريح الحَدِيث فَهَل رَأَيْت من يرد بمخالفة ظَاهر حَدِيثه الَّذِي يحْتَج بِهِ على من يحْتَج بِظَاهِر الحَدِيث بطرِيق الِاسْتِدْلَال الصَّحِيح وَهل هَذَا إِلَّا مُكَابَرَة وتعنت عصمنا الله من ذَلِك وَمن أمعن النّظر فِي أَحَادِيث الْبَاب ودقق ذهنه فِي مَعَانِيهَا علم وَتحقّق أَن الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم وَأَن المُرَاد الانقاء لَا التَّثْلِيث وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَكَاهُ الْعَبدَرِي وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَدَاوُد وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة ايضا (وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن يُوسُف عَن أبي إِسْحَاق حَدثنِي عبد الرَّحْمَن) هَذَا مَوْجُود فِي غَالب النّسخ ذكره أَبُو مَسْعُود وَخلف وَغَيرهمَا عَن البُخَارِيّ وَلَيْسَ بموجود فِي بَعْضهَا وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّعْلِيق الرَّد على من زعم أَن أَبَا إِسْحَق دلّس هَذَا الْخَبَر كَمَا حكى ذَلِك عَن الشَّاذكُونِي كَمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ وَقد اسْتدلَّ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا على صِحَة سَماع أبي إِسْحَق لهَذَا الحَدِيث من عبد الرَّحْمَن لكَون يحيى الْقطَّان رَوَاهُ عَن زُهَيْر ثمَّ قَالَ وَلَا يرضى الْقطَّان أَن يَأْخُذ عَن زُهَيْر مَا لَيْسَ بِسَمَاع لأبي إِسْحَق كَمَا ذَكرْنَاهُ وَإِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَق بن أبي إِسْحَق السبيعِي الْهَمدَانِي الْكُوفِي روى عَن أَبِيه وجده وَعنهُ أَبُو كريب وَجَمَاعَة فِيهِ لين أخرجُوا لَهُ سوى ابْن مَاجَه مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَأَبُو يُوسُف الْكُوفِي الْحَافِظ روى عَن جده وَالشعْبِيّ وَعنهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيره مَاتَ فِي زمن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَيُقَال توفّي سنة سبع وَخمسين وَمِائَة وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن الْأسود الْمُتَقَدّم ذكره وَقَالَ الْكرْمَانِي هَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة ذكرهَا البُخَارِيّ تَعْلِيقا فَإِن قلت قد تكلم فِي إِبْرَاهِيم قَالَ عَيَّاش إِبْرَاهِيم عَن يحيى لَيْسَ بِشَيْء وَقَالَ النَّسَائِيّ إِبْرَاهِيم لَيْسَ بِالْقَوِيّ قلت يحْتَمل فِي المتابعات مَا لَا يحْتَمل فِي الْأُصُول انْتهى كَلَامه. قلت لأجل مُتَابعَة يُوسُف الْمَذْكُور حفيد أبي إِسْحَق زُهَيْر بن مُعَاوِيَة رجح البُخَارِيّ رِوَايَة زُهَيْر الْمَذْكُورَة وتابعهما أَيْضا شريك القَاضِي وزَكَرِيا بن أبي زَائِدَة وَغَيرهمَا وتابع أَبَا إِسْحَق على رِوَايَته عَن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور لَيْث بن أبي سليم أخرجه ابْن أبي شيبَة وَحَدِيثه يستشهد بِهِ وَلما اخْتَار فِي رِوَايَة زُهَيْر طَرِيق عبد الرَّحْمَن على طَرِيق أبي عُبَيْدَة دلّ على أَنه عَارِف بالطريقين وَأَن رِوَايَة عبد الرَّحْمَن عِنْده أرجح وَالله أعلم (تمّ الْجُزْء الثَّانِي وَالْحَمْد لله(2/305)
22 - (بابُ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء مرّة مرّة، يَعْنِي: لكل عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء مرّة وَاحِدَة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْأَبْوَاب الَّتِي قبله ظَاهر، وَهُوَ أَن تِلْكَ الْأَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الِاسْتِنْجَاء، وَهَذَا فِي بَيَان حكم الْوضُوء، وَلَا شكّ أَن الْوضُوء يَتْلُو الِاسْتِنْجَاء، وَقد بَين إِجْمَال مَا فِي حَدِيث هَذَا الْبَاب فِي بَاب غسل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بغرفة وَاحِدَة، وَكِلَاهُمَا عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
157 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدّثناسُفْيانُ عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَوضَّأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَّةً مَرَّةً.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف، قَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بِهِ هُنَا: إِمَّا البيكندي، وَتقدم فِي بَاب مَا كَانَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يتخولهم؟ وَإِمَّا الْفرْيَابِيّ، وَتقدم فِي بَاب لَا يمسك ذكره. ثمَّ قَالَ: الْغَالِب أَن البيكندي يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْفِرْيَابِي، وَتقدم فِي بَاب لَا يمسك ذكره. ثمَّ قَالَ: الغال أَن البيكندي يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْفِرْيَابِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْفرْيَابِيّ عَن ابْن عُيَيْنَة، لِأَن السفيانين كليهمَا شيخاه، كَمَا أَن زيد بن أسلم شيخ السفيانين، وكما أَن ابْني يُوسُف شَيخا البُخَارِيّ. وَقَالَ بَعضهم: سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والراوي عَنهُ الْفرْيَابِيّ لَا البيكندي. قلت: جزم هَذَا الْقَائِل بِأَن سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَن مُحَمَّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ لَا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ، وَالِاحْتِمَال الْمَذْكُور الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي غير مَدْفُوع، فَافْهَم. وَقَالَ الْكرْمَانِي. أَيْضا: فان قلت فَهَذَا تَدْلِيس، إِذْ فِيهِ الِاشْتِبَاه الْمُؤَدِّي إِلَى كَون الرَّاوِي مَجْهُولا، فَيلْزم الْقدح فِي الْإِسْنَاد. قلت: مثله لَا يقْدَح فِيهِ لِأَن أياً كَانَ مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ، لَا يتَفَاوَت الحكم باخْتلَاف ذَلِك. الثَّانِي: سُفْيَان، إِمَّا ابْن عُيَيْنَة، وَإِمَّا الثَّوْريّ، وَقد ذكر. لَكِن الرَّاجِح أَنه الثَّوْريّ لِأَن أَبَا نعيم صرح بِهِ فِي كِتَابه. وَالله اعْلَم. الثَّالِث: زيد بن أسلم التَّابِعِيّ الْمدنِي، وَقد مر. الرَّابِع: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء وَالسِّين الْمُهْملَة المخففة. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء ثِقَات. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ: زيد بن أسلم عَن عَطاء.
بَيَان من أخرجه غَيره هَذَا مِمَّا تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم. وَأخرجه الْأَرْبَعَة، فَأَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (أَلا أخْبركُم بِوضُوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَتَوَضَّأ مرّة مرّة) . وَالتِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وهناد وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ. وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مثنى عَن(3/2)
يحيى بِهِ، وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن خَلاد الْبَاهِلِيّ عَن يحيى بِإِسْنَادِهِ: تَوَضَّأ بغرفة وَاحِدَة. وَأَيْضًا الْكل أَخْرجُوهُ فِي كتاب الطَّهَارَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عقيب إِخْرَاجه: وَفِي الْبَاب عَن عمر وَجَابِر وَبُرَيْدَة وَأبي رَافع وَابْن الْفَاكِه، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس احسن شَيْء فِي الْبَاب. قلت: لَا جرم اقْتصر عَلَيْهِ البُخَارِيّ. قَالَ: وروى رشدين بن سعد وَغَيره هَذَا الحَدِيث عَن الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر مَرْفُوعا بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَالصَّحِيح مَا مروى ان عجلَان وَهِشَام بن سعد وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ عَن سُفْيَان جماعات غير شيخ البُخَارِيّ، مِنْهُم وَكِيع، وَنبهَ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا على أَن ابْن لَهِيعَة وَرشْدِين بن سعد روياه عَن الضَّحَّاك أَيْضا، كَمَا سلف، وَأَن عبد الله بن سِنَان خَالفه، فَرَوَاهُ عَن زيد عَن عبد الله بن عمر. قَالَ: وَكِلَاهُمَا وهم، وَالصَّوَاب: زيد عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي (مُسْند الْبَزَّار) : مَا أَتَى هَذَا إلاَّ من الضَّحَّاك، وَقد أغفل فِي مُسْنده قصد الصَّوَاب. قلت: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا رشدين بن سعد أخبرنَا الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل عَن زيد بن سلم عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَوَضَّأ وَاحِدَة وَاحِدَة) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان الْمُؤَذّن عَن أَسد عَن ابْن لَهِيعَة عَن الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل عَن زيد بن اسْلَمْ عَن أَبِيه عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَتَوَضَّأ مرّة مرّة) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا عَن ثَابت بن ابي صَفِيَّة، قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر، قلت لَهُ: حدثت عَن جَابر بن عبد الله (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة؟ قَالَ: نعم) الحَدِيث، وَحَدِيث بُرَيْدَة أخرجه وَحَدِيث أبي رَافع أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا عبد الله بن عمر بن الْخطاب حَدثنَا الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن عبيد الله بن ابي رَافع عَن ابيه، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ورأيته تَوَضَّأ مرّة مرّة) . وَحَدِيث ابْن الْفَاكِه أخرجه الْبَغَوِيّ فِي (مُعْجَمه) : حَدثنَا عَليّ بن أبي الْجَعْد حَدثنَا عدي ابْن الْفضل عَن ابي جَعْفَر عَن عمَارَة بن خُزَيْمَة بن ثَابت عَن ابْن الْفَاكِه، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرّة مرّة) . وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن ابي بن كَعْب، أخرجه ابْن مَاجَه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِمَاء فَتَوَضَّأ مرّة مرّة)
. الحَدِيث.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قَوْله: مرّة، نصب على الظّرْف، أَي: تَوَضَّأ فِي زمَان وَاحِد، وَلَو كَانَ ثمَّة غسلتان أَو غسلات لكل عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء لَكَانَ التَّوَضُّؤ فِي زمانين أَو أزمنة، إِذْ لَا بُد لكل غسلة من زمَان غير زمَان الغسلة الْأُخْرَى، أَو مَنْصُوب على الْمصدر، أَي: تَوَضَّأ مرّة من التوضيء أَي: غسل الْأَعْضَاء غسلة وَاحِدَة، وَكَذَا حكم الْمسْح. فان قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير يلْزم أَن يكون مَعْنَاهُ تَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَمِيع عمره مرّة وَاحِدَة، وَهُوَ ظَاهر الْبطلَان. قلت: لَا يلْزم، بل تكْرَار لفظ مرّة يقتضى التَّفْصِيل والتكرير، أَو نقُول: إِن المُرَاد أَنه غسل فِي كلِّ وضوء كلَّ عُضْو مرّة مرّة، لِأَن تكْرَار الْوضُوء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من الدّين، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: فِي الْجَواب الثَّانِي نظر، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن جَمِيع وضوء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي عمره مرّة مرّة، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفي.
وَاسْتدلَّ ابْن التِّين بِهَذَا الحَدِيث على عدم إِيجَاب تَخْلِيل اللِّحْيَة لِأَنَّهُ إِذا غسل وَجهه مرّة لَا يبْقى مَعَه من المَاء مَا يخلل بِهِ، قَالَ: وَفِيه رد على من قَالَ: فرض مغسول الْوضُوء ثَلَاث.
23 - (بَاب الوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي الْوضُوء مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ لكل عُضْو. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : قد روى البُخَارِيّ بعدُ، من حَدِيث عَمْرو ابْن يحيى عَن ابيه عَن عبد الله بن زيد: (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ، ومضمض واستنشق ثَلَاثًا وَغسل وَجهه ثَلَاثًا) ، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد فَلَا يحسن استدلاله بِهِ فِي هَذَا الْبَاب، اللَّهُمَّ إِلَّا لَو قَالَ: إِن بعض وضوئِهِ كَانَ مرَّتَيْنِ، وَبَعضه ثَلَاثًا، لَكَانَ حسنا. قلت: هَذَا الِاعْتِرَاض غير وَارِد لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع تعدد الْقَضِيَّة، كَيفَ وَالطَّرِيق إِلَى عبد الله بن زيد مُخْتَلف؟ .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى.(3/3)
158 - حدّثنا حُسَيْنُ بنُ عِيسَى قَالَ حَدثنَا يُونُسُ بن مُحمَّدٍ قَالَ حَدثنَا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبي بَكْر بنِ مُحَمَّدِ بِنْ عَمْرِ وبنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّاد بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ أنَّ النبيَّ صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مَرَّتيْنِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الْحُسَيْن، بِالتَّصْغِيرِ، بن مُوسَى بن حمْرَان، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: الطَّائِي أَبُو عَليّ القومسي، بِالْقَافِ وبالمهلمة: البسطامي الدَّامغَانِي، سكن نيسابور وَبهَا مَاتَ سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة، ثِقَة من أَئِمَّة الْعَرَبيَّة، وَهُوَ من الْأَفْرَاد، لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من اسْمه الْحُسَيْن بن عِيسَى غَيره. وَفِي أبي دَاوُد ابْن مَاجَه آخر حَنَفِيّ كُوفِي، أَخُو سليم الْقَارِي، ضَعِيف. وبسطام وسمنان والدامغان من قومس، وقومس عمل مُفْرد بَين الرّيّ وخراسان، وبسطام بِفَتْح الْبَاء كَذَا فِي (تَقْوِيم الْبلدَانِ) . الثَّانِي: يُونُس بن مُحَمَّد ابْن مُسلم أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب الْمعلم الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ سنة أَو ثَمَان أَو غير ذَلِك. الثَّالِث: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، واسْمه: عبد الْملك، وفليح لقب لَهُ غلب عَلَيْهِ، وَقد مر فِي أول كتاب الْعلم. الرَّابِع: عبد الله بن أبي بكر الْمدنِي. أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ، توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَفِي بعض النّسخ سقط لفظ: مُحَمَّد، بَين أبي بكر وَعَمْرو. الْخَامِس: عباد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: بن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ، وَاخْتلف فِي كَونه صحابياً. السَّادِس: عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني، هُوَ عَم عباد، وَقد تقدما فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك حَتَّى يستقين، وَهُوَ غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه صَاحب رُؤْيا الْأَذَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين نيسابوري وبغدادي ومدني، وفليح وَمن فَوْقه مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: عبد الله بن ابي بكر عَن عباد بن تَمِيم، وَرِوَايَة صحبي عَن صَحَابِيّ على قَول من يَقُول: إِن عباداً من الصَّحَابَة.
بَيَان من أخرجه غَيره وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ غَيره من الْجَمَاعَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (ان النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث ابْن ثَوْبَان عبد عبد الله بن الْفضل. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر، وأغفل حَدِيث عبد الله بن زيد. قلت: حَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام انتصاب: (مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) ، على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي: مرّة مرّة؛ وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث عبد الله بن زيد الْمَشْهُور فِي صفة وضوء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا سَيَأْتِي بعد من حَدِيث مَالك وَغَيره، وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ الْغسْل مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ إلاَّ فِي الْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين، وَكَانَ حق حَدِيث عبد الله بن زيد أَن يبوب لَهُ غسل بعض الْأَعْضَاء مرّة وَبَعضهَا مرَّتَيْنِ وَبَعضهَا ثَلَاثًا. قلت: قد قَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن الحَدِيث الْمَذْكُور مُجمل، وَإِن حَدِيث مَالك مُبين، ومخرجهما مُخْتَلف، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يتضي بَيَان مَا ذكره على أَنه لَيْسَ فِي حَدِيث عبد الله بن زيد أَنه غسل بعض الْأَعْضَاء مرّة مرّة، وَإِنَّمَا هَذَا فِي حَدِيث غَيره، وَلم يلْتَزم البُخَارِيّ التَّبْوِيب على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ الْأَمر يَقْتَضِي بَيَان مَا رُوِيَ عَنهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه تَوَضَّأ مرّة مرّة وَمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه تَوَضَّأ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه تَوَضَّأ بعض وضوئِهِ مرّة وَبَعضه ثَلَاثًا، وَمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه تَوَضَّأ بعض وضوئِهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَبَعضه ثَلَاثًا.
24 - (بابُ الوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا لكل عُضْو.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
159 - حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الاُوَيْسِىُّ قَالَ حدّثني إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ عَطَاءَ بنَ يَزِيدَ أخْبرَهُ أنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمانَ أخْبَرَهُ أنَّهُ رَأى عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ(3/4)
دَعا باناءٍ فأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِناءِ فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْن ثَلاثَ مِرَارٍ (ثُمَّ) مَسَحَ بِرَأسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ إِلَى الكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِهِ.
مُطَابقَة الحدي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ غسل الْأَعْضَاء المغسوله كلهَا ثَلَاث مَرَّات.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي، بِضَم الْهمزَة، وَقد مر فِي بَاب الْحِرْص على الحَدِيث فِي كتاب الْعلم. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد، سبط عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَقد مر فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عطاه ابْن يزِيد التَّابِعِيّ، وَقد تقدم فِي بَاب: وَقد تقدم فِي بَاب: لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة بغائط. الْخَامِس: حمْرَان، بِضَم الْحَاء المهلمة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: ابْن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَالْيَاء الْمُوَحدَة المخففة: ابْن خَالِد بن عَمْرو، من سبي عين التَّمْر، سباه خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَوَجَدَهُ غُلَاما كيساً، فوجهه إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَأعْتقهُ، وَكَانَ كَاتبه وحاجبه، وَولي نيسابور من الْحجَّاج، ذكره البُخَارِيّ فِي (ضُعَفَائِهِ) ، وإحتج بِهِ فِي (صَحِيحه) ، وَكَذَا مُسلم وَالْأَرْبَعَة. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ كثير الحَدِيث، لم أرهم يحتجون بحَديثه، مَاتَ سنة خمس وَسبعين أغرمه الْحجَّاج مائَة ألف لأجل الْولَايَة السَّابِقَة: ثمَّ، رد عَلَيْهِ ذَلِك بشفاعة عبد الْملك. السَّادِس: أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف، أمه أروى بنت عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أَصْغَر من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُسمى بِذِي النوري لِأَنَّهُ تزوج بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رقية فَمَاتَتْ عِنْده، ثمَّ أم كُلْثُوم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مائَة حَدِيث وسته وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا أحذد عشر. اسْتخْلف أول يَوْم من الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين، وَقتل يَوْم الْجُمُعَة لثمان عشرَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ، قَتله الْأسود التحبيبي، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالياء الْمُوَحدَة. وَدفن لَيْلَة السبت بِالبَقِيعِ، وعمره اثْنَان وَثَمَانُونَ سنة، وَصلى عَلَيْهِ حَكِيم بن حزَام، وَكَثُرت الْأَمْوَال فِي خِلَافَته حَتَّى بِيعَتْ جَارِيَة بوزنها، وَفرس بِمِائَة ألف، ونخلة بِأَلف دِرْهَم، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه عُثْمَان بن عَفَّان غَيره.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض: ابْن شهَاب وَعَطَاء وحمران.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه ايضاً فِي الصَّوْم عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وحرملة بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سَلامَة عَن أَبِيه، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ ععن الْحسن بن عَليّ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن ابْن مِسْكين وَاحْمَدْ بن عَمْرو بن السَّرْح كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن الْمُغيرَة عَن عُثْمَان بن سعيد بن كثير بن دِينَار عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (فأفرغ على يَدَيْهِ) من أفرغت الْإِنَاء إفراغاً، وفرغته تفريغاً إِذا قلبت مَا فِيهِ، وَالْمعْنَى هَهُنَا: صب على يَدَيْهِ. يُقَال: فرغ المَاء، بِالْكَسْرِ، إِذا انصب. وأفرغته أَنا أَي: صببته، وتفريغ الظروف: إخلاؤها. قَوْله: (فَمَضْمض) الْمَضْمَضَة تَحْرِيك المَاء فِي الْفَم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: حَقِيقَة المضمضمة وكما لَهَا أَن يَجْعَل المَاء فِي فَمه، ثمَّ يديره فِيهِ، ثمَّ يمجه. وَقَالَ الزندوستي، من أَصْحَابنَا: أَن يدْخل إصبعه فِي فَمه وَأَنْفه، وَالْمُبَالغَة فيهمَا سنة، وَقَالَ الصَّدْر الشَّهِيد: الْمُبَالغَة فِي الْمَضْمَضَة الغرغرة، وَقد مُضِيّ تَحْقِيق الْكَلَام فِيهَا فِيمَا مضى. قَوْله: (واستنثر) قَالَ جُمْهُور أهل اللُّغَة وَالْفُقَهَاء والمحدثون: الاستنثار إِخْرَاج المَاء من الْأنف بعد الإستنشاق، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: الاستنثار هُوَ الِاسْتِنْشَاق. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب هُوَ الأول، وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى (استنشق واستنثر) ، فَجمع بَينهمَا. وَقَالَ أهل اللُّغَة: هُوَ مَأْخُوذ من النثرة، وَهِي طرف الْأنف. وَقَالَ الْخطابِيّ(3/5)
وَغَيره: هِيَ الْأنف. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: روى سَلمَة عَن الْفراء أَنه يُقَال: نثر الرجل وانتثر واستنثر: إِذا حرك النثرة فِي الطهار. وَقَالَ ابْن الاثير: نثر ينثر، بِالْكَسْرِ، إِذا امتخط، واستنثر: استفعل مِنْهُ، اي: استنشق المَاء ثمَّ استخرج مَا فِي الْأنف فينثره، وَقيل: هِيَ من تَحْرِيك النثرة، وَهِي طرف الْأنف قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه ابْن الْأَعرَابِي أَن المُرَاد من قَوْله: (واستنثر) الِاسْتِنْشَاق وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب هُوَ الأول. وَقَوله يدل عَلَيْهِ. الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (استنشق واستنثر) ، لَا يدل على مَا ادَّعَاهُ، لِأَن المُرَاد من الاستنثار فِي هَذِه الرِّوَايَة الامتخاط، وَهُوَ أَن يمتخط بعد الِاسْتِنْشَاق. وَقَالَ ابْن سَيّده: استنثر إِذا استنشق المَاء من ثمَّ استخرج ذَلِك بِنَفس الْأنف، والنثرة الخيشوم وَمَا وَالَاهُ، وتنشق واستنشق المَاء فِي انفه: صبه فِيهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الانتثار والاستنثار بِمَعْنى، وَهُوَ: نثر مَا فِي الْأنف بِالنَّفسِ. وَقَالَ ابْن طَرِيق: نثر المَاء من أَنفه دَفعه. وَفِي (جَامع) الْقَزاز: نثرت الشَّيْء أنثره وانثره نثراً: إِذا بددته، وانت ناثر، وَالشَّيْء منثور. قَالَ: والمتوضىء يستنشق إِذا جذب المَاء برِيح أَنفه، ثمَّ يستنثره. وَفِي (الغريبين) : يستنشق اي: يبلغ المَاء خياشيمه، وَيُقَال: نثر وانتثر واستنثر: إِذا حرك النثرة، وَهِي طرف الْأنف. قَوْله: (وَجهه) الْوَجْه مَا يواجه الْإِنْسَان وَهُوَ من قصاص السّعر إِلَى أَسْفَل الذقن طولا وَمن شحمة الْأذن إِلَى شحمة الْأذن عرضا قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) ، الرَّأْس مُشْتَمل على الناصية والقفا والفودين، وَذكر ابْن جني: أَن الْجمع أرؤس واءرس على الْقلب، ورؤس. وَقَالَ ابْن السّكيت: وروس على الْحَذف، وَأنْشد:
(فيوماً إِلَى أَهلِي وَيَوْما إِلَيْكُم ... وَيَوْما أحط الْخَيل من روس الْجبَال)
وَرجل أراسي ورواسي: عَظِيم الرَّأْس. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: رواس كَذَلِك. وَقَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُخَصّص) : وَإِذا قيل: رَأس، فتخفيفه قِيَاس ثَابت. يُقَال: لرأس الانسان قلَّة، وَالْجمع قلل وقلال. وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَهِي القنة، وَالْجمع: قنن، والعلاوة وَهِي: حِكْمَة الْإِنْسَان وقادمه وملطاطه وهامته. قَوْله: (غفر لَهُ) : الغفر والغفران: السّتْر، وَمِنْه: المغفر لِأَنَّهُ يغْفر الرَّأْس أَي: يستره. وَقَالَ ابْن الاثير: أصل الغفر: التغطية، وَالْمَغْفِرَة: إلباس الله الغفر للمذنبين.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (أخبرهُ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (أَن حمْرَان) ، أَصله: بِأَن حمْرَان. قَوْله: (مولى عُثْمَان) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: لحمران، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ اسْم: أَن، وَمنع من الصّرْف للعلمية وَالْألف وَالنُّون الزائدتين. قَوْله: (انه رأى عُثْمَان) أَصله: بِأَنَّهُ. قَوْله: (دَعَا بِإِنَاء) جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي؛ قَوْله تَعَالَى: {أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) وَلَفظه: رأى، بِمَعْنى: أبْصر، فَلذَلِك اكْتفى بمفعول وَاحِد وَهُوَ: عُثْمَان. قَوْله: (فأفرغ) الْفَاء فِيهِ فَاء التَّفْسِير. قَوْله: (ثَلَاث مرار) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه صفة الْمصدر مَحْذُوف أَي: إفراغاً ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (فَمَضْمض) الْفَاء فِيهِ فَاء فصيحة، وَتَقْدِيره: فَأخذ المَاء مِنْهُ وَأدْخلهُ فِي فِيهِ فَمَضْمض. قَوْله: (ثَلَاثًا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف اي: غسلا ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (وَيَديه) عطف على قَوْله: (وَجهه) ، وَالتَّقْدِير: وَغسل يَدَيْهِ. قَوْله: (من تَوَضَّأ) كلمة: من، مَوْصُولَة معنى الشَّرْط، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. وَقَوله: (تَوَضَّأ) جملَة وَقعت صلَة للموصول. قَوْله: (نَحْو وضوئى) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: من تَوَضَّأ وضواً نَحْو وضوئي. قَوْله: (ثمَّ صلى) عطف على: تَوَضَّأ قَوْله: (لَا يحدث فيهمَا نَفسه) جملَة نَافِيَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لركعتي. قَوْله: (غفر لَهُ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. قَوْله: (مَا تقدم) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من ذَنبه) ، للْبَيَان.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (دَعَا بِإِنَاء) أَي: بظرف فِيهِ المَاء للْوُضُوء، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الْآتِيَة قَرِيبا: (دَعَا بِوضُوء) بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ اسْم للْمَاء الْمعد للتوضيء، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس. قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) وَفِي بعض النّسخ: (ثَلَاث مَرَّات) . قَوْله: (فَمَضْمض واستنثر) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (واستنشق) بدل قَوْله: (واستنثر) وَثبتت الثَّلَاثَة فِي رِوَايَة شُعَيْب الْآتِيَة فِي بَاب الْمَضْمَضَة وَلَيْسَ فِي طرق هَذَا الحَدِيث تَقْيِيد الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق بِعَدَد غير طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، فِيمَا ذكره ابْن الْمُنْذر، وَكَذَا فِيمَا ذكره أَبُو دَاوُد من وَجْهَيْن آخَرين عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن فِي أَحدهمَا: (فَتَمَضْمَض ثَلَاثًا واستنثر ثَلَاثًا) . وَفِي الآخر: (ثمَّ تمضمض واستنشق ثَلَاثًا) . قَوْله: (ثمَّ غسل وَجهه) عطف بِكَلِمَة: ثمَّ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب والمهلة. فان قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَأْخِير غسل الْوَجْه عَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق؟ قلت: ذكرُوا أَن حِكْمَة ذكل اعْتِبَار أَوْصَاف المَاء، لِأَن اللَّوْن يدْرك بالبصر، والطعم يدْرك بالفم، وَالرِّيح يدْرك بالأنف، فَقدم الْأَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ الطّعْم ثمَّ الرّيح(3/6)
ثمَّ اللَّوْن. قَوْله: (وَيَديه إِلَى الْمرْفقين) أَي: كل وَاحِدَة، كَمَا جَاءَ هَكَذَا مُبينًا فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ كَمَا يَجِيء فِي كتاب الصَّوْم، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس، وَفِيهِمَا تَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى، وَالتَّعْبِير فِي كل مِنْهُمَا بِكَلِمَة: ثمَّ، وَكَذَا فِي الرجلَيْن أَيْضا. قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ المذكورتين، ثمَّ مسح رَأسه بِلَا بَاء، الْجَرّ وَالْفرق بَينهمَا أَن فِي الأول لَا يقتضى اسْتِيعَاب الْمسْح بِخِلَاف الثَّانِي. قَوْله: (نَحْو وضوئي هَذَا) قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا قَالَ: نَحْو وضوئي، وَلم يقل: مثل، لِأَن حَقِيقَة مماثلته لَا يقدر عَلَيْهَا غَيره، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الرقَاق من طَرِيق المعاذ بن عبد الرَّحْمَن عَن حمْرَان عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (من تَوَضَّأ مثل هَذَا الْوضُوء) . وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، من طَرِيق زيد بن أسلم عَن حمْرَان: (من تَوَضَّأ مثل وضوئي هَذَا) ، وَالتَّقْدِير: مثل وضوئي، وكل وَاحِد من لَفْظَة: نَحْو وَمثل. من أَدَاة التَّشْبِيه والتشبيه لَا عُمُوم لَهُ، سَوَاء قَالَ: نَحْو وضوئي هَذَا، أَو: مثل وضوئي، فَلَا يلْزم مَا ذكره النَّوَوِيّ. وَقَالَ بَعضهم: فالتعبير: بِنَحْوِ، من تصرف الروَاة لِأَنَّهَا تطلق على المثلية مجَازًا، لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ ثَبت فِي اللُّغَة مجىء: نَحْو، بِمَعْنى: مثل. يُقَال: هَذَا نَحْو ذَاك، أَي: مثله. قَوْله: (لَا يحدث فيهمَا) أَي: فِي الرَّكْعَتَيْنِ، قَالَ القَاضِي عِيَاض: يويد بِحَدِيث النَّفس الحَدِيث المجتلب والمكتسب، وَأما مَا يَقع فِي الخاطر غَالِبا فَلَيْسَ هُوَ المُرَاد. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الَّذِي يكون من غَيره قصد يُرْجَى أَن تقبل مَعَه الصَّلَاة، وَيكون دون صَلَاة من لم يحدث نَفسه بِشَيْء لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ضمن الغفران لمراعي ذَلِك لِأَنَّهُ قل من تسلم صلَاته من حَدِيث النَّفس، وَإِنَّمَا حصلت لَهُ هَذِه الْمرتبَة لمجاهدة نَفسه من خطرات الشَّيْطَان ونفيها عَنهُ ومحافظته عَلَيْهَا حَتَّى لَا يشْتَغل عَنْهَا طرفَة عين، وَسلم من الشَّيْطَان بِاجْتِهَادِهِ وتفريغه قلبه. قيل: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ إخلاص الْعَمَل لله تَعَالَى وَلَا يكون لطلب الجاء، وان يُرَاد ترك الْعجب بِأَن لَا يرى لنَفسِهِ منزلَة رفيعة بأدائها، بل يَنْبَغِي أَن يحقر نَفسه كي لَا تغتر فتتكبر. وَيُقَال: إِن كَانَ المُرَاد بِهِ أَن لَا يخْطر بِبَالِهِ شَيْء من أُمُور الدُّنْيَا فَذَلِك صَعب وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ أَنه بعد خطوره بِهِ لَا يسْتَمر عَلَيْهِ فَهُوَ عمل المخلصين. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن حَدِيث النَّفس قِسْمَانِ: مَا يهجم عَلَيْهَا ويتعذر دَفعهَا، وَمَا يسترسل مَعهَا وَيُمكن قطعه، فَيحمل الحَدِيث عَلَيْهِ دون الأول لعسر اعْتِبَاره. وَقَوله: (يحدث) من بَاب التفعيل وَهُوَ يَقْتَضِي التكسب من أَحَادِيث النَّفس، وَدفع هَذَا مُمكن. وَأما مَا يهجم من الخطرات والوساوس فَإِنَّهُ يتَعَذَّر دَفعه فيعفى عَنهُ، وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن بَعضهم بِأَن المُرَاد: من لم يحصل لَهُ حَدِيث النَّفس أصلا ورأساً، ورده النَّوَوِيّ فَقَالَ: الصَّوَاب حُصُول هَذِه الْفَضِيلَة مَعَ طريان الخواطر الْعَارِضَة غَيره المستقرة، ثمَّ حَدِيث النَّفس يعم الخواطر الدُّنْيَوِيَّة والأخروية، والْحَدِيث مَحْمُول على الْمُتَعَلّق بالدنيا فَقَط، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث: ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الصَّلَاة، تأليفه: (لَا يحدث فيهمَا نَفسه بِشَيْء من الدُّنْيَا، ثمَّ دَعَا إِلَيْهِ إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ) . انْتهى فَإِذا حدث نَفسه فِيمَا يتَعَلَّق بِأُمُور الْآخِرَة: كالفكر فِي مَعَاني المتلو من الْقُرْآن الْعَزِيز وَالْمَذْكُور من الدَّعْوَات والأذكار، أَو فِي أَمر مَحْمُود أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يضر ذَلِك، وَقد ورد عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: لأجهز الْجَيْش وَأَنا فِي الصَّلَاة، أَو كَمَا قَالَ قَوْله: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) يَعْنِي: من الصَّغَائِر دون الْكَبَائِر، كَذَا هُوَ مُبين فِي مُسلم، وَظَاهر الحَدِيث يعم جَمِيع الذُّنُوب، وَلكنه خص بالصغائر، والكبائر إِنَّمَا تكفر بِالتَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ مظالم الْعباد فَإِن قيل: حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الآخر الَّذِي فِيهِ: (خرجت خطاياه من جسده حَتَّى تخرج من تَحت أَظْفَاره) مُرَتّب على الْوضُوء وَحده، فَلَو لم يكن المُرَاد بِمَا تقدم من ذَنبه فِي هَذَا الحَدِيث الْعُمُوم فِي الصَّغَائِر والكبائر لَكَانَ الشَّيْء مَعَ غَيره كالشيء لَا مَعَ غَيره، فَإِن فِيهِ الْوضُوء وَالصَّلَاة، وَفِي الأول الْوضُوء وَحده وَذَلِكَ لَا يجوز. أُجِيب: بِأَن قَوْله: (خرجت خطاياه) لَا يدل على خُرُوج جَمِيع مَا تقدم لَهُ من الْخَطَايَا، فَيكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى يَوْمه أَو إِلَى وَقت دون وَقت، وَأما قَوْله: (مَا تقدم من ذَنبه) فَهُوَ عَام بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ لَهُ بعض مُتَيَقن، كالثلاثة فِي الْجمع. أَعنِي: الْخَطَايَا، فَيحمل على الْعُمُوم فِي الصَّغَائِر. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ فِي حق من لَهُ كَبَائِر وصغائر وَمن لَيْسَ لَهُ إلاَّ صغائر كفرت عَنهُ، وَمن لَيْسَ لَهُ إلاَّ كَبَائِر خففت عَنهُ مِنْهَا بِمِقْدَار مَا لصَاحب الصَّغَائِر، وَمن لَيْسَ لَهُ صغائر وَلَا كَبَائِر يُزَاد فِي حَسَنَاته بنظير ذَلِك. قلت: الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة غير صَحِيحَة، أما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا، صغائر فَلهُ كَبَائِر أَيْضا، لِأَن كل صَغِيرَة تحتهَا صَغِيرَة فَهِيَ كَبِيرَة، أما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلاَّ كَبَائِر فَلهُ صغائر، لِأَن كل كَبِيرَة تحتهَا صَغِيرَة، وإلاَّ لَا يكون(3/7)
كَبِيرَة، وَأما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلاّ صغائر فَلهُ كَبَائِر أَيْضا، لِأَن مَا فَوق الصَّغِيرَة الَّتِي لَيْسَ تحتهَا صَغِيرَة، فَهِيَ كَبَائِر. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن هَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم فِي صفة الْوضُوء، وَالْأَصْل فِي الْوَاجِب غسل الْأَعْضَاء مرّة مرّة، وَالزِّيَادَة عَلَيْهَا سنة، لِأَن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَردت بِالْغسْلِ: ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمرَّة مرّة ومرتين مرَّتَيْنِ، وَبَعض الْأَعْضَاء ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَبَعضهَا مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَبَعضهَا مرّة مرّة، فالاختلاف على هَذِه الصّفة دَلِيل الْجَوَاز فِي الْكل، فَإِن الثَّلَاث هِيَ الْكَمَال، والواحدة تجزىء. قد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَصفَة الْوضُوء على وُجُوه.
الاول: فِيهِ غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما فِي الْإِنَاء، وَلَو لم يكن عقيب النّوم، وَهَذَا مُسْتَحبّ بِلَا خلاف، وَفِيه الإفراغ على الْيَدَيْنِ مَعًا. وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (افرغ بِيَدِهِ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى ثمَّ غسلهمَا) وَهُوَ قدر مُشْتَرك بَين غسلهمَا مَعًا مجموعتين أَو متفرقتين، وَالْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي ايهما افضل.
الثَّانِي: فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وهما سنتَانِ فِي الْوضُوء، وَكَانَ عَطاء وَالزهْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق يَقُولُونَ: يُعِيد إِذا ترك الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء، وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء فِي آخر قوليه وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى الانصاري وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ: لَا يُعِيد. وَقَالَ احْمَد: يُعِيد فِي الِاسْتِنْشَاق خَاصَّة وَلَا يُعِيد من ترك الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ ابو عبيد وابو ثَوْر. وَقَالَ ابو حنيفَة وَالثَّوْري: يُعِيد إِن تَركهَا فِي الْجَنَابَة وَلَا يُعِيد فِي الْوضُوء. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبقول أَحْمد أَقُول. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا هُوَ الْحق لِأَن الْمَضْمَضَة لَيست فرضا، وَإِن تَركهَا فوضوءه تَامّ وَصلَاته تَامَّة، عمدا تَركهَا أَو نِسْيَانا، لانه لم يَصح فِيهَا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر، إِنَّمَا هِيَ فعل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله لَيست فرضا وَإِنَّمَا فِيهَا الائتساء بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: وَفِيه نظر لِأَن الْأَمر بالمضمضة صَحِيح على شَرطه، أخرجه أَبُو دَاوُد بِسَنَد احْتج ابْن حزم بِرِجَالِهِ وبأصل الحَدِيث، وَلَفظ ابي دَاوُد من حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (اذا تَوَضَّأت فَمَضْمض) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وخرَّجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) . وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : صَحِيح، وَصحح أسناده الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه (تَهْذِيب الْآثَار) والدولابى فِي جمعه، وَابْن الْقطَّان فِي آخَرين. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ وَهُوَ فِي جملَة مَا قُلْنَا إنَّهُمَا أعرضا عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي لَا يرْوى عَنهُ غير الْوَاحِد، وَقد احتجا جَمِيعًا بِبَعْض هَذَا الحَدِيث وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس. انْتهى كَلَامه. وَفِيه نظر، لِأَنَّهُمَا لم يشترطا مَا ذكره فِي كِتَابَيْهِمَا أَحَادِيث جمَاعَة بِهَذِهِ المثابة، مِنْهُم: الْمسيب بن حزم وَأَبُو قيس بن أبي حَازِم ومرادس وَرَبِيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ. وَلَئِن سلمنَا قَوْله، كَانَ لَقِيط هَذَا خَارِجا عَمَّا ذكره لرِوَايَة جمَاعَة عَنهُ مِنْهُم ابْن أَخِيه وَكِيع بن حدس وَعَمْرو بن أَوْس يرفعهُ. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ يرفعهُ: (مضمضوا واستنشقو) . وَقَالَ: حَدِيث غَرِيب من حَدِيث ابْن جريج، وَلَا أعلم رَوَاهُ عَنهُ غير الرّبيع. وَأخرج الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر بالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق) . وَصحح أسناده، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث ابْن جريج عَن سُلَيْمَان ابْن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، ترفعه: (الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من الْوضُوء الَّذِي لَا بُد مِنْهُ) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب: ابْن جريج عَن سُلَيْمَان مُرْسلا، وَفِي لفظ عِنْده مَرْفُوعا: (من تَوَضَّأ فليمضمض) ، وَضَعفه. والمضمضة مُقَدّمَة على الِاسْتِنْشَاق، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهل هُوَ تَقْدِيم اسْتِحْبَاب أَو اشْتِرَاط: وَجْهَان، وَفِي كيفيتهما خَمْسَة أوجه. الأول: أَن يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات، وَهَذَا فِي الصَّحِيح وَغَيره. الثَّانِي: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ويستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا، رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَرَوَاهُ أَيْضا وَائِل ابْن حجر بِسَنَد فِيهِ ضعف، وَهُوَ عِنْد الْبَزَّار. الثَّالِث: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة، وَهُوَ أَن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ الثَّانِيَة كَذَلِك وَالثَّالِثَة، رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن غَرِيب وخرَّجه أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقَالَ: وَهُوَ أحسن شَيْء فِي الْبَاب وَأَصَح. الرَّابِع: أَن يفصل بَينهمَا بغرفتين يتمضمض بِثَلَاث ويستنشق بِثَلَاث، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابنَا، رَحِمهم الله، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد وقتيبة قَالَا: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن ابي حَيَّة قَالَ: (رَأَيْت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تَوَضَّأ فَغسل كفيه حَتَّى أنقاهما ثمَّ مضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا(3/8)
ً وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة ثمَّ غسل قدمية إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ قَامَ فَأخذ فضل طهوره فشربه وَهُوَ قَائِم، ثمَّ قَالَ: احببت أَن أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. فان قلت: لم يحك فِيهِ أَن كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِد، بل حكى أَنه تمضمض ثَلَاثًا. قلت: مَدْلُوله ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَن يتمضمض ثَلَاثًا يَأْخُذ لكل مرّة مَاء جَدِيدا، ثمَّ يستنشق كَذَلِك، وَهُوَ رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُ روى عَنهُ أَنه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق، وَفِي رِوَايَة غَيره عَنهُ فِي (الْأُم) بفرق غرفَة يتمضمض مِنْهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف غرفَة يتمضمض فِيهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف ثَالِثَة ويستنشق فَيجمع فِي كل غرفتين بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَاخْتلف نَصه فِي الكيفيتين وَهُوَ نَص مُخْتَصر الْمُزنِيّ أَن الْجمع أفضل وَنَصّ السُّيُوطِيّ أَن الْفضل أفضل وَنَقله الترمذيعن الشَّافِعِي النَّوَوِيّ: قَالَ صَاحب (الْمُهَذّب) القَوْل بِالْجمعِ أَكثر فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَهُوَ أَيْضا أَكثر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة؛ وَوجه الْفَصْل بَينهمَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة، مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن جده كَعْب بن عَمْرو اليمامي: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا فَأخذ لكل وَاحِدَة مَاء جَدِيدا) ، وَكَذَا روى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَسكت عَنهُ، وَهُوَ دَلِيل رِضَاهُ بِالصِّحَّةِ. وَالْجَوَاب عَمَّا ورد فِي الحَدِيث: (فَتَمَضْمَض واستنشق من كف وَاحِد) أَنه مُحْتَمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه تمضمض واستنشق بكف وَاحِد بِمَاء وَاحِد، وَيحْتَمل أَنه فعل ذَلِك بكف وَاحِد بمياه، والمحتمل لَا يقوم بِهِ حجَّة أَو يرد هَذَا الْمُحْتَمل إِلَى الْمُحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ تَوْفِيقًا بَين الدليلينن. وَقد يُقَال: إِن المُرَاد اسْتِعْمَال الْكَفّ الْوَاحِد بِدُونِ الِاسْتِعَانَة بالكفين كَمَا فِي الْوَجْه، وَقد يُقَال: إِنَّه فعلهمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى ردا على قَول من يَقُول: يسْتَعْمل فِي الِاسْتِنْشَاق الْيَد الْيُسْرَى، لِأَن الْأنف مَوضِع الْأَذَى كموضع الِاسْتِنْجَاء، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط) وَفِيه نظر لَا يخفى، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن كل مَا رُوِيَ عَن ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب هُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز.
الْوَجْه الثَّالِث: فِي غسل الْوَجْه وَهُوَ فرض بِالنَّصِّ بِلَا خلاف، وَفِيه تثليث غسله وَالْإِجْمَاع قَائِم على سنيته.
الْوَجْه الرَّابِع: فِي غسل الْيَدَيْنِ الى الْمرْفقين وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْه، وَقد بَينا حد الْمرْفق وَهُوَ أَنه موصل الذِّرَاع فِي الْعَضُد، وَلَكِن اخْتلف قَول الشَّافِعِي: هَل هُوَ اسْم لإبرة الذِّرَاع أَو لمجموع عظم رَأس الْعَضُد مَعَ الإبرة؟ على قَوْلَيْنِ، وَبنى على ذَلِك أَنه لَو سل الذِّرَاع من الْعَضُد هَل يجب غسل رَأس الْعَضُد أَو يسْتَحبّ؟ فِيهِ قَولَانِ أشهرهما وُجُوبه، وَاخْتلفُوا وَأَيْضًا فِي وجوب إِدْخَال الْمرْفقين فِي الْغسْل على قَوْلَيْنِ، فَذَهَبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، كَمَا عزاهُ ابْن هُبَيْرَة إِلَيْهِم، وَالْجُمْهُور إِلَى الْوُجُوب، وَذهب زفر وَأَبُو بكر بن دَاوُد إِلَى عدم الْوُجُوب، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وزيفه القَاضِي عبد الْوَهَّاب، ومنشأ الْخلاف من كلمة: إِلَى، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي مسح الرَّأْس، وَالْكَلَام فِيهِ على انواع. الأول: فِي أَن ظَاهر الحَدِيث يقتضى اسْتِيعَاب الرَّأْس بِالْمَسْحِ لِأَن اسْم الرَّأْس حَقِيقَة فِي الْعُضْو، لَكِن الِاسْتِيعَاب هَل هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب اَوْ النّدب؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: فمذهب الشَّافِعِي أَن الْوَاجِب مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَلَو بعض شَعْرَة، ومشهور مَذْهَب مَالك وَأحمد أَن الْوَاجِب مسح الْجَمِيع، ومشهور مَذْهَب ابي حنيفَة أَن الْوَاجِب مسح ربع الرَّأْس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا فِي أول كتاب الْوضُوء. النَّوْع الثَّانِي: أَن قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) يَقْتَضِي مرّة وَاحِدَة، كَذَا فهمه غير وَاحِد من الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة مَالك وَأحمد، وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْتَحبّ التَّثْلِيث لغَيْرهَا من الْأَعْضَاء وَهُوَ مَشْهُور مذْهبه، وَقد وَردت أَحَادِيث صَحِيحَة بِالْمَسْحِ مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كلهَا تدل على مسح الرَّأْس أَنه مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا، قَالُوا: وفيهَا مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا كَمَا ذكرُوا فِي غَيره. وَقَالَ ابو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: لَا نعلم أحدا من السّلف جَاءَ عَنهُ اسْتِعْمَال الثَّلَاث إلاَّ ابراهيم التَّيْمِيّ. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن أبي شيبَة حكى ذَلِك عَن أنس بن مَالك وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وزاذان وميسرة أَنهم كَانُوا إِذا توضؤا مسحوا رؤوسهم ثَلَاثًا، وَذكر ابْن السكن أَيْضا عَن مصرف بن عَمْرو. ووردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، فَفِي (سنَن ابي دَاوُد) بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن وردان عَن حمْرَان، وَفِيه: (وَمسح رَأسه ثَلَاثًا) ، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) مَا يدل على أَن سَائِر وضوئِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ ثَلَاثًا وَالرَّأْس دَاخِلَة فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ بِسَنَد صَحِيح عَن مَحْمُود بن خَالِد: ثَنَا(3/9)
الْوَلِيد بن مُسلم عَن ثَوْبَان عَن عَبدة بن أبي لبَابَة عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: (رَأَيْت عُثْمَان وعلياً، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتوضآن ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ويقولان: هَكَذَا كَانَ وضوء رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . وَفِي (علل) التِّرْمِذِيّ: وَسَأَلَ البُخَارِيّ عَن حَدِيث سعيد بن الْحَارِث بن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت عَن زيد: (أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، ثمَّ رَفعه فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ هُوَ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن منيع: (عَمَّن رأى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، دَعَا بِوضُوء وَعند الزبير وَسعد بن ابي وَقاص فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: أنشدكما الله، أتعلمان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا تَوَضَّأت؟ قَالَا: نعم) . وَفِي كتاب (الظُّهُور) لأبي عبيد بن سَلام: وَعِنْده طَلْحَة وَعلي وَالزُّبَيْر وَسعد، رَضِي الله عَنْهُم، فَذكره. وَفِي (صَحِيح) ابْن حبَان وَغَيره من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا: (أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي (سنَن ابي دَاوُد) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ رَفعه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) وَسَنَده صحيحح. وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) بِسَنَد فِيهِ الْبَيْلَمَانِي، عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَوصف وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) . وَفِي (مُسْند الْبَزَّار) بطرِيق صَحِيح عَن ابْن الْمثنى عَن حجاج بن منهال عَن همام عَن عَامر الْأَحول عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوى عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، بِأَحْسَن من هَذَا الْإِسْنَاد، وَذكره الطَّبَرِيّ فِي التَّهْذِيب وَصحح إِسْنَاده، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي كتاب أبي عبيد عَن أبي الورقاء، وَهُوَ ثِقَة عِنْد ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن شاهين، عَن عبد الله بن أبي أوفي: (أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) . قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل هَكَذَا، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) أَيْضا بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن ابي مَالك الْأَشْعَرِيّ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد لابأس بِهِ من حَدِيث الرّبيع بنت معوذ: (تَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (مُسْند ابْن السكن) من حَدِيث مصرف بن عَمْرو: (ثمَّ مسح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على رَأسه ثَلَاثًا، وَظَاهر أُذُنَيْهِ ولحيته ورقبته ثَلَاثًا) . وَفِي كتاب (الدَّلَائِل) لِثَابِت بن الْقَاسِم السَّرقسْطِي بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ من حَدِيث أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيث أبي رَافع مَرْفُوعا: (مسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا) ، وَقَالَ: لَا يرْوى عَن أبي رَافع إلاَّ بِهَذَا الْإِسْنَاد، تَفِر بِهِ الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن عبد الله بن عبد الله بن أبي رَافع عَنهُ. وَفِي كتاب (الْمُفْرد) لأبي دَاوُد من حَدِيث عَليّ بن ابي حَملَة عَن أَبِيه عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ، عبد الْملك: حَدثنِي أَبُو خَالِد عَن مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أنس قَالَ: (وضأت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وخلل لحيته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وَقَالَ: لم يروه عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة، يَعْنِي عَن أنس، إلاَّ قَتَادَة بن الْفضل الرهاوي، تفرد بِهِ الزبير بن مُحَمَّد. وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن الوَاسِطِيّ عَن شُعَيْب بن أَيُّوب عَن أبي يحيى الْحمانِي عَن أبي حنيفَة عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: (أَنه تَوَضَّأ)
. . الحَدِيث، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن خَالِد، وَخَالفهُ جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات، فَرَوَوْه عَن خَالِد بن عَلْقَمَة فَقَالُوا فِيهِ: وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة، وَمَعَ خلَافَة إيَّاهُم قَالَ: إِن السّنة فِي الْوضُوء مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة قلت: الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة وَلَا سِيمَا من مثل أبي حنيفَة. وَأما قَوْله: فقد خَالف فِي حكم الْمسْح، فَغير صَحِيح، لِأَن تكْرَار الْمسْح كسنون عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا صرح بذلك صَاحب الْهِدَايَة وَلَكِن بهاء وَاحِدَة وَقد رودت الْأَحَادِيث أَيْضا فِي الْمسْح مرَّتَيْنِ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن الرّبيع: (تَوَضَّأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمسح على رَأسه مرَّتَيْنِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (وَمسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ) وَسَنَده صَحِيح. النَّوْع الثَّالِث فِي كَيْفيَّة الْمسْح. رويت فِيهَا أَحَادِيث مُخْتَلفَة فَعِنْدَ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (ثمَّ مسح رَأسه بيدَيْهِ فَأقبل بهما وَأدبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) . وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الرّبيع: (بَدَأَ بمؤخره ثمَّ رديديه على ناصيته) ، وَعند الطَّبَرَانِيّ: (بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ جَرّه إِلَى قَفاهُ ثمَّ جَرّه إِلَى مؤخره) ، وَعند ابي دَاوُد: (يبْدَأ بمؤخرة ثمَّ بمقدمه وبأذنيه كليهمَا) : وَفِي لفظ: (وَمسح الرَّأْس كُله من قرن الشّعْر كل نَاحيَة لمنصب الشّعْر لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته) ، وَفِي لفظ: (مسح رَأسه وَمَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه) ، وَعند الْبَزَّار من حَدِيث بكار بن عبد الْعَزِيز(3/10)
عَن أَبِيه عَن ابي بكرَة يرفعهُ: (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِيه: (مسح بِرَأْسِهِ يَقُول بِيَدِهِ من مقدمه إِلَى مؤخره وَمن مؤخره إِلَى مقدمه) ، وبكار لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَعند ابْن قَانِع من حَدِيث ابي هُرَيْرَة: (وضع يَدَيْهِ على النّصْف من رَأسه ثمَّ جرهما إِلَى مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ وجرهما إِلَى صدغيه) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث أنس: (أَدخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح مقدم رَأسه) ، وَفِي كتاب ابْن السكن: (فَمسح بَاطِن لحيته وَقَفاهُ) ، وَفِي (مُعْجم) الْبَغَوِيّ، وَكتاب ابْن أبي خَيْثَمَة: (مسح رَأسه إِلَى سالفته) ، (وَفِي كتاب النَّسَائِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وصفت وضوءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوضعت يَدهَا فِي مقدم رَأسهَا ثمَّ مسحت إِلَى مؤخره، ثمَّ مدت بِيَدَيْهَا بأذنيها ثمَّ مدت على الْخَدين، وَعند ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح أَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَ يمسح رَأسه هَكَذَا، وَوضع أَيُّوب كَفه وسط رَأسه ثمَّ أمرَّها إِلَى مقدم رَأسه، وَفِي (الْمحلى) صَحِيحا عَن ابْن عمر: (كَانَ يمسح اليافوخ فَقَط) . وَفِي (المُصَنّف) أَن ابراهيم كَانَ يمسح على يَافُوخه. وروى أَيْضا فِي الْمسْح مَا هُوَ كالغسل، فَفِي (سنَن أبي دَاوُد) من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة عَن عبيد الله الْخَولَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس وصف وضوء عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (وَأخذ بكفه الْيُمْنَى قَبْضَة من مَاء فصبها على ناصيته فَتَركهَا تسيل على وَجهه) ، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: (فَلَمَّا بلغ رَأسه غرف غرفَة من مَاء فتلقاها بِشمَالِهِ حَتَّى وَضعهَا على وسط رَأسه حَتَّى قطر المَاء أَو كَاد يقطر) ، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث ذَر بن حُبَيْش أَنه سمع عليا، رَضِي الله عَنهُ، وَسُئِلَ عَن وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الحَدِيث، قَالَ: (وَمسح على رَأسه حَتَّى المَاء يقطر) ، وَقَالَ ابْن الْحصار فِي هَذَا غسل الرَّأْس بدل مَسحه، وَيرد بِهَذَا على من قَالَ: لَو كرر الْمسْح لصار غسلا، فَخرج عَن وَظِيفَة الرَّأْس.
الْوَجْه السَّادِس: فِي غسل الرجلَيْن، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْيَدَيْنِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا فِي أَوَائِل كتاب الْوضُوء.
الحكم الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي إحصار المَاء، وَهُوَ إِجْمَاع من غير كَرَاهَة.
الحكم الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْوضُوء، وَيفْعل كل وَقت إلاَّ فِي الْأَوْقَات المنهية، وَقَالَت ... .
يفعل كل وَقت حَتَّى وَقت النَّهْي، وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: لَيست هَذِه من السّنَن، وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: هَل تحصل هَذِه الْفَضِيلَة بِرَكْعَة الظَّاهِر الْمَنْع، وَفِي جَرَيَان الْخلاف فِيهِ، وَفِي التَّحِيَّة ونظائره نظر.
الحكم الرَّابِع: الثَّوَاب الْمَوْعُود بِهِ مُرَتّب على أَمريْن: الأول: وضوؤه على النَّحْو الْمَذْكُور. الثَّانِي: صلَاته رَكْعَتَيْنِ عَقِيبه بِالْوضُوءِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، والمرتب على مَجْمُوع أَمريْن لَا يلْزم ترتبه على أَحدهمَا إلاَّ بِدَلِيل خَارج، وَقد يكون للشَّيْء فَضِيلَة بِوُجُود أحد جزئيه، فَيصح كَلَام من أَدخل هَذَا الحَدِيث فِي فضل الْوضُوء فَقَط لحُصُول مُطلق الثَّوَاب، لَا الثَّوَاب الْمَخْصُوص الْمُتَرَتب على مَجْمُوع الْوضُوء على النَّحْو الْمَذْكُور، وَالصَّلَاة الموصوفة بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور.
الْخَامِس: فِيهِ إِثْبَات حَدِيث النَّفس وَهُوَ مَذْهَب اهل الْحق.
السَّادِس: فِيهِ التَّرْتِيب بَين الْمسنون والمفروض وهما: الْمَضْمَضَة وَغسل الْوَجْه، وَبَعْضهمْ رأى التَّرْتِيب فِي الْمَفْرُوض دون الْمسنون، وَهُوَ مَذْهَب مَالك. وَاخْتلف أَصْحَابه فِي التَّرْتِيب فِي الْوضُوء على ثَلَاثَة أَقْوَال: الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم الِاسْتِحْبَاب، وَمذهب الشَّافِعِيَّة وُجُوبه، وَخَالفهُم الْمُزنِيّ فَقَالَ: لَا يجب. وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر والبندنيجي، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أَكثر الْمَشَايِخ، وَحَكَاهُ قولا قَدِيما وَعَزاهُ إِلَى صَاحب (التَّقْرِيب) وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لم ينْقل أحد قطّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نكس وضوءه، فاطرد الْكتاب وَالسّنة على وجوب التَّرْتِيب، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك الْوُجُوب.
160 - وَعَنْ إبْراهِيمَ قَالَ قَالَ صالِحُ بنُ كَيْسَان قالَ ابنُ شِهابٍ وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عنْ حُمْرَانَ فَلَمَّا تَوضَّأَ عُثْمانُ قَالَ ألاَ أحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً لوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلي الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَتَوضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ ويُصَلِّى الصَّلاَةَ إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيهَا قالَ عُرْوَةُ الآْيَةُ إنّ الذيِنَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ.
قَالَت جمَاعَة من الشُّرَّاح هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم بِصِيغَة التمريض، وَقَالَ ابو نعيم الْحَافِظ: لم يذكر البُخَارِيّ شَيْخه فِيهِ، وَلَا أَدْرِي هُوَ معقب بِحَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ نَفسه أَو أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بِلَا سَماع. وَقَالَ(3/11)
بَعضهم: وَزَعَمُوا أَنه مُعَلّق وَلَيْسَ كَذَلِك، فقد أخرجه مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بالإسنادين مَعًا وَإِذا كَانَا جَمِيعًا عِنْد يَعْقُوب فَلَا مَانع أَن يَكُونَا عِنْد الأويسي، ثمَّ وجدت الحَدِيث الثَّانِي عِنْد أبي عوَانَة فِي صَحِيحه من حَدِيث الأويسي الْمَذْكُور فصح مَا قلته. قلت: لَا يلْزم من إِخْرَاج مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه ابراهيم بن سعد مَوْصُولا أَن يكون كَذَلِك عِنْد البُخَارِيّ، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يحْتَمل أَن يكون معقبا، بِحَدِيث إِبْرَاهِيم الأول فَيكون مَوْصُولا، وبمجرد الِاحْتِمَال لَا يتَعَيَّن نفي كَونه مُعَلّقا، وَالْحَال أَن صورته صُورَة التَّعْلِيق، وَإِلَيْهِ أقرب، وَكَذَا لَا يلْزم من كَونه عِنْد أبي عوَانَة من حَدِيث الأويسي أَن يكون مَوْصُولا عِنْد البُخَارِيّ لاحْتِمَال عدم السماع مِنْهُ فِي هَذَا على مَا لَا يخفى. وَأما مُسلم فقد قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابي عَن صَالح بِهِ؛ وَأما الْإِسْمَاعِيلِيّ فَأخْرجهُ عَن ابْن نَاجِية حَدثنَا فُضَيْل بن سهل وَعبيد الله بن سعد قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم فَذكره، وَزعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا عَمْرو بن سعيد بن العَاصِي وَابْن أبي مليكَة وابو عَلْقَمَة وَأَبُو أنس وشقيق وَسَلَمَة، وَرَوَاهُ مَالك وَاللَّيْث عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن حمْرَان، وَرَوَاهُ حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَن شُعْبَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عُثْمَان، وَرَوَاهُ حَمْزَة بن زِيَاد عَن شُعْبَة عَن أبان أَبِيه عَن أَبِيه.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: إِبْرَاهِيم بن سعد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق. الثَّانِي: صَالح بن كيسَان، بِفَتْح الْكَاف، مر ذكره فِي آخر قصَّة هِرقل. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، تقدم فِي أول كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: حمْرَان بن أبان.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ العنعنة وَلَيْسَ فِيهِ صِيغَة التحديث وَلَا الْإِخْبَار، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَار بِلَفْظ قَالَ. وَمِنْهَا: أَن هَؤُلَاءِ كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة تابعيين وهم: صَالح وَابْن شهَاب وَعُرْوَة وحمران. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، فَإِن صَالحا أكبر سنا من الزُّهْرِيّ. وَمِنْهَا: أَن إِبْرَاهِيم هَهُنَا يروي عَن ابْن شهَاب بالواسطة، وَهُوَ صَالح. وروى عَنهُ فِي أول الْبَاب بِلَا وَاسِطَة. قَوْله: (وَلَكِن عُرْوَة يحدث) ، اسْتِدْرَاك من ابْن شهَاب، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن شَيْخي ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث وهما: عَطاء بن يزِيد وَعُرْوَة بن الزبير اخْتلفَا فِي روايتهما عَن حمْرَان عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، فَحدث بِهِ عَطاء على وَجه، وَعُرْوَة على وَجه، وَلَيْسَ ذَلِك باخْتلَاف لِأَنَّهُمَا حديثان متغايران، وَقد رَوَاهُمَا مَعًا عَن حمْرَان معَاذ بن عبد الرَّحْمَن، فَأخْرج البُخَارِيّ من طَرِيقه نَحْو سِيَاق عَطاء، وَمُسلم من طَرِيقه نَحْو سِيَاق عُرْوَة، وَأخرجه أَيْضا من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني قَوْله: (عَن حمْرَان فَلَمَّا تَوَضَّأ) ، وَفِي بعض النّسخ: (عَن حمْرَان، قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأ) . وَقَوله: (فَلَمَّا تَوَضَّأ) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره عَن حمْرَان أَنه رأى عُثْمَان دَعَا بِإِنَاء فأفرغ على كفيه إِلَى أَن قَالَ: ثمَّ غسل رجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَلَمَّا تَوَضَّأ قَالَ: إِلَى آخِره. قَوْله: (لأحدثنكم) جَوَاب قسم مَحْذُوف. قَوْله: (حَدِيثا) نصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله (لأحدثنكم) . قَوْله: (لَوْلَا) لربط امْتنَاع الثَّانِيَة لوُجُود الأولى، نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك، اي: لَوْلَا زيد مَوْجُود لأكرمتك. قَوْله: (آيَة) مبتدا وَخَبره مَحْذُوف، وحذفه هَهُنَا وَاجِب كَمَا علم فِي مَوْضِعه، وَالتَّقْدِير: لَوْلَا آيَة ثَابِتَة فِي الْقُرْآن. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَوْلَا آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى) ، وَقَالَ عِيَاض: لَوْلَا آيَة، هَكَذَا هُوَ بِالْمدِّ وبالياء الْمُثَنَّاة من تَحت، وَرَوَاهُ الْبَاجِيّ: لَوْلَا أَنه، بالنُّون يَعْنِي: لَوْلَا أَن معنى مَا أحدثكُم بِهِ فِي كتاب الله تَعَالَى مَا حدثتكم. وَفِي (الْمطَالع) قَول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَوْلَا أَنه فِي كتاب الله تَعَالَى، بِالنورِ فِي رِوَايَة يحيى، وَجَمَاعَة مَعَه ذكره ابْن ماهان فِي مُسلم، وَعند ابْن مُصعب وَابْن وهب وَآخَرين من رُوَاة الْمُوَطَّأ: (لَوْلَا آيَة) ، وَهِي رِوَايَة الجلودي فِي مُسلم. قَالَ مَالك الْآيَة: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} (هود: 114) وَقَالَ عُرْوَة فِي كتاب مُسلم: {إِن الَّذين يكتمون} (الْبَقَرَة: 159 و 174) الْآيَة، وَالصَّوَاب قَول عُرْوَة: يَعْنِي، لِئَلَّا يتكل النَّاس، فَكَأَن النَّهْي عَن الكتمان أوجب عَلَيْهِ التحديث بِهِ مَخَافَة الكتمان. قَوْله: (مَا حَدَّثتكُمُوهُ) جَوَاب: (لَوْلَا) ، وَاللَّام محذوفة مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى أوجب على من علم علما إبلاغه لما كنت حَرِيصًا على تحديثكم، وَلما كنت متكثراً بتحديثكم قَوْله(3/12)
: (يَقُول) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (فَيحسن) من الْإِحْسَان، وَمعنى: إِحْسَان الْوضُوء الْإِتْيَان بِهِ تَاما بِصفتِهِ وآدابه وتكميل سنَنه، وَهُوَ بِالرَّفْع عطف على قَوْله: (لَا يتَوَضَّأ) وَكلمَة: الْفَاء، هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، لِأَن إِحْسَان الْوضُوء لَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَن الْوضُوء حَتَّى يعْطف عَلَيْهِ بِالْفَاءِ التعقيبية، وَإِنَّمَا موقعها موقع ثمَّ، الَّتِي لبَيَان الْمرتبَة، وشرفها دلَالَة على أَن الْإِحْسَان فِي الْوضُوء والإجادة من مُحَافظَة السّنَن ومراعاة الأداب، أفضل وأكمل من أَدَاء مَا وَجب مُطلقًا، وَلَا شكّ أَن الْوضُوء المحسن فِيهِ أَعلَى رُتْبَة من الْغَيْر المحسن فِيهِ. قَوْله: (وَيُصلي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَيصَلي هَذِه الصَّلَوَات الْخمس) . قَوْله: (إلاَّ غفر لَهُ) التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل إلاَّ رجل غفر لَهُ، فالمستثنى مَحْذُوف لِأَن الْفِعْل لَا يَقع مُسْتَثْنى، أَو التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل فِي حَال إلاَّ فِي حَال الْمَغْفِرَة، فَيكون الِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْأَحْوَال. قَوْله: (وَبَين الصَّلَاة) أَي: الَّتِي يَليهَا، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة قَوْله: (حَتَّى يُصليهَا) ، مَعْنَاهُ: حَتَّى يفرغ مِنْهَا. وَقَالَ بَعضهم: أَي يشرع فِي الصَّلَاة الثَّانِيَة. قلت: هَذَا معنى فَاسد، لِأَن قَوْله: (مَا بَينه وَبَين الصَّلَاة) يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ بَين الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَبَين الْفَرَاغ عَنْهَا وَلما كَانَ المُرَاد الْفَرَاغ عَنْهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَحَتَّى يُصليهَا) وَلِهَذَا لم يكتف بقوله (بَين الصَّلَاة) لِأَنَّهُ لَا يُغني عَن ذكر حَتَّى يُصليهَا، لما ذكرنَا. فَإِن قلت: لَفْظَة: حَتَّى، غَايَة لماذا؟ قلت: لحصل الْمُقدر الْعَامِل فِي الظّرْف إِذْ الغفران لَا غَايَة لَهُ. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة الْآيَة) أَرَادَ أَن الْآيَة فِي سُورَة الْبَقَرَة إِلَى قَوْله: {اللاعنون} (الْبَقَرَة: 159) كَمَا صرح بِهِ مُسلم، وَقد روى عَن مَالك هَذَا الحَدِيث فِي (الْمُوَطَّأ) عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلم يَقع فِي رِوَايَته تعْيين الْآيَة، فَقَالَ من قبل نَفسه أرَاهُ يُرِيد {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} (هود: 114) .
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الْفَرْض على الْعَالم تَبْلِيغ مَا عِنْده من الْعلم، لِأَن الله تَعَالَى قد توعد الَّذين يكتمون مَا أنزل الله باللعنة، وَالْآيَة، وَإِن كَانَت نزلت فِي أهل الْكتاب، وَلَكِن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب، فَدخل فِيهَا كل من علم علما تعبد الله الْعباد بمعرفته لزمَه من عدم تبليغه مَا لزم أهل الْكتاب مِنْهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن الْإِخْلَاص لله تَعَالَى فِي الْعِبَادَة وَترك الشّغل بِأَسْبَاب الدُّنْيَا يُوجب من الله عَلَيْهِ الغفران ويتقبلها من عَبده. الثَّالِث: فِيهِ أَن ظَاهر الحَدِيث على أَن الْمَغْفِرَة الْمَذْكُورَة لَا تحصل إلاَّ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور وإحسانه وَالصَّلَاة فِي (الصَّحِيح) من حَدِيث ابي هُرَيْرَة: (إِذا تَوَضَّأ العَبْد الْمُسلم خرجت خطاياه) ، فَفِيهِ أَن الْخَطَايَا تخرج من أول الْوضُوء حَتَّى يفرغ من الْوضُوء نقياً من الذُّنُوب، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة، فَيحْتَمل أَن يحمل حَدِيث ابي هُرَيْرَة عَلَيْهَا، لَكِن يبعده أَن فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث عُثْمَان: (وَكَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة) ، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك باخْتلَاف الْأَشْخَاص، فشخص يحصل لَهُ ذَلِك عِنْد الْوضُوء، وَآخر عِنْد تَمام الصَّلَاة. الرَّابِع: أَن المُرَاد بِهَذَا وَأَمْثَاله غفران الصَّغَائِر، كَمَا مر فِيمَا مضى وَجَاء فِي (صَحِيح) مُسلم: (مَا من امرىء مُسلم تحضره صَلَاة مَكْتُوبَة فَيحسن وضوءها وخضوعها وخشوعها وركوعها، إلاَّ كَانَت كَفَّارَة لما قبلهَا من الذُّنُوب مَا لم يُؤْت كَبِيرَة) . وَفِي الحَدِيث الآخر (والصلوات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان مكفرات لما بَينهُنَّ إِذْ اجْتنبت الْكَبَائِر) لَا يُقَال إِذا كفر الْوضُوء فَمَاذَا تكفر الصَّلَاة، وَإِذا كفرت الصَّلَاة فَمَاذَا تكفر الْجُمُعَات ورمضان؟ وَكَذَا صِيَام عَرَفَة يكفر سنتَيْن، وَيَوْم عَاشُورَاء كَفَّارَة سنة، وَإِذا وَافق تأمينة تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه، لِأَن المُرَاد: أَن كل وَاحِد من هَذِه الْمَذْكُورَات صَالح للتكفير، فَإِن وجد مَا يكفره من الصَّغَائِر كفره، وَإِن لم يُصَادف صَغِيرَة كتبت لَهُ حَسَنَات وَرفعت لَهُ دَرَجَات، وَإِن صَادف كَبِيرَة أَو كَبَائِر وَلم يُصَادف صَغِيرَة رجى أَن يُخَفف مِنْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رجونا أَن يُخَفف من الْكَبَائِر. وَالله تَعَالَى أعلم.
25 - (بابُ الاسْتِنْثَارِ فِي الوُضُوءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاستنثار فِي الْوضُوء، والاستنثار استفعال من النثر، بالنُّون والثاء الْمُثَلَّثَة، وَالْمرَاد بِهِ الِاسْتِنْشَاق، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بعض الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول.
ذكَرَهُ عثْمانُ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ وابنُ عَباس رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: ذكر الاستنثار فِي الْوضُوء عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن زيد بن عَاصِم وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالْمعْنَى أَن هَؤُلَاءِ رووا الاستنثار فِي الْوضُوء. أما الَّذِي رَوَاهُ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقد أخرجه مَوْصُولا فِي الْبَاب الَّذِي(3/13)
قبله، وَأما الَّذِي رَوَاهُ عبد الله بن زيد فقد أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب مسح الرَّأْس كُله، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فقد أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب غسل الْوَجْه من غرفَة، وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الاستنثار، وَكَانَ المُصَنّف أَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم من حَدِيثه مَرْفُوعا: (استنثروا مرَّتَيْنِ بالغتين أَو ثَلَاثًا) ، وَلأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم واستنثر فَلْيفْعَل ذَلِك مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) ، وَإِسْنَاده حسن قلت: لَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره، بل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ ذكر الاستنثار، فَإِن فِي بعض النّسخ ذكر: واستنثر، مَوضِع قَوْله: واستنشق، وَقَوله: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمد ... إِلَى آخِره، بعيد على مَا لَا يخفى، وَحَدِيث ابي دَاوُد أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا، وَذكر الْخلال عَن أَحْمد أَنه قَالَ: فِي إِسْنَاده شَيْء، وَذكره الْحَاكِم فِي الشواهد وَابْن الْجَارُود فِي الْمُنْتَقى، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ إِذا عدرواة الاستنثار أَن يذكر بعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من صَحِيح مُسلم، وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من (صَحِيح) ابْن حبَان، وَحَدِيث وَائِل بن حجر وَسَنَده جيد عِنْد الْبَزَّار، وَحَدِيث لَقِيط بن صبرَة وَقد تقدم، وَكَذَا حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب روينَاهُ فِي كتاب (الْحِلْية) لأبي نعيم بِسَنَد جيد، وَحَدِيث سَلمَة بن قيس، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَحَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَوَاهُ كَامِل بن طَلْحَة الجحدري عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَنهُ، قَالَ ابو احْمَد الْحَاكِم: أَخطَأ فِيهِ كَامِل، وَحَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب بِسَنَد جيد عِنْد ابي دَاوُد. قلت: لم يظْهر لي وَجه قَوْله: وَكَانَ يَنْبَغِي، فَإِن البُخَارِيّ مَا الْتزم بِذكر أَحَادِيث الْبَاب، وَلَا بتخريج كل حَدِيث صَحِيح، وَكم من صَحِيح عِنْد غَيره فَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيح عِنْده.
161 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخْبرنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أخْبرنا يُونسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني أبُو إدْرِيسَ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَن النَّبيِّ صلى الله عليْه وَسلم أنَّهُ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ومَنِ اسْتجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.
(الحَدِيث 161 طرفه فِي: 162) .
مُطَابقَة الحَدِيث فِي قَوْله: (من تَوَضَّأ فليستنثر) .
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عَبْدَانِ هُوَ لقب ابْن عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بِالْهَمْزَةِ والذال الْمُعْجَمَة: ابْن عبد الله الْخَولَانِيّ، بِالْمُعْجَمَةِ، التَّابِعِيّ الْجَلِيل الْقدر، الْكَبِير الشَّأْن، كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق لمعاوية مَاتَ سنة ثَمَانِينَ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فالأربعة الأول تقدم ذكرهم بِهَذَا التَّرْتِيب فِي كتاب الْوَحْي، وَأَبُو إِدْرِيس مر ذكره فِي كتاب الْإِيمَان.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الجمة والإفراد وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وأيلي ومدني وشامي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَعَن سعيد بن مَنْصُور عَن حسان بن إِبْرَاهِيم وَعَن حَرْمَلَة ابْن يحيى عَن ابْن وهب، كِلَاهُمَا عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن مهْدي وَابْن مَاجَه أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن زيد ابْن الْحباب وَدَاوُد بن عبد الله الْجَعْفَرِي أربعتهم عَن مَالك بِهِ، وَقَالَ ابْن الفلكي: رَوَاهُ كَامِل بن طَلْحَة الجحدري عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي. قَالَ ابو احْمَد الْحَافِظ: إِن كَامِلا أَخطَأ فِيهِ.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (من تَوَضَّأ) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (فليستنثر) جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَمن استجمر فليوتر) . قَوْله: (فليستنثر) أَي: فَليخْرجْ المَاء من الْأنف بعد الِاسْتِنْشَاق مَعَ مَا فِي الْأنف من مخاط وغبار، وَشبهه، قيل ذَلِك لما فِيهِ من المعونة على الْقِرَاءَة وتنقية مجْرى النَّفس الَّذِي بِهِ التِّلَاوَة، وبإزالة مَا فِيهِ من التفل تصح مجاري الْحُرُوف، وَيُقَال: الْحِكْمَة فِيهِ التَّنْظِيف وطرد الشَّيْطَان، لِأَنَّهُ روى فِي رِوَايَة عِيسَى بن طَلْحَة عَن أبي هُرَيْرَة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَليَتَوَضَّأ فليستنثر ثَلَاثًا، فَإِن الشَّيْطَان يبيت على خيشومه) . قَوْله: (وَمن استجمر) من الِاسْتِجْمَار، وَهُوَ مسح مَحل الْبَوْل وَالْغَائِط بالجمار، وَهِي: الْأَحْجَار الصغار، وَيُقَال:(3/14)
الاستطابة والاستجمار والإستنجاء لتطهير مَحل الْغَائِط وَالْبَوْل، والاستجمار مُخْتَصّ بِالْمَسْحِ بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونَانِ بِالْمَاءِ وبالأحجار. وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتَأَوَّل الِاسْتِجْمَار هُنَا على إجمار الثِّيَاب بالمجمر، وَنحن نستحب الْوتر فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. يُقَال فِي هَذَا تجمر واستجمر فَيَأْخُذ ثَلَاث قطع من الطّيب أَو يتطيب مرّة وَاحِدَة، لما بعد الأولى، وَحكي عَن مَالك أَيْضا، وَالْأَظْهَر الأول، وَيُقَال: إِنَّمَا سمي بِهِ التمسح بالجمار الَّتِي هِيَ الْأَحْجَار الصغار لِأَنَّهُ يطيب الْمحل كَمَا يطيبه الِاسْتِجْمَار بالبخور، وَمِنْه سميت جمار الْحَج وَهِي: الحصيات الَّتِي يَرْمِي بهَا. قَوْله: (فليوتر) أَي: فليجعل الْحِجَارَة الَّتِي يستنجى بهَا وترا، إِمَّا وَاحِدَة، أَو ثَلَاثًا أَو خمْسا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالإيتار أَن يكون عدَّة المسحات ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو فَوق ذَلِك من الأوتار. قلت: لم يذكر الْوَاحِد، مَعَ أَنه يُطلق عَلَيْهِ الإيتار هروباً عَن أَن لَا يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ مطلوبية الاستنثار فِي الْوضُوء وَالْإِجْمَاع قَائِم على عدم وُجُوبه، وَالْمُسْتَحب أَن يستنثر بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَقد بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ، وَيكرهُ أَن يكون بِغَيْر يَده، حُكيَ ذَلِك عَن مَالك أَيْضا لكَونه يشبه فعل الدَّابَّة، وَقيل: لَا يكره. فان قلت: السّنة فِي الاستنثار ثَلَاث مثل الِاسْتِنْشَاق أم لَا؟ قلت: قد ورد فِي رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان عَن ابي الزِّنَاد، وَلَفظه: (إِذا استنثر فليستنثر وترا) . وَقَوله: (وترا) يَشْمَل الْوَاحِد وَالثَّلَاث وَمَا فَوْقهمَا من الأوتار، وَورد فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (فليستنثر ثَلَاثًا) . كَمَا ذَكرنَاهَا، وَيُمكن أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة مبينَة لتِلْك الرِّوَايَة، فَتكون السّنة فِيهِ أَن تكون ثَلَاثًا كالاستنشاق فَافْهَم. الثَّانِي: من فسر الاستنثار بالاستنشاق ادّعى أَن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ دلَالَة لمَذْهَب من يَقُول: إِن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب لمُطلق الْأَمر، وَمن لم يُوجِبهُ يحمل الْأَمر على النّدب بِدَلِيل أَن الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَهُوَ: الاستنثار لَيْسَ بِوَاجِب بالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ ابْن بطال: الاستنثار هُوَ دفع المَاء الْحَاصِل فِي الْأنف بالاستنشاق، وَلم يذكر هَهُنَا الِاسْتِنْشَاق لِأَن ذكره الاستنثار دَلِيل عَلَيْهِ إِذْ لَا يكون إلاَّ مِنْهُ، وَقد أوجب بعض الْعلمَاء الاستنثار بِظَاهِر الحَدِيث، وَحمل أَكْثَرهم على النّدب، وَاسْتَدَلُّوا بِأَن غسله بَاطِن الْوَجْه غير مَأْخُوذ علينا فِي الْوضُوء: قلت: الَّذين أوجبوا الِاسْتِنْشَاق هم: أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِر الْأَمر، وَلكنه للنَّدْب عِنْد الْجُمْهُور بِدَلِيل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ محسناً، وَالْحَاكِم مصححاً من قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي: (تَوَضَّأ كَمَا أَمرك الله تَعَالَى) ، فأحاله على الْآيَة وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الإستنشاق. وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بِالْأَمر مَا هُوَ أَعم من آيَة الْوضُوء، فقد أَمر الله تَعَالَى بِاتِّبَاع نبينه، وَلم يحك أحد مِمَّن وصف وضوءه على الِاسْتِقْصَاء أَنه ترك الِاسْتِنْشَاق، بل وَلَا الْمَضْمَضَة، وَهَذَا يرد على من لم يُوجب الْمَضْمَضَة أَيْضا، وَقد ثَبت الْأَمر بهَا أَيْضا فِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح. قلت: القرنية الحالية والمقالية مناطقة صَرِيحًا بِأَن المُرَاد من قَوْله: (كَمَا أَمرك الله تَعَالَى) الْأَمر الْمَذْكُور فِي آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على وجوب الِاسْتِنْشَاق وَلَا على الْمَضْمَضَة، فَإِن اسْتدلَّ على هَذَا الْقَائِل على وُجُوبهَا بمواظبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِمَا من غير ترك فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يَقُول بِوُجُوب التَّسْمِيَة أَيْضا، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه ترك التَّسْمِيَة فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سنة أَو مُسْتَحبَّة عِنْد إِمَام هَذَا الْقَائِل. الثَّالِث: فِيهِ مطلوبية الإيتار فِي الِاسْتِنْجَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: مَذْهَبنَا أَن اسْتِيفَاء الثَّلَاث وَاجِب، فَإِن حصل الْإِبْقَاء بِهِ فَلَا زِيَادَة إلاَّ وَجَبت الزِّيَادَة، ثمَّ إِن حصل بِوتْر فَلَا زِيَادَة، وَإِن حصل بشفع اسْتحبَّ الإيتار. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على وجوب عدد الثَّلَاث، إِذْ مَعْلُوم أَنه لم يرد بِهِ الْوتر الَّذِي هُوَ وَأحد لِأَنَّهُ زِيَادَة صفة على الِاسْم، وَالِاسْم لَا يحصل بِأَقَلّ من وَاحِد، فَعلم أَنه قصد بِهِ مَا زَاد على الْوَاحِد وَأَدْنَاهُ الثَّلَاث. قلت: ظَاهر الحَدِيث حجَّة لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من أَن الِاسْتِنْجَاء لَيْسَ فِيهِ عدد مسنون، لِأَن الإيتار يَقع على الْوَاحِد كَمَا يَقع على الثَّلَاث والْحَدِيث دَال على الايتار فَقَط فَإِن قلت تعْيين الثَّلَاث من نَهْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن أَن يستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاث أَحْجَار. قلت: لما دلّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة (من فعل فقد أحسن، وَمن لَا فَلَا حرج) على عدم اشْتِرَاط العيين، حمل هَذَا على أَن النَّهْي فِيهِ كَانَ لأجل الِاحْتِيَاط، لِأَن التَّطْهِير غَالِبا إِنَّمَا يحصل بِالثلَاثِ، وَنحن أَيْضا نقُول: إِذا تحقق شخص أَنه لَا يطهر إلاَّ بِالثلَاثِ يتَعَيَّن عَلَيْهِ الثَّلَاث، وَالتَّعْيِين لَيْسَ لأجل التوفية فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ للانقاء الْحَاصِل فِيهِ حَتَّى إِذا احْتَاجَ إِلَى رَابِع وخامس وهلم جراً يتَعَيَّن عَلَيْهِ ذَلِك. فَافْهَم.(3/15)
26 - (بابُ الاسْتجْمَارِ وِتْراً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِجْمَار وترا، وَقد مر تَفْسِير الِاسْتِجْمَار فِي الْبَاب السَّابِق، وَالْوتر خلاف الشفع، وانتصابه على الْحَال.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَدِيث إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق حكمان: أَحدهمَا: الاستنثار. وَالْآخر الِاسْتِجْمَار وترا، وَكَانَ الْبَاب مَقْصُورا على الحكم الأول. وَهَذَا الْبَاب الْمَذْكُور فِيهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهمَا: الِاسْتِجْمَار وترا فاقتضت الْمُنَاسبَة أَن يعْقد بَابا على الحكم. الآخر: الَّذِي عقد لقرينه وَلم يعْقد لَهُ لِأَن مَا فِيهِ حكمان أَو أَكثر ذكر بَعْضهَا تلو بعض من وُجُوه الْمُنَاسبَة، وَلَا يلْزم أَن تكون الْمُنَاسبَة فِي الذّكر بَين الشَّيْئَيْنِ من كل وَجه، سِيمَا فِي كتاب يشْتَمل على أَبْوَاب كَثِيرَة، وَالْمَقْصُود مِنْهَا عقد التراجم، فَانْدفع بِهَذَا كَلَام من يَقُول: تَخْلِيل هَذَا الْبَاب بَين أَبْوَاب الْوضُوء، وَهُوَ بَاب الِاسْتِنْجَاء، ومرتبته التَّقْدِيم على أَبْوَاب الْوضُوء غير موجه. وَجَوَاب الْكرْمَانِي، بقوله: مُعظم نظر البُخَارِيّ إِلَى نقل الحَدِيث، وَإِلَى مَا يتَعَلَّق بِتَصْحِيحِهِ غير مهتم بتحسين الْوَضع وتزيين تَرْتِيب الْأَبْوَاب، لِأَن أمره سهل غير مرضِي، وَلَا هُوَ عذر يقبل مِنْهُ. وَكَذَا قَول بَعضهم: لِأَن أَبْوَاب الاستطابة لم تتَمَيَّز فِي هَذَا الْكتاب عَن أَبْوَاب صفة الْوضُوء لتلازمها، وَيحْتَمل أَن يكون ذكل مِمَّن دون المُصَنّف.
162 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بِنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالكٌ عَنْ أبي الزِّنَادِ عَن الاعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إِذا تَوَضَّأَأحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ ومنِ اسْتَجْمَرَ فلْيُوتِرْ وَإِذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِه فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فانَّ أحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أيْنَ بَاتَتْ يدُهُ.
(انْظُر الحَدِيث: 161) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن استجمر فليوتر) وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام، وَعقد التَّرْجَمَة على الِاسْتِجْمَار الَّذِي هُوَ أحد الْأَحْكَام للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَعبد الله بن يُوسُف بن عَليّ التنيسِي تقدم ذكره فِي بَاب الْوَحْي، والبقية تقدم ذكرهم جَمِيعًا فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون: عبد الله بن ذكْوَان. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا عبد الله. وَمِنْهَا: مَا قَالَه البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة: مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن الْحُسَيْن بن عِيسَى البسطامي عَن معِين بن عِيسَى عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم من طَرِيق آخر: حَدثنَا نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي وحامد بن عمر التكراوي قَالَا: حَدثنَا بشر بن الْمفضل عَن خَالِد بن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يذده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَفِي لفظ: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق بمنخريه من المَاء ثمَّ ليستنثر) . وَفِي لفظ: (فَلَا يغمس يَده فِي الأناء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا) . وَفِي لفظ: (اذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم فليفرغ على يَدَيْهِ ثَلَاث مَرَّات قبل أَن يدْخل يَده فِي إنائه، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي فِيمَا باتت يَده) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من طَرِيق خر، حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي رزين وَأبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من وَجه آخر: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد الدِّمَشْقِي، قَالَ: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من اللَّيْل فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من وَجه آخر: أَنبأَنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي،(3/16)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي وضوئِهِ حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا، فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من اللَّيْل فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي فيمَ باتت يَده) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (مَعَاني الْآثَار) : حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكير، قَالَ: حَدثنِي الْأَوْزَاعِيّ وَحدثنَا الْحُسَيْن بن نصر، قَالَ: حَدثنَا الْفرْيَابِيّ، قَالَ: حدثّنا الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن شهَاب قَالَ: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: (إِذا قَامَ احدكم من اللَّيْل) إِلَى آخِره، مثل لفظ ابْن مَاجَه، غير ان فِي لفظ الطَّحَاوِيّ: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحدكُم فيمَ باتت يَده) . وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد حسن، وَلَفظه: (ايْنَ باتت تَطوف يَده) . وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: (ويسمي قبل أَن يدخلهَا) . وَقَالَ: لم يروه عَن هِشَام، يَعْنِي عَن ابي الزِّنَاد، إلاَّ عبد الله بن يحيى بن عُرْوَة تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَلَا قَالَ أحد مِمَّن رَوَاهُ عَن أبي الزِّنَاد: ويسمي، إِلَّا هِشَام بن عُرْوَة. وَفِي (جَامع) عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ صَاحب مَالك: (حَتَّى يغسل يَده أَو يفرغ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي حَيْثُ باتت يَده) . وَفِي (علل) ابْن ابي حَاتِم الرَّازِيّ: (فليغرف على يَده ثَلَاث غرفات) . وَفِي لفظ: (ثمَّ ليغترف بِيَمِينِهِ من إنائه) . وَعند الْبَيْهَقِيّ: (أَيْن باتت يَده مِنْهُ) . وَعند ابْن عدي من رِوَايَة الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (فَإِن غمس يَده فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهَا فَلْيُرِقِ ذَلِك المَاء) وَفِي سنَن الكبحي الْكَبِير: (حَتَّى يصب عَلَيْهَا صبة أَو صبتين) . وَفِي لفظ: (على مَا باتت يَده) ، وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن جَابر وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم أَيْضا. أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده وَلَا على مَا وَضعهَا) . إِسْنَاده حسن. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده مِنْهُ، أَو أَيْن طافت يَده، فَقَالَ لَهُ رجل: أَرَأَيْت إِن كَانَ حوضاً؟ فَحَصَبه ابْن عمر، وَقَالَ: أخْبرك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: ارأيت إِن كَانَ حوضاً) ؟ إِسْنَاده حسن، وَحَدِيث ابي الزبير عَن عَائِشَة مَرْفُوعا نَحوه.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فَيجْعَل فِي انفه) تَقْدِيره: فليجعل فِي أَنفه مَاء، فَحذف: مَاء، الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين بِحَذْف: مَاء، وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: (فليجعل فِي أَنفه مَاء) ، بِدُونِ الْحَذف، وَكَذَا اخْتلفت رُوَاة (الْمُوَطَّأ) فِي إِسْقَاطه وَذكره، وَثَبت ذكره لمُسلم من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد، و: الْفَاء، فِي: (فليجعل) جَوَاب الشَّرْط، أَعنِي: إِذا. وَقَالَ بعض الشَّارِحين وَمعنى (فليجعل) : فليلق. قلت: جعل بِهَذَا الْمَعْنى لم يثبت فِي اللُّغَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّه بِمَعْنى: صير، كَمَا فِي قَوْلك: جعلته كَذَا، أَي: صيرته. قَوْله: (ثمَّ لينتثر) على وزن ليفتعل، من بَاب الافتعال، هَكَذَا رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (ثمَّ لينثر) ، بِسُكُون النُّون وَضم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، من بَاب الثلاثي الْمُجَرّد، وَكَذَا جَاءَت الرِّوَايَتَانِ فِي (الْمُوَطَّأ) ، قَالَ الْفراء يُقَال الرجل وانتشر والنتشر إِذا حرك النشرة وَهِي طرف الْأنف فِي الطَّهَارَة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا وَهَذِه الْجُمْلَة معطوفة على قَوْله: (فيلجعل) . وَقَوله: (وَمن استجمر) جملَة شَرْطِيَّة. وَقَوله: (فليوتر) جَوَاب الشَّرْط، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (وَإِذا اسْتَيْقَظَ) : الا ستيقاظ بِمَعْنى التيقظ، وَهُوَ لَازم، وَكلمَة: إِذا، للشّرط وَجَوَابه قَوْله: (فليغسل يَده) . وَقَوله: (قبل) ، نصب على الظّرْف، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (فِي وضوئِهِ) ، بِفَتْح الْوَاو، وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (قبل أَن يدخلهَا فِي الْإِنَاء) ، وَهُوَ ظرف المَاء الَّذِي يعد للْوُضُوء، وَهِي رِوَايَة مُسلم من طرق، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: (فِي إنائه أَو وضوئِهِ) على التَّرَدُّد. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) : الْفَاء، فِيهِ للتَّعْلِيل قَوْله: (أَيْن باتت) . كلمة: أَيْن، سُؤال عَن مَكَان، إِذا قلت: أَيْن زيد؟ فَإِنَّمَا تسْأَل عَن مَكَانَهُ، وَإِنَّمَا بني إِمَّا لتَضَمّنه معنى حرف الِاسْتِفْهَام أَو المجازاة. لِأَنَّك إِذا قلت أَيْن زيد؟ فكأنك قلت أَفِي الدَّار أم فِي السُّوق ام فِي الْمَسْجِد ام فِي غَيرهَا؟ وَإِذا قلت: أَيْن تجْلِس إجلس فَمَعْنَاه: إِن تجْلِس فِي الدَّار أَجْلِس فِيهَا، وَإِن تجْلِس فِي الْمَسْجِد أَجْلِس فِيهِ.(3/17)
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) مَعْنَاهُ: إِذا أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ. قَوْله: (وَإِذا اسْتَيْقَظَ) عطف على قَوْله: (إِذا توضا أحدكُم) قَالَ بَعضهم: وَاقْتضى سِيَاقه أَنه حَدِيث وَاحِد وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَقد أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج من الْمُوَطَّأ) رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ مفرقاً، وَكَذَا هُوَ فِي (موطأ يحيى بن بكير) وَغَيره، وَكَذَا فرقه الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث مَالك، وَكَذَا أخرج مُسلم الحَدِيث الأول من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد، وَالثَّانِي من طَرِيق الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن ابي الزِّنَاد. انْتهى. قلت: لَا يلْزم ذَلِك كُله أَن لَا يكون الحَدِيث وَاحِدًا، وَقد يجوز أَن يروي حَدِيث وَاحِد مقطعاً من طرق مُخْتَلفَة، فَمثل ذَلِك، وَإِن كَانَ حديثين أَو أَكثر بِحَسب الظَّاهِر، فَهُوَ فِي نفس الْأَمر حَدِيث وَاحِد، وَالظَّاهِر مَعَ سِيَاق البُخَارِيّ فِي كَونه حَدِيثا وَاحِدًا. قَوْله: (قبل أَن يدخلهَا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا من طرق مُخْتَلفَة: (فَلَا يغمس يَده فَلَا فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْبَزَّار: (فَلَا يعمسن) ، بنُون التأكيدة الْمُشَدّدَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَلَا يغمس يَده فِي طهوره حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا) الحَدِيث وَلم يَقع هَذَا إلاَّ فِي رِوَايَة الْبَزَّار، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: الغمس، أبين فِي المُرَاد من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا: الإدخال، لِأَن مُطلق الإدخال لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْكَرَاهَة، كمن أَدخل يَده فِي إِنَاء وَاسع فاغترف مِنْهُ بِإِنَاء صَغِير من غير أَن تلامس يَده الْمسَاء. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: فِيهِ إِيمَاء إِلَى أَن الْبَاعِث على الْأَمر بذلك احْتِمَال النَّجَاسَة، لِأَن الشَّارِع إِذا ذكر حكما وعقبه بعلة دلّ على أَن ثُبُوت الحكم لأَجلهَا، وَمثله قَوْله فِي حَدِيث الْمحرم الَّذِي سقط فَمَاتَ: (فَإِنَّهُ يبْعَث ملبياً) ، بعد نهيهم عَن تطييبه فنبه على عِلّة النَّهْي وَهِي كَونه محرما. قَوْله: (أَيْن باتت يَده) أَي: من جسده. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: معنى (لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) أَن أهل الحجار كَانُوا يستنجون بِالْحِجَارَةِ وبلادهم حارة، فَإِذا نَام أحدهم عرق، فر يَأْمَن من النَّائِم أَن تَطوف يَده على ذَلِك الْموضع النَّجس أَو على بثرة أَو على قملة أَو قذر وَغير ذَلِك. وَقَالَ الْبَاجِيّ: مَا قَالَه يسْتَلْزم الْأَمر بِغسْل ثوب النَّائِم لجَوَاز ذَلِك عَلَيْهِ، وَأجِيب عَنهُ: بِأَنَّهُ مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ الْعرق فِي اليددون الْمحل. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْيَد إِذا عرقت فالمحل بطرِيق الأولى على مَا لَا يخفي فَلَا وَجه حِينَئِذٍ لاخْتِصَاص الْيَد بِهِ. وَقَول من قَالَ: إِنَّه مُخْتَصّ بِالْمحل يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره من طَرِيق مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن خَالِد الْحذاء عَن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ فِي آخِره: (أَيْن باتت يَده مِنْهُ) ، وَأَصله فِي مُسلم: دون: قَوْله: (مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بهَا شُعْبَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بهَا مُحَمَّد بن الْوَلِيد. قلت: فِيهِ نظر لِأَن ابْن مَنْدَه ذكر هَذَا اللَّفْظ أَيْضا من حَدِيث خَالِد الْحذاء عَن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر، وَمُحَمّد بن يحيى عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن شُعْبَة عَن خَالِد. قَالَ: وَمَا أراهما بمحفوظين بِهَذِهِ الزِّيَادَة إلاَّ أَن رُوَاة هَذِه الزِّيَادَة ثِقَات مقبولون، وبنحوه قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن الْإِنَاء يغسل من ولوغ الْكَلْب ثَلَاث مَرَّات، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر الْقَائِم من اللَّيْل بإفراغ المَاء على يَده مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ ويبولون وَلَا يستنجون بِالْمَاءِ، وَرُبمَا كَانَت أَيْديهم تصيب الْمَوَاضِع النَّجِسَة فتتنجس، فَإِذا كَانَت الطَّهَارَة تحصل بِهَذَا الْعدَد من الْبَوْل وَالْغَائِط وهما أغْلظ النَّجَاسَات، وَكَانَ أولى وَأَحْرَى أَن تحصل مِمَّا هُوَ دونهمَا من النَّجَاسَات. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا على أَن غسل الْيَدَيْنِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء سنة، بَيَان ذَلِك أَن أول الحَدِيث يَقْتَضِي وجوب الْغسْل للنَّهْي عَن إِدْخَال الْيَد فِي الْإِنَاء قبل الْغسْل، وَآخره يَقْتَضِي اسْتِحْبَاب الْغسْل للتَّعْلِيل بقوله: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي ايْنَ باتت يَده) يَعْنِي: فِي مَكَان طَاهِر من بدنه أَو نجس، فَلَمَّا انْتَفَى الْوُجُوب لمَانع فِي التَّعْلِيل الْمَنْصُوص ثبتَتْ السّنيَّة لِأَنَّهَا دون الْوُجُوب، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْأَمر فِيهِ أَمر اسْتِحْبَاب لَا أَمر إِيجَاب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد علقه بِالشَّكِّ، وَالْأَمر المضمن بِالشَّكِّ لَا يكون وَاجِبا، وأصل المَاء الطَّهَارَة وَكَذَلِكَ بدن الانسان، وَإِذا ثبتَتْ الطَّهَارَة يَقِينا لم تزل بِأَمْر مَشْكُوك فِيهِ. قلت: مَذْهَب عَامَّة أهل الْعلم أَن ذَلِك على الِاسْتِحْبَاب، وَله أَن يغمس يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهَا، وَأَن المَاء طَاهِر مَا لم يتَيَقَّن نَجَاسَة يَده، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ ذَلِك عُبَيْدَة وَابْن سِيرِين وابراهيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَسَالم والبراء بن عَازِب وَالْأَعْمَش فِيمَا ذكره البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: قَالَ أَحْمد: إِذا انتبه من النّوم فَأدْخل يَده فِي الْإِنَاء قبل الْغسْل أعجب إِلَى أَن يريق ذَلِك المَاء إِذا كَانَ من نوم اللَّيْل، وَلَا يهراق فِي قَول(3/18)
عَطاء وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ وَأبي عُبَيْدَة، وَاخْتلفُوا فِي المستيقظ من النّوم بِالنَّهَارِ، فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نوم النَّهَار ونوم اللَّيْل وَاحِد فِي غمس الْيَد، وَسَهل أَحْمد فِي نوم النَّهَار، وَنهى عَن ذَلِك إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل. قَالَ أَبُو بكر: وَغسل الْيَدَيْنِ من ابْتِدَاء الْوضُوء لَيْسَ بِفَرْض، وَذهب دَاوُد الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء يجْزِيه إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن حزم: وَسَوَاء تبَاعد مَا بَين نَومه ووضوئه أَو لم يتباعد، فَلَو صب على يَدَيْهِ من إِنَاء دون أَن يدْخل يَده فِيهِ لزم غسل يَده أَيْضا ثَلَاثًا إِن قَامَ من نَومه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة، وَقَالَ أَشهب: خشيَة النَّجَاسَة. وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، فَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك من سنَن الْوضُوء، وَقيل: إِنَّه مُسْتَحبّ وَبِه صدر ابْن الْجلاب فِي تفريعه، وَقيل بِإِيجَاب ذَلِك مُطلقًا وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأَصْحَابه، وَقيل بإيجابه فِي نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَقَالَ: وَهل تغسلان مجتمتعين أَو متفرقتين فَفِيهِ قَولَانِ مبنيان على اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك، فَفِي بعض الطّرق: فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِفْرَاد، وَفِي بعض طرقه: (فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجمع. انْتهى. فان قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَنْفِي السّنيَّة لأَنهم كَانُوا يتوضؤن من الأتوار، فَلذَلِك أَمرهم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِغسْل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، وَأما فِي هَذَا الزَّمَان فقد تغير ذَلِك. قلت: السّنة لما وَقعت سنة فِي الِابْتِدَاء بقيت ودامت وَإِن لم يبْق ذَلِك الْمَعْنى، لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة فِي ابْتِدَاء وجودهَا لَا فِي بَقَائِهَا، لِأَن الْأَسْبَاب تبقى حكما وَإِن لم تبْق حَقِيقَة، لِأَن للشارع ولَايَة الإيجاد والإعدام، فَجعلت الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة بِمَنْزِلَة الْجَوَاهِر فِي بَقَائِهَا حكما. وَهَذَا كالرَّمَل فِي الْحَج وَنَحْوه.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بِإِطْلَاق قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من نَومه) ، من غير تَقْيِيد، على أَن غمس الْيَدَيْنِ فِي إِنَاء الْوضُوء مَكْرُوه قبل غسلهمَا سَوَاء كَانَ عقيب نوم اللَّيْل أَو نوم النَّهَار، وَخص أَحْمد الْكَرَاهَة بنوم اللَّيْل لقَوْله: (أَيْن باتت يَده) ، وَالْمَبِيت لَا يكون إلاَّ لَيْلًا، وَلِأَن الْإِنْسَان لَا ينْكَشف لنوم النَّهَار كَمَا ينْكَشف لنوم اللَّيْل، لقَوْله (أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت لَا يكون إِلَّا لَيْلًا فَتَطُوف يَده فِي أَطْرَاف بدنه كَمَا تَطوف يَد النَّائِم لَيْلًا، فَرُبمَا أَصَابَت مَوضِع الْعذرَة، وَقد يكون هُنَاكَ لوث من أثر النَّجَاسَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا فِي رِوَايَة ابي دَاوُد سَاق، أسنادها مُسلم: إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل ... وَكَذَا التِّرْمِذِيّ من وَجه آخر صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي عوَانَة سَاق مُسلم إسنادها: (اذا قَامَ أحدكُم إِلَى الْوضُوء حِين يصبح) وَأَجَابُوا بِأَن الْعلَّة تَقْتَضِي إِلْحَاق نوم النَّهَار بنوم اللَّيْل، وَتَخْصِيص نوم اللَّيْل بِالذكر للغلبة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا أَن هَذَا الحكم لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْقيامِ من النّوم، بل الْمُعْتَبر فِيهِ الشَّك فِي نَجَاسَة الْيَد فَمَتَى شكّ فِي نجاستها يسْتَحبّ غسلهَا سَوَاء قَامَ من النّوم لَيْلًا أَو نَهَارا أَو لم يقم مِنْهُ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نبه على الْعلَّة بقوله: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي) وَمَعْنَاهُ لَا يَأْمَن من النَّجَاسَة على يَده، وَهَذَا عَام لاحْتِمَال وجود النَّجَاسَة فِي النّوم فيهمَا، وَفِي الْيَقَظَة.
الرَّابِع: إِن قَوْله: (فِي الاناء) مَحْمُول على مَا إِذا كَانَت الْآنِية صَغِيرَة كالكوز أَو كَبِيرَة كالجب وَمَعَهُ آنِية صَغِيرَة، أما إِذا كَانَت الْآنِية كَبِيرَة وَلَيْسَت مَعَه آنِية صَغِيرَة فالنهي مَحْمُول على الإدخال على سَبِيل الْمُبَالغَة، حَتَّى لَو أَدخل أَصَابِع يَده الْيُسْرَى مَضْمُومَة فِي الاناء دون الْكَفّ، وَيرْفَع المَاء من الْجب، وَيصب على يَده الْيُمْنَى، ويدلك الْأَصَابِع بَعْضهَا بِبَعْض، فيفعل كَذَلِك مَرَّات، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى بَالغا مَا بلغ فِي الْإِنَاء إِن شَاءَ، وهذ الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما إِذا كَانَ المَاء فِي إِنَاء كَبِير بِحَيْثُ لَا يُمكن الصب مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَه إِنَاء صَغِير يغترف بِهِ، فطريقة أَن يَأْخُذ المَاء بِفِيهِ ثمَّ يغسل بِهِ كفيه، أَو يَأْخُذهُ بِطرف ثَوْبه النَّظِيف، أَو يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ. قلت: لَو فَرضنَا أَنه عجز عَن أَخذه بفمه، وَلم يعْتَمد على طَهَارَة ثَوْبه، وَلم يجد من يَسْتَعِين بِهِ، مَاذَا يفعل؟ وَمَا قَالَه أَصْحَابنَا أوسع وَأحسن.
الْخَامِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن المَاء الْقَلِيل تُؤثر فِيهِ النَّجَاسَة، وَإِن لم تغيره، وَهَذِه حجَّة قَوِيَّة لِأَصْحَابِنَا فِي نَجَاسَة الْقلَّتَيْنِ لوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ. وَإِن لم تغيره وإلاَّ لَا يكون للنَّهْي فَائِدَة.
السَّادِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ اسْتِحْبَاب غسل النَّجَاسَات ثَلَاثًا لِأَن إِذا مر بِهِ فِي المتوهمة فَفِي المحققة أولى، وَلم يرد شَيْء فَوق الثَّلَاث، إِلَّا فِي ولوغ الْكَلْب، وَسَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أوجب فِيهِ الثَّلَاث، وخيّر فِيمَا زَاد.
السَّابِع: فِيهِ أَن النَّجَاسَة المتوهمة يسْتَحبّ فِيهَا الْغسْل، وَلَا يُؤثر فِيهَا الرش فَإِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر بِالْغسْلِ وَلم يَأْمر بالرش.
الثَّامِن: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَبْوَاب الْعِبَادَات.
التَّاسِع: إِن المَاء يَتَنَجَّس بورود النَّجَاسَة عَلَيْهِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع، وَأما وُرُود المَاء على النَّجَاسَة فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: وَالْفرق بَين وُرُود المَاء على النَّجَاسَة وورودها عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا إِذا وَردت عَلَيْهِ نجسته وَإِذا ورد عَلَيْهَا أزالها، وَتَقْرِيره(3/19)
أَنه قد نهى عَن إِدْخَال الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاء لاحْتِمَال النَّجَاسَة، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن وُرُود النَّجَاسَة على المَاء مُؤثر فِيهِ، وَأمر بغسلها بإفراغ المَاء عَلَيْهَا للتطهير، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن ملاقاتها المَاء على هَذَا الْوَجْه غير مُفسد بِمُجَرَّد الملاقاة، وإلاَّ لما حصل الْمَقْصُود من التَّطْهِير. قلت: سلمنَا أَن ملاقاتهما على هَذَا الْوَجْه غير مُفسد بِمُجَرَّد الملاقاة للضَّرُورَة، وَلَكِن لَا نسلم أَنه يبْقى طَاهِرا بعد أَن أَزَال النَّجَاسَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا: وَفِيه دلَالَة على أَن المَاء الْقَلِيل إِذا وَردت عَلَيْهِ نَجَاسَة نجسته، وَإِن قلَّت وَلم تغيره فَإِنَّهَا تنجسه لِأَن الَّذِي تعلق بِالْيَدِ وَلَا يرى قَلِيل جدا، وَكَانَت عَادَتهم اسْتِعْمَال الْأَوَانِي الصَّغِيرَة الَّتِي تقصر عَن الْقلَّتَيْنِ، بل لَا تقاربها. وَقَالَ الْقشيرِي: وَفِيه نظر عِنْد لِأَن مُقْتَضى الحَدِيث أَن وُرُود النَّجَاسَة على المَاء يُؤثر فِيهِ، وَمُطلق التَّأْثِير أَعم من التَّأْثِير بالتنجيس، وَلَا يلْزم من ثُبُوت الْأَعَمّ ثُبُوت الْأَخَص الْمعِين، فَإِذا سلم الْخصم أَن المَاء الْقَلِيل بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ يكون مَكْرُوها فقد ثَبت مُطلق التَّأْثِير، وَلَا يلْزم ثُبُوت خُصُوص التَّأْثِير بالتنجيس.
الْعَاشِر: فِيهِ اسْتِحْبَاب اسْتِعْمَال الْكِنَايَات فِي الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا استهجان، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) ، وَلم يقل: فَلَعَلَّ يَده وَقعت على دبره أَو ذكره أَو نَجَاسَة، وَنَحْو ذَلِك، وَإِن كَانَ هَذَا معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِذا علم أَن السَّامع يفهم بِالْكِنَايَةِ الْمَقْصُود. فَإِن لم يكن كَذَلِك فَلَا بُد من التَّصْرِيح لينتفي اللّبْس والوقوع فِي خلاف الْمَطْلُوب، وعَلى هَذَا يحمل مَا جَاءَ من ذَلِك مُصَرحًا بِهِ.
الْحَادِي عشر: إِن قَوْله (فِي الْإِنَاء) ، وَإِن كَانَ عَاما لَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَنه إِنَاء المَاء، بِدَلِيل قَوْله فِي هَذِه الرِّوَايَة: (فِي وضوئِهِ) ، وَلَكِن الحكم لَا يخْتَلف بَينه وَبَين غَيره من الْأَشْيَاء الرّطبَة.
الثَّانِي عشر: إِن مَوضِع الِاسْتِنْجَاء لَا يطهر بِالْمَسْحِ بالأحجار، بل يبْقى نجسا معفواً عَنهُ فِي حق الصَّلَاة حَتَّى إِذا أصَاب مَوضِع الْمسْح بَلل، وابتل بِهِ سراويله أَو قَمِيصه يُنجسهُ.
الثَّالِث عشر: قَوْله: (فليغسل يَده) يتَنَاوَل مَا إِذا كَانَت يَده مُطلقَة أَو مشدودة بِشَيْء، أَو فِي جراب أَو كَانَ النَّائِم عَلَيْهِ سراويله، أَو لم يَكن لعُمُوم اللَّفْظ.
الرَّابِع عشر: إِن قَوْله: (فَإِن أحدكُم) خطاب للعقلاء الْبَالِغين الْمُسلمين، فَإِن كَانَ الْقَائِم من النّوم صَبيا أَو مَجْنُونا أَو كَافِرًا، فَذكر فِي (الْمُغنِي) أَن فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَالْمُسلمِ الْبَالِغ الْعَاقِل لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده. وَالثَّانِي أَنه لَا يُؤثر غمسه شَيْئا، لِأَن الْمَنْع من الغمس إِنَّمَا يثبت بِالْخِطَابِ، وَلَا خطاب فِي حق هَؤُلَاءِ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ إِضَافَة النّوم إِلَى ضمير: أحدكُم، وَذَلِكَ ليخرج نَومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ تنام عينه دون قلبه.
السَّادِس عشر: قَوْله: (من نَومه) يُفِيد خُرُوج الْغَفْلَة وَنَحْوهَا.
السَّابِع عشر: اخْتلفُوا فِي أَن عِلّة الْأَمر التَّنْجِيس أَو التَّعَبُّد، فَمنهمْ من قَالَ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: إِن ذَلِك لاحْتِمَال النَّجَاسَة وَمُقْتَضَاهُ إِلْحَاق من يشك فِي ذَلِك، وَلَو كَانَ مستيقظاً، وَمَفْهُومه أَن من درى أَيْن باتت يَده، كمن لف عَلَيْهَا خرقَة مثلا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ على حَالهَا فَلَا كَرَاهَة، وَإِن كَانَ غسلهَا مُسْتَحبا كَمَا فِي المستيقظ، وَمِنْهُم من قَالَ، وَمِنْهُم مَالك: بِأَن ذَلِك للتعبد، فعلى قَوْلهم لَا يفرق بَين شاكٍ ومتيقن.
الثَّامِن عشر: قَالَ أَبُو عمر: فِيهِ إِيجَاب الْوضُوء من النّوم.
التَّاسِع عشر: قيل: فِيهِ تَقْوِيَة من يَقُول بِالْوضُوءِ من مس الذّكر، حَكَاهُ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن ابْن عُيَيْنَة، وَفِيه بعد جدا.
الْعشْرُونَ: مَا قَالَه الْخفاف من الشَّافِعِيَّة: إِن الْقَلِيل من المَاء لَا يصير مُسْتَعْملا بِإِدْخَال الْيَد فِيهِ لمن أَرَادَ الْوضُوء، وَفِيه بعد أَيْضا. وَالله أعلم.
27 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى القَدَمَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسلم الرجلَيْن فِي الْوضُوء. قَوْله: (وَلَا يمسح على الْقَدَمَيْنِ) يَعْنِي: إِذا كَانَتَا عاريتين. قَالَ الْقشيرِي: فهم البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث أَن الْقَدَمَيْنِ لَا يمسحان بل يغسلان، وَهُوَ عِنْدِي غير جيد، لِأَنَّهُ مُفَسّر فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: إِن الاعقاب كَانَت تلوح لم يَمَسهَا المَاء، وَلَا شكّ أَن هَذَا مُوجب للوعيد بالِاتِّفَاقِ، وَالَّذين استدلوا على أَن الْمسْح غير مجزىء إِنَّمَا اعتبروا لَفظه فَقَط، فقد رتب الْوَعيد على مُسَمّى الْمسْح وَلَيْسَ فِيهَا ترك بعض الْوضُوء، وَالصَّوَاب إِذا جمعت الطّرق أَن يسْتَدلّ بِبَعْضِهَا على بعض، وَيجمع مَا يُمكن جمعه فِيهِ ليظْهر المُرَاد، وَلَو إستدل فِي غسل الرجلَيْن بِحَدِيث: (إِذا تَوَضَّأ الْمُسلم فَغسل رجلَيْهِ خرجت كل خَطِيئَة بطشت بهَا رِجْلَاهُ) . فَهَذَا يدل على أَن الرجل فَرضهَا الْغسْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ فَرضهَا الْمسْح لم يكن فِي غسلهَا ثَوَاب. أَلا ترى أَن الرَّأْس الَّذِي فَرضهَا الْمسْح لَا ثَوَاب فِي غسلهَا؟ قلت: لَا دخل فِي ذَلِك على البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ فهم مِنْهُ أَن(3/20)
الْإِنْكَار عَلَيْهِم إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب الْمسْح لَا بِسَبَب الِاقْتِصَار على غسل بعض الرجل، فلأجل ذَلِك قَالَ: (وَلَا يمسح على الْقَدَمَيْنِ) .
فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: قد مر أَن الْبَاب السَّابِق ذكر عقيب الَّذِي قبله للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَيكون هَذَا الْبَاب فِي الْحَقِيقَة يَتْلُو الْبَاب الَّذِي قبله، والمناسبة بَينهمَا ظَاهِرَة لِأَن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
163 - حدّثنا مُوسَى قالَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبي بِشْرٍ عَنْ يُوسفَ بن ماهِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍ وقالَ تَخَلَّفَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَادْرَكَنَا وَقَدْ أرْهَقَنَا العَصْرُ فَجَعلْنا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أرْجُلنَا فَنَادَي بِأعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثاً.
(انْظُر الحَدِيث: 60 وطرفه)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة تفهم من إِنْكَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسحهم على أَرجُلهم، لِأَنَّهُ مَا أنكر عَلَيْهِم بالوعيد إلاَّ لكَوْنهم لم يستوفوا غسل الرجلَيْن.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا كلهم، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي قد مر فِي بَاب من قَالَ الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: هُوَ الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية الوَاسِطِيّ، وماهك رُوِيَ بِكَسْر الْهَاء وَفتحهَا منصرفاً، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الْقرشِي، وَهَذَا الْإِسْنَاد والْحَدِيث بعينهما قد تقدما فِي بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، وَفِي بَاب: من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا فِي كتاب الْعلم بِلَا تفَاوت بَينه وَبَينهمَا إلاَّ فِي الرَّاوِي الأول، فَإِنَّهُ مُوسَى هَهُنَا. وثمة فِي الْبَاب الأول: ابو النُّعْمَان. وَفِي الْبَاب الثَّانِي: مُسَدّد.
وَقد ذكرنَا فِي بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، لطائف إِسْنَاده، وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره، وَبَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني، وَبَيَان وَجه الاستنباط، فَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
قَوْله (سافرناها) هُوَ رِوَايَة كَرِيمَة وَلَيْسَ هُوَ بِثَابِت فِي رِوَايَة غَيره، وَظَاهره أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ فِي تِلْكَ السفرة، وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: أَنَّهَا كَانَت من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَلم يَقع ذَلِك لعبد الله محققاً إلاَّ فِي حجَّة الْوَدَاع. أما غَزْوَة الْفَتْح فقد كَانَ فِيهَا، لَكِن مَا رَجَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا إِلَى الْمَدِينَة بل من مَكَّة من الْجِعِرَّانَة، وَيحْتَمل أَن تكون عمْرَة القاضاء، فإنن هِجْرَة عبد الله بن عَمْرو كَانَت فِي ذَلِك الْوَقْت اَوْ قَرِيبا مِنْهُ. قَوْله: (فَأَدْرَكنَا) ، بِفَتْح الْكَاف أَي: لحق بِنَا رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَقد أَرْهقنَا الْعَصْر) بِفَتْح الْهَاء وَالْقَاف: من الإرهاق، وَالْعصر مَرْفُوع بِهِ لِأَنَّهُ فَاعل، هَكَذَا رِوَايَة ابي ذَر. وَفِي روايةٍ بِإِسْكَان الْقَاف وَنصب الْعَصْر على المفعولية، وَيُقَوِّي الأول رِوَايَة الْأصيلِيّ: (وَقد أرهقتنا) بتأنيث الْفِعْل وبرفع الصَّلَاة على الفاعلية. قَوْله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) قد قُلْنَا: إِن ويل، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ دُعَاء، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ على أَقْوَال أظهرها مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابي سعيد مَرْفُوعا: (ويل وَاد فِي جَهَنَّم) . وَالْألف وَاللَّام فِي: الأعقاب، للْعهد لِأَن المُرَاد المرئية من ذَلِك، وَهَذَا حجَّة على من يتَمَسَّك بِهِ فِي إِجْزَاء الْمسْح، لِأَنَّهُ لم يُوجب مسح الْعقب. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما أخرهم بتعميم غسل الرجلَيْن حَتَّى لَا يبْقى مِنْهَا لمْعَة دلّ على أَن فَرضهَا الْغسْل، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْمُنِير بِأَن التَّعْمِيم لَا يسْتَلْزم الْغسْل، فالرأس تعم بِالْمَسْحِ وَلَيْسَ فَرضهَا الْغسْل. قلت: هَذَا لَا يرد عَلَيْهِ أصلا، لِأَن كَلَامه فِيمَا يغسل، فَأمره بالتعميم يدل على فَرِيضَة الْغسْل فِي المغسول، وَالرَّأْس لَيْسَ بمغسول. فَافْهَم.
وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النّبي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صفة وضوئِهِ أَنه غسل رجلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبين لأمر الله تَعَالَى، وَقد قَالَ فِي حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره مطولا فِي فضل الْوضُوء: (ثمَّ يغسل قدمية كَمَا أمره الله تَعَالَى) ، وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة خلاف ذَلِك إِلَّا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وانس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ثَبت عَنْهُم الرُّجُوع عَن ذَلِك، وروى سعيد بن مَنْصُور عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى أَنه قَالَ: اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غسل الْقَدَمَيْنِ. وَالله أعلم.
28 - (بابُ المَضْمَضَةِ فِي الوُضُوءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا تَعْلِيق مِنْهُ، وَلكنه أخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا فِي بَاب غسل الوجب باليدين، وَكَذَا حَدِيث عبد الله بن(3/21)
زيد بن عَاصِم. أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ على مَا يَأْتِي عَن قريب. فَإِن قلت: إِلَى مَا يرجع الضَّمِير فِي: قَالَه؟ قلت: يرجع إِلَى الْمَضْمَضَة، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث، أَو يكون تذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور. فان قلت: مقول القَوْل يَنْبَغِي أَن يكون جملَة، وَهَهُنَا مُفْرد. قلت: القَوْل هَهُنَا بِمَعْنى الْحِكَايَة كَمَا فِي: قلت شعرًا، وَقلت قصيدة، وَالْمعْنَى حَكَاهُ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير بِقَوْلِك: أَي قَالَ بالمضمضة ابْن عَبَّاس، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكرْمَانِي. فَافْهَم.
164 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلى عُثْمان بن عَفَّانَ أنَّهُ رَأَى عُثْمانَ دَعَا بِوَضُوءِ فَأَفْرغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ ثُمَّ تمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَر ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً ثُمَّ مَسَحَ بِرَأسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثاً ثُمَّ قالَ رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأْ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وقالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 159 واطرافه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ تمضمض) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن ابي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عَطاء بن يزِيد، من الزِّيَادَة. الْخَامِس: حمْرَان بن أبان، وَالْكل قد ذكرُوا.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْجمع والإفراد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة حمصي عَن حمصي، وهما الْأَوَّلَانِ، والبقية مدنيون.
وَبَقِيَّة الْكَلَام سلفت فِي بَاب: الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا تفَاوت بَينهمَا، أَي: بَين الْحَدِيثين إلاَّ بِزِيَادَة لفظ: (واستنشق) هَهُنَا، وَزِيَادَة: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوضؤ نَحْو وضوئي هَذَا) قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل التَّفَاوُت بَينهمَا فِي غير مَا ذكره أَيْضا، فَإِن هُنَاكَ: (دَعَا بِإِنَاء) وَهَهُنَا: (دَعَا بِوضُوء) . وَهن فأفرغ على كفيه ثَلَاث مرَارًا وَهَهُنَا فافرغ عَليّ يَدَيْهِ من إنائه وَهُنَاكَ فغسلهما ثمَّ ادخلهما وَهَهُنَا فغسلهما ثَلَاث مَرَّات) وَهُنَاكَ: (ثمَّ أَدخل يَمِينه فِي الْإِنَاء) . وَهنا: (فِي الْوضُوء) ، وَهُنَاكَ: (فَمَضْمض) ، وَهَهُنَا: (ثمَّ تمضمض) وَهُنَاكَ: (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) ، وَهَهُنَا. (ثمَّ غسل كل رجل) ، وَهَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والكشميهني: (ثمَّ غسل كل رجل) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (كلتا رجلَيْهِ) . وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي اعتمدها صَاحب (الْعُمْدَة) وَفِي نُسْخَة: (كل رجلَيْهِ) ، وَالْكل يرجع إِلَى معنى وَاحِد، غير أَن رِوَايَة: (كل رجله) ، تفِيد تَعْمِيم كل رجل بِالْغسْلِ. قَوْله: (غفر الله لَهُ) ، هَذِه رِوَايَة، الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (غفر لَهُ) ، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة يُونُس فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ الزُّهْرِيّ: (كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوضُوء اسبغ مَا يتَوَضَّأ بِهِ أحد للصَّلَاة) .
29 - (بابُ غَسْلِ الاَعْقَابِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الأعقاب، وَهِي جمع عقب، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف مِثَال: كبد، وَهُوَ الْعظم الْمُتَأَخر الَّذِي يمسك مُؤخر شِرَاك النَّعْل، وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِيهِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، وَهِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
وَكانَ ابنُ سِيرينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الخَاتَمِ إذَا تَوَضَّأَ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: أَن هَذَا تَعْلِيق أخرجه ابْن شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد صَحِيح مَوْصُولا عَن هشيم عَن خَالِد عَن ابْن سِيرِين، وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي (التَّارِيخ) عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن مهْدي بن مَيْمُون عَنهُ: (أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . فَإِن قيل: رُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه أدَار الْخَاتم فِي إصبعه: قيل: لَعَلَّ ذَلِك حَالَة أُخْرَى(3/22)
لَهُ كَانَ وَاسِعًا يدْخل المَاء برقته إِلَيْهِ.
الثَّانِي: مَذَاهِب الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: تَحْرِيك الْخَاتم الضّيق من سنَن الْوضُوء لِأَنَّهُ فِي معنى تَخْلِيل الْأَصَابِع، وَإِن كَانَ وَاسِعًا لَا يحْتَاج إِلَى تَحْرِيك، وَبِهَذَا التَّفْصِيل قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين وَعَمْرو بن دِينَار وَعُرْوَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَابْن عُيَيْنَة وَأَبُو ثَوْر يحركونه فِي الْوضُوء. قلت: ذكر فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة هَكَذَا: عَن أبي تَمِيم الجيشاني وَعبد الله بن هُبَيْرَة السبائي وَمَيْمُون ابْن مهْرَان، وَكَانَ حَمَّاد يَقُول فِي الْخَاتم: أزاله. قَالَ ابْن الْمُنْذر خص فِيهِ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سَالم، وَقد روى ابْن مَاجَه حَدِيثا فِيهِ ضعف عَن أبي رَافع: (كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: والاعتماد فِي هَذَا الْبَاب على أَن الْأَثر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَحكي أَيْضا عَن ابْن عمر وَعَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، وَفِي (غَرِيب الحَدِيث) لِابْنِ قُتَيْبَة من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل يتَوَضَّأ: عَلَيْك بالمنشلة، قَالَ: يَعْنِي مَوضِع الْخَاتم من الإصبع. قلت: المنشلة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَاللَّام.
الثَّالِث: قَوْله: (وَكَانَ ابْن سِيرِين) ، الْوَاو فِيهِ للاستفتاح، وَابْن سِيرِين: هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين من أكَابِر التَّابِعين، وَهُوَ كَلَام إضافي إسم: كَانَ. وَقَوله: (يغسل مَوضِع الْخَاتم) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ. فان قلت: كَانَ للماضي، وَيغسل: للمضارع، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: يغسل للاستمرار أَو لحكاية حَال الْمَاضِي على سَبِيل الاستحضار. قَوْله: (اذا تَوَضَّأ) ، يجوز أَن تكون إِذا، للشّرط، وَأَن تكون للظرف. فَقَوله: كَانَ جَزَاء الشَّرْط: إِذا، كَانَ: إِذا للشّرط، وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ إِذا كَانَ للظرف، وَيجوز أَن يكون قَوْله: يغسل، وَالْأول أوجه.
الرَّابِع: وَجه دُخُول هَذَا فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ إِنَّه يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بذلك أَنه لَو أدَار الْخَاتم وَهُوَ فِي إصبعه لَكَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمَمْسُوح، وَفرض الْأصْبع الْغسْل فقاس الْمسْح، فِي الْأصْبع على مسح الرجلينن فَإِنَّهُ قد فهم من الحَدِيث الْمسْح على مَا مر وَبَوَّبَ عَلَيْهِ كَمَا سلف.
165 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا مُحمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكانَ يَمُرُّ بِنَا والنَّاسُ يَتَوَضَّؤُنَ مِنَ المِطْهَرَةِ قالَ أَسْبِغُوا الوُضُوءَ فَانَّ أبَا القاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّار.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) .
بَيَان رِجَاله وهم اربعة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم. الثَّالِث: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو الْحَارِث الجُمَحِي الْمدنِي الأَصْل، سكن الْبَصْرَة، مولى عُثْمَان بن مَظْعُون، بالظاء الْمُعْجَمَة: تَابِعِيّ ثِقَة روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وبصري ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَعَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل ابْن علية، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن شُعْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (المطهرة) بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا: الأداوة، وَالْفَتْح أَعلَى، وَيجمع على: مظَاهر. وَفِي الحَدِيث: (السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب) . قَوْله: (أَسْبغُوا الْوضُوء) من الإسباغ وَهُوَ: إبلاغه موَاضعه وإيفاء كل عُضْو حَقه، والتركيب يدل على تَمام الشَّيْء وكماله. قَوْله: (لِلْأَعْقَابِ) جمع عقب، وَقد مر تَفْسِيره مُسْتَوفى.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (وَكَانَ يمر بِنَا) جملَة وَقعت حَالا من مفعول: سَمِعت، وَهُوَ قَوْله: (أَبَا هُرَيْرَة) ، وَالضَّمِير فِي: كَانَ، يرجع إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمه. وَقَوله: (يمر بِنَا) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر لَهُ. قَوْله: (وَالنَّاس) مُبْتَدأ و: (يتوضؤن) خَبره، وَالْجُمْلَة حَال من فَاعل: كَانَ، وَهُوَ إِمَّا من الْأَحْوَال المتداخلة وَأما من الْأَحْوَال المترادفة. قَوْله: (فَقَالَ) إِلَى آخِره، قَائِله أَبُو هُرَيْرَة، ويروي: قَالَ، بِدُونِ: الْفَاء فَإِن(3/23)
قلت: مَا وَجه اعرابه على الْوَجْهَيْنِ؟ قلت: وَجه وجود: الْفَاء، أَن تكون: الْفَاء تفسيرية لِأَنَّهَا تفسر: قَالَ، المحذوفة بعد قَوْله: أَبَا هُرَيْرَة، لَان تَقْدِير الْكَلَام: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: وَكَانَ يمر بِنَا ... إِلَى آخِره، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن: أَبَا هُرَيْرَة، مفعول: سَمِعت. وَشرط وُقُوع الذَّات مفعول فعل السماع أَن يكون مُقَيّدا بالْقَوْل، وَنَحْوه كَقَوْلِه تَعَالَى {سمعنَا منادياً يُنَادي} (آل عمرَان: 193) وَوجه عدم: الْفَاء، أَن يكون: قَالَ، حَالا من ابي هُرَيْرَة، وَالتَّقْدِير: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة حَال كَونه قَائِلا: أَسْبغُوا الْوضُوء. قَوْله: (فَإِن أَبَا الْقَاسِم) ، الْفَاء: للتَّعْلِيل، و: أَبُو الْقَاسِم، كنية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن قَوْله: (ويل للاعقاب من النَّار) مقول القَوْل، وَإِعْرَابه مر غير مرّة مَعَ سَائِر أبحاثه.
30 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْليْنِ فِي النَّعْلَيْنِ ولاَ يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الرجلَيْن حَال كَونهمَا فِي النَّعْلَيْنِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، وَهِي: أَن كلا مِنْهُمَا فِي بَيَان حكم غسل الرجلَيْن حَال كَونهمَا فِي النَّعْلَيْنِ، لِأَن الْبَاب الأول فِي غسل الأعقاب وَهِي من الرجلَيْن.
166 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالكٌ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بنِ جُرَيّحٍ أنَّهُ قالَ لعْبدِ الله بنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ رَأيْتُكَ تَصْنَعُ أرْبَعاً لَمْ أرَ أحَداً منْ أصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قالَ وَمَا هِي يَا ابنَ جُرَيْجٍ قالَ رَأيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الاَرْكانِ إلاَّ اليَمَانِيَيْنِ وَرَأيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأيْتُكَ تَصْبُغُ بالصُّفْرَةِ وَرَأيْتُكَ إذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أهَلَّ النَّاسُ إذَا رَأَوُا الهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ قالَ عَبْدُ اللَّهِ أمَّ الاَرْكانُ فَانِيِّ لَمْ أرَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَسُّ إلاَّ اليَمَانِيَيْنِ وَأمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَانِّي رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَعَرٌ ويَتَوَضَّأُ فِيها فانَا أُحبُّ أنْ أَلْبَسَهَا وأمّا الصُّفْرَةُ فانِّي رَأَيْتُ رسولَ الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْبُغُ بِها فَأَنا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِها وأمَّا الاِهْلالُ فِانِّي لَمْ أَرَ رسولَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بهِ راحِلَتُهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيتَوَضَّأ فِيهَا) فَإِن ظَاهره كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يغسل رجلَيْهِ وهما فِي نَعْلَيْنِ، لِأَن قَوْله: فِيهَا، أَي: فِي النِّعَال ظرف لقَوْله: يتَوَضَّأ، وَبِهَذَا يرد على من زعم لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره تَصْرِيح بذلك، وَإِنَّمَا هُوَ من قَوْله: (يتَوَضَّأ فِيهَا) ، لِأَن الأَصْل فِي الْوضُوء الْغسْل. قلت: مَا يُرِيد هَذَا من التَّصْرِيح أقوى من هَذَا، وَقَوله: وَلِأَن: فِيهَا، يدل على الْغسْل، وَلَو أُرِيد الْمسْح لقَالَ: عَلَيْهَا. وَهَذَا التَّعْلِيل يرد عَلَيْهِ قَوْله: لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره تَصْرِيح بذلك، وَهَذَا من الْعَجَائِب حَيْثُ ادّعى عدم التَّصْرِيح، ثمَّ أَقَامَ دَلِيلا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِيمَا ذكره البُخَارِيّ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْوُضُوء فيهمَا نظر. قلت: وَفِي نظره نظر، وَوَجهه مَا قَرَّرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (وَلَا يمسح على النَّعْلَيْنِ) أَشَارَ بذلك إِلَى نفي مَا رُوِيَ عَن عَليّ وَغَيره من الصَّحَابَة أَنهم مسحوا على نعَالهمْ ثمَّ صلوا. وَرُوِيَ فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة فِي الْوضُوء، لَكِن ضعفه عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَغَيره، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ ونعلاه فِي قدمية مسح ظُهُور نَعْلَيْه بيدَيْهِ، وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع هَكَذَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار، وَرُوِيَ فِي حَدِيث رَوَاهُ عَليّ بن يحيى بن خَلاد عَن أَبِيه عَن عَمه رِفَاعَة بن رَافع: (أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ) ، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عمر: أَنه كَانَ فِي وضوء مُتَطَوّع بِهِ لَا فِي وضوء وَاجِب عَلَيْهِ، وَعَن حَدِيث رِفَاعَة: أَن المُرَاد أَنه مسح بِرَأْسِهِ وخفيه على رجلَيْهِ، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ على عدم الْإِجْزَاء بِالْإِجْمَاع على أَن الْخُفَّيْنِ إِذا تخرقا حَتَّى يَبْدُو القدمان، أَن الْمسْح لَا يجزىء عَلَيْهِمَا، قَالَ: فَكَذَلِك النَّعْلَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يغيبان(3/24)
الْقَدَمَيْنِ. قَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِدْلَال صَحِيح، وَلكنه مُنَازع فِي نقل الْإِجْمَاع الْمَذْكُور. وَقلت: غير مُنَازع فِيهِ لِأَن مَذْهَب الْجُمْهُور أَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تضر الْإِجْمَاع، وَلَا يشْتَرط فِيهِ عدد التَّوَاتُر عِنْد الْجُمْهُور. وَرُوِيَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن سعيد، قَالَ: حَدثنَا عبد السَّلَام عَن عبد الْملك، قَالَ: قلت لعطاء: أَبلَغك عَن أحد من أَصْحَاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام انه مسح على الْقَدَمَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، كلهم ذكرُوا مَا خلا عبيد بن جريج، كِلَاهُمَا مصغر والجرج: وعَاء يشبه الخرج وَهُوَ مدنِي ثِقَة مولى ابْن تَمِيم، وَلَيْسَ بَينه وَبَين عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج نسب، وَقد يظنّ أَن هَذَا عَمه، وَلَيْسَ كَذَلِك.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَنهم كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأقران، لِأَن عبيدا وسعيداً تابعيان من طبقَة وَاحِدَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأَبُو دَاوُد فِي الْحَج. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي شمائله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَابْن مَاجَه فِي اللبَاس، فالنسائي عَن كريب عَن ابْن إِدْرِيس عَن مَالك، وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن ابي شيبَة.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا تمس) من: مسست أمس بِكَسْر الْمَاضِي وَفتح الْمُسْتَقْبل مساً ومسيساً، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب فِي مسست أمس بِكَسْر الْمَاضِي فِي الفصيح، وَفِي (الصِّحَاح) و (أَفعَال) ابْن القطاع عَن أبي عُبَيْدَة، والمطرزي فِي شَرحه عَن ابْن الْأَعرَابِي، وَابْن فَارس فِي (مجمله) وَابْن السّكيت فِي (كتاب الْإِصْلَاح) : مسست بِالْكَسْرِ، ومسست بِالْفَتْح، وبالكسر أفْصح. وَحَكَاهُ أَيْضا ابْن سَيّده، وَحكي أَيْضا عَن ابْن جني: أمسه إِيَّاه، عداهُ إِلَى مفعولين. وَعَن سِيبَوَيْهٍ، قَالُوا: مسست الشَّيْء، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: ماسسته أَيْضا مماسة ومساساً ومساساً، بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَفِي (نَوَادِر) يُونُس: ماسسته. وَزعم ابْن درسْتوَيْه فِي كتاب (تَصْحِيح الفصيح) ، أَن: مسست، بِالْفَتْح خطأ مِمَّا تلحن فِيهِ الْعَامَّة. قَوْله: (اليمانيين) ، تَثْنِيَة: يمَان بتَخْفِيف الْيَاء، هَذَا هُوَ الْأَفْصَح الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب، وَلم يذكر ابْن فَارس غَيره، وَذكر المطرزي فِي كِتَابه (غرائب أَسمَاء الشّعْر) ، عَن ثَعْلَب عَن سَلمَة عَن الْفراء عَن الْكسَائي، قَالَ: الْعَرَب تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى الْيمن: رجل يمَان ويمني ويماني، وَفِي (الْكتاب الْجَامِع) : النِّسْبَة إِلَى الْيمن: يمَان على غير قِيَاس، وَالْقِيَاس يمني. وَفِي (الْمُحكم) : يمَان على نَادِر المعدول، وألفه عوض عَن الْيَاء لِأَنَّهُ يدل على مَا تدل عَلَيْهِ الْيَاء، وبنحوه ذكره فِي (الْمغرب) . وَفِي (الصِّحَاح) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يَقُول: يماني، بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ أُميَّة بن خلف:
(يَمَانِيا بَطل يشد كيراً ... وينفخ دَائِما لَهب الشواظ)
وَقوم يَمَانِية ويمانون مثل: ثَمَانِيَة وَثَمَانُونَ، وَفِي كتاب (التيجان) لِابْنِ هِشَام: سميت الْيمن يمناً بيعرب، واسْمه: يمن بن قحطان ابْن عَامر، وَهُوَ: هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك قيل: أَرض يمن، وَهُوَ أول من قَالَ الشّعْر ووزنه، وَفِي (مُعْجم) ابْن عبيد: سمي الْيمن قبل أَن تعرف الْكَعْبَة المشرفة، لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقَالَ ابو عبيد: قَالَ بَعضهم: سميت بذلك لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة. وَقيل: سميت بيمن بن قحطان، وَفِي (الزَّاهِر) لِابْنِ الانباري: وَقد أَيمن ويامن إِذا اتى الْيمن. وَفِي كتاب الرشاطي: سمي الْيمن ليمنه، وَهُوَ يعزى لقطرب. قَوْله: (السبتية) نشبة إِلَى: سبت، بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: وَهُوَ جلد الْبَقر المدبوغ بالقرظ. وَقَالَ ابو عمر: وكل مدبوغ فَهُوَ سبت. وَقَالَ ابو زيد: هِيَ السبت مدبوغة وَغير مدبوغة. وَقيل السبتية الَّتِي تشعر عَلَيْهَا وَقيل الَّتِي عَلَيْهَا الشّعْر وَفِي الحكم خص بَعضهم بِهِ جُلُود الْبَقر مدبوغة أَو غير مدبوغة وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: إِنَّمَا سميت سبتية لِأَن شعرهَا قد سبت عَنْهَا، أَي: خلق وأزيل. يُقَال: سبت رَأسه إِذا حلقه. وَفِي (النَّبَات) لأبي حنيفَة: السبت مُعرب من سبت. وَفِي (الغريبين) : سميت سبتة لِأَنَّهَا انسبتت بالدباغ اي لانت وَفِي كتاب ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: نسبته إِلَى سوق السبت، وَقيل: هِيَ سود لَا شعر فِيهَا. قَوْله: (أهلَّ) من الإهلال. وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. وَفِي (الْمغرب) : كل شَيْء ارْتَفع صَوته فقد اسْتهلّ. وَقَالَ ابو الْخطاب: كل مُتَكَلم رَافع الصَّوْت أَو خافضه فَهُوَ مهل ومستهل. وَقَالَ صَاحب (الْعين) يُقَال: أهل بِعُمْرَة أَو بِحجَّة اي أحرم بهَا، وَجرى على ألسنتهم لأَنهم أَكثر مَا كَانُوا يحجون إِذا أهل الْهلَال، وإهلال الْهلَال واستهلاله رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ عِنْد رُؤْيَته، واستهلال الصَّبِي: تصويته عِنْد وِلَادَته، وَأهل الْهلَال: إِذا طلع، وَأهل واستهل: إِذا أبْصر، وأهللته: إِذا أبصرته.(3/25)
واما الْإِعْرَاب فَقَوله: (رَأَيْتُك) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. وَقَوله: (تصنع) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على انها مفعول ثَان (وأربعا) مفعول: تصنع، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: رَأَيْتُك، الثَّانِي وَالثَّالِث. وَأما: رَأَيْتُك، وَالْخَامِس فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى الإبصار، وَبِمَعْنى الْعلم وَقَوله: (كنت) ، يحْتَمل أَن تكون تَامَّة أَو نَاقِصَة، و: (بِمَكَّة) ظرف لَغْو أَو مُسْتَقر. وَقَوله: (إِذا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ يحْتَمل أَن تَكُونَا شرطيتين وَأَن تَكُونَا ظرفيتين، وَأَن تكون الأولى شَرْطِيَّة وَالثَّانيَِة ظرفية وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (أهل) يجوز أَن يكون حَالا، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلم يبين وَجهه، وَلَيْسَ هُوَ إلاَّ جَزَاء إِذا الأول، وَإِذا الثَّانِي مُفَسّر لَهُ، وَيجوز أَن يكون: أهل، جَزَاء إِذا الثَّانِي على مَذْهَب الْكُوفِيّين لأَنهم جوزوا تَقْدِيمه على الشَّرْط. قَوْله: (حَتَّى يكون يَوْم التَّرويَة) يجوز فِي: كَانَ، أَن تكون تَامَّة وَأَن تكون نَاقِصَة، فَإِن كَانَت تَامَّة يكون يَوْم، مَرْفُوعا لِأَنَّهُ إسم: كَانَ، وَإِن كَانَت نَاقِصَة تكون خبر: كَانَ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ذكر فِي جَوَاب كل وَاحِد من: رَأَيْتُك، الْأَرْبَع فعلا رَآهُ مِنْهُ: فَمَا هُوَ هَهُنَا يَعْنِي فِي: رَأَيْتُك الْخَامِس؟ وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: رَأَيْتُك لم تهل حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة. قلت: أما أَن يكون محذوفاً. وَالْمَذْكُور دَلِيل عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَن تكون الشّرطِيَّة قَائِمَة مقَامه. قلت: هَذَا السُّؤَال لَا وَجه لَهُ،، وَمَا وَجه الْقيَاس الَّذِي ذكره.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع خِصَال. قَوْله: (لم أر أحدا من اصحابك يصنعها) : يحْتَمل أَن يكون مُرَاده لَا يصنعن أحد غَيْرك مجتمعة وَإِن كَانَ يصنع بَعْضهَا، وَفِي بعض النّسخ: من اصحابنا، أَي: من اصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي بعض النّسخ: وَمن أَصْحَابك قَوْله: (من الْأَركان) أَي: من أَرْكَان الْكَعْبَة الْأَرْبَعَة: واليمانيين، الرُّكْن الْيَمَانِيّ والركن الْيَمَانِيّ الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود، وَيُقَال لَهُ الرُّكْن الْعِرَاقِيّ لكَونه إِلَى جِهَة الْعرَاق، وَالَّذِي قبله يماني لِأَنَّهُ من جِهَة الْيمن. وَيُقَال لَهما: اليمانيان تَغْلِيبًا لأحد الاسمين، وهما باقيان على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فان قلت: لمَ لَا قَالُوا: الأسودين؟ وَيَأْتِي فِيهِ التغليب أَيْضا؟ قلت: لَو قيل كَذَلِك رُبمَا كَانَ يشْتَبه على بعض الْعَوام أَن فِي كل من هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الْحجر الْأسود، وَكَانَ يفهم التَّثْنِيَة وَلَا يفهم التغليب لقُصُور فهمه، بِخِلَاف: اليمانيين. قَوْله: (يلبس) ، بِفَتْح الْبَاء لِأَنَّهُ من بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الْمُسْتَقْبل، من بَاب علم يعلم. وَأما الَّذِي بِفَتْح الْبَاء فِي الْمَاضِي فمضارعه بِكَسْر الْبَاء من بَاب: ضرب يضْرب، فمصدر الأول: اللّبْس، بِضَم اللَّام. ومصدر الثَّانِي: اللّبْس، بِالْفَتْح: وَهُوَ الْخَلْط. قَوْله: (تصبغ) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتحهَا لُغَتَانِ مشهورتان. قَالَ الْكرْمَانِي، قلت: فِيهِ ثَلَاث لُغَات ذكرهَا ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) يُقَال: صبغ الثَّوْب والشيب وَنَحْوهمَا يصبغه، ويصبغه فالكسر عَن اللحياني صبغاً وصبغا وصبغة، وَأما: الصبغة، بِالْكَسْرِ فالمرة من الصَّبْغ، وصبغه. بِالتَّشْدِيدِ. أَي: لَونه، عَن ابي حنيفَة. قَوْله: (حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة) وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب التَّسْمِيَة بذلك على قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره: أَحدهمَا: لِأَن النَّاس يروون فِيهِ من المَاء من زَمْزَم لِأَنَّهُ لم يكن بمنى وَلَا بِعَرَفَة مَاء. وَالثَّانِي: أَنه الْيَوْم الَّذِي رأى فِيهِ آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَوَّاء. قلت: وَفِيه قَول أخر، وَهُوَ: أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ارى فِيهِ إِبْرَاهِيم أول الْمَنَاسِك. وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سمي بذلك لِأَن ابراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَتَاهُ الْوَحْي فِي مَنَامه أَن يذبح ابْنه، فتروى فِي نَفسه: من الله تَعَالَى هَذَا أم من الشَّيْطَان؟ فَأصْبح صَائِما، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة عَرَفَة أَتَاهُ الْوَحْي، فَعرف أَنه الْحق من ربه، فسميت عَرَفَة، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (فَضَائِل الاوقات) من رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَنهُ. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وروى أَبُو الطُّفَيْل عَن ابْن عَبَّاس: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ابْتُلِيَ بِذبح ابْنه أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأرَاهُ مَنَاسِك الْحَج، ثمَّ ذهب بِهِ إِلَى عَرَفَة. قَالَ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: سميت عَرَفَة لِأَن جِبْرِيل قَالَ لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام: هَل عرفت؟ قَالَ: نعم، فَمن ثمَّ سميت: عَرَفَة. قَوْله: (حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته) ، يُقَال: بعثت النَّاقة: أثرتها فانبعثت هِيَ، وَبَعثه فانبعث فِي السّير أَي: أسْرع، وَالْمعْنَى هُنَا: استواؤها قَائِمَة. وَفِي الْحَقِيقَة هُوَ كِنَايَة عَن ابْتِدَاء الشُّرُوع فِي أَفعَال الْحَج، وَالرَّاحِلَة: هِيَ الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو انثى. قَوْله: (وَلم تهل أَنْت حَتَّى كَانَ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى تكون) ؟ قَوْله: (قَالَ عبد الله) بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ هُوَ المسؤول من جِهَة عبيد بن جريج. قَوْله: (فَإِنِّي أحب أَن أصنع) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والباقين: (فَأَنا أحب) ، كَالَّتِي قبلهَا.(3/26)
بَيَان استنباط الاحكام الأول: أَن فِيهِ مس الرُّكْنَيْنِ اليمانيين: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْفُقَهَاء الْيَوْم على أَن الرُّكْنَيْنِ الشاميين وهما مُقَابلا اليمانيين لَا يستلمان، وَإِنَّمَا كَانَ الْخلاف فِيهِ فِي الْعَصْر الأول بَين بعض الصَّحَابَة وَبَعض التَّابِعين، ثمَّ ذهب الْخلاف. وَتَخْصِيص الرُّكْنَيْنِ اليمانين بالاستلام لِأَنَّهُمَا كَانَا على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف الرُّكْنَيْنِ الآخرين، لِأَنَّهُمَا ليسَا على قَوَاعِد ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما ردهما عبد الله بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استلمها. أَيْضا، لَو بني الْآن كَذَلِك استلمت كلهَا اقْتِدَاء بِهِ، صرح بِهِ القَاضِي عِيَاض. وركن الْحجر الْأسود خص بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خص بالاستلام فَقَط، والآخران لَا يقبلان وَلَا يستلمان. وَكَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى، عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ يمسحهما على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رُوِيَ عَن جَابر وَأنس وَابْن الزبير وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يستلمون الْأَركان كلهَا. وَعَن عُرْوَة مثل ذَلِك. وَاخْتلف عَن مُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس فِي ذَلِك. وَقَالَ أَحدهمَا: لَيْسَ بِشَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: إلاَّ الرُّكْن الْأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين. وَلما رأى عبيد بن جريج جمَاعَة يَفْعَلُونَ على خلاف ابْن عمر سَأَلَهُ عَن ذَلِك.
الثَّانِي: فِي حكم النِّعَال السبتيه، قَالَ ابو عمر: لَا أعلم خلافًا فِي جَوَاز لبسهَا فِي غير الْمَقَابِر، وَحكي عَن ابْن عمر أَنه روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لبسهَا، وَإِنَّمَا كره قوم لبسهَا فِي الْمَقَابِر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الْمَاشِي بَين الْمَقَابِر: (ألق سبيتك) . وَقَالَ قوم: يجوز ذَلِك وَلَو كَانَ فِي الْمَقَابِر، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اذا وَقع الْمَيِّت فِي قَبره انه يسمع قرع نعَالهمْ) وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي (نَوَادِر الاصول) إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ لذَلِك الرجل: (إلق سبتيتك) لِأَن الْمَيِّت كَانَ يُسأل، فَلَمَّا صر نعل ذَلِك الرجل شغله عَن جَوَاب: الْملكَيْنِ، فكاد يهْلك لَوْلَا أَن ثبته الله تَعَالَى.
الثَّالِث: الصَّبْغ بالصفرة، وَلَفظ الحَدِيث يَشْمَل صبغ الثِّيَاب وصبغ الشّعْر، وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد مِنْهُمَا، فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الْأَظْهر أَن المُرَاد ضبغ الثِّيَاب لِأَنَّهُ أخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صبغ، وَلم يقل: إِنَّه صبغ شعره. قلت: جَاءَت آثَار عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بيَّن فِيهَا تصفير ابْن عمر لحيته، وَاحْتج بِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يصفر لحيته بالورس والزعفران، أخرجه أَبُو دَاوُد، وَذكر أَيْضا فِي حَدِيث آخر احتجاجه بِهِ بِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يصْبغ بهما ثِيَابه حَتَّى عمَامَته، وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يخضب بالصفرة مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَآخَرُونَ، ويروى ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: فِيهِ حكم الإهلال، وَاخْتلف فِيهِ، فَعِنْدَ الْبَعْض: الْأَفْضَل أَن يهل لاستقبال ذِي الْحجَّة، وَعند الشَّافِعِي: الْأَفْضَل أَن يحرم إِذا انبعثت رَاحِلَته، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَقَالَ ابو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يحرم عقيب الصَّلَاة وَهُوَ جَالس قبل ركُوب دَابَّته، وَقبل قِيَامه، وَفِيه حَدِيث من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ بعض الشُّرَّاح: وَهُوَ ضَعِيف. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي ابْن ابراهيم، قَالَ: حَدثنَا ابي عَن ابْن اسحاق، قَالَ: حَدثنَا خصيف ابْن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس: يَا ابْن الْعَبَّاس؛ عجبت لاخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أوجب. فَقَالَ: إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك، إِنَّهَا إِنَّمَا كَانَت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة وَاحِدَة فَمن مَعنا هُنَاكَ اخْتلفُوا. خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجا، فَلَمَّا صلى فِي مَسْجده بِذِي الحليفة ركعتيه أوجبه فِي مَجْلِسه فأهلَّ بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه، فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظته عَنهُ، ثمَّ ركب، فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهل، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام وَذَلِكَ أَن النَّاس إِنَّمَا كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا، فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا علا شرف الْبَيْدَاء أهل، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء، وأيم الله لقد أوجب فِي مُصَلَّاهُ، وَأهل حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، وَأهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء. قَالَ سعيد: فَمن أَخذ بقول ابْن عَبَّاس أهل فِي مصلاة إِذا فرغ من ركعتيه وَأخرج الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) نَحوه، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم، مُفَسّر فِي الْبَاب، وَلم يخرجَاهُ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ ثمَّ قَالَ: وَبَين ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ جَاءَ الِاخْتِلَاف، وَأَن إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ابْتَدَأَ بِالْحَجِّ وَدخل بِهِ فِيهِ كَانَ فِي مصلاة، فَبِهَذَا نَأْخُذ. فَيَنْبَغِي للرجل إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يحرم فِي دبرهما، كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا بعد أَن ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء، فروى أَولا عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِذِي الْخَلِيفَة(3/27)
ثمَّ أَتَى براحلته فركبها، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ الْبَيْدَاء أهلَّ، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا فاستحبوا الْإِحْرَام من اليبداء لإحرام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا. وَأَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم الْأَئِمَّة الاربعة وَأكْثر أَصْحَابهم، فَإِنَّهُم قَالُوا: سنة الْإِحْرَام أَن يكون من ذِي الحليفة. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) : اسْتحبَّ مَالك وَأكْثر الْفُقَهَاء أَن يهل الرَّاكِب إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَاسْتحبَّ أَبُو حنيفَة أَن يكون إهلاله عقب الصَّلَاة إِذا سلم مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: يهل إِذا أخذت نَاقَته فِي الْمَشْي، وَحين كَانَ يركب رَاحِلَته قَائِمَة كَمَا يَفْعَله كثير من الْحجَّاج الْيَوْم، وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي رِوَايَة: (اهل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا اسْتَوَت النَّاقة) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته) ، وَفِي أُخْرَى: (حَتَّى تنبعث بِهِ نَاقَته) ، وكل ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: أجَاب هَؤُلَاءِ عَمَّا قَالَه أهل الْمقَالة الاولى من اسْتِحْبَاب الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء وَحَاصِله: لَا نسلم أَن إِحْرَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْبَيْدَاء يدل على اسْتِحْبَاب ذَلِك، وَأَنه فَضِيلَة اخْتَارَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك، لَا الْقَصْد أَن للاحرام مِنْهَا فَضِيلَة على الْإِحْرَام من غَيرهَا، وَقد فعل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي حجَّته فِي مَوَاضِع لَا لفضل قَصده، وَمن ذَلِك نُزُوله بالمحصب. وروى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَيْسَ المحصب بِشَيْء، إِنَّمَا هُوَ منزل نزله رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا حصب رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم يكن ذَلِك لِأَنَّهُ سنة، فَكَذَلِك يجوز أَن يكون إِحْرَامه من الْبَيْدَاء كَذَلِك. قَالَ: وَأنكر قوم أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم من الْبَيْدَاء، وَقَالُوا: مَا أحرم إلاَّ من الْمَسْجِد، وَأَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: الزُّهْرِيّ وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الله بن وهب، وَرووا فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه قَالَ: (بيداؤكم هَذِه الَّتِي تكذبون على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه أهل مِنْهَا، مَا أهل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد) ، يَعْنِي: مَسْجِد ذِي الحليفة، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن مُسلم عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا. فان قلت: كَيفَ يجوز لِابْنِ عمر أَن يُطلق الْكَذِب على الصَّحَابَة؟ قلت: الْكَذِب يَجِيء بِمَعْنى الْخَطَأ، لِأَنَّهُ يُشبههُ فِي كَونه ضد الصَّوَاب، كَمَا أَن ضد الْكَذِب الصدْق، وافترقا من حَيْثُ النِّيَّة وَالْقَصْد، لِأَن الْكَاذِب يعلم أَن الَّذِي يَقُوله كذب، والمخطىء لَا يعلم وَلَا يظنّ بِهِ أَنه كَانَ ينْسب الصَّحَابَة إِلَى الْكَذِب. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الِاخْتِلَاف بيَّن ابْن عَبَّاس الْوَجْه الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الِاخْتِلَاف كَمَا ذكرنَا آنِفا.
31 - (بابُ التَّيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغُسل)
أَي: هَذَا بَاب فِي باين التَّيَمُّن فِي الْوضُوء وَالْغسْل، والتيمن هُوَ الْأَخْذ بِالْيَمِينِ.
والمناسبة بَين الْأَبْوَاب ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة فِي أَحْكَام الْوضُوء، والتيمن أَيْضا من أَحْكَامه، وَلَا سِيمَا بَينه وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَنَّهُ فِي غسل الرجلَيْن وَفِيه التَّيَمُّن أَيْضا سنة أَو مُسْتَحبّ.
167 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثنا خالِدٌ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سيرِين عنْ أُمِّ عطِيَّةَ قالتْ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُنَّ فِي غسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بميامنها) ، لِأَن الامر بالتيمن فِي التغسيل والتوضئة كليهمَا مُسْتَفَاد من عُمُوم اللَّفْظ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد ذكر. الثَّانِي: اسماعيل: هُوَ ابْن علية، وَقد مر. الثَّالِث: خَالِد الْحذاء، وَقد مضى. الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين الْأَنْصَارِيَّة، أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة بنت كَعْب، وَيُقَال: بنت الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة، وَاسْمهَا نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، وَحكي فتح النُّون مَعَ كسر السِّين: يَعْنِي يحيى بن معِين، وَلها صُحْبَة وَرِوَايَة، تعد فِي أهل الْبَصْرَة، وَكَانَت تغسل الْمَوْتَى وتمرض المرضى وتداوي الْجَرْحى وتغزو مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غزت مَعَه سبع غزوات، وَشهِدت خَيْبَر(3/28)
وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقيل عِنْدهَا، وَكَانَت تنتف إبطه بورسة. لَهَا أَرْبَعُونَ حَدِيثا اتفقَا على سَبْعَة أَو سِتَّة، وللبخاري حَدِيث، وَلمُسلم آخر، روى لَهَا الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعَن حَامِد بن عمر عَن حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب بِهِ، وَحَدِيث الثَّقَفِيّ أتم. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (لَهُنَّ) أَي: لأم عَطِيَّة وَلمن مَعهَا. قَوْله: (فِي غسل ابْنَته) أَي: صفة غسل ابْنَته. قيل: اسْمهَا أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان بن عَفَّان، غسلتها أَسمَاء بنت عُمَيْس وَصفِيَّة بنت عبد الْمطلب، وَشهِدت أم عَطِيَّة غسلهَا، وَذكرت قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي كَيْفيَّة غسلهَا، وَفِي (صَحِيح مُسلم) أَنَّهَا زَيْنَب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَاتَتْ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَلما نقل القَاضِي عِيَاض عَن بعض أهل السّير أَنَّهَا أم كُلْثُوم قَالَ: الصَّوَاب زَيْنَب، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَته، وَقد يجمع بَينهمَا بِأَنَّهَا: غسلت زَيْنَب وَحَضَرت غسل أم كُلْثُوم، وَذكر الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه: أَن أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدر غَائِب، وَغلط فِي ذَلِك، فَتلك رقية، وَلما دفن أم كُلْثُوم قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (دفن الْبَنَات من المكرمات) ، وَالْعجب من الْكرْمَانِي أَنه يَقُول: قَالَ النَّوَوِيّ فِي (تَهْذِيب الْأَسْمَاء) : إِن المغسولة اسْمهَا زَيْنَب، وَهَذَا مُسلم قد صرح بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَا كَانَ ينظر فِيهِ حَتَّى نسب ذَاك إِلَى النَّوَوِيّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: اسْتِحْبَاب الْوضُوء فِي أَو غسل الْمَيِّت، عملا بقوله: (ومواضع الْوضُوء مِنْهَا) ، وَنقل النَّوَوِيّ عَن ابي حنيفَة عدم إستحبابه. قلت: هَذَا غير صَحِيح، فَفِي كتبنَا مثل (الْقَدُورِيّ) و (الْهِدَايَة) يذكر ذَلِك، قَالَ فِي (الْهِدَايَة) : لِأَن ذَلِك من سنة الْغسْل، غير أَنه لَا يمضمض وَلَا يستنشق، لِأَن إِخْرَاج المَاء من فَمه مُتَعَذر، وَهل يتَوَضَّأ فِي الغسلة الأولى أَو الثَّانِيَة أَو فيهمَا؟ فِيهِ خلاف للمالكية حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ.
الثَّانِي: اسْتِحْبَاب تَقْدِيم الميامن فِي غسل الْمَيِّت، وَيلْحق بِهِ الطهارات، وَبِه تشعر تَرْجَمَة البُخَارِيّ، وَكَذَا أَنْوَاع الْفَضَائِل، وَالْأَحَادِيث فِيهِ كَثِيرَة، وبالاستحباب قَالَ أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا بُد من البدء بالميامن. وَقَالَ ابْن سِيرِين: يبْدَأ بمواضع الْوضُوء ثمَّ بالميامن. وَقَالَ أَبُو قلَابَة: يبْدَأ بِالرَّأْسِ ثمَّ باللحية ثمَّ بالميامن.
الثَّالِث: فِيهِ فضل الْيَمين على الشمَال، أَلا ترى قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حاكيا عَن ربه: (وكلتا يَدَيْهِ يَمِين) ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {فاما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ} (سُورَة الحاقة: الْآيَة 19، وَسورَة الانشقاق؛ الْآيَة 7) . وهم أهل الْجنَّة.
168 - حدّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي أشْعَثُ بنُ سُليْمٍ قالَ سَمِعْتُ أبي عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ قَالتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ..
فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة، لِأَن فِيهِ إعجابه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي شَأْنه كُله، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل اسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي كل شَيْء: فِي الْوضُوء وَالْغسْل والتغسيل وَغير ذَلِك.
أما الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين فظاهرة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: حَفْص ابْن عمر الحوضي الْبَصْرِيّ الثبت الْحجَّة، قَالَ احْمَد: لَا يُؤْخَذ عَلَيْهِ حرف، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ حَفْص بن عمر غَيره، وَفِي السّنَن مفرقاً جماعات. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: أَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: ابْن سليم، بِالتَّصْغِيرِ، من ثِقَات شُيُوخ الْكُوفِيّين وَهُوَ الرَّابِع: من الروَاة، وَهُوَ سليم بن الْأسود الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم، الْكُوفِي أَبُو الشعْثَاء، وشهرته بكنيته أَكثر من اسْمه. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْكُوفِي، أَبُو عَائِشَة، أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأدْركَ الصَّدْر الأول من الصَّحَابَة، وَكَانَت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ قد تبنت مسروقاً فَسمى ابْنَته عَائِشَة، فكني بِأبي عَائِشَة، وَقد مر فِي بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.(3/29)
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كبيرين قرينين من اتِّبَاع التَّابِعين وهما: أَشْعَث وَشعْبَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كبيرين قرينين من كبار التَّابِعين وهما: سليم ومسروق.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب، وَفِي اللبَاس عَن أبي الْوَلِيد وحجاج بن الْمنْهَال، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك، خمستهم عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن أَبِيه بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه شُعْبَة بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى عَن أبي الْأَحْوَص عَن أَشْعَث بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس عَن حَفْص بن عمر وَسَلَمَة بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي آخر الصَّلَاة عَن هناد بن السّري عَن أبي الْأَحْوَص بِهِ: وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَفِي الشَّمَائِل عَن أبي مُوسَى عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَفِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن هناد بِهِ، وَعَن سُفْيَان بن وَكِيع عَن عمر بن عبيد عَن أَشْعَث بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (يُعجبهُ) من: الْإِعْجَاب، يُقَال: أعجبني هَذَا الشَّيْء لحسنه. والعجيب: الْأَمر الَّذِي يُتعجب مِنْهُ وَكَذَلِكَ العجاب بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف وبالتشديد أَكثر مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الأعجوبة، وَعَجِبت من كَذَا وتعجبت مِنْهُ واستعجبت بِمَعْنى، والمصدر: الْعجب، بِفتْحَتَيْنِ. وَأما الْعجب، بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم. فَهُوَ اسْم من أعجب فلَان بِنَفسِهِ فَهُوَ معجب بِفَتْح الْجِيم بِرَأْيهِ وبنفسه، وَأما الْعجب، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْجِيم: فَهُوَ أصل الذَّنب. قَوْله: (التَّيَمُّن) هُوَ الْأَخْذ بِالْيَمِينِ فِي الْأَشْيَاء. قَوْله: (تنعله) أَي فِي لبسه النَّعْل وَهِي الَّتِي تلبس فِي الْمَشْي، تسمى الْآن تأسومه، قَالَه ابْن الاثير، وَهِي مُؤَنّثَة، يُقَال: نعلت وأنتعلت إِذا لبست النَّعْل، وانعلب الْخَيل، بِالْهَمْزَةِ وَمِنْه الحَدِيث: (إِن غَسَّان تنعل خيلها) ، وَفِي رِوَايَات البُخَارِيّ كلهَا: (فِي تنعله) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح النُّون وَتَشْديد الْعين، وَهَكَذَا ذكره الْحميدِي والحافظ عبد الْحق فِي كِتَابَيْهِمَا (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فِي نَعله) على إِفْرَاد النَّعْل، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (نَعْلَيْه) بالتثنية، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وهما صَحِيحَانِ وَلم ير فِي شَيْء من نسخ بِلَادنَا غير هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. قلت: الرِّوَايَات كلهَا صَحِيحَة. قَوْله: (وَترَجله) أَي: فِي تمشيطه الشّعْر وَهُوَ تسريحه، وَهُوَ أَعم من أَن يكون فِي الرَّأْس وَفِي اللِّحْيَة، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ تسريحه ودهنه. قلت: اللَّفْظ لَا يدل على الدّهن، فَهَذَا التَّفْسِير من عِنْده وَلم يفسره أهل اللُّغَة كَذَلِك، وَفِي (الْمغرب) للمطرزي: رجل شعره أَي: أرْسلهُ بالمرجل، وَهُوَ الْمشْط. وترجل فعل ذَلِك بِنَفسِهِ، وَيُقَال: شعر رجل وَرجل، وَهُوَ: السبوطة والجعودة، وَقد رجل رجلا وَرجله هُوَ، وَرجل رجل الشّعْر وَرجل، وَجَمعهَا أرجال وَرِجَال، ذكره ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) ، فَانْظُر هَل ترى شَيْئا فِيهِ هَذِه الْموَاد يدل على الدّهن؟ والمرجل، بِكَسْر الْمِيم: الْمشْط، وَكَذَلِكَ المسرح، بِالْكَسْرِ، ذكره فِي (الغريبين) . قَوْله: (وَطهُوره) قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بصم الطَّاء وَلَا يجوز فتحهَا هُنَا. قلت: لَا نسلم هَذَا على الْإِطْلَاق، لِأَن الْخَلِيل والأصمعي وابا حَاتِم السجسْتانِي والأزهري وَآخَرين ذَهَبُوا إِلَى أَن الطّهُور، بِالْفَتْح فِي الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمصدر وَالْمَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : وَحكي الضَّم فيهمَا، وَالْفرق الْمَذْكُور نَقله ابْن الْأَنْبَارِي عَن جمَاعَة من أهل اللُّغَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَقَوْل الْكرْمَانِي: وَلَا يجوز فتحهَا، غير صَحِيح على الْإِطْلَاق. قَوْله: (فِي شَأْنه) الشَّأْن هُوَ الْحَال والخطب، وَأَصله الشَّأْن، بِالْهَمْزَةِ الساكنة فِي وَسطه، وَلكنهَا سهلت بقلبها ألفا لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله، والشأن أَيْضا وَاحِد الشؤون وَهِي، مواصل قبائل الرَّأْس وملتقاها، وَمِنْهَا تَجِيء الدُّمُوع.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (يُعجبهُ) فعل ومفعول، و: التَّيَمُّن، فَاعله، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، قَوْله: (فِي تنعله) فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي يُعجبهُ، وَالتَّقْدِير كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن حَال كَونه لابساً النَّعْل. وَيجوز أَن يكون من التَّيَمُّن أَي: يُعجبهُ التَّيَمُّن حَال كَون التَّيَمُّن فِي تنعله. قَوْله: (وَترَجله) عطف على: تنعله، و: ظُهُوره، عطف على: ترجله. قَوْله: (فِي شَأْنه) بدل من الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة قبله بدل الاشتمال، وَالشّرط فِي بدل الاشتمال أَن يكون الْمُبدل مِنْهُ مُشْتَمِلًا على الثَّانِي، أَي: متقاضياً لَهُ بِوَجْه مَا، وَهَهُنَا كَذَلِك على مَا لَا يخفي، وَإِذا لم يكن الْمُبدل مِنْهُ مُشْتَمِلًا على الثَّانِي يكون بدل الْغَلَط، وَإِنَّمَا قيل لهَذَا بدل الاشتمال من حَيْثُ اشْتِمَال الْمَتْبُوع، على التَّابِع، لَا كاشتمال الظّرْف(3/30)
على المظروف، بل من حَيْثُ كَونه دَالا عَلَيْهِ إِجْمَالا ومتقاضياً لَهُ بِوَجْه مَا، وَالْعجب من الْكرْمَانِي حَيْثُ نفى كَونه بدل الاشتمال لكَون الشَّرْط أَن يكون بَينهمَا مُلَابسَة بِغَيْر الْجُزْئِيَّة والكلية. وَهَهُنَا الشَّرْط مُنْتَفٍ. ثمَّ يَقُول: مَا قَوْلك فِيهِ؟ ثمَّ يُجيب بِأَنَّهُ بدل الاشتمال، وَهَهُنَا الملابسة مَوْجُودَة، وَمَعَ هَذَا قَوْله: لكَون الشَّرْط. إِلَى آخِره، لَيْسَ على الْإِطْلَاق لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ بعض الْغَلَط، نَحْو: جَاءَنِي زيد غُلَامه أَو حِمَاره، وَلَقِيت زيدا أَخَاهُ. وَلَا شكّ فِي كَونهَا بدل الْغَلَط. وَمن العجيب أَيْضا أَنه قَالَ: وَلَا يجوز أَن يكون بدل الْغَلَط لِأَنَّهُ لَا يَقع فِي فصيح الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: أَو هُوَ بدل الْغَلَط وَقد يَقع فِي الْكَلَام الفصيح قَلِيلا، وَلَا مُنَافَاة بَين الْغَلَط والبلاغة. قلت: لَا يَقع بدل الْغَلَط الصّرْف وَلَا بدل النسْيَان فِي كَلَام الفصحاء، وَإِنَّمَا يَقع بدل البداء فِي كَلَام الشُّعَرَاء للْمُبَالَغَة والتفنن، وَبدل البداء أَن يذكر الْمُبدل مِنْهُ عَن قصد وتعمد ثمَّ يتدارك بِالثَّانِي، وَيدل الصّرْف وَهُوَ يدل على غلط صَرِيح فِيمَا إِذا أردْت أَن تَقول: جَاءَنِي حمَار فيسبقك لسَانك إِلَى رجل ثمَّ تداركت الْغَلَط فَقلت: حمَار، وَبدل النسْيَان أَن تتعمد ذكر مَا هُوَ غلط، وَلَا يسبقك لسَانك إِلَى ذكره، لَكِن تنسى الْمَقْصُود ثمَّ بعد ذَلِك تتداركه بِذكر الْمَقْصُود، فَمن هَذَا عرفت أَن أَنْوَاع بدل الْغَلَط ثَلَاثَة. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة ابي الْوَقْت: (وَفِي شَأْنه) ، بِإِثْبَات الْوَاو، قلت: على هَذَا يكون عطف الْعَام على الْخَاص، وَهُوَ ظَاهر. فان قلت: هَل يجوز أَن تقدر: الْوَاو، وَفِي الرِّوَايَة الخالية عَن: الْوَاو؟ قلت: جوزه بعض النُّحَاة إِذا قَامَت قرينَة عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم نَاقِلا عَن الْكرْمَانِي من غير تَصْرِيح بِهِ، قَوْله: (فِي شَأْنه كُله) بِدُونِ: الْوَاو، مُتَعَلق: بيعجبه، لَا: بالتيمن، أَي يُعجبهُ فِي شَأْنه كُله التَّيَمُّن فِي تنعله ... إِلَى آخِره أَي: لَا يتْرك ذَلِك سفرا وَلَا حضرا، وَلَا فِي فراغة وَلَا شغله وَنَحْو ذَلِك. قلت: كَلَام النَّاقِل وَالْمَنْقُول مِنْهُ سَاقِط، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون إعجابه التَّيَمُّن فِي هَذِه الثَّلَاثَة مَخْصُوصَة فِي حالاته كلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي كل الْأَشْيَاء فِي جَمِيع الْحَالَات. أَلا ترى أَنه أكد الشَّأْن بمؤكد؟ والشأن بِمَعْنى الْحَال، وَالْمعْنَى فِي جَمِيع حالاته؟ ثمَّ قَالَ هَذَا النَّاقِل: وَقَالَ الطَّيِّبِيّ، فِي قَوْله: (فِي شَأْنه) بدل من قَوْله: (فِي تنعله) ، بِإِعَادَة الْعَامِل، وَكَأَنَّهُ ذكر التنعل لتَعَلُّقه بِالرجلِ، والترجل لتَعَلُّقه بِالرَّأْسِ، وَالطهُور لكَونه مِفْتَاح أَبْوَاب الْعِبَادَة، فَكَأَنَّهُ نبه على جَمِيع الْأَعْضَاء، فَيكون كبدل الْكل من الْكل. قلت: هَذَا لم يتَأَمَّل كَلَام الطَّيِّبِيّ، لِأَن كَلَامه لَيْسَ على رِوَايَة البُخَارِيّ وَإِنَّمَا هُوَ على رِوَايَة مُسلم، وَهِي: (كَانَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يحب التَّيَمُّن فِي شَأْنه كُله: فِي تنعله وَترَجله) . لِأَن صَاحب الْمشكاة نقل عبارَة مُسلم، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي شَرحه: بِهَذِهِ الْعبارَة أَقُول. قَوْله: (فِي طهوره وَترَجله وتنعله) بدل من قَوْله: (فِي شَأْنه) ، بِإِعَادَة الْعَامِل وَلَعَلَّه إِنَّمَا بَدَأَ فِيهَا بِذكر الطّهُور لِأَنَّهُ فتح لأبواب الطَّاعَات كلهَا، وثنى بِذكر التَّرَجُّل وَهُوَ يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ، وَثلث بالتنعل وَهُوَ مُخْتَصّ بِالرجلِ ليشْمل جَمِيع الْأَعْضَاء، فَيكون كبدل الْكل من الْكل، وَالْعجب من هَذَا النَّاقِل أَنه لما نقل كَلَام الطَّيِّبِيّ على رِوَايَة مُسلم، ثمَّ قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم بِتَقْدِيم قَوْله: (فِي شَأْنه كُله) على قَوْله فِي: تنعله. إِلَى آخِره، قَالَ: فَيكون بدل الْبَعْض من الْكل، فَكَأَنَّهُ ظن أَن كَلَام الطَّيِّبِيّ من الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ذكر الشان مُتَأَخِّرًا كَمَا هِيَ رِوَايَة البُخَارِيّ هُنَا، ثمَّ قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم بِتَقْدِيم قَوْله: (فِي شَأْنه) ، وَهَذَا كَمَا ترى فِيهِ خبط ظَاهر.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (التَّيَمُّن) لفظ مُشْتَرك ترك بَين الِابْتِدَاء بِالْيَمِينِ، وَبَين تعَاطِي الشَّيْء بِالْيَمِينِ، وَبَين التَّبَرُّك وَبَين قصد الْيمن، وَلَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَن المُرَاد الْمَعْنى الأول. قَوْله: (فِي تنعله) إِلَى آخِره زَاد أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة: (وسواكه) ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (كَانَ يحب التَّيَامُن مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنه) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا عَن شُعْبَة: (مَا اسْتَطَاعَ) ، فنبه على الْمُحَافظَة على ذَلِك مَا لم يمْنَع مَانع، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء حَتَّى فِي التَّرَجُّل والانتعال) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه: (كَانَ يحب التَّيَامُن فِي الْوضُوء والانتعال) . قَوْله: (كُله) تَأْكِيد لقَوْله: (فِي شَأْنه) ، فَإِن قلت: مَا وَجه التَّأْكِيد وَقد اسْتحبَّ التياسر فِي بعض الْأَفْعَال كدخول الْخَلَاء وَنَحْوه؟ قلت: هَذَا عَام مَخْصُوص بالأدلة الخارجية. قَالَ الْكرْمَانِي: وَمَا من عَام إِلَّا وَقد خص: إلاَّ {وَالله بِكُل شَيْء عليم} (الْبَقَرَة: 282، النِّسَاء: 2176، النُّور: 35 و 64 الحجرات: 16، التغابن: 11) . قلت: إِن أَرَادَ بِهِ أَنه يقبل التَّخْصِيص أَو يحْتَملهُ فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ بِالْإِطْلَاقِ فَفِيهِ نظر. وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدّين: هَذِه قَاعِدَة مستمرة فِي الشَّرْع، وَهِي أَن مَا كَانَ من بَاب التكريم والتشريف: كلبس الثَّوْب والسراويل والخف وَدخُول الْمَسْجِد والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشَّارِب وترجيل الشّعْر ونتف(3/31)