ذَلِك مِنْهُ فَلَيْسَ دَاخِلا فِيهِ. الثَّالِث: مَا قَالَه الْخطابِيّ: هَذَا القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحذير من اعْتَادَ هَذِه الْخِصَال خوفًا أَن يُفْضِي بِهِ إِلَى النِّفَاق، دون من وَقعت نادرة مِنْهُ من غير اخْتِيَار أَو اعتياد، وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث: (التَّاجِر فَاجر، وَأكْثر منافقي أمتِي قراؤها) . وَمَعْنَاهُ التحذير من الْكَذِب، إِذْ هُوَ فِي معنى الْفُجُور، فَلَا يُوجب أَن يكون التُّجَّار كلهم فجارا، أَو الْقُرَّاء قد يكون من بَعضهم قلَّة إخلاص للْعَمَل وَبَعض الرِّيَاء، وَهُوَ لَا يُوجب أَن يَكُونُوا كلهم منافقين. وَقَالَ أَيْضا: والنفاق ضَرْبَان. أَحدهمَا: أَن يظْهر صَاحبه الدّين وَهُوَ مبطن للكفر، وَعَلِيهِ كَانُوا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر: ترك الْمُحَافظَة على أُمُور الدّين سرا ومراعاتها علنا، وَهَذَا أَيْضا يُسمى نفَاقًا، كَمَا جَاءَ: (سباب الْمُؤمن فسوق وقتاله كفر) . وَإِنَّمَا هُوَ كفر دون كفر، وَفسق دون فسق، كَذَلِك هُوَ نفاق دون نفاق. الرَّابِع: مَا قَالَه بَعضهم: ورد الحَدِيث فِي رجل بِعَيْنِه مُنَافِق، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يواجههم بِصَرِيح القَوْل، فَيَقُول: فلَان مُنَافِق، بل يُشِير إِشَارَة كَقَوْلِه، عَلَيْهِ السَّلَام: (مَا بَال أَقوام يَفْعَلُونَ كَذَا) ؟ فههنا أَشَارَ بِالْآيَةِ إِلَيْهِ حَتَّى يعرف ذَلِك الشَّخْص بهَا. الْخَامِس: مَا قَالَه بَعضهم: المُرَاد بِهِ المُنَافِقُونَ الَّذين كَانُوا فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدثوا بِأَنَّهُم آمنُوا فكذبوا، واؤتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوه فِي نصْرَة الدّين فاخلفوا. قَالَ القَاضِي: وَإِلَيْهِ مَال كثير من أَئِمَّتنَا، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح فِي تَفْسِير الحَدِيث، وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير، رَضِي الله عَنْهُم. وَرووا فِي ذَلِك حَدِيثا: (يرْوى أَن رجلا قَالَ لعطاء: سَمِعت الْحسن يَقُول: من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال لم أتحرج أَن أَقُول إِنَّه مُنَافِق: من إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، وَإِذا اؤتمن خَان) . فَقَالَ عَطاء: إِذا رجعت إِلَى الْحسن فَقل لَهُ: إِن عَطاء يقرؤك السَّلَام، وَيَقُول لَك: أذكر إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام. وَاعْلَم أَنه لن يخلق أهل اللإسلام أَن يكون فيهم الْخِيَانَة وَالْخلف. وَنحن نرجو أَن يعيذهم الله من النِّفَاق، وَمَا اسْتَقر اسْم النِّفَاق قطّ إلاَّ فِي قلب جَاحد، وَقد قَالَ الله فِي حق الْمُنَافِقين {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} (المُنَافِقُونَ: 3) فَذكر زَوَال الْإِسْلَام عَن قُلُوبهم، وَنحن نرجوا أَن لَا يَزُول عَن قُلُوب الْمُؤمنِينَ، فَأخْبر الْحسن، فَقَالَ: جَزَاك الله خيرا، ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: إِذا سَمِعْتُمْ مني حَدِيثا فحدثتم بِهِ الْعلمَاء فَمَا كَانَ غير صَوَاب فَردُّوا على جَوَابه. وَرُوِيَ أَن سعيد بن جُبَير أهمه هَذَا الحَدِيث، فَسَأَلَهُ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم، فَقَالَا: أهمنا من ذَلِك يَا ابْن أخي مثل الَّذِي أهمك، فسألنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَضَحِك النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ: مالكم ولهن، إِنَّمَا خصصت بِهِ الْمُنَافِقين. أما قولي: إِذا حدث كذب، فَذَلِك فِيمَا أنزل الله تَعَالَى عَليّ: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} (المُنَافِقُونَ: 1) الْآيَة، أفأنتم كَذَلِك؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَلَا عَلَيْكُم، أَنْتُم من ذَلِك برَاء. وَأما قولي: إِذا وعد أخلف، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله} (التَّوْبَة: 75) الْآيَات الثَّلَاث، أفأنتم كَذَلِك؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَا عَلَيْكُم، أَنْتُم من ذَلِك برَاء. وَأما قولي: إِذا اؤتمن خَان، فَذَلِك فِيمَا أنزل الله تَعَالَى عَليّ: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} (الْأَحْزَاب: 72) الْآيَة فَكل إِنْسَان مؤتمن على دينه يغْتَسل من الْجَنَابَة وَيُصلي ويصوم فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، وَالْمُنَافِق لَا يفعل ذَلِك إِلَّا فِي الْعَلَانِيَة، أفأنتم كَذَلِك؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَا عَلَيْكُم، أَنْتُم من ذَلِك برَاء. السَّادِس: مَا قَالَه حُذَيْفَة: ذهب النِّفَاق، وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاق على عهد رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلكنه الْكفْر بعد الْإِيمَان، فَإِن الْإِسْلَام شاع وتوالد النَّاس عَلَيْهِ، فَمن نَافق بِأَن أظهر الْإِسْلَام وأبطن خِلَافه فَهُوَ مُرْتَد. السَّابِع: مَا قَالَه القَاضِي: إِن المُرَاد التَّشْبِيه بأحوال الْمُنَافِقين فِي هَذِه الْخِصَال، فِي إِظْهَار خلاف مَا يبطنون، لَا فِي نفاق الْإِسْلَام الْعَام، وَيكون نفَاقه على من حَدثهمْ وَوَعدهمْ وائتمنه وخاصمه وعاهده من النَّاس. الثَّامِن: مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ: إِن المُرَاد بالنفاق نفاق الْعَمَل، وَاسْتدلَّ بقول عمر لِحُذَيْفَة، رَضِي الله عَنْهُمَا. هَل تعلم فيَّ شَيْئا من النِّفَاق؟ فَإِنَّهُ لم يرد بذلك نفاق الْكفْر، وَإِنَّمَا أَرَادَ نفاق الْعَمَل. قلت: الْألف وَاللَّام فِي: النِّفَاق، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون للْجِنْس، أَو للْعهد فَإِن كَانَت للْجِنْس يكون على سَبِيل التَّشْبِيه والتمثيل لَا على الْحَقِيقَة، وَإِن كَانَت للْعهد يكون من مُنَافِق خَاص بِعَيْنِه، أَو من الْمُنَافِقين الَّذين كَانُوا فِي زَمَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، على مَا ذكرنَا.
34 - حدّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ عنِ عبدِ اللَّهِ عَن الأعْمَشِ بنِ مُرَّةَ عَن مَسْرُوقٍ عَن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍ وأنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيه كَانَ مُنَافِقا خَالِصا(1/222)
ومَنْ كَانَتْ فيهِ خَصْلَةٌ مِن النِّفاقِ حتَّى يَدَعَهَا إِذا ائْتُمِنَ خانَ وَإِذا حدَّثَ كَذَبَ وَإِذا عاهَدَ غَدَرَ وَإِذا خاصَمَ فَجَرَ.
الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين ظَاهِرَة، وكلك مناسبته للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة، ابْن عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، ابْن مُحَمَّد بن سُفْيَان بن عقبَة بن ربيعَة بن جُنْدُب بن بَيَان بن حبيب أبي سواءة بن عَامر بن صعصعة أَبُو عَامر، السوَائِي الْكُوفِي، أَخُو سُفْيَان بن عقبَة، روى عَن: مسعر وَالثَّوْري وَشعْبَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَغَيرهم، روى عَنهُ: أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي وَالْبُخَارِيّ، وروى مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا فِي الْجَنَائِز عَن ابْن أبي شيبَة عَنهُ عَن الثَّوْريّ. وروى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ قلت: هُوَ يحيى بن بشر يروي عَن قبيصَة، وَكَذَا روى البُخَارِيّ فِي الْأَدَب وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن يحيى بن بشر عَنهُ، وَكَانَ من الصَّالِحين، وَهُوَ مُخْتَلف فِي توثيقه وجرحه، واحتجاج البُخَارِيّ بِهِ فِي غير مَوضِع كَاف. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة فِي كل شَيْء إلاَّ فِي حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ لَيْسَ بذلك الْقوي، وَقَالَ يحيى بن آدم: قبيصَة كثير الْغَلَط فِي سُفْيَان، كَأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا لم يضْبط، وَأما فِي غير سُفْيَان فَهُوَ ثِقَة رجل صَالح، وَعَن قبيصَة أَنه قَالَ: جالست الثَّوْريّ، وَأَنا ابْن سِتّ عشرَة سنة، ثَلَاث سِنِين. توفّي فِي الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، كَذَا قَالَه قطب الدّين فِي شَرحه. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه: سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ لقبيصة بن عقبَة عَن ابْن عُيَيْنَة شَيْء. الثَّانِي: سُفْيَان، بِتَثْلِيث سينه، إِبْنِ سعيد بن مَسْرُوق بن حبيب بن رَافع بن عبد الله بن موهبة ابْن أبي عبد الله بن منقذ بن نضر بن الْحَارِث بن ثَعْلَبَة بن ملكان بن ثَوْر بن عبد مَنَاة، أَبُو عبد الله الثَّوْريّ الإِمَام الْكَبِير، أحد أَصْحَاب الْمذَاهب السِّتَّة المتبوعة، الْمُتَّفق على جلالة قدره وكثره علومه وصلابه دينه وتوثقه وأمانته، وَهُوَ من تَابع التَّابِعين، وَقَالَ ابْن عَاصِم: سُفْيَان أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: كتبت عَن ألف وَمِائَة وَمَا كتبت عَن أفضل من سُفْيَان. ولد سنة سبع وَتِسْعين، وَتُوفِّي سنة سِتِّينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ متواريا من سلطانها، وَدفن عشَاء، وَكَانَ يُدَلس، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَقد مر ذكره، الرَّابِع: عبد الله بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم، الْكُوفِي التَّابِعِيّ الخارفي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالراء وَالْفَاء، وخارف: هُوَ مَالك بن عبد الله بن كثير بن مَالك بن جشم بن خيوان بن نوف بن هَمدَان، قَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو زرْعَة: ثِقَة، توفّي سنة مائَة، وَقَالَ ابْن سعد: فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَبُو عَائِشَة مَسْرُوق بن الأجدع، بِالْجِيم وبالمهملتين، ابْن مَالك بن أُميَّة بن عبد الله بن مر بن سُلَيْمَان بن الْحَارِث بن سعد بن عبد الله بن ودَاعَة بن عَمْرو بن عَامر، الْهَمدَانِي الْكُوفِي، صلى خلف أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسمع عَمْرو عبد الله بن مَسْعُود وَعَائِشَة وَغَيرهم، وَكَانَ من المخضرمين، اتّفق على جلالته وتوثيقه وإمامته، وَكَانَ أَفرس فَارس بِالْيمن، وَهُوَ ابْن أُخْت معدي كرب، مَاتَ سنة ثَلَاث: وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَقد مر ذكره.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون إلاَّ الصَّحَابِيّ، وَقد دخل الْكُوفَة أَيْضا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن قُتَيْبَة عَن جرير عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر عَن عبد الله بن نمير، وَعَن أبي نمير، حَدثنَا أبي، حَدثنَا الْأَعْمَش، وَحدثنَا زُهَيْر، حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (خَالِصا) من: خلص الشَّيْء يخلص، من بَاب: نصر ينصر، ومصدره خلوصا وخالصة،(1/223)
والخالص أَيْضا الْأَبْيَض من الألوان، وخلص الشَّيْء إِلَيْهِ خلوصا؛ وصل، وخلص الْعظم، بِالْكَسْرِ، يخلص بِالْفَتْح خلصا بِالتَّحْرِيكِ، إِذا تشظى فِي اللَّحْم. قَوْله: (خصْلَة) أَي خلة، بِفَتْح الْخَاء فيهمَا، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (حَتَّى يَدعهَا) ، أَي: يَتْرُكهَا. . قيل: قد أميت ماضيه، وَقد اسْتعْمل فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا {مَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (عَاهَدَ) من المعاهدة. وَهِي المحالفة والمواثقة. قَوْله: (غدر) من الْغدر، وَهُوَ ترك الْوَفَاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: غدر بِهِ فَهُوَ غادر، وغدر أَيْضا، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل هَذَا فِي النداء بالشتم. وَفِي (الْمُحكم) : غدره وغدر بِهِ يغدر عدرا، وَرجل غادر وغدار وغدور، وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى بِغَيْر هَاء، وغدرة. وَقَالَ بَعضهم: يُقَال للرجل: يَا غدر، وَيَا مغدر، وَيَا ابْن مغدر، ومغدر، وَالْأُنْثَى: يَا غدار. لَا يسْتَعْمل إلاَّ فِي النداء، وغذر الرجل غدار وغدرانا، عَن اللحياني، وَلست مِنْهُ على ثِقَة، وَفِي (الْمُجْمل) : الْغدر نقض الْعَهْد وَتَركه، وَيُقَال: أَصله من الغدير. وَهُوَ المَاء الَّذِي يغادره السَّيْل، أَي: يتْركهُ يُقَال: غادرت الشَّيْء إِذا تركته، فكأنك تركت مَا بَيْنك وَبَينه من الْعَهْد. وَفِي (شرح الفصيح) لِابْنِ هِشَام السبتي والعماني: غدر فِي الْمَاضِي بِالْكَسْرِ، زَاد الْعمانِي: وغدر بِالْفَتْح أفْصح، وَفِي (شرح الْمُطَرز) : الْعَرَب الفصحاء يَقُولُونَ، كَمَا ذكره ثَعْلَب: غدرت بِالْفَتْح. وَمِنْهُم من يَقُول: غدرت، بِالْكَسْرِ. وَفِي (نَوَادِر ابْن الْأَعرَابِي) غدر الرجل، بِكَسْر الدَّال، عَن أَصْحَابه إِذا تخلف. قَالَ: وَيُقَال مَاتَ إخْوَته وغدر. وَفِي (شرح الْحَضْرَمِيّ) : غدر يغدر ويغدر، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، هُوَ فِي مُسْتَقْبل غدر بِالْكَسْرِ، يغدر بِالْفَتْح، قِيَاسا. وَفِي كتاب (صعاليك الْعَرَب) للأخفش: غادر وغدار، مثل شَاهد وشهاد. قَوْله: (خَاصم) من الْمُخَاصمَة، وَهِي المجادلة. قَوْله: (فجر) من الْفُجُور، وَهُوَ الْميل عَن الْقَصْد، والشق بِمَعْنى: فجر، مَال عَن الْحق وَقَالَ الْبَاطِل، أَو شقّ ستر الدّيانَة.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (أَربع) ، مُبْتَدأ بِتَقْدِير: أَربع خِصَال، أَو: خِصَال أَربع، لِأَن النكرَة الصرفة لَا تقع مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: (من كن فِيهِ) فَقَوله: من مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط، وَقَوله: كن فِيهِ، صلتها، وَقَوله (كَانَ منافقا) خبر للمبتدأ الثَّانِي أَعنِي: قَوْله: من، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن تكون الشّرطِيَّة صفة، يَعْنِي صفة: أَربع، وَإِذا اؤتمن خَان. الخ خَبره، بِتَقْدِير: أَربع كَذَا هِيَ الْخِيَانَة عِنْد الائتمان إِلَى آخِره. قلت: هَذَا وَجه بعيد لَا يخفى. قَوْله: (منافقا) خبر كَانَ، و ((خَالِصا) صفته. قَوْله: (وَمن) مُبْتَدأ مَوْصُولَة، وَقَوله: (كَانَت فِيهِ خصْلَة) جملَة صلَة لَهَا، وَقَوله: (كَانَت فِيهِ خصْلَة) ، خبر الْمُبْتَدَأ، وَالضَّمِير فِي مِنْهُنَّ، يرجع إِلَى: الْأَرْبَع، قَوْله (حَتَّى) للغاية، و (يَدعهَا) مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة، أَي: حَتَّى أَن يَدعهَا. قَوْله: (إِذا اؤتمن خَان) إِذا للظرف فِيهِ معنى الشَّرْط و: (خَان) جَوَابه، وَالْبَاقِي كَذَلِك، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: (كَانَ منافقا) مَعْنَاهُ على مَا تقدم من الْأَوْجه الْمَذْكُورَة، وَوَصفه بالخلوص يشد عضد من قَالَ: المُرَاد بالنفاق الْعَمَل لَا الْإِيمَان، أَو النِّفَاق الْعرفِيّ لَا الشَّرْعِيّ. لِأَن الخلوص بِهَذَيْنِ الْمَعْنيين لَا يسْتَلْزم الْكفْر الملقي فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَأما كَونه خَالِصا فِيهِ فَلِأَن الْخِصَال الَّتِي تتمّ بهَا الْمُخَالفَة بَين السِّرّ والعلن لَا يزِيد عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن بطال: خَالِصا، مَعْنَاهُ خَالِصا من هَذِه الْخلال الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث فَقَط لَا فِي غَيرهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَي شَدِيد الشّبَه بالمنافقين بِهَذِهِ الْخِصَال. وَقَالَ أَيْضا فِي شَرحه للصحيح: حصل من الْحَدِيثين أَن خِصَال الْمُنَافِقين خَمْسَة، وَقَالَ فِي شرح مُسلم: (وَإِذا عَاهَدَ غدر) . هُوَ دَاخل فِي قَوْله: (إِذا اؤتمن خَان) . يَعْنِي: أَرْبَعَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَو اعْتبرنَا هَذَا الدُّخُول فالخمس رَاجِعَة إِلَى الثَّلَاث، فَتَأمل. وَالْحق أَنَّهَا خَمْسَة مُتَغَايِرَة عرفا، وَبِاعْتِبَار تغاير الْأَوْصَاف واللوازم أَيْضا، وَوجه الْحصْر فِيهَا أَن إِظْهَار خلاف الْبَاطِن، أما فِي الماليات وَهُوَ: إِذا اؤتمن، وَأما فِي غَيرهَا، فَهُوَ إِمَّا فِي حَالَة الكدورة فَهُوَ إِذا خَاصم، وَإِمَّا فِي حَالَة الصفاء فَهُوَ إِمَّا مُؤَكدَة بِالْيَمِينِ فَهُوَ إِذا عَاهَدَ، أَو لَا فَهُوَ إِمَّا بِالنّظرِ إِلَى الْمُسْتَقْبل فَهُوَ إِذا وعد، وَإِمَّا بِالنّظرِ إِلَى الْحَال فَهُوَ إِذا حدث. قلت: الْحق بِالنّظرِ إِلَى الْحَقِيقَة ثَلَاث، وَإِن كَانَ بِحَسب الظَّاهِر خمْسا، لِأَن قَوْله: (إِذا عَاهَدَ غدر) دَاخل فِي قَوْله: (إِذا اؤتمن خَان) . وَقَوله: (وَإِذا خَاصم فجر) ، ينْدَرج فِي الْكَذِب فِي الحَدِيث، وَوجه الْحصْر فِي الثَّلَاث قد ذَكرْنَاهُ.(1/224)
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عنِ الأعمَشِ
أَي: تَابع سُفْيَان الثَّوْريّ شُعْبَة بن الْحجَّاج فِي رِوَايَته هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، وأوصل البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي كتاب الْمَظَالِم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه الْمُتَابَعَة هِيَ الْمُتَابَعَة الْمقيدَة لَا الْمُطلقَة، حَيْثُ قَالَ: الْأَعْمَش، والناقصة لَا التَّامَّة حَيْثُ ذكر الْمُتَابَعَة من وسط الْإِسْنَاد لَا من أَوله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا أوردهَا البُخَارِيّ على طَرِيق الْمُتَابَعَة لَا الْأَصَالَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ ذكره فِي هَذَا الْموضع على طَرِيق الْمُتَابَعَة لمُخَالفَة هَذَا الحَدِيث مَا تقدم لفظا وَمعنى من جِهَات، كالاختلاف فِي: ثَلَاث وَأَرْبع، وكزيادة لفظ: خَالِصا. قلت: أَرَادَ البُخَارِيّ بالمتابعة هُنَا كَون الحَدِيث مرويا من طرق أُخْرَى عَن الثَّوْريّ، مِنْهَا رِوَايَة شُعْبَة عَن الثَّوْريّ، نبه على ذَلِك هَهُنَا، وَإِن كَانَ قد رَوَاهَا فِي كتاب الْمَظَالِم، وَكَذَلِكَ هُوَ مَرْوِيّ فِي (صَحِيح مُسلم) وَغَيره من طرق أُخْرَى عَن الثَّوْريّ، وَكَلَام الْكرْمَانِي يُشِير إِلَى أَنه فهم أَن المُرَاد بالمتابعة مُتَابعَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ ذَلِك لسماه شَاهدا، وَقَالَ بَعضهم: وَأما دَعْوَاهُ أَن بَينهمَا مُخَالفَة فِي الْمَعْنى فَلَيْسَ بِمُسلم، وغايته أَن يكون فِي أَحدهمَا زِيَادَة، وَهِي مَقْبُولَة، لِأَنَّهَا من ثِقَة مُتَيَقن. قلت: نَفْيه التَّسْلِيم لَيْسَ بِمُسلم، لِأَن الْمُخَالفَة فِي اللَّفْظ ظَاهِرَة لَا تنكر وَلَا تخفى، فَكَأَنَّهُ فهم أَن قَوْله: من جِهَات، كالاختلاف يتَعَلَّق بِالْمَعْنَى وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يتَعَلَّق بقوله: لفظا. فَافْهَم.
25 - (بابُ قِيامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإيمانِ)
لما كَانَ الْمَذْكُور، بعد ذكر الْمُقدمَة الَّتِي هِيَ بَاب كَيْفيَّة بَدْء الْوَحْي، كتاب الْإِيمَان الْمُشْتَمل على أَبْوَاب فِيهَا بَيَان أُمُور الْإِيمَان، وَذكر فِي أَثْنَائِهَا خَمْسَة من الْأَبْوَاب، مِمَّا يضاد أُمُور الْإِيمَان لأجل مُنَاسبَة ذَكرنَاهَا عِنْد ذكر أول الْأَبْوَاب الْخَمْسَة، عَاد إِلَى بَيَان بَقِيَّة الْأَبْوَاب الْمُشْتَملَة على أُمُور الْإِيمَان، نَحْو: قيام لَيْلَة الْقدر من الْإِيمَان، وَالْجهَاد من الْإِيمَان، وتطوع قيام رَمَضَان من الْإِيمَان، وَصَوْم رَمَضَان من الْإِيمَان، وَغير ذَلِك من الْأَبْوَاب الْمُتَعَلّقَة بِأُمُور الْإِيمَان. وَيَنْبَغِي أَن تطلب الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين بَاب السَّلَام من الْإِسْلَام، لِأَن الْأَبْوَاب الْخَمْسَة الْمَذْكُورَة بَينهمَا إِنَّمَا هِيَ بطرِيق الاستطراد، لَا بطرِيق الْأَصَالَة. فالمذكور بطرِيق الاستطراد كَالْأَجْنَبِيِّ، فَيكون هَذَا الْبَاب فِي الْحَقِيقَة مَذْكُورا عقيب بَاب السَّلَام من الْإِسْلَام، فتطلب الْمُنَاسبَة بَينهمَا، فَنَقُول: وَجه الْمُنَاسبَة هُوَ أَن الْمَذْكُور فِي بَاب السَّلَام من الْإِسْلَام هُوَ أَن إفشاء السَّلَام من أُمُور الْإِيمَان، وَكَذَلِكَ لَيْلَة الْقدر فِيهَا يفشى السَّلَام من الْمَلَائِكَة على الْمُؤمنِينَ. قَالَ الله تَعَالَى: {سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} (الْقدر: 5) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَا هِيَ إلاَّ سَلام لِكَثْرَة مَا يسلمُونَ، أَي: الْمَلَائِكَة على الْمُؤمنِينَ، وَقيل: لَا يلقون مُؤمنا وَلَا مُؤمنَة إِلَّا سلمُوا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة. ثمَّ قَوْله: (بَاب) مُعرب على تَقْدِير أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف منون، أَي: هَذَا بَاب. وَقَوله: (قيام) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره. قَوْله: (من الْإِيمَان) ، وَيجوز أَن يتْرك التَّنْوِين من: بَاب على تَقْدِير إِضَافَته إِلَى الْجُمْلَة، وعَلى كل التَّقْدِير الأَصْل: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن قيام لَيْلَة الْقدر من شعب الْإِيمَان، وَالْقِيَام مصدر: قَامَ، يُقَال: قَامَ قيَاما، وَأَصله قواما، قلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا.
وَالْكَلَام فِي لَيْلَة الْقدر على أَنْوَاع: الأول: فِي وَجه التَّسْمِيَة بِهِ. فَقيل: سمي بِهِ لما تكْتب فِيهَا الْمَلَائِكَة من الأقدار والأرزاق والآجال الَّتِي تكون فِي تِلْكَ السّنة، أَي: يظهرهم الله عَلَيْهِ، وَيَأْمُرهُمْ بِفعل مَا هُوَ من وظيفتهم. وَقيل: لعظم قدرهَا وشرفها وَقيل: لِأَن من أَتَى فِيهَا بالطاعات صَار ذَا قدر. وَقيل: لِأَن الطَّاعَات لَهَا قدر زَائِد فِيهَا. الثَّانِي: فِي وَقتهَا اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَت جمَاعَة: هِيَ منتقلة، تكون فِي سنة فِي لَيْلَة وَفِي سنة فِي لَيْلَة أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَبِهَذَا يجمع بَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اخْتِلَاف أَوْقَاتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا، قَالُوا: إِنَّمَا تنْتَقل فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، وَقيل: بل فِي كُله، وَقيل: إِنَّهَا مُعينَة لَا تنْتَقل أبدا بل هِيَ لَيْلَة مُعينَة فِي جَمِيع السنين لَا تفارقها. وَقيل: هِيَ فِي السّنة كلهَا. وَقيل: فِي شهر رَمَضَان كُله، وَهُوَ قَول ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: بل فِي الْعشْر الْأَوْسَط والأواخر، وَقيل: بل فِي الْأَوَاخِر، وَقيل: يخْتَص بأوتار الْعشْر، وَقيل: بأشفاعه، وَقيل: بل فِي ثَلَاث وَعشْرين أَو سبع وَعشْرين، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقيل: فِي لَيْلَة سبع عشرَة، أَو إِحْدَى وَعشْرين، أَو ثَلَاث وَعشْرين، وَقيل: لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، وَقيل: لَيْلَة أَربع عشْرين، وَهُوَ محكي عَن بِلَال وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم، وَقيل: سبع وَعشْرين، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ زيد بن أَرقم:(1/225)
سبع عشرَة، وَقيل: تسع عشرَة، وَحكي عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل، آخر لَيْلَة من الشَّهْر. وميل الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين، أَو الثَّالِث وَالْعِشْرين ذكره الرَّافِعِيّ، وَهُوَ خَارج عَن الْمَذْكُورَات. الثَّالِث: هَل هِيَ مُحَققَة ترى أم لَا؟ فَقَالَ قوم: رفعت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حِين تلاحى الرّجلَانِ رفعت، وَهَذَا غلط، لِأَن آخر الحَدِيث يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ (عَسى أَن يكون خيرا لكم، التمسوها فِي السَّبع وَالتسع) ، وَفِيه تَصْرِيح بِأَن المُرَاد برفعها رفع بَيَان علم عينهَا، لَا رفع وجودهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع من يعْتد بِهِ على وجودهَا ودوامها إِلَى آخر الدَّهْر، وَهِي مَوْجُودَة ترى ويحققها من شَاءَ الله تَعَالَى من بني آدم كل سنة فِي رَمَضَان، وأخبار الصَّالِحين بهَا ورؤيتهم لَهَا أَكثر من أَن تحصى، وَأما قَول الْمُهلب: لَا يُمكن رؤيتها حَقِيقَة فغلط، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَة فِي إخفائها أَن يحيي من يريدها اللَّيَالِي الْكَثِيرَة طلبا لموافقتها، فتكثر عِبَادَته وَأَن لَا يتكل النَّاس عِنْد إظهارها على إِصَابَة الْفضل فِيهَا، فيفرطوا فِي غَيرهَا.
35 - حدّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حدّثنا أبُو الزِّنَادِ عَنِ الأعْرجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
(الحَدِيث 35 أَطْرَافه: 37، 38، 1901، 2008، 2009، 2014) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. قد ذكرُوا بِهَذَا التَّرْتِيب فِي بَاب: حب الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالنُّون، عبد الله بن ذكْوَان الْقرشِي، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْمدنِي الْقرشِي قيل: أصح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَنهُ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصّيام مطولا. وَأخرجه مُسلم وَلَفظه: (من يقم لَيْلَة الْقدر فيوافقها، أرَاهُ إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ والموطأ، وَلَفْظهمْ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرغب فِي قيام رَمَضَان من غير أَن يَأْمُرهُم بعزيمة، فَيَقُول: من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وإحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . فَتوفي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْأَمر على ذَلِك. ثمَّ كَانَ الْأَمر على ذَلِك فِي خلَافَة أبي بكر وصدرا من خلَافَة عمر: رَضِي الله عَنْهُمَا، وَأخرج البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا نَحوه، وَأخرج النَّسَائِيّ: (عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر رَمَضَان بفضله على الشُّهُور) . وَقَالَ: (من قَامَ فِي رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه) . وَقَالَ: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب: أَنه عَن أبي هُرَيْرَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من يقم) ، بِفَتْح الْيَاء، من قَامَ يقوم، وَهُوَ مُتَعَدٍّ هَهُنَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ وَمُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لرمضان: من قامه إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَفِي رِوَايَة للنسائي: (فَمن صَامَهُ وقامه إِيمَانًا واحتسابا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه) . قَوْله: (إِيمَانًا) ، أَي تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حق وَطَاعَة. قَوْله: (واحتسابا) ، أَي: إِرَادَة وَجه الله تَعَالَى لَا لرياء وَنَحْوه، فقد يفعل الْإِنْسَان الشَّيْء الَّذِي يعْتَقد أَنه صَادِق، لَكِن لَا يَفْعَله مخلصا، بل لرياء أَو خوف أَو نَحْو ذَلِك، يُقَال احتسابا أَي: حَسبه الله تَعَالَى. يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله تَعَالَى، وَالِاسْم الْحِسْبَة، وَهِي الْأجر. وَفِي (الْعباب) : احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله، أَي: اعتددته أنوي بِهِ وَجه الله تَعَالَى، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا) الحَدِيث واحتسبت عَلَيْهِ كَذَا: أَي أنكرته عَلَيْهِ، قَالَه ابْن دُرَيْد، وَمِنْه: محتسب الْبَلَد. قَوْله: (غفر لَهُ) من الغفر، وَهُوَ السّتْر، وَمِنْه المغفر وَهُوَ الخودة، وَفِي (الْعباب) الغفر التغطية، والغفر والغفران وَالْمَغْفِرَة وَاحِد، ومغفرة الله لعَبْدِهِ إلباسه إِيَّاه الْعَفو وستره ذنُوبه.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (من يقم) ، كلمة: من، شَرْطِيَّة، و: يقم، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَقعت فعل الشَّرْط، قَوْله: (لَيْلَة الْقدر) كَلَام إضافي مفعول بِهِ، ليقمْ، وَلَيْسَ بمفعول فِيهِ. قَوْله: (إِيمَانًا واحتسابا) منصوبان على أَنَّهُمَا حالان متداخلتان أَو مترادفتان على تَأْوِيل: مُؤمنا ومحتسبا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَحِينَئِذٍ لَا تدل على تَرْجَمَة الْبَاب، إِذْ الْمَفْهُوم مِنْهُ لَيْسَ إلاَّ الْقيام فِي حَال الْإِيمَان، وَفِي زَمَانه مشْعر بِأَنَّهُ من جملَته. قلت: لَيْسَ المُرَاد من لَفظه: إِيمَانًا، هُوَ الْإِيمَان الشَّرْعِيّ، وَإِنَّمَا المُرَاد هُوَ الْإِيمَان(1/226)
اللّغَوِيّ، وَهُوَ التَّصْدِيق كَمَا فسرناه الْآن، والترجمة غير مترتبة عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مترتبة على مُبَاشرَة عمل هُوَ سَبَب لغفران مَا تقدم من ذَنبه، وَهُوَ قيام لَيْلَة الْقدر هَهُنَا، ومباشرة مثل هَذَا الْعَمَل شُعْبَة من شعب الْإِيمَان فَافْهَم. ثمَّ إِن الْكرْمَانِي جوز انتصابهما على التَّمْيِيز، وعَلى الْعلَّة أَيْضا بعد أَن قَالَ: التَّمْيِيز وَالْمَفْعُول لَهُ لَا يدلان على أَنه من الْإِيمَان بِتَأْوِيل أَن: من، للابتداء، فَمَعْنَاه: أَن الْقيام منشؤه الْإِيمَان، فَيكون للْإيمَان أَو من جِهَة الْإِيمَان. قلت: وُقُوع كل مِنْهُمَا بعيد، أما التَّمْيِيز فَإِنَّهُ يرفع الْإِبْهَام المستقر عَن ذَات مَذْكُورَة أَو مقدرَة، وكل مِنْهُمَا هَهُنَا مُنْتَفٍ، أما الأول: فَلِأَنَّهُ يكون عَن ذَات مُفْردَة مَذْكُورَة، وَذَلِكَ الْمُفْرد يكون مُقَدرا غَالِبا. وَأما الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَا إِبْهَام فِي لَفْظَة: يقم، وَلَا فِي إِسْنَاده إِلَى فَاعله. وَأما النصب على الْعلَّة فَإِنَّهُ مَا فعل لأَجله فعل مَذْكُور، وَهَهُنَا الْقيام لَيْسَ لأجل عِلّة الْإِيمَان، وَإِنَّمَا الْإِيمَان سَبَب للْقِيَام. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: شَرط التَّمْيِيز أَن يَقع موقع الْفَاعِل نَحْو: طَابَ زيد نفسا قلت: اطراد هَذَا الشَّرْط مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ أَعم من أَن يكون فَاعِلا بِالْفِعْلِ، أَو بِالْقُوَّةِ، كَمَا يؤول: طَار عَمْرو فَرحا، بِأَن المُرَاد طيَّره الْفَرح. فَهُوَ فِي الْمَعْنى إِقَامَة الْإِيمَان. قلت: هَذَا التَّمْثِيل لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن نِسْبَة الطيران إِلَى عَمْرو فِيهِ إِبْهَام، وَفَسرهُ بقوله: فَرحا، وتأويله: طيره الْفَرح كَمَا فِي قَوْلك طَابَ زيد نفسا تَقْدِيره: طَابَ نفس زيد، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (من يقم لَيْلَة الْقدر) لِأَنَّهُ إِبْهَام فِي نِسْبَة الْقيام إِلَيْهِ وَلَا فِي نفس الْقيام، وتأويله بقوله: إِقَامَة الْإِيمَان، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْإِيمَان لَيْسَ بفاعل لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ. قَوْله: (غفر لَهُ) ، جَوَاب الشَّرْط، وَهَذَا كَمَا ترى وَقع مَاضِيا، وَفعل الشَّرْط مضارعا، والنحاة يستضعفون مثل ذَلِك. وَمِنْهُم من مَنعه إِلَّا فِي ضَرُورَة شعر، وأجازوا ضِدّه، وَهُوَ أَن يكون فعل الشَّرْط مَاضِيا وَالْجَوَاب مضارعا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم} (هود: 15) وَجَمَاعَة مِنْهُم جوزوا ذَلِك مُطلقًا، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَبقول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ: مَتى يقم مقامك رق، وَالصَّوَاب: مَعَهم، لِأَنَّهُ وَقع فِي كَلَام أفْصح النَّاس، وَفِي كَلَام عَائِشَة الفصيحة. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة فظلت} (الشُّعَرَاء: 4) لِأَن قَوْله: فظلت، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ تَابع للجواب، وتابع الْجَواب جَوَاب! قلت: لَا نسلم أَن تَابع الْجَواب جَوَاب، بل هُوَ فِي حكم الْجَواب، وَفرق بَين الْجَواب وَحكم الْجَواب. وَقَوله (ظلت) عطف على قَوْله: ننزل، وَحقّ الْمَعْطُوف صِحَة حُلُوله مَحل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَعِنْدِي فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر، أَرَادَ بِهِ اسْتِدْلَال المجوزين بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، لأنني أَظُنهُ من تصرف الروَاة، فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن أبي الْيَمَان، شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَلم يغاير بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء، بل قَالَ: من يقم لَيْلَة الْقدر يغْفر لَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج عَن سُلَيْمَان، وَهُوَ الطَّبَرَانِيّ، عَن أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن نجدة عَن أبي الْيَمَان وَلَفظه: (لَا يقوم أحد لَيْلَة الْقدر فيوافقها إِيمَانًا واحتسابا إلاَّ غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . قلت: لقَائِل أَن يَقُول: لم لَا يجوز أَن يكون تصرف الروَاة فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ، وَأَن مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ بالمغايرة بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء هُوَ اللَّفْظ النَّبَوِيّ، بل الْأَمر كَذَا، لِأَن رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن أبي الْيَمَان لَا تعادل رِوَايَة البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان: وَلَا رِوَايَة أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن نجدة عَن أبي الْيَمَان مثل رِوَايَة البُخَارِيّ عَنهُ، وَيُؤَيّد هَذَا رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَلَفظ البُخَارِيّ: (من يقم لَيْلَة الْقدر فيوافقها أرَاهُ إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، وَلَفظ حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته بِوُقُوع التَّغْيِير وَالتَّصَرُّف من الروَاة فِيهِ، لِأَن فِيهِ النَّفْي وَالْإِثْبَات مَوضِع الشَّرْط وَالْجَزَاء فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم. قَوْله: (من ذَنبه) يتَعَلَّق بقوله: (غفر) أَي: غفر من ذَنبه مَا تقدم، وَيجوز أَن تكون: من، البيانية لما تقدم. فَإِن قلت: (مَا تقدم) مَا موقعه من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب على المفعولية على الْوَجْه الأول، وَالرَّفْع على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل على الْوَجْه الثَّانِي، فَافْهَم.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: لِمَ قَالَ هَهُنَا: من يقم، بِلَفْظ الْمُضَارع، وَقَالَ فِيمَا بعده: من قَامَ رَمَضَان وَمن صَامَ رَمَضَان، بالماضي؟ وَأجِيب: بِأَن قيام رَمَضَان وصيامه مُحَقّق الْوُقُوع، فجَاء بِلَفْظ يدل عَلَيْهِ بِخِلَاف قيام لَيْلَة الْقدر، فَإِنَّهُ غير مُتَيَقن، فَلهَذَا ذكره بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا النُّكْتَة فِي وُقُوع الْجَزَاء بالماضي مَعَ أَن الْمَغْفِرَة فِي زمن الِاسْتِقْبَال؟ وَأجِيب: للإشعار بِأَنَّهُ مُتَيَقن الْوُقُوع مُتَحَقق الثُّبُوت، فضلا من الله تَعَالَى على عباده. وَمِنْهَا(1/227)
مَا قيل: لفظ: من يقم لَيْلَة الْقدر، هَل يَقْتَضِي قيام تَمام اللَّيْلَة، أَو يَكْفِي أقل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْقيام؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يَكْفِي الْأَقَل وَعَلِيهِ بعض الْأَئِمَّة، حَتَّى قيل بكفاية فرض صَلَاة الْعشَاء فِي دُخُوله تَحت الْقيام فِيهَا، لَكِن الظَّاهِر مِنْهُ عرفا أَنه لَا يُقَال: قيام اللَّيْلَة، إلاَّ إِذا قَامَ كلهَا أَو أَكْثَرهَا. قلت: قَوْله: (من يقم لَيْلَة الْقدر) . مثل: من يصم يَوْمًا، فَكَمَا لَا يَكْفِي صَوْم بعض الْيَوْم وَلَا أَكْثَره، فَكَذَلِك لَا يَكْفِي قيام بعض لَيْلَة الْقدر وَلَا أَكْثَرهَا، وَذَلِكَ لِأَن لَيْلَة الْقدر وَقعت مَفْعُولا لقَوْله: يقم، فَيَنْبَغِي أَن يُوصف جَمِيع اللَّيْلَة بِالْقيامِ، لِأَن من شَأْن الْمَفْعُول أَن يكون مشمولاً بِفعل الْفَاعِل. فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى الْقيام فِيهَا إِذْ ظَاهره غير مُرَاد قطعا؟ وَأجِيب: بِأَن الْقيام للطاعة كَأَنَّهُ مَعْهُود من قَوْله تَعَالَى: {قومُوا لله قَانِتِينَ} (الْبَقَرَة: 238) وَهُوَ حَقِيقَة شَرْعِيَّة فِيهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: الذَّنب علم لِأَنَّهُ اسْم جنس مُضَاف، فَهَل يَقْتَضِي مغْفرَة ذَنْب يتَعَلَّق بِحَق النَّاس؟ وَأجِيب: بِأَن لَفظه مُقْتَض لذَلِك مُقْتَض لذَلِك، وَلَكِن علم من الْأَدِلَّة الخارجية أَن حُقُوق الْعباد لَا بُد فِيهَا من رضى الْخُصُوم، فَهُوَ عَام اخْتصَّ بِحَق الله تَعَالَى وَنَحْوه بِمَا يدل على التَّخْصِيص، وَقيل: يجوز أَن تكون: من، تبعيضية. وَفِيه نظر.
26 - (بابٌ الْجِهادُ مِنَ الإيمانِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع الأول: قَوْله: (بَاب) لَا يسْتَحق الْإِعْرَاب إِلَّا بِتَقْدِير: هَذَا بَاب، فَيكون خَبرا مَحْذُوف الْمُبْتَدَأ. وَقَوله: (الْجِهَاد) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره: (من الْإِيمَان) وَلَا يجوز فِيهِ غير الرّفْع. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ قيام لَيْلَة الْقدر، وَلَا يحصل ذَلِك، إِلَّا بالمجاهدة التَّامَّة ومقاساة الْمَشَقَّة وَترك الِاخْتِلَاط بالأهل والعيال، فَكَذَلِك الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب حَال الْمُجَاهِد الَّذِي لَا يحصل لَهُ الْحَظ من الْجِهَاد، وَلَا يُسمى مُجَاهدًا إلاَّ بالمجاهدة التَّامَّة ومقاساة الْمَشَقَّة الزَّائِدَة وَترك الْأَهْل والعيال، وكما أَن الْقَائِم لَيْلَة الْقدر يجْتَهد أَن ينَال رُؤْيَة تِلْكَ اللَّيْلَة ويتحلى بهَا، وإلاَّ فيكتسب أجورا عَظِيمَة، فَكَذَلِك الْمُجَاهِد يجْتَهد أَن ينَال دَرَجَة الشُّهَدَاء ومنزلتهم وإلاَّ فَيرجع بغنيمة وافرة مَعَ اكْتِسَاب اسْم الْغُزَاة، فَهَذَا هُوَ وَجه الْمُنَاسبَة وَإِن كَانَ التَّرْتِيب الوضعي يَقْتَضِي أَن يذكر بَاب تطوع قيام رَمَضَان عقيب هَذَا الْبَاب، وَبَاب صَوْم رَمَضَان عقيب هَذَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل لترتيب الْكتاب وتوسيط الْجِهَاد بَين قيام لَيْلَة الْقدر وَقيام رَمَضَان وصيامه مُنَاسبَة أم لَا؟ قلت: مناسبته تَامَّة وَهِي الْمُشَاركَة فِي كَون كل من الْمَذْكُورَات من أُمُور الْإِيمَان. وتوسيط الْجِهَاد مشْعر بِأَن النّظر مَقْطُوع عَن غير هَذِه الْمُنَاسبَة. قلت: يُرِيد بِكَلَامِهِ هَذَا أَن الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْأَبْوَاب كلهَا هِيَ اشتراكها فِي كَونهَا من خِصَال الْإِيمَان، مَعَ قطع النّظر عَن طلب الْمُنَاسبَة بَين كل بَابَيْنِ من الْأَبْوَاب، وَهَذَا كَلَام من يعجز عَن إبداء وَجه الْمُنَاسبَة الْخَاصَّة مَعَ الْمُنَاسبَة الْعَامَّة، وَمَا يَنْبَغِي أَن يذكر مَا ذكرته، فَافْهَم. الثَّالِث: معنى قَوْله: (الْجِهَاد من الْإِيمَان) الْجِهَاد شُعْبَة من شعب الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال وَعبد الْوَاحِد، الشارحان: هَذَا كالأبواب الْمُتَقَدّمَة فِي أَن الْأَعْمَال إِيمَان، لِأَنَّهُ لما كَانَ الْإِيمَان هُوَ الْمخْرج لَهُ فِي سَبيله، كَانَ الْخُرُوج إِيمَانًا تَسْمِيَة للشَّيْء باسم سَببه، كَمَا قيل للمطر سَمَاء لنزوله من السَّمَاء، وللنبات. توأ لِأَنَّهُ ينشأ من النوء، وَالْجهَاد الْقِتَال مَعَ الْكفَّار لإعلاء كلمة الله تَعَالَى.
36 - حدّثنا حَرَمِيُّ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدّثنا عبدُ الوَاحِدِ قَالَ حدّثنا عُمَارَةُ قَالَ حدّثنا أبُو زُرْعَةَ بنُ عَمْرو بنِ جَرِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إلاَّ إيمانٌ بِي وتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَن أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرِ أَو غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ وَلَوْلاَ أنْ أشُقَّ على أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلوِددْتُ أنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُم أُحْيا ثمَّ أُقْتَلُ ثمَّ أُحيا ثمَّ أُقتل..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَن الْمخْرج للْجِهَاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى لما كَانَ هُوَ كَونه مُؤمنا بِاللَّه ومصدقا برسله، كَانَ خُرُوجه من الْإِيمَان، وَالْجهَاد هُوَ الْخُرُوج فِي سَبِيل الله لِلْقِتَالِ مَعَ أعدائه، وَقد ثَبت أَن الْخُرُوج من الْإِيمَان، فينتج أَن الْجِهَاد من الْإِيمَان.(1/228)
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حرمي، اسْم بِلَفْظ النِّسْبَة، ابْن حَفْص بن عمر، الْعَتكِي الْقَسْمَلِي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ عَن مُسلم، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ. مَاتَ سنة ثَلَاث، وَقيل: سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو بشر عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، وَيعرف: بالثقفي. قَالَ يحيى وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة كثير الحَدِيث، مَاتَ سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، فِي طبقته عبد الْوَاحِد بن زيد الْبَصْرِيّ أَيْضا لكنه ضَعِيف، وَلم يخرج عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَيْء. الثَّالِث: عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة، ابْن الْقَعْقَاع بن شبْرمَة، ابْن أخي عبد الله بن شبْرمَة الْكُوفِي الضَّبِّيّ، روى عَنهُ الثَّوْريّ وَالْأَعْمَش وَغَيرهمَا، قَالَ يحيى، ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي، وَاخْتلف فِي اسْمه وأشهرها: هرم، وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: عبيد الله بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ، سمع جده وَأَبا هُرَيْرَة وَغَيرهمَا، قَالَ يحيى: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْعَتكِي: بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، فِي الأزد: ينْسب إِلَى العتيك بن الْأسد بن عمرَان بن عَمْرو بن عَامر بن حَارِثَة بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن بن الأزد، وَفِي قضاعة: عتِيك بطن. الْقَسْمَلِي بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم، فِي الأزد: ينْسب إِلَى قسملة، وَهُوَ: مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن دوس، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: قسملي فِي الأزد وهم القسامل، سموا بذلك لجمالهم، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: الْقَسْمَلِي نِسْبَة إِلَى القساملة، قَبيلَة من الأزد نزلت الْبَصْرَة فنسبت الْمحلة إِلَيْهِم أَيْضا، وَهَذَا مَنْسُوب إِلَى الْقَبِيلَة، وَفِي شرح النَّوَوِيّ على قِطْعَة من البُخَارِيّ: أَن الْقَسْمَلِي، بِكَسْر الْقَاف وَالْمِيم، وَكَأَنَّهُ سبق قلم، وَالصَّوَاب فتحهما؛ والعبدي: نِسْبَة إِلَى عبد الْقَيْس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار، وَفِي قُرَيْش: عبد بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر، وَفِي تَمِيم: ينْسب إِلَى عبد الله بن دارم. وَفِي قضاعة: إِلَى عبد الله بن الْخِيَار
وَفِي هَمدَان إِلَى عبد الله بن عليان. والثقفي: نِسْبَة إِلَى ثَقِيف، وَهُوَ قسي بن مُنَبّه بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان. والضبي، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى ضبة بن أد بن طابخة بن الياس بن مُضر، وَفِي قُرَيْش: ضبة بن الْحَارِث ابْن فهر، وَفِي هُذَيْل: ضبة بن عَمْرو بن الْحَارِث بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل. والبجلي بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم: نِسْبَة إِلَى بجيلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك بن مذْحج.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا وَهُوَ أعظمها: أَنه خَال عَن العنعنة وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ التحديث وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فيهم إسما على صُورَة النِّسْبَة، وَرُبمَا يَظُنّهُ من لَا إِلْمَام لَهُ بِالْحَدِيثِ أَنه نِسْبَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن زُهَيْر عَن جرير، وَعَن أبي بكر وَأبي كريب عَن ابْن فُضَيْل عَن عمَارَة بِهِ. وَفِي لفظ مُسلم: (يضمن الله) ، وَفِي بَعْضهَا: (تكفل الله) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (توكل الله) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ: وَفِي أُخْرَى لَهُ قَالَ: (انتدب الله لمن يخرج فِي سَبيله لَا يُخرجهُ إلاَّ الْإِيمَان بِي وَالْجهَاد فِي سبيلي أَنه ضَامِن حَتَّى أدخلهُ الْجنَّة بِأَيِّهِمَا كَانَ: إِمَّا بقتل أَو وفادة، أَو أرده إِلَى مَسْكَنه الَّذِي يخرج مِنْهُ، نَالَ مَا نَالَ من أجر أَو غنيمَة) .
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (انتدب الله) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، من قَوْلهم: نَدبه لأمر فَانْتدبَ لَهُ، أَي: دَعَاهُ لَهُ فَأجَاب، فَكَأَن الله تَعَالَى جعل جِهَاد الْعباد فِي سَبِيل الله سؤالاً، وَدُعَاء لَهُ إِيَّاه. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) فِي فصل النُّون مَعَ الدَّال قَوْله: (انتدب الله لمن جَاهد فِي سَبيله) أَي: سارع بثوابه وَحسن جَزَائِهِ، وَقيل: أجَاب، وَقيل: تكفل، وَقَالَ ابْن بطال: أوجب وتفضل أَي: حقق واحكم أَي: ينجز ذَلِك لمن أخْلص قلت: كَأَنَّهُ يُرِيد مَا وعده، بقوله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ} (التَّوْبَة: 111) الْآيَة، وَذكره أَيْضا فِي (الْمطَالع) فِي فصل الْهمزَة مَعَ الدَّال من مَادَّة أدب، فَقَالَ قَوْله: (ائتدب الله لمن خرج فِي سَبيله) . كَذَا للقابسي بِهَمْزَة، وَمَعْنَاهُ: أجَاب من دَعَاهُ، من المأدبة، يُقَال: أدب الْقَوْم يأدبهم ويأدبهم أدبا إِذا دعاهم. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: انتدب، بالنُّون، وَأَهْمَلَهُ الْأصيلِيّ وَلم يُقَيِّدهُ، وَمَعْنَاهُ قريب من الأول، كَأَنَّهُ أجَاب رغبته. يُقَال:(1/229)
ندبته فَانْتدبَ أَي دَعوته فَأجَاب، وَمِنْه فِي حَدِيث الخَنْدَق: فَانْتدبَ الزبير، رَضِي الله عَنهُ، وَذكره الصغاني أَيْضا فِي بَاب النُّون مَعَ الدَّال وَقَالَ: وَأما قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (انتدب الله) الحَدِيث، فَمَعْنَاه: أَجَابَهُ إِلَى غفرانه. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: رَوَاهُ الْقَابِسِيّ: ائتدب، بِهَمْزَة صورتهَا يَاء من: المأدبة، يُقَال: أدب الْقَوْم مخففا، إِذا دعاهم، وَمِنْه: (الْقُرْآن مأدبة الله فِي الأَرْض) . قلت: قَالَ الصغاني: الْأَدَب الدُّعَاء إِلَى الطَّعَام، يُقَال أدبهم يأدبهم بِكَسْر الدَّال، وَاسم الطَّعَام عَن أبي زيد: المأدبة والمأدبة، يَعْنِي بِفَتْح الدَّال وَضمّهَا، ثمَّ قَالَ: وَأما المأدبة، بِالْفَتْح، فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ: (إِن هَذَا الْقُرْآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته) فَلَيْسَتْ من الطَّعَام فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هِيَ مفعلة من الْأَدَب بِالتَّحْرِيكِ، انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ هُنَا: ايتدب، بياء تَحْتَانِيَّة مَهْمُوزَة بدل النُّون من المأدبة وَهُوَ تَصْحِيف، وَقد وجههوه بتكلف، لَكِن إِطْلَاق الروَاة على خِلَافه. قلت: لم يقل أحد من الشُّرَّاح ولامن رُوَاة الْكتاب إِن هَذَا تَصْحِيف، وَلَا أطبقت الروَاة على خِلَافه، وَقد رَأَيْت مَا قَالَت الْمَشَايِخ فِيهِ وَالدَّعْوَى بِلَا برهَان لَا تقبل. قَوْله: (أَن أرجعه) بِفَتْح الْهمزَة من رَجَعَ، وَقد جَاءَ مُتَعَدِّيا ولازما، فمصدر الأول الرجع، ومصدر الثَّانِي الرُّجُوع، وَهَهُنَا مُتَعَدٍّ نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة} (التَّوْبَة: 83) وَفِي (الْعباب) : رَجَعَ بِنَفسِهِ يرجع رُجُوعا ومرجعا ورجعي، قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم} (الْأَنْعَام: 164، الزمر: 7) وَهُوَ شَاذ لِأَن المصادر من: فعل يفعل، إِنَّمَا تكون بِالْفَتْح. وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن إِلَى رَبك الرجعى} (العلق: 8) ورجعته عَن الشَّيْء وَإِلَى الشَّيْء رجعا: رَددته. قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّه على رجعه لقادر} (الطارق: 8) أَي: على إِعَادَته حَيا بعد مَوته وبلاه، لِأَنَّهُ المبدىء المعيد. وَقَالَ تَعَالَى: {يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل} (سبأ: 31) أَي: يتلاومون. قَوْله: (بِمَا نَالَ) . أَي: بِمَا أصَاب من النّيل، وَهُوَ الْعَطاء. قَوْله: (خلف سَرِيَّة) خلف هَهُنَا بِمَعْنى بعد، والسرية: هِيَ قِطْعَة من الْجَيْش، يُقَال: خير السَّرَايَا أَربع مائَة رجل.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (انتدب) فعل مَاض، وَلَفْظَة: الله، فَاعله، وَقَوله (لمن خرج) يتَعَلَّق بانتدب، وَمن، مَوْصُولَة. وَخرج، جملَة صلتها، وَفِي سَبيله، يتَعَلَّق بِهِ، وَالضَّمِير فِي سَبيله، يرجع إِلَى الله. قَوْله: (لَا يُخرجهُ) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير، وموضعها نصب على الْحَال، وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ منفيا يجوز فِيهِ الْوَاو وَتركهَا، نَحْو: جَاءَنِي زيد لَا يركب، أَو: وَلَا يركب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا بُد من التَّأْوِيل وَهُوَ تَقْدِير اسْم فَاعل من القَوْل مَنْصُوب على الْحَال، كَأَنَّهُ قَالَ: انتدب الله لمن خرج فِي سَبيله قَائِلا لَا يُخرجهُ إِلَّا إِيمَان بِي. قلت: هَذَا لَيْسَ بسديد لِأَنَّهُ على تَقْدِيره يلْزم أَن يكون ذُو الْحَال هُوَ الله تَعَالَى، وَيكون قَوْله لَا يُخرجهُ، مقول القَوْل، وَلَيْسَ كَذَلِك بل ذُو الْحَال هُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي خرج وَأَيْضًا فِيهِ حذف الْحَال وَهُوَ لَا يجوز. قَوْله: (إِيمَان) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: لَا يُخرجهُ، وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي: إلاَّ إِيمَانًا، بِالنّصب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ، وَتَقْدِيره: لَا يُخرجهُ مخرج إِلَّا الْإِيمَان والتصديق. قَوْله: (وتصديق برسلي) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو تَصْدِيق، وَفِي بعض النّسخ: (وتصديق) بِالْوَاو الْوَاصِلَة وَهُوَ ظَاهر. قلت: لم أَقف على من ذكر هَذَا رِوَايَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: إِذا كَانَ: بِأَو، الفاصلة، فَمَا مَعْنَاهُ إِذْ لَا بُد من الْأَمريْنِ: الْإِيمَان بِاللَّه والتصديق برسل الله؟ قلت: أَو، هَهُنَا لِامْتِنَاع الْخُلُو مِنْهُمَا مَعَ إِمْكَان الْجمع بَينهمَا، أَي: لَا يَخْلُو عَن أَحدهمَا، وَقد يَجْتَمِعَانِ بل يلْزم الِاجْتِمَاع، لِأَن الْإِيمَان بِاللَّه مُسْتَلْزم لتصديق رسله، إِذْ من جملَة الْإِيمَان بِاللَّه الْإِيمَان بأحكامه وأفعاله، وَكَذَا التَّصْدِيق بالرسل يسْتَلْزم الْإِيمَان بِاللَّه، وَهُوَ ظَاهر. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ مِمَّا يدل عَلَيْهِ: أَو، لِأَن الِاجْتِمَاع هَهُنَا لَازم و: أَو، لَا يدل على لُزُوم الِاجْتِمَاع. قَوْله: (أَن أرجعه) يتَعَلَّق بقوله: (انتدب) ، وَأَن مَصْدَرِيَّة، وَأَصلهَا: بِأَن أرجعه، أَي: يرجعه، وَالْبَاء فِي: بِمَا نَالَ، يتَعَلَّق بِهِ، وَمَا، مَوْصُولَة، و: نَالَ، صلتها والعائد مَحْذُوف أَي: بِمَا ناله. قَوْله: (من) للْبَيَان، قَوْله: (أَو غنيمَة) أَو: هَهُنَا لِامْتِنَاع الْخُلُو مِنْهُمَا مَعَ إِمْكَان الْجمع بَينهمَا أَعنِي: أَن اللَّفْظ لَا يَنْفِي اجْتِمَاعهمَا، بل يثبت أَحدهمَا مَعَ جَوَاز ثُبُوت الآخر، فقد يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: مَعْنَاهُ أَن أرجعه بِمَا نَالَ من أجر مُجَرّد وَإِن لم يكن غنيمَة، أَو أجر وغنيمة إِذا كَانَت، فَاكْتفى بِذكر الْأجر أَولا عَن تكراره، أَو أَن: أَو، هَهُنَا بِمَعْنى الْوَاو، كَمَا جَاءَ فِي مُسلم من رِوَايَة يحيى بن يحيى، وَفِي سنَن أبي دَاوُد: من أجر وغنيمة بِغَيْر ألف. وَقد قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} (النِّسَاء: 11 و 12) مَعْنَاهُ: وَدين، وَقيل: من وَصِيَّة وَدين، أَو دين دون وَصِيَّة. قَوْله: (أَو أدخلهُ) بِالنّصب عطفا على قَوْله: (أَن أرجعه) . قَوْله: (لَوْلَا) هِيَ الامتناعية لَا التحضيضية، وَأَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع(1/230)
على الِابْتِدَاء، وَالتَّقْدِير: لَوْلَا الْمَشَقَّة، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِفعل مَحْذُوف، أَي: لَوْلَا ثَبت أَن أشق، وَقَوله: أشق مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (مَا قعدت) جَوَاب لَوْلَا، وَأَصله: لما قعدت، فحذفت اللَّام مِنْهُ. وَقَوله: (خلف) نصب على الظَّرْفِيَّة، وَسبب الْمَشَقَّة صعوبة تخلفهم بعده، وَلَا يقدرُونَ على الْمسير مَعَه لضيق حَالهم، وَلَا قدرَة لَهُ على حملهمْ، كَمَا جَاءَ مُبينًا فِي حَدِيث آخر، حَيْثُ قَالَ: (فَإِنَّهُ يشق عَلَيْهِم التَّخَلُّف بعده، وَلَا تطيب أنفسهم بذلك) . قَوْله: (ولوددت) اللَّام للتَّأْكِيد، وَهُوَ عطف على قَوْله: مَا قعدت، وَيجوز أَن تكون اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف أَي: وَالله لَوَدِدْت أَي: أَحْبَبْت. قَوْله: (أَن أقتل) فِي مَحل النصب على المفعولية، وَأَن، مَصْدَرِيَّة، أَي: الْقَتْل، والهمزة فِي الْمَوَاضِع الْخَمْسَة مَضْمُومَة. قَوْله: (ثمَّ أحيى) أَي: ثمَّ أَن أحيى، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي الْبَوَاقِي.
{بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إلاَّ إِيمَان بِي وتصديق برسلي) : يُرِيد خلوص نِيَّته لذَلِك، وَفِيه الْتِفَات، وَهُوَ الْعُدُول من الْغَيْبَة، إِلَى ضمير الْمُتَكَلّم، والسياق كَانَ يَقْتَضِي أَن يَقُول: إِلَّا إِيمَان بِهِ. قَوْله: (أَن أرجعه) فِيهِ حذف أَي: إِلَى مَسْكَنه. قَوْله: (بِمَا نَالَ) فِيهِ اسْتِعْمَال الْمَاضِي مَوضِع الْمُضَارع لتحَقّق وعد الله تَعَالَى. قَوْله: (ثمَّ أحيى) كلمة ثمَّ، وَإِن كَانَت تدل على التَّرَاخِي فِي الزَّمَان، وَلكنهَا هَهُنَا حملت على التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَة، لِأَن المتمنى حُصُول مرتبَة بعد مرتبَة إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الفردوس الْأَعْلَى.
استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: فضل الْجِهَاد وَالشَّهَادَة فِي سَبِيل الله. وَفِيه: تمني الشَّهَادَة وتعظيم أجرهَا. وَفِيه: تمني الْخَيْر وَالنِّيَّة فَوق مَا لَا يُطيق الْإِنْسَان وَمَا لَا يُمكنهُ إِذا قدر لَهُ، وَهُوَ أحد التَّأْويلَيْنِ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِيَّة الْمُؤمن أبلغ من عمله) وَفِيه: بَيَان شدَّة شَفَقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أمته ورأفته بهم. وَفِيه: اسْتِحْبَاب طلب الْقَتْل فِي سَبِيل الله. وَفِيه: جَوَاز قَول الْإِنْسَان: وددت حُصُول كَذَا من الْخَيْر الَّذِي يعلم أَنه لَا يحصل. وَفِيه: إِذا تعَارض مصلحتان بدىء بأهمهما، وَأَنه يتْرك بعض الْمصَالح لمصْلحَة أرجح مِنْهَا، أَو لخوف مفْسدَة تزيد عَلَيْهَا. وَفِيه: إِن الْجِهَاد فرض كِفَايَة لَا فرض عين. وَفِيه: السَّعْي فِي زَوَال الْمَكْرُوه وَالْمَشَقَّة عَن الْمُسلمين. وَفِيه: إِن من خرج فِي قتال الْبُغَاة وَفِي إِقَامَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَنَحْو ذَلِك يدْخل فِي قَوْله: (فِي سَبِيل الله) وَإِن كَانَ ظَاهره فِي قتال الْكفَّار.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: جَمِيع الْمُؤمنِينَ يدخلهم الله تَعَالَى الْجنَّة، فَمَا وَجه اختصاصهم بذلك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يدْخلهُ بعد مَوته، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} (آل عمرَان: 169) وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: الدُّخُول عِنْد دُخُول السَّابِقين والمقربين بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب، وَلَا مُؤَاخذَة بذنوب، وَتَكون الشَّهَادَة مكفرة لَهَا كَمَا رُوِيَ من قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْقَتْل فِي سَبِيل الله يكفر كل شَيْء إِلَّا الدّين) . رَوَاهُ مُسلم. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْمُجَاهِد لَهُ حالتان: الشَّهَادَة والسلامة، فالجنة للحالة الأولى، وَالْأَجْر وَالْغنيمَة للثَّانِيَة وَلَفظه: أَو فِي قَوْله: أَو غنيمَة، تدل على أَن للسالم، إِمَّا الْأجر، وَإِمَّا الْغَنِيمَة لَا كِلَاهُمَا؟ وَأجِيب: بِأَن معنى: أَو، لِامْتِنَاع الْخُلُو عَنْهُمَا مَعَ إِمْكَان الْجمع بَينهمَا. وَمِنْهَا مَا قيل: هَهُنَا حَالَة ثَالِثَة للسالم وَهُوَ: الْأجر بِدُونِ الْغَنِيمَة. وَأجِيب: بِأَن هَذِه الْحَالة دَاخِلَة تَحت الْحَالة الثَّانِيَة إِذْ هِيَ أَعم من الْأجر فَقَط، أَو مِنْهُ مَعَ الْغَنِيمَة. وَمِنْهَا مَا قيل: الْأجر ثَابت للشهيد الدَّاخِل فِي الْجنَّة، فَكيف يكون السَّالِم والشهيد مقترنين فِي أَن لأَحَدهمَا الْأجر وَللْآخر الْجنَّة، مَعَ أَن الْجنَّة أَيْضا أجر؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا أجر خَاص، وَالْجنَّة أجر أَعلَى مِنْهُ، فهما متغايران. أَو أَن الْقسمَيْنِ هما الرجع والإدخال، لَا الْأجر وَالْجنَّة. وَمعنى الحَدِيث: إِن الله تَعَالَى ضمن أَن الْخَارِج للْجِهَاد ينَال خيرا بِكُل حَال، فإمَّا أَن يستشهد فَيدْخل الْجنَّة، وَإِمَّا أَن يرجع بِأَجْر فَقَط، وَإِمَّا بِأَجْر وغنيمة. وَمِنْهَا مَا قيل: بِمَاذَا هَذَا الضَّمَان؟ وَأجِيب: بِمَا سبق فِي علمه، وَمَا ذكره فِي كِتَابه بقوله: {إِن الله اشْترى} (التَّوْبَة: 111) الْآيَة: وَمِنْهَا مَا قيل: لَا مشقة على الْأمة فِي ودادة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن غَايَة مَا فِي الْبَاب وجود الْمُتَابَعَة فِي الودادة، وَلَيْسَ فِيهَا مشقة. وَأجِيب: بِأَنا لَا نسلم عدم الْمَشَقَّة، وَلَئِن سلمنَا فَرُبمَا ينجر إِلَى تشييع مودوده، فَيصير سَببا للْمَشَقَّة. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْفِرَار إِنَّمَا هُوَ على حَالَة الْحَيَاة. فَلم جعل النِّهَايَة هِيَ الْقَتْل؟ وَأجِيب: بِأَن المُرَاد هُوَ الشَّهَادَة، فختم الْحَال عَلَيْهَا، أَو أَن الْإِحْيَاء للجزاء وَهُوَ مَعْلُوم شرعا، فَلَا حَاجَة إِلَى ودادته، لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ الْوُقُوع. فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَن لَا يتَمَنَّى الْمعْصِيَة أصلا، لَا لنَفسِهِ وَلَا لغيره، فَكيف تمناه؟ لِأَن حَاصله أَنه تمنى أَن يُمكن فِيهِ كَافِر فيعصى فِيهِ؟ وَأجِيب: بِأَن الْمعْصِيَة لَيست مَقْصُودَة بالتمني، إِنَّمَا المتمنى الْحَالة الرفيعة وَهِي الشَّهَادَة، وَتلك تحصل تبعا. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بِمَا نَالَ من أجر أَو غنيمَة) يُعَارضهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّحِيح: (مَا من غَازِيَة أَو سَرِيَّة تغزو فتغنم وتسلم، إلاَّ كَانُوا(1/231)
قد تعجلوا ثُلثي أجرهم، وَمَا من غَازِيَة أَو سَرِيَّة تخفق فتصاب إِلَّا تمّ أُجُورهم) . والإخفاق أَن تغزو وَلَا تغتنم شَيْئا وَلَا يَصح أَن ينقص الْغَنِيمَة من أجرهم، كَمَا لم تنقص أهل بدر، وَكَانُوا أفضل الْمُجَاهدين. وَأجِيب: بأجوبة. الأول: الطعْن فِي هَذَا الحَدِيث، فَإِن فِي إِسْنَاده: حميد بن هَانِيء، وَلَيْسَ بالمشهور، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ أخرج لَهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَقَالَ يحيى بن سعيد: حدث عَنهُ الْأَئِمَّة، وَأَحَادِيثه كَثِيرَة مُسْتَقِيمَة. الثَّانِي: إِن الَّذِي يخْفق يزْدَاد بِالْأَجْرِ، والأسف على مَا فاتها من الْمغنم، ويضاعف لَهَا كَمَا يُضَاعف لمن أُصِيب بأَهْله وَمَاله. الثَّالِث: أَن يحمل الأول على من أخْلص فِي نِيَّته لقَوْله: (لَا يُخرجهُ إلاَّ جِهَاد فِي سبيلي) وَيحمل الحَدِيث الثَّانِي على من خرج بنية الْجِهَاد والمغنم، فَهَذَا شرك بِمَا يجوز فِيهِ التَّشْرِيك، وانقسمت نِيَّته بَين الْوَجْهَيْنِ فنقص أجره، وَالْأول خَاص فكمل أجره. وَنفى النَّوَوِيّ التَّعَارُض لِأَن الْغُزَاة إِذا سلمُوا وغنموا تكون أُجُورهم أقل من أجر من لم يسلم، أَو سلم وَلم يغنم، وَأَن الْغَنِيمَة فِي مُقَابلَة جُزْء من أجر غزوهم، فَإِذا حصلت فقد تعجلوا ثُلثي أجرهم. وَقَالَ القَاضِي: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ، بِمَا نَالَ من أجر وغنيمة، مُطلق لِأَنَّهُ لم يقل فِيهِ: إِن الْغَنِيمَة تنقص الْأجر، والْحَدِيث الثَّانِي مُقَيّد، وَأما استدلالهم بغزوة بدر فَلَيْسَ فِيهِ أَنهم لَو لم يغنموا لَكَانَ أجرهم على قدر أجرهم مَعَ الْغَنِيمَة، وكونهم مغفورا مرضيا عَنْهُم لَا يلْزم مِنْهُم أَن لَا يكون فَوْقه مرتبَة أُخْرَى هِيَ أفضل.
27 - (بابٌ تَطَوُّعُ قِيام رَمَضَانَ مِنَ الْإِيمَان)
أَي: هَذَا بَاب. قَوْله: (تطوع) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ مُضَاف إِلَى مَا بعده، وَخَبره قَوْله: (من الْإِيمَان) ، وَفِي بعض النّسخ: بَاب تطوع قيام شهر رَمَضَان. والتطوع: تفعل، وَمَعْنَاهُ: التَّكَلُّف بِالطَّاعَةِ والتطوع بالشَّيْء: التَّبَرُّع بِهِ. وَفِي الِاصْطِلَاح: التَّنَفُّل، وَالْمرَاد من الْقيام هُوَ الْقيام بِالطَّاعَةِ فِي لياليه، وَقد ذكرنَا وَجه تخَلّل بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان بَين هَذَا الْبَاب وَبَاب قيام لَيْلَة الْقدر من الْإِيمَان. ورمضان فِي الأَصْل مصدر: رمض إِذا احْتَرَقَ من الرمضاء، ثمَّ جعل هَذَا علما لهَذَا الشَّهْر، وَمنع الصّرْف: للتعريف وَالْألف وَالنُّون، وَلما نقلوا أَسمَاء الشُّهُور عَن اللُّغَة الْقَدِيمَة سَموهَا بالأزمنة الَّتِي وَقعت فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْر أَيَّام رمض الْحر.
37 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثني مَالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ حُمَيْدٍ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.
(رَاجع الحَدِيث رقم 35) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن مُبَاشرَة الْعَمَل الَّذِي فِيهِ غفران مَا تقدم من الذُّنُوب شُعْبَة من شعب الْإِيمَان، وَالتَّقْدِير فِي الْبَاب: بَاب تطوع قيام رَمَضَان شُعْبَة من شعب الْإِيمَان.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أويس الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت شَيْخه الإِمَام مَالك. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، أَبُو إِبْرَاهِيم، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال: أَبُو عُثْمَان الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي، وَأمه أُخْت عُثْمَان بن عَفَّان، أول الْمُهَاجِرَات من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، قلت: اسْمهَا أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط، أُخْت عُثْمَان لأمه، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الْعلم، وَفِي غير مَوضِع عَن الزُّهْرِيّ وَسعد بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي مليكَة عَنهُ، عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد ومَيْمُونَة، وَأخرج لَهُ أَيْضا عَن عُثْمَان وَسَعِيد بن زيد وَغَيرهمَا، سمع جمعا من كبار الصَّحَابَة مِنْهُم أَبَوَاهُ وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعنهُ الزُّهْرِيّ وخلائق من التَّابِعين وَثَّقَهُ أَبُو زرْعَة وَغَيره، وَكَانَ كثير الحَدِيث، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين بِالْمَدِينَةِ عَن ثَلَاث وَسبعين سنة، وَقيل: سنة خمس وَمِائَة وَهُوَ غلط. وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا قد أخرجَا لحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الْفَقِيه، وَلَا يلتبس بِهَذَا، وَإِن رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة أَيْضا وَغَيرهمَا فاعلمه. وَمَا قلت من إِخْرَاج البُخَارِيّ لهَذَا جزم بِهِ الكلاباذي فِي كِتَابه، والمزي فِي (تهذيبه) ، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه عَن الْحَاكِم، والْحميدِي، وَصَاحب الْجمع وَعبد الْغَنِيّ وَغَيرهم أَنهم قَالُوا: لم يخرج لَهُ شَيْئا، وَلم يخرج(1/232)
مُسلم فِي صَحِيحه عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ غير حَدِيث: (أفضل الصّيام بعد رَمَضَان) الحَدِيث ... فَقَط، وَمَا عداهُ فَهُوَ من رِوَايَة ابْن عَوْف، قَالَ: وَقد غلطوا الكلاباذي فِي دَعْوَاهُ: إِخْرَاج البُخَارِيّ لَهُ ووهموه، قَالَ: وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَنه لم يذكرهُ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي من رِوَايَة البُخَارِيّ وَلما ذكر النَّوَوِيّ فِي شَرحه لمُسلم حَدِيثه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: اعْلَم أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي عَنهُ اثْنَان كل مِنْهُمَا حميد بن عبد الرَّحْمَن: أَحدهمَا هَذَا الْحِمْيَرِي، وَالثَّانِي الزُّهْرِيّ. قَالَ الْحميدِي فِي جمعه: كل مَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة فَهُوَ الزُّهْرِيّ إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث خَاصَّة، فَإِن رَاوِيه عَن أبي هُرَيْرَة الْحِمْيَرِي، وَهَذَا الحَدِيث لم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه. قَالَ: وَلَا ذكر الْحِمْيَرِي فِي البُخَارِيّ أصلا، وَلَا فِي مُسلم إلاَّ هَذَا الحَدِيث قلت: دَعْوَاهُ أَن البُخَارِيّ لم يذكرهُ فِي صَحِيحه قد علمت مَا فِيهِ، وَقَوله: وَلَا فِي مُسلم إلاَّ هَذَا الحَدِيث، لَيْسَ بجيد، فقد ذكره مُسلم فِي ثَلَاثَة أَحَادِيث. أَحدهَا: أول الْكتاب حَدِيث ابْن عمر فِي الْقدر عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن يحيى بن يعمر وَحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي قَالَا: لَقينَا ابْن عمر وَذكر الحَدِيث. الثَّانِي: فِي الْوَصَايَا عَن عَمْرو بن سعيد عَن حميد الْحِمْيَرِي عَن ثَلَاثَة من ولد سعد أَن سَعْدا، فَذكره. الثَّالِث: فِيهَا عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَعَن رجل آخر هُوَ فِي نَفسِي أفضل من عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، ثمَّ سَاقه من حَدِيث قُرَّة قَالَ: وسمى الرجل: حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي بكرَة: (خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر فَقَالَ؛ أَي يَوْم هَذَا؟) الحَدِيث.
فَائِدَة:
روى مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن أَن عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يصليان الْمغرب فِي رَمَضَان، ثمَّ يفطران. وَرَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد قَالَ: رَأَيْت عمر وَعُثْمَان فَذكره قَالَ الْوَاقِدِيّ: حميد لم يسمع من عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلَا رَآهُ، وسنه وَمَوته يدلان على ذَلِك، وَلَعَلَّه سمع من عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، لِأَنَّهُ كَانَ خَاله لأمه، لِأَن أم مَكْتُوم أُخْت عُثْمَان، وَكَانَ يدْخل على عُثْمَان كَمَا يدْخل وَلَده.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصّيام. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه والموطأ وَآخَرُونَ.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (من) ، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (غفر لَهُ) ، وهما الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَمعنى من قَامَ رَمَضَان: من قَامَ بِالطَّاعَةِ فِي ليَالِي رَمَضَان، وَيُقَال: يُرِيد صَلَاة التَّرَاوِيح، وَقَالَ بَعضهم: لَا يخْتَص ذَلِك بِصَلَاة التَّرَاوِيح بل فِي أَي وَقت صلى تَطَوّعا حصل لَهُ ذَلِك الْفضل، وَاتفقَ الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب التَّرَاوِيح، وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل. فَقَالَ الشَّافِعِي وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَابْن عبد الحكم من أَصْحَاب مَالك: أَن حضورهما فِي الْجَمَاعَة فِي الْمَسَاجِد أفضل، كَمَا فعله عمر بن الْخطاب وَالصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَاسْتمرّ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف والطَّحَاوِي وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: الْإِفْرَاد بهَا فِي الْبيُوت أفضل، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة) . قَوْله: (إِيمَانًا واحتسابا) منصوبان على الحالية على تَأْوِيل مُؤمنا ومحتسبا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: قيام لَيْلَة الْقدر من الْإِيمَان، أَي: مُصدقا ومريدا بِهِ وَجه الله تَعَالَى بخلوص النِّيَّة.
استباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ حجَّة لمن جوز قَول رَمَضَان بِغَيْر إِضَافَة شهر إِلَيْهِ، وَهُوَ الصَّوَاب، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِي بَابه. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على غفران مَا تقدم من الذُّنُوب بِقِيَام رَمَضَان: وَدلّ الحَدِيث الْمَاضِي على غفرانها بِقِيَام لَيْلَة الْقدر، ولاتعارض بَينهمَا، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح للتكفير، وَقد يقْتَصر الشَّخْص على قيام لَيْلَة الْقدر بِتَوْفِيق الله لَهُ فَيحصل ذَلِك. الثَّالِث: ظَاهر الحَدِيث غفران الصَّغَائِر والكبائر، وَفضل الله وَاسع، وَلَكِن الْمَشْهُور من مَذَاهِب الْعلمَاء فِي هَذَا الحَدِيث وَشبهه كَحَدِيث غفران الْخَطَايَا بِالْوضُوءِ، وبصوم يَوْم عَرَفَة، وَيَوْم عَاشُورَاء وَنَحْوه أَن المُرَاد غفران(1/233)
الصَّغَائِر فَقَط، كَمَا فِي حَدِيث الْوضُوء: مَا لم يُؤْت كَبِيرَة مَا اجْتنبت الْكَبَائِر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي التَّخْصِيص نظر، لَكِن أَجمعُوا على أَن الْكَبَائِر لَا تسْقط إلاَّ بِالتَّوْبَةِ، أَو بِالْحَدِّ. فَإِن قيل: قد ثَبت فِي الصَّحِيح هَذَا الحَدِيث فِي قيام رَمَضَان، وَالْآخر فِي صِيَامه، وَالْآخر فِي قيام لَيْلَة الْقدر، وَالْآخر فِي صَوْم عَرَفَة: أَنه كَفَّارَة سنتَيْن، وَفِي عَاشُورَاء أَنه كَفَّارَة سنة، وَالْآخر: رَمَضَان إِلَى رَمَضَان كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْعمْرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَالْآخر: إِذا تَوَضَّأ خرجت خَطَايَا فِيهِ إِلَى آخِره، وَالْآخر: مثل الصَّلَوَات الْخمس كَمثل نهر ... إِلَى آخِره، وَالْآخر: من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ... وَنَحْو ذَلِك، فَكيف الْجمع بَينهَا؟ أُجِيب: إِن المُرَاد أَن كل وَاحِد من هَذِه الْخِصَال صَالِحَة لتكفير الصَّغَائِر، فَإِن صادفها كفرتها، وَإِن لم يصادفها فَإِن كَانَ فاعلها سليما من الصَّغَائِر لكَونه صَغِيرا غير مُكَلّف، أَو موفقا لم يعْمل صَغِيرَة، أَو عَملهَا وَتَابَ، أَو فعلهَا وعقبها بحسنة أذهبتها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} (هود: 114) فَهَذَا يكْتب لَهُ بهَا حَسَنَات، وَيرْفَع لَهُ بهَا دَرَجَات. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: ويرجى أَن يُخَفف بعض الْكَبِيرَة أَو الْكَبَائِر.
28 - (بابٌ صَوْمُ رَمَضانَ احْتِسابا مِنَ الإيمانِ)
أَي: هَذَا بَاب، قَوْله: (صَوْم رَمَضَان) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: قَوْله: (من الْإِيمَان) . قَوْله: (احتسابا) حَال بِمَعْنى: محتسبا، أَو مفعول لَهُ، أَو تَمْيِيز، وَفِيه نظر، وَإِنَّمَا لم يقل: إِيمَانًا واحتسابا، إِمَّا لِأَنَّهُ لما كَانَ حسبَة لله تَعَالَى خَالِصا لَهُ لَا يكون إلاَّ للْإيمَان، وَإِمَّا لِأَنَّهُ اخْتَصَرَهُ بِذكرِهِ، إِذْ الْعَادة الِاخْتِصَار فِي التراجم والعناوين؛ وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر.
38 - حدّثنا ابنُ سَلاَمٍ قَالَ أخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بُن فُضَيْلٍ قَالَ حدّثنا يحْيَى بنُ سَعيدٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَن صامَ رَمَضانَ إِيمَانًا واحْتِسابا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
(رَاجع الحَدِيث رقم 35) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن سَالم البيكندي، وَالصَّحِيح تَخْفيف لامه، وَقد مر ذكره. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل، بِضَم الْفَاء وَفتح الْمُعْجَمَة، ابْن غَزوَان بن جرير الضَّبِّيّ، مَوْلَاهُم الْكُوفِي، سمع السبيعِي وَالْأَعْمَش وَغَيرهمَا من التَّابِعين، وَعنهُ الثَّوْريّ وَأحمد وَخلق من الْأَعْيَان، قَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق من أهل الْعلم، مَاتَ سنة تسع وَخمسين وَمِائَة. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
وَقد مر الْكَلَام فِي أَلْفَاظه عَن قريب. وَمعنى من صَامَ رَمَضَان أَي: فِي رَمَضَان، أَي: شهر رَمَضَان. فَإِن قيل: هَل يَكْفِي أقل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ إسم الصَّوْم حَتَّى لَو صَامَ يَوْمًا وَاحِدًا دخل الْجنَّة؟ قلت: إِنَّه لَا يُقَال فِي الْعرف صَامَ رَمَضَان إِلَّا إِذا صَامَ كُله، والسياق ظَاهر فِيهِ. فَإِن قيل: الْمَعْذُور كَالْمَرِيضِ إِذا ترك الصَّوْم فِيهِ، وَلَو لم يكن مَرِيضا لَكَانَ صَائِما، وَكَانَ نِيَّته الصَّوْم لَوْلَا الْعذر هَل يدْخل تَحت هَذَا الحكم؟ . الْجَواب: نعم، كَمَا أَن الْمَرِيض إِذا صلى قَاعِدا لعذر لَهُ ثَوَاب صَلَاة الْقَائِم. قَالَه الْعلمَاء. فَإِن قيل: كل من اللَّفْظَيْنِ وهما: إِيمَانًا واحتسابا، يُغني عَن الآخر، إِذْ الْمُؤمن لَا يكون إلاَّ محتسبا، والمحتسب لَا يكون إلاَّ مُؤمنا، فَهَل لغير التَّأْكِيد فِيهِ فَائِدَة أم لَا؟ الْجَواب: الْمُصدق لشَيْء رُبمَا لَا يَفْعَله مخلصا بل للرياء وَنَحْوه، والمخلص فِي الْفِعْل رُبمَا لَا يكون مُصدقا بثوابه وبكونه طَاعَة مَأْمُورا بِهِ سَببا للمغفرة وَنَحْوه، أَو الْفَائِدَة هُوَ التَّأْكِيد، ونعمت الْفَائِدَة.
29 - (بابٌ الدِّينُ يُسْرٌ)
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه. الأول: أَن لَفْظَة: بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة، أَعنِي: قَوْله: (الدّين يسر) فَإِن قَوْله: الدّين، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ و: يسر، خَبره. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ وجود معنى الْيُسْر فِي صَوْم رَمَضَان، وَذَلِكَ أَن صَوْم رَمَضَان يجوز تَأْخِيره عَن وقته للْمُسَافِر وَالْمَرِيض، بِخِلَاف الصَّلَاة، وَيجوز تَركه بِالْكُلِّيَّةِ فِي حق الشَّيْخ الفاني مَعَ إِعْطَاء الْفِدْيَة، بِخِلَاف الصَّلَاة، وَهَذَا عين الْيُسْر، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ شهر وَاحِد فِي كل اثْنَي عشر شهرا، وَالصَّلَاة فِي كل يَوْم(1/234)
وَلَيْلَة خمس مَرَّات، وَهَذَا أَيْضا عين الْيُسْر. الثَّالِث: قَوْله: (يسر) ، أَي: ذُو يسر، وَذَلِكَ لِأَن الالتئام بَين الْمَوْضُوع والمحمول شَرط، وَفِي مثل هَذَا لَا يكون إلاَّ بالتأويل، أَو الدّين يسر أَي: عينه على سَبِيل الْمُبَالغَة، فَكَأَنَّهُ لشدَّة الْيُسْر وكثرته نفس الْيُسْر، كَمَا يُقَال: أَبُو حنيفَة فقه، لِكَثْرَة فقهه، كَأَنَّهُ صَار عين الْفِقْه، وَمِنْه: رجل عدل. واليسر، بِضَم السِّين وسكونها: نقيض الْعسر، وَمَعْنَاهُ: التَّخْفِيف، ثمَّ كَون هَذَا الدّين يسرا يجوز أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاته، وَيجوز أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر الْأَدْيَان، وَهُوَ الظَّاهِر، لِأَن الله تَعَالَى رفع عَن هَذِه الْأمة الإصر الَّذِي كَانَ على من قبلهم، كَعَدم جَوَاز الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، وَعدم الطَّهَارَة بِالتُّرَابِ، وَقطع الثَّوْب الَّذِي يُصِيبهُ النَّجَاسَة، وَقبُول التَّوْبَة بقتل أنفسهم وَنَحْو ذَلِك. فَإِن الله تَعَالَى من لطفه وَكَرمه رفع هَذَا عَن هَذِه الْأمة رَحْمَة لَهُم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} (الْحَج: 78) فَإِن قلت: مَا الْألف وَاللَّام فِي الدّين؟ قلت: للْعهد، وَهُوَ دين الْإِسْلَام. وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد أَن إسم الدّين وَاقع على الْأَعْمَال لقَوْله: (الدّين يسر) ، ثمَّ بَين جِهَة الْيُسْر فِي الحَدِيث بقوله: (سددوا) ، وَكلهَا أَعمال، واليسر: اللين والانقياد، فالدين الَّذِي يُوصف باليسر والشدة إِنَّمَا هِيَ الْأَعْمَال.
وقَولُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفيَّةُ السَّمْحَةُ
ف (قَول) مجرور لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الَّذِي أضيف إِلَيْهِ الْبَاب، فالمضاف إِلَيْهِ مجرور، والمعطوف عَلَيْهِ كَذَلِك، وَالتَّقْدِير: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا اسْتعْمل هَذَا فِي التَّرْجَمَة لوَجْهَيْنِ. أَحدهمَا: لكَونهَا متقاصرة عَن شَرطه، أخرجه هَهُنَا مُعَلّقا وَلم يسْندهُ فِي هَذَا الْكتاب، وَإِنَّمَا أخرجه مَوْصُولا فِي كتاب الْأَدَب الْمُفْرد. وَالْآخر: لدلَالَة مَعْنَاهُ على معنى التَّرْجَمَة، وَأخرجه أحمدبن حَنْبَل وَغَيره مَوْصُولا من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن دَاوُد بن الْحصين عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِسْنَاده حسن، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن أبي عَاتِكَة عَن عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة بِنَحْوِهِ، وَمن حَدِيث عفير بن معدان عَن سليم بن عَامر عَنهُ، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي مُسْنده، وطرق هَذَا عَن سَبْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم. قَوْله: (أحب الدّين) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ بِمَعْنى: المحبوبة، لَا بِمَعْنى: الْمُحب، وَخَبره قَوْله (الحنيفية) وَالْمرَاد: الْملَّة الحنيفية، فَإِن قيل: التطابق بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر شَرط، والمبتدأ هَهُنَا مُذَكّر وَالْخَبَر مؤنث؟ قلت: كَأَن الحنيفية غلب عَلَيْهَا الإسمية حَتَّى صَارَت علما، أَو أَن أفعل التَّفْضِيل الْمُضَاف لقصد الزِّيَادَة على من أضيف إِلَيْهِ يجوز فِيهِ الْإِفْرَاد والمطابقة لمن هُوَ لَهُ. فَإِن قلت: فَيلْزم أَن تكون الْملَّة دينا، وَأَن تكون سَائِر الْأَدْيَان أَيْضا محبوبا إِلَى الله تَعَالَى، وهما باطلان، إِذْ الْمَفْهُوم من الْملَّة غير الْمَفْهُوم من الدّين، وَسَائِر الْأَدْيَان مَنْسُوخَة. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: اللَّازِم الأول قد يلْتَزم، وَأما الثَّانِي فموقوف على تَفْسِير الْمحبَّة، أَو المُرَاد بِالدّينِ الطَّاعَة، أَي: أحب الطَّاعَات هِيَ السمحة. قلت: لَا يَخْلُو الْألف وَاللَّام فِي الدّين أَن يكون للْجِنْس أَو للْعهد، فَإِن كَانَ للْجِنْس فَالْمَعْنى: أحب الْأَدْيَان إِلَى الله الحنيفية، وَالْمرَاد بالأديان الشَّرَائِع الْمَاضِيَة قبل أَن تبدل وتنسخ، وَإِن كَانَ للْعهد فَالْمَعْنى: أحب الدّين الْمَعْهُود، وهودين الْإِسْلَام، وَلَكِن التَّقْدِير: أحب خِصَال الدّين، وخصال الدّين كلهَا محبوبة، وَلَكِن مَا كَانَ مِنْهَا سَمحا سهلاً فَهُوَ أحب إِلَى الله تَعَالَى، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أَعْرَابِي لم يسمع، أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (خير دينكُمْ أيسره) وَالْمرَاد بالملة الحنيفية: الْملَّة الإبراهيمية، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مقتبسا من قَوْله تَعَالَى: {مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} (الْبَقَرَة: 135، آل عمرَان: 95، النِّسَاء: 125، الْأَنْعَام: 161، النَّحْل: 123) والحنيف عِنْد الْعَرَب من كَانَ على مِلَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ سموا من اختتن وَحج الْبَيْت: حَنِيفا، والحنيف: المائل عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَسمي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: حَنِيفا لِأَنَّهُ مَال عَن عبَادَة الْأَوْثَان. قَوْله: (السمحة) بِالرَّفْع صفة: الحنيفية، وَمَعْنَاهَا: السهلة، والمسامحة هِيَ: المساهلة، وَالْملَّة السمحة: الَّتِي لَا حرج فِيهَا وَلَا تضييق فِيهَا على النَّاس، وَهِي مِلَّة الْإِسْلَام.
39 - حدّثنا عبدُ السَّلاَمِ بنُ مُطَهِّرٍ قَالَ حدّثنا عُمَرُ بنُ عَلِيٍّ عَن مَعْنِ بنِ مُحَمَّدٍ الغِفَاريِّ عَن سَعِيدِ بن أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَن أبي هرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقارِبُوا وأبْشِرُوا واسْتَعِينُوا بالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ.
.(1/235)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَنه أَخذ جُزْء مِنْهُ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ، وَأما الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الحَدِيث الْمُعَلق فَهِيَ أَن الْمَذْكُور فِيهِ الْمحبَّة، فَهِيَ إِمَّا مجَاز عَن الِاسْتِحْسَان، يَعْنِي: أحسن الْأَدْيَان هُوَ الْملَّة الحنيفية، والْحَدِيث الْمسند دلّ على الْحسن، لِأَن فِيهِ أوَامِر، والمأمور بِهِ سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا حسن، وَإِمَّا حَقِيقَة عَن إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي الْمَأْمُور بِهِ وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا، إِذْ لَا ثَوَاب فِي غَيره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة الأول: عبد السَّلَام بن مطهر، بِصِيغَة الْمَفْعُول من التَّطْهِير بِالطَّاءِ الْمُهْملَة بن حسام بن مصك بن ظَالِم بن شَيْطَان، الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وكنيته: أَبُو ظفر، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء، روى عَن جمع من الْأَعْلَام مِنْهُم شُعْبَة، وروى عَنهُ الْأَعْلَام مِنْهُم البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَسُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: هُوَ صَدُوق، توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عمر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة، أَبُو حَفْص الْمقدمِي الْبَصْرِيّ، وَالِد عَاصِم وَمُحَمّد، وَهُوَ أَخُو أبي بكر، سمع جمعا من التَّابِعين مِنْهُم هِشَام بن عُرْوَة، وَعنهُ خلق من الْأَعْلَام مِنْهُم ابْنه عَاصِم وَعَمْرو بن عَليّ، وَكَانَ مدلسا، قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة وَكَانَ يُدَلس تدليسا شَدِيدا، يَقُول: سَمِعت وَحدثنَا، ثمَّ يسكت، ثمَّ يَقُول: هِشَام بن عُرْوَة الْأَعْمَش. وَقَالَ عَفَّان: كَانَ رجلا صَالحا، وَلم يَكُونُوا ينقمون عَلَيْهِ غير التَّدْلِيس، وَلم أكن أقبل مِنْهُ حَتَّى يَقُول: حَدثنَا، وَقَالَ البُخَارِيّ: قَالَ ابْنه عَاصِم: مَاتَ سنة تسعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: معن، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، ابْن مُحَمَّد بن معن بن نَضْلَة الْغِفَارِيّ الْحِجَازِي، سمع حميدا، وَعنهُ جمع مِنْهُم ابْن جريج، ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. الرَّابِع: سعيد بن أبي سعيد وَاسم أبي سعيد: كيسَان، المَقْبُري الْمدنِي، أَبُو سعد، بِسُكُون الْعين، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث وَلكنه كبر وَبَقِي حَتَّى اخْتَلَط قبل مَوته، وَقدم الشَّام مرابطا، وَحدث ببيروت. وَقَالَ غَيره: اخْتَلَط قبل مَوته بِأَرْبَع سِنِين، توفّي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْأَزْدِيّ: نِسْبَة إِلَى الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، يُقَال لَهُ: الأزد بالزاي، و: الْأسد، بِالسِّين. والمقدمي: بِضَم الْمِيم وَفتح الدَّال: نِسْبَة إِلَى مقدم أحد الأجداد، والغفاري، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة نِسْبَة إِلَى غفار بن مليل بن ضَمرَة بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة. والمقبري، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل بِفَتْحِهَا، نِسْبَة إِلَى: مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ مجاورا لَهَا، وَقيل: كَانَ منزله عِنْد الْمَقَابِر، وَهُوَ بِمَعْنى الأول، وَقيل: جعله عمر على حفر الْقُبُور، فَلذَلِك قيل لَهُ: المَقْبُري، حَكَاهُ الْحَرْبِيّ وَغَيره، وَيحْتَمل أَنه اجْتمع فِيهِ ذَلِك كُله: فَكَانَ على حفرهَا، ونازلاً عِنْدهَا، والمقبري صفة لأبي سعيد وَالِد سعيد الْمَذْكُور، وَكَانَ مكَاتبا لامْرَأَة من بني لَيْث بن بكر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة؛ وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مدنِي وبصري. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة مُدَلّس شَدِيد بعن، وَلكنه مَحْمُول على ثُبُوت سَمَاعه من جِهَة أُخْرَى، وكل مَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن المدلسين بعن، فَمَحْمُول على سماعهم من جِهَة أُخْرَى.
بَيَان نوع الحَدِيث: هُوَ أَمن أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم. فَإِن قلت: قد قيل: فِيهِ عِلَّتَانِ إِحْدَاهمَا: أَنه رِوَايَة مُدَلّس بالعنعنة. وَالْأُخْرَى: أَنه رِوَايَة معن عَن سعيد، وَسَعِيد كَانَ قد اخْتَلَط قلت: الْجَواب عَن الأول مَا ذكرته الْآن، مَعَ أَنه صرح بِالسَّمَاعِ من طَرِيق أُخْرَى، فقد رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من طَرِيق أَحْمد بن الْمِقْدَام، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، عَن عَمْرو بن عَليّ الْمَذْكُور، قَالَ: سَمِعت معن بن مُحَمَّد فَذكره، وَهُوَ من أَفْرَاد معن بن مُحَمَّد وَهُوَ مدنِي ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، لَكِن تَابعه على شقَّه الثَّانِي ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد، أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق بِمَعْنَاهُ، وَلَفظه: (سددوا وقاربوا) . وَزَاد فِي آخِره: (الْقَصْد الْقَصْد تبلغوا) وَلم يذكر شقَّه الأول، وَله شَوَاهِد مِنْهَا حَدِيث عُرْوَة الْفُقيْمِي، بِضَم الْفَاء وَفتح الْقَاف، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن دين الله يسر) رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن، وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة، أخرجه أَحْمد أَيْضا بِإِسْنَاد حسن. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْكُم هَديا قَاصِدا فَإِنَّهُ من يشاد هَذَا الدّين يغلبه) . وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: أَن سَماع معن عَن سعيد كَانَ قبل اخْتِلَاطه، وَلَو لم يَصح ذَلِك عِنْد البُخَارِيّ لما أودعهُ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ (صَحِيحا) . فَافْهَم.(1/236)
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ طرفا مِنْهُ فِي الرقَاق عَن آدم بن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: (لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله! قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وَشَيْء من الدلجة وَالْقَصْد تبلغوا) . وَأخرج النَّسَائِيّ أَيْضا مثل حَدِيث هَذَا الْبَاب.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (وَلنْ يشاد الدّين) من المشادة وَهِي: المغالبة من الشدَّة بالشين الْمُعْجَمَة، وَيُقَال: شاده يشاده مشادة: إِذا غالبه وقاواه، وَالْمعْنَى: لَا يتعمق أحدكُم فِي الدّين فَيتْرك الرِّفْق إلاَّ غلب الدّين عَلَيْهِ، وَعجز ذَلِك المتعمق وَانْقطع عَن عمله كُله أَو بعضه، وأصل لن يشاد: ويشادد، أدغمت الدَّال الأولى فِي الثَّانِيَة، وَمثل هَذِه الصِّيغَة مُشْتَرك بَين بِنَاء الْفَاعِل وَبِنَاء الْمَفْعُول، والفارق هُوَ الْقَرِينَة، وَهَهُنَا يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ على مَا يَجِيء عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (غَلبه) يُقَال: غَلبه يغلبه غلبا بِفَتْح الْغَيْن وَسُكُون اللَّام، وغلبا بتحريكها، وَغَلَبَة بإلحاق الْهَاء وغلابية مِثَال عَلَانيَة، وَغَلَبَة مِثَال حذقة، وغلبي بِضَمَّتَيْنِ، مُشَدّدَة الْبَاء مَقْصُورَة، ومغلبة؛ وَأما الغلب، بِضَم الْغَيْن فَهُوَ جمع غلباء، يُقَال: حديقة غلباء، وَحَدَائِق غلب، أَي: غِلَاظ ممتلئة. قَوْله: (فسددوا) من التسديد، بِالسِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ: التَّوْفِيق للصَّوَاب وَهُوَ السداد وَالْقَصْد من القَوْل وَالْعَمَل، وَرجل مُسَدّد إِذا كَانَ يعْمل بِالصَّوَابِ وَالْقَصْد، وَيُقَال: معنى سددوا الزموا السداد، أَي: الصَّوَاب من غير تَفْرِيط وَلَا إفراط. قَوْله: (وقاربوا) بِالْبَاء الْمُوَحدَة لَا بالنُّون، مَعْنَاهُ: لَا تبلغوا النِّهَايَة بل تقربُوا مِنْهَا، يُقَال: رجل مقارب بِكَسْر الرَّاء: وسط بَين الطَّرفَيْنِ. وَقَالَ التَّيْمِيّ: قاربوا إِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ: قاربوا فِي الْعِبَادَة وَلَا تباعدوا فِيهَا، فَإِنَّكُم إِن باعدتم فِي ذَلِك لم تبلغوه، وَإِمَّا أَن يكون مَعْنَاهُ ساعدوا. يُقَال: قاربت فلَانا إِذا ساعدته أَي: ليساعد بَعْضكُم بَعْضًا فِي الْأُمُور، وَيُقَال: مَعْنَاهُ إِن لم تستطيعوا الْأَخْذ بِالْكُلِّ فاعملوا مَا يقرب مِنْهُ. وَفِي (الْعباب) : قَارب فلَان فلَانا إِذا ناغاه بِكَلَام حسن، وَفِي حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (قاربوا وسددوا) أَي: لَا تغلوا واقصدوا السداد وَهُوَ الصَّوَاب، وَشَيْء مقارب، بِكَسْر الرَّاء، أَي: وسط بَين الْجيد والرديء، وَلَا يُقَال: مقارب يَعْنِي بِالْفَتْح، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ رخيصا. قَوْله: (وابشروا) بِقطع الْهمزَة من الإبشار أَي: أَبْشِرُوا بالثواب على الْعَمَل وَإِن قل، وَجَاء لُغَة: ابشروا، بِضَم الشين من الْبشرَة بِمَعْنى الإبشار. قَوْله: (وَاسْتَعِينُوا) . من الِاسْتِعَانَة، وَهُوَ طلب العون. قَوْله: (بالغدوة) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي، بِفَتْح الْغَيْن، وَتَبعهُ على هَذَا بعض الشَّارِحين، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ: وَهُوَ سير أول النَّهَار إِلَى الزَّوَال. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغدوة مَا بَين صَلَاة الْغَدَاة وطلوع الشَّمْس، والروحة، بِفَتْح الرَّاء، اسْم للْوَقْت من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل، وَفِي (الْمُحكم) : الغدوة البكرة، وَكَذَا الْغَدَاة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: أَتَيْته غدْوَة غير مصروفة لِأَنَّهَا معرفَة مثل: سحر، إلاَّ أَنَّهَا من الظروف المتمكنة. تَقول: سر على فرسك غدْوَة وغدوة وغدوة وغدوة، فَمَا نوّن من هَذَا فَهُوَ نكرَة، وَمَا لم ينون فَهُوَ معرفَة، وَالْجمع: غُدى، وَيُقَال: أَتَيْتُك غَدَاة غَد، وَالْجمع: غدوات انْتهى. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: غدية لُغَة فِي غدْوَة، كضحية لُغَة فِي ضحوة، والغدو جمع غدات نَادِر، وَغدا عَلَيْهِ غدوا وغدوانا، واغتد أبكر، وغاده باكره، وغدوة من يَوْم بِعَيْنِه غير منون: علم للْوَقْت. وَأما الرواح فَذكر ابْن سَيّده أَنه الْعشي، ورحنا رواحا وتروحنا: سرنا من ذَلِك الْوَقْت أَو عَملنَا. قَوْله: (من الدلجة) ، بِضَم الدَّال، وَإِسْكَان اللَّام، كَذَا الرِّوَايَة، وَيجوز فِي اللُّغَة فتحهَا، وَيُقَال بِفَتْح اللَّام أَيْضا، وَهِي بِالضَّمِّ سير آخر اللَّيْل، وبالفتح سير اللَّيْل، وادلج بِالتَّخْفِيفِ: سير اللَّيْل كُله، وبالتشديد سير آخر اللَّيْل، هَذَا هُوَ الْأَكْثَر. وَقيل: يُقَال فيهمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَقَالَ ابْن سَيّده: الدلجة سير السحر، والدلجة سير اللَّيْل كُله والدلج والدلجة، الْأَخِيرَة عَن ثَعْلَب: السَّاعَة من آخر اللَّيْل، وأدلجوا سَارُوا اللَّيْل كُله، وَقيل: الدلج اللَّيْل كُله من أَوله إِلَى آخِره، وَأي سَاعَة سرت من اللَّيْل من أَوله إِلَى آخِره فقد أدلجت، على مِثَال: أخرجت، والتفرقة بَين أدلجت وأدلجت قَول جَمِيع أهل اللُّغَة إلاَّ الْفَارِسِي، فَإِنَّهُ حكى: أدلجت وأدلجت لُغَتَانِ فِي الْمَعْنيين جَمِيعًا، وَفِي الْجَامِع: الدلجة والدلجة لُغَتَانِ بِمَعْنى، وهما سير السحر، وَقَالَ قوم: الدلجة سير السحر، والدلجة، بِالْفَتْح سير أول اللَّيْل، كِلَاهُمَا بِمَعْنى عِنْد أَكثر الْعَرَب، كَمَا تَقول: مَضَت بُرْهَة من الدَّهْر وبرهة وَتقول: أدْلج الرجل يدلج إدلاجا إِذا سَار من أول اللَّيْل، وأدلج إدلاجا سَار من آخِره، وَفِي (الجمهرة) : سَارُوا دُلجة من اللَّيْل أَي: سَاعَة، وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: وَالِاسْم الدلج، بِالتَّحْرِيكِ، وَجمع الدلجة: دلج، وَغلط ابْن درسْتوَيْه ثعلبا فِي تَخْصِيصه أدْلج، بِالتَّشْدِيدِ، بسير أول اللَّيْل، وادلج، بِالتَّخْفِيفِ، بسير آخِره؛ قَالَ: وإنهما عندنَا جَمِيعًا سير اللَّيْل فِي كل(1/237)
وَقت من أَوله وأوسطه وَآخره، وَهُوَ إفعال وافتعال من: الدلج والدلج: سير اللَّيْل بِمَنْزِلَة السرى، وَلَيْسَ وَاحِد من هذَيْن المثالين بِدَلِيل على شَيْء من الْأَوْقَات، وَلَو كَانَ الْمِثَال دَلِيلا على الْوَقْت لَكَانَ قَول الْقَائِل: الاستدلاج بِوَزْن الاستفعال، دَلِيلا لوقت آخر، وَكَانَ الاندلاج على الانفعال لوقت آخر، وَهَذَا كُله فَاسد، وَلَكِن الْأَمْثِلَة عِنْد جَمِيعهم مَوْضُوعَة لاخْتِلَاف مَعَاني الْأَفْعَال فِي أَنْفسهَا لَا لاخْتِلَاف أَوْقَاتهَا، وَأما وسط اللَّيْل وَآخره وأوله وسحره وَقبل النّوم وَبعده فمما لَا يدل عَلَيْهِ الْأَفْعَال وَلَا مصادرها، وَقد وَافق قَول كثير من أهل اللُّغَة فِي ذَلِك، وَاحْتَجُّوا على اخْتِصَاص الإدلاج بسير آخِره، بقول الْأَعْشَى:
(وادلاج بعد الْمَنَام وتهجير ... وقف وسبسب ورمال)
وَقَول زُهَيْر بن أبي سلمى:
(بكرن بكورا وادّلجن بسحرة ... فهن لوادي الرَّأْس كَالْيَدِ للفم)
فَلَمَّا قَالَ الْأَعْشَى: وادلاج بعد الْمَنَام، ظنُّوا أَن الادلاج لَا يكون إلاَّ بعد الْمَنَام، وَلما قَالَ زُهَيْر: وادلجن بسحرة ظنُّوا أَن الادلاج لَا يكون إِلَّا بسحرة، وَهَذَا وهم وَغلط، وَإِنَّمَا كل وَاحِد من الشاعرين وصف مَا فعله هُوَ وخصمه دون مَا فعله غَيره، وَلَوْلَا أَنه يكون بسحرة وَبِغير سحرة لما احْتَاجَ إِلَى ذكر سحرة، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الادلاج بسحرة وَبعد الْمَنَام فقد اسْتغنى عَن تَقْيِيده. قَالَ: وَمِمَّا يفْسد تأويلهم أَن الْعَرَب تسمي الْقُنْفُذ: مدلجا لِأَنَّهُ يدرج بِاللَّيْلِ ويتردد فِيهِ، لَا لِأَنَّهُ من حَيْثُ لَا يدرج إلاَّ فِي أول اللَّيْل أَو فِي وَسطه أَو فِي آخِره أَو فِيهِ كُله. لكنه يظْهر بِاللَّيْلِ فِي أَي أوقاته احْتَاجَ إِلَى الدرج لطلب علف أَو غير ذَلِك. انْتهى كَلَامه. وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن أَكثر اللغويين ذكرُوا الْفرق بَين اللَّفْظَيْنِ وَلم ينشدوا الْبَيْتَيْنِ، فَيحْتَمل أَن ذَلِك سَماع عِنْدهم، وَهُوَ الظَّاهِر، وَإِن كَانُوا أَخَذُوهُ عَن الْبَيْتَيْنِ فَمَا قَالَه ابْن درسْتوَيْه هُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهمَا دَلِيل على ذَلِك، وَأما قَوْله: إِن الْأَفْعَال تخْتَلف لاخْتِلَاف الْمعَانِي، مَعْنَاهُ أَن الْأَفْعَال هَل دخلت لِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ تَخْصِيص الْحَدث بِزَمَان فَقَط، أَو دخلت لهَذَا وَلغيره من الْمعَانِي، فَابْن درسْتوَيْه يزْعم أَنَّهَا مَا دخلت إلاَّ لهَذَا الْمَعْنى فَقَط. وَقَالَ الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان، رَحمَه الله: إِن الإستاذ أَبَا عَليّ الشلوبين وَغَيره خالفوه وَقَالُوا: الْأَفْعَال تخْتَلف ابنيتها لاخْتِلَاف الْمعَانِي على الْجُمْلَة، فالمعاني الَّتِي تخْتَلف لَهَا الْأَبْنِيَة لَيست بمقصورة على شَيْء من الْمعَانِي دون شَيْء، فَإِذا لم تكن مَقْصُورَة على شَيْء دون شَيْء من الْمعَانِي فَمَا الَّذِي يمْنَع أَن تكون الدّلَالَة إِذْ ذَاك على آخر الْوَقْت أَو أَوله أَو لوقت كُله؟ قلت: الحَدِيث يُؤَيّد قَول ابْن درسْتوَيْه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْكُم بالدلجة، فَإِن الأَرْض تطوى بِاللَّيْلِ) ، وَلم يفرق، عَلَيْهِ السَّلَام، بَين أَوله وَآخره، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، وَجعل الادلاج فِي السحر:
(اصبر على السّير والإدلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح على الْحَاجَات وَالْبكْر)
بَيَان الْأَعْرَاب: قَوْله: (إِن الدّين يسر) مُبْتَدأ وَخبر دخلت عَلَيْهَا: إِن، فَنصبت الْمُبْتَدَأ. قَوْله: (لن يشاد الدّين) كلمة: لن، حرف نفي وَنصب واستقبال. وَقَوله: (يشاد) مَنْصُوب بهَا وَلَيْسَ لَهُ فَاعل (وَالدّين) مَفْعُوله، قَالَ القَاضِي: رُوِيَ رفع الدّين ونصبه، وَهُوَ من الْأَحَادِيث الَّتِي سقط مِنْهَا شَيْء، يُرِيد أَنه سقط من هَذَا الحَدِيث لفظ أحد، فِي الرِّوَايَة. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) وَرَوَاهُ ابْن السكن بِزِيَادَة أحد، وعَلى هَذَا الدّين، مَنْصُوب، وَهُوَ ظَاهر. وَأما على رِوَايَة الْجُمْهُور فالرفع على مَا لم يسم فَاعله، وَالنّصب على إِضْمَار الْفَاعِل فِي: يشاد، للْعلم بِهِ. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : وَالرَّفْع هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْأَكْثَر فِي ضبط بِلَادنَا النصب، والتوفيق بَين كلاميهما بِأَن يحمل كَلَام (الْمطَالع) على رِوَايَة المغاربة، وَكَلَام النَّوَوِيّ على رِوَايَة المشارقة. قلت: وَفِي بعض الرِّوَايَة عَن الْأصيلِيّ بِإِظْهَار: أحد، لن يشاد الدّين أحد إلاَّ غَلبه، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي نعيم وَابْن حبَان والاسماعيلي وَغَيرهم. قلت: الأولى أَن يرفع: الدّين، على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، فحينئد يكون يشاد على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد قُلْنَا إِن هَذِه الصِّيغَة يَسْتَوِي فِيهَا بِنَاء الْمَعْلُوم والمجهول، لِأَن هَذَا من بَاب المفاعلة، وعلامة بِنَاء الْفَاعِل فِيهِ كسر مَا قبل آخِره، وعلامة بِنَاء الْمَفْعُول فِيهِ فتح مَا قبل آخِره، وَهَذَا لَا يظْهر فِي المدغم، وَلَا يفرق بَينهمَا إلاَّ بِالْقَرِينَةِ، فَافْهَم. قَوْله: (فسددوا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ: أَنْتُم، الْمُضمر فِيهِ، وَيُمكن أَن تكون: الْفَاء، جَوَاب شَرط مَحْذُوف، أَي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فسددوا،(1/238)
والجمل الَّتِي بعْدهَا معطوفات عَلَيْهَا، و: الْبَاء، فِي: بالغدوة، للاستعانة، وَالْمعْنَى: اسْتَعِينُوا على الْأَعْمَال بِهَذِهِ الْأَوْقَات المنشطة للْعَمَل. قَوْله: (وَشَيْء من الدلجة) : أَي: اسْتَعِينُوا بِشَيْء، أَي بِبَعْض من الدلجة، وَإِنَّمَا قَالَ: وَشَيْء من الدلجة، وَلم يقل: والدلجة، لمعنيين: أَحدهمَا: التَّنْبِيه على الخفة، لِأَن الدلجة تكون بِاللَّيْلِ، وَعمل اللَّيْل أشق من عمل النَّهَار، وَالْآخر: أَن الدلجة هُوَ سير اللَّيْل كُله عِنْد الْبَعْض، واستغراق اللَّيْل كُله صَعب، فَأَشَارَ بقوله: وَشَيْء إِلَى جُزْء يسير مِنْهُ.
بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان: قَوْله: (إِن الدّين يسر) فِيهِ: التَّأْكِيد بإن، ردا على مُنكر: يسر هَذَا الدّين، على تَقْدِير كَون الْمُخَاطب مُنْكرا، وإلاَّ فعلى تَقْدِير تَنْزِيله منزلَة الْمُنكر، وإلاَّ فعلى تَقْدِير المنكرين غير الْمُخَاطب، وإلاَّ فلكون الْقَضِيَّة مِمَّا يهتم بهَا. قَوْله: (وَلنْ يشاد الدّين) فِيهِ: حذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ. قَوْله: (فسددوا) فِيهِ: حذف، أَي: فِي الْأُمُور، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (وقاربوا) ، أَي فِي الْعِبَادَة، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (وَأَبْشِرُوا) أَي: بالثواب على الْعَمَل، وابهم المبشر بِهِ للتّنْبِيه على التَّعْظِيم والتفخيم، وَفِيه: اسْتِعَارَة الغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة لأوقات النشاط، وفراغ الْقلب للطاعة، وَكَأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، خَاطب مُسَافِرًا يقطع طَرِيقه إِلَى مقْصده فَنَبَّهَهُ على أَوْقَات نشاطه الَّتِي ترك فِيهَا عمله، لِأَن هَذِه الْأَوْقَات أفضل أَوْقَات الْمُسَافِر، وَالْمُسَافر إِذا سَار اللَّيْل وَالنَّهَار جَمِيعًا عجز وَانْقطع، وَإِذا تحرى السّير فِي هَذِه الْأَوْقَات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: الْأَمر بالاقتصاد فِي الْعِبَادَة، أَي: لَا تستوعبوا الْأَيَّام وَلَا اللَّيَالِي كلهَا بهَا، بل أخلطوا طرف اللَّيْل بِطرف النَّهَار، وَأَجْمعُوا أَنفسكُم فِيمَا بَينهمَا لِئَلَّا يَنْقَطِع بكم.
وَمن فَوَائده: الحض على الرِّفْق فِي الْعَمَل لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (اكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون) وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا أَمر بالاقتصاد وَترك الْحمل على النَّفس، لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أوجب عَلَيْهِم وظائف من الطَّاعَات فِي وَقت دون وَقت تيسيراً وَرَحْمَة. وَمِنْهَا: التَّنْبِيه على أَوْقَات النشاط. لِأَن الغدو والرواح والإدلاج أفضل أَوْقَات الْمُسَافِر وأوقات نشاطه، بل على الْحَقِيقَة: الدُّنْيَا دَار نقلة وَطَرِيق إِلَى الْآخِرَة، فنبه أمته أَن يغتنموا أَوْقَات فرصتهم وفراغهم.
30 - (بابٌ الصَّلاةُ مِنَ الإيمانِ)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الاول: إِن قَوْله: بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بَاب، وَيجوز فِيهِ التَّنْوِين وَتَركه بإضافته إِلَى الْجُمْلَة لَان قَوْله: (الصَّلَاة) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره قَوْله: (من الْإِيمَان) . اي: الصَّلَاة شُعْبَة من شعب الايمان. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ أَن من جملَة الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب الأول الِاسْتِعَانَة بالأوقات الثَّلَاثَة فِي إِقَامَة الطَّاعَات، وافضل الطَّاعَات الْبَدَنِيَّة الَّتِي تُقَام فِي هَذِه الاوقات الصَّلَوَات الْخمس والأوقات الثَّلَاثَة هِيَ: الغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة، فوقت صَلَاة الصُّبْح فِي الغدوة، وَوقت صَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي الروحة، وَوقت الْعشَاء فِي جُزْء الدلجة، على قَول من يَقُول من أهل اللُّغَة: ان الدلجة سير اللَّيْل كُله، وَلما كَانَ العَبْد مَأْمُورا بالاستعانة بِهَذِهِ الْأَوْقَات، وَكَانَت هِيَ أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس أَيْضا، وَهِي من الايمان، ناسب ذكرهَا عقيب هَذِه الْأَوْقَات الَّتِي يتضمنها الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا الْبَاب، على أَن هَذَا الْبَاب إِنَّمَا ذكر بَينه وَبَين هَذَا الْبَاب اسْتِطْرَادًا للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ، وَفِي الْحَقِيقَة يطْلب وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَاب صَوْم رَمَضَان احتساباً من الْإِيمَان وَهُوَ ظَاهر، لِأَن كلا من الصَّلَاة وَالصَّوْم من أَرْكَان الدّين الْعَظِيمَة، وَمن الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة. الثَّالِث: كَون الصَّلَاة من الْإِيمَان ظَاهر، وَلَا سِيمَا على قَول من يَقُول: الاعمال من الْإِيمَان. وَحَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا: (بني الاسلام على خمس) الحَدِيث.
وَقَوْلُ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضيِعَ إيمانَكُمْ} يَعْني صَلاَتكُمْ عندَ البَيْتِ
لَفْظَة: قَول، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ من الْإِعْرَاب، الْجَرّ، عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ اعني قَوْله: (الصَّلَاة من الايمان) فَإِنَّهَا جملَة إضيف إِلَيْهَا الْبَاب على تَقْدِير ترك التَّنْوِين فِيهِ كَمَا ذكرنَا، وَالرَّفْع عطفا على لَفْظَة: الصَّلَاة. ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: هَذِه الْآيَة من جملَة التَّرْجَمَة. لِأَن الْبَاب مترجم بترجمتين: إِحْدَاهمَا قَوْله: الصَّلَاة من الْإِيمَان. والاخرى: قَوْله،(1/239)
وَقَول الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} والمناسبة بَين الترجمتين ظَاهِرَة، لِأَن فِي الْآيَة أطلق على الصَّلَاة الْإِيمَان على سَبِيل إِطْلَاق الْكل على الْجُزْء، وَبَين ذَلِك بقوله الصَّلَاة من الايمان، لِأَن كلمة: من، للتَّبْعِيض، وَالْمرَاد: الصَّلَاة من بعض الْإِيمَان. الثَّانِي: قَالَ الواحدي فِي كتاب (اسباب النُّزُول) : قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: (كَانَ رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد مَاتُوا على الْقبْلَة الأولى، مِنْهُم: سعد بن زُرَارَة، وابو امامة أحد بني النجار، والبراء بن معْرور أحد بني سَلمَة، فَجَاءَت عَشَائِرهمْ فِي أنَاس مِنْهُم آخَرين، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله توفّي إِخْوَاننَا وهم يصلونَ إِلَى الْقبْلَة الأولى، وَقد صرفك الله تَعَالَى إِلَى قبْلَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكيف بإخواننا فِي ذَلِك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} (الْبَقَرَة: 143) الْآيَة. الثَّالِث: قَالَ ابْن بطال: هَذِه الْآيَة حجَّة قَاطِعَة على الْجَهْمِية والمرجئة، حَيْثُ قَالُوا: إِن الْأَعْمَال والفرائض لَا تسمى إِيمَانًا، وَهُوَ خلاف النَّص، لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِيمَانًا، وَلَا خلاف بَين أهل التَّفْسِير أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس. قلت: لَا يلْزم من الِاتِّفَاق على نُزُولهَا فِي صلَاتهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِطْلَاقهَا، وَقَالَ ابْن اسحق وَغَيره، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 143) بالقبلة الأولى، وتصديقكم نَبِيكُم وإتباعكم إِيَّاه إِلَى الْقبْلَة الْأُخْرَى، أَي: ليعطينكم أجرهَا جَمِيعًا. وَقَالَ الزمخشرى فِي (الْكَشَّاف) : {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} (الْبَقَرَة: 143) اي: ثباتكم على الْإِيمَان، وأنكم لم تزلوا وَلم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وَأعد لكم الثَّوَاب الْعَظِيم، وَيجوز أَن يُرَاد: وَمَا كَانَ الله ليترك تحويلكم، لعلمه أَن تَركه مفْسدَة وإضاعة لإيمانكم، وَقيل: من صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس قبل التَّحْوِيل فَصلَاته غير ضائعة. انْتهى. قلت: هَذَا ثَلَاثَة اوجه. الأول: من قبيل إِطْلَاق المعروض على الْعَارِض. الثَّانِي: من قبيل الْكِنَايَة، لَان التَّحْوِيل ملزوم لإضاعة الْإِيمَان. الثَّالِث: من قبيل إِطْلَاق الْكل على الْجُزْء، ثمَّ: اللَّام، فِي قَوْله {لِيُضيع} (الْبَقَرَة: 143) لتأكيد النَّفْي، فَإِن قيل: الْمقَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: إِيمَانهم، بِلَفْظ الْغَيْبَة، اجيب: بِأَن الْمَقْصُود تَعْمِيم الحكم للْأمة: الاحياء والاموات، فَذكر الْأَحْيَاء المخاطبين تَغْلِيبًا لَهُم على غَيرهم، وَلَا يُنَاسب وضع الْآيَة فِي التَّرْجَمَة إِلَّا من الْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ بقوله: يَعْنِي صَلَاتكُمْ، حَيْثُ فسر الْإِيمَان بِالصَّلَاةِ، وَهَكَذَا وَقع هَذَا التَّفْسِير فِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق شريك وَغَيره عَن أبي اسحق عَن الْبَراء فِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا، فَانْزِل الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} (الْبَقَرَة: 143) اي: صَلَاتكُمْ إِلَى بَيت الْمُقَدّس. الرَّابِع: قَوْله (عِنْد الْبَيْت) أَرَادَ بِهِ الْكَعْبَة، شرفها الله تَعَالَى. وَقَالَ النووى: هَذَا مُشكل، لِأَن المُرَاد: صَلَاتكُمْ إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: اي صَلَاتكُمْ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَهَذَا هُوَ مُرَاده، فيتأول عَلَيْهِ كَلَامه. وَقَالَ بعض الشَّارِحين المُرَاد: إِلَى الْبَيْت يَعْنِي: بَيت الْمُقَدّس، اَوْ الْكَعْبَة، لِأَن صلَاتهم إِلَيْهَا إِلَى جِهَة بَيت الْمُقَدّس. قلت: إِذا أطلق الْبَيْت يُرَاد بِهِ الْكَعْبَة، وَلم يقل أحد: إِن الْبَيْت إِذا اطلق يُرَاد بِهِ الْقُدس، أَو أَحدهمَا بِالشَّكِّ، وَقَالَ بَعضهم: قد قيل: إِن فِيهِ تصحيفاً. وَالصَّوَاب: يَعْنِي صَلَاتكُمْ لغير الْبَيْت، ثمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه لَا تَصْحِيف فِيهِ، بل هُوَ صَوَاب.
بَيَان ذَلِك أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي الْجِهَة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَجَّه إِلَيْهَا للصَّلَاة وَهُوَ بِمَكَّة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَغَيره: كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس، لكنه لَا يستدبر الْكَعْبَة، بل يَجْعَلهَا بَينه وَبَين بَيت الْمُقَدّس، وَأطلق آخَرُونَ أَنه كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ آخَرُونَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة فَلَمَّا تحول إِلَى الْمَدِينَة اسْتقْبل بَيت الْمُقَدّس وَهَذَا ضَعِيف، وَيلْزم مِنْهُ دَعْوَى النّسخ مرَّتَيْنِ، وَالْأول أصح لِأَنَّهُ يجمع بَين الْقَوْلَيْنِ، وَقد صَححهُ الْحَاكِم وَغَيره من حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَكَأَنَّهُ، البُخَارِيّ، أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى الْجَزْم بالأصح من أَن الصَّلَاة لما كَانَت عِنْد الْبَيْت كَانَت إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَاقْتصر على ذَلِك اكْتِفَاء بالاولوية، لِأَن صلَاتهم إِلَى غير جِهَة الْبَين وهم عِنْد الْبَيْت إِذا كَانَت لَا تضيع فأحرى أَلا تضيع إِذا بعدوا عَنهُ قلت هَذِه اللَّفْظَة ثَابِتَة فِي الْأُصُول صَحِيحَة وَمَعْنَاهَا صَحِيح غير أَنه اختصر فِي الْعبارَة وَالتَّقْدِير يَعْنِي صَلَاتكُمْ الَّتِي صليتموها إِلَى بَيت الْمُقَدّس عِنْد الْبَيْت أَي الْكَعْبَة فَقَوله عِنْد الْبَيْت يتَعَلَّق بذلك الْمَحْذُوف وَقَول هَذَا الْقَائِل وَاقْتصر على ذَلِك اكْتِفَاء بالأولوية ثمَّ تطويله بقوله: لِأَن صلَاتهم إِلَى آخِره ... كَلَام يحْتَاج إِلَى دعامة، لِأَن دَعْوَاهُ أَولا بقوله: وَاقْتصر على ذَلِك اكْتِفَاء بالاولوية. ثمَّ تَعْلِيله بقوله: لِأَن صلَاتهم ... الى آخِره، لَا تعلق لَهُ قطّ، لبَيَان تَصْحِيح قَول البُخَارِيّ: عِنْد الْبَيْت، وتصحيحه بِمَا ذَكرْنَاهُ، وَنَقله عَن بَعضهم أَن فِيهِ تصحيفاً، ثمَّ قَوْله: وَعِنْدِي أَنه لَا تَصْحِيف فِيهِ، وَإِن كَانَ كَذَلِك فِي نفس الْأَمر، لَكِن لَو كَانَ(1/240)
عِنْده الْوُقُوف على معنى التَّصْحِيف كَانَ يَقُول أَولا مثل هَذَا لَا يُسمى تصحيفاً، وَإِنَّمَا يُقَال مُشكل كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ أَو نَحْو ذَلِك لَان التَّصْحِيف هُوَ أَن يتصحف لفظ بِلَفْظ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك، وَقَالَ الصغاني، رَحمَه الله: التَّصْحِيف الْخَطَأ فِي الصَّحِيفَة، يَقُولُونَ: تصحف عَلَيْهِ لفظ كَذَا فَعرفت أَن من لم يعرف معنى التَّصْحِيف كَيفَ يُجيب عَنهُ بالتحريف.
40 - حدّثنا عَمْرُو بِنُ خالدٍ قَالَ حدّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدّثنا أُبو إسْحاقَ عَن البَرَاءِ أنّ النَّبِىَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أوّلَ مَا قَدِمَ الَمدِينَةَ نَزَلَ علَى أَجْدَادِهِ أَو قَالَ أَخوْالِهِ مِن الأنْصارِ وَأَنه صَلَّى قَبَلَ بَيْتِ المقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً أَو سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَن تَكُونَ قِبْلَتُهُ قَبَلَ البَيْتِ وأنَّهُ صَلَّى أوّلَ صَلاَةٍ صَلاَها صَلاَةَ العَصْرِ وصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ على أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ راكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ وَكَانَت اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المقْدِس وأَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلكَ..
مُطَابقَة الحَدِيث لِلْآيَةِ الَّتِي هِيَ احدى الترجمتين ظَاهِرَة، وَلَكِن لَا تطابق لصدر الحَدِيث الَّذِي هُوَ: إِحْدَى روايتي زُهَيْر عَن أبي اسحاق لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الصَّلَاة من الايمان) . وَقَول النَّوَوِيّ فِي الحَدِيث فَوَائِد: مِنْهَا مَا ترْجم لَهُ، وَهُوَ كَون الصَّلَاة من الْإِيمَان إِشَارَة إِلَى آخر الحَدِيث الَّذِي هُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة لزهير عَن أبي اسحاق.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: ابو الْحسن عَمْرو، وبفتح الْعين وَسُكُون الْمِيم، ابْن خَالِد بن فروخ بن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن وَاقد ابْن لَيْث بن وَاقد ابْن عبد الله الْحَنْظَلِي الْجَزرِي الْحَرَّانِي، سكن مصر، وروى عَن اللَّيْث وَأبي لَهِيعَة وَغَيرهمَا، وروى عَنهُ البُخَارِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ وابو زرْعَة وَغَيرهمَا، وروى ابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، قَالَ ابو حَاتِم: صَدُوق. وَقَالَ الْعجلِيّ: مصري ثَبت ثِقَة، مَاتَ بِمصْر سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ عَن عَبدُوس عَن ابْن زيد الْمروزِي، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني عمر بن خَالِد، بِضَم الْعين وَفتح الْمِيم، وَهُوَ تَصْحِيف نبه عَلَيْهِ ابو عَليّ الغساني وَغَيره، وَلَيْسَ فِي شُيُوخ البُخَارِيّ من اسْمه عمر بن خَالِد، وَلَا فِي رِجَاله كلهم، بل وَلَا رجال الْكتب السِّتَّة، وَلَهُم: عَمْرو بن خَالِد الوَاسِطِيّ الْمَتْرُوك، أخرج لَهُ ابْن مَاجَه وَحده وَعَمْرو بن خَالِد الْكُوفِي مُنكر الحَدِيث. الثَّانِي: زُهَيْر، بِصِيغَة التصغير، بن مُعَاوِيَة بن حديج، بِضَم الْحَاء وَفتح الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالجيم، بن الرحيل، بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، ابْن زُهَيْر بن خَيْثَمَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، ويكنى بِأبي خَيْثَمَة الْجعْفِيّ الْكُوفِي، سكن الجزيرة، سمع السبيعِي وَحميد الطَّوِيل وَغَيرهمَا من التَّابِعين وخلقاً من غَيرهم، وَعنهُ يحيى الْقطَّان وَجمع من الْأَئِمَّة، وَاتَّفَقُوا على جلالته وَحسن لَفظه واتقانه، قَالَ ابو زرْعَة: هُوَ ثِقَة إلاَّ أَنه سمع من ابى اسحاق بعد الِاخْتِلَاط، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة، وَكَانَ قد فلج قبله بِسنة وَنصف أَو نَحْوهمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: ابو اسحاق عَمْرو بن عبد الله بن عَليّ، وَقيل: عَمْرو بن عبد الله بن ذِي يحمد الْهَمدَانِي السبيعِي الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْجَلِيل الْكَبِير الْمُتَّفق على جلالته وتوثيقه، ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَرَأى عليا واسامة والمغيرة، رَضِي الله عَنْهُم، وَلم يَصح سَمَاعه مِنْهُم، وَسمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَمُعَاوِيَة وخلقاً من الصَّحَابَة وَآخَرين من التَّابِعين، وَعنهُ التَّيْمِيّ وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش وهم من التَّابِعين، وَالثَّوْري وَهُوَ أثبت النَّاس فِيهِ، وَخلق من الْأَئِمَّة. قَالَ الْعجلِيّ: سمع ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ من الصَّحَابَة، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: روى عَن سبعين أَو ثَمَانِينَ لم يرو عَنْهُم غَيره، مَاتَ سنة سِتّ، وَقيل: سبع، وَقيل: ثَمَان، وَقيل: تسع وَعشْرين وَمِائَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: الْبَراء، بتَخْفِيف الرَّاء وبالمد على الْمَشْهُور، وَقيل: بِالْقصرِ، وَهُوَ أَبُو عمَارَة، بِضَم الْعين، وَيُقَال: ابو عَمْرو، وَيُقَال: ابو الطُّفَيْل بن عَازِب بن الْحَارِث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن الحارثة بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عمر بن أَوْس الْأنْصَارِيّ الاوسي، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمثلاثمائة حَدِيث وَخَمْسَة أَحَادِيث،(1/241)
اتفقَا مِنْهَا على اثْنَيْنِ وَعشْرين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة عشر، وَمُسلم بِسِتَّة، استصغر يَوْم أحد مَعَ ابْن عمر، ثمَّ شهد الخَنْدَق والمشاهد كلهَا، وافتتح الرّيّ سنة أَربع وَعشْرين صلحا اَوْ عنْوَة، وَشهد مَعَ أبي مُوسَى غَزْوَة تستر، وَشهد مَعَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، مشاهده، توفّي أَيَّام مُصعب بن الزبير بِالْكُوفَةِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَأَبوهُ عَازِب صَحَابِيّ أَيْضا، ذكره ابْن سعد فِي (طبقاته) وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة: عَازِب، غَيره، وَلَا فيهم: الْبَراء بن عَازِب سوى وَلَده.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْحَنْظَلِي: نِسْبَة إِلَى حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم وَفِي جعفي أَيْضا حَنْظَلَة بطن، وَهُوَ ابْن كَعْب بن عَوْف بن حَرِيم بن جعفي، والجزري: نِسْبَة إِلَى الجزيرة مَا بَين الْفُرَات ودجلة، قيل لَهَا الجزيرة لِأَنَّهَا مثل الجزيرة من جزائر الْبَحْر، والحراني: نِسْبَة إِلَى حران، مَدِينَة فِي ديار بكر، وَالْيَوْم خراب، والجعفي: بِضَم الْجِيم، نِسْبَة الى: جعفة بن سعد بن الْعَشِيرَة بن مَالك، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج، والهمداني: بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْمِيم وبالدال الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى: هَمدَان، وَهُوَ اوسلة بن مَالك بن زيد اوسلة بن ربيعَة بن الْخِيَار، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة، ابْن ملكان، بِكَسْر الْمِيم، ضَبطه ابْن حبيب، وَقيل: مَالك بن زيد بن كهلان. والسبيعي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، نِسْبَة الى: السبيع جد الْقَبِيلَة، وَهُوَ السبيع بن الصعب بن مُعَاوِيَة بن كَبِير بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن هَمدَان، وَأبْعد من قَالَ: عرف ابو اسحاق بذلك لنزوله فيهم، وَأغْرب الْمزي حَيْثُ ذكره فِي الألقاب.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: ان رُوَاته أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: إِنَّهُم أَرْبَعَة فَقَط. فان قيل: هَذَا مَعْلُول بعلتين. الأولى: ان زهيراً لم يسمع من أبي اسحاق إلاّ بعد الِاخْتِلَاط، قَالَه ابو زرْعَة، وَقَالَ احْمَد: ثَبت بخ بخ، لَكِن فِي حَدِيثه عَن أبي اسحاق لين، سمع مِنْهُ بآخرة. الثَّانِيَة: ابو إِسْحَاق مُدَلّس وَلم يُصَرح بِالسَّمَاعِ. قلت: الْجَواب عَن الأولى: أَنه لَو لم يثبت سَماع زُهَيْر مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط عَن البُخَارِيّ لما اودعه فِي صَحِيحه على أَنه تَابعه عَلَيْهِ عِنْد البُخَارِيّ إِسْرَائِيل بن يُونُس حفيده وَغَيره. وَعَن الثَّانِيَة: ان البُخَارِيّ روى فِي التَّفْسِير من طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي اسحاق: سَمِعت الْبَراء، فَحصل الْأَمْن من ذَلِك. فَافْهَم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن عَمْرو بن خَالِد، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي نعيم، وَأخرجه ايضا فِي التَّفْسِير. وَمُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأبي بكر بن خَلاد، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فيهمَا عَن مُحَمَّد بن بشار، ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن سعيد عَن الثَّوْريّ عَن ابى اسحاق عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة، وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن أبي نعيم عَن حبَان بن مُوسَى عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن شريك بن عبد الله عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي التَّفْسِير عَن هناد عَن وَكِيع عَن اسرائيل بن يُونُس عَن جده أبي اسحاق عَنهُ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن رَجَاء، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى عَن وَكِيع كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن اسماعيل عَن ابراهيم عَن إِسْحَاق بن يُوسُف عَن الْمَازرِيّ عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أبي اسحاق عَنهُ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (الْمَدِينَة) ، أَرَادَ بهَا مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واشتقاقها إِمَّا من: مدن بِالْمَكَانِ، إِذا قَامَ بِهِ على وزن فعيلة، وَيجمع على مَدَائِن بِالْهَمْزَةِ، وَإِمَّا من: دَان، أَي: أطَاع، أَو من: دينٍ، أَي: ملك، فعلى هَذَا يجمع على: مداين، بِلَا همز كمعايش. وَلَهُمَا اسماء كَثِيرَة: يثرب، وطيبة بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وطابة، وَالطّيب إِمَّا لخلوصها من الشّرك أَو لطيبها لساكنيها لأمنهم ودعتهم، وَقيل: لطيب عيشهم فِيهَا، وَتسَمى: الدَّار، أَيْضا للاستقرار بهَا. قَوْله: (قبل بَيت الْمُقَدّس) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، اي: نَحْو بَيت الْمُقَدّس وجهته والمقدس، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر الدَّال، مصدر ميمي كالمرجع، أَو اسْم مَكَان من الْقُدس، وَهُوَ: الطُّهْر، أَي الْمَكَان الَّذِي يطهر فِيهِ العابد من الذُّنُوب، أَو تطهر الْعِبَادَة من الْأَصْنَام، وَجَاء فِيهِ ضم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَالدَّال الْمُشَدّدَة، وَهُوَ اسْم مفعول من التَّقْدِيس، اي: التَّطْهِير، وَقد جَاءَ بِصِيغَة إسم الْفَاعِل ايضاً لِأَنَّهُ يقدس العابد فِيهِ من الآثام، وَفِي (الْعباب) : الْقُدس والقدس مِثَال: خلق وَخلق إلطهر، اسْم مصدر، وَمِنْه حَظِيرَة الْقُدس، وروح الْقُدس جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ الله تَعَالَى: {وأيدناه بِروح الْقُدس} (الْبَقَرَة: 87 و 253) وَقيل لَهُ: روح الْقُدس، لِأَنَّهُ خلق من(1/242)
الطَّهَارَة، والقدس: الْبَيْت الْمُقَدّس. قَوْله: (اشْهَدْ بِاللَّه) قَالَ الجوهرى: أشهد بِاللَّه أَي: أَحْلف بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (كَانَ أول مَا قدم الْمَدِينَة) هَذِه الْجُمْلَة خبر: إِن، فِي مَحل الرّفْع، و: أول، نصب على الظّرْف، و: مَا، مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: فِي أول قدومه الْمَدِينَة عِنْد الْهِجْرَة من مَكَّة، وَقدم، بِكَسْر الدَّال مضارعة؛ يقدُمَ بِالضَّمِّ، ومصدره: قدوم. وَأما: قدَم، بِالْفَتْح، فمضارعه: يقدُم بِالضَّمِّ أَيْضا، ومصدره: قُدوم، بِضَم الْقَاف. قَالَ تَعَالَى: {يقدُم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار} (هود: 98) وَأما: قدم بِالضَّمِّ، فمضارعه: يقدم بِالضَّمِّ أَيْضا، ومصدره: قِدَم، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الدَّال، فَهُوَ: قديم؛ وانتصاب: الْمَدِينَة، كانتصاب: الدَّار، فِي قَوْلك: دخلت الدَّار، والظروف يتوسع فِيهَا. قَوْله: (نزل) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، قَوْله: (من الْأَنْصَار) كلمة: من، فِيهِ بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَأَنه) بِفَتْح الْهمزَة عطف على قَوْله: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (صلى) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر أَن، قَوْله: (قِبَل بَيت الْمُقَدّس) ، نصب على الْحَال، بِمَعْنى مُتَوَجها إِلَيْهِ قَوْله: (وَكَانَ) اي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (يُعجبهُ) ، خبر كَانَ. قَوْله: (أَن يكون) فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل: يُعجبهُ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: وَكَانَ يُعجبهُ كَون قبلته جِهَة الْبَيْت، أَي: كَانَ يحب ذَلِك. قَوْله: (وَأَنه) بِفَتْح الْهمزَة أَيْضا عطف على: أَنه، الْمَذْكُورَة قبلهَا. قَوْله: (صلى) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: ان. قَوْله: (أول صَلَاة) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه مفعول: صلى. قَوْله: (صلاهَا) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة: صَلَاة. قَوْله: (صَلَاة الْعَصْر) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه بدل من قَوْله: أول صَلَاة، واعربه ابْن مَالك بِالرَّفْع. قَوْله: (وَصلى مَعَه) اي: مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم و: (قوم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: صلى، وَقد قُلْنَا غير مرّة إِن لَفْظَة: قوم، مَوْضُوعَة للرِّجَال دون النِّسَاء، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَرُبمَا دخلت النِّسَاء فِيهِ على سَبِيل التبع. قَوْله: (وهم رَاكِعُونَ) جملَة إسمية مَنْصُوبَة الْمحل على الْحَال. قَوْله: (فَقَالَ) : اي الرجل الْمَذْكُور. قَوْله: (أشهد بِاللَّه) ، جملَة وَقعت مُعْتَرضَة بَين: قَالَ، وَبَين مقول القَوْل، وَهُوَ قَوْله: لقد صليت، اللَّام للتَّأْكِيد، و: قد، للتحقيق. قَوْله: (قبل مَكَّة) ، حَال أَي: مُتَوَجها إِلَيْهَا. قَوْله: (فَدَارُوا) الْفَاء فِيهِ تسمى الْفَاء الفصيحة، أَي: سمعُوا كَلَامه فَدَارُوا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَن اضْرِب بعصاك الْحجر فانفجرت} (الْأَعْرَاف: 160) اي: فَضرب فانفجرت، وَالْفَاء الفصيحة هِيَ الَّتِي تدل على مَحْذُوف هُوَ سَبَب لما بعْدهَا. قَوْله: (كَمَا هم) قَالَ الْكرْمَانِي: مَا، مَوْصُولَة، و: هم، مُبْتَدأ، وَخَبره مَحْذُوف، وَمثل هَذِه الْكَاف تسمى بكاف الْمُقَارنَة، أَي: دورانهم مُقَارن لحالهم، وَتَبعهُ على هَذَا بَعضهم مُقَلدًا من غير تَحْرِير. قلت: الْكَاف المفردة إِمَّا جَارة أَو غير جَارة، فالجارة: حرف وَاسم، والحرف لَهُ خَمْسَة معانٍ: التَّشْبِيه، نَحْو زيد كالاسد، و: التَّعْلِيل، أثبت ذَلِك قوم ونفاه الْآخرُونَ نَحْو: {كَمَا أرسلنَا فِيكُم} (الْبَقَرَة: 151) اي: لأجل إرسالي فِيكُم، و: الاستعلاء، ذكره الْأَخْفَش والكوفيون نَحْو: كخير جَوَابا، لقَوْل من قَالَ لَهُ: كَيفَ أَصبَحت؟ أَي: على خير. و: الْمُبَادرَة، فِيمَا اذا اتَّصَلت: بِمَا، نَحْو: سلم كَمَا تدخل، وصل كَمَا يدْخل الْوَقْت، ذكره ابْن الخباز، وَأَبُو سعيد السيرافي وَهُوَ غَرِيب جدا، و: التوكيد، وَهِي الزَّائِدَة نَحْو: {لَيْسَ كمثله شَيْء} (الشورى: 11) التَّقْدِير: لَيْسَ مثله شَيْء، وَأما اسْم الجارة فَهِيَ مرادفة: لمثل، وَلَا تقع كَذَلِك عِنْد سِيبَوَيْهٍ والمحققين إلاّ فِي الضَّرُورَة نَحْو قَوْله:
(يضحكن عَن كَالْبردِ المنهم)
واما الْكَاف غير الجارة فنوعان: مُضْمر مَنْصُوب أَو مجرور نَحْو {مَا وَدعك رَبك} (الضُّحَى: 3) فاذا عرفت هَذَا علمت أَنه لم يقل أحد فِي أَقسَام الْكَاف: كَاف الْمُقَارنَة، وَالتَّحْقِيق فِي إِعْرَاب هَذَا الْكَلَام أَن نقُول: ان الْكَاف فِي: كَمَا هم، يحْتَمل وَجْهَيْن: الاول: أَن تكون للاستعلاء كَمَا فِي قَوْلك: كن كَمَا انت، أَي: على مَا أَنْت عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير هَهُنَا ايضاً: فَدَارُوا على مَا هم عَلَيْهِ، ثمَّ فِي إعرابه أوجه. الأول: أَن تكون: مَا، مَوْصُولَة و: هم، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف وَهُوَ: عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَن تكون: مَا، زَائِدَة ملغاة و: الْكَاف جَارة و: هم، ضمير مَرْفُوع انيب عَن الْمَجْرُور كَمَا فِي قَوْلك: مَا أَنا كَأَنْت، وَالْمعْنَى فَدَارُوا فِي الْحَال مماثلين لأَنْفُسِهِمْ فِي الْمَاضِي. الثَّالِث: أَن تكون: مَا، كَافَّة و: هم، مُبْتَدأ حذف خَبره، وَهُوَ: عَلَيْهِ، أَو: كائنون. الرَّابِع: أَن تكون: مَا، كَافَّة أَيْضا و: هم، فَاعل وَالْأَصْل: كَمَا كَانُوا، ثمَّ حذف: كَانَ، فانفصل الضَّمِير. الْوَجْه الثانى: أَن تكون: الْكَاف، كَاف الْمُبَادرَة، كَمَا ذكرنَا الْآن، وَالْمعْنَى: فَدَارُوا متبادرين فِي حَالهم الَّتِي هم فِيهَا، وَالْوَجْه الأول هُوَ الْأَحْسَن. فَافْهَم. قَوْله (قِبل الْبَيْت) ، حَال، أَي: مواجهين اليه. قَوْله: (قد اعجبهم) ، الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُسْتَتر فِي: اعْجَبْ، يرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ فَاعل أعجب، و: هم، هُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب وَقع مَفْعُولا. قَوْله: (اذا كَانَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: وَإِذا كَانَ، بدل الاشتمال، وَإِذ هَهُنَا للزمان،(1/243)
الْمُطلق، أَي: اعجبهم زمَان كَانَ يُصَلِّي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو بَيت الْمُقَدّس، لِأَنَّهُ كَانَ قبلتهم، فإعجابهم لموافقة قبْلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبلتهم: قلت: إِذْ، هَهُنَا ظرف بِمَعْنى حِين، وَالْمعْنَى: اعْجَبْ الْيَهُود حِين كَانَ يُصَلِّي، عَلَيْهِ السَّلَام، قبل بَيت الْمُقَدّس، و: إِذْ، إِنَّمَا تقع بَدَلا عَن الْمَفْعُول، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت} (مَرْيَم: 16) وَهَهُنَا الْمَفْعُول هُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي قَوْله: اعجبهم، وَلَا يَصح أَن يكون بَدَلا مِنْهُ، لفساد الْمَعْنى، وَالضَّمِير الْمُسْتَتر فِي: اعْجَبْ، ضمير الْفَاعِل. قَوْله: (قبل بَيت الْمُقَدّس) حَال اي: مُتَوَجها إِلَيْهِ. فان قلت: مَا الْإِضَافَة الَّتِي فِي بَيت الْمُقَدّس؟ قلت: إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته: كَصَلَاة الاولى، وَمَسْجِد الْجَامِع، وَالْمَشْهُور فِيهِ الْإِضَافَة، وَجَاء أَيْضا على الصّفة لبيت الْمُقَدّس، وَقَالَ ابو عَليّ: تَقْدِيره: بَيت مَكَان الطَّهَارَة. قَوْله: (واهل الْكتاب) بِالرَّفْع عطف على قَوْله: (الْيَهُود) ، فَهُوَ من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص لِأَن أهل الْكتاب يَشْمَل الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَغَيرهمَا مِمَّن يعْتَقد بِكِتَاب منزل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اَوْ المُرَاد بِهِ، أَي: بِأَهْل الْكتاب النَّصَارَى فَقَط، عطف خَاص على خَاص؛ وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن النَّصَارَى لَا يصلونَ لبيت الْمُقَدّس، فَكيف يعجبهم؟ قلت: سُبْحَانَ الله، إِن هَذَا عجب شَدِيد كَيفَ لم يتَأَمَّل هَذَا كَلَام الْكرْمَانِي بِتَمَامِهِ حَتَّى نظر فِيهِ، فَإِنَّهُ لما قَالَ: المُرَاد بِهِ النَّصَارَى فَقَط، قَالَ: وَجعلُوا تَابِعَة لِأَنَّهُ لم تكن قبلتهم، بل إعجابهم كَانَ بالتبعية للْيَهُود، على نفس عبارَة الحَدِيث يشْهد بإعجاب النَّصَارَى أَيْضا، لَان قَوْله: (واهل الْكتاب) إِذا كَانَ عطفا على الْيَهُود يكونُونَ داخلين فِيمَا وصف بِهِ الْيَهُود، فالنصارى من جملَة أهل الْكتاب، فهم أَيْضا داخلون فِيهِ، وَالْأَظْهَر أَن يكون: وَأهل الْكتاب، بِالنّصب على أَن الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى: مَعَ، أَي: كَانَ يُصَلِّي قبل بَيت الْمُقَدّس مَعَ اهل الْكتاب، وَهَذَا وَجه صَحِيح، وَلَكِن يحْتَاج إِلَى تَصْحِيح الرِّوَايَة بِالنّصب، وَفِي هَذَا الْوَجْه أَيْضا يدْخل فيهم النَّصَارَى لأَنهم من أهل الْكتاب. قَوْله: (فَلَمَّا ولى) أَي: اقبل رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَجهه نَحْو الْقبْلَة أَنْكَرُوا ذَلِك، اي: انكر أهل الْكتاب توجهه إِلَيْهَا فَعِنْدَ ذَلِك نزل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس} (الْبَقَرَة: 142)
الْآيَة، وَقد صرح البُخَارِيّ بذلك فِي رِوَايَته من طَرِيق إِسْرَائِيل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَانَ اول مَا قدم الْمَدِينَة) ، كَانَ قدومه، عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْمَدِينَة يَوْم الْإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الاول حِين اشتداد الضحاء، وكادت الشَّمْس تعتدل. وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من مَكَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ، وَدخل الْمَدِينَة يَوْم الِاثْنَيْنِ، فَالظَّاهِر أَن بَين خُرُوجه من مَكَّة ودخوله الْمَدِينَة خَمْسَة عشر يَوْمًا، لانه أَقَامَ بِغَار ثَوْر ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ سلك طَرِيق السَّاحِل وَهُوَ أبعد من طَرِيق الجادة. قَوْله: (نزل على أجداده أَو قَالَ أَخْوَاله) ، الشَّك من أبي اسحاق، وَالْمرَاد بالأجداد هم من جِهَة الأمومة، وَإِطْلَاق الْجد وَالْخَال هُنَا مجَاز، لِأَن هاشماً جد أَب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج من الْأَنْصَار، وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة وَابْن اسحاق والواقدي وَغَيرهم: أول مَا نزل رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كُلْثُوم بن الْهدم بن امرىء الْقَيْس بن الْحَارِث بن زيد بن مَالك بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ يجلس للنَّاس فِي بَيت سعد بن خَيْثَمَة، فَأَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقباء فِي بني عَمْرو بن عَوْف الْإِثْنَيْنِ والثلثاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس، واسس مَسْجِدهمْ، وَقَالَ ابْن سعد: يُقَال: أَقَامَ فيهم أَربع عشرَة لَيْلَة، وَجَاء مُبينًا فِي البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة من رِوَايَة أنس، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: فَنزل بِأَعْلَى الْمَدِينَة فِي حَيّ يُقَال لَهُم بَنو عَمْرو بن عَوْف، فَقَامَ فيهم أَربع عشرَة لَيْلَة، ثمَّ خرج يَوْم الْجُمُعَة، فَأَدْرَكته الْجُمُعَة فِي بني سَالم بن عَوْف فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِي بطن الْوَادي، وَكَانَت أول جُمُعَة صلاهَا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ ابْن اسحاق: فَأَتَاهُ عتْبَان بن مَالك فِي رجال من قومه فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أقِم عندنَا فِي العَدد والعُدد والمنعة، فَقَالَ: خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة، لناقته، فَخلوا سَبِيلهَا حَتَّى إِذا وازنت دَار بني بياضة، فَتَلقاهُ قوم فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك، فَقَالَ لَهُم: خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة، فَخلوا سَبِيلهَا حَتَّى مر ببني سَاعِدَة، فَقَالُوا لَهُ مثل ذَلِك فَقَالَ لَهُم مثل مَا تقدم، ثمَّ دَار ببني الْحَرْث بن الْخَزْرَج، فَكَذَلِك، ثمَّ دَار بني عدي بن النجار وهم أَخْوَاله، فَإِن أم عبد الْمطلب، سلمى بنت عَمْرو بن زيد بن لبيد بن خِدَاش بن عَامر بن غنم بن عدي بن النجار بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج، وَكَانَ هَاشم بن عبد الْمطلب قدم الْمَدِينَة فَتزَوج سلمى وَكَانَت شريفة، لَا تنْكح الرِّجَال حَتَّى يشترطوا لَهَا أَن أمرهَا بِيَدِهَا، إِذا كرهت رجلا فارقته، فَولدت لهاشم عبد الْمطلب فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، هَلُمَّ إِلَى اخوالك إِلَى العَدد والعُدد والمنعة، فَقَالَ: خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة، فَخلوا سَبِيلهَا فَانْطَلَقت حَتَّى إِذا أَتَت دَار بني(1/244)
مَالك بن النجار بَركت على بَاب الْمَسْجِد، وَهُوَ يومئذٍ مربد، فَلَمَّا بَركت وَرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام، عَلَيْهَا لم ينزل، وَثَبت فسارت غير بعيد، وَرَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَاضع لَهَا زمامها لَا يثنيها بِهِ، ثمَّ التفتت خلفهَا فَرَجَعت إِلَى منزلهَا أول مرّة، فبركت ثمَّ تحلحلت ورزمت وَوضعت جِرَانهَا، فَنزل عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاحْتمل أَبُو أَيُّوب خَالِد بن زيد، رَضِي الله عَنهُ، رَحْله فَوَضعه فِي بَيته، فَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل عِنْده حَتَّى بنى مَسْجده ومساكنه، ثمَّ انْتقل إِلَى مساكنه من بَيت أبي ايوب، وَيُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقَامَ عِنْد أبي أَيُّوب سَبْعَة أشهر، وَبعث وَهُوَ فِي بَيت أبي أَيُّوب زيدا وَأَبا رَافع، من موَالِيه، فَقدما بفاطمة وَأم كُلْثُوم ابْنَتَيْهِ، وَسَوْدَة زَوجته، رَضِي الله عَنْهُن، قلت: فعلى هَذَا إِنَّمَا نزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كُلْثُوم بن الْهدم وَهُوَ أوسي من بني عَمْرو بن عَوْف، وَفِي الثَّانِي: على أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد، وليسا، وَلَا وَاحِد مِنْهُمَا، من أَخْوَاله وَلَا أجداده، وَإِنَّمَا أَخْوَاله وأجداده فِي بني عدي بن النجار، وَقد مر بهم، وَنزل على بني مَالك أخي عدي، فَيجوز أَن يكون ذكر ذَلِك تجوازاً لعادة الْعَرَب فِي النِّسْبَة إِلَى الْأَخ، أَو لقرب مَا بَين داريهما. وَقَالَ النَّوَوِيّ: (أجداده أَو أَخْوَاله) شكّ من الرَّاوِي، وهم أَخْوَاله وأجداده مجَازًا، لِأَن هاشماً تزوج فِي الْأَنْصَار. قَوْله: ثمَّ تحلحلت يُقَال: تحلحل الشَّيْء عَن مَكَانَهُ أَي: زَالَ، وحلحلت النَّاقة، اذا قلت بهَا: حل، وَهُوَ بالتسكين، وَهُوَ زجر لَهَا، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: ورزمت، بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي الْمُعْجَمَة، يُقَال: رزمت النَّاقة ترزم وترزم رزوما ورزاما بِالضَّمِّ، قَامَت من الإعياء والهزل، وَلم تتحرك، فَهِيَ رازم. قَوْله: جِرَانهَا، بِكَسْر الْجِيم، وجران الْبَعِير: مقدم عُنُقه من مذبحه إِلَى منخره، وَالْجمع: جُرُن، بِضَمَّتَيْنِ.
قَوْله: (سِتَّة عشر شهرا، أَو سَبْعَة عشر شهرا) كَذَا وَقع الشَّك فِي رِوَايَة زُهَيْر هَهُنَا، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن أبي نعيم عَنهُ، وَكَذَا فِي التِّرْمِذِيّ عَنهُ، وَفِي رِوَايَة اسرائيل عِنْد التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَرَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن عمار بن رَجَاء وَغَيره عَن أبي نعيم فَقَالَ: سِتَّة عشر، من غير شكّ. وَكَذَا لمُسلم من رِوَايَة أبي الاحوص، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة وَشريك، ولابي عوَانَة أَيْضا من رِوَايَة عمار بن رُزَيْق، بِتَقْدِيم الرَّاء المضمومة، كلهم عَن أبي اسحاق، وَكَذَا لِأَحْمَد بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وللبزار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عَمْرو بن عَوْف: سَبْعَة عشر، وَكَذَا للطبراني عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وللبزار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عَمْرو بن عَوْف: سَبْعَة عشر، وَكَذَا للطبراني عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَنَصّ النَّوَوِيّ على صِحَة: سِتَّة عشر، لإِخْرَاج مُسلم إِيَّاهَا بِالْجَزْمِ، فَيتَعَيَّن اعتمادها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه الصَّحِيح قبل بدر بشهرين، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَالْحَرْبِيّ، لَان بَدْرًا كَانَت فِي رَمَضَان فِي السّنة الثَّانِيَة، وَنَصّ القَاضِي على صِحَة: سَبْعَة عشر، وَهُوَ قَول ابْن اسحاق وَابْن الْمسيب وَمَالك بن أنس. فان قلت: كَيفَ الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: وَجه الْجمع أَن من جزم بِسِتَّة عشر أَخذ من شهر الْقدوم وَشهر التَّحْوِيل شهرا، والغى الْأَيَّام الزَّائِدَة فِيهِ، وَمن جزم بسبعة عشر عدهما مَعًا، وَمن شكّ تردد فِي ذَلِك، وَذَلِكَ أَن الْقدوم كَانَ فِي شهر ربيع الأول بِلَا خلاف، وَكَانَ التَّحْوِيل فِي نصف رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة على الصَّحِيح، وَبِه جزم الْجُمْهُور. وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات أُخْرَى، فَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : ثَمَانِيَة عشر شهرا، وَكَذَا فِي (سنَن ابْن مَاجَه) من طَرِيق أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي اسحاق، وابو بكر سيء الْحِفْظ، وَعند ابْن جرير من طَرِيقه فِي رِوَايَة: سَبْعَة عشر، وَفِي رِوَايَة: سِتَّة عشر، وخرجه بَعضهم على قَول مُحَمَّد بن حبيب: إِن التَّحْوِيل كَانَ فِي نصف شعْبَان، وَهُوَ الَّذِي ذكره النووى فِي (الرَّوْضَة) وَأقرهُ مَعَ كَونه رجح فِي شَرحه رِوَايَة: سِتَّة عشر شهرا، لكَونهَا مَجْزُومًا بهَا عِنْد مُسلم، وَلَا يَسْتَقِيم أَن يكون ذَلِك فِي شعْبَان، وَقد جزم مُوسَى بن عقبَة بِأَن التَّحْوِيل كَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة، وَحكى الْمُحب الطَّبَرِيّ: ثَلَاثَة عشر شهرا، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: سنتَيْن، وَأغْرب مِنْهُمَا: تِسْعَة أشهر، وَعشرَة أشهر، وهما شَاذان. وَقَالَ ابو حَاتِم بن حبَان: صلى الْمُسلمُونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس سَبْعَة عشر شهرا وَثَلَاثَة أَيَّام سَوَاء، لِأَن قدومه، عَلَيْهِ السَّلَام، من مَكَّة كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول، وحولت يَوْم الثُّلَاثَاء نصف شعْبَان، وَفِي تَفْسِير ابْن الْخَطِيب عَن أنس: أَنَّهَا حولت بعد الْهِجْرَة بِتِسْعَة أشهر وَهُوَ غَرِيب، وعَلى هَذَا القَوْل يكون التَّحْوِيل فِي ذِي الْقعدَة إِن عد شهر الْهِجْرَة، وَهُوَ ربيع الأول، أَو ذِي الْحجَّة إِن لم يعد، وَهُوَ أغرب. وَفِي ابْن مَاجَه: إِنَّهَا صرفت إِلَى الْكَعْبَة بعد دُخُوله الْمَدِينَة بشهرين، وَقَالَ ابراهيم بن اسحاق: حولت فِي رَجَب، وَقيل: فِي جُمَادَى، فحصلت فِي تعْيين الشَّهْر أَقْوَال، وَالله تَعَالَى اعْلَم.
قَوْله: (صَلَاة الْعَصْر) كَذَا هُوَ هَهُنَا: صَلَاة الْعَصْر، وَجَاء أَيْضا من رِوَايَة الْبَراء، أخرجهَا البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة، وَفِيه: فصلى مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ(1/245)
وَسلم، رجل، ثمَّ خرج بعد مَا صلى، فَمر على قوم من الْأَنْصَار فِي صَلَاة الْعَصْر يصلونَ نَحْو بَيت الْمُقَدّس، فَقَالَ لَهُم فانحرفوا، فقيد الأولى بالعصر فِي الحَدِيث الأول، واطلق الثَّانِيَة. وَقيد فِي الحَدِيث الثَّانِي الثَّانِيَة بالعصر، وَأطلق الاولى. وَجَاء فِي البُخَارِيّ فِي كتاب خبر الْوَاحِد تَقْيِيده الصَّلَاتَيْنِ بالعصر، فَقَالَ من رِوَايَة الْبَراء أَيْضا: فَوجه نَحْو الْكَعْبَة، وَصلى مَعَه رجل الْعَصْر، ثمَّ خرج فَمر على قوم من الْأَنْصَار فَقَالَ لَهُم: هُوَ يشْهد أَنه صلى مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، الْعَصْر، وَأَنه قد وَجه إِلَى الْكَعْبَة. قَالَ: فانحرفوا وهم رُكُوع فِي صَلَاة الْعَصْر، وَكَذَا جَاءَ فِي الترمذى أَيْضا: إِن الصَّلَاتَيْنِ كَانَتَا الْعَصْر، وَلم يذكر مُسلم وَلَا النَّسَائِيّ فِي حَدِيث الْبَراء هَذَا تعْيين صَلَاة الْعَصْر وَلَا غَيرهمَا، وَجَاء فِي البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَمُسلم أَيْضا، فِي كتاب الصَّلَاة، من حَدِيث مَالك عَن عبد الله بن دِينَار، عَن ابْن عمر قَالَ: بَينا النَّاس بقباء فِي صَلَاة الصُّبْح، إِذا جَاءَهُم آتٍ ... وَفِيه: فَكَانَت وُجُوههم إِلَى الشَّام، فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة. وَكَذَلِكَ أَيْضا جَاءَ فِي مُسلم من رِوَايَة ثَابت عَن انس كَرِوَايَة ابْن عمر أَنَّهَا الصُّبْح، فَمر رجل من بني سَلمَة وهم رُكُوع فِي صَلَاة الْفجْر: وَطَرِيق الْجمع بَين رِوَايَة الْعَصْر وَالصُّبْح أَن الَّتِي صلاهَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر، مر على قوم من الْأَنْصَار فِي تِلْكَ الصَّلَاة وَهِي الْعَصْر، فَهَذَا من رِوَايَة الْبَراء، وَأما رِوَايَة ابْن عمر وَأنس رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنَّهَا الصُّبْح فَهِيَ صَلَاة أهل قبَاء ثَانِي يَوْم، وعَلى هَذَا يَقع الْجمع بَين الْأَحَادِيث، فَالَّذِي مر بهم لَيْسُوا أهل قبَاء، بل أهل مَسْجِد بِالْمَدِينَةِ، وَمر عَلَيْهِم فِي صَلَاة الْعَصْر، وَأما أهل قبَاء فَأَتَاهُم فِي صَلَاة الصُّبْح، كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي الرِّوَايَات. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَمَال بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن أدركناهم إِلَى تَرْجِيح رِوَايَة الصُّبْح. قَالَ: لِأَنَّهَا جَاءَت فِي رِوَايَة ابْن عمر وَأنس، وأهملت فِي بعض الرِّوَايَات حَدِيث الْبَراء، وعينت بالعصر فِي بعض الطّرق. قَالَ: فتقدمت رِوَايَة الصُّبْح لِأَنَّهَا من رِوَايَة صحابيين. قلت: الأول هُوَ الصَّوَاب، وَقد قَالَ النَّوَوِيّ: لِأَنَّهُ أمكن حمل الْحَدِيثين على الصِّحَّة فَهُوَ أولى من توهين رِوَايَة الْعُدُول المخرجة فِي الصَّحِيح، وَمِمَّنْ بَينه كَمَا روى أَبُو دَاوُد مُرْسلا عَن بكير بن الْأَشَج أَنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَة مَسَاجِد مَعَ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع أَهلهَا آذان بِلَال، رَضِي الله عَنهُ، على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيصلون فِي مَسَاجِدهمْ، وأقربها مَسْجِد بني عَمْرو بن مندول من بني النجار، وَمَسْجِد بني سَاعِدَة، وَمَسْجِد بني عبيد، وَمَسْجِد بني سَلمَة، وَمَسْجِد بني زُرَيْق، وَمَسْجِد عَفَّان، وَمَسْجِد سلم، وَمَسْجِد جُهَيْنَة. وَشك فِي تعْيين التَّاسِع.
قَوْله: (فَخرج رجل) وَهُوَ: عباد بن نهيك، بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء، بن أساف الخطمي، صلى الى الْقبْلَتَيْنِ مَعَ النَّبِي: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَكْعَتَيْنِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَرَكْعَتَيْنِ إِلَى الْكَعْبَة يَوْم صرفت، قَالَه ابْن عبد الْبر: وَقَالَ ابْن بشكوال: هُوَ عباد بن بشر الأشْهَلِي، ذكره الفاكهي فِي أَخْبَار مَكَّة عَن خويلد بنت أسلم، وَكَانَت من المبايعات، وَفِيه قَول ثَالِث: إِنَّه عباد بن وهب، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (فَمر على اهل مَسْجِد) هَؤُلَاءِ لَيْسُوا أهل قبَاء، بل اهل مَسْجِد بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَسْجِد بني سَلمَة، وَيعرف بِمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ، وَمر عَلَيْهِم الْمَار فِي صَلَاة الْعَصْر. وَأما أهل قبَاء فَأَتَاهُم الْآتِي فِي صَلَاة الصُّبْح كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ الْكتاب يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من: مَسْجِد، هُوَ مَسْجِد قبَاء، وَمن لفظ: هم رَاكِعُونَ، أَن يَكُونُوا فِي صَلَاة الصُّبْح، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يُقَال: الْفَاء، التعقيبية لَا تساعده. قلت: بِالِاحْتِمَالِ لَا يثبت الحكم، وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (وهم رَاكِعُونَ) ، يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ حَقِيقَة الرُّكُوع، وَأَن يُرَاد بِهِ الصَّلَاة من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل.
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ دَلِيل على صِحَة نسخ الْأَحْكَام، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ إلاَّ طَائِفَة لَا يعبأ بهم. قلت: النّسخ جَائِز فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع عقلا، وواقع عِنْد الْمُسلمين أجمع شرعا خلافًا للْيَهُود، لعنهم الله، فَعِنْدَ بَعضهم بَاطِل نقلا، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاة: تمسكوا بالسبت مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَادعوا نَقله تواتراً، وَيدعونَ النَّقْل عَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه قَالَ: لَا نسخ لشريعته. وَعند بَعضهم: بَاطِل عقلا، وَالدَّلِيل على جَوَازه ووقوعه الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول. اما النَّقْل: فَلَا شكّ أَن نِكَاح الْأَخَوَات كَانَ مَشْرُوعا فِي شَرِيعَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَبِه حصل التناسل، وَهَذَا لَا يُنكره أحد، وَقد ورد فِي التَّوْرَاة أَنه أَمر آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، بتزويج بَنَاته من بنيه، ثمَّ نسخ، وَكَذَا: استرقاق الْحر كَانَ مُبَاحا فِي عهد يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى نقل عَنهُ أَنه اسْترق جَمِيع أهل مصر، عَام الْقَحْط، بِأَن اشْترى(1/246)
انفسهم بِالطَّعَامِ، ثمَّ نسخ، وَكَذَلِكَ الْعَمَل فِي السبت: كَانَ مُبَاحا قبل شَرِيعَة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ نسخ بعْدهَا بِشَرِيعَتِهِ، ودعواهم: النَّص فِي التَّوْرَاة، على مَا زَعَمُوا، بَاطِلَة لِأَنَّهُ ثَبت قطعا عندنَا بأخبار الله تَعَالَى أَنهم حرفوا التَّوْرَاة، فَلم يبْق نقلهم حجَّة، وَلِهَذَا قُلْنَا: لم يجز الْإِيمَان بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْديهم، حَتَّى بَالغ بعض الشَّافِعِيَّة وجوزوا الِاسْتِنْجَاء بذلك، بل إِنَّمَا يجب الْإِيمَان بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي انزلت على مُوسَى، مَعَ أَن شَرط التَّوَاتُر لم يُوجد فِي نقل التَّوْرَاة إِذا لم يبْق من الْيَهُود عدد التَّوَاتُر فِي زمن بخْتنصر، لِأَن أهل التواريخ اتَّفقُوا على أَنه: لما استولى بخت نصر على بني اسرائيل قتل رِجَالهمْ، وسبى ذَرَارِيهمْ، وأحرق اسفار التَّوْرَاة حَتَّى لم يبْق فيهم من يحفظ التَّوْرَاة. وَزَعَمُوا أَن الله الْهم عُزَيْرًا، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى قَرَأَهُ من صَدره، وَلم يكن أحد قَرَأَهُ حفظا لَا قبله وَلَا بعده، وَلِهَذَا قَالُوا بانه ابْن الله وعبدوه، ثمَّ دفع عُزَيْر عِنْد مَوته إِلَى تلميذ لَهُ ليقرأه على بني اسرائيل، فَأخذُوا عَن ذَلِك الْوَاحِد، وَبِه لَا يثبت التَّوَاتُر. وَزعم بَعضهم أَنه زَاد فِيهَا شَيْئا وَحذف شَيْئا، فَكيف يوثق بِمَا هَذَا سَبيله؟ فَثَبت أَن مَا ادعوا من تأييد شَرِيعَة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، افتراء عَلَيْهِ، وَيُقَال: إِن مَا نقلوا عَن مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، من قَوْله: تمسكوا بالسبت. الخ مختلق مفترى، وَيُقَال: إِن هَذَا مِمَّا اختلقه ابْن الراوندي عَلَيْهِ مِمَّا يسْتَحق.
الثَّانِي: فِيهِ الدَّلِيل على نسخ السّنة بالقران، وَهُوَ جَائِز عِنْد الْجُمْهُور من الأشاعرة والمعتزلة، وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ: قَالَ فِي إِحْدَى قوليه: لَا يجوز، كَمَا لَا يجوز عِنْده نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ، قولا وَاحِدًا. وَقَالَ عِيَاض: أجَازه الْأَكْثَر عقلا وسمعاً، وَمنعه بَعضهم عقلا، وَأَجَازَهُ بَعضهم عقلا، وَمنعه سمعا. قَالَ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ: قطع الشَّافِعِي وَأكْثر اصحابنا وَأهل الظَّاهِر وَأحمد فِي إِحْدَى روايتيه بامتناع نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُور وَمَالك وَأَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنْهُم، وأستدل المجوزون على الْمَسْأَلَة الأولى بِأَن التَّوَجُّه نَحْو بَيت الْمُقَدّس لم يكن ثَابتا بِالْكتاب، وَقد نسخ بقوله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} (الْبَقَرَة: 144 و 150) واجيب: من جِهَة الشَّافِعِي: بإنما هِيَ نسخ قُرْآن بقرآن، وَأَن الْأَمر كَانَ أَولا بتخبير الْمُصَلِّي أَن يولي وَجهه حَيْثُ شَاءَ بقوله تَعَالَى: {اينما توَلّوا فثم وَجه الله} (الْبَقَرَة: 115) ، ثمَّ نسخ باستقبال الْقبْلَة، وَأجَاب بَعضهم بِأَن قَوْله تَعَالَى: {اقيموا الصَّلَاة} (الْبَقَرَة: 43، 83، 110) مُجمل، فسر بِأُمُور: مِنْهَا. التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَيكون كالمأمور بِهِ لفظا فِي الْكتاب، فَيكون التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بالقران بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، وباحتمال أَن الْمَنْسُوخ كَانَ قُرْآنًا نسخ لَفظه. وَقَالَ بَعضهم: النّسخ كَانَ بِالسنةِ، وَنزل الْقُرْآن على وفقها، ورد الأول، وَالثَّانِي: بِأَنا لَو جَوَّزنَا ذَلِك لافضى إِلَى أَن لَا يعلم نَاسخ من مَنْسُوخ بِعَيْنِه أصلا، فَإِنَّهُمَا يطردان فِي كل نَاسخ ومنسوخ، وَالثَّالِث: مُجَرّد دَعْوَى فَلَا تقبل، قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل اليهم} (النَّحْل: 44) وَصفه بِكَوْنِهِ مَبْنِيا، فَلَو جَازَ نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ لم يكن النَّبِي مُبينًا، وَاللَّازِم بَاطِل، فالملزوم مثله. أما الْمُلَازمَة فَلِأَنَّهُ إِذا أثبت حكما ثمَّ نسخه الله تَعَالَى بقوله لم يتَحَقَّق التَّبْيِين مِنْهُ، لِأَن الْمَنْسُوخ مَرْفُوع لَا مُبين، لِأَن النّسخ رفع لَا بَيَان، وَأما بطلَان اللَّازِم فَلقَوْله: {لتبين للنَّاس مَا نزل اليهم} (النَّحْل: 44) حَيْثُ وَصفه بِكَوْنِهِ مُبينًا. قُلْنَا: لَا نسلم الْمُلَازمَة، لِأَن المُرَاد بالتبيين الْبَيَان، وَلَا نسلم أَن النّسخ لَيْسَ بِبَيَان، فَإِنَّهُ بَيَان لانْتِهَاء أَمر الحكم الأول، وَلَئِن سلمنَا أَن النّسخ لَيْسَ بِبَيَان، وَأَن المُرَاد مِنْهُ بَيَان الْعَام والمجمل والمنسوخ وَغَيرهمَا، لَكِن نسلم أَن الْآيَة تدل على إمتناع كَون الْقُرْآن نَاسِخا للسّنة. وَقَالُوا: لَو جَازَ ذَلِك لزم تنفير النَّاس عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن طَاعَته، لِأَنَّهُ يُوهم أَن الله تَعَالَى لم يرض بِمَا سنه الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَاللَّازِم بَاطِل لِأَنَّهُ مُنَاقض للبعثة، فالملزوم كَذَلِك. قُلْنَا: الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة لِأَنَّهُ إِذا علم أَنه مبلغ، فَلَا تنفير وَلَا تنفر، لِأَن الْكل من عِنْد الله تَعَالَى.
الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز النّسخ بِخَبَر الْوَاحِد. قَالَ القَاضِي: وَإِلَيْهِ مَال القَاضِي ابو بكر وَغَيره من الْمُحَقِّقين، وَوَجهه أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَقْطُوع بِهِ، كَمَا أَن الْعَمَل بالقران وَالسّنة المتواترة مَقْطُوع بِهِ، وَأَن الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوته أَولا غير الدَّلِيل الْمُوجب لنفيه وَثُبُوت غَيره. قلت: إختاره الإِمَام الْغَزالِيّ والباجي من الْمَالِكِيَّة، وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر.
الرَّابِع: قَالَ الْمَازرِيّ وَغَيره: اخْتلفُوا فِي النّسخ إِذا ورد مَتى يتَحَقَّق حكمه على الْمُكَلف، ويحتج بِهَذَا الحَدِيث لَاحَدَّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنه لَا يثبت حكمه حَتَّى يبلغ الْمُكَلف، لِأَنَّهُ ذكر أَنهم تحولوا إِلَى الْقبْلَة وهم فِي الصَّلَاة، وَلم يُعِيدُوا مَا مضى، فَهَذَا يدل على أَن الحكم إِنَّمَا يثبت بعد الْبَلَاغ. وَقَالَ غَيره: فَائِدَة الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي أَن مَا فعل من الْعِبَادَات بعد النّسخ، وَقبل الْبَلَاغ هَل يُعَاد ام لَا؟ وَلَا خلاف أَنه لَا يلْزم حكمه قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَفِيه دَلِيل على أَن من لم يعلم بِفَرْض الله، وَلم تبلغه الدعْوَة، وَلَا أمكنه استعلام ذَلِك من غَيره، فالفرض غير(1/247)
لَازم وَالْحجّة غير قَائِمَة عَلَيْهِ. وَقَالَ القَاضِي: قد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أسلم فِي دَار الْحَرْب أَو أَطْرَاف بِلَاد الاسلام حَيْثُ لَا يجد من يستعلم الشَّرَائِع، وَلَا علم أَن الله تَعَالَى فرض شَيْئا من الشَّرَائِع، ثمَّ علم بعد ذَلِك، هَل يلْزمه قَضَاء مَا مر عَلَيْهِ من صِيَام وَصَلَاة لم يعملها؟ فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين إِلَى إِلْزَامه، وَأَنه قَادر على الاستعلام والبحث وَالْخُرُوج إِلَى ذَلِك، وَذهب أَبُو حنيفَة أَن ذَلِك يلْزمه إِن أمكنه أَن يستعلم، فَلم يستعلم وفرط، وَإِن كَانَ لَا يحضرهُ من يستعلمه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَيف يكون ذَلِك فرض على من لم يفرضه.
الْخَامِس: قَالَ الإِمَام الْمَازرِيّ: بنوا على مَسْأَلَة الْفَسْخ مَسْأَلَة الْوَكِيل إِذا تصرف بعد الْعَزْل وَلم يعلم، فعلى القَوْل بِأَن حكم النّسخ لَازم حِين الْوُرُود لَا تمْضِي أَفعاله، وعَلى الثَّانِي: هِيَ مَاضِيَة. قَالَ القَاضِي: وَلم يخْتَلف الْمَذْهَب عندنَا فِيمَن اعْتِقْ، وَلم يعلم بِعِتْقِهِ أَن حكمه حكم الْأَحْرَار فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس، وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَجَائِز، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي الْمُعتقَة أَنَّهَا لَا تعيد مَا صلت بِغَيْر ستر، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَن هُوَ فِيهَا بِنَاء على هَذِه الْمَسْأَلَة، وَفعل الْأنْصَارِيّ فِي الصَّلَاة كالأمة تعلم بِالْعِتْقِ فِي أثْنَاء صلَاتهَا. قلت: وَمذهب الشَّافِعِي فِيمَن أعتقت وَلم تعلم حَتَّى فرغت من الصَّلَاة، وَكَانَت قادرة على السّتْر، هَل تجب الْإِعَادَة عَلَيْهَا؟ فِيهِ قَولَانِ للشَّافِعِيّ: كمن صلى بِالنَّجَاسَةِ نَاسِيا عِنْده، وَإِن اعتقت فِي أَثْنَائِهَا وَعلمت بِالْعِتْقِ، فَإِن عجزت مَضَت فِي صلَاتهَا، وَإِن كَانَت قادرة على السّتْر وسترت قَرِيبا صَحَّ، وَإِن مَضَت مُدَّة فِي التكشف قطعت واستأنفت على الْأَصَح من الْمَذْهَب.
السَّادِس: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد مَعَ غَيره من الاحاديث، وَعَادَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، قبُول ذَلِك، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ من السّلف مَعْلُوم بالتواتر من عَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَوْجِيهه ولاته وَرُسُله آحاداً إِلَى الْآفَاق ليعلموا النَّاس دينهم، ويبلغوهم سنة رسولهم.
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة ومراعاة السمت ليلهم إِلَى جِهَة الْكَعْبَة لأوّل وهلة فِي الصَّلَاة قبل قطعهم على مَوضِع عينهَا.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة الْوَاحِدَة إِلَى جِهَتَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي، فَمن صلى إِلَى جِهَة بِاجْتِهَاد، ثمَّ تغير اجْتِهَاده فِي أَثْنَائِهَا فيستدير إِلَى الْجِهَة الاخرى حَتَّى لَو تغير اجْتِهَاده أَربع مَرَّات فِي صَلَاة وَاحِدَة، فَتَصِح صلَاتهم على الْأَصَح فِي مَذْهَب الشَّافِعِي.
التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد بِحَضْرَة النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيه خلاف، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُم أَن يقطعوا الصَّلَاة وَأَن يبنوا، فرجحوا الْبناء وَهُوَ مَحل الِاجْتِهَاد.
الْعَاشِر: فِيهِ وجوب الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة وَالْإِجْمَاع على أَنَّهَا الْكَعْبَة، شرفها الله تَعَالَى.
الْحَادِي عشر: يحْتَج بِهِ على أَن من صلى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غير الْقبْلَة، ثمَّ تبين لَهُ الْخَطَأ لَا يلْزم الْإِعَادَة، لِأَنَّهُ فعل مَا عَلَيْهِ فِي ظَنّه مَعَ مُخَالفَة الحكم وَنَفس الْأَمر، كَمَا أَن أهل قبَاء فعلوا مَا وَجب عَلَيْهِم عِنْد ظنهم بقباء الْأَمر، فَلم يؤمروا بِالْإِعَادَةِ.
الثَّانِي عشر: فِيهِ اسْتِحْبَاب إكرام القادم أَقَاربه بالنزول عَلَيْهِم دون غَيرهم.
الثَّالِث عشر: أَن محبَّة الْإِنْسَان الِانْتِقَال من طَاعَة إِلَى أكمل مِنْهَا لَيْسَ قادحاً فِي الرضى، بل هُوَ مَحْبُوب.
الرَّابِع عشر: فِيهِ تمني تَغْيِير نفس الْأَحْكَام إِذا ظَهرت الْمصلحَة.
الْخَامِس عشر: فِيهِ الدّلَالَة على شرف النَّبِي: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وكرامته على ربه، حَيْثُ يُعْطي لَهُ مَا يُحِبهُ من غير سُؤال.
السَّادِس عشر: فِيهِ بَيَان مَا كَانَ من الصَّحَابَة فِي الْحِرْص على دينهم، والشفقة على إخْوَانهمْ.
قَالَ زُهَيْرٌ حدّثنا أُبُو إسْحَاق عنِ البَرَاءِ فى حديثهِ هَذَا أَنه ماتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَن تُحَوَّلَ رِجالٌ وَقُتِلُوا فَلمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضيِعَ إيمانَكُمْ} .
قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل ان البُخَارِيّ ذكره على سَبِيل التَّعْلِيق مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون دَاخِلا تَحت حَدِيثه السَّابِق، سِيمَا لَو جَوَّزنَا الْعَطف بِتَقْدِير حرف الْعَطف، كَمَا هُوَ مَذْهَب بعض النُّحَاة. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من قَالَ: إِنَّه مُعَلّق، وَقد سَاقه المُصَنّف فِي التَّفْسِير مَعَ جملَة الحَدِيث عَن أبي نعيم عَن زُهَيْر سياقاً وَاحِدًا. قلت: أما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ جوز أَن يكون هَذَا مُسْندًا بِتَقْدِير حرف الْعَطف، وحرف الْعَطف لَا يجوز حذفه فِي الِاخْتِيَار وَهُوَ الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَأما الْقَائِل الْمَذْكُور فَإِنَّهُ جزم بِأَنَّهُ مُسْند هَهُنَا، لِأَن قَوْله: وَوهم من قَالَ: إِنَّه مُعَلّق، يدل على هَذَا، بل هَذَا وهم لِأَن صورته صُورَة التَّعْلِيق بِلَا شكّ، وَلَيْسَ مَا بَينه وَبَين مَا قبله مَا يشركهُ إِيَّاه، وَلَا يلْزم من سوقه فِي التَّفْسِير جملَة وَاحِدَة سياقاً وَاحِدًا أَن يكون هَذَا مَوْصُولا غير مُعَلّق، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى. وَمَا رَوَاهُ زُهَيْر بن مُعَاوِيَة هَذَا فِي حَدِيث الْبَراء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي(1/248)
الله عَنْهُمَا، قَالَ: لما وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْكَعْبَة قَالُوا: يَا رَسُول الله! كَيفَ إِخْوَاننَا الَّذين مَاتُوا وهم يصلونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع ايمانكم} (الْبَقَرَة: 143) ، وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . قَوْله: (إِنَّه) أَي: إِن الشَّأْن. قَوْله: (مَاتَ) فعل وفاعله. قَوْله (رجال) ، وَقَوله: (على الْقبْلَة قبل أَن تحول) معترض بَينهمَا، وَأَرَادَ بالقبلة بَيت الْمُقَدّس، وَهِي الْقبْلَة المنسوخة، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: قبل التَّحْوِيل إِلَى الْكَعْبَة، وَالَّذين مَاتُوا على الْقبْلَة المنسوخة قبل تحويلها إِلَى الْكَعْبَة عشرَة أنفس: ثَمَانِيَة مِنْهُم من قُرَيْش: وهم عبد الله بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَالْمطلب بن أَزْهَر الزُّهْرِيّ، والسكران بن عمر والعامري، مَاتُوا بِمَكَّة. وحطاب، بِالْمُهْمَلَةِ، ابْن الْحَارِث الجُمَحِي، وَعَمْرو بن أُميَّة الْأَسدي، وَعبد الله بن الْحَارِث السَّهْمِي، وَعُرْوَة بن عبد الْعُزَّى الْعَدوي، وعدي بن نَضْلَة الْعَدوي، وَاثْنَانِ من الْأَنْصَار، وهما: الْبَراء بن معْرور، بالمهملات، وأسعد بن زُرَارَة مَاتَا بِالْمَدِينَةِ، فَهَؤُلَاءِ الْعشْرَة مُتَّفق عَلَيْهِم. وَمَات أَيْضا قبل التَّحْوِيل: اياس بن معَاذ الأشْهَلِي، لكنه مُخْتَلف فِي إِسْلَامه. قَوْله: (وَقتلُوا) على صِيغَة الْمَجْهُول، عطف على قَوْله: (مَاتَ رجال) . فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر إِطْلَاق الْقَتْل على الْمَيِّت، لِأَن الَّذِي يَمُوت حتف أَنفه لَا يُسمى مقتولا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون المقتولون نفس الْمِائَتَيْنِ، وَفَائِدَة ذكر الْقَتْل بَيَان كَيْفيَّة مَوْتهمْ إشعاراً بشرفهم، واستبعاداً لضياع طاعتهم، وَأَن الْعقل قرينَة لكَون الْوَاو بِمَعْنى: أَو قلت: كَلَامه يشْعر بقتل رجال قبل تَحْويل الْقبْلَة، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لم يعرف قطّ فِي الْأَخْبَار أَن الْوَاحِد من الْمُسلمين قتل قبل تَحْويل الْقبْلَة، على أَن هَذِه اللَّفْظَة، اعني قَوْله: (وَقتلُوا) لَا تُوجد غير رِوَايَة زُهَيْر بن مُعَاوِيَة، وَفِي بَاقِي الرِّوَايَات كلهَا ذكر الْمَوْت فَقَط، فَيحْتَمل أَن تكون هَذِه غير مَحْفُوظَة. وَقَالَ بَعضهم: فَإِن كَانَت هَذِه مَحْفُوظَة، فَتحمل على أَن بعض الْمُسلمين مِمَّن لم يشْتَهر قتل فِي تِلْكَ الْمدَّة فِي غير الْجِهَاد، وَلم يضْبط اسْمه لقلَّة الاعتناء بالتاريخ إِذْ ذَاك، ثمَّ وجدت فِي الْمَغَازِي ذكر رجل اخْتلف فِي إِسْلَامه وَهُوَ: سُوَيْد بن الصَّامِت، فقد ذكر ابْن اسحق أَنه لَقِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يلقاه الْأَنْصَار فِي الْعقبَة، فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام، فَقَالَ: إِن هَذَا القَوْل حسن، وأتى الْمَدِينَة فَقتل بهَا فِي وقْعَة بُعَاث، وَكَانَت قبل الْهِجْرَة، قَالَ: فَكَانَ قومه يَقُولُونَ: لقد قتل وَهُوَ مُسلم، فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ المُرَاد. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: أَن هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَصح. الثَّانِي: قَوْله: لقلَّة الاعتتاء بالتاريخ إِذْ ذَاك لَيْسَ كَذَلِك، فَكيف اعتنوا بضبط أَسمَاء الْعشْرَة الميتين وَلم يعتنوا بضبط الَّذين قتلوا، بل الاعتناء بالمقتولين أولى، لِأَن لَهُم مزية على غَيرهم. وَالثَّالِث: أَن الَّذِي وجده فِي الْمَغَازِي لَا يصلح دَلِيلا لتصحيح اللَّفْظَة الْمَذْكُورَة من وَجْهَيْن: احدهما: أَن هَذَا الرجل لم يتَّفق على إِسْلَامه، وَالْآخر: أَن هَذَا وَاحِد، وَقَوله: (وَقتلُوا) ، صِيغَة جمع تدل على أَن المقتولين جمَاعَة، وأقلها ثَلَاثَة أنفس. وَالرَّابِع: من وُجُوه النّظر أَن وقْعَة بُعَاث كَانَت بَين الاوس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت اسلام، فَكيف يسْتَدلّ بقتل الرجل الْمَذْكُور فِي وقْعَة بُعَاث على أَن قَتله كَانَ فى وَقت كَون الْقبْلَة هُوَ بَيت الْمُقَدّس؟ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح؟ وَقَالَ الصغاني: بُعَاث، بِالضَّمِّ، على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة، وَيَوْم بُعَاث يَوْم، كَانَ بَين الْأَوْس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّة، وَوَقع فِي كتاب الْعين بالغين الْمُعْجَمَة وَالصَّوَاب بِالْعينِ الْمُهْملَة لَا غير، ذكره فِي فصل الثَّاء الْمُثَلَّثَة من كتاب الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (فَلم يدر) أَي: فَلم يعلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان طاعتهم ضائعة ام لَا فَأنْزل الله الْآيَة.
31 - (بابُ حُسْنِ إسْلاَمِ المَرْء)
اي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَالْبَاب هُنَا مُضَاف قطعا، وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول أَن الصَّلَاة من الْإِيمَان، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَلَا يحسن إِسْلَام الْمَرْء إلاَّ بِإِقَامَة الصَّلَاة. وَقَالَ بَعضهم فِي فَوَائِد حَدِيث الْبَاب السَّابِق: وَفِيه بَيَان مَا كَانَ فِي الصَّحَابَة من الْحِرْص على دينهم والشفقة على أخوانهم، وَقد وَقع لَهُم نَظِير هَذِه الْمَسْأَلَة لما نزل تَحْرِيم الْخمر، كَمَا صَحَّ من حَدِيث الْبَراء ايضاً، فَنزلت: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} إِلَى قَوْله: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} (الْمَائِدَة: 93) وَقَوله تَعَالَى: {انا لَا نضيع أجر من احسن عملا} (الْكَهْف: 30) ولملاحظة هَذَا الْمَعْنى عقَّب المُصَنّف هَذَا الْبَاب بقوله: بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء، فَانْظُر إِلَى هَذَا، هَل ترى لَهُ تنَاسبا لوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ وَقَالَ بعض الشَّارِحين: ومناسبة التَّبْوِيب زِيَادَة الْحسن على الْإِسْلَام وَاخْتِلَاف أَحْوَاله بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَال، قلت: هَذَا أَيْضا قريب من الأول.(1/249)
41 - قَالَ مَالِكٌ أخْبَرَنِى زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ أنّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِىَّ أخبَرَهُ أَنه سَمِعَ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إِذا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عنهُ كلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفها وَكَانَ يَعْدَ ذلكَ القِصاصُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ والسَّيِئَةُ بِمثْلِها إلاَّ أَن يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: مَالك بن أنس، رَحمَه الله. الثَّانِي: زيد بن أسلم، ابو اسامة الْقرشِي الْمَكِّيّ، مولى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. الثَّالِث: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، أَبُو مُحَمَّد الْمدنِي، مولى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ. الرَّابِع: ابو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ، وَقد مر ذكرهم.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء مَشْهُورُونَ. وَمِنْهَا: أَنه مسلسل بِلَفْظ الْإِخْبَار على سَبِيل الِانْفِرَاد وَهُوَ الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إِذا كَانَ القارىء وَحده، وَهَذَا عِنْد من فرق بَين الْإِخْبَار والتحديث، وَبَين أَن يكون مَعَه غَيره أَولا يكون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاع الصَّحَابِيّ من النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يدْفع احْتِمَال سَمَاعه من صَحَابِيّ آخر، فَافْهَم.
بَيَان حكم الحَدِيث: ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا، وَلم يوصله فِي مَوضِع فِي الْكتاب، وَالْبُخَارِيّ لم يدْرك زمن مَالك، فَيكون تَعْلِيقا وَلكنه بِلَفْظ جازم، فَهُوَ صَحِيح وَلَا قدح فِيهِ، وَقَالَ ابْن حزم: إِنَّه قَادِح فِي الصِّحَّة لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ مَوْصُول من جِهَات أخر صَحِيحَة، وَلم يذكرهُ لشهرته، وَكَيف وَقد عرف من شَرطه وعادته أَنه لَا يجْزم إلاَّ بتثبت وَثُبُوت؟ وَلَيْسَ كل مُنْقَطع يقْدَح فِيهِ، فَهَذَا، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ أَنه مُنْقَطع بِحَسب الِاصْطِلَاح، إلاَّ أَنه فِي حكم الْمُتَّصِل فِي كَونه صَحِيحا، وَقد وَصله أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ فِي بعض النّسخ فَقَالَ: أخبرنَا النضروي، وَهُوَ الْعَبَّاس بن الْفضل، ثَنَا الْحُسَيْن بن إِدْرِيس، ثَنَا هِشَام بن خَالِد، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بِهِ. وَكَذَا وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْمُعَلَّى بن يزِيد، عَن صَفْوَان بن صَالح، عَن الْوَلِيد بن مُسلم، عَن مَالك بن زيد بن أسلم بِهِ. وَقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ بِزِيَادَة فِيهِ، فَقَالَ: أَخْبرنِي الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا حميد بن قُتَيْبَة الْأَسدي، قَالَ: قَرَأت على عبد الله بن نَافِع الصَّانِع أَن مَالِكًا اخبره قَالَ: واخبرني عبد الله بن مُحَمَّد بن مُسلم أَن أَبَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى حَدثنِي يحيى بن عبد الله بن بكير، ثَنَا عبد الله بن وهب أَبَا مَالك ابْن انس، وَاللَّفْظ لِابْنِ نَافِع، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، ان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أذا اسْلَمْ العَبْد كتب الله لَهُ كل حَسَنَة قدمهَا، ومحى عَنهُ كل سَيِّئَة زلفها، ثمَّ قيل لَهُ: أيتنف الْعَمَل الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة، والسيئة بِمِثْلِهَا، إلاَّ أَن يغْفر الله) . وَكَذَا أوصله الْحسن بن سُفْيَان من طَرِيق عبد الله بن نَافِع، وَالْبَزَّار من طَرِيق إِسْحَاق الْفَروِي، وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من طَرِيق اسماعيل بن أبي أويس، كلهم عَن مَالك. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب (غرائب مَالك) : اتّفق هَؤُلَاءِ التِّسْعَة: ابْن وهب، والوليد بن مُسلم، وَطَلْحَة بن يحيى، وَزيد بن شُعَيْب، واسحاق الْفَروِي، وَسَعِيد الزبيرِي، وَعبد الله بن نَافِع، وابراهيم بن الْمُخْتَار، وَعبد الْعَزِيز بن يحيى فَرَوَوْه عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء عَن أبي سعيد، وَخَالفهُم معن بن عِيسَى فَرَوَاهُ عَن مَالك عَن زيد عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة، وَهِي رِوَايَة شَاذَّة وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن اسْلَمْ عَن عَطاء مُرْسلا، وَقد حفظ مَالك الْوَصْل فِيهِ، وَهُوَ اتقن لحَدِيث أهل الْمَدِينَة من غَيره، وَقَالَ الْخَطِيب: هُوَ حَدِيث ثَابت، وَذكر الْبَزَّار أَن مَالِكًا تفرد بوصله، وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أبي سعيد أسقط البُخَارِيّ بعضه، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور من رِوَايَة مَالك فِي غير الْمُوَطَّأ، وَنَصه: (إِذا أسلم الْكَافِر فَحسن إِسْلَامه كتب الله لَهُ لكل حَسَنَة كَانَ زلفها، ومحى عَنهُ كل سَيِّئَة كَانَ زلفها) . وَذكر بَاقِيه بِمَعْنَاهُ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (فَحسن إِسْلَامه) معنى: حسن الْإِسْلَام الدُّخُول فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن جَمِيعًا، يُقَال فِي عرف الشَّرْع: حسن إِسْلَام فلَان، إِذا دخل فِيهِ حَقِيقَة، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيث جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام: (الْإِحْسَان ان تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ) ، فاراد مُبَالغَة الْإِخْلَاص لله، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِالطَّاعَةِ والمراقبة لَهُ. قَوْله: (يكفر الله) من التَّكْفِير وَهُوَ التغطية فِي الْمعاصِي، كالإحباط فِي الطَّاعَات، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: التَّكْفِير إمَاطَة الْعقَاب من الْمُسْتَحق بِثَوَاب(1/250)
أَزِيد اَوْ بتوبة. قَوْله: (كَانَ زلفها) أَي: قربهَا. وَقَالَ ابْن سَيّده: زلف الشَّيْء وزلفه قدمه. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: ازلف الشَّيْء قربه، وَفِي (الْجَامِع) : الزلفة تكون الْقرْبَة من الْخَيْر وَالشَّر، وَفِي (الصِّحَاح) : الزلف التَّقْدِيم، عَن أبي عبيد، وتزلفوا وازدلفوا أَي: تقدمُوا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: زلفها، بتَشْديد اللَّام وَالْفَاء، أَي: أسلفها وقدمها. يُقَال: زلفته تزليفاً وأزلفته إزلافاً، بِمَعْنى التَّقْدِيم. وأصل الزلفة: الْقرْبَة، وَفِي بعض نسخ المغاربة: زلفها، بتَخْفِيف اللَّام. قلت: أزلفها بِزِيَادَة الْألف رِوَايَة أبي ذَر، وَرِوَايَة غَيره: زلفها بِدُونِ الالف وبالتخفيف. وَقَالَ النَّوَوِيّ بِالتَّشْدِيدِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق طَلْحَة بن يحيى عَن مَالك بِلَفْظ: (مَا من عبد يسلم فَيحسن إِسْلَامه إلاَّ كتب الله كل حَسَنَة زلفها ومحى عَنهُ كل خَطِيئَة زلفها) . بِالتَّخْفِيفِ فيهمَا، وللنسائي نَحوه، لَكِن قَالَ: ازلفها، وزلف بِالتَّشْدِيدِ وأزلف بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الْخطابِيّ. وَفِي (الْمُحكم) : أزلف الشَّيْء: قربه، وزلفه، مخففاً ومثقلا: قدمه، وَفِي (الْمَشَارِق) : زلف بِالتَّخْفِيفِ أَي: جمع وَكسب، وَهَذَا يَشْمَل الْأَمريْنِ، وَأما الْقرْبَة فَلَا تكون إلاَّ فِي الْخَيْر، فَإِن قيل: على هَذَا رِوَايَة غير أبي ذَر راجحة. قلت: الَّذِي قَالَه الْخطابِيّ يساعد رِوَايَة أبي ذَر. فَافْهَم. قَوْله: (كتب الله) أَي: أَمر أَن يكْتب، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق زين بن شُعَيْب عَن مَالك بِلَفْظ: (يَقُول الله لملائكته اكتبوا) . قَوْله: (الْقصاص) ، قَالَ الصغاني: هُوَ الْقود. قلت: المُرَاد بِهِ هَهُنَا مُقَابلَة الشَّيْء بالشَّيْء أَي: كل شَيْء يعمله يعْطى فِي مُقَابِله شَيْء، ان خيرا فخيراً، وَإِن شرا فشراً. قَوْله: (ضعف) قَالَ الْجَوْهَرِي: ضعف الشَّيْء مثله، وضعفاه مثلاه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَلم أوجب الْفَقِيه فِيمَا لَو اوصى بِضعْف نصيب ابْنه مثلي نصِيبه، وبضعفي نصِيبه ثَلَاثَة أَمْثَاله؟ قلت: الْمُعْتَبر فِي الْوَصَايَا والأقارير الْعرف الْعَام لَا الْمَوْضُوع اللّغَوِيّ، أَقُول: الَّذِي قَالَه الجوهرى مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة، وَلَكِن قَالَ الْأَزْهَرِي: الضعْف فِي كَلَام الْعَرَب الْمثل إِلَى مَا زَاد، وَلَيْسَ بمقصور على المثلين، بل جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب أَن تَقول: هَذَا ضعفه أَي: مثلاه وَثَلَاثَة أَمْثَاله، لِأَن الضعْف فِي الأَصْل زِيَادَة غير محصورة. ألاَ ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاؤلئك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا} (سبإ: 59) لم يرد مثلا وَلَا مثلين، وَلَكِن أَرَادَ بالضعف الْأَضْعَاف، فَأَقل الضعْف مَحْصُور، وَهُوَ: الْمثل، وَأَكْثَره غير مَحْصُور. فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز أَن يكون إِيجَاب الْفَقِيه فِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة غير مَوْضُوع على الْعرف الْعَام، بل لوحظ فِيهِ اللُّغَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (يَقُول) ، فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله: (سمع) : على قَول من يَدعِي أَنه يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، وَالصَّحِيح أَنه لَا يتَعَدَّى، فَحِينَئِذٍ يكون نصبا على الْحَال، فان قيل: لِمَ لَمْ يقل: قَالَ مناسباً لسمع، مَعَ أَن الْقَضِيَّة مَاضِيَة؟ قلت: أُجِيب لغَرَض الاستحضار كَأَنَّهُ يَقُول الْآن، وَكَأَنَّهُ يُرِيد أَن يطلع الْحَاضِرين على ذَلِك القَوْل مُبَالغَة فِي تحقق وُقُوع القَوْل، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {ان مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} (آل عمرَان: 59) من حَيْثُ لم يقل: فَكَانَ. قَوْله: (فَحسن) : عطف على: (أسلم) . قَوْله: (يكفر الله) ، جَزَاء الشَّرْط، أَعنِي قَوْله: اذا، وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(وَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مسغبة ... يَقُول: لَا غَائِب مَا لي وَلَا حرم)
وَذَلِكَ إِذا كَانَ فعل الشَّرْط مَاضِيا وَالْجَوَاب مضارعاً، وَعند الْجَزْم يلتقي الساكنان فَتحَرك الرَّاء بِالْكَسْرِ لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ، وَلَكِن الرِّوَايَة هَهُنَا بِالرَّفْع، وَوَقع فِي رِوَايَة الْبَزَّار: كفر الله، بِصِيغَة الْمَاضِي، فَوَافَقَ فعل الشَّرْط. وَقَالَ بَعضهم: يكفر الله، بِضَم الرَّاء، لِأَن إِذا، وَإِن كَانَت من أدوات الشَّرْط لَكِنَّهَا لَا تجزم. قلت: هَذَا كَلَام من لم يشم من الْعَرَبيَّة شَيْئا. وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(استغن مَا أَغْنَاك رَبك بالغنى ... وَإِذا تصبك خصَاصَة فَتحمل)
قد جزم إِذا. قَوْله: (تصبك) ، وَقد قَالَ الْفراء: تسْتَعْمل إِذا للشّرط، ثمَّ أنْشد الشّعْر الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: وَلِهَذَا جزمه قَوْله: (كل سَيِّئَة) كَلَام إضافي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: (يكفر الله) . قَوْله: (كَانَ زلفها) ، جمله فعلية فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة سَيِّئَة. قَوْله: (وَكَانَ بعد ذَلِك) أَي: بعد حسن الْإِسْلَام الْقصاص، وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ إسم كَانَ، وَهُوَ يحْتَمل أَن تكون نَاقِصَة وَأَن تكون تَامَّة، وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ الْمَاضِي، وَإِن كَانَ السِّيَاق يَقْتَضِي لفظ الْمُضَارع، لتحَقّق وُقُوعه كَأَنَّهُ وَاقع، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ونادى(1/251)
اصحاب الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 44) قَوْله الْحَسَنَة مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ (وبعشر أَمْثَالهَا) فِي مَحل الرّفْع على الخبرية. قَوْله (إِلَى سَبْعمِائة) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف ومحلها النصب على الْحَال، أَي: منتهية إِلَى سَبْعمِائة. قَوْله: (والسيئة) مُبْتَدأ، (وبمثلها) خَبره، أَي: لَا يُزَاد عَلَيْهَا. قَوْله (إِلَّا أَن يتَجَاوَز الله عَنْهَا) أَي: عَن السَّيئَة، يعْنى: يعْفُو عَنْهَا.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ اسْتِعْمَال الْمُضَارع مَوضِع الْمَاضِي، والماضي الْمُضَارع لنكات ذَكرنَاهَا، وَفِيه: الْجُمْلَة الاستئنافية وَهِي قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن السُّؤَال، وَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَقد علم أَن الْجُمْلَة من حَيْثُ هِيَ هى، غير معربة وَلَا تسْتَحقّ الْإِعْرَاب إلاَّ إِذا وَقعت موقع الْمُفْرد، فَحِينَئِذٍ تكتسي إعرابه محلا، وَقد نظم ابْن ام قَاسم النَّحْوِيّ الْجمل الَّتِي لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب وَالَّتِي لَا مَحل لَهَا مِنْهُ بِثمَانِيَة أَبْيَات، وَهِي قَوْله:
(جمل أَتَت وَلها مَحل مُعرب ... سبع لِأَن حلت مَحل الْمُفْرد)
(خبرية، حَالية، محكية ... وَكَذَا الْمُضَاف لَهَا بِغَيْر تردد)
(ومعلق عَنْهَا، وتابعة لما ... هُوَ مُعرب، أَو ذُو مَحل فاعدد)
(وَجَوَاب شَرط جازمٍ بالفاءِ أَو ... بإذا وَبَعض، قَالَ: غير مُقَيّد)
(وأتتك سبع مَا لَهَا من مَوضِع: ... صلَة، ومعترض، وَجُمْلَة مبتدى)
(وَجَوَاب أَقسَام، وَمَا قد فسرت ... فِي أشهر وَالْخلف غير مبعد)
(وبعيد تحضيض، وَبعد مُعَلّق ... لَا جازمٍ، وَجَوَاب ذَلِك اورد)
(وكذاك تَابِعَة لشَيْء مَا لَهُ ... من مَوضِع، فاحفظه غير مُفند)
وَقد نظمها الشَّيْخ أثير الدّين أَبُو حَيَّان بِسِتَّة أَبْيَات، وَهِي قَوْله:
(وَخذ جملا سِتا، وَعشرا فنصفها ... لَهَا مَوضِع الْإِعْرَاب جَاءَ مُبينًا)
(فوصفية، حَالية، خبرية ... مُضَاف إِلَيْهَا، واحكِ بالْقَوْل مُعْلنا)
(كَذَلِك فِي التَّعْلِيق وَالشّرط والجزا ... إِذا عَامل يَأْتِي بِلَا عمل هُنَا)
(وَفِي غير هَذَا لَا مَحل لَهَا كَمَا ... أَتَت صلَة مبدوة فاتك العنا)
(مُفَسّر أَيْضا، وحشواً كَذَا أَتَت ... كَذَلِك فِي التَحضيض نلْت بِهِ الْغِنَا)
(وَفِي الشَّرْط لم يعْمل كَذَاك جَوَابه ... جَوَاب يَمِين مثله سرك المنى)
قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) من قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} (الْأَنْعَام: 160) وَقَوله: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف) من قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مائَة حَبَّة وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} (الْبَقَرَة: 261) فَإِن قيل: بَين فِي الحَدِيث الِانْتِهَاء إِلَى سَبْعمِائة، وَقَوله تَعَالَى: {وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} (الْبَقَرَة: 261) يدل على أَنه قد يكون الِانْتِهَاء إِلَى أَكثر، وَالْجَوَاب: أَن الله يُضَاعف تِلْكَ المضاعفة، وَهِي أَن يَجْعَلهَا سَبْعمِائة، وَهُوَ ظَاهر. وَإِن قُلْنَا: إِن مَعْنَاهُ أَنه يُضَاعف السبعمائة بِأَن يزِيد عَلَيْهَا أَيْضا، فَذَلِك فِي مَشِيئَته تَعَالَى، واما المتحقق فَهُوَ إِلَى السبعمائة فَقَط، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ صرح فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أخرجه البُخَارِيّ فِي الرقَاق، وَلَفظه: (كتب الله لَهُ عشر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة) . وَفِي كتاب الْعلم، لابي بكر أَحْمد بن عَمْرو بن أبي عَاصِم النَّبِيل، ثَنَا شَيبَان الْأَيْلِي، ثَنَا سُوَيْد بن حَاتِم، ثَنَا أَبُو الْعَوام الجزار، عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (إِن الله تَعَالَى يُعْطي بِالْحَسَنَة الفي ألف حَسَنَة) . وَأَيْضًا: فَفِي جملَة حَدِيث مَالك، مِمَّا اسقطه البُخَارِيّ (ان الْكَافِر إِذا حسن إِسْلَامه يكْتب لَهُ فِي الْإِسْلَام كل حَسَنَة عَملهَا فِي الشّرك) ، فَالله تَعَالَى من فَضله إِذا كتب الْحَسَنَات الْمُتَقَدّمَة قبل الاسلام فبالاولى أَن يتفضل على عَبده الْمُسلم بِمَا شَاءَ من غير حِسَاب، وَنَظِير هَذَا الَّذِي أسْقطه البُخَارِيّ مَا جَاءَ فِي حَدِيث حَكِيم بن حزَام: (أسلمت على مَا أسلفت من خير) . أخرجه البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة، وَفِي الْعتْق. وَمُسلم فِي الْإِيمَان. فان قلت: لِمَ أسقط البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة؟ قلت: قيل: إِنَّه أسْقطه عمدا، وَقيل: لِأَنَّهُ مُشكل على الْقَوَاعِد، فَقَالَ الْمَازرِيّ، ثمَّ القَاضِي وَغَيرهمَا: ان الْجَارِي على الْقَوَاعِد وَالْأُصُول، أَنه لَا يَصح من الْكَافِر التَّقَرُّب، فَلَا يُثَاب على طَاعَته فِي شركه، لِأَن من شَرط التَّقَرُّب أَن يكون عَارِفًا بِمن تقرب(1/252)
اليه، وَالْكَافِر لَيْسَ كَذَلِك، وَأولُوا حَدِيث حَكِيم بن حزَام من وُجُوه. الأول: أَن معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اسلمت على مَا اسلفت من خير) : إِنَّك اكْتسبت طباعاً جميلَة تنْتَفع بِتِلْكَ الطباع فِي الْإِسْلَام بِأَن يكون لَك مَعُونَة على فعل الطَّاعَات. وَالثَّانِي: اكْتسبت ثَنَاء جميلاً بَقِي لَك فِي الاسلام. وَالثَّالِث: لَا يبعد أَن يُزَاد فِي حَسَنَاته الَّتِي يَفْعَلهَا فِي الْإِسْلَام، وَيكثر أجره لما تقدم لَهُ من الْأَفْعَال الحميدة. وَقد جَاءَ أَن الْكَافِر إِذا كَانَ يفعل خيرا فَإِنَّهُ يُخَفف عَنهُ بِهِ، فَلَا يبعد أَن يُزَاد فِي أجوره. وَالرَّابِع: زَاده القَاضِي، وَهُوَ أَنه ببركة مَا سبق لَك من الْخَيْر هداك الله لِلْإِسْلَامِ، أَي: سبق لَك عِنْد الله من الْخَيْر مَا حملك على فعله فِي جاهليتك، وعَلى خَاتِمَة الْإِسْلَام. وتعقبهم النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) فَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ ضَعِيف، بل الصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَقد ادّعى فِيهِ الْإِجْمَاع على أَن الْكَافِر إِذا فعل أفعالاً جميلَة على جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى: كصدقة وصلَة رحم واعتاق وَنَحْوهَا من الْخِصَال الجميلة، ثمَّ أسلم، يكْتب لَهُ كل ذَلِك ويثاب عَلَيْهِ إِذا مَاتَ على الْإِسْلَام، وَدَلِيله حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ الذى يَأْتِي الْآن، وَحَدِيث حَكِيم بن حزَام ظَاهر فِيهِ، وَهَذَا أَمر لَا يحيله الْعقل، وَقد ورد الشَّرْع بِهِ، فَوَجَبَ قبُوله. وَأما دَعْوَى كَونه مُخَالفا لِلْأُصُولِ فَغير مَقْبُولَة، وَأما قَول الْفُقَهَاء: لَا تصح عبَادَة من كَافِر وَلَو اسْلَمْ، لم يعْتد بهَا، فمرادهم: لَا يعْتد بهَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض لثواب الْآخِرَة، فان أقدم قَائِل على التَّصْرِيح بِأَنَّهُ إِذا أسلم لَا يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، فَهُوَ مجازف، فَيرد قَوْله بِهَذِهِ السّنة الصَّحِيحَة. وَقد يعْتد بِبَعْض أَفعَال الْكَافِر فى الدُّنْيَا، فَقَالَ: قَالَ الْفُقَهَاء: إِذا لزمَه كَفَّارَة ظِهَار وَغَيرهَا فَكفر فِي حَال كفره اجزأه ذَلِك، وَإِذا اسْلَمْ لَا يلْزم إِعَادَتهَا، وَاخْتلفُوا فِيمَا لَو اجنب واغتسل فِي كفره، ثمَّ اسْلَمْ، هَل يلْزمه إِعَادَة الْغسْل؟ وَالأَصَح اللُّزُوم، وَبَالغ بعض أَصْحَابنَا فَقَالَ: يَصح من كل كَافِر طَهَارَة، غسلا كَانَت أَو وضوء أَو تيمماً، وَإِذا أسلم صلى بهَا، وَقد ذهب إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ النَّوَوِيّ ابراهيم الْحَرْبِيّ وَابْن بطال والقرطبي وَابْن مُنِير، وَقَالَ ابْن مُنِير: الْمُخَالف للقواعد دَعْوَى أَنه يكْتب لَهُ ذَلِك فِي حَال كفره واما أَن الله يضيف إِلَى حَسَنَاته فِي الْإِسْلَام ثَوَاب مَا كَانَ صدر مِنْهُ مِمَّا كَانَ يَظُنّهُ خيرا، فَلَا مَانع مِنْهُ كَمَا لَو تفضل عَلَيْهِ ابْتِدَاء من غير عمل، وكما يتفضل على الْعَاجِز بِثَوَاب مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ قَادر، فَإِذا جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا لم يعْمل أَلْبَتَّة، جَازَ أَن يكْتب لَهُ ثَوَاب مَا عمله غير موفي الشُّرُوط. وَقَالَ ابْن بطال: لله تَعَالَى ان يتفضل على عباده بِمَا شَاءَ، وَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ.
فَوَائِد: مِنْهَا: أَن فِيهِ الْحجَّة على الْخَوَارِج وَغَيرهم من الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ ويوجبون خُلُود المذنبين فِي النَّار. وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (إلاَّ ان يتَجَاوَز الله عَنْهَا) دَلِيل لمَذْهَب أهل السّنة أَنه تَحت الْمَشِيئَة، إِن شَاءَ الله تجَاوز عَنهُ، وَإِن شَاءَ أَخذه. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دَلِيلا لَهُم فِي أَن أَصْحَاب الْمعاصِي لَا يقطع عَلَيْهِم بالنَّار، خلافًا للمعتزلة، فَإِنَّهُم قطعُوا بعقاب صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ بِلَا تَوْبَة. وَمِنْهَا: مَا قَالَ بَعضهم: أول الحَدِيث يرد على من أنكر الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الْإِيمَان، لِأَن الْحسن تَتَفَاوَت درجاته، قلت: هَذَا كَلَام سَاقِط، لِأَن الْحسن من أَوْصَاف الْإِيمَان، وَلَا يلْزم من قابلية الْوَصْف الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان قابلية الذَّات إيَّاهُمَا، لِأَن الذَّات من حَيْثُ هُوَ لَا يقبل ذَلِك كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
42 - حدّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ حّدثنا عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ همامٍ عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أحْسَنَ أحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: اسحق بن مَنْصُور بن بهْرَام، وَقَالَ النَّوَوِيّ، بِكَسْر الْبَاء، وَالْمَشْهُور فتحهَا، أَبُو يَعْقُوب الكوسج من أهل مرو سكن بنيسابور ورحل إِلَى الْعرَاق وَالشَّام والحجاز، روى عَنهُ الْجَمَاعَة إلاَّ أَبَا دَاوُد، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي دوَّن عَن أَحْمد الْمسَائِل. قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة ثَبت، مَاتَ بنيسابور سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع الْيَمَانِيّ الصَّنْعَانِيّ، سمع عبد الله المعمرى ومعمراً وَالثَّوْري ومالكاً وَغَيرهم، قَالَ معمر: عبد الرَّزَّاق خليق أَن يضْرب إِلَيْهِ أكباد الْإِبِل. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَا رَأَيْت أحسن من عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ(1/253)
الْحَافِظ أَبُو احْمَد بن عدي، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَنسبه الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم إِلَى الْكَذِب. قَالَ: والواقدي أصدق مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو أَحْمد: لعبد الرَّزَّاق حَدِيث كثير، وَقد رَحل إِلَيْهِ النَّاس وَكَتَبُوا عَنهُ، وَلم يرَوا بحَديثه بَأْسا، إلاَّ أَنهم نسبوه إِلَى التَّشَيُّع، وَقد روى أَحَادِيث فِي فَضَائِل أهل الْبَيْت ومثالب غَيرهم مِمَّا لم يُوَافقهُ عَلَيْهَا أحد من الثِّقَات، فَهَذَا أعظم مَا ذموه بِهِ من رِوَايَته الْمَنَاكِير، وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي كتاب (الضُّعَفَاء) : عبد الرَّزَّاق بن همام فِيهِ نظر لمن كتب عَنهُ بِآخِرهِ، وَزَاد بَعضهم عَن النَّسَائِيّ: كتبت عَنهُ أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) : مَا حدث بِهِ عبد الرَّزَّاق من كِتَابه فَهُوَ أصح، مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين، ابْن رَاشد، أَبُو عُرْوَة الْبَصْرِيّ، وَقد مر ذكره، فِي أول الْكتاب. الرَّابِع: همام، بتَشْديد الْمِيم، بن مُنَبّه بن كَامِل بن سيج، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَقيل بِكَسْرِهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم، أَبُو عقبَة الْيَمَانِيّ الصَّنْعَانِيّ الذمارِي الأبناوي، أَخُو وهب، وَهُوَ أكبر مِنْهُ، تَابِعِيّ، سمع أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة، توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِصَنْعَاء، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَهُوَ من الْأَفْرَاد وَإِن كَانَ يشْتَرك مَعَه فِي الِاسْم دون الْأَب جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَا يلْتَفت إِلَى تَضْعِيف الفلاس لَهُ، فَإِنَّهُ من فرسَان الصَّحِيحَيْنِ. الْخَامِس: ابو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
ذكر الانساب: الصَّنْعَانِيّ: نِسْبَة إِلَى صنعا مَدِينَة بِالْيمن، بِزِيَادَة النُّون فِي آخِره، وَالْقِيَاس أَن يُقَال: صنعاوي، وَمن الْعَرَب من يَقُوله، فابدلوا من الْهمزَة النُّون، لِأَن الالف وَالنُّون يشابهان ألفي التَّأْنِيث، وصنعا أَيْضا قَرْيَة بِالشَّام، وَهَذِه النِّسْبَة شَاذَّة. الْيَمَانِيّ: نِسْبَة إِلَى الْيمن، بِزِيَادَة الْألف، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْيمن بِلَاد الْعَرَب، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا يمني ويمان، مُخَفّفَة وَالْألف عوض من يَاء النِّسْبَة، فَلَا يَجْتَمِعَانِ. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يَقُول: يماني، بِالتَّشْدِيدِ. فَافْهَم. الذمارِي، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم، نِسْبَة إِلَى ذمار، على مرحلَتَيْنِ من صنعاء وَفِي الْعباب: ذمار بِفَتْح الذَّال وَيُقَال ذمار مثل قطام، قَرْيَة بِالْيمن على مرحلة من صنعاء، سميت بقيل من أقيال حمير. الأبناوي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح النُّون، نِسْبَة إِلَى: الْأَبْنَاء، وهم قوم بِالْيمن من ولد الْفرس الَّذين جهزهم كسْرَى مَعَ سيف بن ذِي يزن إِلَى ملك الْحَبَشَة، فغلبوا الْحَبَشَة وَأَقَامُوا بِالْيمن، وَقَالَ ابو حَاتِم بن حبَان: كل من ولد بِالْيمن من أَوْلَاد الْفرس، وَلَيْسَ من الْعَرَب يُقَال: ابناوي، وهم: الابناويون.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، قَوْله: (حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور) ، وَفِي النّسخ: حَدثنِي، بِالْإِفْرَادِ، وَقَوله: (حَدثنَا معمر) ، وَفِي بعض النّسخ: اُخْبُرْنَا معمر. وَمِنْهَا: أَن هَذَا الْإِسْنَاد إِسْنَاد حَدِيث من نُسْخَة همام الْمَشْهُورَة المروية بِإِسْنَاد وَاحِد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ، وَقد اخْتلفُوا فِي إِفْرَاد حَدِيث من نُسْخَة هَل يساق بإسنادها وَلَو لم يكن مُبْتَدأ بِهِ أَو لَا، فالجمهور على جَوَازه، وَمِنْهُم البُخَارِيّ، وَقيل: بِالْمَنْعِ، وَمُسلم أَيْضا أخرجه بِهَذَا السَّنَد، غير أَنه عَن شَيْخه مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق ... الخ، وَلكنه أخرجه معلولاً، وَهُوَ أَيْضا أخرجه فِي كتاب الْإِيمَان، وغالب مَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ من الْكَلَام فِي الْوُجُوه الْمَذْكُورَة قد مر فِي الحَدِيث السَّابِق، قَوْله: (أحدكُم) ، الْخطاب فِيهِ بِحَسب اللَّفْظ، وَإِن كَانَ للحاضرين من الصَّحَابَة، لَكِن الحكم عَام لما علم أَن حكمه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْوَاحِد حكم على الْجَمَاعَة إلاَّ بِدَلِيل مُنْفَصِل، وَكَذَا حكمه تنَاول النِّسَاء، وَكَذَا فِيمَا إِذا قَالَ: إِذا أسلم الْمَرْء أَو العَبْد، فَإِن المُرَاد مِنْهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا بالِاتِّفَاقِ، وَأما النزاع فِي كَيْفيَّة التَّنَاوُل أَهِي حَقِيقَة عرفية أَو شَرْعِيَّة أَو مجَاز أَو غير ذَلِك؟ قَوْله: (إِذا أحسن أحدكُم إِسْلَامه) كَذَا فِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَوَقع فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن عبد الرَّزَّاق: إِذا أحسن إِسْلَام أحدكُم، وَرَوَاهُ الاسماعيلي من طَرِيق ابْن الْمُبَارك عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر كالاول، فَإِن قيل: فِي الحَدِيث السَّابِق: الْحَسَنَة والسيئة، وَهَهُنَا: كل حَسَنَة وكل سَيِّئَة، فَمَا الْفرق بَينهمَا؟ قلت: لَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى، لِأَن الْألف وَاللَّام فيهمَا هُنَاكَ للاستغراق، وكل: أَيْضا، للاستغراق، وَكَذَا لَا فرق فِي إِطْلَاق الْحَسَنَة ثمَّة، وَالتَّقْيِيد هُنَا بقوله: (يعملها) إِذْ الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد، لِأَن الْحَسَنَة المنوية لَا تكْتب بالعشر، إِذْ لَا بُد من الْعَمَل حَتَّى تكْتب بهَا، وَأما السَّيئَة فَلَا اعْتِدَاد بهَا دون الْعَمَل أصلا، وَكَذَا فِي زِيَادَة لفظ تكْتب هُنَا، إِذْ ثمَّة أَيْضا مُقَدّر بِهِ، لِأَن الْجَار لَا بُد لَهُ من مُتَعَلق، وَهُوَ: تكْتب، أَو تثبت، أَو نَحْوهمَا. قَوْله: (بِمِثْلِهَا) ، وَزَاد مُسلم واسحاق والأسماعيلي فِي روايتهم: حَتَّى يلقى الله تَعَالَى، فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب إِذا؟ قلت: الْجُمْلَة بِالْفَاءِ، أَعنِي قَوْله: (فَكل حَسَنَة يعملها تكْتب لَهُ) فَقَوله: كل حَسَنَة، كَلَام(1/254)
إضافي، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (تكْتب لَهُ) ، وَقَوله: (يعملها) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لحسنة. قَوْله: (إِلَى سَبْعمِائة) فِي مَحل النصب على الْحَال، اى: منتهية إِلَى سَبْعمِائة. قَوْله: (بِمِثْلِهَا) الْبَاء فِيهِ للمقابلة، وَالله اعْلَم.
32 - (بَاب أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ أدْوَمُهُ)
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه. الأول: قَوْله: بَاب، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف غير منون إِن اعْتبرت إِضَافَته إِلَى الْجُمْلَة. وَقَوله: (أحب الدّين) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: (أَدْوَمه) . الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهُوَ: الِامْتِثَال بالأوامر والانتهاء عَن النواهي، والشفقة على خلق الله تَعَالَى، وَالْمَطْلُوب فِي هَذَا: المداومة والمواظبة، وَكلما واظب العَبْد عَلَيْهِ وداوم زَاد من الله محبَّة، لِأَن الله تَعَالَى يحب مداومة العَبْد على الْعَمَل الصَّالح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أحب الدّين، أَي: أحب الْعلم، إِذْ الدّين هُوَ الطَّاعَة، ومناسبته لكتاب الْإِيمَان من جِهَة أَن الدّين وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد. قلت: الْعجب مِنْهُ كَيفَ رَضِي بِهَذَا الْكَلَام، فالمناسبة لَا تطلب إلاَّ بَين الْبَابَيْنِ المتواليين، وَلَا تطلب بَين بَابَيْنِ أَو بَين كتاب وَبَاب بَينهمَا أَبْوَاب عديدة، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ باتحاد الدّين وَالْإِيمَان والاسلام، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَقد حققناه فِيمَا مضى، وَقَالَ بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، لِأَن المُرَاد بِالدّينِ هُنَا: الْعَمَل، وَالدّين الْحَقِيقِيّ هُوَ الْإِسْلَام، وَالْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده. . ومناسبته لما قبله من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، لِأَنَّهُ لما قدم: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، أَرَادَ أَن يُنَبه على أَن جِهَاد النَّفس فِي ذَلِك إِلَى حد المغالبة غير الْمَطْلُوب. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: إِن قَوْله: مُرَاد المُصَنّف الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال غير صَحِيح، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على هَذَا، وَالِاسْتِدْلَال بالترجمة لَيْسَ باستدلال يقوم بِهِ الْمُدَّعِي. فَإِن قلت: فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله: أحب الدّين إِلَيْهِ، فَإِن المُرَاد هَهُنَا من الدّين الْعَمَل، وَقد أطلق عَلَيْهِ الدّين. قلت: هَذَا إِنَّمَا يمشي إِذا أطلق الدّين الْمَعْهُود المصطلح على الْعَمَل وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن المُرَاد بِالدّينِ هَهُنَا الطَّاعَة بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيّ فَإِن لفظ الدّين مُشْتَرك بَين مَعَاني كَثِيرَة مُخْتَلفَة. الدّين: بِمَعْنى الْعِبَادَة، وَبِمَعْنى الْجَزَاء، وَبِمَعْنى الطَّاعَة، وَبِمَعْنى الْحساب، وَبِمَعْنى السُّلْطَان، وَبِمَعْنى الْملَّة، وَبِمَعْنى الْوَرع، وَبِمَعْنى الْقَهْر، وَبِمَعْنى الْحَال، وَبِمَعْنى مَا يتدين بِهِ الرجل، وَبِمَعْنى الْعُبُودِيَّة، وَبِمَعْنى الْإِسْلَام. وَفِي (الْمُحكم) : الدّين: الْإِسْلَام. الثَّانِي: أَنه قَالَ: الْإِسْلَام الْحَقِيقِيّ مرادف للْإيمَان، يَعْنِي كِلَاهُمَا وَاحِد، وَقَالَ: إِن الْإِيمَان يُطلق على الْأَعْمَال، يُشِير بِهِ إِلَى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ: إِن الْإِسْلَام يحسن بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، فَكَلَامه يُشِير إِلَى أَن الْأَعْمَال لَيست من الْإِيمَان، لِأَن الْحسن من الْأَوْصَاف الزَّائِدَة على الذَّات، وَهِي غير الذَّات. فينتج من كَلَامه أَن الْإِسْلَام يحسن بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فَاسد. الثَّالِث: قَوْله: فَيصح بِهَذَا مَقْصُوده، ومناسبته لما قبله غير مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ لَا يظْهر وَجه الْمُنَاسبَة لما قلبه مِمَّا قَالَه أصلا، وَكَيف يُوجد وَجه الْمُنَاسبَة من قَوْله: عَلَيْكُم بِمَا تطيقون، والترجمة لَيست عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجه الْمُنَاسبَة لما قبله مَا ذكرت لَك آنِفا. فَافْهَم. الْوَجْه الثَّالِث: قَوْله: (أحب الدّين) ، أحب هَهُنَا أفعل لتفضيل الْمَفْعُول، ومحبة الله تَعَالَى للدّين إِرَادَة إِيصَال الثَّوَاب عَلَيْهِ. قَوْله: (أَدْوَمه) هُوَ أفعل من الدَّوَام، وَهُوَ شُمُول جَمِيع الْأَزْمِنَة أَي: التَّأْبِيد. فَإِن قيل: شُمُول الْأَزْمِنَة لَا يقبل التَّفْضِيل، فَمَا معنى الأدوم؟ أُجِيب: بِأَن المُرَاد بالدوام هُوَ الدَّوَام الْعرفِيّ، وَذَلِكَ قَابل للكثرة والقلة. فَافْهَم.
43 - حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى حدّثنا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ عائِشَةَ أَن النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وعندْهَا امرَأةٌ قالَ مَنْ هَذِهِ قالَتْ فُلاَنَةُ تذْكرُ مِنْ صَلاَتِها قالَ مَهْ عَلَيكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَواللَّهِ لاَ يَمِلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
(الحَدِيث 43 طرفه: 1151) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي قَوْله: (وَكَانَ أحب الدّين إِلَيْهِ مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه) غير أَنه غيَّر لفظ: مَا داوم عَلَيْهِ، وَلكنه فِي الْمَعْنى مثله، وَلِهَذَا قَالَ فِي التَّرْجَمَة: إِلَى الله، بدل: إِلَيْهِ، وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده. وَكَذَا فِي رِوَايَة عَبدة عَن هِشَام، وَعند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده، وَكَذَا للْبُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَهَذِه الرِّوَايَات توَافق التَّرْجَمَة.(1/255)
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزَّمن، وَقد مر فِي بَاب: حلاوة الْإِيمَان. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان الْأَحول، وَقد مر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يجب لِأَخِيهِ. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَقد مر ذكرهمَا فِي الحَدِيث الثَّانِي من الصَّحِيح. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد مر ذكرهَا أَيْضا غير مرّة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الصَّلَاة، وَقَالَ فِيهِ: (كَانَت عِنْدِي امْرَأَة من بني أَسد) ، وسماها مُسلم، لَكِن قَالَ فِيهِ: إِن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى مرت بهَا وَعِنْدهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: هَذِه الحولاء بنت تويت، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تنام اللَّيْل. فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (خُذُوا من الْعَمَل مَا تطيقون، فوَاللَّه لَا يسأم الله حَتَّى تسأموا) وَذكر مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَفِيه: (فَقيل لَهُ هَذِه الحولاء لَا تنام اللَّيْل، فكره ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى عرفت الْكَرَاهِيَة فِي وَجهه) ، وَذكره مُسلم من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، ثمَّ ذكر حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عُرْوَة كَمَا أوردهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الصَّلَاة، وَفِيه: (أَنه عَلَيْهِ السَّلَام دخل عَلَيْهَا وَعِنْدهَا امْرَأَة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان وَالصَّلَاة عَن شُعَيْب بن يُوسُف النَّسَائِيّ عَن يحيى بن سعيد بِهِ. فَإِن قلت: قَوْله: (وَعِنْدهَا امْرَأَة) هِيَ الحولاء أَو غَيرهَا. قلت: يحْتَمل أَن تكون هَذِه وَاقعَة أُخْرَى: إِحْدَاهمَا أَنَّهَا مرت بهَا، وَالْأُخْرَى كَانَت عِنْدهَا، وَيحْتَمل أَن تكون غَيرهَا، لَكِن قَول البُخَارِيّ: وَعِنْدِي امْرَأَة من بني أَسد، يدل على أَنَّهَا الحولاء بنت تويت، وَلَكِن الظَّاهِر أَن الْقِصَّة وَاحِدَة دلّت عَلَيْهَا رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث: (مرت برَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، الحولاء) أخرجه مُحَمَّد بن نصر فِي كتاب (قيام اللَّيْل) . وَجه التَّوْفِيق أَن يحمل على أَنَّهَا كَانَت أَولا عِنْد عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فَلَمَّا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَت الْمَرْأَة لتخرج فمرت بِهِ فِي خلال ذهابها، فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبِهَذَا اتّفقت الرِّوَايَات، و: الحولاء، بِالْحَاء الْمُهْملَة، تَأْنِيث الْأَحول، وتويت، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق أَيْضا، و: كَانَت الحولاء امْرَأَة صَالِحَة عابدة مهاجرة، رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (فُلَانَة) . أَي: الحولاء الأَسدِية وَهِي غير منصرف، لِأَن حكمهَا حكم أَعْلَام الْحَقَائِق: كأسامة، لِأَنَّهَا كِنَايَة عَن كل علم مؤنث للأناس المؤنثة، فَفِيهَا العلمية والتأنيث. قَوْله: (مَه) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَهِي: إسم سمي بِهِ الْفِعْل، وبنيت على السّكُون، وَمَعْنَاهُ: اكفف، فَإِن وصلت نونته فَقلت: مَه مَه، وَيُقَال: مهمهت بِهِ، أَي: زجرته. وَقَالَ التَّيْمِيّ: إِذا دخله التَّنْوِين كَانَ نكرَة وَإِذا حذف كَانَ معرفَة، وَهَذَا الْقسم من أَقسَام التَّنْوِين الَّذِي يخْتَص بِالدُّخُولِ على النكرَة ليفصل بَينهَا وَبَين الْمعرفَة، فالمعرفة غير منون، والنكرة منون. قَوْله: (عَلَيْكُم) أَيْضا من أَسمَاء الْأَفْعَال، أَي: الزموا من الْأَعْمَال مَا تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا يمل الله) من الملالة، وَهِي السَّآمَة والضجر، وَفِي (الفصيح) فِي بَاب فعلت: مللت من الشي أمل. وَفِي (الْمُحكم) : مللت الشَّيْء مللاً وملالاً وملالة، وأملني وأمل عَليّ: أبرمني، وَرجل ملول وملالة وملولة وَذُو مِلَّة، وَالْأُنْثَى ملول وملولة، ملول على الْمُبَالغَة، وَفِي (الْجَامِع) : فَأَنت مَال. قَوْله: (أحب الدّين) أَي: أحب الطَّاعَة، وَمِنْه فِي الحَدِيث فِي صفة الْخَوَارِج: (يَمْرُقُونَ من الدّين) ، أَي: من طَاعَة الْأَئِمَّة، وَيجوز أَن يكون فِيهِ حذف تَقْدِيره أحب أَعمال الدّين. وَقَالَ التَّيْمِيّ: فَإِن قلت: المُرَاد بيمرقون من الدّين: من الْإِيمَان، لِأَنَّهُ ورد فِي رِوَايَة أُخْرَى: (يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام) . قلت: الْخَوَارِج غير خَارِجين من الدائرة بالِاتِّفَاقِ، فَيحمل الْإِسْلَام على الاستسلام الَّذِي هُوَ الانقياد وَالطَّاعَة. قَوْله: (داوم) ، من المداومة وَهِي: الْمُوَاظبَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: المداومة على الْأَمر الْمُوَاظبَة عَلَيْهِ، وثلاثيه: دَامَ الشَّيْء يَدُوم ويدام دَوْمًا ودواما وديمومة، وأدامه غَيره، ودام الشَّيْء: سكن.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (دخل عَلَيْهَا) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن، قَوْله: (وَعِنْدهَا امْرَأَة) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (قَالَ) هَكَذَا بِغَيْر فَاء رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَقَالَ) بِالْفَاءِ العاطفة، وَوجه الأول أَن تكون جملَة استثنائية، أَعنِي: جَوَاب سُؤال مُقَدّر، فَكَأَن قَائِلا يَقُول: مَاذَا قَالَ حِين دخل؟ قَالَت: قَالَ: من هَذِه؟ فَقَوله:(1/256)
(من) مُبْتَدأ، و (هَذِه) خَبره، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله: (قَالَت) أَي: عَائِشَة فعل وفاعل. قَوْله: (فُلَانَة) مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ فُلَانَة أَي: الحولاء الأَسدِية. (تذكر) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، فعل مضارع للمؤنث، وفاعله عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، ويروى: يذكر، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف المضمومة على فعل مَا لم يسم فَاعله. وَقَوله: (من صلَاتهَا) فِي مَحل الرّفْع مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالْمعْنَى يذكرُونَ أَن صلَاتهَا كَثِيرَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان: (لَا تنام تصلي) وعَلى الْوَجْه الأول: هِيَ، فِي مَحل النصب على المفعولية. قَوْله: (مَه) مقول القَوْل. قَوْله: (بِمَا تطيقون) ، وَفِي رِوَايَة: (مَا تطيقون) ، بِغَيْر الْبَاء، وَمَعْنَاهُ: مَا تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَدرنَا دوَام الْفِعْل لَا أصل الْفِعْل لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ. قَوْله: (فوَاللَّه) مجرور بواو الْقسم. قَوْله: (لَا يمل الله) ، فعل وفاعل. قَوْله: (حَتَّى تملوا) أَي: حَتَّى أَن تملوا، فَإِن مقدرَة، وَلِهَذَا نصبت: تملوا. قَوْله: (أحب الدّين) كَلَام إضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى الله. قَوْله: (مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه) فِي مَحل النصب، لِأَنَّهُ خبر كَانَ، وَصَاحبه مَرْفُوع بداوم أَو كلمة: مَا، للمدة. وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام صَاحبه عَلَيْهِ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَه) زجر كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون لعَائِشَة، وَالْمرَاد نهيها عَن مدح الْمَرْأَة، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد النَّهْي عَن تكلّف عمل لَا يُطَاق بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بعده: (عَلَيْكُم من الْعَمَل مَا تطيقون) . وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّ عَائِشَة أمنت عَلَيْهَا الْفِتْنَة، فَلذَلِك مدحتها فِي وَجههَا. قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على أَنَّهَا إِنَّمَا ذكرت ذَلِك بعد أَن خرجت الْمَرْأَة، أخرجهَا الْحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده من طَرِيقه، وَلَفظه: (كَانَت عِنْدِي امْرَأَة، فَلَمَّا قَامَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من هَذِه يَا عَائِشَة؟ قلت: يَا رَسُول الله هَذِه فُلَانَة، وَهِي أعبد أهل الْمَدِينَة) . قَوْله: (من الْعَمَل) يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ صَلَاة اللَّيْل، لوروده على سَببه، وَيحْتَمل أَن يحمل على جَمِيع الْأَعْمَال، قَالَه الْبَاجِيّ قَوْله: (بِمَا تطيقون) قَالَ القَاضِي: النّدب إِلَى تكلّف مَا لنا بِهِ طَاقَة، وَيحْتَمل النَّهْي عَن تكلّف مَا لَا نطيق، وَالْأَمر بالاقتصار على مَا نطيق. قَالَ: وَهُوَ أنسب للسياق. قَوْله: (عَلَيْكُم من الْعَمَل بِمَا تطيقون) فِيهِ عدُول عَن خطاب النِّسَاء إِلَى خطاب الرِّجَال، وَكَانَ الْخطاب للنِّسَاء فَيَقْتَضِي أَن يُقَال: عليكن، وَلَكِن لما طلب تَعْمِيم الحكم لجَمِيع الْأمة غلب الذُّكُور على الْإِنَاث فِي الذّكر. قَوْله: (فوَاللَّه لَا يمل الله حَتَّى تملوا) ، فِيهِ المشاكلة والازدواج، وَهُوَ: أَن يكون إِحْدَى اللفظتين مُوَافقَة لِلْأُخْرَى وَإِن خَالَفت مَعْنَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 194) مَعْنَاهُ: فجازوه على اعتدائه، فَسَماهُ اعتداء، وَهُوَ عدل لتزدوج اللَّفْظَة الثَّانِيَة مَعَ الأولى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 40) وَقَالَ الشَّاعِر، وَهُوَ عمر بن كُلْثُوم:
(إِلَّا لَا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)
أَرَادَ: فنجازيه على فعله، فَسَماهُ جهلا، وَالْجهل لَا يفخر بِهِ ذُو عقل، وَلكنه على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ. وَالْحَاصِل أَن الملال لَا يجوز على الله تَعَالَى، وَلَا يدْخل تَحت صِفَاته لِأَنَّهُ ترك الشَّيْء استثقالاً وكراهية لَهُ بعد حرص ومحبة فِيهِ، وَهُوَ من صِفَات الْمَخْلُوق، فَلَا بُد من تَأْوِيل. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنه لَا يتْرك الثَّوَاب على الْعَمَل مَا لم يذكر الْعَمَل، وَذَلِكَ أَن من مل شَيْئا تَركه، فكنى عَن التّرْك بالملال الَّذِي هُوَ سَبَب التّرْك، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَنه لَا يمل إِذا مللتم. قَالَ: ومثاله قَوْلهم فِي البليغ: فلَان لَا يَنْقَطِع حَتَّى تَنْقَطِع خصومه، مَعْنَاهُ لَا يَنْقَطِع إِذا انْقَطَعت خصومه، وَلَو كَانَ لم يكن لَهُ فضل على غَيره. وَقَالَ بَعضهم: وَمَعْنَاهُ أَن الله لَا يتناهى حَقه عَلَيْكُم فِي الطَّاعَة حَتَّى يتناهى جهدكم قبل ذَلِك، فَلَا تكلفوا مَا لَا تطيقون من الْعَمَل، كنى بالملال عَنهُ لِأَن من تناهت قوته عَن أَمر، وَعجز عَن فعله مله وَتَركه. وَقَالَ التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله لَا يمل أبدا مللتم أَنْتُم أَو لم تملوا، نَحْو قَوْلهم: لَا أُكَلِّمك حَتَّى يشيب الْغُرَاب. وَلَا يَصح التَّشْبِيه، لِأَن شيب الْغُرَاب لَيْسَ مُمكنا عَادَة، بِخِلَاف ملل الْعباد. وَحكى الْمَاوَرْدِيّ أَن: حَتَّى، هَهُنَا بِمَعْنى: حِين، أَو بِمَعْنى: الْوَاو، وَهَذَا ضَعِيف جدا.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على اسْتِعْمَال الْمجَاز، وَهُوَ إِطْلَاق الْملَل على الله تَعَالَى. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْحلف من غير استحلاف، وَأَنه لَا كَرَاهَة فِيهِ إِذا كَانَ فِيهِ تفخيم أَمر، أَو حث على طَاعَة، أَو تنفير عَن مَحْذُور وَنَحْوه، وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: يكره الْيَمين إلاَّ فِي مَوَاضِع: مِنْهَا مَا ذكرنَا. وَمِنْهَا: إِذا كَانَت فِي دَعْوَى فَلَا تكره إِذا كَانَ صَادِقا. الثَّالِث:(1/257)
فِيهِ فَضِيلَة الدَّوَام على الْعَمَل والحث على الْعَمَل الَّذِي يَدُوم وَالْعَمَل الْقَلِيل الدَّائِم خير من الْكثير الْمُنْقَطع، لِأَن بدوام الْقَلِيل تدوم الطَّاعَة وَالذكر، والمراقبة وَالنِّيَّة والأخلاص والإقبال على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويثمر الْقَلِيل الدَّائِم بِحَيْثُ يزِيد على الْكثير الْمُنْقَطع أضعافا كَثِيرَة. الرَّابِع: فِيهِ بَيَان شَفَقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأفته بأمته، لِأَنَّهُ أرشدهم إِلَى مَا يصلحهم، وَهُوَ مَا يُمكنهُم الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا مشقة، لِأَن النَّفس تكون فِيهِ أنشط، وَيحصل مِنْهُ مَقْصُود الْأَعْمَال وَهُوَ الْحُضُور فِيهَا والدوام عَلَيْهَا، بِخِلَاف مَا يشق عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ تعرض لِأَن يتْرك كُله أَو بعضه، أَو يَفْعَله بكلفة فيفوته الْخَيْر الْعَظِيم. وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد والمهلب: إِنَّمَا قَالَه عَلَيْهِ السَّلَام خشيَة الملال اللَّاحِق، وَقد ذمّ الله من الْتزم فعل الْبر ثمَّ قطعه بقوله: {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها} (الْحَدِيد: 57) أَلا ترى أَن عبد الله بن عَمْرو نَدم على مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّخْفِيفِ عَنهُ لما ضعف، وَمَعَ ذَلِك لم يقطع الَّذِي الْتَزمهُ. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ على أَن صَلَاة جَمِيع اللَّيْل مَكْرُوهَة، وَعَن جمَاعَة من السّلف لَا بَأْس بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ القَاضِي: كرهه مَالك مرّة، وَقَالَ: لَعَلَّه يَصح مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة. ثمَّ قَالَ: لَا بَأْس بِهِ مَا لم يضر ذَلِك بِصَلَاة الصُّبْح، وَإِن كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْح وَهُوَ نَائِم فَلَا، وَإِن كَانَ بِهِ فتور وكسل فَلَا بَأْس بِهِ.
33 - (بابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ ونُقْصَانِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، و: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف قطعا. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول أحبية دوَام الدّين إِلَى الله تَعَالَى، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَلَا شكّ أَن يزْدَاد الْإِيمَان بدوام العَبْد على أَعمال الدّين، وَينْقص بتقصيره فِي الدَّوَام، سِيمَا هَذَا على مَذْهَب البُخَارِيّ وَجَمَاعَة من الْمُحدثين، وَأما على قَول من لَا يَقُول بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، فَإِنَّهُ أَيْضا يُوجد الزِّيَادَة بالدوام وَالنَّقْص بالتقصير فِيهِ. ولكنهما يرجعان إِلَى صفة الْإِيمَان لَا إِلَى ذَاته، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وزِدْنَاهُمْ هُدًى} {ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانا} وقالَ {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإذَا تَرَكَ شَيْئا مِنَ الْكَمَالِ فهُوَ نَاقِصٌ.
وَقَول، مجرور عطف على قَوْله: زِيَادَة الْإِيمَان، وَقَوله الثَّانِي أَيْضا عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان، وَبَيَان نقصانه، وَبَيَان قَول الله تَعَالَى: {وزدناهم هدى} (الْكَهْف: 13) وَبَيَان قَوْله تَعَالَى: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} (المدثر: 31) ثمَّ إِنَّه قَالَ: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) بِلَفْظ الْمَاضِي وَلم يقل وَقَوله الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ على أسلوب أَخَوَيْهِ، لِأَن الْغَرَض مِنْهُ مَا هُوَ لَازمه، وَهُوَ بَيَان النُّقْصَان، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ على أَن الْإِيمَان كَمَا تدخله الزِّيَادَة فَكَذَلِك يدْخلهُ النُّقْصَان لِأَن الشَّيْء إِذا قبل أحد الضدين لَا بُد وَأَن يقبل الضِّدّ الآخر، وَبَين ذَلِك بقوله: (فَإِذا ترك شَيْئا من الْكَمَال فَهُوَ نَاقص) ، بِخِلَاف مَا تقدم من الْآيَتَيْنِ، فَإِن المُرَاد مِنْهُمَا إِثْبَات الزِّيَادَة تَصْرِيحًا لَا استلزاما، لِأَن الزِّيَادَة مصرحة فيهمَا بِخِلَاف الْآيَة الثَّالِثَة. فَإِن الصَّرِيح فِيهَا الْكَمَال الَّذِي يُقَابله النُّقْصَان، وَهُوَ يفهم مِنْهُ التزاما لَا صَرِيحًا. وَلما كَانَ الْبَاب مترجما بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه احْتج على الزِّيَادَة بِصَرِيح الْآيَتَيْنِ، وعَلى النُّقْصَان بِالْآيَةِ الثَّالِثَة بطرِيق الاستلزام، وَقد ذكر الْآيَتَيْنِ المتقدمتين فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان عِنْد قَوْله: كتاب الْإِيمَان، وَقد قُلْنَا أَنه لَو ذكر مَا يتَعَلَّق بِأُمُور الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي بَاب وَاحِد، إِمَّا هُنَاكَ وَإِمَّا هَهُنَا، كَانَ أنسب، وَلكنه عقد فِي بَاب أُمُور الْإِيمَان هَذَا الْبَاب هَهُنَا لأجل الْمُنَاسبَة الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، فالآية الأولى فِي سُورَة الْكَهْف، وَالثَّانيَِة فِي سُورَة المدثر، وَالثَّالِثَة فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَقد مر الْكَلَام فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين هُنَاكَ. فَإِن قلت: دلَالَة الْآيَة الثَّانِيَة ظَاهِرَة على زِيَادَة الْإِيمَان فَكيف تدل الأولى وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ زِيَادَة الْهدى، وَهِي الدّلَالَة الموصولة إِلَى البغية؟ وَيُقَال هِيَ الدّلَالَة مُطلقًا؟ قلت: زِيَادَة الْهدى مستلزمة للْإيمَان، أَو المُرَاد من الْهدى هُوَ الْإِيمَان. وَقَالَ ابْن بطال: هَذِه الْآيَة يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) حجَّة فِي زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، لِأَنَّهَا نزلت يَوْم كملت الْفَرَائِض وَالسّنَن وَاسْتقر الدّين، وَأَرَادَ الله عز وَجل قبض نبيه، فدلت هَذِه الْآيَة أَن كَمَال الدّين إِنَّمَا يحصل بِتمَام الشَّرِيعَة، فتصور كَمَاله يَقْتَضِي تصور نقصانه، وَلَيْسَ المُرَاد التَّوْحِيد، ولوجوده قبل نزُول الْآيَة.(1/258)
فَالْمُرَاد الْأَعْمَال، فَمن حَافظ عَلَيْهَا فإيمانه أكمل من إِيمَان من قصر. قلت: هَذِه الْآيَة لَا تدل أصلا على زِيَادَة الدّين وَلَا على نقصانه، لِأَن المُرَاد أكملت لكم شرائع دينكُمْ، وتعليل ابْن بطال على مَا ادَّعَاهُ دَلِيل لما قُلْنَا وَحجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّهَا نزلت يَوْم كملت الْفَرَائِض وَالسّنَن وَاسْتقر الدّين، وَلم يقل أحد إِن الدّين كَانَ نَاقِصا إِلَى وَقت نزُول هَذِه الْآيَة حَتَّى أكمله فِي هَذَا الْيَوْم، وَإِنَّمَا المُرَاد إِكْمَال شرائع الدّين فِي هَذَا الْيَوْم، لِأَن الشَّرَائِع نزلت شَيْئا فَشَيْئًا طول مُدَّة النُّبُوَّة، فَلَمَّا كملت الشَّرَائِع قبض الله نبيه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أَيْضا صرح بِهِ بقوله: وَلَيْسَ المُرَاد التَّوْحِيد، لوُجُوده قبل نزُول الْآيَة. فَإِن ادّعى أَن الْأَعْمَال من الْإِيمَان فَلَيْسَ يتَصَوَّر، لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون كَمَال الْإِيمَان فِي هَذَا الْيَوْم، وَقَبله كَانَ نَاقِصا، لِأَن الشَّرَائِع الَّتِي هِيَ الْأَعْمَال مَا كملت إلاَّ فِي هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: {أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) كفيتكم أَمر عَدوكُمْ وَجعلت الْيَد الْعليا لكم، كَمَا تَقول الْمُلُوك: الْيَوْم كمل لنا الْملك وكمل لنا مَا نُرِيد، إِذا كفوا من ينازعهم الْملك ووصلوا إِلَى أغراضهم ومباغيهم، أَو أكملت لكم مَا تحتاجون إِلَيْهِ فِي تكليفكم من تَعْلِيم الْحَلَال وَالْحرَام والتوقيف على الشَّرَائِع وقوانين الْقيَاس وأصول الِاجْتِهَاد.
1 - حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنَا هِشَام قَالَ حَدثنَا قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن شعيرَة من خير وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا غله إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن برة من خير وَيخرج من النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي قلبه وزن ذرة من خير.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَلَا سِيمَا على مذْهبه (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول مُسلم بِضَم الْمِيم وَكسر اللَّام الْخَفِيفَة بن إِبْرَاهِيم أَبُو عَمْرو الازدي الفراهيدي مَوْلَاهُم القصاب وَقد يعرف بالشحام روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وروى الْبَقِيَّة عَن رجل ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ لعشر ربقين من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وروى الْبَقِيَّة عَن رجل عَنهُ ولد سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْبَصْرَةِ لعشر بَقينَ من صفر سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقَالَ يحيى بن معِين هُوَ ثِقَة مَأْمُون وَقَالَ أَبُو حَاتِم ثِقَة صَدُوق وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله كَانَ ثِقَة عمى بآخرة وَكَانَ سمع من سبعين امْرَأَة. الثَّانِي هِشَام بِكَسْر الْهَاء بن ابي عبد الله وَاسم ابنى عبد الله سندر الربعِي الْبَصْرِيّ الدستوَائي ويكنى بِأبي بكر قَالَ وَكِيع كَانَ ثبتا وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد كَانَ ثِقَة ثبتا فِي الحَدِيث حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر وَقَالَ الْعجلِيّ كَانَ يَقُول كَانَ يَقُول بِالْقدرِ وَلم يكن يَدْعُو إِلَيْهِ توفّي سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة على قَول روى لَهُ الْجَمَاعَة الثَّالِث قَتَادَة بن دعامة وَقد مر ذكره الرَّابِع أنس بن مَالك رضى الله عَنهُ وَقد مر أَيْضا
بَيَان الْأَنْسَاب الفراهيدي بِفَتْح الْفَاء وبالراء وَالْهَاء الْمَكْسُورَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَالدَّال الْمُهْملَة وَقَالَ ابْن الآثير بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بطن من الازد وَمِنْهُم الْخَلِيل بن أَحْمد النَّحْوِيّ قلت هُوَ فراهيد بن شَبابَة ابْن مَالك بن فهم ابْن غنم بن دوس كَذَا قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ فراهيد وَقَالَ ابْن دُرَيْد بنوفرهود بن شَبابَة الَّذين يُقَال لَهُم الفراهيد والفرهود الغليظ من قَوْلهم تفرهد هَذَا الْغُلَام إِذا سمن يُقَال غُلَام فرهود وَلَا يُوصف بِهِ الرجل قَالَ والفرهود ولد الاسد فِي لُغَة اودعمان وَفِي كتاب الجمهرة فرهود بن الْحَارِث الَّذِي من وَلَده الْخَلِيل بن أَحْمد النَّحْوِيّ وَهُوَ الفرهودي قَالَ وَمن قَالَ الفراهيدي فأنما يُرِيد الْجمع كَمَا يُقَال مهالبة وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ بعد الْجمع وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وعَلى شبابه وَافقه ابْن الْكَلْبِيّ وَغَيره وَهُوَ الصَّوَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وشبابه والْحَارث اخوان وَقَالَ أَبُو جَعْفَر حكى قطرب ابْن الفرهود هُوَ الْغُلَام الْكَبِير قَالَ وَعَن ابي عُبَيْدَة الفراهيد أَوْلَاد الوعول قَالَ أَبُو جَعْفَر وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ فراهدي مثل مقابرى قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا القَوْل لم أره لغيره. الربعِي بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى ربيعَة بن نذار بن معد بن عدنان وَهُوَ ربيعَة الْفرس وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد وَرَبِيعَة بن نذار شعب وَاسع فِيهِ قبائل وعمار وبطون وافخاذ فَمِمَّنْ ينْسب إِلَيْهِم من الروَاة هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي الربعى الدستوَائي بِفَتْح الدَّال واسكان السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبعدهَا تَاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَآخره همزَة.(1/259)
بِلَا نون وَقيل الستوائي بِالْقصرِ وَالنُّون وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور ودستواء كورة من كور الاهواز كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا قلت ضبط السَّمْعَانِيّ بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي الانساب للرشاطى قَالَ سِيبَوَيْهٍ يُقَال فِي دستواء دستوانى مثل بحراني بالنُّون.
(بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْه أَن رُوَاته كلم يبصرون وَمِنْهَا أَنهم كلهم أئئمة أجلاء
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن معَاذ بن فضَالة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن الْمنْهَال عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد وَهِشَام وَشعْبَة بِهِ وَفِيه قصَّة ليزِيد مَعَ شُعْبَة وَعَن ابي غَسَّان المسمعي مَالك بن عبد الْوَاحِد وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة جَهَنَّم عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن ابْني دَاوُد عَن شُعْبَة وَهِشَام بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح. بَيَان اللُّغَات قَوْله " شعير وَاحِدَة " الشّعير والبرة بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء وَاحِدَة الْبر وَهِي الْقَمْح وَقَالَ ابْن دُرَيْد الْبر أفْصح من قَوْلهم الْقَمْح وَيجمع الْبر ابرارا عِنْد الْمبرد وَمنعه سِيبَوَيْهٍ والذرة بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَاحِدَة الذَّر وَهِي اصغر النَّمْل وَقَالَ القَاضِي عِيَاض الذَّر النَّمْل الصَّغِير وَعَن بعض نقلة الاخبار أَن الذَّر الهباء الَّذِي يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس مثل رُؤْس الابر ويروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا وضعت كفك على التُّرَاب ثمَّ نفضتها فَمَا سقط من التُّرَاب فَهُوَ ذرة وَحكى أَن ارْبَعْ ذرات خردلة وَقيل الذّرة جُزْء من ألف وَأَرْبَعَة وَعشْرين جزأ من شعيرَة انْتهى كَلَامه وَقد ابدلها شُعْبَة بِضَم الذَّال وَتَخْفِيف الرَّاء وَكَأن سَببه الْمُنَاسبَة أذ هِيَ من الْحُبُوب أَيْضا كالبة والشعيرة وَقَالَ النَّوَوِيّ واتفقه على أَنه تَصْحِيف قلت لَا يَنْبَغِي أَن ينْسب مثل شُعْبَة إِلَى التَّصْحِيف بل لَهُ وَجه يبعد عَن الْبعد (بَيَان الْأَعْرَاب) قَوْله " يخرج " بِفَتْح الْيَاء من الْخُرُوج وَبِضَمِّهَا وَفتح الرَّاء من الأخراج وَهُوَ رِوَايَة الاصيلى وَالْأول رِوَايَة الْجُمْهُور قَوْله " من قَالَ " جملَة فِي مَحل الرّفْع على الْوَجْهَيْنِ أما على الوجة الأول فَهِيَ فَاعل وَأما الثَّانِي فَهِيَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل وَكلمَة من مَوْصُولَة وَقَالَ جملَة صلتها وَقَول لَا إِلَه إِلَّا الله مقول القَوْل قَوْله " وَفِي قلبه وزن شعيرَة " جملَة اسمية وَقعت حَالا قَوْله " من خير " كلمة من بَيَانِيَّة وَالْكَلَام فِي اعراب الْبَاقِي كَالْكَلَامِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ (بَيَان الْمعَانِي وَالْبَيَان) فِيهِ طى ذكر الْفَاعِل لشهرته لِأَنَّهُ من الْمَعْلُوم أَن أحد لَا يُخرجهُ من النَّار إِلَّا الله تَعَالَى وَفِيه اطلاق الْخَيْر على الْإِيمَان لِأَن المُرَاد من قَوْله " من خير من إِيمَان " كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَالْخَيْر فِي الْحَقِيقَة مَا يقرب العَبْد إِلَى الله تَعَالَى وَمَا ذَلِك إِلَّا الْإِيمَان وَفِيه اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ بَيَانه ن الْوَزْن أَنما يتَصَوَّر فِي الْأَجْسَام دون الْمعَانِي وَالْإِيمَان معنى وَلكنه شبه الْإِيمَان بالجسم فاضيف إِلَيْهِ مَا هُوَ من لَوَازِم الْجِسْم وَهُوَ الْوَزْن وَفِيه تنكير خير الَّذِي هُوَ الْإِيمَان بِالتَّنْوِينِ الَّتِي تدل على التقليل ترغيباً فِي تَحْصِيله إِذا لما حصل الْخُرُوج بَاقِل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْإِيمَان فبالكثير مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الأولى فَأن قلت التنكير يقتضى أَن يَكْفِي أَي إِيمَان وَبِأَيِّ شَيْء كَانَ وَمَعَ هَا لَا بُد من الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا علم مَجِيء الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا بُد من ذَلِك حَتَّى يتَحَقَّق حَقِيقَة الْإِيمَان وَيصِح اطلاقه فَأن قلت التَّصْدِيق القلبي كَاف فِي الْخُرُوج إِذْ الْمُؤمن لَا يخلد فِي النَّار وَأما قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فلأ جزاءا احكام الدُّنْيَا عَلَيْهِ فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا قلت الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا فَقَالَ الْبَعْض لَا يَكْفِي مُجَرّد التَّصْدِيق بل لَا بُد من القَوْل وَالْعَمَل أَيْضا وَعَلِيهِ البُخَارِيّ إِذا المارد من الْخُرُوج هُوَ بِحَسب حكمنَا بِهِ أَي نحكم بِالْخرُوجِ لمن كَانَ فِي قلبه إِيمَانًا ضاما إِلَيْهِ عنوانه الَّذِي يدل عَلَيْهِ إِذا الْكَلِمَة هِيَ شعار الْإِيمَان فِي الدُّنْيَا وَعَلِيهِ مدَار الْأَحْكَام فَلَا بُد مِنْهُمَا حَتَّى يَصح الحكم بِالْخرُوجِ (فان قلت) فعلى هَذَا لَا يَكْفِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله بل لَا بُد من ذكر مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه قلت المُرَاد الْمَجْمُوع وَصَارَ الْجُزْء الأول مِنْهُ علما للْكُلّ كَمَا يُقَال قَرَأت (قل هُوَ الله أحد) أَي قَرَأت كل السُّورَة أَو كَانَ هَذَا قبل مَشْرُوعِيَّة ضمنهَا إِلَيْهِ (بَيَان استنباط الاحكام) الأول قَالَ التَّيْمِيّ اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث على نُقْصَان الْإِيمَان لِأَنَّهُ يكون لوَاحِد(1/260)
وزن شعيرَة وَهِي أَكثر من الْبرة والبرة أَكثر من الذّرة فَدلَّ على أَنه يكون للشَّخْص الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله قدر من الْإِيمَان لَا يكون ذَلِك الْقدر لقَائِل آخر وَقَالَ الْكرْمَانِي لَا يخْتَص بِالنُّقْصَانِ بل يدل على الزِّيَادَة أَيْضا قلت المُرَاد من الْخَيْر هُوَ الثمرات وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة من يمَان ثَمَرَات الْإِيمَان وَلَا نزاع فِي زِيَادَة ثَمَرَات الْإِيمَان ونقصانها فَأن قلت مَا المُرَاد بالثمرات القلبية قلت المُرَاد بهَا مَرَاتِب الْعُلُوم الْحَاصِلَة المستلزمة للتصديق لكل وَاحِد من جزيئات الشَّرْع وَقَالَ الْمُهلب الذّرة أقل من الموزونات وَهِي فِي هَذَا الحَدِيث التَّصْدِيق بهَا وَلَيْسَت زِيَادَة فِي نفس التَّصْدِيق وَيُقَال يحْتَمل أَن تكون الذّرة واختارها الَّتِي فِي الْقلب ثلاثتها من نفس التَّصْدِيق لَان قَول لَا إِلَه إِلَّا الله لَا يتم إِلَّا بِتَصْدِيق الْقلب وَالنَّاس يتفاضلون فِي التَّصْدِيق إِذْ يجوز عَلَيْهِ الزِّيَادَة بِزِيَادَة الْعلم والمعاينة أما زِيَادَته بِزِيَادَة الْعلم فَلقَوْله تَعَالَى {أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} الْآيَة وَأما زِيَادَته بِزِيَادَة المعاينة فَلقَوْله تَعَالَى (وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي) وَقَول تَعَالَى (ثمَّ لترونها عين الْيَقِين) حَيْثُ جعل لَهُ مزية على علم الْيَقِين قلت حَقِيقَة التَّصْدِيق شَيْء وَاحِد لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَقَالَ الإِمَام إِن كَانَ المُرَاد من الْإِيمَان التَّصْدِيق فَلَا يقبل الزِّيَادَة والنقاصان وَإِن كَانَ الطَّاعَات فيقبلهما وَالْأَصْل هُوَ التَّصْدِيق وَالْقَوْل بِلَا لَهُ إِلَّا الله لآجراء الإحكام فِي الدُّنْيَا وَالنَّاس أَنما يتفاضلون فِي التَّصْدِيق التفصيلي لَا فِي مُطلق التَّصْدِيق وَقَوله تَعَالَى (وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي) حِكَايَة عَن قَول إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَيف يمن أَن يُقَال فِي حَقه زَاد تَصْدِيقه بالمعاينة لِأَن القَوْل بِهَذَا يسْتَلْزم القَوْل بِنُقْصَان تَصْدِيقه قبل ذَلِك وَذَا لَا يجوز فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاده من هَذَا أَن يضم إِلَى عمله الضَّرُورِيّ الْعلم الاستدلالي ليزِيد سكونا لَا تظاهر الادلة اسكن للقلوب فَافْهَم
الثَّانِي فِيهِ دُخُول عصاة الْمُوَحِّدين النَّار
الثَّالِث فِيهِ أَن صَاحب الْكَبِير من الْمُوَحِّدين لَا يكفر بِفِعْلِهَا وَلَا يخلد فِي النَّار
الرَّابِع فِيهِ أَنه لَا يَكْفِي فِي الْإِيمَان معرفَة الْقلب دون الْكَلِمَة وَلَا الْكَلِمَة من غير اعْتِقَاد
سُؤال لم قدم الشعيرة على الْبرة اجيب لِأَنَّهَا أكبر جر مَا مِنْهَا وَيقرب بَعْضهَا من بعض وَأخر الذّرة لصغرها وَهَذَا من بَاب الترقي فِي الحكم وَإِن كَانَ من بَاب التَّنْزِيل فِي الصُّور فَافْهَم
(قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبان حَدثنَا قَتَادَة حَدثنَا أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " عَن إِيمَان " مَكَان " من خير ")
المُرَاد من أبي عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَلَا يُوجد فِي بعض النّسخ قَالَ أَبُو عبد الله بل الْمَذْكُور بعد تَمام الحَدِيث وَقَالَ ابْن بِالْوَاو العاطفة هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ وَقد وَصله الْحَاكِم فِي كتاب الْأَرْبَعين لَهُ من طَرِيق أبي سَلمَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا أبان بن يزِيد فَذكر الحَدِيث وَفِي ذكره ثَلَاث فَوَائِد (الأولى) وَهِي أهمها التَّنْبِيه على تَصْرِيح قَتَادَة فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ عَن أنس وَذَلِكَ أَن قَتَادَة مُدَلّس لَا يحْتَج بعنعته إِلَّا إِذا ثَبت سَمَاعه لذَلِك الَّذِي عنعن وَالْوَاقِع فِي الرِّوَايَة الأولى عَنهُ وَهِي رِوَايَة هِشَام بالعنعة حَيْثُ قَالَ عَن أنس وَلما ثَبت من رِوَايَة أبان عَنهُ بِالتَّحْدِيثِ علم اتِّصَال عنعنته وقوى الِاحْتِجَاج بِهِ (الثَّانِيَة) فِيهِ التَّنْبِيه على تَفْسِير الْمَتْن بقوله من إِيمَان بدل قَوْله من خير (الثَّالِثَة) فِيهِ التقوية لما قبله فَأن قلت لم لم يكتف بطرِيق أبان الَّتِي لَيْسَ فِيهَا التَّدْلِيس وبسوقها مَوْصُولَة قلت ان أبان وَأَن كَانَ ثِقَة لَكِن هشاماً أوثق مِنْهُ واحفظ حَتَّى قَالَ بو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ مَا رأى النَّاس اثْبتْ من هِشَام الدستوَائي فَذكر الْأَقْوَى وَاتبعهُ بالقوى لزِيَادَة التَّأْكِيد وابان بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن يزِيد الْعَطَّار الْبَصْرِيّ سمع قَتَادَة وَغير وروى عَنهُ الطَّيَالِسِيّ وحبان بن هِلَال وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم قَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة وَقَالَ مُوسَى ثَنَا ابان عَن قَتَادَة فَأخْرج لَهُ البُخَارِيّ اسْتِشْهَادًا وَأخرج لَهُ مُسلم عَن عبد بن حميد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَنهُ فِي الْبيُوع وَفِي مَوضِع آخر عَن زُهَيْر عَن عبد الصَّمد عَنهُ ووزنه فعال كغزالي فعلى هَذَا هُوَ منصرف والهمزة فَاء الْكَلِمَة أَصْلِيَّة وَالْألف زَائِدَة وَهُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور وَقَول الاكثرين وَقَالَ ابْن مَالك ابان لَا ينْصَرف لِأَنَّهُ على وزن افْعَل مَنْقُول من ابان يبين وَلَو لم يكن مَنْقُولًا لوَجَبَ أَن يُقَال فِيهِ أبين بالتصحيح
45 - حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حدّثنا أبُو الْعُمَيْسِ أخْبَرَنَا قَيْسُ بنُ(1/261)
مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنّ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ قالَ لَهُ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلكَ اليَوْمَ عيدا قالَ أيُّ آيَةً قالَ {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينا} قالَ عُمَرُ قدْ عَرَفْنَا ذِلَكَ اليَوْمَ والمَكانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَة يَوْمَ جُمُعَةٍ..
أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا لِأَنَّهُ فِي بَيَان سَبَب نزُول الْآيَة الَّتِي هِيَ من جملَة التَّرْجَمَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) الْآيَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة الأول: الْحسن أَبُو عَليّ بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، ابْن مُحَمَّد الْبَزَّار، بزاي بعْدهَا رَاء الوَاسِطِيّ، سكن بَغْدَاد، قَالُوا: كَانَ من خِيَار النَّاس، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثِقَة صَاحب سنة، وَمَا يَأْتِي عَلَيْهِ يَوْم إلاَّ وَهُوَ يفعل فِيهِ خيرا، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وروى التِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، توفّي بِبَغْدَاد سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ فِيمَا ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر وَابْن عَسَاكِر، وَقَالَ مُحَمَّد بن سرُور الْمَقْدِسِي والكلاباذي: توفّي سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، فعلى القَوْل الأول تكون وَفَاته قبل البُخَارِيّ لِأَن البُخَارِيّ توفّي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جَعْفَر بن عون بن جَعْفَر بن عَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي أَبُو عون، قَالَ ابْن معِين: هُوَ ثِقَة، وَقَالَ أَحْمد: رجل صَالح لَيْسَ بِهِ بَأْس، توفّي بِالْكُوفَةِ سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: أَبُو العميس بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، واسْمه عتبَة بن عبد الله بن عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود الْهُذلِيّ المَسْعُودِيّ الْكُوفِي أَخُو عبد الرَّحْمَن، قَالَ يحيى وَأحمد: ثِقَة، توفّي سنة عشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: قيس بن مُسلم، أَبُو عَمْرو الجدلي الْكُوفِي العابد، سمع طَارق بن شهَاب ومجاهدا وَغَيرهمَا، وَعنهُ الْأَعْمَش ومسعر وَغَيرهمَا، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: طَارق بن شهَاب بن عبد شمس بن سَلمَة بن هِلَال بن عَوْف بن جشم بن ظفر بن عَمْرو بن لؤَي بن رهم بن مُعَاوِيَة بن أسلم بن أخمس، بطن من بجيلة، صَحَابِيّ رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدْركَ الْجَاهِلِيَّة وغزا فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا، ثَلَاثًا وَأَرْبَعين من بَين غَزْوَة وسرية، روى عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة، سكن الْكُوفَة، توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، أخرج لَهُ البُخَارِيّ عَن أبي بكر وَابْن مَسْعُود، وَمُسلم عَن أبي سعيد، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَكَذَا ذكر الشَّيْخ قطب الدّين وَفَاته، وَهُوَ وهم، نبه عَلَيْهِ الْمزي وَالَّذين قَالُوا فِي وَفَاته: هُوَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ، وَقيل: سنة أَربع، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رأى طَارق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يسمع مِنْهُ شَيْئا. قلت: بجيلة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْجِيم، هِيَ أم ولد أَنْمَار بن أراش، وَهِي بنت صَعب بن الْعَشِيرَة. السَّادِس: أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن ثَلَاثَة مِنْهُم كوفيون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي الِاعْتِصَام عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مسعر وَغَيره، كلهم عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي بِهِ، وَعَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن إِدْرِيس عَن أَبِيه عَن قيس بن مُسلم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الله بن إِدْرِيس بِهِ، وَفِي الْإِيمَان عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن جَعْفَر بن عون بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الْيَهُود) ، هُوَ علم قوم مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي (الْعباب) : الْيَهُود اليهوديون، وَلَكنهُمْ حذفوا يَاء الْإِضَافَة كَمَا قَالُوا: زنجي وزنج، ورومي وروم، وَإِنَّمَا عرف على هَذَا الْحَد. فَجمع على قِيَاس شعيرَة وشعير. ثمَّ عرف الْجمع بِالْألف وَاللَّام، وَلَوْلَا ذَلِك لم يجز دُخُول الْألف وَاللَّام، لِأَنَّهُ معرفَة مؤنث يجْرِي فِي كَلَامهم مجْرى الْقَبِيلَة، وَلم يجر كالحي انْتهى. وَسموا بِهِ(1/262)
اشتقاقا من هادوا أَي مالوا، أَي فِي عبَادَة الْعجل أَو من دين مُوسَى، أَو من هاد إِذا رَجَعَ من خير إِلَى شَرّ وَمن شَرّ إِلَى خير لِكَثْرَة انتقالهم من مذاهبهم. وَقيل: لأَنهم يتهودون أَي: يتحركون عِنْد قِرَاءَة التَّوْرَاة. وَقيل: مُعرب من يهوذا بن يَعْقُوب، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، ثمَّ نسب إِلَيْهِ، فَقيل: يَهُودِيّ، ثمَّ حذفت الْيَاء فِي الْجمع فَقيل: يهود، وكل مَنْسُوب إِلَى جنس الْفرق بَينه وَبَين واحده بِالْيَاءِ وَعدمهَا نَحْو، روم ورومي، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (معشر الْيَهُود) المعشر الْجَمَاعَة الَّذين شَأْنهمْ وَاحِد، وَيجمع على معاشر. قَوْله: (عيدا) على وزن: فعل، أَصله: عود، لِأَنَّهُ من الْعود سمي بِهِ لِأَنَّهُ يعود فِي كل عَام. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} (الْمَائِدَة: 114) قيل: الْعِيد هُوَ السرُور الْعَائِد، وَلذَلِك يُقَال: يَوْم عيد، وَكَأن مَعْنَاهُ: تكون لنا سُرُورًا وفرحا، وَيجمع على أعياد، فرقا بَينه وَبَين أَعْوَاد الَّذِي هُوَ حمع عود. قَوْله: (بِعَرَفَة) يَوْم عَرَفَة هُوَ التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، تَقول: هَذَا يَوْم عَرَفَة، غير منون وَلَا يدخلهَا الْألف وَاللَّام، لِأَن عَرَفَة علم لهَذَا الْمَكَان الْمَخْصُوص، فَفِيهَا العلمية والتأنيث، وَقد يُطلق على الْيَوْم الْمَعْهُود أَيْضا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (سمع جَعْفَر) فعل وفاعل ومفعول، وَقَبله شَيْء مُقَدّر تَقْدِيره: حَدثنَا الْحسن بن الصَّباح أَنه سمع جَعْفَر، وَقد جرت عَادَة الْمُحدثين بِحَذْف: أَنه، فِي مثل هَذَا الْموضع فِي الْخط، وَلَكِن لَا بُد من قِرَاءَته، كَمَا يحذف لفظ: قَالَ، خطأ لَا قِرَاءَة. قَوْله: (من الْيَهُود) فِي مَحل النصب على أَنه صفة ل: (رجلا) أَي: رجلا كَائِنا من الْيَهُود. قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: لعمر، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. قَوْله: (آيَة) ، مُبْتَدأ، وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ تخصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (فِي كتابكُمْ) وَقَوله: (تقرؤنها) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة أُخْرَى للمبتدأ، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة خَبره، أَعنِي قَوْله: (لَو علينا) إِلَى آخِره، وَيجوز أَن يكون الْمُخَصّص للمبتدأ صفة محذوفة تَقْدِيره: آيَة عَظِيمَة. وَقَوله: (وَفِي كتابكُمْ) خَبره، وَقَوله: (يقرؤنها) خبر بعد خبر، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر محذوفا مُقَدرا فِيمَا قبله، وَتَقْدِيره فِي كتابكُمْ آيَة، وَقَوله: (فِي كتابكُمْ) الْمَذْكُور مُفَسّر لَهُ، حذف ذَلِك حَتَّى لَا يجمع بَين الْمُفَسّر والمفسر. قَوْله: (لَو علينا) تَقْدِيره: لَو نزلت علينا، لِأَن لَو، لَا تدخل إِلَّا على الْفِعْل، فَحذف الْفِعْل لدلَالَة الْفِعْل الْمَذْكُور عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) أَي: وَإِن استجارك أحد. وَقَوله تَعَالَى: {لَو أَنْتُم تَمْلِكُونَ} (الْإِسْرَاء: 100) أَي: لَو تَمْلِكُونَ أَنْتُم. قَوْله: (علينا) يتَعَلَّق بالمحذوف. قَوْله: (معشر الْيَهُود) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص. أَي: أَعنِي معشر الْيَهُود. قَوْله: (لاتخذنا) ، جَوَاب الشَّرْط. قَوْله (قَالَ: أَي آيَة) ؟ أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَي آيَة هِيَ؟ فَالْخَبَر مَحْذُوف. قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَالْبَاء فِي (بِعَرَفَة) ظرفية. وَقد قُلْنَا: إِنَّه غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَالْبَاء تتَعَلَّق بقوله: قَائِم، أَو بقوله: نزلت. قَوْله: (يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: يَوْم جُمُعَة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَضمّهَا وإسكانها. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين فعلة سَاكن الْعين وفعلة بتحريكها؟ قلت: إِن السَّاكِن بِمَعْنى الْمَفْعُول، والمتحرك بِمَعْنى الْفَاعِل، يُقَال: رجل ضحكة، بِسُكُون الْحَاء أَي: مضحوك، وَهَذِه قَاعِدَة كُلية. فَإِن قلت: عَرَفَة غير منصرف اتِّفَاقًا لما ذكرت، فَمَا بَال الْجُمُعَة منصرفا مَعَ أَنَّهَا مثلهَا فِي كَونهَا إسما للزمان الْمعِين، وَفِيه تَاء التَّأْنِيث؟ قلت: عَرَفَة علم وَالْجُمُعَة صفة أَو غير صفة لَيْسَ علما، لَو جعل علما لامتنع من الصّرْف.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن رجلا من الْيَهُود) اسْم هَذَا الرجل هُوَ كَعْب الْأَحْبَار، صرح بذلك مُسَدّد فِي (مُسْنده) ، والطبري فِي (تَفْسِيره) ، وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) كلهم من طَرِيق رَجَاء بن أبي سَلمَة عَن عبَادَة بن نسي، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة، عَن إِسْحَاق بن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن كَعْب، فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق الثَّوْريّ عَن قيس بن مُسلم أَن نَاسا من الْيَهُود، وَأخرج فِي التَّفْسِير من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: قَالَت الْيَهُود فَكيف التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: التَّوْفِيق فِيهَا أَن كَعْبًا حِين سَأَلَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن ذَلِك كَانَ مَعَه جمَاعَة من الْيَهُود. قَوْله: (أَي آيَة) ؟ كلمة: أَي، هَهُنَا للاستفهام، وَهُوَ اسْم مُعرب معرفَة للاضافة، وَقد تتْرك الْإِضَافَة وَفِيه مَعْنَاهَا، وَإِذا كَانَ الَّذِي أضيف إِلَيْهِ مؤنثا لَا يجب دُخُول التَّاء فِيهِ، وَإِنَّمَا يجب إِذا وَقع صفة لمؤنث نَحْو: مَرَرْت بِامْرَأَة أَيَّة امْرَأَة، وَنَظِير قَوْله: أَي، آيَة، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت} (لُقْمَان: 34) فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام بِهِ وَبَين الِاسْتِفْهَام بِمَا، نَحْو: {مَا تِلْكَ} (طه: 17)
الْآيَة؟ قلت: السُّؤَال: بِأَيّ، إِنَّمَا هُوَ عمل يُمَيّز أحد المشاركات، و: بِمَا، عَن الْحَقِيقَة وَالْغَرَض، هَهُنَا طلب تعْيين تِلْكَ الْآيَة وتمييزها عَن(1/263)
سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي الْكتاب مقروءة، قَوْله: (قد عرفنَا ذَلِك الْيَوْم) مَعْنَاهُ: أَنا مَا أهملناه وَلَا خَفِي علينا زمَان نُزُولهَا، وَلَا مَكَان نُزُولهَا، وضبطنا جَمِيع مَا يتَعَلَّق بهَا حَتَّى صفة النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وموضعه فِي زمَان النُّزُول، وَهُوَ كَونه، عَلَيْهِ السَّلَام، قَائِما حِينَئِذٍ، وَهُوَ غَايَة فِي الضَّبْط. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: أَنا مَا تركنَا تَعْظِيم ذَلِك الْيَوْم وَالْمَكَان، أما الْمَكَان فَهُوَ عَرَفَات، وَهُوَ مُعظم الْحَج الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأما الزَّمَان فَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم عَرَفَة. وَهُوَ يَوْم اجْتمع فِيهِ فضلان وشرفان، وَمَعْلُوم تعظيمنا لكل وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِذا اجْتمعَا زَاد التَّعْظِيم، فقد اتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، وعظمنا مَكَانَهُ أَيْضا، وَهَذَا كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وعاش النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بعْدهَا ثَلَاثَة أشهر. قَوْله: (وَالَّذِي نزلت فِيهِ على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) زَاد مُسلم، عَن عبد بن حميد عَن جَعْفَر بن عون فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: (إِنِّي لأعْلم الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ) . وَلأَحْمَد عَن جَعْفَر بن عون: (والساعة الَّتِي نزلت فِيهَا على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام) فَإِن قلت: كَيفَ طابق الْجَواب السُّؤَال؟ لِأَنَّهُ قَالَ لاتخذناه عيداً؟ فَقَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: عرفنَا أَحْوَاله، وَلم يقل جَعَلْنَاهُ عيداً. قلت: لما بَين أَن يَوْم النُّزُول كَانَ عَرَفَة وَمن المشهورت أَن الْيَوْم الَّذِي بعد عَرَفَة عيد للْمُسلمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَاهُ عيدا بعد إدراكنا اسْتِحْقَاق ذَلِك الْيَوْم للتعبد فِيهِ. فَإِن قلت: فَلم مَا جعلُوا يَوْم النُّزُول عيدا؟ قلت: لِأَنَّهُ ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النُّزُول كَانَ بعد الْعَصْر، وَلَا يتَحَقَّق الْعِيد إلاَّ من أول النَّهَار، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء: ورؤية الْهلَال بِالنَّهَارِ لليلة الْمُسْتَقْبلَة، فَافْهَم.
34 - (بَاب الزَّكاةُ مِنَ الإسْلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَالزَّكَاة مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: من الاسلام أَي: الزَّكَاة شُعْبَة من شعب الْإِسْلَام. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه، وَقد علم أَن الزِّيَادَة تكون بِالْأَعْمَالِ وَالنَّقْص بِتَرْكِهَا، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ: أَن أَدَاء الزَّكَاة من الْإِسْلَام، يَعْنِي: أَنه إِذا أدّى الزَّكَاة يكون إِسْلَامه كَامِلا، وَإِذا تَركهَا يكون نَاقِصا. لَا يُقَال: لم أفرد الزَّكَاة بِالذكر فِي التَّرْجَمَة من بَين سَائِر أَرْكَان الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ قد أفرد لكل وَاحِد من بَقِيَّة الإركان بَابا بترجمة.
وقَوْلُه {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاَةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القيمةِ} (الْبَيِّنَة: 5) .
هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَقَول الله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إلاَّ ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة وَفِي بعض النّسخ: وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) الْآيَة ... قَوْله: (وَقَول الله) مجرور عطف على مَحل، قَوْله: (الزَّكَاة من الْإِسْلَام) لِأَنَّهَا مُضَاف إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَقَوله تَعَالَى. وَأما راوية أبي ذَر، فَإِنَّهَا بِلَا عطف، لِأَن الْوَاو فِي قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) وَاو الْعَطف فِي الْقُرْآن عطف بهَا على مَا قبله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب إلاَّ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} (الْبَيِّنَة: 4) فَإِن قلت: كَيفَ التئام الْآيَة بالترجمة؟ قلت: الالتئام بَينهمَا معنوي، وَهُوَ أَن الْآيَة فِيهَا ذكر أَن الزَّكَاة من الدّين، وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) وَتَحْقِيق ذَلِك أَن الله تَعَالَى ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: إخلاص الدّين الَّذِي هُوَ رَأس جَمِيع الْعِبَادَات، وَالثَّانِي: إِقَامَة الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد الدّين، وَالثَّالِث إيتَاء الزَّكَاة الَّتِي تذكر دَائِما تالية للصَّلَاة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَمِيع ذَلِك بقوله: {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: الْمَذْكُور من هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ دين الْقيمَة، أَي: دين الْملَّة الْقيمَة، فالموصوف مَحْذُوف وقرىء وَذَلِكَ الدّين الْقيمَة. على تَأْوِيل الدّين بالملة وَمعنى: الْقيمَة، المستقيمة الناطقة بِالْحَقِّ وَالْعدْل. فَإِن قلت: كَيفَ خص الزَّكَاة بالترجمة، وَالْمَذْكُور ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ قلت: أُجِيب عَن هَذَا عَن قريب. قَوْله: {وَمَا أمروا} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: وَمَا أَمر أهل الْكتاب فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إلاَّ بِالدّينِ الحنيفي، وَلَكنهُمْ حرفوا وبدلوا. وَقَالَ الزمحشري: فَإِن قلت:) مَا وَجه قَوْله {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} (الْبَيِّنَة: 5) قلت: مَعْنَاهُ: وَمَا أمروا فِي الْكِتَابَيْنِ إلاَّ لأجل أَن يعبدوا الله على هَذِه الصّفة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ: إلاَّ أَن يعبدوا. بِمَعْنى: بِأَن يعبدوا الله انْتهى. قلت: الْعِبَادَة بِمَعْنى التَّوْحِيد، أَي: وَمَا أمروا إلاَّ ليوحدوا الله، وَالِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْمَفْعُول لأَجله، أَي مَا أمروا لأجل شَيْء إلاَّ لِلْعِبَادَةِ، أَي: التَّوْحِيد، وَالْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص(1/264)
السَّبَب وَيدخل فِيهِ جَمِيع النَّاس. قَوْله: {مُخلصين} حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي (أمروا) ، وَقَوله: (الدّين) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (حنفَاء) ، حَال أُخْرَى، جمع حنيف، وَهُوَ المائل عَن الضلال إِلَى الْهِدَايَة. قَوْله: (ويقيموا الصَّلَاة) عطف على قَوْله: (ليعبدوا الله) من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِيه تَفْضِيل للصَّلَاة وَالزَّكَاة على سَائِر الْعِبَادَات وَقد مر معنى إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة.
46 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثني مالِكُ بْنُ أنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أبي سُهَيْلٍ بْنِ مالِكَ عَنْ أبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثائِرُ الرَّأسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ولاَ يُفْقَهُ مَا يقُولُ حَتَّى دَنا فإذَا هوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلاَمِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ واللَّيُلَةِ فَقَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُها قَالَ لَا إِلَّا أنْ تَطَّوَّعَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصِيَامُ رَمَضانَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ قَالَ لاَ إلاَّ أنْ تَطَّوَّع قَال وذَكرَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكاةَ قَالَ هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا قالَ لاَ إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ قالَ فأدْبَرَ الرَّجُلُ وهوَ يَقُولُ واللَّهِ لاَ أزِيدُ عَلَى هَذَا ولاَ أنْقُصُ قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْلَحَ إنْ صَدَقَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة: الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَمَوْضِع الدّلَالَة فِي الحَدِيث هُوَ قَوْله: فَإِذا هُوَ يسْأَله عَن الْإِسْلَام، فَذكر الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة، وَهَذَا ظَاهر فِي كَونهَا من الْإِسْلَام، وَكَذَلِكَ مطابقته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة من حَيْثُ أَن الْمَذْكُور فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الصَّلَاة وَالزَّكَاة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن عبد الله الأصبحي الْمدنِي، ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس، شَيْخه وخاله وَأَبُو أويس ابْن عَم مَالك وَقد مر فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام الْمَشْهُور، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: عَمه أَبُو سُهَيْل، وَهُوَ نَافِع بن مَالك بن أبي عَامر الْمدنِي وَقد مر. الرَّابِع: أَبوهُ وَهُوَ مَالك بن أبي عَامر، وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو مُحَمَّد طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي التَّيْمِيّ، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، يجْتَمع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَب السَّابِع مثل أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، أسلمت أمه وَهَاجَرت، شهد الْمشَاهد كلهَا إلاَّ بَدْرًا كسعيد بن زيد، وَقد ضرب لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسهمه وآجره فِيهَا، وَكَانَ الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، إِذا ذكر أحدا قَالَ: ذَلِك يَوْم كُله لطلْحَة، وَقد وهم البُخَارِيّ فِي قَوْله: إِن سعيد بن زيد مِمَّن حضر بَدْرًا، وَهُوَ أحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، والخمسة الَّذين أَسْلمُوا على يَد الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، والستة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَهُوَ مِمَّن ثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد ووقاه بِيَدِهِ ضَرْبَة قصد بهَا فشلت، رَمَاه مَالك بن زُهَيْر يَوْم أحد، فاتقى طَلْحَة بِيَدِهِ عَن وَجه رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، فَأصَاب خِنْصره، فَقَالَ حِين أَصَابَته الرَّمية: حيس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو قَالَ: بِسم الله لدخل الْجنَّة وَالنَّاس ينظرُونَ. وَقيل: جرح فِي ذَلِك الْيَوْم خمْسا وَسبعين جِرَاحَة، وشلت أصبعاه، وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طَلْحَة الْخَيْر، وَطَلْحَة الْجواد. رُوِيَ لَهُ ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة، قتل يَوْم الْجمل، أَتَاهُ سهم لَا يدْرِي من وَرَاءه، واتتهم بِهِ مَرْوَان، لعشر خلون من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عَن أَربع وَسِتِّينَ سنة، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ، وَقيل: ثَمَان وَخمسين، وقبره بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: دفن بقنطرة قُرَّة، ثمَّ رَأَتْ بنته بعد ثَلَاثِينَ سنة فِي الْمَنَام أَنه يشكو إِلَيْهَا النداوة، فَأمرت فاستخرج طريا وَدفن فِي دَار الهجرتين بِالْبَصْرَةِ، وقبره مَشْهُور، رَضِي الله عَنهُ، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَطَلْحَة فِي الصَّحَابَة جمَاعَة، وَطَلْحَة بن عبيد الله اثْنَان: هَذَا أَحدهمَا، وَثَانِيهمَا التَّيْمِيّ، وَكَانَ يُسمى أَيْضا: طَلْحَة الْخَيْر، فأشكل على النَّاس.(1/265)
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ أَولا حَدثنَا إِسْمَاعِيل، ثمَّ حَدثنِي مَالك، لِأَن فِي الأول الشَّيْخ قَرَأَ لَهُ وَلغيره، وَفِي الثَّانِي: قَرَأَ لَهُ وَحده، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مسلسل بالأقارب، لِأَن إِسْمَاعِيل يروي عَن خَاله عَن عَمه عَن أَبِيه. فَإِن قلت: حكى الكلاباذي وَغَيره عَن ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ أَن مَالك بن أبي عَامر توفّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَة، وَأَنه بلغ من الْعُمر: سبعين أَو اثْنَتَيْنِ وَسبعين، فعلى هَذَا يكون مولده بعد موت طَلْحَة بِسنتَيْنِ. قلت: قَالَ بَعضهم: لَعَلَّه صحف التسعين بالسبعين، وَحكى الْمُنْذِرِيّ عَن ابْن عبد الْبر أَن وَفَاته سنة مائَة أَو نَحْوهَا، فَيصح على هَذَا، ويستقيم. وَقد ثَبت سَماع مَالك مِنْهُ وَمن غَيره كعثمان، رَضِي الله عَنهُ، نبه عَلَيْهِ الثَّوْريّ وَغَيره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّوْم، وَفِي ترك الْحِيَل عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن أبي سُهَيْل بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَيحيى بن أَيُّوب كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَقَالَ مُسلم فِي حَدِيث يحيى بن أَيُّوب: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَعَن أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَفِي الصَّوْم عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ، وَفِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن قَاسم عَن مَالك بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من أهل نجد) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم، قَالَ الْجَوْهَرِي: نجد من بِلَاد الْعَرَب، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ مُذَكّر. قلت: النجد النَّاحِيَة الَّتِي بَين الْحجاز وَالْعراق، وَيُقَال: مَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وغمرة الطَّائِف نجد، وَيُقَال: هُوَ مَا بَين جرش وَسَوَاد الْكُوفَة، وَحده من الغرب الْحجاز، وَفِي (الْعباب) : نجد من بِلَاد الْعَرَب، خلاف الْغَوْر، والغور هُوَ تهَامَة، وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد، وَهُوَ فِي الأَصْل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَالْجمع: نجاد ونجود وانجد. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: منتفش شعر الرَّأْس ومنتشره، يُقَال: ثار الْغُبَار أَي: انتفش، وفتنة ثائرة أَي: منتشرة. قلت: مادته واوية من: ثار الْغُبَار يثور ثورا، وَحَاصِله أَن شعره متفرق منتشر من عدم الارتفاق والرفاهية. قَوْله: (دوى صَوته) ، بِفَتْح الدَّال وَكسر الْوَاو وَتَشْديد الْيَاء، كَذَا هُوَ فِي عَامَّة الرِّوَايَات، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: جَاءَ عندنَا فِي البُخَارِيّ، بِضَم الدَّال. قَالَ: وَالصَّوَاب الْفَتْح، قَالَ الْخطابِيّ: الدوي: صَوت مُرْتَفع متكرر لَا يفهم، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهُ نَادَى من بعد، وَيُقَال الدوي: بعد الصَّوْت فِي الْهَوَاء وعلوه، وَمَعْنَاهُ: صَوت شَدِيد لَا يفهم مِنْهُ شَيْء كَدَوِيِّ النَّحْل. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هُوَ شدَّة الصَّوْت وَبعده فِي الْهَوَاء، مَأْخُوذ من دوِي الرَّعْد، وَيُقَال: هُوَ شدَّة صَوت لَا يفهم، فَلَمَّا دنا فهم كَلَامه، فَلهَذَا قَالَ: فَلَمَّا دنا فَإِذا هُوَ يسْأَل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: دوِي الرّيح حفيفها، وَكَذَلِكَ دوِي النَّحْل والطائر وَيُقَال: دوى النَّحْل تدوية، وَذَلِكَ إِذا سَمِعت لهديره دويا، والدوي أَيْضا السَّحَاب ذُو الرَّعْد المرتجس. قَوْله: (وَلَا يفقه) من الْفِقْه وَهُوَ الْفَهم، قَالَ الله تَعَالَى: {يفقهوا قولي} (طه: 28) أَي يفهموا. قَوْله: (حَتَّى دنا) من الدنو وَهُوَ التَّقَرُّب. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) ، بتَشْديد الطَّاء وَالْوَاو كليهمَا أَصله: تتطوع بتائين فادغمت إِحْدَى التائين فِي الطَّاء، وَيجوز تَخْفيف الطَّاء على الْحَذف، أَعنِي: حذف إِحْدَى التائين، وَأي التائين هِيَ المحذوفة فِيهِ خلاف، فَقَالَ بَعضهم: حذف التَّاء الزَّائِدَة أولى لزيادتها. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْأَصْلِيَّة أولى بالحذف، لِأَن الزَّائِدَة إِنَّمَا دخلت لإِظْهَار معنى فَلَا تحذف، لِئَلَّا يَزُول الْغَرَض الَّذِي لأَجله دخلت، وَيجوز إِظْهَار التائين أَيْضا من غير إدغام، وَهَذِه ثَلَاثَة أوجه فِي الْمُضَارع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور التَّشْدِيد، وَمَعْنَاهُ: إلاَّ أَن تَفْعَلهُ بطواعيتك. وَفِي ماضيه لُغَتَانِ: تطوع وأطوع، وَكِلَاهُمَا يفعل، إِلَّا أَن إدغام التَّاء فِي الطَّاء أوجب جلب ألف الْوَصْل ليتَمَكَّن من النُّطْق بالساكن. قَوْله: (فادبر) من الإدبار وَهُوَ التولي. قَوْله: (أَفْلح) من الإفلاح وَهُوَ الْفَوْز والبقاء، وَقيل: هُوَ الظفر وَإِدْرَاك البغية، وَقيل: إِنَّه عبارَة عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء: بَقَاء بِلَا فنَاء وغناء بِلَا فقر، وَعز بِلَا ذل، وَعلم بِلَا جهل. قَالُوا: وَلَا كلمة فِي اللُّغَة أجمع لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَالْعرب تَقول لكل من أصَاب خيرا: مُفْلِح، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أَفْلح الرجل وأنجح: أدْرك مَطْلُوبه.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (من أهل نجد) فِي مجل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لقَوْله: رجل. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه صفة لرجل، وَأما النصب فعلى أَنه حَال، وَهَهُنَا سؤالان أَحدهمَا: ذكره الْكرْمَانِي وَأجَاب عَنهُ، وَهُوَ أَن شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة، وَهُوَ مُضَاف فَيكون معرفَة فَأجَاب: بِأَن إِضَافَته لفظية فَلَا تفِيد إلاَّ تَخْفِيفًا. وَالْآخر: ذكرته فِي(1/266)
شرح سنَن أبي دَاوُد، وَهُوَ أَنه إِذا وَقع الْحَال عَن النكرَة وَجب تَقْدِيم الْحَال على ذِي الْحَال، فَكيف يكون هَذَا حَالا؟ قلت: يجوز وُقُوع صَاحبهَا نكرَة من غير تَأْخِير إِذا اتّصف بِشَيْء كَمَا فِي الْمُبْتَدَأ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم أمرا من عندنَا} (الدُّخان: 4) أَو أضيف، نَحْو: جَاءَ غُلَام رجل قَائِما، أَو وَقع بعد نفي كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إلاَّ وَلها كتاب مَعْلُوم} (الْحجر: 4) وَهنا اتصفت النكرَة بقوله: من أهل نجد، فَافْهَم. قَوْله: (يسمع) بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، (ودوي صَوته) كَلَام أضافي مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَفِي رِوَايَة: نسْمع، بالنُّون المصدرة للْجَمَاعَة، ودوي صَوته بِالنّصب على أَنه مفعول، وَكَذَلِكَ: وَلَا نفقه، بالنُّون. وَقَوله: (مَا يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول، وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ الْمَشْهُورَة، وَعَلَيْهَا الِاعْتِمَاد. وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، و: يَقُول، جملَة صلتها، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا يَقُوله. قَوْله: (حَتَّى) هُنَا للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن دنا. قَوْله: (فَإِذا) هِيَ الَّتِي للمفاجأة. وَقَوله: (هُوَ) مُبْتَدأ، و: (يسْأَل عَن الْإِسْلَام) خَبره. وَقد علم أَن إِذا الَّتِي للمفاجأة تخْتَص بالجمل الاسمية، وَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَلَا تقع فِي الِابْتِدَاء. وَمَعْنَاهُ الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال، وَهِي حرف عِنْد الْأَخْفَش وَاخْتَارَهُ ابْن مَالك، وظرف مَكَان، عِنْد الْمبرد وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور؛ وظرف زمَان عِنْد الزّجاج وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (خمس صلوَات) يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجر. أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ خمس صلوَات. وَأما النصب فعلى تَقْدِير: خُذ خمس صلوَات أَو هاك ... أَو نَحْوهمَا. وَأما الْجَرّ فعلى أَنه بدل من الْإِسْلَام، وَفِيه حذف أَيْضا تَقْدِيره إِقَامَة خمس صلوَات. عين الصَّلَوَات الْخمس لَيست عين الاسلام، بل إِقَامَتهَا من شرائع الْإِسْلَام. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: الرجل الْمَذْكُور، و: (هَل) للاستفهام، و (غَيرهَا) بِالرَّفْع مُبْتَدأ و (عَليّ) مقدما خَبره. قَوْله: (فَقَالَ: لَا) ، أَي: فَقَالَ الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، لَيْسَ عَلَيْك شَيْء غَيرهَا. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) اسْتثِْنَاء من قَوْله: لَا، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَصِيَام شهر رَمَضَان) كَلَام إضافي مَرْفُوع عطف على قَوْله: خمس صلوَات. قَوْله: (قَالَ وَذكر لَهُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ طَلْحَة بن عبيد الله. قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) جملَة حَالية. قَوْله: (افلح) أَي الرجل. قَوْله: (إِن صدق) أَي فِي كَلَامه وَجَوَاب أَن مَحْذُوف فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (جَاءَ رجل) ، هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر، قَالَه القَاضِي مستدلاً بِأَن البُخَارِيّ سَمَّاهُ فِي حَدِيث اللَّيْث، يُرِيد مَا أخرجه فِي بَاب الْقِرَاءَة، وَالْعرض على الْمُحدث عَن شريك عَن أنس قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس فِي الْمَسْجِد، إِذْ دخل رجل على جمل، فأناخه فِي الْمَسْجِد) وَفِيه (ثمَّ قَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟) وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: (وَأَنا ضمام بن ثَعْلَبَة أَخُو بني سعد بن بكر) ، فَجعل حَدِيث طَلْحَة هَذَا وَحَدِيث أنس هَذَا لَهُ، وَتَبعهُ ابْن بطال وَغَيره وَفِيه نظر لتباين ألفاظهما، كَمَا نبه عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَأَيْضًا فَإِن إِبْنِ إِسْحَاق فَمن بعده: كَابْن سعد وَابْن عبد الْبر لم يذكرُوا لضمام غير حَدِيث أنس. قَوْله: (ثَائِر الرَّأْس) أَي: ثَائِر شعر الرَّأْس، وَأطلق اسْم الرَّأْس على الشّعْر، إِمَّا لِأَن الشّعْر مِنْهُ ينْبت، كَمَا يُطلق اسْم السَّمَاء على الْمَطَر لِأَنَّهُ من السَّمَاء ينزل، وَإِمَّا لأنَّه جعل نفس الرَّأْس ذَا ثوران على طَرِيق الْمُبَالغَة، أَو يكون من بَاب حذف الْمُضَاف بِقَرِينَة عقلية. قَوْله: (عَن الْإِسْلَام) أَي: عَن أَرْكَان الاسلام، وَلَو كَانَ السُّؤَال عَن نفس الْإِسْلَام كَانَ الْجَواب غير هَذَا، لِأَن الْجَواب يَنْبَغِي أَن يكون مطابقا للسؤال، فَلَمَّا أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (خمس صلوَات) عرف أَن سُؤَاله كَانَ عَن أَرْكَان الْإِسْلَام وشرائعه، فَأجَاب مطابقا لسؤاله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيُمكن أَنه سَأَلَهُ عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام، وَقد ذكر لَهُ الشَّهَادَة فَلم يسْمعهَا طَلْحَة مِنْهُ لبعد مَوْضِعه، أَو لم يَنْقُلهُ لشهرته. قلت: هَذَا بعيد، إِذْ لَو كَانَ السُّؤَال عَن حَقِيقَة الْإِسْلَام لما كَانَ الْجَواب مطابقا للسؤال، وَفِيه نِسْبَة الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِلَى التَّقْصِير فِي إبلاغ كَلَام الرَّسُول، وَقد ندب النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى ضبط كَلَامه وَحفظه وإبلاغه مثل مَا سَمعه مِنْهُ فِي حَدِيثه الْمَشْهُور. قَوْله: (إِلَّا أَن تطوع) هَذَا الِاسْتِثْنَاء يجوز أَن يكون مُنْقَطِعًا، بِمَعْنى: لَكِن، وَيجوز أَن يكون مُتَّصِلا واختارت الشَّافِعِيَّة الِانْقِطَاع، وَالْمعْنَى: لَكِن اسْتحبَّ لَك أَن تطوع، واختارت الْحَنَفِيَّة الِاتِّصَال فَإِنَّهُ هُوَ(1/267)
الأَصْل فِي الِاسْتِثْنَاء، ويستدل بِهِ على أَن من شرع فِي صَلَاة نفل أَو صَوْم نفل وَجب عَلَيْهِ اتمامه، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) وبالاتفاق على أَن حج التَّطَوُّع يلْزم بِالشُّرُوعِ. وَلما حملت الشَّافِعِيَّة على الِانْقِطَاع قَالُوا: لَا تلْزم النَّوَافِل بِالشُّرُوعِ، وَلَكِن يسْتَحبّ لَهُ إِتْمَامه، وَلَا يجب بل يجوز قطعه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الحَدِيث متمسك لنا فِي أصلين: أَحدهمَا فِي شُمُول عدم الْوُجُوب فِي غير مَا ذكر فِي الحَدِيث، كَعَدم وجوب الْوتر. وَالثَّانِي: فِي أَن الشُّرُوع غير مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر مُطلقًا شرع فِيهِ أَو لم يشرع، وَتمسك الْخصم بِهِ على أَن الشُّرُوع مُلْزم لِأَنَّهُ نفي وجوب شَيْء آخر إلاَّ مَا تطوع بِهِ، وَالِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمُثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وجوب مَا تطوع بِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب. قَالَ: وَهَذَا مغالطة، لِأَن هَذَا الِاسْتِثْنَاء من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا يجب شَيْء إلاَّ أَن اتطوع، وَقد علم أَن التَّطَوُّع لَيْسَ بِوَاجِب، فَلَا يجب شَيْء آخر أصلا. قلت: أما الأول: فَلَا نسلم شُمُول عدم الْوُجُوب مُطلقًا، بل الشُّمُول بِالنّظرِ إِلَى تِلْكَ الْحَالة، وَوقت الْإِخْبَار، وَالْوتر لم يكن وَاجِبا حِينَئِذٍ، يدل عَلَيْهِ أَنه لم يذكر الْحَج وَالْوتر مثله. وَأما الثَّانِي: فَلَيْسَ من وَادي قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) على أَن يكون الْمَعْنى: لَا يجب شَيْء، إلاَّ أَن تطوع، بل معنى إلاَّ أَن تطوع: أَن تشرع فِيهِ، فَيصير وَاجِبا كَمَا يصير وَاجِبا بِالنذرِ. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: إِنَّه مُنْقَطع احْتَاجَ إِلَى دَلِيل، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى النَّسَائِيّ وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْم التَّطَوُّع ثمَّ يفْطر، وَفِي البُخَارِيّ أَنه أَمر جوَيْرِية بنت الْحَارِث أَن تفطر يَوْم الْجُمُعَة. بعد أَن شرعت فِيهِ، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة لَا يسْتَلْزم الْإِتْمَام إلاَّ إِذا كَانَت نَافِلَة بِهَذَا النَّص فِي الصَّوْم، وبالقياس فِي الْبَاقِي. قلت: من الْعجب أَن هَذَا الْقَائِل كَيفَ لم يذكر الْأَحَادِيث الدَّالَّة على استلزام الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة بالإتمام، وعَلى الْقَضَاء بالإفساد، وَقد روى أَحْمد فِي مُسْنده، عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: أَصبَحت أَنا وَحَفْصَة صائمتين، فأهديت لنا شَاة فأكلنا مِنْهَا، فَدخل علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرنَاهُ فَقَالَ: (صوما يَوْمًا مَكَانَهُ) . وَفِي لفظ آخر: بَدَلا، أَمر بِالْقضَاءِ. وَالْأَمر للْوُجُوب، فَدلَّ على أَن الشُّرُوع ملزوم، وَأَن الْقَضَاء بالإفساد وَاجِب. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أم سَلمَة أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا فأفطرت، فَأمرهَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَحَدِيث النَّسَائِيّ لَا يدل على أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، ترك الْقَضَاء بعد الْإِفْطَار، وإفطاره رُبمَا كَانَ عَن عذر. وَحَدِيث جوَيْرِية إِنَّمَا أمرهَا بالأفطار عِنْد تحقق وَاحِد من الْأَعْذَار: كالضيافة، وكل مَا جَاءَ من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب فَمَحْمُول على مثل هَذَا، وَلَو وَقع التَّعَارُض بَين الْأَخْبَار، فالترجيح مَعْنَاهُ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالثَّانِي: أَن أحاديثنا مثبتة وأحاديثهم نَافِيَة، والمثبت مقدم. وَالثَّالِث: أَنه احْتِيَاط فِي الْعِبَادَة فَافْهَم. قَوْله: (وَذكر لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة) هَذَا قَول الرَّاوِي، كَأَنَّهُ نسي مَا نَص عَلَيْهِ رَسُول الله والتبس عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَذكر لَهُ الزَّكَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وَذكر لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، الصَّدَقَة. وَالْمرَاد مِنْهَا: الزَّكَاة أَيْضا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} (التَّوْبَة: 60) وَهَذَا يُؤذن بِأَن مُرَاعَاة الْأَلْفَاظ مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة، فَإِذا الْتبس عَلَيْهِ يُشِير فِي لَفظه إِلَى مَا ينبىء عَنهُ، كَمَا فعل الرَّاوِي هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر قَالَ: (فَأَخْبرنِي بِمَا فرض الله عَليّ من الزَّكَاة) . قَالَ: فَأخْبر رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بشرائع الْإِسْلَام. قَوْله: (وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص) ، وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: (وَالَّذِي أكرمك) أَي: لَا أَزِيد على مَا ذكرت وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا. قَوْله: (أَفْلح إِن صدق) وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عِنْد مُسلم: (أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق، أَو دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق) . وَلأبي دَاوُد مثله، لَكِن بِحَذْف: أَو. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: الْفَلاح رَاجع إِلَى لفظ: وَلَا أنقص خَاصَّة، وَالْمُخْتَار أَنه رَاجع إِلَيْهِمَا بِمَعْنى أَنه إِذا لم يزدْ وَلم ينقص كَانَ مفلحا، لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ، وَمن أَتَى بِمَا عَلَيْهِ كَانَ مفلحا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه إِذا أَتَى بزائد على ذَلِك لَا يكون مفلحا، لِأَن هَذَا مِمَّا يعرف بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ إِذا أَفْلح بِالْوَاجِبِ ففلاحه بالمندوب مَعَ الْوَاجِب أولى، وَقَالَ ابْن بطال: دلّ قَوْله: أَفْلح إِن صدق على أَنه إِن لم يصدق فِي التزامها أَنه لَيْسَ بمفلح، وَهَذَا خلاف قَول المرجئة. وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل رَسُولا، فَحلف أَن لَا أَزِيد فِي الإبلاغ على مَا سَمِعت، وَلَا أنقص فِي تَبْلِيغ مَا سمعته مِنْك إِلَى قومِي. وَيُقَال: يحْتَمل صُدُور هَذَا الْكَلَام مِنْهُ على الْمُبَالغَة فِي التَّصْدِيق وَالْقَبُول، أَي: قبلت قَوْلك فِيمَا سَأَلتك عَنهُ قبولاً لَا مزِيد عَلَيْهِ من جِهَة السُّؤَال، وَلَا نُقْصَان فِيهِ من طرق الْقبُول. وَيُقَال: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شَرْعِيَّة أَمر آخر، وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ: لَا أَزِيد عَلَيْهِ بتغيير حَقِيقَته، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُصَلِّي الظّهْر خمْسا. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّوَافِل بل يحافظ على كل الْفَرَائِض، وَهَذَا مُفْلِح بِلَا شكّ، وَإِن كَانَت مواظبته على ترك النَّوَافِل مذمومة. وَيُقَال: يحْتَمل أَنه المُرَاد أَنِّي لَا أَزِيد على(1/268)
شرائع الْإِسْلَام وَلَا أنقص مِنْهَا شَيْئا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الصّيام قَالَ: (وَالَّذِي أكرمك لَا أتطوع شَيْئا وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله تَعَالَى عَليّ شَيْئا) .
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: ان الصَّلَاة ركن من أَرْكَان الاسلام. الثَّانِي: أَنَّهَا خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة. الثَّالِث: ان الصَّوْم أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام، وَهُوَ فِي كل سنة شهر وَاحِد. الرَّابِع: أَن الزَّكَاة أَيْضا ركن من أَرْكَان الاسلام. الْخَامِس: عدم وجوب قيام اللَّيْل، وَهُوَ إِجْمَاع فِي حق الامة، وَكَذَا فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الاصح. السَّادِس: عدم وجوب الْعِيدَيْنِ. وَقَالَ الاصطخري، من أَصْحَاب الشَّافِعِي: صَلَاة الْعِيدَيْنِ فرض كِفَايَة. السَّابِع: عدم وجوب صَوْم عَاشُورَاء وَغَيره سوى رَمَضَان، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ الْآن، وَاخْتلفُوا أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا قبل رَمَضَان أم لَا؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِي الْأَظْهر مَا كَانَ وَاجِبا، وَعند أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ وَاجِبا، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيّ. الثَّامِن: انه لَيْسَ فِي المَال حق سوى الزَّكَاة على من ملك نِصَابا وَتمّ عَلَيْهِ الْحول. التَّاسِع: أَن من يَأْتِي بالخصال الْمَذْكُورَة ويواظب عَلَيْهَا صَار مفلحاً بِلَا شكّ. الْعَاشِر: أَن السّفر والارتحال من بلد إِلَى بلد لأجل تعلم علم الدّين وَالسُّؤَال عَن الأكابر أَمر مَنْدُوب. الْحَادِي عشر: جَوَاز الْحلف بِاللَّه تَعَالَى من غير استحلاف وَلَا ضَرُورَة، لِأَن الرجل حلف هَكَذَا بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُنكر عَلَيْهِ. الثَّانِي عشر: صِحَة الِاكْتِفَاء بالاعتقاد من غير نظر وَلَا اسْتِدْلَال، لكنه يحْتَمل ان ذَلِك صَحَّ عَنهُ بِالدَّلِيلِ. وَإِنَّمَا أشكلت عَلَيْهِ الْأَحْكَام. الثَّالِث عشر: فِيهِ الرَّد على المرجئة، إِذْ شَرط فِي فلاحه أَن لَا ينقص من الْأَعْمَال والفرائض الْمَذْكُورَة. الرَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز قَول: رَمَضَان، من غير ذكر: شهر. الْخَامِس عشر: فِيهِ اسْتِعْمَال الصدْق فِي الْخَبَر الْمُسْتَقْبل، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْكَذِب مُخَالفَة الْخَبَر فِي الْمَاضِي، وَالْحلف فِي مُخَالفَته فِي الْمُسْتَقْبل، فَيجب على هَذَا أَن يكون الصدْق فِي الْخَبَر عَن الْمَاضِي، وَالْوَفَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يرد عَلَيْهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} (هود: 65) .
الاسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أثبت لَهُ الْفَلاح بِمُجَرَّد مَا ذكر مَعَ أَنه لم يذكر المنهيات وَلَا جَمِيع الْوَاجِبَات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، فِي آخر هَذَا الحَدِيث، قَالَ: فاخبره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشرائع الْإِسْلَام، فَأَدْبَرَ الرجل وَهُوَ يَقُول: لَا أَزِيد وَلَا أنقص مِمَّا فرض الله عَليّ شَيْئا، فعلى عُمُوم قَوْله بشرائع الْإِسْلَام، وَقَوله: مِمَّا فرض الله، يَزُول الْإِشْكَال فِي الْفَرَائِض. وَأما النَّوَافِل فَقيل: يحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل شرعها، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه لَا يُصَلِّي النَّافِلَة مَعَ أَنه لَا يخل بِشَيْء من الْفَرَائِض، وَأما المنهيات فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي شرائع الْإِسْلَام. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع قبل وُرُود النَّهْي. قلت: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ جزم بِأَن السَّائِل هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة وَقد قيل إِنَّه وَفد سنة خمس، وَقيل: بعد ذَلِك، وَكَانَ أَكثر المنهيات وَاقعَة قبل ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه لم يذكر الْحَج فِي هَذَا الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يفْرض حِينَئِذٍ أَو لِأَن الرجل سَأَلَ عَن حَاله حَيْثُ قَالَ: هَل عَليّ غَيرهَا؟ فاجاب عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا عرف من حَاله، وَلَعَلَّه مِمَّن لم يكن الْحَج وَاجِبا عَلَيْهِ. وَقيل: لم يَأْتِ فِي هَذَا الحَدِيث بِالْحَجِّ كَمَا لم يذكر فِي بَعْضهَا الصَّوْم وَفِي بَعْضهَا الزَّكَاة، وَقد ذكر فِي بَعْضهَا صلَة الرَّحِم وَفِي بَعْضهَا أَدَاء الْخمس، فتفاوتت هَذِه الْأَحَادِيث فِي عدد خِصَال الْإِيمَان زِيَادَة ونقصاناً، وَسبب ذَلِك تفَاوت الروَاة فِي الْحِفْظ والضبط، فَمنهمْ من إقتصر على مَا حفظه فأداه وَلم يتَعَرَّض لما زَاده غَيره بِنَفْي وَلَا اثبات، وَذَلِكَ لَا يمْنَع من ايراد الْجَمِيع فِي الصَّحِيح، لما عرفت أَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة، وَالْقَاعِدَة الْأُصُولِيَّة فِيهَا أَن الحَدِيث إِذا رَوَاهُ راويان، واشتملت إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ على زِيَادَة، فَإِن لم تكن مُغيرَة لإعراب الْبَاقِي قبلت، وَحمل ذَلِك على نِسْيَان الرَّاوِي أَو ذُهُوله أَو اقْتِصَاره بِالْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي صُورَة الاستشهاد، وَإِن كَانَت مُغيرَة تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَتعين طلب التَّرْجِيح، فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أقره على حلفه وَقد ورد النكير على من حلف أَن لَا يفعل خيرا؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْأَحْوَال والأشخاص، وَهَذَا جَار على الأَصْل بِأَنَّهُ لَا إِثْم على غير تَارِك الْفَرَائِض فَهُوَ مُفْلِح، وَإِن كَانَ غَيره أَكثر فلاحاً مِنْهُ. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ الْجمع بَين حلفه بقوله: وَأَبِيهِ إِن صدق، مَعَ نَهْيه عَن الْحلف بِالْآبَاءِ؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك كَانَ قبل النَّهْي، أَو بِأَنَّهَا كلمة جَارِيَة على اللِّسَان لَا يقْصد بهَا الْحلف، كَمَا جرى على لسانهم: عقرى حلقى، وتربت يَمِينك، وَالنَّهْي إِنَّمَا ورد فى القاصد بِحَقِيقَة الْحلف(1/269)
لما فِيهِ من تَعْظِيمه الْمَخْلُوق، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْعلمَاء. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حذف مُضَاف تَقْدِيره: وَرب أَبِيه، فاضمر ذَلِك فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يضمر بل يذهب فِيهِ، وَسمعت بعض مَشَايِخنَا يُجيب بجوابين آخَرين: أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون الحَدِيث: أَفْلح وَالله، فقصر الْكَاتِب اللامين فَصَارَت: وَأَبِيهِ، وَالْآخر: خُصُوصِيَّة ذَلِك بالشارع دون غَيره، وَهَذِه دَعْوَى لَا برهَان عَلَيْهَا. وَأغْرب الْقَرَافِيّ حَيْثُ قَالَ: هَذِه اللَّفْظَة وَهِي: وابيه، اخْتلف فِي صِحَّتهَا، فَإِنَّهَا لَيست فِي الْمُوَطَّأ، وَإِنَّمَا فِيهَا افلح إِن صدق، وَهَذَا عَجِيب، فَالزِّيَادَة ثَابِتَة لَا شكّ فِي صِحَّتهَا وَلَا مرية.
35 - (بابُ اتِّبَاعُ الْجَنائِزِ مِنَ الإِيمَان)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَيجوز ترك التَّنْوِين بإضافته إِلَى الْجُمْلَة، اعني: قَوْله اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان، فَقَوله: (اتِّبَاع الْجَنَائِز) كَلَام أضافي مُبْتَدأ. وَقَوله: (من الْإِيمَان) خَبره اي: اتِّبَاع الْجَنَائِز شُعْبَة من شعب الْإِيمَان، وَاتِّبَاع بتَشْديد التَّاء مصدر اتبع من بَاب الافتعال، والجنائز جمع جَنَازَة، بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة والمكسورة، وَالْكَسْر أفْصح، وَقيل بِالْفَتْح للْمَيت، وبالكسر للنعش، وَعَلِيهِ الْمَيِّت. وَقيل: عَكسه مُشْتَقَّة من جنز، اذا ستر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ، والعامة تَقول بِالْفَتْح، وَالْمعْنَى: للْمَيت على السرير وَإِذا لم يكن عَلَيْهِ الْمَيِّت فَهُوَ سَرِير ونعش، وَفِي (الْعباب) لِابْنِ الْأَعرَابِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: السرير؛ والجنازة، بِالْفَتْح: الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن السّكيت وَابْن قُتَيْبَة: يُقَال: الْجِنَازَة والجنازة، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: الْمَيِّت نَفسه، قَالَ: والعوام يتوهمون أَنه السرير. وَقَالَ النَّضر: الْجِنَازَة: السرير مَعَ الرجل جَمِيعًا. وَقَالَ الْخَلِيل: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: خشب الشرجع، وَقد جرى فِي أَفْوَاه النَّاس الْجِنَازَة بِالْفَتْح، والنحارير يُنكرُونَ ذَلِك. وَقَالَ غَيره: إِذا لم يكن عَلَيْهِ ميت فَهُوَ سَرِير أَو نعش، وكل شَيْء ثقل على قوم واغتموا بِهِ فَهُوَ جَنَازَة. وَقَالَ ابْن عباد: الْجِنَازَة، بِالْكَسْرِ: الْمَرِيض، وَطعن فلَان فِي جنَازَته، وَرمى فِي جنَازَته إِذا مَاتَ. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: جنزت الشَّيْء أجنزه جنزاً إِذا سترته، وَزعم قوم أَن مِنْهُ اشتقاق الْجِنَازَة. قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا صِحَّته. وَقَالَ اللَّيْث: جنز الشَّيْء إِذا جمع، وَقيل: مِنْهُ اشتقاق الْجِنَازَة، لِأَن الثِّيَاب تجمع على الْمَيِّت. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: إِن النوار لما احتضرت أوصت أَن يُصَلِّي عَلَيْهَا الْحسن الْبَصْرِيّ، فاخبر الْحسن بذلك فَقَالَ: إِذا جنزتموها فآذنوني. قَالَ: فاسترككنا هَذِه الْكَلِمَة من الْحسن يَوْمئِذٍ، يَعْنِي: التجنيز. فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: الانسان لَهُ حالتان: حَالَة الْحَيَاة وَحَالَة الْمَمَات، فالمذكور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَرْكَان الدّين الَّتِي يحصل الثَّوَاب بإقامتها بِمُبَاشَرَة الْأَحْيَاء بِدُونِ وَاسِطَة، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الثَّوَاب الَّذِي يحصل بِمُبَاشَرَة الْأَحْيَاء بِوَاسِطَة الْأَمْوَات. وَقَالَ بَعضهم: ختم المُصَنّف التراجم الَّتِي وَقعت لَهُ من شعب الْإِيمَان بِهَذِهِ التَّرْجَمَة، لِأَن ذَلِك آخر أَحْوَال الدُّنْيَا. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَنَّهُ بَقِي من الْأَبْوَاب المترجمة بشعب الْإِيمَان بَاب: أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، وَهُوَ مَذْكُور بعد أَرْبَعَة أَبْوَاب من هَذَا الْبَاب، وَكَيف يَصح أَن يُقَال ختم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة التراجم الْمَذْكُورَة؟ فان قلت: مَا وَجه قَوْله فِي الْبَاب السَّابِق: بَاب الزَّكَاة من الْإِسْلَام، وَفِي هَذَا الْبَاب: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز من الْإِيمَان؟ قلت: رَاعى الْمُنَاسبَة والمطابقة فيهمَا، فَإِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول لفظ: الاسلام، حَيْثُ قَالَ: (فَإِذا هُوَ يسْأَل عَن الْإِسْلَام) وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب لفظ الْإِيمَان، حَيْثُ قَالَ: من اتبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا، فترجم الْبَاب على لَفْظَة الْإِيمَان.
47 - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ المَنْجُوفِيُّ قَالَ حّدثنا رَوْحٌ قَالَ حدّثنا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ ومُحمَّدٍ عَنْ أَبى هُريْرَةَ أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَاناً واحْتِساباً وكانَ مَعَهُ حتَّى يُصَلَّى عَلَيْها وُيفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فانَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطْينِ كُلُّ قيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ ومَنْ صَلَّى علَيْهَا ثُمَّ رجَعَ قَبْلَ أنْ تُدْفَنَ فإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، من حَيْثُ أَن مُبَاشرَة الْعَمَل الَّذِي فِيهِ الثَّوَاب قدر قيراطين، والقيراط مثل جبل أحد، شُعْبَة من شعب الْإِيمَان. وَرَأَيْت من ذكر من الشُّرَّاح وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، قد تعلق بقوله: إِيمَانًا واحتساباً. وَهَذَا لَا وَجه لَهُ.(1/270)
فان المُرَاد من معنى الْإِيمَان هَهُنَا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، مَعْنَاهُ: مُصدقا بِأَنَّهُ حق وَطَاعَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، وَفِي قَوْله: واحتساباً مُسْتَوفى فِي بَاب قيام لَيْلَة الْقدر من الْإِيمَان.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: احْمَد بن عبد الله بن عَليّ بن سُوَيْد بن منجوف، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَضم الْجِيم وَفِي آخِره فَاء، وَمَعْنَاهُ: الموسع، ونسبته إِلَيْهِ، وكنيته أَبُو بكر السدُوسِي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وابو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: روح، بِفَتْح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، بن عبَادَة بن الْعَلَاء بن حسان بن عمر بن مرْثَد الْبَصْرِيّ، قَالَ الْخَطِيب: كَانَ كثير الحَدِيث، وصنف الْكتب فِي السّنَن وَالْأَحْكَام وَالتَّفْسِير، وَكَانَ ثِقَة. قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: نظرت لروح بن عبَادَة فِي أَكثر من مائَة الف حَدِيث، كتبت مِنْهَا عشرَة آلَاف. وَقَالَ يحيى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ صَدُوق، توفّي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عَوْف، بِالْفَاءِ، ابْن أبي جميلَة بندويه، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالنُّون الساكنة وَالدَّال الْمُهْملَة المضمومة وواو سَاكِنة وياء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة، وَغلط من قَالَ بِوَزْن: رَاهَوَيْه، وَقيل: اسْمه بنده أَي: العَبْد، يعرف بالأعرابى، وَلم يكن أَعْرَابِيًا، وَإِنَّمَا قيل لفصاحته، الْعَبْدي الهجري الْبَصْرِيّ، سمع جمعا من كبار التَّابِعين مِنْهُم الْحسن، وَعنهُ الْأَعْلَام: الثَّوْريّ وَشعْبَة وَغَيرهمَا، وثقته مجمع عَلَيْهَا، ولد سنة تسع وَخمسين، وَمَات سنة سِتّ وَقيل: سنة سبع واربعين وَمِائَة، وَنسب إِلَى التَّشَيُّع، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقد مر ذكره. الْخَامِس: مُحَمَّد بن سِيرِين أَبُو بكر الْأنْصَارِيّ، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الْجَلِيل، أَخُو أنس ومعبد وَيحيى وَحَفْصَة وكريمة أَوْلَاد سِيرِين، وَسِيرِين مولى أنس من سبي عين التَّمْر، وَإِذا أطلق إِبْنِ سِيرِين فَهُوَ: مُحَمَّد هَذَا، وَهَؤُلَاء السِّتَّة كلهم تابعيون، وَذكر أَبُو عَليّ الْحَافِظ خَالِدا بدل كَرِيمَة، قَالَ: واكبرهم معبد، وأصغرهم حَفْصَة. قلت: وَفِي أَوْلَاد سِيرِين أَيْضا: عمْرَة وَسَوْدَة. قَالَ ابْن سعد: أمهَا أم ولد كَانَت لأنس، وَذكر بَعضهم من أَوْلَاده أَيْضا: أشعب، فَهَؤُلَاءِ عشرَة. كَاتب أنس، رَضِي الله عَنهُ، سِيرِين على عشْرين ألف دِرْهَم، فأداها وَعتق، وَأم مُحَمَّد وأخوته صَفِيَّة مولاة الصّديق، طيبها ثَلَاث من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَعَوْنَ لَهَا وَحضر أملاكها ثَلَاثَة عشر بَدْرِيًّا مِنْهُم: أبي بن كَعْب يَدْعُو وهم يُؤمنُونَ، سمع جمعا من الصَّحَابَة وخلقاً من التَّابِعين، قَالَ هِشَام بن حسان: أدْرك ثَلَاثِينَ صحابياً، ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ أكبر من أَخِيه أنس، وَعنهُ خلق من التَّابِعين: الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَأَيوب، مَاتَ سنة عشر وَمِائَة بعد الْحسن بِمِائَة يَوْم، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: ابو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون مَا خلا أَبَا هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ. وَمِنْهَا: أَن البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، قرن فِيهِ بَين الْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين لما أسلفنا أَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة عِنْد الْجُمْهُور، فقرنه بِمُحَمد بن سِيرِين لِأَنَّهُ سمع مِنْهُ، فالاعتماد عَلَيْهِ، وعَلى قَول من يَقُول: إِن الْحسن سمع مِنْهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا سمعا هَذَا الحَدِيث من أبي هُرَيْرَة مُجْتَمعين، وَإِمَّا ان يَكُونَا سمعا مِنْهُ مفترقين، وَإِنَّمَا أوردهُ البُخَارِيّ كَمَا سمع، وَقد وَقع لَهُ نَظِير هَذَا فِي قصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج فِيهَا حَدِيثا من طَرِيق روح بن عبَادَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَأخرج أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَنْهُمَا، عَن أبي هُرَيْرَة حَدِيثا آخر، واعتماده فِي كل ذَلِك على ابْن سِيرِين، لِأَن الْحسن، وَإِن صَحَّ سَمَاعه عَن أبي هُرَيْرَة، فَإِنَّهُ كثير الْإِرْسَال فَلَا تحمل عنعنته على السماع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: لم يَصح سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة، أَقُول: فعلى هَذَا التَّقْدِير يكون لفظ: عَن أبي هُرَيْرَة، مُتَعَلقا بِمُحَمد فَقَط، أَو يكون مُرْسلا. قلت: قَوْله: أَو يكون مُرْسلا، إِن أَرَادَ بِهِ أَن الحَدِيث يكون مُرْسلا، فَلَا يَصح، وَإِن أَرَادَ بِهِ الْإِرْسَال من جِهَة الْحسن فَلهُ وَجه على تَقْدِير عدم سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام عَن اسحاق الْأَزْرَق، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن بشار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، كِلَاهُمَا عَن عَوْف عَن مُحَمَّد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (اتبع) ، بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: تبع، بِدُونِ الْألف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، يُقَال: تبِعت الشَّيْء تبعا وتباعة، بِفَتْح التَّاء، وَتبع وَاتبع وَاتبع وَاحِد، وَقيل: اتبعهُ: لحقه وَمَشى خَلفه، وَاتبعهُ: حذا(1/271)
حذوه. وَفِي (الْعباب) : تبِعت الْقَوْم بِالْكَسْرِ اتبعهم تبعا وتباعة، بِالْفَتْح: إِذا مشيت خَلفهم، أَو مروا بك فمضيت مَعَهم، وَاتَّبَعت الْقَوْم مثل تبعتهم إِذا كَانُوا قد سبقوك فلحقتهم، وَاتَّبَعت أَيْضا غَيْرِي وَقَوله تَعَالَى: {فاتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده} (يُونُس: 90) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي لحقهم أَو كَاد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَاتبعهُ الشَّيْطَان} (الْأَعْرَاف: 175) اي: لحقه، وَقَالَ الْفراء: يُقَال تبعه وَاتبعهُ. لحقه والحقه، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} (الصافات: 10) وَقَوله تَعَالَى: {فَاتبع سَببا} (الْكَهْف: 85) و {فَاتبع سَببا} (الْكَهْف: 85) بِقطع الْهمزَة فِي قِرَاءَة أهل الشَّام والكوفة، كل ذَلِك: لحق. وَقَالَ الْأَزْهَرِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فاتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده} (يُونُس: 90) أَرَادَ: اتبعهم إيَّاهُم. قَوْله: (ايماناً واحتساباً) قد مر الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي قيام لَيْلَة الْقدر. قَوْله: (يرجع) ، من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (قِيرَاط) ، أَصله: قراط، بتَشْديد الرَّاء بِدَلِيل جمعه على قراريط، فأبدل من إِحْدَى الرائين يَاء، كَمَا فِي الدِّينَار أَصله: دنار، بِدَلِيل جمعه على دَنَانِير، والقيراط فِي اللُّغَة: نصف دانق. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قيل: القيراط جُزْء من أَجزَاء الدِّينَار، وَهُوَ نصف عشرَة فِي أَكثر الْبِلَاد، وَأهل الشَّام يجعلونه جزأ من أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ، وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ بعض الشَّيْء، وَفِي (الْعباب) : وزن القيراط يخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد، فَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة: ربع سدس الدِّينَار، وَعند أهل الْعرَاق: نصف عشر الدِّينَار. انْتهى. وَعند الْفُقَهَاء: القيراط جُزْء من عشْرين جزأ من الدِّينَار، وكل قِيرَاط ثَلَاث حبات، فَيكون الدِّينَار سِتِّينَ حَبَّة، وكل حَبَّة أَربع أرزات، فَيكون مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين أرزة. وَيُقَال: القيراط طسوجتان، والطسوجة حبتان، والحبة شعيرتان، والشعيرة ذرتان، والذرة فتيلتان. وَقد أَرَادَ الشَّارِع من القيراط هَهُنَا قدر جبل أحد، وَالْمَقْصُود أَن القيراط: مِقْدَار من الثَّوَاب مَعْلُوم عِنْد الله تَعَالَى وَهَذَا الحَدِيث يدل على عظم مِقْدَاره فِي هَذَا الْمَوْضُوع، وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يكون هَذَا هُوَ القيراط الْمَذْكُور فِيمَن اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب صيد أَو زرع أَو مَاشِيَة نقص من أجره كل يَوْم قِيرَاط. بل يجوز أَن يكون أقل مِنْهُ أَو أَكثر. قلت: بل الظَّاهِر أَن القيراط فِي الْأجر اعظم من القيراط الْمَذْكُور فِي نقص الْأجر، لِأَنَّهُ من قبيل الْمَطْلُوب تَركه. وَالْأول من قبيل الْمَطْلُوب فعله، وَهُوَ الصَّلَاة على الْجِنَازَة وَحُضُور دَفنهَا، وَقد رَأينَا عَادَة الشَّرْع تَعْظِيم الْحَسَنَات وتضعيفها دون السَّيِّئَات، كرماً مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَة، ولطفاً. وَالْحَاصِل أَن القيراط: اسْم لمقدار من الثَّوَاب يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير، وَبَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه مثل أحد، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: القيراط أعظم من أحد. ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وفى رِوَايَة للْحَاكِم من حَدِيث أبي بن كَعْب مَرْفُوعا: (وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَهو فِي الْمِيزَان أثقل من أحد) . وَفِي اسناده: الْحجَّاج بن ارطأة، وَفِيه مقَال. وَفِي السّنَن الصِّحَاح المأثورة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من أُوذِنَ بِجنَازَة فَأتى أَهلهَا فعزاهم كتب الله لَهُ قيراطاً، فان شيعها كتب الله لَهُ قيراطين، فَإِن صلى عَلَيْهَا كتب الله لَهُ ثَلَاثَة قراريط، فَإِن شهد دَفنهَا كتب الله لَهُ أَرْبَعَة قراريط، القيراط مثل أحد) . قَوْله: (مثل أحد) بِضَمَّتَيْنِ: وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي بِجنب الْمَدِينَة على نَحْو ميلين مِنْهَا، وَهُوَ فِي شمال الْمَدِينَة، وَسمي بِهَذَا الإسم لتوحده وانقطاعه عَن جبال أُخْرَى هُنَالك. وَفِي الحَدِيث من طَرِيق أبي عِيسَى بن جبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أحد يحبنا ونحبه، وَهُوَ على بَاب الْجنَّة. قَالَ: وعير يبغضنا ونبغضه، وَهُوَ على بَاب من أَبْوَاب النَّار) . قَالَ السُّهيْلي: وَفِي أحد قبر هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، أخي مُوسَى الكليم، وَفِيه قُبض، وثمة واراه مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَا قد مرا بِأحد حاجين أَو معتمرين.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وَمُحَمّد) بِالْجَرِّ، عطف على الْحسن. قَوْله: (من اتبع) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، و: اتبع، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل: (وجنازة مُسلم) كَلَام إضافي مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة صلَة الْمَوْصُول. قَوْله: (إِيمَانًا واحتسابا) منصوبان على الْحَال بِمَعْنى: مُؤمنا ومحتسباً، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: تطوع قيام رَمَضَان من الْإِيمَان. قَوْله: (وَكَانَ مَعَه) أَي: مَعَ الْمُسلم، هَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَكَانَ مَعهَا، أَي مَعَ الْجِنَازَة، وَهَذِه الْجُمْلَة عطف على قَوْله: اتبع. قَوْله: (حَتَّى يُصلي عَلَيْهَا) على صِيغَة الْمَعْلُوم، بِكَسْر اللَّام، وَالضَّمِير فِي: يُصَلِّي، يرجع إِلَى: من، وَفِي: عَلَيْهَا، إِلَى: الْجِنَازَة. ويروى بِفَتْح اللَّام على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: عَلَيْهَا، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. وَكَذَلِكَ رُوِيَ (ويفرغ من دَفنهَا) على الْوَجْهَيْنِ، و: حَتَّى، هَذِه للغاية، وَأَن الناصبة بعْدهَا مضمرة، وَقَوله: يُصَلِّي ويفرغ، منصوبان بهَا. قَوْله: (فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي قَوْله: من، وَإِنَّمَا دخلت الْفَاء لتَضَمّنه معنى الشَّرْط، كَمَا ذكرنَا. وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة، فَإِن قلت: مَا مَحل قَوْله: من الْأجر؟ قلت: حَال من قَوْله: (بقيراطين) ، وَفِي الْحَقِيقَة هِيَ صفة وَلكنهَا لما قدمت صَارَت حَالا. وَالْبَاء فِي: بقيراطين، تتَعَلَّق بقوله: يرجع. قَوْله: (كل قِيرَاط) كَلَام إضافي(1/272)
مُبْتَدأ. وَقَوله: (مثل أحد) أَيْضا كَلَام إضافي خَبره. وَاحِد منصرف لِأَنَّهُ علم الْمُذكر. قَوْله: (وَمن صلى) مثل قَوْله: (من اتبع جَنَازَة مُسلم) . وَقَوله: (ثمَّ رَجَعَ) عطف على: صلى. قَوْله: (قبل ان تدفن) نصب على الظّرْف، وَأَن مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: قبل الدّفن. وَقَوله: (فانه) خبر الْمُبْتَدَأ، كَمَا فِي الأول. قَوْله: (من الاجر) حَال من قَوْله: (بقيراط) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَإِنَّهُ يرجع من الْأجر بقيراطين) حُصُول القيراطن هَهُنَا مُقَيّد بِثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول: الِاتِّبَاع، وَالثَّانِي: الصَّلَاة عَلَيْهِ. وَالثَّالِث: حُضُور الدّفن. فَإِن قلت: لَو اتبع حَتَّى دفنت وَلم يصل عَلَيْهَا هَل لَهُ القيراطان؟ قلت: لَا، إِذْ المُرَاد أَن يُصَلِّي هُوَ أَيْضا، جمعا بَين الرِّوَايَتَيْنِ وحملاً للمطلق على الْمُقَيد. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اعْلَم أَن الصَّلَاة يحصل بهَا قِيرَاط إِذا انْفَرَدت، فَإِن انْضَمَّ إِلَيْهَا الِاتِّبَاع حَتَّى الْفَرَاغ حصل لَهُ قِيرَاط ثَان، فَلِمَنْ صلى وَحضر الدّفن القيراطان، وَلمن اقْتصر على الصَّلَاة قِيرَاط وَاحِد، وَلَا يُقَال: يحصل بِالصَّلَاةِ مَعَ الدّفن ثَلَاثَة قراريط، كَمَا يتوهمه بَعضهم من ظَاهر بعض الْأَحَادِيث، وَلِأَن هَذَا النَّوْع صَرِيح، والْحَدِيث الْمُطلق والمحتمل مَحْمُول عَلَيْهِ، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان) فَمَعْنَاه: فَلهُ تَمام قيراطين بالمجموع. وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {ائنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الارض فى يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) إِلَى قَوْله: {فى اربعة أَيَّام} (فصلت: 10) ثمَّ قَالَ: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} قَالَ: وَأما الدّفن فَفِيهِ وَجْهَان: الصَّحِيح: أَنه تَسْوِيَة الْقَبْر بالتمام، وَالثَّانِي: انه نصب اللَّبن عَلَيْهِ، وان لم يهل عَلَيْهِ التُّرَاب. قَالَ: ثمَّ فِي الحَدِيث تَنْبِيه على مَسْأَلَة أُخْرَى، وَهُوَ: ان القيراط الثَّانِي مُقَيّد بِمن اتبعها، وَكَانَ مَعهَا فى جميح الطَّرِيق حَتَّى تدفن، فَلَو صلى وَذهب إِلَى الْقَبْر وَحده، وَمكث حَتَّى جَاءَت الْجِنَازَة وَحضر الدّفن لم يحصل لَهُ القيراط الثَّانِي، وَكَذَا لَو حضر الدّفن وَلم يصل، أَو اتبعها وَلم يصل فَلَيْسَ فِي الحَدِيث حُصُول القيراط لَهُ، وَإِنَّمَا حصل القيراط لمن تبعها بعد الصَّلَاة، لكنه لَهُ أجر فِي الْجُمْلَة، وَعَن أَشهب: أَنه كره اتِّبَاع الْجِنَازَة وَالرُّجُوع قبل الصَّلَاة، وَحكى ابْن عبد الحكم عَن مَالك: أَنه لَا ينْصَرف بعد الدّفن إلاَّ بِالْإِذْنِ وَإِطْلَاق هَذَا الحَدِيث وَغَيره يُخَالِفهُ.
استنباط الاحكام: الاول: فِيهِ الْحَث على الصَّلَاة على الْمَيِّت وَاتِّبَاع جنَازَته وَحُضُور دَفنه، وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: حض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التواصل فِي الْحَيَاة بقوله: (صل من قَطعك وَأعْطِ من حَرمك) . (وَلَا تقاطعوا وَلَا تدابروا) وعَلى التواصل بعد الْمَوْت بِالصَّلَاةِ والتشييع إِلَى الْقَبْر وَالدُّعَاء لَهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن الثَّوَاب الْمَذْكُور إِنَّمَا يحصل لمن تبعها إِيمَانًا واحتساباً، فَإِن حُضُورهَا على ثَلَاثَة أَقسَام: احتسابا ومكافأة ومخافة. والاول: هُوَ الَّذِي يجازى عَلَيْهِ الْأجر ويحط الْوزر، وَالثَّانِي: لَا يعد ذَلِك فِي حَقه. وَالثَّالِث: الله اعْلَم بِمَا فِيهِ. الثَّالِث: فِيهِ وجوب الصَّلَاة على الْمَيِّت وَدَفنه وَهُوَ إِجْمَاع. الرَّابِع: فِيهِ الحض على الِاجْتِمَاع لَهما والتنبيه على عظم ثوابهما، وَهِي مِمَّا خصت بِهِ هَذِه الامة. الْخَامِس: فِيهِ حجَّة ظَاهِرَة للحنفية فِي ان الْمَشْي خلف الْجِنَازَة أفضل من الْمَشْي أمامها، بِظَاهِر قَوْله: (من اتبع) ، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا. وَقَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ: وَذهب قوم إِلَى التَّوسعَة فِي ذَلِك وأنهما سَوَاء، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي مُصعب من أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ بَعضهم: وَقد تمسك بِهَذَا اللَّفْظ من زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَنَّهُ يُقَال: تبعه إِذا مَشى خَلفه، أَو إِذا مر بِهِ فَمشى مَعَه، وَكَذَلِكَ: اتبعهُ بِالتَّشْدِيدِ. قلت: هَذَا الْقَائِل نفى حجَّة هَؤُلَاءِ بِمَا هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فسر لفظ تبع بمعنيين: أَحدهمَا: حجَّة لمن زعم أَن الْمَشْي خلفهَا أفضل، وَالْآخر: لَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ حجَّة لخصمه. فَافْهَم. ثمَّ الرّكُوب وَرَاء الْجِنَازَة لَا بَأْس بِهِ، وَالْمَشْي أفضل. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: لَا فرق عندنَا بَين الرَّاكِب والماشي، يَعْنِي فِي الْمَشْي أمامها خلافًا للثوري حَيْثُ قَالَ: إِن الرَّاكِب يكون خلفهَا، وَتَبعهُ الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند، وَكَأَنَّهُ قلد الْخطابِيّ، فَإِنَّهُ كَذَا ادّعى، وَفِيه حَدِيث صَححهُ الْحَاكِم على شَرط البُخَارِيّ من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَقَالَ بِهِ من الْمَالِكِيَّة أَيْضا ابو مُصعب.
سُؤال: لم كَانَ الْجَزَاء بالقيراط دون غَيره؟ الْجَواب: إِنَّه أقل مُقَابل عَادَة. آخر: لِمَ خص بِأحد؟ الْجَواب: لِأَنَّهُ أعظم جبال الْمَدِينَة، والشارع كَانَ يُحِبهُ، وَهُوَ أَيْضا يُحِبهُ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
تابَعَهُ عُثْمانُ المُؤَذِّنُ قَالَ حدّثنا عَوْفٌ عَنْ مُحمَّدٍ عَنْ أَبى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ.(1/273)
اى تَابع روحاً عُثْمَان بن الْهَيْثَم فِي الرِّوَايَة عَن عَوْف الْأَعرَابِي وَعُثْمَان، هَذَا أَيْضا من شُيُوخ البُخَارِيّ يروي عَنهُ فِي مَوَاضِع بِلَا وَاسِطَة، وَفِي بعض الْمَوَاضِع عَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عَنهُ، وَهُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي ثمَّ البُخَارِيّ، رَضِي الله عَنهُ، إِن كَانَ سمع هَذَا الحَدِيث من عُثْمَان هَذَا فَهُوَ لَهُ أَعلَى بِدَرَجَة. لِأَنَّهُ من رِوَايَته رباعي، وَمن رِوَايَة المنجوفي خماسي، فَإِن قلت: فَلِمَ ذكر رِوَايَة عُثْمَان؟ قلت: لَان رِوَايَة المنجوفي مَوْصُولَة وَهِي اشد إتقانا من رِوَايَة عُثْمَان. فان قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَمَا الْحَاجة إِلَى ذكر مُتَابعَة عُثْمَان؟ قلت: لأجل التَّنْبِيه بروايته على أَن الِاعْتِمَاد فِي هَذَا السَّنَد على مُحَمَّد بن سِيرِين لِأَن عوفاً رُبمَا كَانَ ذكره، وَرُبمَا كَانَ حذفه مرّة، فَأثْبت الْحسن. ومتابعة عُثْمَان هَذِه وَصلهَا ابو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) قَالَ: حَدثنَا ابو اسحاق بن حَمْزَة، ثَنَا ابو طَالب بن أبي عوَانَة، ثَنَا سُلَيْمَان بن سيف، ثَنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم فَذكر الحَدِيث، وَلَفظه مُوَافق لرِوَايَة روح بن عبَادَة إلاّ فِي قَوْله: وَكَانَ مَعهَا. قَالَ بدلهَا: فلزمها. وَفِي قَوْله: ويفرغ من دَفنهَا، فَإِنَّهُ قَالَ بدلهَا: ويدفن، وَقَالَ فِي آخِره: قِيرَاط بدل قَوْله: فَإِنَّهُ يرجع بقيراط، وَالْبَاقِي سَوَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: إِذا قَالَ البُخَارِيّ عَن فلَان نجزم بِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ عِنْد امكان السماع، فَإِذا قَالَ: تَابعه، لم نجزم بِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ. قلت: قِيَاس الْمُتَابَعَة على العنعنة يَقْتَضِي ذَلِك، لَكِن صَرَّحُوا فِي العنعنة وَلم يصرحوا فِيهَا. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو مَا تقدم، وَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اتبع جَنَازَة) إِلَى آخِره، ثمَّ عُثْمَان هَذَا هُوَ ابو عَمْرو عُثْمَان بن الْهَيْثَم بن جهم بن عِيسَى بن حسان بن الْمُنْذر الْبَصْرِيّ، الْمُؤَذّن بجامعها. روى عَن عَوْف الْأَعرَابِي وَابْن جريج وَغَيرهمَا، وروى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى هُوَ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، توفّي لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من رَجَب سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ.
36 - (بابُ خَوْفِ ألمُؤمِنِ مِنْ أنْ يَحْبَطَ عَملُهُ لاَ يَشْعُرُ)
الْكَلَام فِيهِ على انواع: الأول: إِن قَوْله: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف إِلَى مَا بعده، تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان خوف الْمُؤمن من ان يحبط عمله، وَكلمَة: ان، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: من حَبط عمله، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ كلمة: من، وَهِي وَإِن لم تكن مَوْجُودَة لَكِنَّهَا مقدرَة، إِذْ الْمَعْنى عَلَيْهَا. قَوْله: (يحبط) على صِيغَة الْمَعْلُوم من: حَبط عمله يحبط حَبطًا وحبوطاً، من بَاب: علم يعلم. وَقَالَ ابو زيد: حَبط بِالْفَتْح وقرىء: {فقد حَبط عمله} (الْمَائِدَة: 5) بِفَتْح الْبَاء، وَهُوَ: الْبطلَان. قَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: القَوْل بإحباط الْمعاصِي للطاعات من قَوَاعِد الاعتزال، فَمَا وَجه قَول البُخَارِيّ هذاك؟ قلت: هَذَا الإحباط لَيْسَ بِذَاكَ، لِأَن المُرَاد بِهِ الإحباط بالْكفْر، أَو بِعَدَمِ الْإِخْلَاص وَنَحْوه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بالحبط نُقْصَان الْإِيمَان، وَإِبْطَال بعض الْعِبَادَات لَا الْكفْر، فَإِن الانسان لَا يكفر إلاَّ بِمَا يَعْتَقِدهُ، أَو يفعل عَالما بانه يُوجب الْكفْر. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْجُمْهُور على أَن الْإِنْسَان يكفر بِكَلِمَة الْكفْر، وبالفعل الْمُوجب للكفر، وَإِن لم يعلم أَنه كفر. قَوْله: (يحبط عمله) المُرَاد، ثَوَاب عمله، فالمضاف فِيهِ مَحْذُوف. قَوْله: (وَهُوَ لَا يشْعر) جملَة اسمية وَقعت حَالا، من: شعر يشْعر من بَاب: نصر ينصر، وَفِي (الْعباب) شَعرت بالشَّيْء، بِالْفَتْح، أشعر بِهِ، بِالضَّمِّ، شعرًا وشعرة وشعرى، بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وشعرة بِالْفَتْح، وشعوراً ومشعوراً ومشعورة: علمت بِهِ، وفطنت لَهُ، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ أَن حُصُول الثَّوَاب بالقيراطين أَو بقيراط الَّذِي هُوَ مثل جبل أحد، إِنَّمَا يحصل إِذا كَانَ عمله احتسابا خَالِصا لله تَعَالَى، وَفِي هَذَا الْبَاب مَا يُشِير إِلَى أَنه قد يعرض لِلْعَامِلِ مَا يحبط عمله، فَيحرم بِسَبَبِهِ الثَّوَاب الْمَوْعُود وَهُوَ لَا يشْعر، وَفِي نفس الْأَمر ذكر هَذَا الْبَاب إستطرادي، لأجل التَّنْبِيه على مَا ذكرنَا، وإلاَّ كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر عقيب الْبَاب السَّابِق بَاب: أَدَاء الْخمس من الايمان، لِأَن الْأَبْوَاب المعقودة هَهُنَا فِي بَيَان شعب الايمان. الثَّالِث: ذكر النَّوَوِيّ أَن مُرَاد البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الرَّد على المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الله لَا يعذب على شَيْء من الْمعاصِي، مِمَّن قَالَ: لَا اله الا الله، وَلَا يحبط شَيْء من أَعماله بِشَيْء من الذُّنُوب، وَإِن إِيمَان الْمُطِيع والعاصي سَوَاء، فَذكر فِي صدر الْبَاب أَقْوَال ائمة التَّابِعين، وَمَا نقلوه عَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ كالمشير إِلَى أَنه لَا خلاف بَينهم فِيهِ، وَأَنَّهُمْ مَعَ اجتهادهم الْمَعْرُوف خَافُوا أَن لَا ينجوا من عَذَاب الله تَعَالَى، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: المرجئة أضداد الْخَوَارِج، والمعتزلة. الْخَوَارِج تكفر بِالذنُوبِ، والمعتزلة يفسقون بهَا، وَكلهمْ يُوجب الخلود فِي النَّار، والمرجئة تَقول: لَا تضر الذُّنُوب مَعَ الْإِيمَان، وغلاتهم تَقول: يَكْفِي التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَحده(1/274)
وَلَا يضر عدم غَيره، وَمِنْهُم من يَقُول يَكْفِي التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَقَالَ غَيره: إِن من المرجئة من وَافق الْقَدَرِيَّة: كالصالحي والخالدي، وَمِنْهُم من قَالَ بالإرجاء دون الْقدر، وهم خمس فرق كفر بَعضهم بَعْضًا، والمرجئة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم وبهمزة، مُشْتَقّ من الإرجاء، وَهُوَ التَّأْخِير. وَقَوله تَعَالَى: {ارجئه واخاه} (الْأَعْرَاف: 111) أَي: أَخّرهُ، والمرجىء من يُؤَخر الْعَمَل عَن الْإِيمَان وَالنِّيَّة وَالْقَصْد، وَقيل: من الرَّجَاء، لأَنهم يَقُولُونَ: لَا تضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة، كَمَا لَا تَنْفَع مَعَ الْكفْر طَاعَة، وَقيل: مَأْخُوذ من الإرجاء بِمَعْنى: تَأْخِير حكم الْكَبِيرَة، فَلَا يقْضى لَهَا بِحكم فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ إبْراهِيمُ التَّيْمِىُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَليّ عَمَلي إلاَّ خَشِيتُ أَن أكُونَ مُكَذِّباً.
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: أَن ابراهيم هُوَ ابْن زيد بن شريك التَّيْمِيّ، تيم الربَاب، أَبُو أَسمَاء الْكُوفِي. قيل: قَتله الْحجَّاج بن يُوسُف، وَقيل: مَاتَ فِي سجنه لما طلب الإِمَام ابراهيم النَّخعِيّ، فَوَقع الرَّسُول بابراهيم التَّيْمِيّ، فَأَخذه وحبسه، فَقيل لَهُ: لَيْسَ إياك أَرَادَ، فَقَالَ: أكره أَن أدفَع عَن نَفسِي، وأكون سَببا لحبس رجل مُسلم بَرِيء الساحة، فَصَبر فِي السجْن حَتَّى مَاتَ. قَالَ يحيى: هُوَ ثِقَة، مرجىء، وَمن غَرَائِبه مَا روى عَن الْأَعْمَش عَن ابراهيم التَّيْمِيّ، قَالَ: إِنِّي لأمكث ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا آكل، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين. روى لَهُ الْجَمَاعَة، وتيم الربَاب، بِكَسْر الرَّاء، قَالَ الْحَازِمِي: تيم الربَاب، وَهُوَ تيم بن عبد مَنَاة بن ود بن طابخة، وَقَالَ معمر ابْن الْمثنى: تيم الربَاب ثَوْر وعدي وعكل وَمُزَيْنَة بَنو عبد مَنَاة وضبة بن ود، قيل: سموا بِهِ لأَنهم غمسوا أَيْديهم فِي رب وتحالفوا عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن الْكَلْبِيّ، وَقَالَ غَيره: سموا بِهِ لأَنهم ترببوا، أَي: تحالفوا على بني سعد بن زيد. قلت: الرب، بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الطلاء الخاثر. الثَّانِي: أَن قَول ابراهيم هَذَا رَوَاهُ أَبُو قَاسم اللالكائي فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن الْقَاسِم بن جَعْفَر، انبأنا مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمَّاد، حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبد الله، حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان عَن أبي حَيَّان عَن ابراهيم بِهِ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) عَن أبي نعيم، وَأحمد بن حَنْبَل فِي (الزّهْد) كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي حَيَّان التَّيْمِيّ عَن ابراهيم التَّيْمِيّ بِهِ. الثَّالِث: مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه كَانَ يخَاف أَن يكون مُكَذبا فِي قَوْله: إِنَّه مُؤمن لتَقْصِيره فِي الْعَمَل، فَيحرم بذلك الثَّوَاب وَهُوَ لَا يشْعر. الرَّابِع: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: مُكَذبا رُوِيَ، بِفَتْح الذَّال بِمَعْنى: خشيت أَن يكذبنِي من رأى عَمَلي مُخَالفا لقولي، فَيَقُول: لَو كنت صَادِقا مَا فعلت خلاف مَا تَقول، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يعظ النَّاس، وَرُوِيَ بِكَسْر الذَّال، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَمَعْنَاهُ: أَنه لم يبلغ غَايَة الْعَمَل، وَقد ذمّ الله تَعَالَى من أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وَقصر فِي الْعَمَل فَقَالَ: {كبر مقتاً عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الشُّعَرَاء: 36) فخشي أَن يكون مُكَذبا أَي: مشابهاً للمكذبين.
وقالابنُ أَبي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْت ثَلاَثِينَ مِنْ أصْحابِ النَّبىِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ على نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أحدٌ يَقُولُ إنَّهُ على إيمانِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ.
الْكَلَام فِيهِ أَيْضا على وُجُوه. الأول: أَن ابْن أبي مليكَة هُوَ: عبد الله بن عبيد الله، بتكبير الإبن وتصغير الْأَب، وَاسم أبي ملكية، بِضَم الْمِيم: زُهَيْر بن عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن تيم بن مرّة الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ الْأَحول، كَانَ قَاضِيا لِابْنِ الزبير ومؤذناً، اتّفق على جلالته، سمع العبادلة الْأَرْبَعَة وَعَائِشَة وَأُخْتهَا اسماء وَأم سَلمَة وابا هُرَيْرَة وَعقبَة بن الْحَارِث والمسور بن مخرمَة، وادرك بِالسِّنِّ جمَاعَة وَلم يسمع مِنْهُم كعلي بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنْهُمَا، مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّانِي: أَن قَوْله هَذَا أخرجه ابْن أبي خَيْثَمَة فِي تَارِيخه مَوْصُولا من غير بَيَان الْعدَد، وَأخرجه مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي كتاب الْإِيمَان لَهُ مطولا. الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ. فَقَوله: كلهم يخَاف النِّفَاق، أَي: حُصُول النِّفَاق فِي الخاتمة على نَفسه، إِذْ الْخَوْف إِنَّمَا يكون عَن أَمر فِي الِاسْتِقْبَال، وَمَا مِنْهُم من أحد يجْزم بِعَدَمِ عرُوض النِّفَاق، كَمَا هُوَ جازم فِي إِيمَان جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بِأَنَّهُ لَا يعرضه النِّفَاق، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَتَبعهُ بَعضهم على هَذَا الْمَعْنى، وَلَيْسَ الْمَعْنى هَكَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَنهم كلهم كَانُوا على حذر وَخَوف من أَن يخالط إِيمَانهم النِّفَاق، وَمَعَ هَذَا لم يكن مِنْهُم أحد يَقُول: إِن إيمَانه كَإِيمَانِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَن جِبْرِيل مَعْصُوم لَا يطْرَأ عَلَيْهِ الْخَوْف من النِّفَاق، بِخِلَاف هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُم غير معصومين. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عَليّ بن ابى طَالب، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا: من(1/275)
شهد لَا إِلَه الا الله وَإِنِّي رَسُول الله كَانَ مُؤمنا كَإِيمَانِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، قلت: ذكره ابو سعيد النقاش فِي (الموضوعات) . وَقَالَ، ابْن بطال: لما طَالَتْ أعمارهم حَتَّى رَأَوْا مَا لم يقدروا على إِنْكَاره خشيوا على أنفسهم أَن يَكُونُوا فِي حيّز من نَافق أَو داهن، وَيُقَال عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: إِنَّهَا سَأَلت النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} (الْمُؤْمِنُونَ: 60) فَقَالَ: هم الَّذين يصلونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ويفرقون ان لَا يتَقَبَّل مِنْهُم، وَقَالَ بعض السّلف فِي قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون} (الزمر: 47) أَعمال كَانُوا يحتسبونها حَسَنَات بَدَت سيئات، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: وَمَا مِنْهُم إِشَارَة إِلَى مَسْأَلَة زَائِدَة استفادها من أَحْوَالهم أَيْضا، وَهِي: أَنهم كَانُوا قائلين بِزِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه. قلت: لَا يفهم ذَلِك من حَالهم، وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم من حَالهم أَنهم كَانُوا خَائِفين سوء الخاتمة لعدم الْعِصْمَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَبَعض السّلف.
ويُذْكَرُ عَن الَحسَنِ مَا خافَهُ إلاَّ مُؤْمِنٌ وَلَا أمِنَهُ إلاَّ مُنافِقٌ
الْحسن هُوَ: الْبَصْرِيّ، رَحمَه الله، أَي: مَا خَافَ الله تَعَالَى إلاَّ مُؤمن، وَلَا أمِنَ الله تَعَالَى إلاَّ مُنَافِق، وكل وَاحِد من: خَافَ وَأمن، يتَعَدَّى بِنَفسِهِ. قَالَ تَعَالَى: {انما ذَلِكُم الشَّيْطَان يخوف أولياءه فَلَا تخافوهم} (آل عمرَان: 175) وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أمنته على كَذَا وائتمنته بِمَعْنى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} (الرَّحْمَن: 46) وَقَالَ: {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} (الْأَعْرَاف: 99) وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا خافه، أَي: مَا خَافَ من الله تَعَالَى، فَحذف الْجَار، وأوصل الْفِعْل إِلَيْهِ. وَكَذَا فِي: أَمنه، إِذْ مَعْنَاهُ: أَمن مِنْهُ، وأمنه، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْمِيم. قلت: إِذا كَانَ الْفِعْل مُتَعَدِّيا بِنَفسِهِ فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير حرف يُوصل بِهِ الْفِعْل إلاّ فِي مَوضِع يحْتَاج فِيهِ إِلَى تضمين معنى فعل بِمَعْنى فعل آخر، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك، وَقَالَ بَعضهم، عقب كَلَام الْكرْمَانِي بعد نَقله هَذَا الْكَلَام: وَإِن كَانَ صَحِيحا، لكنه خلاف مُرَاد المُصَنّف وَمن نقل عَنهُ؟ قلت: وَأثر الْحسن هَذَا أخرجه الْفرْيَابِيّ عَن قُتَيْبَة، ثَنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان عَن الْمُعَلَّى بن زِيَاد: (سَمِعت الْحسن يحلف فِي هَذَا الْمَسْجِد بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ: مَا مضى مُؤمن قطّ وَلَا بَقِي إلاَّ وَهُوَ من النِّفَاق مُشفق، وَلَا مضى مُنَافِق قطّ وَلَا بَقِي إلاَّ وَهُوَ من النِّفَاق آمن، وَكَانَ يَقُول: من لم يخف النِّفَاق فَهُوَ مُنَافِق) . قَالَ: وَحدثنَا ابو قدامَة عبيد الله بن سعيد، حَدثنَا مُؤَمل بن اسماعيل عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن الْحسن: (وَالله مَا أصبح وَلَا أَمْسَى مُؤمن إلاَّ وَهُوَ يخَاف النِّفَاق على نَفسه) . وَحدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، وَحدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن حبيب بن الشَّهِيد: (أَن الْحسن كَانَ يَقُول: إِن الْقَوْم لما رَأَوْا هَذَا النِّفَاق يَقُول الْإِنْسَان: لم يكن لَهُم هم غير النِّفَاق) . وَحدثنَا هِشَام بن عمار، حَدثنَا أَسد بن مُوسَى عَن أبي الْأَشْهب عَن الْحسن: (لما ذكر أَن النِّفَاق يغول الايمان لم يكن شَيْء أخوف عِنْدهم مِنْهُ) . وَحدثنَا هِشَام، حَدثنَا أَسد بن مُوسَى، حَدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان قَالَ: (سَأَلَ أبان عَن الْحسن. فَقَالَ: نَخَاف النِّفَاق. قَالَ: وَمَا يؤمنني، وَقد خافه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ) . وَحدثنَا شَيبَان قَالَ: حَدثنَا ابْن الاشهب عَن طريف قَالَ: (قلت لِلْحسنِ، رَضِي الله عَنهُ: إِن نَاسا يَزْعمُونَ أَن لَا نفاق، أَو لَا يخَافُونَ، شكّ أَبُو الاشهب. فَقَالَ: وَالله لِأَن أكون أعلم اني بَرِيء من النِّفَاق أحب إِلَيّ من طلاع الأَرْض ذَهَبا) . وَقَالَ احْمَد بن حَنْبَل فِي كتاب الايمان: حَدثنَا روح بن عبَادَة، حَدثنَا هِشَام، سَمِعت الْحسن يَقُول: (وَالله مَا مضى مُؤمن وَلَا بَقِي إلاّ وَهُوَ يخَاف النِّفَاق، وَمَا أَمنه إلاّ مُنَافِق) . فَإِن قلت: هَذِه الْآثَار الثَّلَاثَة صَحِيحَة عِنْد البُخَارِيّ فَلِم ذكر الْأَوَّلين بِلَفْظ: قَالَ، الَّتِي هِيَ صِيغَة الْجَزْم بِالصِّحَّةِ، وَذكر الثَّالِث بِلَفْظ: يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول الَّتِي هِيَ صِيغَة التمريض؟ قلت: لما نقل الأثرين الْأَوَّلين بِمثل مَا نقل عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَابْن أبي مليكَة، من غير تَغْيِير، ذكرهمَا بِصِيغَة الْجَزْم بِالصِّحَّةِ، وَنقل أثر الْحسن بِالْمَعْنَى على وَجه الِاخْتِصَار، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض، وَصِيغَة التمريض لَا تخْتَص عِنْده بِضعْف الْإِسْنَاد وَحده، بل إِذا وَقع التَّغْيِير من حَيْثُ النَّقْل بِالْمَعْنَى، أَو من حَيْثُ الِاخْتِصَار، يذكرهُ بِصِيغَة التمريض، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي مثل هَذَا الْموضع، وَلَيْسَ مثل مَا ذكره الْكرْمَانِي بقوله: قلت: ليشعر بِأَن قَوْلهمَا ثَابت عِنْده صَحِيح الْإِسْنَاد، لَان: قَالَ، هُوَ صِيغَة الْجَزْم، وصريح الحكم بِأَنَّهُ صدر مِنْهُ، وَمثله يُسمى تَعْلِيقا بِصِيغَة التَّصْحِيح، بِخِلَاف: يذكر، فَإِنَّهُ لَا جزم فِيهِ، فَيعلم أَن فِيهِ ضعفا، وَمثله تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض.
وَمَا يُحْذَرُ مِن الإصْرَار على النِّفَاقِ والعِصْيان مِنِ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى {ولَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا(1/276)
وهُمْ يَعْلَمُونَ} .
هَذَا عطف على قَوْله: خوف الْمُؤمن، وَالتَّقْدِير: بَاب خوف الْمُؤمن من أَن يحبط عمله، وَخَوف التحذير من الاصرار على النِّفَاق. وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة، و: يحذر، على صِيغَة الْمَجْهُول بتَخْفِيف الذَّال وتشديدها، وَالْجُمْلَة محلهَا من الْإِعْرَاب الْجَرّ لِأَنَّهَا عطف على الْمَجْرُور كَمَا قُلْنَا، وآثار إبراهم التَّيْمِيّ وَابْن أبي مليكَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ مُعْتَرضَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ. فان قلت: فَلِمَ أوقعهَا مُعْتَرضَة؟ قلت: لِأَنَّهُ عقد الْبَاب على ترجمتين: الأولى: الْخَوْف من حَبط الْعَمَل، وَالثَّانيَِة: الحذر من الْإِصْرَار على النِّفَاق. وَذكر فِيهِ: ثَلَاثَة من الْآثَار، وَآيَة من الْقرَان، وحديثين مرفوعين. وَلما كَانَت الْآثَار الثَّلَاثَة مُتَعَلقَة بالترجمة الأولى ذكرهَا عقيبها، وَالْآيَة وَأحد الْحَدِيثين، وَهُوَ حَدِيث عبد الله، متعلقان بالترجمة الثَّانِيَة ذكرهمَا عقيبها، وَأما الحَدِيث الآخر، وَهُوَ حَدِيث عبَادَة، فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بالترجمة الأولى أَيْضا على مَا نذكرهُ، وَهَذَا فِيهِ صِيغَة اللف والنشر غير مُرَتّب، والترجمة الثَّانِيَة فِي الرَّد على المرجئة لأَنهم قَالُوا: لَا حذر من الْمعاصِي مَعَ حُصُول الْإِيمَان، وَذكر البُخَارِيّ الْآيَة ردا عَلَيْهِم لِأَنَّهَا فِي مدح من اسْتغْفر من ذَنبه، وَلم يصر عَلَيْهِ، فمفهومه ذمّ من لم يفعل ذَلِك، وَكَأَنَّهُ لمح فِي ذَلِك حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَرْفُوعا، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد حسن، قَالَ: (ويل للمصرين الَّذين يصرون على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ) أَي: يعلمُونَ أَن من تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ لَا يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره. وَحَدِيث أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا أخرجه التِّرْمِذِيّ باسناد حسن: (مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد فِي الْيَوْم سبعين مرّة) . وَالْآيَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة آل عمرَان، وَهِي: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب الا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} (آل عمرَان: 135) يفهم من الْآيَة أَنهم: إِذا لم يَسْتَغْفِرُوا، أَي: لم يتوبوا، وأصروا على ذنوبهم يكونُونَ مَحل الحذر وَالْخَوْف. وَقَالَ الواحدي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَة عَطاء: نزلت هَذِه الْآيَة فِي نَبهَان التمار، أَتَتْهُ امْرَأَة حسناء تبْتَاع مِنْهُ تَمرا، فَضمهَا إِلَى نَفسه وَقبلهَا، ثمَّ نَدم على ذَلِك. فَأتى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: (أَن رجلَيْنِ أَنْصَارِيًّا وثقيفياً آخى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بَينهمَا، فَكَانَا لَا يفترقان، قَالَ: فَخرج رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض مغازيه، وَخرج مَعَه الثَّقَفِيّ وَخلف الْأنْصَارِيّ فِي أَهله وَحَاجته، وَكَانَ يتَعَاهَد أهل الثَّقَفِيّ، فَأقبل ذَات يَوْم فأبصر أمراته ضاحية قد اغْتَسَلت، وَهِي نَاشِرَة شعرهَا، فَوَقَعت فِي نَفسه، فَدخل عَلَيْهَا وَلم يسْتَأْذن حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَذهب ليلثمها، فَوضعت كفها على وَجههَا، فَقبل ظَاهر كفها، ثمَّ نَدم واستحى، وَأدبر رَاجعا، فَقَالَت: سُبْحَانَ الله {خُنْت امانتك وعصيت رَبك وَلم تصب حَاجَتك. قَالَ: فندم على صنعه، فَخرج يسيح فِي الْجبَال وَيَتُوب إِلَى الله تَعَالَى من ذَنبه، حَتَّى وافى الثَّقَفِيّ، فَأَخْبَرته امْرَأَته بِفِعْلِهِ، فَخرج يَطْلُبهُ حَتَّى دلّ عَلَيْهِ، فوافقه سَاجِدا لله، عز وَجل، وَهُوَ يَقُول: رب ذَنبي ذَنبي، قد خُنْت أخي. فَقَالَ لَهُ: يَا فلَان} قُم فَانْطَلق إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْأَلْهُ عَن ذَنْبك لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يَجْعَل لَك فرجا وتوبة، فاقبل مَعَه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ ذَات يَوْم عِنْد صَلَاة الْعَصْر نزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بتوبته، فَتَلَاهَا على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله} (آل عمرَان: 135) إِلَى قَوْله: {وَنعم أجر العاملين} (آل عمرَان: 136) فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: أخاص هَذَا لهَذَا الرجل أم للنَّاس عَامَّة فِي التَّوْبَة، قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين.
48 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حدّثناشُعْبَةُ عَن زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلت أَبَا وَائِلٍ عنِ المُرجِئَة فَقَالَ حدّثني عبدُ اللهِ أَن النَّبِىَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سِبَابُ المُسْلِم فسُوُقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ.
قد قُلْنَا آنِفا: إِن حَدِيث عبد الله هَذَا للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وهى قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره، فان قلت: كَيفَ مطابقته على التَّرْجَمَة؟ قلت: لما دلّ الحَدِيث على إبِْطَال قَول المرجئة الْقَائِلين بِعَدَمِ تفسيق مرتكبي الْكَبَائِر، وَعدم جعل السباب فسوقاً، وَعدم مقاتلة الْمُسلم كفراناً لحقه، طابق قَوْله: وَمَا يحذر عَن الْإِصْرَار إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: ابو عبد الله مُحَمَّد بن عرْعرة، بالعينين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالرَّاء المكررة، غير منصرف للعلمية والتأنيث، ابْن البرند، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، وَيُقَال، بفتحهما وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَكَأَنَّهُ(1/277)
فَارسي مُعرب، ابْن النُّعْمَان، الْقرشِي السَّامِي، بِالسِّين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى: سامة بن لؤَي بن غَالب، الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، عَن خمس وَسبعين سنة. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن مُسلما روى لَهُ مَعَه، وَكَذَا أَبُو دَاوُد روى لَهُ، نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمزي، وَاقْتصر صَاحب (الْكَمَال) على أبي دَاوُد. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: زبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم، ابو عبد الرَّحْمَن، وَيُقَال لَهُ: ابو عبد الله اليامي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، جد للقبيلة، بطن من هَمدَان، وَيُقَال: الأيامي أَيْضا، الْكُوفِي روى عَن أبي وَائِل وَجمع من التَّابِعين، وَعنهُ الْأَعْمَش وَغَيره من التَّابِعين، وجلالته مُتَّفق عَلَيْهَا وَكَانَ من الْعباد المتنسكين. قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ زبيد، بالضبط الْمَذْكُور، إلاَّ هَذَا، وَأما زبيد، بِضَم الزَّاي وباليائين بِاثْنَتَيْنِ من تَحت، أبي الصَّلْت فمذكور فِي (الْمُوَطَّأ) وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكِتَابَيْنِ. الرَّابِع: أَبُو وَائِل، بِالْهَمْزَةِ بعد الالف، شَقِيق بن سَلمَة الْأَسدي، أَسد خُزَيْمَة، كُوفِي تَابِعِيّ، أدْرك زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره، وَقَالَ: ادركت سبع سِنِين من سني الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ: كنت قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عشر سِنِين أرعى إبِلا لأهلي، وَسمع عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان وعلياً وَابْن مَسْعُود وَعمَّارًا وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رضوَان الله عَلَيْهِم، وَعنهُ خلق من التَّابِعين وَغَيرهم، واجمعوا على جلالته وصلاحه وورعه وتوثيقه، وَهُوَ من أجلّ اصحاب ابْن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، يثني عَلَيْهِ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ على الْمَحْفُوظ، وَقَالَ ابو سعيد بن صَالح: كَانَ ابو وَائِل يؤم جنائزنا وَهُوَ ابْن مائَة وَخمسين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصُورَة الْجمع وَصُورَة الْإِفْرَاد وَالسُّؤَال والعنعنة. وَمِنْهَا: ان رِجَاله مَا بَين: بَصرِي وواسطي وكوفي. وَمِنْهَا: أَنهم ائمة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه هُنَا عَن مُحَمَّد بن عرْعرة عَن شُعْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة، واخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بكار بن الريان، وَعون بن سَالم، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان: ثَلَاثَتهمْ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: قَالَ زبيد. قلت لأبي وَائِل: أَنْت سمعته من عبد الله؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مَحْمُود بن غيلَان بِهِ، وَعَن عمر بن عَليّ عَن ابْن أبي عدي، وَعَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي دَاوُد، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن جرير بِهِ، مَوْقُوفا.
بَيَان اللُّغَة: قَوْله: (عَن المرجئة) أَي: الْفرْقَة الملقبة بالمرجئة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (سباب الْمُسلم) ، بِكَسْر السِّين وَتَخْفِيف الْبَاء بِمَعْنى: السب، وَهُوَ: الشتم، وَهُوَ التَّكَلُّم فِي عرض الْإِنْسَان بِمَا يعِيبهُ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مصدر، يُقَال: سبّ يسب سبا وسباباً. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصدر سبّ يسب، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم بِمَعْنى السب، كَمَا قُلْنَا، أَو مصدر من بَاب المفاعلة، وَفِي (الْمطَالع) : السباب: المشاتمة، وَهِي من السب، وَهُوَ الْقطع. وَقيل: من السبة، وَهِي حَلقَة الدبر كَأَنَّهَا على القَوْل الأول: قطع المسبوب عَن الْخَيْر وَالْفضل، وعَلى الثَّانِي: كشف الْعَوْرَة وَمَا يَنْبَغِي أَن يسْتَتر. وَفِي (الْعباب) : التَّرْكِيب يدل على الْقطع، ثمَّ اشتق مِنْهُ الشتم، وَقَالَ ابراهيم الْحَرْبِيّ: السباب أَشد من السب، وَهُوَ أَن يَقُول فِي الرجل مَا فِيهِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ. قلت: هَذَا أَيْضا يُصَرح بِأَن السباب لَيْسَ بمصدر، فَافْهَم. قَوْله: (فسوق) مصدر، وَفِي (الْعباب) : الْفسق الْفُجُور، يُقَال: فسق يفسق ويفسق أَيْضا عَن الْأَخْفَش: فسقاً وفسوقاً أَي فجر. وَقَوله تَعَالَى {وانه لفسق} (الْأَنْعَام: 121) أَي: خُرُوج عَن الْحق، يُقَال: فسقت الرّطبَة، إِذا خرجت عَن قشرها، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ففسق عَن أَمر ربه} (الْكَهْف: 50) أَي: خرج عَن طَاعَة ربه، وَقَالَ اللَّيْث: الْفسق التّرْك لأمر الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْميل إِلَى الْمعْصِيَة. وَسميت الْفَأْرَة: فويسقة، لخروجها من جحرها على النَّاس: وَقَالَ ابو عُبَيْدَة: ففسق عَن أَمر ربه، أَي جَازَ عَن طَاعَته، وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم: الفسوق: يكون الشّرك وَيكون الْإِثْم. قَوْله: (وقتاله) أَي: مقاتلته، وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهَا: الْمُخَاصمَة، وَالْعرب تسمي الْمُخَاصمَة: مقاتلة.
بَيَان الاعراب: قَوْله: (ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بِأَن النَّبِي إِلَى ... آخِره، وَقَوله: (قَالَ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: إِن.(1/278)
قَوْله: (سباب الْمُسلم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: (فسوق) خَبره. فان قلت: هَذَا إِضَافَة الى الْفَاعِل اَوْ الْمَفْعُول. قلت: بل إِضَافَة الى الْمَفْعُول، قَوْله: وقتاله، كَذَلِك اضافته إِلَى الْمَفْعُول، وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره: (كفر) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (عَن المرجئة) . مَعْنَاهُ سَأَلت أَبَا وَائِل عَن الطَّائِفَة المرجئة: هَل هم مصيبون فِي مقالتهم مخطئون؟ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو وَائِل فِي جَوَابه لزبيد بن الْحَارِث: حَدثنِي عبد الله أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر) يَعْنِي: أَنهم مخطئون، لأَنهم لَا يجْعَلُونَ سباب الْمُسلم فسوقا، وَلَا قِتَاله كفرا فِي حق الْمُسلم، وَلَا يفسقون مرتكبي الذُّنُوب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِخِلَاف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَدلَّ ذَلِك على كَونهم على خطأ وضلال، وَبِهَذَا التَّقْدِير الَّذِي قدرناه يُطَابق جَوَاب أَبَا وَائِل سُؤال زبيد، وَقَالَ بَعضهم: فِي التَّقْدِير أَي: عَن مقَالَة المرجئة، وَهَذَا لَا يَصح لِأَن على هَذَا التَّقْدِير لَا يُطَابق الْجَواب السُّؤَال. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن زبيد قَالَ: لما ظَهرت المرجئة أتيت أَبَا وَائِل، فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَدلَّ هَذَا أَن سُؤَاله كَانَ عَن معتقدهم، وَأَن ذَلِك كَانَ حِين ظُهُورهمْ. قلت: لَا نسلم هَذِه الدّلَالَة، بل الَّذِي يدل على أَنه وقف على مقالتهم، حَتَّى سَأَلَ أَبَا وَائِل: هَل هِيَ صَحِيحَة أَو بَاطِلَة؟ فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث، وَإِن تضمن الرَّد على المرجئة، لَكِن ظَاهره يُقَوي مَذْهَب الْخَوَارِج الَّذِي يكفرون بِالْمَعَاصِي: قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يرد بقوله: (وقتاله كفر) ، حَقِيقَة الْكفْر الَّتِي هِيَ خُرُوج عَن الْملَّة، بل إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ: الْكفْر، مُبَالغَة فِي التحذير، وَالْإِجْمَاع من أهل السّنة مُنْعَقد على أَن الْمُؤمن لَا يكفر بِالْقِتَالِ، وَلَا يفعل مَعْصِيّة أُخْرَى، وَقَالَ ابْن بطال: لَيْسَ المُرَاد بالْكفْر الْخُرُوج عَن الْملَّة بل كفران حُقُوق الْمُسلمين لِأَن الله تَعَالَى جعلهم أخوة، وَأمر بالإصلاح بَينهم، ونهاهم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التقاطع والمقاتلة، فَأخْبر أَن من فعل ذَلِك فقد كفر حق أَخِيه الْمُسلم، وَيُقَال: أطلق عَلَيْهِ الْكفْر لشبهه بِهِ، لِأَن قتال الْمُسلم من شَأْن الْكَافِر، وَيُقَال: المُرَاد بِهِ الْكفْر اللّغَوِيّ، وَهُوَ السّتْر، لِأَن حق الْمُسلم على الْمُسلم أَن يُعينهُ وينصره ويكف عَنهُ أَذَاهُ، فَلَمَّا قَاتله كَأَنَّهُ كشف عَنهُ هَذَا السّتْر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد أَنه يؤول إِلَى الْكفْر لشؤمه، أَو أَنه كَفعل الْكَفَّارَة وَقَالَ الْخطابِيّ: المُرَاد بِهِ الْكفْر بِاللَّه تَعَالَى، فَإِن ذَلِك فِي حق من فعله مستحلاً بِلَا مُوجب وَلَا تَأْوِيل، أما المؤول فَلَا يكفر وَلَا يفسق بذلك، كالبغاة الخارجين على الإِمَام بالتأويل، وَقَالَ بَعضهم: فِيمَا قَالَه الْكرْمَانِي بعد، وَمَا قَالَه الْخطابِيّ أبعد مِنْهُ. ثمَّ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل التَّفْرِيق بَين السباب والقتال، فَإِن مستحلاً لعن الْمُسلم بِغَيْر تَأْوِيل كفر أَيْضا. قلت: إِذا كَانَ اللَّفْظ مُحْتملا لتأويلات كَثِيرَة، هَل يلْزم مِنْهُ أَن يكون جَمِيعهَا مطابقا للتَّرْجَمَة؟ فَمن ادّعى هَذِه الْمُلَازمَة فَعَلَيهِ الْبَيَان، فَإِذا وَافق أحد التأويلات للتَّرْجَمَة، فَإِنَّهُ يَكْفِي للتطابق. وَقَوله: وَلَو كَانَ مرَادا لم يحصل التَّفْرِيق ... الخ، غير مُسلم لِأَنَّهُ تَخْصِيص الشق الثَّانِي بالتأويل لكَونه مُشكلا بِحَسب الظَّاهِر، والشق الأول لَا يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل لكَون ظَاهره غير مُشكل. فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (لعن الْمُسلم كقتله) ، قلت: التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ، وَوجه التَّشْبِيه هُوَ حُصُول الْأَذَى بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: فِي الْعرض، وَالْآخر: فِي النَّفس. فَإِن قلت: السباب والقتال كِلَاهُمَا على السوَاء فِي أَن فاعلهما يفسق ولايكفر، فلِمَ قَالَ فِي الأول فسوق، وَفِي الثَّانِي كفر؟ قُلْنَا: لِأَن الثَّانِي أغْلظ، أَو لِأَنَّهُ بأخلاق الْكفَّار أشبه.
(أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن حميد عَن أنس قَالَ أَخْبرنِي عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يعْتَبر بليلة الْقدر وفتلاحى رجلَانِ من الْمُسلمين فَقَالَ إِنِّي خرجت لاخبر كم بليلة الْقدر وَإنَّهُ تلاحى فلَان وَفُلَان فَرفعت وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم التمسوها فِي السَّبع وَالْخمس.) هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الأولى وَوجه تطابقه اياها من حَيْثُ أَن فِيهِ ذمّ التلاحى وَأَن صَاحبه نَاقص لِأَنَّهُ يشْتَغل ع كثير من الْخَيْر بِسَبَبِهِ سِيمَا إِذا كَانَ فِي الْمَسْجِد وَعنهُ جهر الصَّوْت بِحَضْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل رُبمَا ينجر إِلَى بطلَان الْعَمَل وَهُوَ لَا يشْعر قَالَ تَعَالَى (وَلَا تجْهر واله بالْقَوْل كحهر بَعْضكُم لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون) وَقَالَ بَعضهم بعد أَن أَخذ هَذَا الْكَلَام من الكرمانى وَمن هُنَا يَتَّضِح مُنَاسبَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ومطابقتها وَقد خفيت على كثير(1/279)
من الْمُتَكَلِّمين على هَذَا الْكتاب قلت أَن هَذَا عَجِيب شَدِيد يَأْخُذ كَلَام النَّاس وينسبه إِلَى نَفسه مُدعيًا أ، غَيره قد خفى عَلَيْهِ ذَلِك على أَن هَذَا الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي فِي وَجه الْمُطَابقَة إِنَّمَا يُقَاد بِالْجَرِّ الثقيل على مَا لَا يخفي على من يتأمله فَإِذا أمعن النَّاظر فِيهِ لَا يجد لذكر هَذَا لحَدِيث هُنَا مُنَاسبَة وَلَا مطابقاً للتَّرْجَمَة (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة قُتَيْبَة بن سعيد وَقد مر ذكره فِي بَاب السَّلَام من السَّلَام. الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ المدنى وَقد مر فِي بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق الثَّالِث حميد بِضَم الْحَاء ابْن أبي حميد وَاسم أبي حميدتين بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْبَصْرِيّ مولى طَلْحَة الطلحات وَهُوَ مَشْهُور بحميد الطَّوِيل قيل كَانَ قَصِيرا طَوِيل الْيَدَيْنِ فَقيل لَهُ ذَلِك وَكَانَ يقف عِنْد الْمَيِّت فتصل أحدى يَدَيْهِ إِلَى رأٍ سه والاخرى إِلَى رجلَيْهِ وَقَالَ الْأَصْمَعِي رَأَيْته وَلم يكن بذلك الطَّوِيل بل كَانَ فِي مر ذكره الْخَامِس عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ وَقد مر ذكره فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والاخبار وبالافراد والعنعنة وَلَكِن فِي رِوَايَة الاصيلي حَدثنَا أنس فعلى رِوَايَته أَمن من تَدْلِيس حميد وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بيين بلخي ومدني وَبصرى (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره) أخرجه أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن خَالِد بن الْحَارِث وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد عَن بشر بن الْمفضل بن مُغفل ثَلَاثَتهمْ عَن حميد الطَّوِيل عَنهُ بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاعْتِكَاف عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ وَعَن على بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ وَعَن عمر أَن بن مُوسَى عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن حميد بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله " فتلاحى " بِفَتْح الْحَاء من التلاحى بِكَسْر الْحَاء وَهُوَ التَّنَازُع قَالَ الْجَوْهَرِي تلاحوا إِذا تنازعوا وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الملاحاة الْخُصُومَة والسباب وَالِاسْم اللحاء بِكَسْر الْحَاء وَهُوَ التَّنَازُع قَالَ الْجَوْهَرِي تلاحوا إِذا تنازعوا وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين الملاحاة الْخُصُومَة والسباب وَالِاسْم اللحاء بِكَسْر اللَّام ممدودا قلت الَّذِي ذكره من بَاب المفاعلة وَالَّذِي فِي الحَدِيث من بَاب التفاعل لَان تلاحي اصله تلاحى بِفَتْح الْيَاء على وزن تفَاعل قلبت الْيَاء الْفَا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا والمصدر تلاح أَصله تلاحي فأعل اعلال قَاض فان قلت قد علم أَن بَاب التفاعل لمشاركة الْجَمَاعَة نَحْو تخاصم الْقَوْم وَبَاب المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ نَحْو قَاتل زيد وَعَمْرو وَكَانَ الْقيَاس هُنَا أَن يذكر من بَاب النلاحاة لِأَنَّهَا كَانَت بَين رجلَيْنِ. قلت التَّحْقِيق فِي هَذَا الْبَاب أَن وضع فَاعل لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل مُتَعَلقا بِغَيْرِهِ مَعَ أَن الْغَيْر فعل مثل ذَلِك وَوضع تفَاعل لنسبته إِلَى المشتركين فِيهِ من غير قصد إِلَى تعلق لَهُ فَلذَلِك جَاءَ الأول زَائِدا على الثَّانِي بمفعول ابدا فَأن كَانَ تفَاعل من فَاعل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول كضارب لم يَتَعَدَّ وَإِن كَانَ من الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعولين كجاذبته الثَّوْب يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد وَقد يفرق بَينهمَا من حَيْثُ الْمَعْنى فان البادىء فِيهِ غير مَعْلُوم دون تفَاعل وجاه تلاحى هَهُنَا من لاحيته لم يَتَعَدَّ إِلَى مفعول فَافْهَم فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق قَوْله " التمسوها " من الالتماس وَهُوَ الطّلب (بَيَان الْأَعْرَاب) قَوْله " خرج " أَي من الْحُجْرَة جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن قَوْله " يخبر " جملَة مستأنفة وَالْأولَى أَن تكون حَالا وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتا لَا يجوز فِيهِ الْوَاو قان قلت الْخُرُوج لم يكن فِي حَال الْأَخْبَار قلت هَذِه تسمى حَالا مقدرَة أَي خرج مُقَدّر الْأَخْبَار وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى " فادخلوها خَالِدين " أَي مقدرين الخلود وَلَا شكّ أَن الْخُرُوج حَالَة تَقْدِير الْأَخْبَار كالدخول حَالَة تَقْدِير الخلود قَوْله " فتلاحى " فعل ورجلان فَاعله وَكلمَة من بَيَانِيَّة مَعَ مَا فِيهَا من معنى التبغيض قَوْله " أَنِّي خرجت " مقول القَوْل قَوْله " لاخبركم " بِنصب الراءبان الْمقدرَة بعد لَام التَّعْلِيل إِذْ أَصله لِأَن أخْبركُم وَاخْبَرْ يَقْتَضِي ثَلَاثَة مفاعيل الأول كَاف الْخطاب وَقَوله بليلة الْقدر سد مسد الْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث لن التَّقْدِير أخبركمك بِأَن لَيْلَة الْقدر هِيَ اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة وَلَا يجوز أَن يكون بليلة الْقدر سد مسد الْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث لَان التَّقْدِير أخْبركُم بِأَن لَيْلَة الْقدر هِيَ اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة وَلَا يجوز أَن يكون بليلة الْقدر الْمَفْعُول الثَّانِي وَيكون الثَّالِث محذوفاً لِأَن الْمَفْعُول الأول فِي هَذَا الْبَاب كمفعول اعطيت وَالْمَفْعُول الثَّانِي وَالثَّالِث كمفعول علمت بِمَعْنى إِذا ذكر أَحدهمَا يجب ذكر الآخر لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنى كالمبتدأ وَالْخَبَر فَلَا بُد من ذكر أَحدهمَا إِذا ذكر الآخر قَوْله " وَأَنه "(1/280)
بِكَسْر الْهمزَة عطف على قَوْله إِنِّي وَالضَّمِير فِيهِ للشان وَقَوله " تلاحى فلَان " جملَة فِي مَحل الرّفْع على انه خبر أَن قَوْله " فَرفعت " عطف على تلاحى وَالْفَاء تصلح للسَّبَبِيَّة قَوْله " وَعَسَى أَن يكون " قد علم أَن فَاعل عَسى على نَوْعَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون اسْما نَحْو عَسى زَيْدَانَ يخرج فزيد مَرْفُوع بالفاعلية وَأَن يخرج فِي مَوضِع نصب لانه بِمَنْزِلَة قَارب زيد الْخُرُوج وَالثَّانِي أَن تكون أَن مَعَ جُمْلَتهَا فِي مَوضِع الرّفْع نَحْو عَسى أَن يخرج زيد فَتكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة قرب أَن يخرج أَي خُرُوجه إِلَّا أَن الْمصدر لم يسْتَعْمل وَقَوله عَسى أَن يكون من قبيل الثَّانِي وَالضَّمِير فِي يكون يرجع إِلَى الرّفْع الدَّال عَلَيْهِ قَوْله فَرفعت وَقَوله خير لنصب بِأَنَّهُ خبر يكون (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " فتلاحى رجلَانِ " هما عبد الله بن أبي حَدْرَد بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره دَال اخرى وَكَعب بن مَالك كَانَ على عبد الله دين لكعب يَطْلُبهُ فتنازعا فِيهِ ورفعا صوتيهما فِي الْمَسْجِد قَوْله " فَرفعت " قَالَ النَّوَوِيّ أَي رفع بَيَانهَا أَو علمهَا والافهى بَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ وشذ قوم فَقَالُوا رفعت لَيْلَة الْقدر وَهَذَا غلط لِأَن آخر الحَدِيث يرد عَلَيْهِم فَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " التمسوها " وَلَو كَانَ المُرَاد رفع وجودهَا لم يَأْمُرهُم بالتماسها لَا يُقَال كَيفَ يُؤمر بِطَلَب مَا رفع علمه لانا نقُول المُرَاد طلب التَّعَبُّد فِي مظانها وَرُبمَا يَقع الْعَمَل مصادفاً لَهَا أَنه مَأْمُور بِطَلَب الْعلم بِعَينهَا والاوجه أَن يُقَال رفعت من قلبِي بِمَعْنى نسيتهَا يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي سعيد " فجَاء رجلَانِ يحتقنان " بتَشْديد الْقَاف أَي يدعى كل مِنْهُمَا أَنه المحق " مَعَهُمَا الشَّيْطَان فنسيتها " وَيعلم من حَدِيث عبَادَة ان سَبَب الرّفْع التلاحى وَمن حَدِيث أبي سعيد هُوَ النسْيَان وَيحْتَمل أَن يكون السَّبَب هُوَ الْمَجْمُوع وَلَا مَانع مِنْهُ قَوْله " وَعَسَى أَن يكون خير لكم " لتزيدوا فِي الِاجْتِهَاد وتقوموا فِي اللَّيَالِي لطلبها فَيكون زِيَادَة فِي ثوابكم وَلَو كَانَت مُعينَة لاقتنعتم بِتِلْكَ اللَّيْلَة فَقل عَمَلكُمْ قَوْله " التمسوها فِي السَّبع " أَي لَيْلَة السَّبع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَالتسع وَالْعِشْرين مِنْهُ وَالْخمس وَالْعِشْرين مِنْهُ وَهَكَذَا وَقع فِي مستخرج ابي نعيم فان قلت من أَيْن اسْتُفِيدَ التَّقْيِيد بالعشرين وبرمضان قلت من الْأَحَادِيث الآخر الدَّالَّة عَلَيْهِمَا وَقد مر فِي بَاب قيام لَيْلَة الْقدر الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِيهَا بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول فِيهِ ذمّ الملاحاة وَنقص صَاحبهَا الثَّانِي أَن الملاحاة والمخاصمة سَبَب الْعقُوبَة للعامة بذنب الْخَاصَّة فَإِن الْأمة حرمت اعلام هَذِه اللَّيْلَة بِسَبَب التلاحى بِحَضْرَتِهِ الشَّرِيفَة لَكِن فِي قَوْله " وَعَسَى أَن يكون خيرا " بعض التأنيس لَهُم وَقَالَ النَّوَوِيّ ادخل البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب لِأَن رفع لَيْلَة الْقدر كَانَ بِسَبَب تلاحيهما ورفعهما الصَّوْت بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ مذمة الملاحاة ونقصان صَاحبهَا وَقَالَ الْكرْمَانِي فَأن قلت إِذا جَازَ أَن يكون الرّفْع خيرا فلامذمة فِيهِ وَلَا شَرّ وَلَا حَبط عمل قلت أَن أُرِيد بِالْخَيرِ اسْم التَّفْصِيل فَمَعْنَاه أَن الرّفْع عَسى أَن يكون خيرا من عدم الرّفْع خير فلامذمة فِيهِ وَلَا شَرّ وَلَا حَبط عمل قلت أَن أُرِيد بِالْخَيرِ اسْم التَّفْضِيل فَمَعْنَاه أَن الرّفْع عَسى أَن يكون خيرا وَأَن عدم الرّفْع أَزِيد خيرا وَأولى مِنْهُ ثمَّ أَن خيرية ذَاك كَانَت مُحَققَة وخيرية هَذَا مرجوة لِأَن مفَاد عَسى هُوَ الرَّجَاء لَا غير. الثَّالِث فِيهِ الْحَث على طلب لَيْلَة الْقدر. الرَّابِع قَالَ القَاضِي عِيَاض فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُخَاصمَة مذمومة وَأَنَّهَا مثل الْعقُوبَة المعنوية وَقَالَ بَعضهم فان قيل كَيفَ تكون الْمُخَاصمَة فِي طلب الْحق مذمومة قُلْنَا إِنَّمَا كَانَت كَذَلِك لوقوعها فِي الْمَسْجِد وَهُوَ مَحل الذّكر لَا اللَّغْو سِيمَا فِي الْوَقْت الْمَخْصُوص أَيْضا بِالذكر وَهُوَ شهر رَمَضَان قلت طلب الْحق غير مَذْمُوم لَا فِي الْمَسْجِد وَلَا فيا لوقت الْمَخْصُوص وَإِنَّمَا المذمة فِيهَا لَيست رَاجِعَة إِلَى مُجَرّد الْخُصُومَة فِي الْحق وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَة إِلَى زِيَادَة مُنَازعَة حصلت بَينهمَا عَن الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ وَتلك الزِّيَادَة هِيَ اللَّغْو وَالْمَسْجِد لَيْسَ بِمحل اللَّغْو مَعَ مَا كَانَ فِيهَا من رفع الصَّوْت بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْهَم.
37 - ( {بَاب سُؤال جِبْريلَ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الإيمانِ والإسْلامِ والإحْسانِ وعِلْمِ السَّاعةِ} )
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام الخ. وَالْبَاب مُضَاف إِلَى السُّؤَال، وَالسُّؤَال(1/281)
إِلَى جِبْرِيل إِضَافَة الْمصدر إِلَى فَاعله، وَجِبْرِيل لَا ينْصَرف للعلمية والعجمة، وَقد تكلمنا فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي أَوَائِل الْكتاب. وَقَوله: (النَّبِي) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول الْمصدر، وَقَوله: (عَن الْإِيمَان) يتَعَلَّق بالسؤال. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْمُؤمن الَّذِي يخَاف أَن يحبط عمله وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر بِمَاذَا يكون الرجل مُؤمنا، وَمن الْمُؤمن فِي الشَّرِيعَة. الثَّالِث: قَوْله (وَعلم السَّاعَة) عطف على قَوْله: الْإِيمَان، أَي: علم الْقِيَامَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: سميت سَاعَة لوقوعها بَغْتَة، أَو لسرعة حِسَابهَا، أَو على الْعَكْس لطولها. فَهُوَ تمليح، كَمَا يُقَال فِي الْأسود كافورا، وَلِأَنَّهَا عِنْد الله تَعَالَى على طولهَا كساعة من السَّاعَات عِنْد الْخلق. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: وَوقت السَّاعَة، لِأَن السُّؤَال عَن وَقتهَا حَيْثُ قَالَ، مَتى السَّاعَة؟ وَكلمَة مَتى، للْوَقْت، وَلَيْسَ السُّؤَال عَن علمهَا. قلت: فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَعلم وَقت السَّاعَة، بِقَرِينَة ذكر: مَتى، وَالْعلم لَازم السُّؤَال، إِذْ مَعْنَاهُ: أتعلم وَقت السَّاعَة؟ فَأَخْبرنِي، فَهُوَ مُتَضَمّن للسؤال عَن علم وَقتهَا.
وبيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ثمَّ قَالَ جاءَ جِبْرِيلُ عليهِ السلامُ يُعَلِّمُكمْ دِينَكُمْ فَجَعلَ ذلِكَ كُلَّهُ دِينا. وَمَا بَيَّنَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنَ الإيمانِ. وقَوْلِهِ تَعَالَى {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ} (آل عمرَان: 85) .
و: بَيَان، مجرور لِأَنَّهُ عطف على قَوْله: سُؤال، قَوْله: (لَهُ) أَي: لجبريل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد أعَاد الْكرْمَانِي الضَّمِير إِلَى الْمَذْكُور من قَوْله: (عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام والاحسان وَعلم السَّاعَة) ، وَهَذَا وهم مِنْهُ، ثمَّ تكلّف بِجَوَاب عَن سُؤال بناه على مَا زَعمه ذَلِك، فَقَالَ: فَإِن قلت: لم يبين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت السَّاعَة، فَكيف قَالَ: وَبَيَان النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لَهُ لِأَن الضَّمِير إِمَّا رَاجع إِلَى الْأَخير أَو إِلَى مَجْمُوع الْمَذْكُور؟ قلت: إِمَّا أَنه أطلق وَأَرَادَ أَكْثَره، إِذْ حكم مُعظم الشَّيْء حكم كُله، أَو جعل الحكم فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يُعلمهُ إلاَّ الله بَيَانا لَهُ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى كَيْفيَّة استدلاله من سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَجَوَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه على جعل كل ذَلِك دينا، فَلذَلِك قَالَ: ثمَّ قَالَ، بِالْجُمْلَةِ الفعلية عطفا على الْجُمْلَة الاسمية، لِأَن الأسلوب يتَغَيَّر بِتَغَيُّر الْمَقْصُود، لِأَن مَقْصُوده من الْكَلَام الأول هُوَ التَّرْجَمَة، وَمن هَذَا الْكَلَام كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال، فلتغاير المقصودين تغاير الأسلوبان، وَفِي عطف الفعلية على الاسمية وعكسها خلاف بَين النُّحَاة. قَوْله: (فَجعل) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي. فَإِن قلت: علم وَقت السَّاعَة لَيْسَ من الْإِيمَان، فَكيف قَالَ كُله، قلت: الِاعْتِقَاد بوجودها، وبعدم الْعلم بوقتها لغير الله تَعَالَى من الدّين أَيْضا أَو أعْطى للْأَكْثَر حكم الْكل مجَازًا، فِيهِ نظر لِأَن لَفظه: كل، يدْفع الْمجَاز. قَوْله: (وَمَا بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة الْوَاو هُنَا بِمَعْنى المصاحبة، وَالْمعْنَى: جعل النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، سُؤال جِبْرِيل، وَجَوَاب النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، كُله دينا مَعَ مَا بيَّن لوفد عبد الْقَيْس من الْإِيمَان، وَبَينه فِي قصتهم بِمَا فسر بِهِ الاسلام هَهُنَا، وَأَرَادَ بِهَذَا الْإِشْعَار بِأَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَاحِد، على مَا هُوَ مذْهبه وَمذهب جمَاعَة من الْمُحدثين، وَقد نقل أَبُو عوَانَة الاسفرائني فِي (صَحِيحه) عَن الْمُزنِيّ صَاحب الشَّافِعِي، رَحمَه الله، الْجَزْم بِأَنَّهُمَا وَاحِد، وَأَنه سمع ذَلِك مِنْهُ. وَعَن الإِمَام أَحْمد الْجَزْم بتغايرهما، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان. وَكلمَة مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: مَعَ بَيَان النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لوفد عبد الْقَيْس. قَوْله: وَقَوله {وَمن يبتغ غير الاسلام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} (آل عمرَان: 85) عطف على قَوْله: (وَمَا بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام) ، وَالتَّقْدِير: وَمَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن يبتغ} (آل عمرَان: 85) أَي مَعَ مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة أَن الْإِسْلَام هُوَ الدّين، أَي: وَمن يطْلب غير الْإِسْلَام دينا، والابتغاء: الطّلب.
(حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا أَبُو حَيَّان التَّيْمِيّ عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارزاً يَوْمًا للنَّاس فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ مَا الْإِيمَان قَالَ الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله وتؤمن بِالْبَعْثِ قَالَ الْإِسْلَام قَالَ الْإِسْلَام أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ وتقيم الصَّلَاة وَتُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وتصوم رَمَضَان قَالَ مَا الْإِحْسَان(1/282)
قَالَ أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك قَالَ مَتى السَّاعَة قَالَ مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل وسأخبرك عَن أشراطها إِذا ولدت الْأمة رَبهَا وَإِذا تطاول رُعَاة الْإِبِل البهم فِي الْبُنيان فِي خمس لَا يعلمهُنَّ إِلَّا الله ثمَّ تَلا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله عِنْده علم السَّاعَة الْآيَة ثمَّ أدبر فَقَالَ ردُّوهُ فَلم يرَوا شَيْئا فَقَالَ هَذَا جِبْرِيل جَاءَ يعلم النَّاس دينهم) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول مُسَدّد بن مسرهد وَقد مر ذكر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يحب لِأَخِيهِ الثَّانِي اسمعيل بن إِبْرَاهِيم بن سهم بن مقسم أَبُو بشر مولى بني اسد بن خُزَيْمَة الْمَشْهُور بِابْن عَلَيْهِ بِضَم الْعين وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء وَكَانَت امْرَأَة عَاقِلَة نبيلة وَكَانَ صَالح الْمزي ووجوه أهل الْبَصْرَة وفقهاؤها يدْخلُونَ عَلَيْهَا فَتبرز لَهُم وتحادثهم وتسأئلهم وَقد مر ذكره فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان الثَّالِث أَبُو حبَان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف واسْمه يحيى بن حَيَّان الْكُوفِي فِي التَّيْمِيّ قَالَ أَحْمد بن عبد الله هُوَ ثِقَة صَالح بر صَاحب سنة مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة ونسبته إِلَى تيم الربَاب وحيان أما مُشْتَقّ من الْحَيَاة فَلَا ينْصَرف أَو من الْحِين فَيَنْصَرِف الرَّابِع أَبُو زرْعَة هرم بن عَمْرو بن جرير البجلى تقدم ذكره فِي بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة (بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن التحديث والعنعة. وَمِنْهَا أَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم قد ذكره البُخَارِيّ فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان بنسبته إِلَى أمه حَيْثُ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابْن علية عَن عبد الْعَزِيز وَذكره هَهُنَا باسم أَبِيه وَهَذَا دَلِيل على كال ضبط البُخَارِيّ وأمانته حَيْثُ نقل لفظ الشُّيُوخ بِعَيْنِه فأداه كَمَا سَمعه وَمِنْهَا أَن فِيهِ أَبَا حَيَّان وَهُوَ غير تَابِعِيّ وَقد روى عَنهُ تابعيان كَبِير أَن أَيُّوب وَالْأَعْمَش (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه هَهُنَا عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير كِلَاهُمَا عَن ابي حَيَّان وَفِي الزَّكَاة مُخْتَصرا عَن عبد الرَّحِيم عَن عقيل عَن زُهَيْر عَن أبي حَيَّان أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن مُحَمَّد بن بشر عَن ابي حَيَّان وَعَن زُهَيْر عَن جرير عَن عمَارَة كِلَاهُمَا عَن أبي زرْعَة وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة بِتَمَامِهِ وَفِي الْفِتَن بِبَعْضِه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان عَن جرير عَن أبي فَرْوَة الهمذاني عَن أبي زرْعَة عَن أبي ذَر وَأبي هُرَيْرَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن قدامَة عَن جريرية وَفِي الْعلم عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن جرير مُخْتَصرا من غير ذكر سُؤال السَّائِل وَقد أخرجه مُسلم من حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف فِيهِ على بعض رُوَاته فمشهوره رِوَايَة كهمس بن الْحسن عَن عبد الله عَن بُرَيْدَة يحيى ابْن يعمر بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي السّنة عَن عبيد الله بن معَاذ بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن يحيى ابْن سعيد بِهِ وَعَن مَحْمُود بن خَالِد عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن يحيى بن يعمر بهَا الحَدِيث يزِيد وَينْقص. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن ابي عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن يحيى بن يعمر بِهَذَا الحَدِيث يزِيد وَينْقص. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن أبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث الْخُزَاعِيّ عَن وَكِيع بِهِ. وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن معَاذ بن معَاذ بِهِ وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك عَن كهمس بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ قلت رَوَاهُ عَن كهمس جمَاعَة من الْحفاظ وَتَابعه مطر الْوراق عَن عبيد الله بن بُرَيْدَة وأخرجهما أَبُو عوانه فِي صَحِيحه وَسليمَان التَّيْمِيّ عَن يحيى بن يعمر أخرجهُمَا ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَان بن عُثْمَان وَعبد الله بن بُرَيْدَة لكنه قَالَ يحيى بن يعمر وَحميد بن عبد الرَّحْمَن مَعًا عَن ابْن عمر عَن عمر رَضِي الله عَنهُ وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده وَقد خالفهم سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة أَخُو عبد الله فَرَوَاهُ عَن يحيى بن يعمر عَن عبد الله بن عمر قَالَ بَيْنَمَا " نَحن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَجعله من مُسْند ابْن عمر لامن رِوَايَته عَن أَبِيه وأخره أَحْمد أَيْضا وَكَذَا أَبُو نعيم فِي الْحِلْية من طَرِيق عَطاء الْخُرَاسَانِي(1/283)
عَن يحيى بن يعمر وذكا روى من طَرِيق عكطاء بن أبي رَبَاح عَن عبد الله بن عمر أخرجهُمَا الطَّبَرَانِيّ وَفِي الْبَاب عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أخرجه الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ حسن وَعَن جرير البَجلِيّ أخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه وَعَن ابْن عَبَّاس وَأبي عَامر الْأَشْعَرِيّ أخرجهُمَا أَحْمد بِإِسْنَادِهِ حسن (بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ) قَوْله " كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارزا يَوْمًا للنَّاس " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أبي فَرْوَة " كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجلس بَين أَصْحَابه فَيَجِيء الْغَرِيب فَلَا يدْرِي أَيهمْ هُوَ حَتَّى يسْأَل فطلبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نجْعَل لَهُ مَجْلِسا يعرفهُ الْغَرِيب إِذا أَتَاهُ قَالَ فبنينا لَهُ دكانا من طين يجلس عَلَيْهِ وَكُنَّا نجلس بجنبته " واستنبط مِنْهُ الْقُرْطُبِيّ اسْتِحْبَاب جُلُوس الْعَالم بمَكَان يخْتَص بِهِ وَيكون مرتفعاً إِذا احْتَاجَ لذَلِك لضَرُورَة تَعْلِيم وَنَحْوه قَوْله " فاتاه رجل " وَفِي التَّفْسِير للْبُخَارِيّ " إِذْ أَتَاهُ رجل يمشي " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أبي فَرْوَة " فأناا الْجُلُوس عِنْده إِذا قبل رجل أحسن النَّاس وَجها وَأطيب النَّاس ريحًا كَأَن ثِيَابه يَمَسهَا دنس " وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق كهمس من حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " بَيْنَمَا نَحن ذَات يَوْم عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ طلع علينا رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَواد الشّعْر " وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان " شَدِيد سَواد اللِّحْيَة لَا يرى عَلَيْهِ أثر السّفر وَلَا يعرفهُ منا أحد حَتَّى جلس إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسْندَ رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ " ولسليمان التَّيْمِيّ " لَيْسَ عَلَيْهِ سحناء وَلَيْسَ من الْبَلَد فتخطى حَتَّى برك بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا يجلس أَحَدنَا فِي الصَّلَاة ثمَّ وضع يَده على ركبتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " قلت السحناء بِفَتْح السِّين والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالنُّون وَهِي الْهَيْئَة وَكَذَلِكَ السحنة بِالتَّحْرِيكِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة لم اسْمَع أحدا يَقُولهَا أعنى السحناء بِالتَّحْرِيكِ غير الْفراء قَوْله " فَقَالَ مَا الْإِيمَان " وَزَاد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير " فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا الْإِيمَان " قَوْله " أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله " وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ واتفقت الروَاة على ذكرهَا فِي التَّفْسِير قَوْله " وبلقائه " كَذَا وَقعت هُنَا بَين الْكتب وَالرسل وَكَذَا الْمُسلم من الطَّرِيقَيْنِ وَلم يَقع فِي بَقِيَّة الرِّوَايَات وَوَقع فِي حَدِيثي أنس وَابْن عَبَّاس " وبالموت وبالبعث بعد الْمَوْت " قَوْله " وَرُسُله " وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ " وبرسوله " وَوَقع فِي حَدِيث أنس وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم " وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبين " وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَن أبي ذَر وَعَن أبي هُرَيْرَة قَوْله " تؤمن بِالْبَعْثِ " زَاد البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير " وبالبعث الآخر " وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " وَالْيَوْم الآخر " وَزَاد الاسماعيلي فِي مستخرجه هُنَا " وتؤمن بِالْقدرِ " وَهِي رِوَايَة أبي فَرْوَة أَيْضا. وَفِي رِوَايَة كهمس وَسليمَان التيمى " وتؤمن بِالْقدرِ " وَهِي رِوَايَة أبي فَرْوَة أَيْضا. وَفِي رِوَايَة كهمس وَسليمَان التَّيْمِيّ " وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره " وَكَذَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَكَذَا الْمُسلم فِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع واكده بقوله فِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عمر بِزِيَادَة " حلوه ومره فِي الله " قَوْله " وتصوم رَمَضَان " وَفِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا وَكَذَا فِي حَدِيث أنس فِي رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي لم يذكر الصَّوْم فِي حَدِيث أبي عَامر ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَحسب وَلم يذكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس غير الشَّهَادَتَيْنِ وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ ذكر الْجَمِيع وَزَاد بعد قَوْله " وتحج الْبَيْت وتعتمر وتغتسل من الْجَنَابَة وتتم الْوضُوء " وَفِي رِوَايَة مطر الْوراق " وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة " وَفِي رِوَايَة مُسلم " وتقيم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة " قَوْله " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ " وَفِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع أَن تخشى الله كَأَنَّك ترَاهُ وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " فَإِن لم تره فَإِنَّهُ يراك " قَوْله " مَا المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل " وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " فَنَكس فَلم يجبهُ ثمَّ أعَاد فَلم يجبهُ شَيْئا ثمَّ رفع رَأسه قَالَ مَا المسؤول " قَوْله " سأخبرك " وَفِي التَّفْسِير " سأحدثك " قَوْله " عَن أشراطها " وَفِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " قَالَ فَأَخْبرنِي عَن اماراتها " وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " وَلَكِن لَهَا عَلَامَات تعرف بهَا " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " وَلَكِن ان شِئْت عَن أشراطها قَالَ أجل " وَنَحْوه فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَزَاد " فَحَدثني " قَوْله " إِذا ولدت الْأمة رَبهَا " وَفِي التَّفْسِير " ربتها " بتاء التَّأْنِيث وَكَذَا فِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ وَفِي رِوَايَة عُثْمَان بت غياث " إِذا ولدت الأماء اربابهن " بِلَفْظ الْجمع قَوْله " رُعَاة الْإِبِل إِلَيْهِم " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي رِوَايَة الإصيلي بِفَتْحِهَا وَفِي رِوَايَة " الصم والبكم " قَوْله " فِي خمس " وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " سُبْحَانَ الله خمس " وَفِي رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي قَالَ " فَمَتَى السَّاعَة قَالَ فِي خمس من الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا الله " قَوْله " وَالْآيَة "(1/284)
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " وتلا الْآيَة إِلَى آخر السُّورَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم " إِلَى قَوْله خَبِير " وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي فَرْوَة وَوَقع البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير " إِلَى الارحام " قَوْله " فَقَالَ ردُّوهُ " وَزَاد فِي التَّفْسِير " فَأخذُوا ليردوه فَلم يرَوا شَيْئا " قَوْله " جَاءَ يعلم " وَفِي التَّفْسِير " ليعلم " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَرَادَ أَن تعلمُوا إِذْ لم تسألوا " وَمثله لعمارة وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة " وَالَّذِي بعث مُحَمَّد بِالْحَقِّ مَا كنت بِأَعْلَم بِهِ من رجل مِنْكُم وَإنَّهُ لجبريل " وَفِي حَدِيث أبي عَامر " ثمَّ ولي فَلم نر طَريقَة قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام " سُبْحَانَ الله هَذَا جِبْرِيل جَاءَ ليعلم النَّاس دينهم وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ مَا جَاءَ فِي قطّ إِلَّا وَأَنا أعرفهُ إِلَّا أَن تكون هَذِه الْمرة " وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ نَهَضَ فولى فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بِالرجلِ فطلبناه كل مطلبة فَلم يقدر عَلَيْهِ فَقَالَ هَل تَدْرُونَ من هَذَا هَذَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاكُم ليعلمكم دينكُمْ خُذُوا عَنهُ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ مَا اشْتبهَ على مُنْذُ اتاني قبل مرتى هَذِه وَمَا عَرفته حَتَّى ولى " وَفِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ " قَالَ ثمَّ انْطلق فَلبث مَلِيًّا ثمَّ قَالَ يَا عمر أَتَدْرُونَ من السَّائِل قلت الله وَرَسُوله اعْلَم قَالَ فَإِنَّهُ جِبْرِيل أَتَاكُم ليعلمكم دينكُمْ " هَذَا لفظ مُسلم وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ " فلقيني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ثَلَاث فَقَالَ يَا عمر هَل تَدْرِي من السَّائِل " الحَدِيث وَأخرجه أَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ وَفِيه " فَلبث ثَلَاثًا " وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة " فلبثا ليَالِي فلقيني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ثَلَاث " وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان " بعد ثَالِثَة " وَفِي رِوَايَة ابْن مندة " بعد ثَلَاثَة أَيَّام " (بَيَان اللُّغَات) قَوْله كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارزا يَوْمًا للنَّاس " أَي ظَاهر الْهم وجالسا مَعَهم غير محتجب والبروز الظُّهُور وَقَالَ ابْن سَيّده برزيبر زبروزا خرج إِلَى الْبَزَّار وَهُوَ الفضاء وبرزه إِلَيْهِ وابرزه وَكلما ظهر بعد خَفَاء فقد برز قَالَ تَعَالَى (وَترى الأَرْض بارزة) قَالَ الْهَرَوِيّ أَي ظَاهره لَيْسَ فِيهَا مستظل وَلَا متفيأ وَفِي الافعال لِابْنِ ظريف برز الشَّيْء برزا ذكره عَنهُ صَاحب الواعي قَوْله " فَأَتَاهُ رجل " أَي ملك فِي صُورَة رجل قَوْله " وَمَلَائِكَته " جمع ملك واصلة ملاك مفعل من الالوكة بِمَعْنى الرسَالَة وزيدت لاتاءفية لتأكيد معنى الْجمع أَو التَّأْنِيث الْجمع وهم اجسام علوِيَّة نورنية مشكلة بِمَا شَاءَت من الاشكال قَوْله " وبلقائه " قَالَ الْخطابِيّ ي بِرُؤْيَة ربه تَعَالَى فِي الْآخِرَة قَوْله " وَرُسُله " جمع رَسُول قَالَ الْكرْمَانِي الرَّسُول هُوَ النَّبِي الَّذِي انْزِلْ عَلَيْهِ الْكتاب وَالنَّبِيّ اعم مِنْهُ قلت هَذَا التَّعْرِيف غير صَحِيح لِأَنَّهُ غير جَامع لِأَن كثير من الانبياء عَلَيْهِم السَّلَام لم ينزل عَلَيْهِم كتب وهم ورسل مثل سُلَيْمَان وَأَيوب وَلُوط وَيُونُس وزَكَرِيا ويحي وَنَحْوهم والتعريف الصَّحِيح أَن يُقَال الرَّسُول من انْزِلْ عَلَيْهِ كتاب أَو أنزل عَلَيْهِ ملك وَالنَّبِيّ بِخِلَافِهِ فَكل رَسُول نَبِي وَلَا عكس قَوْله " بِالْبَعْثِ " وَهُوَ بعث الْمَوْتَى من الْقُبُور وَيُقَال المُرَاد مِنْهُ بعثة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَالْأول اظهر قَوْله " أَن تعبدوا الله " من الْعِبَادَة وَهِي الطَّاعَة مَعَ خضوع وتذلل قَالَ الْهَرَوِيّ يُقَال طَرِيق معبد إِذا كَانَ مذللا للسالكين وكل من دَان للْملك فَهُوَ عَابِد لَهُ. وَفِي الْمُحكم عبد الله يعبده عبَادَة ومعبدة ومعبدة تأله لَهُ وَفِي الصِّحَاح التَّعَبُّد التنسك قَوْله " مَا الاحسان " مصدر أحسن من حسن من الْحسن وَهُوَ ضد الْقبْح وَيَأْتِي عَن قريب مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ قَوْله " عَن اشارطها " بِفَتْح الْهمزَة جمع شَرط بِالتَّحْرِيكِ يعْنى علاماتها وَقيل مقدماتها وَقيل صغَار أمورها وَفِي الْمُحكم وَالْجَامِع أوائلها وَفِي الغريبين عَن الاصمعي وَمِنْه الِاشْتِرَاط الَّذِي يشْتَرط بعض النَّاس على بعض إِنَّمَا هِيَ عَلامَة يجعلونها بَينهم وَالْمرَاد اشراطها السَّابِقَة لاشراطها الْمُقَارنَة لَهَا كطلوع الشَّمْس من مغْرِبهَا وَخُرُوج الدَّابَّة وَنَحْوهمَا قَوْله " رَبهَا " الرب الْمَالِك وَالسَّيِّد والمصلح وَفِي الْعباب رب كل شَيْء مَالِكه والرب اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى وَلَا يُقَال فِي غَيره إِلَّا بِالْإِضَافَة وَقد قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة للْمَالِك قَالَ الْحَارِث بن حلزة الْيَشْكُرِي فِي الْمُنْذر مَاء السَّمَاء وَهُوَ الرب والشهيد على يَوْم الحوارين والبلابلا وَقَالَ الْأَنْبَارِي مخففا وربيت الْقَوْم أَي كنت فَوْقهم وَرب الضَّيْعَة أَصْحَابهَا وأتممها وَرب فلَان وَلَده يربه رَبًّا وَرب بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ والربة المولاة ثمَّ قَالَ وَفِي حَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين سَأَلَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن أَمَارَات السَّاعَة فَقَالَ " أَن تَلد الْأمة ربتها " وَيُقَال فُلَانَة ربة الْبَيْت وَهن ربات الحجال قَوْله " وَإِذا تطاول " إِي تفاخر بطول الْبُنيان وتكبر بِهِ والرعاة بِضَم الرَّاء جمع رَاع كالقضاة جمع قَاض وَكَذَا الرُّعَاة بِكَسْر الرَّاء جمع رَاع كالجياع جمع جايع قَوْله " والبهم " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة جمع الإبهم وَهُوَ الَّذِي لاشية لَهُ قَالَه الْكرْمَانِي وَقَالَ القَاضِي جمع بهيم وَهُوَ الْأسود(1/285)
الَّذِي لَا يخالطه لون غَيره وَهُوَ شَرّ الْإِبِل قلت إِذا كَانَ البهم صفة للرعاة يَنْبَغِي أَن يكون جمع بهيم وَإِن كَانَ صفة الْإِبِل يَنْبَغِي أَن يكون جمه بهماء وكلا الْوَجْهَيْنِ جَائِز كَمَا نذكرهُ فِي الْإِعْرَاب وَأما لبهم بِفَتْح الْبَاء كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة الاصيلي فَلَا وَجه لَهُ هَهُنَا قَالَه القَاضِي عِيَاض وَأما قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم " رعاء البهم " فَهُوَ بِفَتْح الْبَاء فَهُوَ جمع بَهِيمَة وَهِي صغَار الضَّأْن والمعز وَقَالَ النَّوَوِيّ هَذَا قَول الْجُمْهُور وَقَالَ بَعضهم رِوَايَة مُسلم " إِذا رَأَيْت رعاء البهم " بِحَذْف لَفْظَة ابل انسب من رِوَايَة البُخَارِيّ وَهِي زِيَادَة لَفْظَة الابل لأَنهم أَضْعَف أهل الْبَادِيَة أما أهل الْإِبِل فَهُوَ أهل الْفَخر وَالْخُيَلَاء وَالْمعْنَى فِي الْكل أَن أهل الْفقر وَالْحَاجة تصير لَهُم الدُّنْيَا حَتَّى يتباهوا فِي الْبُنيان قلت ذكر ابْن التياني فِي كتاب الموعب أَن البهم صغَار الضَّأْن الْوَاحِدَة بهمة للذّكر وَالْأُنْثَى وَالْجمع بهم وَجمع البهم بهام وبهامات وَفِي الْعين البهمة اسْم للذّكر وَالْأُنْثَى من أَوْلَاد بقر الْوَحْش وَمن كل شَيْء من ضرب الْغنم والمعز وَفِي الْمُخَصّص يكون بعد الْعشْرين يَوْمًا بهمة من الضَّأْن والمعز إِلَى أَن يفطم. وَفِي الْمُحكم وَقيل هِيَ بهمة إِذا شبت وَالْجمع بهم وبهم وبهام وبهامات جمع الْجمع وَقَالَ ثَعْلَب البهم صغَار الْمعز وَفِي الْجَامِع للقزاز بهمة مَفْتُوحَة الْبَاء سَاكِنة الْهَاء يُقَال لاولاد الْوَحْش من الظبأ وَمَا جانس الضَّأْن والمعز بهم وَفِي الصِّحَاح البهام جمع بهم والبهم جمع بهمة والبهمة اسْم للمذكر والمؤنث والسخال أَوْلَاد الْمعز فَإِذا اجْتمعت البهام والسخال قلت لَهما جَمِيعًا بهام وبهم أَيْضا وَفِي المغيث لأبي مُوسَى الْمَدِينِيّ وَقيل البهمة السخلة انْتهى. والبهيمة ذَوَات الْأَرْبَع من دَوَاب الْبر وَالْبَحْر قَوْله " ثمَّ أدبر " من الادبار وَهُوَ التولي (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " بارزا نصب لِأَنَّهُ خبر كَانَ قَوْله " يَوْم نصب " على الظروف قَوْله " للنَّاس " يتَعَلَّق ببارزا قَوْله " مَا الْإِيمَان " جملَة اسمية وَقعت مقول القَوْل قَوْله " أَن تؤمن " خبر الْمُبْتَدَأ أعنى قَوْله " الْإِيمَان " وَأَن مَصْدَرِيَّة قَوْله " وتؤمن " بِالنّصب عطفا على قَوْله " أَن تؤمن " قَوْله " أَن تعبد الله " فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر للمبتدأ أعنى قَوْله الْإِسْلَام وَأَن مَصْدَرِيَّة قَوْله " لَا تشرك " بِالنّصب عطفا على أَن تعبد قَوْله " شَيْئا " نصب على أَنه مفعول لتشرك قَوْله " وتقيم " بِالنّصب عطفا على أَن تعبد وَكَذَلِكَ وتؤدى الزَّكَاة وَكَذَلِكَ وتصوم رَمَضَان وَأَن مقدرَة فِي الْجَمِيع قَوْله " مَا الْإِحْسَان " كلمة مَا للاستفهام مُبْتَدأ أَو الْإِحْسَان خَبره وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد فِي قَوْله تَعَالَى (للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة) و (هَل جَزَاء لإحسان إِلَّا الْإِحْسَان) (وأحسنوا أَن الله يحب الْمُحْسِنِينَ) ولتكرره فِي الْقُرْآن ترَتّب الثَّوَاب عَلَيْهِ سَأَلَ عَنهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله " قَالَ أَن تعبد الله " أَي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه الْإِحْسَان أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَقَوله أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره الْإِحْسَان عبادتك الله كَأَنَّك ترَاهُ وَقَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت كَأَنَّك مَا مَحَله من الْإِعْرَاب قلت هُوَ حَال من الْفَاعِل أَي تعبد الله مشبها بِمن يرَاهُ انْتهى كَلَامه قلت تَحْقِيق الْكَلَام هُنَا أَن كَأَن للتشبيه قَالَ الْجَوْهَرِي فِي فصل أَن وَقد تزاد على أَن كَاف التَّشْبِيه تَقول كَأَنَّهُ شمس وَقَالَ غَيره أَنه حرف مركب عِنْد الْجُمْهُور حَتَّى ادّعى ابْن هِشَام وَابْن الخباز الْإِجْمَاع عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك قَالُوا وَالْأَصْل فِي كَأَن زيدا أَسد ثمَّ قدم حرف التَّشْبِيه اهتماماً بِهِ ففتحت همزَة أَن لدُخُول الْجَار وَذكروا لَهَا أَرْبَعَة معَان أَحدهَا وَهُوَ الْغَالِب عَلَيْهَا والمتفق عَلَيْهِ التَّشْبِيه وَهَذَا الْمَعْنى أطلقهُ الْجُمْهُور لكأن وَزعم مِنْهُم ابْن السَّيِّد أَنه لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ خَبَرهَا اسْما جَامِدا نَحْو كَأَن زيدا أَسد بِخِلَاف كَأَن زيدا قَائِم أَو فِي الدَّار أَو عنْدك أَو يقدم فَإِنَّهَا فِي ذَلِك كُله للظن الثَّانِي وَالشَّكّ وَالظَّن وَالثَّالِث التَّحْقِيق وَالرَّابِع التَّقْرِيب قَالَه الْكُوفِيُّونَ وحملوا عَلَيْهِ قَوْله " كَأَنَّك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل " فَإِذا علم هَذَا فَنَقُول قَوْله كَأَنَّك ترَاهُ ينزل على أَي معنى من الْمعَانِي الْمَذْكُورَة فَالْأَقْرَب أَن ينزل على معنى التَّشْبِيه فالتقدير الْإِحْسَان عبادتك الله تَعَالَى حَال كونك فِي عبادتك مثل حَال كونك رائياً وَهَذَا التَّقْدِير أحسن وَأقرب للمعنى من تَقْدِير الْكرْمَانِي لِأَن الْمَفْهُوم من تَقْدِيره أَن يكون هُوَ فِي حَال الْعِبَادَة مشبهاً بالرائي إِيَّاه وَفرق بَين عبَادَة الرَّائِي نَفسه وَعبادَة الْمُشبه بالرائي بِنَفسِهِ وَأما على قَول ابْن السَّيِّد فَتحمل كَأَن على معنى الظَّن لِأَن خَبَرهَا غير جامد فَافْهَم قَوْله " فَإِن لم تكن ترَاهُ " أَي فَإِن لم تكن ترى الله وَكلمَة أَن للشّرط وَقَوله " لم تكن ترَاهُ " جملَة وَقعت فعل الشَّرْط فَإِن قلت أَيْن جَزَاء الشَّرْط قلت مَحْذُوف تَقْدِيره فَإِن لم تكن ترَاهُ فَأحْسن الْعِبَادَة فَإِنَّهُ يراك فَإِن قلت لم لَا يكون قَوْله فَإِنَّهُ يراك جَزَاء للشّرط قلت لَا يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ مسبباً عَنهُ(1/286)
وَيَنْبَغِي أَن يكون فعل الشَّرْط سَببا لوُقُوع الْجَزَاء كَمَا تَقول فِي إِن جئتني أكرمتك فَإِن الْمَجِيء هُوَ السَّبَب للاكرام وَعَدَمه سَبَب لعدمه وَهَهُنَا عدم رُؤْيَة العَبْد لَيست بِسَبَب لرؤية الله تَعَالَى يرَاهُ سَوَاء وجدت من العَبْد رُؤْيَة أولم تُوجد فَإِن قلت مَا الْفَاء فِي قَوْله فَإِن قلت للتَّعْلِيل على مَا لَا يخفى قَوْله " مَتى السَّاعَة " جملَة اسمية وَقعت مقول القَوْل وَفِي بعض النّسخ فَمَتَى فَإِن صحت فالفاء فِيهَا زَائِدَة قَوْله " ماالمسؤل " كلمة مَا بِمَعْنى لَيْسَ وَقَوله باعلم خَبَرهَا وزيدت فِيهَا الْبَاء لتأكيد معنى النَّفْي قَوْله " وسأخبرك " السِّين هُنَا لتأكيد الْوَعْد بالإخبار كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَمعنى السِّين إِن ذَلِك كَائِن لَا محَالة وَإِن تَأَخّر إِلَى حِين قَوْله " إِذا ولدت الْأمة " إِنَّمَا قَالَ إِذا وَلم يقل أَن لَان الشَّرْط مُحَقّق الْوُقُوع فجَاء بِلَفْظ إِذا الَّتِي للجزم بِوُقُوع مدخولها فَلهَذَا يَصح أَن يُقَال إِذا قَامَت الْقِيَامَة كَانَ كَذَا وَلَا يَصح أَن يُقَال إِن قَامَت الْقِيَامَة كَانَ كَذَا فَإِن قلت أَيْن الْجَزَاء قلت هُوَ مَحْذُوف تَقْدِيره إِذا ولدت الْأمة فَهِيَ أَي الْولادَة من أشراطها وَقَالَ الْكرْمَانِي وَإِذا ظهر أَن تكون إِذا متمحضة لمُجَرّد الْوَقْت ي وَقت الْولادَة وَوقت التطاول قلت هَذَا تَقْدِير نَاقص وَالْمعْنَى الصَّحِيح عِنْدِي كَون إِذا لمُجَرّد الْوَقْت أَي وَقت الْولادَة وَوقت التطاول قلت هَذَا تَقْدِير نَاقص وَالْمعْنَى الصَّحِيح عِنْدِي كَون إِذا لمُجَرّد الْوَقْت وَأَن يقدر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالتَّقْدِير وسأخبرك عَن اشراطها هِيَ وَقت ولادَة الْأمة رَبهَا وَوقت تطاول الرعاء فِي الْبُنيان قَوْله " رُعَاة الْإِبِل " كَلَام اضافي مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل تطاول وَقَوله " البهم " روى بِالرَّفْع على أَنه صفة للرعاة أى الرُّعَاة السود وَقَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ الرُّعَاة المجهولون الَّذين لَا يعْرفُونَ جمع ابهم وَمِنْه ابهم الْأَمر فَهُوَ مُبْهَم إِذا لم تعرف حَقِيقَته وروى بِالْجَرِّ على أَنه صفة لِلْإِبِلِ أى رُعَاة الْإِبِل السود قَالُوا وَهِي شَرها كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله " فِي الْبُنيان " يتَعَلَّق بقوله تطاول قَوْله " فِي خمس " فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره علم وَقت السَّاعَة فِي جملَة خمس وَقَوله " لَا يعلمهُنَّ إِلَّا الله " صفة لخمس ومحلها الْجَرّ أَو التَّقْدِير هِيَ فِي خمس من الْغَيْب كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي " هِيَ فِي خمس من الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا الله " قَوْله " الْآيَة " يجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَي الْآيَة مقروء إِلَى آخرهَا وَالنّصب على تَقْدِير أَن يكون مَفْعُولا لفعل مُقَدّر أَي اقْرَأ الْآيَة ة والجر على تَقْدِير إِلَى الْآيَة أَي إِلَى مقطعها وتمامها وَفِيه ضعف لَا يخفي قَوْله " هَذَا جِبْرِيل " جَاءَ مثل قَوْلك هَذَا وَيَد قَامَ قَوْله " يعلم النَّاس " جملَة وَقعت حَالا فَإِن قلت لم يكن معلما وَقت المجىء فَكيف يكون حَالا قلت هَذِه حَال مقرة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين} (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " فَأَتَاهُ رجل " قد ذكرنَا فِي حَدِيث عمر فِي رِوَايَة مُسلم (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم غذ طلع علينا رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَواد الشّعْر لَا يرى عَلَيْهِ أثر السّفر وَلَا يعرفهُ منا أحد حَتَّى جلس إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فاسند رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَن الْإِسْلَام " الحَدِيث وَالضَّمِير فِي فَخذيهِ يعود على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ النَّوَوِيّ على فَخذي نَفسه يَعْنِي نفس جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ وَتَبعهُ على ذَاك التوربشتي شَارِح المصابيح وَلَيْسَ كَذَلِك بل الضَّمِير يعود على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا جَاءَ فِي روية سُلَيْمَان التَّيْمِيّ " ثمَّ وضع يَدَيْهِ على ركبتي النَّبِي " وَبِه جزم الْبَغَوِيّ وَإِسْمَاعِيل التَّيْمِيّ وَرجحه الطَّيِّبِيّ من جِهَة الْبَحْث وَالظَّاهِر أَنه لم يقف على رِوَايَة سُلَيْمَان فَلذَلِك رَجحه من جِهَة الْبَحْث وَنظر النَّوَوِيّ فِي مَا قَالَه التَّنْبِيه على أَنه جلس كَهَيئَةِ المتعلم بَين يَدي من يتَعَلَّم مِنْهُ لإقتضاء بَاب الْأَدَب ذَلِك وَلَكِن على رِوَايَة سُلَيْمَان إِنَّمَا فعل جِبْرِيل ذَلِك لزِيَادَة الْمُبَالغَة فِي تعمية أمره ليقوى ظن الحاضربن أَنه من جُفَاة الْأَعْرَاب وَلِهَذَا تخطى النَّاس حَتَّى انْتهى إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا ذكرنَا نافي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَلِهَذَا استغربت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم صَنِيعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْبَلَد وَجَاء مَاشِيا لَيْسَ لَهُ أثر السّفر فَإِن قيل كَيفَ عرف عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لم يعرفهُ أحد قيل من قَول الْحَاضِرين كَمَا فِي رِوَايَة عُثْمَان بن عَفَّان فَنظر الْقَوْم بَعضهم إِلَى بعض فَقَالُوا مَا نَعْرِف قَوْله " أَن تؤمن بِاللَّه " الْإِيمَان بِاللَّه هُوَ التَّصْدِيق بِوُجُودِهِ تَعَالَى وَأَنه لَا يجوز عَلَيْهِ الْعَدَم وَأَنه تَعَالَى مَوْصُوف بِصِفَات الْجلَال والكمال من الْعلم وَالْقُدْرَة الْإِرَادَة وَالْكَلَام والسمع وَالْبَصَر والحياة وَأَنه تَعَالَى منزه عَن صِفَات النَّقْص الَّتِي عي اضداد تِلْكَ الصِّفَات وَعَن صِفَات الإجسام والمثحيزات وَأَنه وَاحِد حق صمج فَرد خَالق جَمِيع الْمَخْلُوقَات متصرف فِيهَا بِمَا شَاءَ من التَّصَرُّفَات يفعل فِي ملكه مَا يُرِيد وَيحكم فِي خلقه.(1/287)
مَا يَشَاء قَوْله " وَمَلَائِكَته " أَي الْإِيمَان بِجَمِيعِ مَلَائكَته فَمن ثَبت تَعْيِينه كجبريل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وعزرائيل عَلَيْهِم السَّلَام وَجب الْإِيمَان بِهِ وَمن لم يعرف اسْمه آمنا بِهِ اجمالا وَكَذَلِكَ الانبياء المُرْسَلُونَ من علمنَا آمنا بِهِ وَمن لم نعلم آمنا بِهِ اجمالا وَمَا كَانَ من ذَلِك ثَابتا بِالنَّصِّ أَو التَّوَاتُر كفر من يكفر بِهِ والايمان برسل الله عَلَيْهِم السَّلَام هُوَ بِأَنَّهُم صَادِقُونَ فِيمَا اخبروا بِهِ عَن الله تَعَالَى وَأَن الله تَعَالَى أَيّدهُم بالمعجزات الدَّالَّة على صدقهم وَأَنَّهُمْ بلغُوا عَن الله رسالاته وبينوا للمكلفين مَا آمُرهُم ببيانه وَأَنه يجب احترامهم وَإِن لَا يفرق بَين أحد مِنْهُم قَوْله " وبلقائه " الْأَيْمَان بلقائه هُوَ التَّصْدِيق بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة قَالَه الْخطابِيّ وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ بِأَن أحدا لَا يقطع لنَفسِهِ بِرُؤْيَة الله تَعَالَى فَأَنَّهَا مُخْتَصَّة لمن مَاتَ مُؤمنا والمرء لَا يدْرِي بِمَ يخْتم لَهُ فَكيف يكون من شُرُوط الْإِيمَان ورد عَلَيْهِ بَان المُرَاد الْإِيمَان بَان ذَلِك حق فِي نفس الْأَمر وَقد قيل أَنَّهَا مكررة لِأَنَّهَا دَاخِلَة فِي الْإِيمَان بِالْبَعْثِ وَهُوَ الْقيام من الْقُبُور قُلْنَا لَا نسلم التّكْرَار لِأَن المُرَاد باللقاء مَا بعد تِلْكَ وَقَالَ النَّوَوِيّ اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْجمعِ بَين الْإِيمَان بلقاء الله والبعث فَقيل اللِّقَاء يحصل بالانتقال إِلَى دَار الْجَزَاء والبعث عِنْد قيام السَّاعَة وَقيل اللِّقَاء مَا يكون بعد الْبَعْث عِنْد الْحساب قَوْله " وتقيم الصَّلَاة " المُرَاد بهَا الْمَكْتُوبَة كَمَا صرح بهَا فِي رِوَايَة مُسلم وَهُوَ احْتِرَاز عَن النَّافِلَة فَإِنَّهَا وَأَن كَانَت من وظائف الْإِسْلَام لَكِنَّهَا لَيست من أَرْكَانه فَتحمل الْمُطلقَة هَهُنَا على الْمقيدَة فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى جمعا بَيْنَمَا قَوْله " الزكوة الْمَفْرُوضَة " قيل احْتَرز بالمفروضة عَن الزكوة المعجلة قبل الْحول فَإِنَّهَا لَيست مَفْرُوضَة حَال الإداء وَقيل احْتَرز من صَدَقَة التَّطَوُّع فَإِنَّهَا زَكَاة لغوية قَوْله " مَا الْإِحْسَان " وَهُوَ يسْتَعْمل لمعنيين احدهما مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ كَقَوْلِك احسنت كَذَا إِذا حسنته وكملته منقولة بِالْهَمْزَةِ من حسن الشَّيْء وَالْآخر بِحرف الْجَرّ كَقَوْلِك أَحْسَنت إِلَيْهِ إِذا أوصلت إِلَيْهِ النَّفْع وَالْإِحْسَان وَفِي الحَدِيث بِالْمَعْنَى الأول فَإِنَّهُ يرجع إِلَى اتقان الْعِبَادَات ومراعاة حق الله تَعَالَى ومراقبته وَيُقَال الْإِحْسَان على مقامين الأول كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ " فَهَذَا مقَام. الثَّانِي قَوْله " فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " قَالَ عبد الْجَلِيل الأول على ثَلَاثَة أَقسَام الأول فِي مقَام الْإِسْلَام وَذَلِكَ أَن الْأُمُور فِي عَالم الْحسن ثَلَاثَة معاصي وطاعات ومباحات المعايش فَأَما قسم الْمعاصِي على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا فَإِن العَبْد مَأْمُور بِأَن يعلم أَن الله يرَاهُ فَإِذا هم بِمَعْصِيَة وَعلم أَن الله يرَاهُ ويبصره على أَي حَالَة كَانَت وَأَنه يعلم خائنه الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور كف عَن الْمعْصِيَة وَرجع عَنْهَا وَأما الأنسان فيذهل عَن نظر الله إِلَيْهِ فينسى حِين الْمعْصِيَة أَنه يرَاهُ أَو يكون جَاهِلا فيظن أَن الله تَعَالَى بعيد مِنْهُ وَلَا يتَذَكَّر وَيعلم أَنه يُحَرك جوارحه حِين الْعَمَل الْمَعْمُول فينسى ذَلِك أَو يجهل فَيَقَع فيا لمعصية وَلَو علم وَتحقّق أَن وَالِده أَو رجلا كَبِيرا لَو يرَاهُ حِين الْمعْصِيَة لكف عَنْهَا وهرب مِنْهَا فَإِذا علم العَبْد أَن الله يرَاهُ فِي حِين الْمعْصِيَة كف عَنْهَا بِحُصُول الْبُرْهَان الإحساني عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان عِنْده وَهُوَ الْبُرْهَان الَّذِي أوتيه وَرَآهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ قيام الدَّلِيل الْوَاضِح العلمي بِأَن الله تَعَالَى مَوْجُود حق وَأَنه نَاظر إِلَى كل شَيْء ومصرف لكل شَيْء ومحركه ومسكنه فَمن أرَاهُ الله تَعَالَى هَذَا الْبُرْهَان عِنْد جَمِيع الْمُهِمَّات صرف عَنهُ السوء والفحشاء من جَمِيع الْمُنْكَرَات الثَّانِي قسم الطَّاعَات فَهِيَ أَن تعلم أَن الله تَعَالَى مَوْجُود وتبرهن عِنْده أَنه يرَاهُ لَا محَالة إِلَّا أَن يكون زنديقا جاحدا لَا يقر بِرَبّ فَإِن كَانَ مقرّ بِوُجُودِهِ فَترك الْعِبَادَة فَإِنَّمَا تَركهَا تهاونا لنُقْصَان الْبُرْهَان الإحساني عِنْده وَهَذِه حَال المضيعين للفرائض لجهلهم بِقدر إِلَّا مرو قدر أمره الثَّالِث من الْمُبَاحَات وَهُوَ مَحل الْغَفْلَة والسهو عَن هَذَا الْمقَام الإحساني فَإِذا تذكر العَبْد أَن الله تَعَالَى يرَاهُ فِي تصريفه وَأَنه أره بالإقبال عَلَيْهِ وَقلة الْأَعْرَاض عَنهُ استحي أَن يرَاهُ مكبا على الخسيس الفاني مستغر قافي الِاشْتِغَال بِهِ عَن ذكره وَعَن الإقبال على مَا يقطع عَنهُ الْمقَام الثَّانِي فِي عَالم الْغَيْب فَإِن العَبْد إِذْ فكر فِي مَوَاطِن الْآخِرَة من موت وقبر وَحشر وَعرض وحساب وغي ذَلِك وَعلم أَنه معروض على الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْعَالم ومواطنه تهَيَّأ لذَلِك الْعرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الْآخِرَة مَا اسْتَطَاعَ وَأما الْمقَام الثَّالِث فِي الْإِحْسَان فَإِن العَبْد إِذا علم فِي قُلُوب اوليائه فيزيل الصِّفَات الممهلكات ويطهره مِنْهَا ويتصف المحمودات حَتَّى يَجْعَل سره كالمرآة المجلوة قَوْله " كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا اصل عَظِيم من أصُول الدّين وَقَاعِدَة مهمة من قَوَاعِد الْمُسلمين وَهُوَ عُمْدَة الصديقين وبغية السالكين(1/288)
وكنز العارفين ودأب الصَّالِحين وتلخيص مَعْنَاهُ أَن تعبد الله عبَادَة من يرى الله تَعَالَى وَيَرَاهُ الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يستبقي شَيْئا من الخضوع وَالْإِخْلَاص وَحفظ الْقلب والجوارح ومراعاة الْآدَاب مَا دَامَ فِي عِبَادَته وَقَوله " فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " يَعْنِي أَنَّك إِنَّمَا تراعي الْآدَاب إِذا رَأَيْته ورآك لكَونه يراك لَا لكونك ترَاهُ وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود وَإِن لم تره لِأَنَّهُ يراك وَحَاصِله الْحَث على كَمَال الْإِخْلَاص فِي الْعِبَادَة وَنِهَايَة المراقبة فِيهَا وَقَالَ هَذَا من جَوَامِع الْكَلم الَّتِي أوتيها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ندب أهل الْحَقَائِق إِلَى مجالسة الصَّالِحين ليَكُون ذَلِك مَانِعا من تلبسه بِشَيْء من النقائص احتراما لَهُم واستحياء مِنْهُم فَكيف بِمن لَا يزَال الله تَعَالَى مطلعا عَلَيْهِ فِي سره وعلانيته وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قد اشْتَمَل على شرح جَمِيع وظائف الْعِبَادَات الظَّاهِرَة والباطنة من عُقُود الْإِيمَان وأعمال الْجَوَارِح وإخلاص السرائر وَالْحِفْظ من آفَات الْأَعْمَال حَتَّى أَن عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا رَاجِعَة إِلَيْهِ ومتشعبة مِنْهُ قَوْله " مَتى السَّاعَة " السَّاعَة مِقْدَار من الزَّمَان غير معِين لقَوْله تَعَالَى {مَا لَبِثُوا غير سَاعَة} وَفِي عرف أهل الشَّرْع عبارَة عَن يَوْم الْقِيَامَة وَفِي عرف المعدلين جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جزأ من أَوْقَات اللَّيْل وَالنَّهَار قَوْله " إِذا ولدت الْأمة رَبهَا " أَي مَالِكهَا وسيدها وَذكروا فِي معنى خذا أوجها الأول قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ اتساع الْإِسْلَام واستيلاء أَهله على بِلَاد الشّرك وَسبي دراريهم فَإِذا ملك الرجل الْجَارِيَة واستولدها كَانَ الْوَلَد فِيهَا بِمَنْزِلَة رَبهَا لِأَنَّهُ ولد سَيِّدهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ وَغَيره هَذَا قَول الْأَكْثَرين وَقَالَ بَعضهم وَقَالَ بَعضهم لَكِن فِي كَونه المُرَاد نظر لِأَن استيلاد الْإِمَاء كَانَ مَوْجُودا حِين الْمقَالة والاستيلاء لعى بِلَاد الشّرك وَسبي ذَرَارِيهمْ واتخاذهم سرارى وَقع أَكْثَره فِي صدر الْإِسْلَام وَسِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي الْإِشَارَة إِلَى وُقُوع مَا لم يَقع مِمَّا سيقع فِي قيام السَّاعَة قلت فِي نظره نظر لِأَن قَوْله إِذا ولدت الْأمة رَبهَا كِنَايَة عَن كَثْرَة التَّسَرِّي من كَثْرَة فتوح الْمُسلمين واستيلائهم على بِلَاد الشّرك وَالْمرَاد أَن يكون من هَذِه الْجِهَة فَافْهَم وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَن الْإِيمَاء يلدن الْمُلُوك فَتكون أم الْملك من جملَة الرّعية وَهُوَ سَيِّدهَا وَسيد غَيرهَا من رَعيته وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَالثَّالِث مَعْنَاهُ أَن تفْسد أَحْوَال النَّاس فيكثر بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي آخر الزَّمَان فيكثر تردادها فِي ايدي المشترين حَتَّى يَشْتَرِيهَا ابْنهَا وَهُوَ لَا يدْرِي وعَلى هَذَا القَوْل لَا يخْتَص بأمهات الْأَوْلَاد بل يتَصَوَّر فِي غَيْرهنَّ فَإِن الْأمة قد تَلد حرا بوطئ غير سَيِّدهَا بِشُبْهَة أَو ولدا رَقِيقا بِنِكَاح أَو زنا ثمَّ تبَاع الْأمة فِي بيع لأمهات الْأَوْلَاد وَالرَّابِع أَن أم الْوَلَد لما عتقت بِوَلَدِهَا فَكَأَنَّهُ سَيِّدهَا وَهَذَا بطرِيق الْمجَاز لِأَنَّهُ لما كَانَ سَببا فِي عتقهَا بِمَوْت أَبِيه أطلق عَلَيْهِ ذَلِك وَالْخَامِس أَن يكثر العقوق فِي الْأَوْلَاد فيعامل الْوَلَد أمه مُعَاملَة السَّيِّد أمته من الإهانة وَغير ذَلِك وَأطلق عَلَيْهِ رَبهَا مجَازًا لذَلِك وَقَالَ بَعضهم لذَلِك وَقَالَ بَعضهم يجوز أَن يكون المُرَاد بالرب المربي فَيكون حَقِيقَة وَهَذَا أوجه الْأَوْجه عِنْدِي لعمومه قل هَذَا لَيْسَ بأوجه الْأَوْجه بل أضعفها لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عد هَذَا من أَشْرَاط السَّاعَة لكَونه على نمط خَارج على وَجه الاستغراب أَو على وَجه دَال على فَسَاد أَحْوَال النَّاس وَالَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل فَافْهَم. وَأما رِوَايَة بَعْلهَا فَالصَّحِيح فِي مَعْنَاهَا أَن البعل هُوَ السَّيِّد أَو الْمَالِك فَيكون بِمَعْنى رَبهَا على مَا سلف قَالَ أهل اللُّغَة بعل الشَّيْء ربه ومالكه قَالَ تَعَالَى {أَتَدعُونَ بعلا} أَي رَبًّا قَالَه ابْن عَبَّاس والمفسرون وَقيل المُرَاد هُنَا الزَّوْج وعَلى هَذَا مَعْنَاهُ نَحْو مَا سبق أَنه يكثر بيع السرارى حَتَّى يتَزَوَّج الْإِنْسَان أمه وَلَا يدْرِي وَهَذَا أَيْضا معنى صَحِيح إِلَّا أَن الأول أظهر لِأَنَّهُ إِذا أمكن حمل الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقَضِيَّة الْوَاحِدَة على معنى وَاحِد كَانَ أولى قَوْله " وَإِذا تطاول رُعَاة الْإِبِل البهم فِي الْبُنيان " الْمَعْنى أَن أهل الْبَادِيَة أهل الْفَاقَة تنبسط لَهُم الدُّنْيَا حَتَّى يتباهوا فِي إطالة الْبُنيان يَعْنِي الْعَرَب تستولي على النَّاس وبلادهم وَيزِيدُونَ فِي بنيانهم وَهُوَ إِشَارَة إِلَى اتساع دين الْإِسْلَام كَمَا أَن الْعَلامَة الأولى أَيْضا فِيهَا اتساع الْإِسْلَام قَالَ الْكرْمَانِي ومحصله أَن من أشراطها تسلط الْمُسلمين على الْبِلَاد والعباد وَقَالَ ابْن بطال مَعْنَاهُ أَن ارْتِفَاع الأسافل من العبيد والسفلة الجمالين وَغَيرهم من عَلَامَات الْقِيَامَة. وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن أبي جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا " من انقلاب الدّين تفصح النبط واتخاذهم الْقُصُور فِي الْأَمْصَار " وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْمَقْصُود الْأَخْبَار عَن تبدل الْحَال بِأَن يستولي أهل الْبَادِيَة على الْأَمر ويتملكوا الْبِلَاد بالقهر فتكثر أَمْوَالهم وتنصرف هممهم إِلَى تشييد(1/289)
الْبُنيان والتفاخر بِهِ وَقد شاهدنا ذَلِك فِي هَذَا الزَّمَان وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الْمَقْصُود أَن علاماتها انقلاب الْأَحْوَال والقرينة الثَّانِيَة ظَاهِرَة فِي صيرورة الأعزة أَذِلَّة أَلا ترى إِلَى الملكة بنت النُّعْمَان حَيْثُ سبيت واحضرت بَين يَدي سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ كَيفَ أنشدت
(بَينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة تنتصف)
(فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم نعيمها ... تقلب تارات بِنَا وَتصرف)
قَوْله " فِي خمس " إِلَى آخِره قَالَ الْقُرْطُبِيّ لَا مطمع لأحد فِي علم شَيْء من هَذِه الْأُمُور الْخمس لهَذَا الحَدِيث وَقد فسر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول الله تَعَالَى {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ} بِهَذِهِ الْخمس وَهُوَ الصَّحِيح قَالَ فَمن ادّعى علم شَيْء مِنْهَا غير مُسْند إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ قَالَ وَأما ظن الْغَيْب فقد يجوز من المنجم وَغَيره إِذا كَانَ غير أَمر عادي وَلَيْسَ ذَلِك بِعلم وَقد نقل ابْن عبد الْبر الْإِجْمَاع على تَحْرِيم أَخذ الْأُجْرَة والجعل وإعطائها فِي ذَلِك (استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه. الأول أَن الْإِيمَان هُوَ أَن يُؤمن العَبْد بِاللَّه وَمَلَائِكَته وبلقائه وَرُسُله ويؤمن بِالْبَعْثِ والنشور. الثَّانِي أَن الْإِسْلَام أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان. الثَّالِث إِن الْإِحْسَان أَن تعبد الله كَأَنَّهُ يراك وتراه. الرَّابِع احْتج بِهِ من يَدعِي تغاير الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَمَعَ هَذَا تقدم غير مرّة أَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالدّين عِنْد البُخَارِيّ عِبَارَات عَن معنى وَاحِد وَقَالَ محيي السّنة جعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِسْلَام اسْما لما ظهر من الْأَعْمَال وَالْإِيمَان اسْما لما بطن من الِاعْتِقَاد وَلَيْسَ ذَلِك لِأَن الْأَعْمَال لَيست من الْإِيمَان والتصديق بِالْقَلْبِ لَيْسَ من الْإِسْلَام بل ذَلِك تَفْصِيل لجملة هِيَ كلهَا شَيْء وَاحِد وجماعها الدّين وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " أَتَاكُم جِبْرِيل يعلمكم دينكُمْ " والتصديق وَالْعَمَل يتناولهما الِاسْم وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام جَمِيعًا وَقَالَ ابْن الصّلاح مَا فِي الحَدِيث بَيَان لأصل الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن وأصل الْإِسْلَام وَهُوَ الاستسلام والانقياد الظَّاهِر ثمَّ اسْم الْإِيمَان يتَنَاوَل مَا فسر بِهِ الْإِسْلَام وَسَائِر الطَّاعَات لكَونهَا ثَمَرَات للتصديق الْبَاطِن الَّذِي هُوَ أصل الْإِيمَان وَلِهَذَا فسر الْإِيمَان فِي حَدِيث الْوَفْد بِمَا هُوَ الْإِسْلَام هَهُنَا وَاسم الْإِسْلَام يتَنَاوَل أَيْضا مَا هُوَ أصل الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ويتناول الطَّاعَات فَإِن ذَلِك كُله استسلام فتحقق مَا ذكرنَا إنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِيهِ ويفترقان وَقَالَ من قَالَ إنَّهُمَا حقيقتان متباينتان إِن حَدِيث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ على الْوَضع الْأَصْلِيّ بالتفرقة بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فالإيمان فِي اللُّغَة التَّصْدِيق مُطلقًا وَفِي الشَّرْع التَّصْدِيق بقواعد الشَّرْع وَالْإِسْلَام فِي اللُّغَة الاستسلام والانقياد وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} وَفِي الشَّرْع الانقياد فِي الْأَفْعَال الظَّاهِرَة الشَّرْعِيَّة لَكِن الشَّرْع توسع فاطلق الْإِيمَان على الْإِسْلَام فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس وَقَوله " الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ بَابا أدناها إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق " وَأطلق الْإِسْلَام يُرِيد بِهِ الْأَمريْنِ قَالَ الله تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَقَالَ بعض الْعلمَاء تنافس الْعلمَاء فِي هَذِه الْأَسْمَاء تنافسا لَا طائل تَحْتَهُ فَإِنَّهُم متفقون على أَنه يُسْتَفَاد مِنْهَا بِالشَّرْعِ زِيَادَة على أصل الْوَضع فَهَل ذَلِك الْمَعْنى يصير تِلْكَ الْأَسْمَاء مَوْضُوعَة كالوضع الابتدائي كَمَا فِي لفظ الدَّابَّة أَو هِيَ مبقاة على الْوَضع اللّغَوِيّ وَالشَّرْع إِنَّمَا تصرف فِي شُرُوطهَا وأحكامها قلت وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَول القَاضِي أبي بكر الباقلاني قَالَ وَالْقَوْل بِالْأولِ يحصل غَرَض الشِّيعَة على الصَّحَابَة فَإِذا قيل إِن الله تَعَالَى وعد الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ وهم قد آمنُوا يَقُولُونَ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق فِي قُلُوبهم لَكِن الشَّرْع نقل هَذِه الْأَلْفَاظ إِلَى الطَّاعَات وهم صدقُوا وَمَا أطاعوا فِي أَمر الْخلَافَة فَإِذا قُلْنَا لم تنقل انسد الْبَاب الردي وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ يمكننا أَن نقُول بِأَن الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة منقولة إِلَّا هَذِه الْمَسْأَلَة. الْخَامِس فِيهِ وجوب الْإِيمَان بِهَذِهِ الْمَذْكُورَات فِي الحَدِيث. السَّادِس فِيهِ عظم مرتبَة هَذِه الْأَركان الَّتِي فسر الْإِسْلَام بهَا السَّابِع فِيهِ جَوَاز قَول رَمَضَان بِلَا شهر الثَّامِن فِيهِ غظم مَحل الْإِخْلَاص والمراقبة التَّاسِع يه لَا أَدْرِي من الْعلم وَالِاعْتِرَاف بِعَدَمِ الْعلم وَإِن ذَلِك لَا ينقصهُ وَلَا يزِيل مَا عرف من جلالته بل ذَلِك دَلِيل على ورعه وتقواه ووفور علمه وَعدم يبجحه بِمَا لَيْسَ عِنْده الْعَاشِر فِيهِ دَلِيل على تمثل الْمَلَائِكَة بِأَيّ صُورَة شاؤا من صور بني(1/290)
آدم كَقَوْلِه تَعَالَى {فتمثل لَهَا بشرا سويا} وَقد كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يتَمَثَّل بِصُورَة دحْيَة وَلم يره النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا غير مرَّتَيْنِ. فَإِن قلت لَو كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام متمثلا بِصُورَة دحْيَة فِي ذَلِك الْوَقْت لَكَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عرفه من أول الْأَمر مَا عرف أَنه جِبْرِيل إِلَّا فِي آخر الْحَال قلت من ادّعى أَن جِبْرِيل مَا يتَمَثَّل إِلَّا بِصُورَة دحْيَة فَقَط فَعَلَيهِ الْبَيَان على أَن الَّذِي ذكرنَا من الرِّوَايَات أَن جِبْرِيل أَتَاهُ فِي صُورَة رجل حسن الْهَيْئَة لكنه غير مَعْرُوف لديهم يرد عَلَيْهِ. فَإِن قلت وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي فَرْوَة فِي آخر الحَدِيث وَأَنه لجبريل نزل فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ قلت قَوْله نزل فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وهم لِأَن دحْيَة مَعْرُوف عِنْدهم وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيثه مَا يعرفهُ منا أحد وَقد أخرجه مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي كتاب الْإِيمَان لَهُ من الْوَجْه الَّذِي أخرجه مِنْهُ النَّسَائِيّ فَقَالَ فِي آخِره " فَإِنَّهُ جِبْرِيل جَاءَ ليعلمكم دينكُمْ " حسب وَهَذِه الرِّوَايَة هِيَ المحفوظة لموافقته بَاقِي الرِّوَايَات الْحَادِي عشر قَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا الحَدِيث يصلح أَن يُقَال لَهُ أم السّنة لما تضمن من جملَة عِلّة السّنة وَقَالَ الطَّيِّبِيّ لهَذِهِ النُّكْتَة استفتح بِهِ الْبَغَوِيّ كِتَابه المصابيح وَشرح السّنة اقْتِدَاء بِالْقُرْآنِ فِي افتتاحه بِالْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنت عُلُوم الْقُرْآن إِجْمَالا وَقَالَ القَاضِي عِيَاض اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على جَمِيع وظائف الْعِبَادَات الظَّاهِرَة والباطنة من عُقُود الْإِيمَان ابْتِدَاء وَحَالا ومآلا وَمن أَعمال الْجَوَارِح وَمن إخلاص السرائر والتحفظ من آفَات الْأَعْمَال حَتَّى أَن عُلُوم الشَّرِيعَة كلهَا رَاجِعَة إِلَيْهِ ومتشعبة مِنْهُ الثَّانِي عشر فِيهِ دَلِيل على أَن رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بالأبصار غير وَاقعَة فَإِن قلت فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد رَآهُ قلت قَالَ بَعضهم وَأما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَاك لدَلِيل آخر قلت رُؤْيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه عز وَجل لم يكن فِي دَار الدُّنْيَا بل كَانَت فِي الملكوت الْعليا وَالدُّنْيَا لَا تطلق عَلَيْهَا وَالدَّلِيل الصَّرِيح على عدم وُقُوع رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي الدُّنْيَا مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي أُمَامَة قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام " وَاعْلَمُوا أَنكُمْ لن تروا ربكُم حَتَّى تَمُوتُوا " وَأما الرُّؤْيَة فِي الْآخِرَة فمذهب أهل الْحق أَنَّهَا وَاقعَة بالأبصار. فَإِن قلت الرُّؤْيَة يشْتَرط فِيهَا خُرُوج شُعَاع وانطباع صُورَة المرئي فِي الحدقة والمواجهة والمقابلة وَرفع الْحجب فَكيف يجوز ذَلِك على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قلت هَذِه الشُّرُوط للرؤيا عَادَة فِي الدُّنْيَا وَأما فِي الْآخِرَة فَيجوز أَن يكون الله تَعَالَى مرئيا لنا إِذْ هِيَ حَالَة يخلقها الله تَعَالَى فِي الحاسة فَتحصل بِدُونِ هَذِه الشُّرُوط وَلِهَذَا جوز الأشاعرة أَن يرى أعمى الصين بقْعَة أندلس وَقد ادّعى بعض غلات الصُّوفِيَّة جَوَاز رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي دَار الدُّنْيَا وَقَالَ فِي قَوْله " فَإِن لم تكن ترَاهُ " إِشَارَة إِلَى مقَام المحو والفناء وَتَقْدِيره فَإِن لم تصر شَيْئا وفنيت عَن نَفسك حَتَّى كَأَنَّك لَيْسَ بموجود فَإنَّك حِينَئِذٍ ترَاهُ. قلت هَذَا تَأْوِيل فَاسد بِدَلِيل رِوَايَة كهمس فَإِن لَفظهَا " فَإنَّك أَن لَا ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " فَسلط النَّفْي على الرُّؤْيَة لَا على الْكَوْن وَكَذَلِكَ يبطل تأويلهم رِوَايَة أبي فَرْوَة " فَإِن لم ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك " ورد عَلَيْهِم بَعضهم بقوله لَو كَانَ المُرَاد مَا زَعَمُوا لَكَانَ قَوْله " ترَاهُ " نحذوف الْألف لِأَنَّهُ يصير مَجْزُومًا لكَونه على تأويلهم جَوَاب الشَّرْط وَلم يَجِيء حذف الْألف فِي شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث وَهَذَا الْجَواب لَا يقطع بِهِ شغبهم لِأَن لَهُم أَن يَقُولُوا الْجَزَاء جملَة حذف صدرها تَقْدِيره فَأَنت ترَاهُ والجزم فِي الْجُمْلَة لَا يظْهر والمقدر كالملفوظ قَوْله " مَتى السَّاعَة " قَالَ الْقُرْطُبِيّ الْمَقْصُود من هَذَا السُّؤَال كف السامعين عَن السُّؤَال عَن وَقت السَّاعَة لأَنهم كَانُوا قد أَكْثرُوا السُّؤَال عَنْهَا كَمَا ورد فِي كثير من الْآيَات والْحَدِيث فَلَمَّا حصل الْجَواب بِمَا ذكر حصل الْيَأْس من مَعْرفَتهَا بِخِلَاف الأسئلة الْمَاضِيَة فَإِن المُرَاد بهَا اسْتِخْرَاج الْأَجْوِبَة ليتعلمها السامعون ويعملوا بهَا وَهَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب وَقعا بَين عِيسَى ابْن مَرْيَم وَجِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام أَيْضا لَكِن كَانَ عِيسَى سَائِلًا وَجِبْرِيل مسئولا قَالَ الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا مَالك ابْن مغول عَن إِسْمَاعِيل بن رَجَاء عَن الشّعبِيّ قَالَ " سَأَلَ عِيسَى ابْن مَرْيَم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَن السَّاعَة قَالَ فانتفض بأجنحته وَقَالَ مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل " قَوْله " جَاءَ يعلم النَّاس دينهم " أَي قَوَاعِد دينهم وكلياتها وَقَالَ ابْن الْمُنِير فِيهِ دلَالَة على أَن السُّؤَال الْحسن يُسمى علما وتعليما لِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لم يصدر مِنْهُ سوى السُّؤَال وَمَعَ ذَلِك فقد سَمَّاهُ معلما وَقد اشْتهر قَوْلهم. السُّؤَال نصف الْعلم (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل مَا سَبَب وُرُود هَذَا الحَدِيث وَأجِيب بِأَن سَببه مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " سلوني فهابوه أَن يسألوه فجَاء رجل فَجَلَسَ عِنْد رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُول الله(1/291)
مَا الْإِسْلَام " الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا قيل مَا وَجه تَفْسِير الْإِيمَان بِأَن تؤمن وَفِيه تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ تعريفا بِنَفسِهِ إِذا المُرَاد من الْمَحْدُود الْإِيمَان الشَّرْعِيّ وَمن الْحَد الْإِيمَان اللّغَوِيّ أَو المتضمن للاعتراف وَلِهَذَا عدى بِالْبَاء أَي أَن تصدق معترفا بِكَذَا. وَمِنْهَا مَا قيل كَيفَ بَدَأَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بالسؤال قبل السَّلَام وَأجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك مُبَالغَة فِي التعمية لأَمره أَو ليبين أَن ذَلِك غير وَاجِب أَو سلم فَلم يَنْقُلهُ الرَّاوِي قلت الْأَوَّلَانِ ضعيفان والاعتماد على الثَّالِث لِأَنَّهُ ثَبت فِي رِوَايَة أبي فَرْوَة بعد قَوْله " كَأَن ثِيَابه لم يَمَسهَا دنس حَتَّى سلم من طرف الْبسَاط فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا مُحَمَّد فَرد عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ادنو يَا مُحَمَّد قَالَ أدن فَمَا زَالَ يَقُول أدنو مرَارًا وَيَقُول أدن " وَنَحْوه فِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَكِن قَالَ " السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله " وَفِي رِوَايَة " يَا رَسُول الله أدنو فَقَالَ أدن " وَلم يذكر السَّلَام فاختلفت الرِّوَايَة هَل قَالَ يَا مُحَمَّد أَو قَالَ يَا رَسُول الله وَهل سلم أَولا وَطَرِيق التَّوْفِيق أَن رِوَايَة من قَالَ سلم مُقَدّمَة على رِوَايَة من سكت عَنهُ أَو أَنه قَالَ أَولا يَا مُحَمَّد كَمَا كَانَ الْأَعْرَاب يَقُوله قصدا ااتعمية ثمَّ خاطبه بعد ذَلِك بقوله يَا رَسُول الله وَوَقع عِنْد الْقُرْطُبِيّ أَنه قَالَ السَّلَام عَلَيْكُم يَا مُحَمَّد واستنبط من هَذَا أَنه يسْتَحبّ للداخل أَن يعمم بِالسَّلَامِ ثمَّ يخصص من يُرِيد تَخْصِيصه. وَمِنْهَا مَا قيل لم قدم السُّؤَال عَن الْإِيمَان وَأجِيب بِأَنَّهُ الأَصْل وَثني بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يظْهر بِهِ تَصْدِيق الدَّعْوَى وَثلث بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّهُ مُتَعَلق بهما وَقد وَقع فِي رِوَايَة عمَارَة بن الْقَعْقَاع بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِيمَان وَقَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ بِالْأَمر الظَّاهِر ثمَّ بِالْإِيمَان لِأَنَّهُ بِالْأَمر الْبَاطِن وَرجح الطَّيِّبِيّ هَذَا وَقَالَ لما فِيهِ من الترقي وَوَقع فِي وَرَايَة مطر الْوراق بَدَأَ بِالْإِسْلَامِ وثنى بِالْإِحْسَانِ وَثلث بِالْإِيمَان وَيُمكن أَن يُقَال عَنَّا أَن الْإِحْسَان هُوَ الْإِخْلَاص كَمَا ذكرنَا فَكَمَا أَن مَحَله الْقلب فَكَذَلِك ذكر فِي الْقلب وَالْحق أَن هَذَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير من الروَاة وَالله تَعَالَى أعلم. وَمِنْهَا مَا قيل أَن السُّؤَال عَن مَاهِيَّة الْإِيمَان لِأَنَّهُ سَأَلَهُ بِكَلِمَة مَا وَلَا يسْأَل بهَا إِلَّا عَن الْمَاهِيّة وماهية الْإِيمَان التَّصْدِيق وَالْجَوَاب غير مُطَابق وَأجِيب بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام علم مِنْهُ إِنَّه إِنَّمَا سَأَلَهُ عَن متعلقات الْإِيمَان إِذْ لَو كَانَ سُؤَاله عَن حَقِيقَته لَكَانَ جَوَابه التَّصْدِيق وَقَالَ الطَّيِّبِيّ قَوْله " أَن تؤمن بِاللَّه " يُوهم التّكْرَار وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يتَضَمَّن معنى أَن تعترف وَلِهَذَا عداهُ بِالْبَاء وَقَالَ بَعضهم والتصديق أَيْضا يعدي بِالْبَاء فَلَا يحْتَاج إِلَى دَعْوَى التَّضْمِين قلت الطَّيِّبِيّ ادّعى تضمين الْإِيمَان معنى الِاعْتِرَاف وَكَون التَّصْدِيق يتَعَدَّى بِالْبَاء لَا يمْنَع دَعْوَى تضمين الْإِيمَان معنى الِاعْتِرَاف حَتَّى يُقَال لَا يحْتَاج إِلَى دَعْوَى التَّضْمِين. وَمِنْهَا مَا قيل الْإِيمَان بالكتب أَيْضا وَاجِب وَلم تَركه وَأجِيب بِأَن الْإِيمَان بالرسل مُسْتَلْزم للْإيمَان بِمَا أنزل عَلَيْهِم على أَنه مَذْكُور فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ هَهُنَا كَمَا ذَكرْنَاهُ وَمِنْهَا مَا قيل لم كرر لفظ تؤمن فِي قَوْله " وتؤمن بالعبث " وَأجِيب بِأَنَّهُ نوع آخر من الْمُؤمن بِهِ لِأَن الْبَعْث سيوجد فِيمَا بعد واخواته مَوْجُودَة الْآن وَمِنْهَا مَا قيل ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا على من صدق بِجَمِيعِ مَا ذكر فَمَا بَال الْفُقَهَاء يكتفون بِإِطْلَاق الْإِيمَان على من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وَأجِيب بِأَن الْإِيمَان بِرَسُولِهِ هُوَ الْإِيمَان بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ من ربه فَيدْخل جَمِيع ذَلِك تَحت ذَلِك وَمِنْهَا مَا قيل أَن المُرَاد من قَوْله (أَن تعبد الله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) إِن كَانَ معرفَة الله تَعَالَى وتوحيده فَلَا يحْتَاج إِلَى قَوْله (وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا) وَإِن كَانَ المُرَاد الطَّاعَة مُطلقًا فَيدْخل فِيهَا جَمِيع الْوَظَائِف وَمَا الْفَائِدَة بعد ذَلِك فِي ذكر الصَّلَاة وَالصَّوْم وَأجِيب بِأَن المُرَاد النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ صرح بذلك فِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ " الْإِسْلَام أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله " وَلما عبر الرَّاوِي عَن ذَلِك بِالْعبَادَة احْتِيجَ أَن يُوضح ذَلِك بقوله وَلَا تشرك بِهِ شَيْئا وَلم يحْتَج إِلَيْهِ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام. وَمِنْهَا مَا قيل أَن السُّؤَال عَن الْإِسْلَام عَام وَالْجَوَاب خَاص لقَوْله " أَن تعبد الله " وَكَذَا قَوْله فِي الْإِيمَان " أَن تؤمن " وَفِي الْإِحْسَان " أَن تعبد " وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد بمخاطبة الْأَفْرَاد اخْتِصَاصه بذلك بل المُرَاد تَعْلِيم السامعين الحكم فِي حَقهم وَحقّ من تخَاف عَنْهُم وَقد بَين ذَلِك بقوله فِي آخر الحَدِيث " يعلم النَّاس دينهم " وَمِنْهَا مَا قيل لم لم يذكر الْحَج وَأجِيب بِأَنَّهُ فرض حِينَئِذٍ وَيرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي كتاب الْإِيمَان بِإِسْنَادِهِ الَّذِي هُوَ على شَرط مُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيّ من حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَوله أَن رجلا فِي آخر عمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ إِلَى(1/292)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ فَهَذَا يدل على أَنه إِنَّمَا جَاءَ بعد إِنْزَال جَمِيع لتقرير أُمُور الدّين وَالصَّوَاب أَن تَركه من الروَاة إِمَّا ذهولا وَإِمَّا نِسْيَانا وَالدَّلِيل على ذَلِك اخْتلَافهمْ فِي ذكر بعض الْأَعْمَال دون بعض فَفِي رِوَايَة كهمس " وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا " وَكَذَا فِي حَدِيث أنس وَفِي رِوَايَة عَطاء الخرساني لم يذكر الصَّوْم وَفِي حَدِيث أبي عَامر ذكر الصَّلَاة وَالزَّكَاة حسب كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَمِنْهَا مَا قيل لَفْظَة أعلم فِي قَوْله " مَا المسؤل عَنْهَا بِأَعْلَم من السَّائِل " مشعرة بِوُقُوع الِاشْتِرَاك فِي الْعلم وَالنَّفْي توجه إِلَى الزِّيَادَة فَيلْزم أَن يكون مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا متساويان فِي الْعلم بِهِ لَكِن الْأَمر بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُمَا متساويان فِي نفي الْعلم بِهِ وَأجِيب بِأَن اللَّازِم مُلْتَزم لِأَنَّهُمَا متساويان فِي الْقدر الَّذِي يعلمَانِ لست بِأَعْلَم بهَا مِنْك وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك إشعارا بالتعميم تعريضا للسامعين إِن كل سَائل وَمَسْئُول فَهُوَ كَذَلِك وَمِنْهَا مَا قيل أَن الأشراط جمع شَرط وَأقله ثَلَاثَة على الْأَصَح وَلم يذكر هُنَا إِلَّا اثْنَان وَأجِيب بِأَنَّهُ إِمَّا أَنه ورد على مَذْهَب أَن أَقَله اثْنَان أَو حذف الثَّالِث لحُصُول الْمَقْصُود بِمَا ذكر وَقَالَ بَعضهم فِي هَذِه الْأَجْوِبَة نظر وَلَو أُجِيب بِأَن هَذَا دَلِيل القَوْل الصائر إِلَى أَن أقل الْجمع إثنان لما بعد عَن الصَّوَاب قلت هَذَا الَّذِي قَالَه بعيد عَن الصَّوَاب لِأَنَّهُ كَيفَ يكون هَذَا دَلِيلا لمن يَقُول أَن أقل الْجمع إثنان لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يسْتَدلّ على ذَلِك بِلَفْظ الأشراط أَو بِلَفْظ إِذا ولدت وَإِذا تطاول مِنْهُمَا لَا يَصح أَن يكون دَلِيلا أما الأول فَلِأَنَّهُ لم يقل أحد أَنه ذكر الأشراط وَأَرَادَ بِهِ الشَّرْطَيْنِ بل المُرَاد أَكثر من ثَلَاثَة وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِصُورَة التَّثْنِيَة حَتَّى يُقَال ذكرهَا وَأَرَادَ بهَا الْجمع فَافْهَم وَقَوله أَو حذف الثَّالِث لحُصُول الْمَقْصُود هُوَ لاجواب المرضي لِأَن الْمَذْكُور من الأشراط ثَلَاثَة وَإِنَّمَا بعض الروَاة اقْتصر على اثْنَيْنِ مِنْهَا لِأَن البُخَارِيّ ذكر هُنَا الْولادَة والتطاول وَفِي التَّفْسِير ذكر الْولادَة ورؤوس الحفاة وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن بشر الَّتِي أخرج مُسلم إسنادها وسَاق ابْن خُزَيْمَة لفطها عَن أبي حَيَّان ذكر الثَّلَاثَة وَكَذَا فِي مستخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق ابْن علية وَكَذَا ذكرهَا عمَارَة بن الْقَعْقَاع. وَمِنْهَا مَا قيل لم ذكر جمع الْقلَّة والعلامات أَكثر من الْعشْرَة فِي الْوَاقِع وَأجِيب بِأَنَّهُ جَازَ لِأَنَّهُ قد تستقرض الْقلَّة للكثرة وَبِالْعَكْسِ أَو لفقد جمع الْكَثْرَة للفظ الشَّرْط أَو لِأَن الْفرق بالقلة وَالْكَثْرَة إِنَّمَا هُوَ فِي النكرات لَا فِي المعارف. وَمِنْهَا مَا قيل كَيفَ أطلق الرب على غير الله تَعَالَى وَقد ورد النَّهْي عَنهُ بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " وَلَا يقل أحدكُم رَبِّي وَليقل سَيِّدي ومولاي " وَأجِيب بِأَن هَذَا من بَاب التَّشْدِيد وَالْمُبَالغَة وَأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوص بِهِ. قلت الْمَمْنُوع إِطْلَاق الرب على غير الله تَعَالَى بِدُونِ الْإِضَافَة وَأما بِالْإِضَافَة فَلَا يمْنَع يُقَال رب الدَّار وَرب النَّاقة وَمِنْهَا مَا قيل من أَيْن أستفاد الْحصْر من قَوْله تَعَالَى {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} الْآيَة حَتَّى يُوَافق الْحصْر الَّذِي فِي الحَدِيث وَأجِيب من تَقْدِيم عِنْده وَأما بَيَان الْحصْر فِي إخواتها فَلَا يخفى على الْعَارِف بالقواعد وَمِنْهَا مَا قيل مَا وَجه الإنحصار فِي هَذِه الْخمس مَعَ أَن الْأُمُور الَّتِي لَا يعلمهَا إِلَّا الله كَثِيرَة أُجِيب بِأَنَّهُ إِمَّا لأَنهم كَانُوا سَأَلُوا الرَّسُول عَن هَذِه الْخمس فَنزلت الْآيَة جَوَابا لَهُم وَأما لِأَنَّهَا عَائِدَة إِلَى هَذِه الْخمس فَافْهَم وَمِنْهَا مَا قيل مَا النُّكْتَة فِي الْعُدُول عَن الْإِثْبَات إِلَى النَّفْي فِي قَوْله (وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا) وَكَذَا فِي التَّعْبِير بالدراية دون الْعلم وَأجِيب للْمُبَالَغَة والتعميم إِذا الدِّرَايَة اكْتِسَاب علم الشَّيْء بحيلة فَإِذا انْتَفَى ذَلِك عَن كل نفس مَعَ كَونه مُخْتَصًّا بهَا وَلم يَقع مِنْهُ على علم كَانَ عدم إطلاعه على علم غير ذَلِك من بَاب أولى وَمِنْهَا مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي سُؤال السَّاعَة حَيْثُ عرف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن وَقتهَا غير مَعْلُوم لخلق الله وَأجِيب بِأَن أَقَله التَّنْبِيه على أَنه لَا يطْمع أحد فِي التطلع إِلَيْهِ والفصل بَين مَا يُمكن مَعْرفَته وَمَا لَا يُمكن وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَمِنْهَا مَا قيل أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ فَقَط وَالنَّاس تعلمُوا الدّين من الْجَواب لَا مِنْهُ فَكيف قَالَ يعلم النَّاس بِإِسْنَاد التَّعْلِيم إِلَيْهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ لكا كَانَ سَببا فِيهِ أطلق الْمعلم عَلَيْهِ أَو لما كَانَ غَرَضه التَّعْلِيم أطلق عَلَيْهِ
(قَالَ أَبُو عبد الله جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان)
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ قَوْله " جعل " أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَشَارَ بذلك إِلَى مَا ذكر فِي الحَدِيث فَإِن قلت قَالَ(1/293)
البُخَارِيّ أَولا فَجعل ذَلِك كُله دينا وَقَالَ هَهُنَا جعل ذَلِك كُله من الْإِيمَان قلت أما جعله دينا فَظَاهر حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي آخر الحَدِيث " يعلم النَّاس دينهم " وَأما جعله إِيمَانًا فكلمة من إِمَّا تبعيضية وَالْمرَاد بِالْإِيمَان هُوَ الْإِيمَان الْكَامِل الْمُعْتَبر عِنْد الله تَعَالَى وَعند النَّاس فَلَا شكّ إِن الْإِسْلَام وَالْإِحْسَان داخلان فِيهِ وَأما ابتدائية وَلَا يخفى أَن مبدأ الْإِحْسَان وَالْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان بِاللَّه إِذْ لَوْلَا الْإِيمَان بِهِ لم تتَصَوَّر الْعِبَادَة لَهُ
38 - (بَاب)
كَذَا وَقع بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي الْوَقْت، وَسقط ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ من رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وَغَيرهمَا، وَرجح النَّوَوِيّ الأول، قَالَ: لِأَن التَّرْجَمَة، يَعْنِي: سُؤال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، عَن الْإِيمَان لَا يتَعَلَّق بهَا هَذَا الحَدِيث، فَلَا يَصح ادخاله فِيهِ، وَقد قيل: نفي التَّعْلِيق لَا يتم هُنَا على الْحَالين، لِأَنَّهُ إِن ثَبت لفظ بَاب بِلَا تَرْجَمَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله، فَلَا بُد لَهُ من تعلق بِهِ، وَإِن لم يثبت فتعلقه بِهِ مُتَعَيّن، لكنه يتَعَلَّق بقوله فِي التَّرْجَمَة: جعل ذَلِك كُله دينا. وَوجه بَيَان التَّعَلُّق أَنه سمى الدّين: إِيمَانًا فِي حَدِيث هِرقل، فَيتم مُرَاد البُخَارِيّ بِكَوْن الدّين هُوَ الْإِيمَان. فَإِن قلت: لَا حجَّة لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مَنْقُول عَن هِرقل. قلت: إِنَّه مَا قَالَه من قبل اجْتِهَاده. وَإِنَّمَا أخبر بِهِ عَن استقرائه من كتب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَيْضًا فهرقل قَالَه بِلِسَانِهِ الرُّومِي، فَرَوَاهُ عَنهُ أَبُو سُفْيَان بِلِسَانِهِ الْعَرَبِيّ، وألقاه إِلَى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهُوَ من عُلَمَاء اللِّسَان، فَرَوَاهُ عَنهُ، وَلم يُنكره، فَدلَّ على أَنه صَحِيح لفظا وَمعنى: وَقد يُقَال: إِن هَذَا لم يكن أمرا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ محاورة، وَلَا شكّ أَن محاوراتهم كَانَت على الْعرف الصَّحِيح الْمُعْتَبر الْجَارِي على الْقَوْلَيْنِ، فَجَاز الِاسْتِدْلَال بهَا. فَإِن قلت: بَاب، كَيفَ يقْرَأ؟ وَهل لَهُ حَظّ من الْإِعْرَاب؟ قلت: إِن قدرت لَهُ مُبْتَدأ يكون مَرْفُوعا على الخبرية، وَالتَّقْدِير: وَهَذَا بَاب، وَإِلَّا لَا يسْتَحق الْإِعْرَاب لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، وَيكون مثل الْأَسْمَاء الَّتِي تعد، وَهُوَ هُنَا بِمَنْزِلَة قَوْلهم بَين الْكَلَام: فصل كَذَا وَكَذَا، يذكرُونَهُ ليفصلوا بِهِ بَين الْكَلَامَيْنِ.
51 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شهابِ عنْ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ عبَّاس أَخْبَرَهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أبُو سُفْيَانَ أنّ هرقْلَ قَالَ لَهُ سأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصونَ فَزَعَمْتَ أنهُمْ يَزِيدُونَ وكَذلكَ الإيمانُ حتَّى يتَمَّ وسألْتُكَ هلْ يَرْتَدُّ أحدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَن يَدْخُلَ فيهِ فَزَعَمْتَ أَن لَا وكذلكَ الإيمانُ حِينَ تُخالِطُ بشَاشَتُهُ القُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أحدٌ.
(الحَدِيث 51 انْظُر الحَدِيث 7) .
لم يضع لهَذَا تَرْجَمَة، وَإِنَّمَا اقْتصر من حَدِيث أبي سُفْيَان الطَّوِيل على هَذِه الْقطعَة لتَعلق غَرَضه لَهَا، وَسَاقه فِي كتاب الْجِهَاد تَاما بِهَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي أوردهُ هَهُنَا، وَمثل هَذَا يُسمى: خرما، وَهُوَ أَن يذكر بعض الحَدِيث وَيتْرك الْبَعْض، فَمَنعه بَعضهم مُطلقًا، وَجوزهُ الْآخرُونَ، وَالصَّحِيح أَنه يجوز من الْعَالم إِذا كَانَ مَا تَركه غير مُتَعَلق بِمَا رَوَاهُ بِحَيْثُ لَا يخْتل الْبَيَان، وَلَا تخْتَلف الدّلَالَة، وَلَا فرق بَين أَن يكون قد رَوَاهُ قبل على التَّمام أَو لم يروه. قَالَ الْكرْمَانِي: فَمِمَّنْ وَقع هَذَا الخرم؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من الزُّهْرِيّ لَا من البُخَارِيّ لاخْتِلَاف شُيُوخ الإسنادين بِالنِّسْبَةِ إِلَى البُخَارِيّ، فَلَعَلَّ شَيْخه: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة لم يذكر فِي مقَام الِاسْتِدْلَال على أَن الْإِيمَان دين إلاَّ هَذَا الْقدر. قلت: كَيفَ يكون الخرم من الزُّهْرِيّ وَقد أخرجه البُخَارِيّ بِتَمَامِهِ بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي كتاب الْجِهَاد؟ وَلَيْسَ الخرم إلاَّ من البُخَارِيّ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة بن مُحَمَّد بن مُصعب بن عبد الله بن زبير بن الْعَوام، الْقرشِي الْأَسدي الْمدنِي، روى عَن جمَاعَة من الْكِبَار، وروى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، قَالَ ابْن سعد: ثِقَة صَدُوق، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الْمدنِي، وَقد مر فِيمَا مضى. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان الْغِفَارِيّ الْمدنِي، وَتقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَتقدم ذكره غير(1/294)
مرّة. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، ابْن عتبَة بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ وَقد مر ذكره. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن بَينه وَبَين الزُّهْرِيّ هَهُنَا ثَلَاثَة أنفس. وَفِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم الَّذِي فِيهِ قصَّة هِرقل شَيْخَانِ هما: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة.
ثمَّ أعلم أَنا قد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي أول الْكتاب، غير أَن فِيهِ هَهُنَا بعض التغييرات فِي الْأَلْفَاظ نشِير إِلَيْهَا. فَنَقُول قَوْله: (هَل يزِيدُونَ) وَقع هُنَا: (أيزيدون) ، بِالْهَمْزَةِ وَكَانَ الْقيَاس بِالْهَمْزَةِ، لِأَن: أم، الْمُتَّصِلَة مستلزمة للهمزة، وَلَكِن نقُول: إِن: أم، هَهُنَا مُنْقَطِعَة لَا مُتَّصِلَة، تَقْدِيره: بل ينقصُونَ حَتَّى يكون إضرابا عَن سُؤال الزِّيَادَة، واستفهاما عَن النُّقْصَان، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا مُتَّصِلَة لَكِنَّهَا لَا تَسْتَلْزِم الْهمزَة بل الِاسْتِفْهَام، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أم، لَا تقع إلاَّ فِي الِاسْتِفْهَام إِذا كَانَت مُتَّصِلَة، فَهُوَ أَعم من الْهمزَة، فَإِن قيل: شَرط بعض النُّحَاة وُقُوع الْمُتَّصِلَة بَين الإسمين. قلت: قد صَرَّحُوا أَيْضا بِأَنَّهَا لَو وَقعت بَين الْفِعْلَيْنِ جَازَ اتصالها، لَكِن بِشَرْط أَن يكون فَاعل الْفِعْلَيْنِ متحدا كَمَا فِي مَسْأَلَتنَا. فَإِن قلت: الْمَعْنى على تَقْدِير الِاتِّصَال غير صَحِيح، لِأَن: هَل، لطلب الْوُجُود، و: أم: الْمُتَّصِلَة لطلب التَّعْيِين، سِيمَا فِي هَذَا الْمقَام فَإِنَّهُ ظَاهر أَنه للتعيين. قلت: يجب حمل مطلب: هَل، على أَعم مِنْهُ تَصْحِيحا للمعنى، وتطبيقا بَينه وَبَين الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي أول الْكتاب. قَوْله: (فَزَعَمت) ، وَفِيمَا مضى: (فَذكرت) . قَوْله: (وَكَذَلِكَ أَمر الْإِيمَان) وَفِيمَا مضى: (وَكَذَلِكَ الْإِيمَان) . قَوْله: (هَل يرْتَد) ، وَفِيمَا مضى: (أيرتد) . قَوْله: (فَزَعَمت) وَفِيمَا مضى: (فَذكرت) . قَوْله: (لَا يسخطه أحد) ، لم يذكر فِيمَا مضى.
39 - (بابُ فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرأَ لِدِينِهِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن قَوْله: بَاب، مَرْفُوع مُضَاف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة، و: اسْتَبْرَأَ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الرَّاجِع إِلَى: من، صلَة للموصولة. و: اسْتَبْرَأَ، استفعل، أَي: طلب الْبَرَاءَة لدينِهِ من الذَّم الشَّرْعِيّ، أَي: طلب الْبَرَاءَة من الْإِثْم. يُقَال: بَرِئت من الدُّيُون والعيوب، وبرئت مِنْك بَرَاءَة، وبرئت من الْمَرَض بُرأ، بِالضَّمِّ، وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ: برأت من الْمَرَض برأَ، بِالْفَتْح، وَيَقُول كلهم فِي الْمُسْتَقْبل: يبرأ بِالْفَتْح، وبرأ الله الْخلق برأَ أَيْضا، بِالْفَتْح، وَهُوَ البارىء. وَفِي (الْعباب) : والتركيب يدل على التباعد عَن الشَّيْء ومزايلته، وعَلى الْخلق. قَوْله: (لدينِهِ) أَي لأجل دينه. النَّوْع الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول بَيَان الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالْإِحْسَان، وَإِن ذَلِك كُله دين، وَالْمَذْكُور هَهُنَا الِاسْتِبْرَاء للدّين الَّذِي يَشْمَل الْإِيمَان وَالْإِحْسَان، وَلَا شكّ أَن الِاسْتِبْرَاء للدّين من الدّين. النَّوْع الثَّالِث: وَجه التَّرْجَمَة وَهُوَ أَنه لما أَرَادَ أَن يذكر حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله عَنهُ، عقيب حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، للمناسبة الَّتِي ذَكرنَاهَا، عقد لَهُ بَابا. وَترْجم لَهُ بقوله: فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ، وَعين هَذَا اللَّفْظ لعمومه واشتماله سَائِر أَلْفَاظ الحَدِيث، وَإِنَّمَا لم يقل: اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، اكْتِفَاء بقوله: دينه، لِأَن الِاسْتِبْرَاء للدّين لَازم للاستبراء للعرض لِأَن الِاسْتِبْرَاء للعرض لأجل الْمُرُوءَة فِي صون عرضه، وَذَلِكَ من الْحيَاء، وَالْحيَاء من الْإِيمَان، فالاستبراء للعرض أَيْضا من الْإِيمَان.
52 - حدّثنا أبُو نَعِيْمٍ حدّثنا زَكَرياءُ عَن عامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعمْانَ بنَ بَشِيرٍ يقولُ سَمِعْتُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقولُ الحَلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ وَبيْنِهما مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَات اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِي يَرْعَى حَولَ الحِمى يُوشِكُ أَن يُواقِعَهُ أَلا وإنّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إنّ حِمَى اللَّهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وإنّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كُلُّهُ وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وهْيَ القَلبُ.
(الحَدِيث 25 طرفه فِي: 2051) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَنه أَخذ جزأ مِنْهُ وَترْجم بِهِ كَمَا ذكرنَا.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول:(1/295)
أَبُو نعيم، بِضَم النُّون، الْفضل، بالضاد الْمُعْجَمَة، ابْن دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، وَهُوَ لقب لَهُ، واسْمه عَمْرو ابْن حَمَّاد بن زُهَيْر الْقرشِي التَّيْمِيّ الطلحي الْملَائي، مولى آل طَلْحَة بن عبد الله، وَكَانَ يَبِيع الملاء فَقيل لَهُ: الْملَائي، بِضَم الْمِيم وَالْمدّ. سمع الْأَعْمَش وَغَيره من الْكِبَار، وَقل من يُشَارِكهُ فِي كَثْرَة الشُّيُوخ، وَعنهُ أَحْمد وَغَيره من الْحفاظ. قَالَ أَبُو نعيم: شاركت الثَّوْريّ فِي أَرْبَعِينَ شَيخا أَو خمسين شَيخا، وَاتَّفَقُوا على الثَّنَاء عَلَيْهِ، وَوَصفه بِالْحِفْظِ والاتقان. وَقَالَ أَيْضا: أدْركْت ثَمَانمِائَة شيخ، مِنْهُم الْأَعْمَش فَمن دونه، فَمَا رَأَيْت أحدا يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمَا تكلم أحد بِهَذَا إلاَّ رُمِيَ بالزندقة. وروى البُخَارِيّ عَنهُ بِغَيْر وَاسِطَة، وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِوَاسِطَة، ولد سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَمَات سنة ثَمَان، أَو: تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ بِالْكُوفَةِ. الثَّانِي: زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة، واسْمه: خَالِد بن مَيْمُون الْهَمدَانِي الْكُوفِي، سمع جمعا من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ والسبيعي، وَعنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة وَخلق، وَمَات سنة سبع أَو تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة. قَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عَامر الشّعبِيّ وَقد تقدم ذكره. الرَّابِع: النُّعْمَان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة، ابْن سعد بن ثَعْلَبَة بن خلاس، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأمه عمْرَة بنت رَوَاحَة أُخْت عبد الله بن رَوَاحَة، ولد بعد أَرْبَعَة عشر شهرا من الْهِجْرَة، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد للْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: ولد هُوَ وَعبد الله بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، فِي الْعَام الثَّانِي من الْهِجْرَة، وَقَالَ ابْن الزبير: هُوَ أكبر مني، رُوِيَ لَهُ مائَة حَدِيث وَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا، قتل فِيمَا بَين دمشق وحمص يَوْم وَاسِط سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ زبيريا، وَقَالَ عَليّ بن عُثْمَان النُّفَيْلِي، عَن أبي مسْهر: كَانَ النُّعْمَان بن بشير عَاملا على حمص لِابْنِ الزبير، لما تمردت أهل حمص خرج هَارِبا، فَاتبعهُ خَالِد بن حلى الكلَاعِي فَقتله، وَقَالَ الْمفضل بن غَسَّان الْغلابِي: قتل فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسلمية وَهُوَ صَحَابِيّ ابْن صَحَابِيّ ابْن صحابية، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه النُّعْمَان بن بشير غير هَذَا، فَهُوَ من الْأَفْرَاد، وَمِنْهُم: النُّعْمَان، جماعات فَوق الثَّلَاثِينَ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم كوفيون، وَقد دخل النُّعْمَان الْكُوفَة وَولي إمرتها وَقد روى أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه من طَرِيق ابْن أبي جرير، بِفَتْح الْحَاء المهمة فِي آخِره زَاي مُعْجمَة، عَن الشّعبِيّ: أَن النُّعْمَان بن بشير خطب بِهِ بِالْكُوفَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَنه خطب بِهِ بحمص، والتوفيق بَينهمَا بِأَنَّهُ سمع مرَّتَيْنِ، فَإِن النُّعْمَان ولي إمرة البلدتين وَاحِدَة بعد أُخْرَى. وَمِنْهَا: أَن هَذَا وَقع للْبُخَارِيّ رباعيا من جِهَة شَيْخه أَبُو نعيم، وَوَقع لَهُ من جِهَة غَيره خماسياً لما سَيَأْتِي، وَوَقع لمُسلم فِي أَعلَى طرقه خماسياً. وَمِنْهَا أَن فِيهِ التَّصْرِيح. بِسَمَاع النُّعْمَان بن بشير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه رد على من يَقُول: لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: قَالَ أهل الْمَدِينَة: لَا يَصح للنعمان سَماع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكَاهُ القَاضِي عِيَاض عَن يحيى بن معِين، ويحكى عَن الْوَاقِدِيّ أَيْضا. وَقَالَ أهل الْعرَاق: سَمَاعه صَحِيح، وَيدل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق زَكَرِيَّا، وأهوى النُّعْمَان بإصبعيه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَهَذَا تَصْرِيح بِسَمَاعِهِ، وَكَذَا قَول النُّعْمَان: هَهُنَا سَمِعت، وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المحكي عَن قَول أهل الْمَدِينَة بَاطِل أَو ضَعِيف. قلت: وَهُوَ مِمَّن تحمل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبيا، وَأَدَّاهُ بَالغا وَفِيه دَلِيل على صِحَة تحمل الصَّبِي الْمُمَيز لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ والنعمان ابْن ثَمَان سِنِين. فَإِن قلت: إِن زَكَرِيَّا مَوْصُوف بالتدليس وَهَهُنَا قد عنعن، وَكَذَا فِي غير هَذِه الرِّوَايَة لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن الشّعبِيّ، إلاَّ مُعَنْعنًا. قلت: ذكر فِي فَوَائِد أبي الْهَيْثَم من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن زَكَرِيَّا قَالَ: حَدثنَا الشّعبِيّ فَحصل الْأَمْن من تدليسه. فَإِن قلت: قد قَالَ أَبُو عمر: هَذَا الحَدِيث لم يروه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير النُّعْمَان بن بشير، وَلم يروه عَن النُّعْمَان غير الشّعبِيّ. قلت: أما الأول: فَإِن كَانَ مُرَاده من وَجه صَحِيح فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا فَلَا نسلم، لِأَنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث ابْن عمر وعمار وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُم، أخرج حَدِيثهمْ الطَّبَرَانِيّ، وَكَذَا رُوِيَ من حَدِيث وَاثِلَة، أخرجه الْأَصْبَهَانِيّ، وَفِي أسانيدها مقَال. وَأما الثَّانِي: فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن النُّعْمَان أَيْضا خَيْثَمَة بن عبد الرَّحْمَن، أخرجه أَحْمد وَعبد الْملك بن عُمَيْر، أخرجه أَبُو عوَانَة وَسَالم بن حَرْب، أخرجه الطَّبَرَانِيّ، وَلكنه مَشْهُور عَن الشّعبِيّ، رَوَاهُ عَنهُ خلق كثير من الْكُوفِيّين، وَرَوَاهُ عَنهُ من الْبَصرِيين عبد الله بن عون، وَقد سَاق البُخَارِيّ إِسْنَاده فِي الْبيُوع على مَا نذكرهُ الْآن، وَلم يسق لَفظه، وَسَاقه أَبُو دَاوُد.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا عَن عَامر عَنهُ بِهِ، وَأخرجه فِي الْبيُوع عَن عَليّ بن عبد الله، وَعبد الله بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، كِلَاهُمَا عَن أبي(1/296)
فَرْوَة الْهَمدَانِي، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن عبد الله بن عون، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن زَكَرِيَّا بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن مطرف وَأبي فَرْوَة، وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده عَن خَالِد بن يزِيد، وَعَن سعيد بن أبي هِلَال عَن عون بن عبد الله بن عتبَة، وَعَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عجلَان عَن عبد الرَّحْمَن بن سعيد، أربعتهم عَنهُ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن عِيسَى بن يُونُس بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي شهَاب الحناط عَن ابْن عون بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن مجَالد عَنهُ نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن حميد بن مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عَمْرو بن رَافع عَن ابْن الْمُبَارك عَن زَكَرِيَّا بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (الْحَلَال) هُوَ ضد الْحَرَام وَهُوَ من: حل يحل من بَاب ضرب يضْرب، وَأما حلَّ بِالْمَكَانِ فَهُوَ من بَاب: نصر ينصر، ومصدره: حل وحلول وَمحل، وَالْمحل: الْمَكَان الَّذِي تحل فِيهِ، وَمن هَذَا الْبَاب: حللت الْعقْدَة أحلهَا حلا إِذا فتحتها، وَمن الأول: حل الْمحرم يحل حَلَالا، وَمن الثَّانِي: حل الْعَذَاب يحل، أَي: وَجب، وَأحل الله الشَّيْء: جعله حَلَالا وَأحل الْمحرم من الْإِحْرَام مثل: حل، وأحللنا، دَخَلنَا فِي شهور الْحل، وَأحلت الشَّاة: إِذا نزل اللَّبن فِي ضرْعهَا، والتحليل ضد التَّحْرِيم، تَقول: حللته تحليلاً وتحلة وتحللته إِذا سَأَلته أَن يجعلك فِي حل من قبله، واستحل الشَّيْء عده حَلَالا، وتحلحل عَن مَكَانَهُ إِذا زَالَ. قَوْله: (بَين) أَي ظَاهر، من بَاب: يبين بَيَانا إِذا اتَّضَح، وَهُوَ على وزن: فيعل، إِمَّا بِمَعْنى بَائِن، أَو هُوَ صفة مشبهة. قَوْله: (وَالْحرَام) ، هُوَ ضد الْحَلَال، وَكَذَلِكَ الْحَرَام، بِكَسْر الْحَاء، وَرجل حرَام: أَي محرم، وَالتَّحْرِيم ضد التَّحْلِيل، وبابه من حرم الشَّيْء، بِالضَّمِّ، حُرْمَة. وَأما حرمه الشَّيْء يحرمه حرما مثل: سَرقه سرقا، بِكَسْر الرَّاء، وحريمة وحرمانا، وأحرمه أَيْضا إِذا مَنعه، وَأما حرم الرجل، بِالْكَسْرِ، يحرم، بِالْفَتْح، إِذا قمر، وأحرمته أَنا إِذا أقمرته، وَيُقَال: حرمت الصَّلَاة على الْمَرْأَة بِالْكَسْرِ، لُغَة فِي حرمت، وَأحرم: دخل فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَأحرم أَيْضا بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة. قَوْله: (مُشْتَبهَات) جَاءَ فِيهِ خمس رِوَايَات. الأولى: متشبهات، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، على وزن: مفتعلات، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه. الثَّانِيَة: مُشْتَبهَات، بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الشين الْمُشَدّدَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة، على وزن: متفعلات، وَهِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ. الثَّالِثَة: مشبهات، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة، على وزن: مفعلات، وَهِي رِوَايَة السَّمرقَنْدِي وَرِوَايَة مُسلم. الرَّابِعَة: مثلهَا غير أَن باءها مَكْسُورَة، على وزن: مفعلات، على صِيغَة الْفَاعِل. الْخَامِسَة: مشبهات بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة؛ وَالْكل من: اشْتبهَ الْأَمر: إِذا لم يَتَّضِح، غير أَن معنى الأولى المشكلات من الْأُمُور، لما فِيهِ من شبه الطَّرفَيْنِ المتخالفين، فَيُشبه مرّة هَذَا وَمرَّة هَذَا، وَكَذَلِكَ معنى الثَّانِيَة غير أَن فِيهِ معنى التَّكَلُّف، وَمعنى الثَّالِثَة أَنَّهَا مشبهات بغَيْرهَا مِمَّا لم يتَيَقَّن فِيهِ حكمهَا على التَّعْيِين، وَيُقَال: مَعْنَاهَا مشبهات بالحلال. وَمعنى الرَّابِعَة أَنَّهَا مشبهات أَنْفسهَا بالحلال وَمعنى الْخَامِسَة: مثل الرَّابِعَة، غير أَن الأولى من بَاب التفعيل، وَالثَّانيَِة من بَاب الْأَفْعَال. قَالَ القَاضِي: فِي الثَّلَاثَة الأول كلهَا بِمَعْنى: مشكلات، وَيشْتَبه يفتعل، أَي يشكل، وَمِنْه: {أَن الْبَقر تشابه علينا} (الْبَقَرَة: 70) قَوْله: (فَمن اتَّقى) أَي: حذر. (المشتبهات) وَهِي جمع: مشتبهة، وَالِاخْتِلَاف فِي لَفظهَا من الروَاة كَالَّتِي قبلهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي: (فَمن اتَّقى الشُّبُهَات) بِدُونِ الْمِيم، وَهِي جمع شُبْهَة، وَهِي الالتباس. وأصل: اتَّقى أوتقى، لِأَنَّهُ من وقى يقي وقاية، فقلبت الْوَاو تَاء، وأدغمت التَّاء فِي التَّاء. قَوْله: (اسْتَبْرَأَ) ، بِالْهَمْزَةِ، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ. قَوْله: (لعرضه) ، بِكَسْر الْعين، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، ذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الْقَائِل إِذا ذكر عرض فلَان فَمَعْنَاه أُمُوره الَّتِي يرْتَفع بهَا أَو يسْقط بذكرها، وَمن جِهَتهَا يحمد ويذم، فَيجوز أَن يكون أمورا يُوصف هُوَ بهَا دون أسلافه، وَيجوز أَن تذكر أسلافه لتلحقه النقيصة بعيبهم، وَلَا يعلم من أهل اللُّغَة خِلَافه إلاَّ مَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة، فَإِنَّهُ أنكر أَن يكون الْعرض الأسلاف، وَزعم أَن عرض الرجل نَفسه، يُقَال: أكرمت عَنهُ عرضي، أَي: صنت عَنهُ نَفسِي، و: فلَان نقي الْعرض أَي بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب، وَقيل: عرض الرجل(1/297)
جَانِبه الَّذِي يصونه فِي نَفسه، وحسبه ويحامي عَنهُ، قَالَ عنترة:
(فَإِذا شربت فإنني مستهلك ... مَالِي، وعرضي وافر لم يكلم)
قَوْله: (وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) ، بِضَم الشين وَالْبَاء، وفيهَا من اخْتِلَاف الروَاة مَا تقدم. قَوْله: (الْحمى) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتح الْمِيم المخففة، وَهُوَ مَوضِع حظره الإِمَام لنَفسِهِ وَمنع الْغَيْر عَنهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: حميته إِذا دفعت عَنهُ، وَهَذَا شَيْء حمي: أَي مَحْظُور: لَا يقرب؛ وَقَالَ بَعضهم: الْحمى المحمي أطلق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصدر بل هُوَ: اسْم مصدر، ومصدر: حمى يحمي حماية. قَوْله: (يُوشك) بِكَسْر الشين أَي: يقرب. قَوْله: (أَن يُوَافقهُ) أَي يَقع فِيهِ قَوْله: (مَحَارمه) أَي: مَعَاصيه الَّتِي حرمهَا: كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَة، وَهُوَ جمع محرم، وَهُوَ الْحَرَام، وَمِنْه يُقَال هُوَ ذُو محرم مِنْهَا إِذا لم يحل لَهُ نِكَاحهَا، ومحارم اللَّيْل مخاوفها الَّتِي يحرم على الجبان أَن يسلكها. قَوْله: (مُضْغَة) أَي: قِطْعَة من اللَّحْم سميت بذلك لِأَنَّهَا تمضغ فِي الْفَم لصغرها. قَوْله: (صلحت) ، بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا، وَالْفَتْح أصح، وَفِي (الْعباب) : الصّلاح ضد الْفساد، تَقول: صلح الشَّيْء يصلح صلوحا، مِثَال: دخل يدْخل دُخُولا. وَقَالَ الْفراء: حكى أَصْحَابنَا أَيْضا بِضَم اللَّام. قَوْله: (فسد) من فسد الشَّيْء يفْسد فَسَادًا وفسودا فَهُوَ فَاسد، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: فسد يفْسد، مِثَال: قعد يقْعد، لُغَة ضَعِيفَة، وَقوم فسدى، كَمَا قاولوا: سَاقِط وسقطي، وَكَذَلِكَ: فسد، بِضَم السِّين، فَسَادًا فَهُوَ فسيد، وَقَالَ اللَّيْث: الْفساد ضد الصّلاح، والمفسدة خلاف الْمصلحَة، وَفِي (الْعباب) الْفساد أَخذ المَال بِغَيْر حق، هَكَذَا فسر مُسلم البطين قَوْله تَعَالَى: {للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا} (الْقَصَص: 83) قَوْله: (الْقلب) ، وَفِي (الْعباب) : الْقلب: الْفُؤَاد، وَقد يعبر بِهِ عَن الْعقل، وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} (ق: 37) أَي: عقل، يُقَال: مَا قَلْبك مَعَك أَي: مَا عقلك. وَقيل: الْقلب أخص من الْفُؤَاد، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: وَفِي الْبَطن الْفُؤَاد وَهُوَ الْقلب، سمي بِهِ لتقلبه فِي الْأُمُور، وَقيل: لِأَنَّهُ خَالص مَا فِي الْبدن، إِذْ خَالص كل شَيْء قلبه، وَأَصله مصدر قلبت الشَّيْء أقلبه قلبا إِذا رَددته عَليّ بِذَاتِهِ، وقلبت الْإِنَاء رَددته على وَجهه، وقلبت الرجل عَن رَأْيه وَعَن طَرِيقه إِذا صرفته عَنهُ، ثمَّ نقل وسمى بِهِ هَذَا الْعُضْو الشريف لسرعة الخواطر فِيهِ وترددها عَلَيْهِ، وَقد نظم بَعضهم هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ:
(مَا سمي الْقلب إلاَّ من تقلبه ... فاحذر على الْقلب من قلب وتحويل)
وَكَانَ مِمَّا يَدْعُو بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ، ثمَّ إِن الْعَرَب لما نقلته لهَذَا الْعُضْو التزمت فِيهِ التفخيم فِي قافه، للْفرق بَينه وَبَين أَصله، وَقد قَالَ بَعضهم: ليحذر اللبيب من سرعَة انقلاب قلبه، إِذْ لَيْسَ بَين الْقلب وَالْقلب إلاَّ التفخيم، وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ كل ذِي فهم مُسْتَقِيم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (الْحَلَال) مُبْتَدأ و (بَين) خَبره، وَكَذَلِكَ (الْحَرَام بَين) : مُبْتَدأ وَخبر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) ، وَلَكِن الْخَبَر هَهُنَا مقدم وَهُوَ الظّرْف. قَوْله: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لقَوْله (مُشْتَبهَات) . قَوْله: (فَمن اتَّقى) ، كلمة: من، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَقَوله: (اتَّقى الشُّبُهَات) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: اتَّقى، الْعَائِد إِلَى: من، وَالْمَفْعُول، وَهُوَ قَوْله: (الشُّبُهَات) ، صلَة لَهَا، وَقَوله: (اسْتَبْرَأَ) خَبره، و (لعرضه) يتَعَلَّق بِهِ. قَوْله: (من وَقع) إِلَخ، كلمة من هَهُنَا يجوز أَن تكون شَرْطِيَّة، وَيجوز أَن تكون مَوْصُولَة. فَإِذا كَانَت شَرْطِيَّة فَقَوله: وَقع فِي الشُّبُهَات، جملَة وَقعت فعل الشَّرْط، وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره. وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام. وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الدَّارمِيّ عَن أبي نعيم شيخ البُخَارِيّ بِإِظْهَار الْجَواب، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق زَكَرِيَّا الَّتِي أخرجه مِنْهَا البُخَارِيّ. وَقَوله: (كرَاع يرْعَى حول الْحمى) جملَة مستأنفة، وَقَوله: كرَاع، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي مثله كرَاع أَي مثل رَاع يرْعَى وَقَوله: (يرْعَى) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل صفة لراع، أَو الْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِير: كرَاع يرْعَى مواشيه. وَقَوله: (حول الْحمى) كَلَام إضافي نصب على الظّرْف. وَقَوله: (يُوشك إِن يواقعه) جملَة وَقعت صفة أُخْرَى لراع ويوشك، من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ مثل كَاد وَعَسَى فِي الِاسْتِعْمَال: أَعنِي تَارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال: كَاد، بِأَن يرفع الْفِعْل، وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن متأول باسم الْفِعْل، نَحْو: يُوشك زيد يَجِيء، أَي: جائيا، نَحْو: كَاد زيد يَجِيء. وَتارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال عَسى، بِأَن يكون فاعلها على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون إسما نَحْو: عَسى زيد أَن يخرج، فزيد فَاعل، وَأَن يخرج فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ يمنزلة: قَارب زيد الْخُرُوج، وَالْآخر: أَن يكون مَعَ صلتها فِي مَوضِع الرّفْع: نَحْو عَسى أَن يخرج زيد، فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه، وَكَذَلِكَ يُوشك زيد أَن يجىء، ويوشك أَن يَجِيء زيد. وَفِي قَوْله: (يُوشك)(1/298)
ضمير هُوَ فَاعله. وَقَوله: (إِن يواقعه) فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة يُقَارب الرَّاعِي المواقعة فِي الْحمى، وَأَعَادَهُ الْكرْمَانِي إِلَى الْحَرَام، وَمَا قُلْنَا أوجه وأصوب. وَأما إِذا كَانَت مَوْصُولَة فَتكون مَرْفُوعَة بِالِابْتِدَاءِ، وخبرها هُوَ قَوْله: كرَاع يرْعَى، وَلَا يكون فِيهِ حذف، وَالتَّقْدِير: الَّذِي وَقع فِي الشُّبُهَات كرَاع يرْعَى، أَي: مثل رَاع يرْعَى مواشيه حول الْحمى، وَقَوله: يُوشك اسْتِئْنَاف قَوْله: (أَلا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، وحرف التَّنْبِيه، فَيدل على تحقق مَا بعْدهَا، وَتدْخل على الجملتين نَحْو: {أَلا أَنهم هم السُّفَهَاء} (الْبَقَرَة: 13) {أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم} (هود: 8) . وإفادتها التَّحْقِيق من جِهَة تركيبها من الْهمزَة، و: لَا وهمزة الِاسْتِفْهَام إِذا دخلت على النَّفْي أفادت التَّحْقِيق نَحْو: {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} (الْقِيَامَة: 40) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ولكونها بِهَذَا المنصب من التَّحْقِيق لَا تقع الْجُمْلَة بعْدهَا إلاَّ مصدرة بِنَحْوِ مَا يتلَقَّى بِهِ الْقسم، نَحْو: {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله} (يُونُس: 62) قَوْله: (أَلا وَإِن لكل ملك حمى) ، الْوَاو فِيهِ عطف على مُقَدّر تَقْدِيره: أَلا إِن الْأَمر كَمَا تقدم، وَإِن لكل ملك حمى. وَقَوله: (حمى) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن، وخبرها هُوَ قَوْله: (لكل ملك) مقدما. قَوْله: (أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه) ، هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (أَلا إِن حمى الله فِي أرضه مَحَارمه) . وَفِي رِوَايَة أبي فَرْوَة: (مَعَاصيه) بدل: مَحَارمه، وَلم يذكر: الْوَاو، هَهُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره بِالْوَاو: (أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه) فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر: الْوَاو، هَهُنَا وَتركهَا؟ وَمَا وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (إِلَّا وَإِن فِي الْجَسَد) ؟ قلت: أما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (أَلا وَإِن حمى الله) فبالنظر إِلَى وجود التناسب بَين الجملتين من حَيْثُ ذكر الْحمى فِيهَا، وَأما وَجه تَركهَا فبالنظر إِلَى بعد الْمُنَاسبَة بَين حمى الْمُلُوك، وَبَين حمى الله الَّذِي هُوَ الْملك الْحق لَا ملك حَقِيقَة الإل هـ تَعَالَى، وَأما وَجه ذكرهَا فِي قَوْله: (أَلا وَإِن فِي الْجَسَد) ، فبالنظر إِلَى وجود الْمُنَاسبَة بَين جملتين نظرا إِلَى أَن الأَصْل فِي الاتقاء والوقوع هُوَ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ عماد الْأَمر وملاكه، وَبِه قوامه ونظامه، وَعَلِيهِ تبنى فروعه، وَبِه تتمّ أُصُوله، قَوْله: (مُضْغَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم إِن وخبرها هُوَ قَوْله: (فِي الْجَسَد) مقدما. وَقَوله: (إِذا صلحت) أَي: المضغة وَهِي: الْقلب، وَكلمَة إِذا هَهُنَا بِمَعْنى: إِن، لِأَن مَدْخُول: إِذا، لَا بُد أَن يكون مُتَحَقق الْوُقُوع، وَهَهُنَا الصّلاح غير مُتَحَقق لاحْتِمَال الْفساد، والقرينة على ذَلِك ذكر الْمُقَابل فَافْهَم. قَوْله: (صلح الْجَسَد) جَوَاب: إِذا، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: (وَإِذا فَسدتْ) . قَوْله: (وَهِي الْقلب) جملَة إسمية بِالْوَاو، وَأَيْضًا عطف على مُقَدّر.
بَيَان الْمعَانِي: أجمع الْعلمَاء على عظم موقع هَذَا الحَدِيث، وَأَنه أحد الْأَحَادِيث الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام. قَالَت جمَاعَة: هُوَ ثلث الْإِسْلَام، وان الاسلام يَدُور عَلَيْهِ وعَلى حَدِيث. (الاعمال بِالنِّيَّاتِ) ، وَحَدِيث: (من حسن اسلام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه) . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يَدُور على أَرْبَعَة أَحَادِيث هَذِه الثَّلَاثَة وَحَدِيث: (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) . قَالُوا: سَبَب عظم موقعه انه، عَلَيْهِ السَّلَام، نبه فِيهِ على صَلَاح الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمنكح وَغَيرهَا، وانه يَنْبَغِي أَن يكون حَلَالا، وأرشد إِلَى معرفَة الْحَلَال، وَأَنه يَنْبَغِي ترك المشتبهات، فَإِنَّهُ سَبَب لحماية دينه وَعرضه، وحذر من مواقعة الشُّبُهَات، وأوضح ذَلِك بِضَرْب الْمثل بالحمى، ثمَّ بَين أهم الْأُمُور وَهُوَ: مُرَاعَاة الْقلب. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يُمكن أَن ينتزع من هَذَا الحَدِيث وَحده جَمِيع الْأَحْكَام، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لِأَنَّهُ اشْتَمَل على التَّفْصِيل بَين الْحَلَال وَغَيره، وعَلى تعلق جَمِيع الْأَعْمَال بِالْقَلْبِ فَمن هُنَا يُمكن أَن يرد إِلَيْهِ جَمِيع الاحكام. قَوْله: (الْحَلَال بَين) بِمَعْنى: ظَاهر، بِالنّظرِ إِلَى مَا دلّ على الْحل بِلَا شُبْهَة، اَوْ على الْحَرَام بِلَا شُبْهَة، (وَبَينهمَا مُشْتَبهَات) أَي: الوسائط الَّتِي يكتنفها دليلان من الطَّرفَيْنِ، بِحَيْثُ يَقع الِاشْتِبَاه ويعسر، تَرْجِيح دَلِيل أحد الطَّرفَيْنِ إلاّ عِنْد قَلِيل من الْعلمَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَن الْأَشْيَاء ثَلَاثَة أَقسَام: حَلَال وَاضح لَا يخفى حلّه كاكل الْخبز والفواكه، وكالكلام وَالْمَشْي وَغير ذَلِك. وَحرَام بَين: كَالْخمرِ وَالدَّم وَالزِّنَا وَالْكذب واشباه ذَلِك. واما المشبهات: فَمَعْنَاه أَنَّهَا لَيست بواضحة الْحل وَالْحُرْمَة، وَلِهَذَا لَا يعرفهَا كثير من النَّاس، وَأما الْعلمَاء فيعرفون حكمهَا بِنَصّ أَو قِيَاس أَو اسْتِصْحَاب وَغَيره، فَإِذا تردد الشَّيْء بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَلم يكن نَص وَلَا إِجْمَاع، اجْتهد فِيهِ الْمُجْتَهد فألحقه بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، فَإِذا ألحقهُ بِهِ صَار حَلَالا أَو حَرَامًا. وَقد يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاجْتِهَاد، فَيكون الْوَرع تَركه. وَمَا لم يظْهر للمجتهد فِيهِ شَيْء، وَهُوَ مشتبه، فَهَل يُؤْخَذ بِالْحلِّ أَو الْحُرْمَة؟ أَو يتَوَقَّف فِيهِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض عَن أَصْحَاب الْأُصُول، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مخرجة على الْخلاف الْمَعْرُوف فِي حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرْع، وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب: أَحدهَا:، وَهُوَ الْأَصَح انه: لَا يحكم بتحليل وَلَا تَحْرِيم وَلَا إِبَاحَة وَلَا غَيرهَا، لِأَن التَّكْلِيف عِنْد أهل الْحق لَا يثبت إلاَّ بِالشَّرْعِ. وَالثَّانِي: ان الحكم الْحل أَو الْإِبَاحَة. وَالثَّالِث: الْمَنْع.(1/299)
وَالرَّابِع: الْوَقْف. وَقَالَ الْمَازرِيّ: المشتبهات الْمَكْرُوه لَا يُقَال فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام بَين. وَقَالَ غَيره: فَيكون الْوَرع تَركه، وَقَالَ الْخطابِيّ: من أَمْثِلَة المتشابهات مُعَاملَة من كَانَ فِي مَاله شُبْهَة، أَو خالطه رَبًّا، فَهَذَا يكره مُعَامَلَته. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا شكّ أَن ثَمَّ أموراً جلية التَّحْرِيم، وأموراً جلية التَّحْلِيل، وأموراً مترددة بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَهُوَ الَّذِي تتعارض فِيهَا الْأَدِلَّة، فَهِيَ المشتبهات، وَاخْتلف فِي حكمهَا. فَقيل: حرَام لِأَنَّهَا توقع فِي الْحَرَام، وَقيل: مَكْرُوهَة، والورع تَركهَا. وَقيل: لَا يُقَال فِيهَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَالصَّوَاب الثَّانِي، لِأَن الشَّرْع أخرجهَا من الْحَرَام فَهِيَ مرتاب فِيهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك) ، فَهَذَا هُوَ الْوَرع. وَقَالَ بعض النَّاس: إِنَّهَا حَلَال يتورع عَنْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيست هَذِه عبارَة صَحِيحَة، لِأَن أقل مَرَاتِب الْحَلَال ان يَسْتَوِي فعله وَتَركه، فَيكون مُبَاحا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوَرع، فَإِنَّهُ إِن ترجح أحد طَرفَيْهِ على الآخر خرج عَن ان يكون مُبَاحا، وَحِينَئِذٍ: إِمَّا أَن يكون تَركه راجحاً على فعله، وَهُوَ الْمَكْرُوه، أَو فعله راجحاً على تَركه وَهُوَ الْمَنْدُوب، فَأَما مثل مَا تقدم مِمَّا يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاحْتِمَال الْبَين: كَجلْد الْميتَة بعد الدّباغ، فَإِنَّهُ غير طَاهِر على الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْمَائِعَات لِأَنَّهَا تنجس، لَا المَاء وَحده، فَإِنَّهُ عِنْده يدْفع النَّجَاسَة مَا لم يتَغَيَّر، هَذَا هُوَ الَّذِي ترجح عِنْده، لكنه كَانَ يَتَّقِي المَاء فِي خَاصَّة نَفسه. وَحكي عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنهم قَالَا: لِأَن أخر من السَّمَاء أَهْون عَليّ من أَن افتي بِتَحْرِيم قَلِيل النَّبِيذ، وَمَا شربته قطّ، وَلَا أشربه. فعملوا بالترجيح فِي الْفتيا، وتورعوا عَنهُ فِي أنفسهم. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين، من حكم الْحَكِيم أَن يُوسع على الْمُسلمين فِي الْأَحْكَام، ويضيق على نَفسه، يَعْنِي بِهِ هَذَا الْمَعْنى، ومنشأ هَذَا الْوَرع الِالْتِفَات إِلَى إِمْكَان اعْتِبَار الشَّرْع ذَلِك الْمَرْجُوح، وَهَذَا الِالْتِفَات ينشأ من القَوْل: بَان الْمُصِيب وَاحِد، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَمِنْه ثار القَوْل فِي مذْهبه بمراعاة الْخلاف. قلت: وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، يُرَاعِي الْخلاف، وَقد نَص على ذَلِك فِي مسَائِل، وَقد قَالَ أَصْحَابه بمراعاة الْخلاف حَيْثُ لَا تفوت بِهِ سنة فِي مَذْهَبهم، وَقد عقب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب بِمَا ذكره فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات، قَالَ فِيهِ: وَقَالَ حسان بن أبي سِنَان: مَا رَأَيْت شَيْئا أَهْون من الْوَرع: دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك. وَأورد فِيهِ حَدِيث الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَأَنَّهَا أَرْضَعَتْه وَزَوجته. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَكَيف وَقد قيل، وَحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة، وَأَنه قضى بِهِ لعبد بن زَمعَة أَخِيه بالفراش، ثمَّ قَالَ لسودة: احتجبي مِنْهُ لما رأى من شبهه، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى، وَحَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله عَنهُ، وَقَوله: اجد مَعَ كَلْبِي على الصَّيْد كَلْبا آخر، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ. قَالَ: لَا تَأْكُل. ثمَّ ذكر حَدِيث التمرة المسقوطة، وَقَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن تكون صَدَقَة لأكلتها) ، ثمَّ عقبه بِمَا لَا يجْتَنب، فَقَالَ: بَاب من لم ير الوساوس وَنَحْوهَا من الشُّبُهَات، وَذكر فِيهِ حَدِيث الرجل يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة. قَالَ: لَا، حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (أَن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سموا عَلَيْهِ وكلوه) .
قلت: فَتحصل لنا مِمَّا تقدم ذكره أَن المشتبهات الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها فِيهِ أَقْوَال. احدها: أَنه الَّذِي تَعَارَضَت فِيهِ الْأَدِلَّة فاشتبهت، فَمثل هَذَا يجب فِيهِ الْوَقْف إِلَى التَّرْجِيح، لِأَن الْإِقْدَام على أحد الْأَمريْنِ من غير رُجْحَان الحكم بِغَيْر دَلِيل محرم. وَالثَّانِي: المُرَاد بِهِ المكروهات، وَهُوَ قَول الْخطابِيّ والمازري وَغَيرهمَا، وَيدخل فِيهِ مَوَاضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء. وَالثَّالِث: أَنه الْمُبَاح، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ حَلَال يتورع عَنْهَا، وَقد رده الْقُرْطُبِيّ كَمَا تقدم، وَقَالَ: فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رفع مَعْلُوم من الشَّرْع، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده وَأكْثر أَصْحَابه كَانُوا يزهدون فِي الْمُبَاح، فَرَفَضُوا التنعم بِطيب الْأَطْعِمَة ولين اللبَاس وَحسن المساكن، وتلبسوا بضدها من خشونة الْعَيْش، وَهُوَ مَعْلُوم مَنْقُول من سيرهم، قَالَ: فَالْجَوَاب أَن ذَلِك مَحْمُول على مُوجب شَرْعِي اقْتضى تَرْجِيح التّرْك على الْفِعْل، فَلم يَزْهَدُوا فِي مُبَاح، لِأَن حَقِيقَته التَّسَاوِي، بل فِي أَمر مَكْرُوه، وَلَكِن الْمَكْرُوه تَارَة يكرههُ الشَّرْع، من حَيْثُ هُوَ، وَتارَة يكرههُ لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ: كالقبلة للصَّائِم، فَإِنَّهَا تكره لما يخَاف مِنْهَا من إِفْسَاد الصَّوْم، ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لَهُم من عَاقِبَة مَا خَافُوا على نُفُوسهم مِنْهُ مفاسد، أما فِي الْحَال من الركون إِلَى الدُّنْيَا، وَأما فِي الْمَآل من الْحساب عَلَيْهِ والمطالبة بالشكر وَغَيره، وَهَذَا آخر كَلَامه. قلت: وَقد اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي ترك الطّيب وَترك لبس الناعم، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائني: إِن ذَلِك لَيْسَ بِطَاعَة، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} (الْأَعْرَاف: 32) . وَقَالَ الشَّيْخ ابو الطّيب الطَّبَرِيّ: إِنَّه طَاعَة،(1/300)
وَدَلِيله مَا علم من أَمر السّلف من خشونة الْعَيْش. وَقَالَ ابْن الصّباغ: يخْتَلف ذَلِك بإختلاف أَحْوَال النَّاس، وتفرغهم لِلْعِبَادَةِ وقصودهم واشتغالهم بالضيق وَالسعَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ، من أَصْحَابنَا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَأما مَا يخرج إِلَى بَاب الوسوسة من تَجْوِيز الْأَمر الْبعيد فَهَذَا لَيْسَ من المشتبهات الْمَطْلُوب اجتنابها، وَقد ذكر الْعلمَاء لَهُ أَمْثِلَة؛ فَقَالُوا: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ تَجْوِيز أَمر بعيد كَتَرْكِ النِّكَاح من نسَاء بلد كَبِير خوفًا أَن يكون لَهُ فِيهَا محرم، وَترك اسْتِعْمَال مَاء فِي فلاة لجَوَاز عرُوض النَّجَاسَة، أَو غسل ثوب مَخَافَة طرؤ نَجَاسَة عَلَيْهِ لم يشاهدها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُشبههُ، فَهَذَا لَيْسَ من الْوَرع. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْوَرع فِي مثل هَذَا وَسْوَسَة شيطانية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا من معنى الشُّبْهَة شَيْء، وَسبب الْوُقُوع فِي ذَلِك عدم الْعلم بالمقاصد الشَّرْعِيَّة. قلت: من ذَلِك مَا ذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، فَحكى عَن قوم أَنَّهُمَا لَا يلبسُونَ ثيابًا جدداً حَتَّى يغسلوها، لما فِيهَا مِمَّن يعاني قصر الثِّيَاب، ودقها وتجفيفها، وإلقائها وَهِي رطبَة على الأَرْض النَّجِسَة، ومباشرتها بِمَا يغلب على الظَّن نَجَاسَته من غير أَن يغسل بعد ذَلِك، فَاشْتَدَّ نكيره عَلَيْهِم، وَقَالَ: هَذِه طَريقَة الْخَوَارِج الحرورية، أبلاهم الله، تَعَالَى بالغلق فِي غير مَوضِع القلق، وبالتهاون فِي مَوضِع الِاحْتِيَاط، وفاعل ذَلِك معترض على أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، فانهم كَانُوا يلبسُونَ الثِّيَاب الجدد قبل غسلهَا، وَحَال الثِّيَاب فِي أعصارهم، كحالها فِي أعصارنا، وَلَو أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغسلها مَا خَفِي، لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى، وَذكر أَيْضا: أَن قوما يغسلون أَفْوَاههم إِذا أكلُوا الْخبز خوفًا من رَوْث الثيران عِنْد الدياس، فَإِنَّهَا تقيم أَيَّامًا فِي المداسة، وَلَا يكَاد يَخْلُو طحين عَن ذَلِك. قَالَ الشَّيْخ: هَذَا غلو وَخُرُوج عَن عَادَة السّلف، وَمَا روى أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَنهم رَأَوْا غسل الْفَم من ذَلِك. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي التمرة الَّتِي وجدهَا فِي بَيته: لَوْلَا إِنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها؟ وَدخُول الصَّدَقَة بَيت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعيد لِأَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ. وَأجِيب عَنهُ: أَن مَا توقعه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يكن بَعيدا، لانهم كَانُوا يأْتونَ بالصدقات إِلَى الْمَسْجِد، وتوقع أَن يكون صبي أَو من لَا يعقل أَدخل التمرة الْبَيْت، فاتقى ذَلِك لقُرْبه.
قَوْله: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) اي: لَا يعلم المشتبهات كثير من النَّاس، أَرَادَ: لَا يعلم حكمهَا، وَجَاء ذَلِك مُفَسرًا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (وَهِي لَا يدْرِي كثير من النَّاس أَمن الْحَلَال هِيَ أم من الْحَرَام؟) وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى مُشْتَبهَات: أَي تشتبه على بعض النَّاس دون بعض، لَا أَنَّهَا فِي نَفسهَا مشتبهة على كل النَّاس لَا بَيَان لَهَا، بل الْعلمَاء يعرفونها، لِأَن الله تَعَالَى جعل عَلَيْهَا دَلَائِل يعرفهَا بهَا أهل الْعلم، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) وَلم يقل: لَا يعلمهَا كل النَّاس، أَو أحد مِنْهُم، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: معرفَة حكمهَا مُمكن، لَكِن للقليل من النَّاس وهم: المجتهدون، فالمشتبهات على هَذَا فِي حق غَيرهم، وَقد يَقع لَهُم حَيْثُ لَا يظْهر لَهُم تَرْجِيح لأحد اللَّفْظَيْنِ. قَوْله: (اسْتَبْرَأَ) أَي: طلب الْبَرَاءَة فِي دينه من النَّقْص، وَعرضه من الطعْن فِيهِ. قَوْله: (لدينِهِ) إِشَارَة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِاللَّه تَعَالَى، وَقَوله: وَعرضه، إِشَارَة الى مَا يتَعَلَّق بِالنَّاسِ، أَو ذَاك اشارة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِالشَّرْعِ، وَهَذَا إِلَى الْمُرُوءَة. فان قلت: لِمَ قدم الْعرض على الدّين؟ قلت: الْقَصْد هُوَ ذكرهمَا جَمِيعًا من غير نظر إِلَى التَّرْتِيب، لِأَن الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على مَا عرف فِي مَوْضِعه، وَأما تَقْدِيم: الْعرض، فَيمكن أَن يكون لأجل تعلقه بِالنَّاسِ الْمُقْتَضِي لمزيد الاهتمام بِهِ. قَوْله: (وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) قَالَ الْخطابِيّ: كل شَيْء أشبه الْحَلَال من وَجه، وَالْحرَام من وَجه فَهُوَ شُبْهَة. وَقَالَ غَيره: هَذَا يكون لأحد وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِذا عود نَفسه عدم التحرر مِمَّا يشْتَبه أثر ذَلِك فِي استهانته، فَوَقع فِي الْحَرَام مَعَ الْعلم بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه إِذا تعاطى الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام فِي نفس الْأَمر، وَقد قيل بدل الْوَجْه الثَّانِي: إِن من أَكثر وُقُوع الشُّبُهَات أظلم قلبه عَلَيْهِ لفقدان نور الْعلم والورع، فَيَقَع فِي الْحَرَام وَلَا يشْعر بِهِ، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه دَلِيل أَن من لم يتق الشُّبُهَات الْمُخْتَلف فِيهَا، وانتهك حرمتهَا، فقد أوجد السَّبِيل على عرضه فِيمَا رَوَاهُ واشهد بِهِ. قلت: حَاصِل مَا ذكر الْعلمَاء هَهُنَا فِي تَفْسِير الشُّبُهَات أَرْبَعَة أَشْيَاء. تعَارض الادلة، وَاخْتِلَاف الْعلمَاء، وَقسم الْمَكْرُوه والمباح. وَقد قيل: الْمَكْرُوه عقبَة بَين الْحل وَالْحرَام، فَمن استكثر من الْمَكْرُوه تطرق إِلَى الْحَرَام، والمباح عقبَة بَينه وَبَين الْمَكْرُوه، فَمن استكثر مِنْهُ تطرق إِلَى الْمَكْرُوه، ويعضد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق ذكر مُسلم أسنادها وَلم يسْبق لَفظهَا، فِيهَا من الزِّيَادَة: (اجعلوا بَيْنكُم وَبَين الْحَرَام ستْرَة من الْحَلَال، من فعل ذَلِك اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، وَمن ارتع فِيهِ كَانَ كالمرتع إِلَى جنب الْحمى يُوشك ان يَقع فِيهِ) .
قَوْله: (كرَاع(1/301)
يرْعَى حول الْحمى) : هَذَا تَشْبِيه حَال من يدْخل فِي الشُّبُهَات بِحَال الرَّاعِي الَّذِي يرْعَى حول الْمَكَان الْمَحْظُور بِحَيْثُ أَنه لَا يَأْمَن الْوُقُوع فِيهِ وَوجه الشّبَه حُصُول الْعقَاب بِعَدَمِ الِاحْتِرَاز فِي ذَلِك، فَكَمَا أَن الرَّاعِي إِذا جَرّه رعيه حول الْحمى إِلَى وُقُوعه فِي الْحمى، اسْتحق الْعقَاب بِسَبَب ذَلِك، فَكَذَلِك من أَكثر من الشُّبُهَات وَتعرض لمقدماتها وَقع فِي الْحَرَام فَاسْتحقَّ الْعقَاب. فان قلت: مَا يُسمى هَذَا التَّشْبِيه؟ قلت: هَذَا تَشْبِيه ملفوف، لِأَنَّهُ تَشْبِيه بالمحسوس الَّذِي لَا يخفى حَاله، شبه الْمُكَلف بالراعي، وَالنَّفس الْبَهِيمَة بالأنعام، والمشتبهات بِمَا حول الْحمى والمحارم بالحمى، وَتَنَاول المشتبهات بالرتع حول الْحمى، فَيكون تَشْبِيها ملفوفاً بِاعْتِبَار طَرفَيْهِ، وتمثيلا بِاعْتِبَار وَجهه. قَوْله: (أَلا وَإِن لكل ملك حمى) هَذَا مثل ضربه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذَلِكَ أَن مُلُوك الْعَرَب كَانَت تَحْمِي مرَاعِي لمواشيها، وتتوعد على من يقربهَا، والخائف من عُقُوبَة السُّلْطَان يبعد بماشيته خوف الْوُقُوع، وَغير الْخَائِف يقرب مِنْهَا ويرعى فِي جوانبها، فَلَا يَأْمَن من أَن يَقع فِيهَا من غير اخْتِيَاره، فيعاقب على ذَلِك. وَللَّه تَعَالَى أَيْضا حمى وَهُوَ: الْمعاصِي، فَمن ارْتكب شَيْئا مِنْهَا اسْتحق الْعقُوبَة وَمن قاربه بِالدُّخُولِ فِي الشُّبُهَات يُوشك أَن يَقع فِيهَا، وَقد ادّعى بَعضهم أَن هَذَا الْمثل من كَلَام الشّعبِيّ، وَأَنه مدرج فِي الحَدِيث، وَرُبمَا اسْتدلَّ فِي ذَلِك لما وَقع لِابْنِ الْجَارُود والاسماعيلي من رِوَايَة ابْن عون عَن الشعبى، قَالَ ابْن عون فِي آخر الحَدِيث: فَلَا ادري الْمثل من النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، اَوْ من قَول الشّعبِيّ؟ وَأجِيب: بِأَن تردد ابْن عون فِي رَفعه لَا يسْتَلْزم كَونه مدرجاً، لِأَن الاثبات قد جزموا باتصاله وَرَفعه، فَلَا يقْدَح شكّ بَعضهم فِيهِ. فان قلت: قد سقط الْمثل فِي رِوَايَة بعض الروَاة، كَأبي فَرْوَة عَن الشّعبِيّ، فَدلَّ على الإدراج. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن هَذَا لَا يقْدَح فِيمَن اثْبتْ من الْحفاظ الاثبات، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا. وَقَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي حذف البُخَارِيّ قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، ليصير مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ، فَيسلم من دَعْوَى الإدراج. قلت: هَذَا الْكَلَام لَيْسَ لَهُ معنى أصلا، وَلَا هُوَ دَلِيل على منع دَعْوَى الإدراج، وَذَلِكَ لَان قَوْله: وَقع فِي الْحَرَام، لم يحذفه البُخَارِيّ عمدا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي هَذِه الطَّرِيق هَكَذَا، مثل مَا سَمعه، وَقد ثَبت ذَلِك فِي غير هَذِه الطَّرِيق، وَكَيف يحذف لفظا مَرْفُوعا مُتَّفقا عَلَيْهِ لأجل الدّلَالَة على رفع لفظ قد قيل فِيهِ بالإدراج؟ وَقَوله: (ليصير) مَا قبل الْمثل مرتبطاً بِهِ، إِن أَرَادَ بِهِ الارتباط الْمَعْنَوِيّ فَلَا يَصح، لَان كلاًّ مِنْهُمَا كَلَام بِذَاتِهِ مُسْتَقل، وَإِن اراد بِهِ الارتباط اللَّفْظِيّ فَكَذَلِك لَا يَصح، وَهُوَ ظَاهر.
قَوْله: (مُضْغَة) أطلقها على الْقلب إِرَادَة تَصْغِير الْقلب بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَد، مَعَ أَن صَلَاح الْجَسَد وفساده تابعان لَهُ، أَو لما كَانَ هُوَ سُلْطَان الْبدن لما صلح صلح الْأَعْضَاء الْأُخَر الَّتِي هِيَ كالرعية، وَهُوَ بِحَسب الطِّبّ أول نقطة تكون من النُّطْفَة، وَمِنْه تظهر القوى، وَمِنْه تنبعث الْأَرْوَاح، وَمِنْه ينشأ الْإِدْرَاك ويبتدىء التعقل، فلهذه الْمعَانِي خص الْقلب بذلك، وَاحْتج جمَاعَة بِهَذَا الحَدِيث، وَبِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {لَهُم قُلُوب لَا يعْقلُونَ بهَا} (الْحَج: 46) على أَن الْعقل فِي الْقلب لَا فِي الرَّأْس. قلت: فِيهِ خلاف مَشْهُور، فمذهب الشَّافِعِيَّة والمتكلمين أَنه فى الْقلب، وَمذهب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه فِي الدِّمَاغ. وَحكي الأول عَن الفلاسفة، وَالثَّانِي عَن الْأَطِبَّاء. وَاحْتج بِأَنَّهُ إِذا فسد الدِّمَاغ فسد الْعقل. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعقل إِنَّمَا هُوَ فِي الْقلب، وَمَا فِي الرَّأْس مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ عَن الْقلب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَن الْعقل فِي الْقلب، وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على أَن: من حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا، فَأكل قلباً، حنث. قلت: ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ، احدهما: يَحْنَث، وَإِلَيْهِ مَال أَبُو بكر الصيدلاني الْمروزِي، وَالأَصَح انه: لَا يَحْنَث، لِأَنَّهُ لَا يُسمى لَحْمًا.
40 - (بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإيمانِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن لفظ: بَاب، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، مُضَاف إِلَى مَا بعده، وَالتَّقْدِير: هَذَا بَاب أَدَاء الْخمس. أَي: بَاب فِي بَيَان أَن أَدَاء الْخمس شُعْبَة من شعب الْإِيمَان. وَيجوز أَن يقطع عَن الْإِضَافَة، فَحِينَئِذٍ: أَدَاء الْخمس، كَلَام إضافي مُبْتَدأ. وَقَوله: من الايمان، خَبره. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْحَلَال الَّذِي هُوَ الْمَأْمُور بِهِ، وَالْحرَام الَّذِي هُوَ الْمنْهِي عَنهُ، فَكَذَلِك فِي هَذَا الْبَاب، الْمَذْكُور هُوَ الْمَأْمُور بِهِ، والمنهي عَنهُ. أما الْمَأْمُور بِهِ فَهُوَ: الايمان بِاللَّه وَرَسُوله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان وَإِعْطَاء الْخمس، وَأما الْمنْهِي عَنهُ فَهُوَ: الحنتم وَأَخَوَاتهَا، وَبِهَذَا الْبَاب ختمت الْأَبْوَاب الَّتِي يذكر فِيهَا شعب الْإِيمَان وأموره. الثَّالِث: قَوْله: (الْخمس) ، بِضَم الْخَاء، من: خمست الْقَوْم(1/302)
اخمسهم، بِالضَّمِّ، إِذا أخذت مِنْهُم خُمس أَمْوَالهم، وَأما: خمستهم أخمسهم، بِالْكَسْرِ، فَمَعْنَاه: إِذا كنت خامسهم، أَو كملتهم خَمْسَة بِنَفْسِك، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَإِن لله خمسه} (الْأَنْفَال: 41) وَقد قيل: إِنَّه رُوِيَ هُنَا بِفَتْح الْخَاء، وَهِي الْخمس من الْأَعْدَاد، وَأَرَادَ بهَا قَوَاعِد الْإِسْلَام الْخمس الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث: (بني الاسلام على خمس) ، فَهَذَا، وَإِن كَانَ لَهُ وَجه، وَلَكِن فِيهِ بعد، لِأَن الْحَج لم يذكر هَهُنَا، وَلِأَن غَيره من الْقَوَاعِد قد تقدم ذكره، وَهَهُنَا إِنَّمَا ترْجم الْبَاب على أَن أَدَاء خمس الْغَنِيمَة من الْإِيمَان. فَإِن قلت: مَا وَجه كَونه من الْإِيمَان؟ قلت: لما سَأَلَ الْوَفْد عَن الْأَعْمَال الَّتِي إِذا عملوها يدْخلُونَ بهَا الْجنَّة. فأجيبوا بأَشْيَاء من جُمْلَتهَا أَدَاء الْخمس، فأداء الْخمس من الْأَعْمَال الَّتِي يدْخل بهَا الْجنَّة، وكل عمل يدْخل بِهِ الْجنَّة فَهُوَ من الْإِيمَان، فأداء الْخمس من الْإِيمَان. فَافْهَم.
1 - حَدثنَا عَليّ بن الْجَعْد قَالَ أخبرنَا شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة قَالَ كنت اقعد مَعَ ابْن عَبَّاس يجلسني على سَرِيره فَقَالَ أقِم عِنْدِي حَتَّى أجعَل لَك سَهْما من مَالِي فاقمت مَعَه شَهْرَيْن ثمَّ قَالَ إِن وَفد عبد الْقَيْس لما أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من الْقَوْم أَو من الْوَفْد قَالُوا ربيعَة قَالَ مرْحَبًا بالقوم أَو بالوفد غير حزايا وَلَا ندامى فَقَالُوا يَا رَسُول الله إِنَّا لَا نستطيع أَن نَأْتِيك إِلَّا فِي شهر الْحَرَام وبيننا وَبَيْنك هَذَا الْحَيّ من كفار مُضر فمرنا بِأَمْر فصل نخبر بِهِ من رواءنا وندخل بِهِ الْجنَّة وسألوه عَن الاشربة فَأَمرهمْ بِأَرْبَع ونهاهم عَن أَربع أَمرهم بِالْإِيمَان بِاللَّه وَحده قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَان بِاللَّه وَحده قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصِيَام رَمَضَان وَأَن تعطوا من الْمغنم الْخمس ونهاهم عَن أَربع عَن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وَرُبمَا قَالَ المقير وَقَالَ احفظوهن وأخبروا بِهن من وراءكم. مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ عقد الْبَاب على جُزْء مِنْهُ وَهُوَ قَوْله " وَإِن تعطوا من الْمغنم خمْسا " فَإِن قلت لم عين هَذَا للتَّرْجَمَة دون غَيره من الَّذِي ذكره مَعَه قلت عقد لكل وَاحِد غَيره بَابا على مَا تقدم (بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة الأول أَبُو الْحسن على بن الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم ابْن عبيد الْجَوْهَرِي الْهَاشِمِي مَوْلَاهُم الْبَغْدَادِيّ سمع الثَّوْريّ ومالكا وَغَيرهمَا من الاعلام وَعنهُ أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَآخَرُونَ وَقَالَ مُوسَى بن دَاوُد مَا رَأَيْت احفظ مِنْهُ وَكَانَ أَحْمد يحض على الْكِتَابَة مِنْهُ وَقَالَ يحيى بن معِين هُوَ رباني الْعلم ثِقَة فَقيل لَهُ هَذَا الَّذِي كَانَ مِنْهُ أَنه كَانَ يتهم بالجهم فَقَالَ ثِقَة صَدُوق وَقيل أَن الَّذِي كَانَ يَقُول بالجهم وَلَده الْحسن قَاضِي بَغْدَاد وَبَقِي سِتِّينَ سنة أَو سبعين سنة يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا ولد سنة سِتّ وَثَلَاثُونَ وَمِائَة وَمَات سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَدفن بمقبرة بَاب حَرْب بِبَغْدَاد. الثَّانِي شُعْبَة بن الْحجَّاج وَقد تقدم. الثَّالِث أَو جَمْرَة بِالْجِيم وَالرَّاء واسْمه نصر بن عمرَان بن عِصَام وَقيل عَاصِم بن وَاسع الضبعِي الْبَصْرِيّ سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وخلقا من التَّابِعين وَعنهُ أَيُّوب وَغَيره من التَّابِعين وَغَيرهم كَانَ مُقيما بنيسابور ثمَّ خرج إِلَى مرو ثمَّ إِلَى سرخس وَبهَا توفّي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة وثقته مُتَّفق عَلَيْهَا وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة مَاتَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ أَبوهُ عمرَان رجلا جَلِيلًا قَاضِي الْبَصْرَة وَاخْتلف فِي أَنه صَحَابِيّ لَا وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من يكنى بِهَذِهِ الكنية غَيره وَلَا من اسْمه جَمْرَة بل وَلَا فِي بَاقِي الْكتب السِّتَّة أَيْضا وَلَا فِي الْمُوَطَّأ وَفِي كتاب الحياني أَنه وَقع فِي نُسْخَة أبي ذَر عَن أبي الْهَيْثَم حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي وَذَلِكَ وهم وَمَا عداهُ أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء والزاء وَقد روى مُسلم عَن أبي حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة عَن أبي عَطاء القصاب بياع الْقصب الوَاسِطِيّ حَدِيثا وَاحِدًا عَن ابْن عَبَّاس فِيهِ ذكر مُعَاوِيَة وإرسال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عَبَّاس خَلفه وَقَالَ بعض الْحفاظ يروي شُعْبَة عَن سَبْعَة يروون عَن ابْن عَبَّاس كلهم أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء وَالزَّاي إِلَّا هَذَا وَيعرف هَذَا من غَيره مِنْهُم أَنه إِذا أطلق عَن ابْن عَبَّاس أَبُو حَمْزَة فَهُوَ هَذَا وَإِذا أَرَادوا غَيره مِمَّن هُوَ بِالْحَاء قيدوه بِالِاسْمِ وَالنّسب(1/303)
وَالْوَصْف كابني حَمْزَة القصاب. والضبعي بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة من بني ضبيعة بِضَم أَوله مصغر أَو هُوَ بطن من عبد الْقَيْس كَمَا جزم الشاطى وَفِي بكر بن وَائِل بطن يُقَال لَهُم بَنو ضبيعة أَيْضا وَقد وهم من نسب أَبَا جَمْرَة إِلَيْهِم من شرَّاح البُخَارِيّ فقد روى الطَّبَرَانِيّ وَابْن مَنْدَه فِي تَرْجَمَة نوح بن مخلد جد أبي جَمْرَة أَنه قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ مِمَّن أَنْت قَالَ من ضبيعة ربيعَة فَقَالَ خير ربيعَة عبد الْقَيْس ثمَّ الْحَيّ الَّذِي أَنْت مِنْهُم. الرَّابِع عبد الله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا (بَيَان لطائف إِسْنَاده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث وَالْأَخْبَار والعنعنة وَالْأَخْبَار فِي أخبرنَا شُعْبَة وَفِي كثير من النّسخ حَدثنَا شُعْبَة. وَمِنْهَا أَن رِجَاله مَا بَين بغدادي وواسطي وَبصرى. وَمِنْهَا أَن فيهم من هُوَ من الْأَفْرَاد وَهُوَ أَبُو جَمْرَة وَكَذَا عَليّ بن الْجَعْد انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد عَن بَقِيَّة السِّتَّة (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي عشرَة مَوَاضِع هُنَا كَمَا ترى وَفِي الْخمس عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد وَفِي خبر الْوَاحِد عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة وَعَن إِسْحَق عَن النَّضر عَن شُعْبَة وَفِي كتاب الْعلم عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة وَفِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد وَفِي الزَّكَاة عَن حجاج بن الْمنْهَال عَن حَمَّاد وَفِي الْخمس عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد وَفِي الْمَغَازِي عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد وَعَن إِسْحَاق عَن أبي عَامر الْعَقدي عَن قُرَّة وَفِي الْأَدَب عَن عمرَان بن ميسرَة عَن عبد الْوَارِث عَن أبي التياح وَفِي التَّوْحِيد عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي عَاصِم عَن قُرَّة وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي مُوسَى وَبُنْدَار ثَلَاثَتهمْ عَن عبد ربه وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن نصر بن عَليّ عَن أَبِيه كِلَاهُمَا عَن قُرَّة بِهِ وَفِيه وَفِي الاشربة عَن خلف ابْن هِشَام عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن يحيى بن يحيى عَن عباد بن عباد بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الاشربة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَمُحَمّد ابْن عبيد بن حِسَاب كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ وَعَن مُسَدّد عَن عباد بن عباد وَفِي السّنة عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن يحيى بن سعيد عَن شُعْبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد وَعَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ مُخْتَصرا وَفِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَنْهُمَا بِطُولِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن بنْدَار بِهِ وَفِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة عَن عباد بن عباد بِهِ وَفِي الاشربة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن أبي عتاب بن سهل بن حَمَّاد عَن قُرَّة بِهِ وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن شُعْبَة بِهِ وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي طرقه قصَّة الْأَشَج وَذكرهَا مُسلم فِي الحَدِيث فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للأشج اشج عبد الْقَيْس " أَن فِيك لخصلتين يحبهما الله الأناة والحلم " (بَيَان اللُّغَات) قَوْله " على سَرِيره " وَفِي الْعباب السرير مَعْرُوف وَجمعه أسرة وسرر قَالَ الله تَعَالَى (على سرر مُتَقَابلين) إِلَّا أَن بَعضهم يستثقل اجْتِمَاع الضمتين مَعَ التَّضْعِيف فَيرد الأولى مِنْهُمَا إِلَى الْفَتْح لخفته فَيَقُول سرر وَكَذَلِكَ مَا اشبهه من الْجمع مثل ذليل وَذَلِكَ وَنَحْوه انْتهى وَقيل أَنه مَأْخُوذ من السرر لِأَنَّهُ مجْلِس السرُور قلت السرير أَيْضا مُسْتَقر الرَّأْس والعنق وَقد يعبر بالسرير عَن الْملك وَالنعْمَة وخفض الْعَيْش وَقَالَ ابْن السّكيت السرير مَوضِع بِأَرْض بني كنَانَة قَوْله " سَهْما " أَي نَصِيبا وَالْجمع سَهْمَان بِالضَّمِّ قَوْله " أَن وَفد عبد الْقَيْس " قَالَ ابْن سَيّده يُقَال وَفد عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ وَفْدًا ووفودا ووفادة وافادة على الْبَدَل قدم ووافادة وإفادة على الْبَدَل قدم واوفده عَلَيْهِ وهم الْوَفْد والوفود فَأَما الْوَفْد فاسم جمع وَقيل جمع وَأما الْوُفُود فَجمع وَافد وَقد أوفده إِلَيْهِ وَفِي الْجَامِع للقزاز ووفودة وَالْقَوْم يفدون وأوفدتهم أَنا أَيْضا وَوَاحِد الْوَفْد وَافد وَفِي الصِّحَاح وَفد فلَان على الْأَمِير رَسُولا وَالْجمع وَفد وَجمع الْوَافِد أوفاد وَالِاسْم الْوِفَادَة واوفدته أَنا إِلَى الْأَمِير إِي أَرْسلتهُ وَفِي المغيث الْوَفْد قوم يَجْتَمعُونَ فيردون الْبِلَاد وَكَذَا ذكره الْفَارِسِي فِي مجمع الغرائب. وَقَالَ صَاحب التَّحْرِير والوفد الْجَمَاعَة المختارة من الْقَوْم ليتقدموهم إِلَى لقى العظماء والمصير إِلَيْهِم فِي الْمُهِمَّات وَقَالَ القَاضِي هم الْقَوْم يأْتونَ الْملك ركابا وَيُؤَيّد مَا ذكره أَن ابْن عَبَّاس فسر قَوْله تَعَالَى {يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا} قَالَ ركبانا وَعبد الْقَيْس أَبُو قَبيلَة وَهُوَ ابْن افصى بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْفَاء وبالصاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة ابْن دعمى بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبياء النِّسْبَة ابْن جديلة بِفَتْح الْجِيم بن(1/304)
أَسد بن ربيعَة بن نزار كَانُوا ينزلون الْبَحْرين وحوالي القطيف والأحساء وَمَا بَين هجر إِلَى الديار المصرية قَوْله " ربيعَة " هُوَ ابْن نزار بن معد بن عدنان وَإِنَّمَا قَالُوا ربيعَة لِأَن عبد الْقَيْس من أَوْلَاده قَوْله " مرْحَبًا " أَي صادفت مرْحَبًا أَي سَعَة فاستأنس وَلَا تستوحش قَوْله " خزايا " جمع خزيان من الخزي وَهُوَ الاستحياء من خزى يخزي من بَاب علم يعلم خزاية أَي استحيى فَهُوَ خزيان وَقوم خزايا وَامْرَأَة خزيا وَكَذَلِكَ خزى يخزي من هَذَا الْبَاب بِمَعْنى ذل وَهَان ومصدره خزى وَقَالَ ابْن السّكيت وَقع فِي بلية وأخزاه الله وَالْمعْنَى هَهُنَا على هَذَا يَعْنِي غير أذلاء مهانين فَافْهَم. قَوْله " وَلَا ندامى " جمع ندمان بِمَعْنى النادم وَقيل جمع نادم قَوْله " فِي الشَّهْر الْحَرَام " المُرَاد بِهِ الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْأَشْهر الْحرم الْأَرْبَعَة رَجَب وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَيعرف الْمحرم دون رَجَب وسمى الشَّهْر بالشهر لشهرته وَطهُوره وبالحرم لحرمه الْقِتَال فِيهِ قَوْله " وَهَذَا الْحَيّ " قَالَ ابْن سَيّده أَنه بطن من بطُون الْعَرَب وَفِي الْمطَالع هُوَ اسْم لمنزلة الْقَبِيلَة ثمَّ سميت الْقَبِيلَة بِهِ وَذكر الجواني فِي الفاضلة أَن الْعَرَب على طَبَقَات عشر اعلاها الجذم ثمَّ الْجُمْهُور ثمَّ الشعوب وَاحِدهَا شعب ثمَّ الْقَبِيلَة ثمَّ الْعِمَارَة ثمَّ الْبَطن ثمَّ الْفَخْذ ثمَّ الْعَشِيرَة ثمَّ الفصيلة ثمَّ الرَّهْط وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَأول الْعَرَب شعوب ثمَّ قبائل ثمَّ عمائر ثمَّ بطُون ثمَّ أفخاذ ثمَّ فصائل ثمَّ عشاءر وَقدم الْأَزْهَرِي العشائر على الْفَضَائِل قَالَ وهم الْأَحْيَاء وَقَالَ ابْن دُرَيْد الشّعب الْحَيّ الْعَظِيم من النَّاس قلت: الجذم بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة أصل الشَّيْء والشعب بِالْفَتْح مَا تشعب من قبائل الْعَرَب والعجم والعمارة بِكَسْر الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم وَجوز الْخَلِيل فتح عينهَا قَالَ فِي الْعباب وَهِي الْقَبِيلَة وَالْعشيرَة وَقيل هِيَ الْحَيّ ينْفَرد بظعنه قَوْله " مُضر " بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة غير منصرف وَهُوَ مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَيُقَال لَهَا مُضر الْحَمْرَاء ولأخيه ربيعَة الْفرس لِأَنَّهُمَا لما اقْتَسمَا الْمِيرَاث أعْطى مُضر الذَّهَب وَرَبِيعَة الْخَيل وكفار مُضر كَانُوا بَين ربيعَة وَالْمَدينَة وَلَا يُمكنهُم الْوُصُول إِلَى الْمَدِينَة إِلَّا عَلَيْهِم وَكَانُوا يخَافُونَ مِنْهُم إِلَّا فِي الْأَشْهر الْحرم لامتناعهم من الْقِتَال فِيهَا قَوْله " بِأَمْر فصل " بِلَفْظ الصّفة لَا بِالْإِضَافَة وَالْأَمر أما وَاحِد الْأُمُور أَي الشَّأْن وَأما وَاحِد الْأَوَامِر أَي القَوْل الطَّالِب للْفِعْل وَفصل بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة أما بِمَعْنى الْفَاصِل كالعدل أَي يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَأما بِمَعْنى الْمفصل أَي وَاضح بِحَيْثُ ينْفَصل بِهِ المُرَاد عَن غَيره قَوْله " من الْمغنم " أَي الْغَنِيمَة قَالَ الْجَوْهَرِي الْمغنم وَالْغنيمَة بِمَعْنى قَوْله " الحنتم " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق قَالَ أَبُو هُرَيْرَة هِيَ الجرار الْخضر وَقَالَ ابْن عمر هِيَ الجرار كلهَا وَقَالَ أنس بن مَالك جرار يُؤْتى بهَا من مُضر مقيرات الأجواف وَقَالَت عَائِشَة جرار حمر اعناقها فِي جنوبها يجلب فِيهَا الْخمر من مُضر وَقَالَ ابْن أبي ليلى افواهها فِي جنوبها يجلب فِيهَا الْخمر من الطَّائِف وَكَانُوا ينبذون فِيهَا وَقَالَ عَطاء هِيَ جرار تعْمل من طين وَدم وَشعر وَفِي الْمُحكم الحنتم جرار خضر تضرب إِلَى الْحمرَة وَفِي مجمع الغرائب حمر وَقَالَ الْخطابِيّ هِيَ جرة مطلية بِمَا يسد مسام الخزف وَلها التَّأْثِير فِي الانتباذ لِأَنَّهَا كالمزفت وَقَالَ أبي حبيب الحنتم الجرو وكل مَا كَانَ من فخار أَبيض وأخضر وَقَالَ الْمَازرِيّ قَالَ بعض أهل الْعلم لَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا الحنتم مَا طلى من الفخار بالحنتم الْمَعْمُول بالزجاج وَغَيره قَوْله " والدباء " بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء وبالمد وَقد يقصر وَقد تكسر الدَّال وَهُوَ اليقطين الْيَابِس أَي الْوِعَاء مِنْهُ وَهُوَ القرع وَهُوَ جمع والواحدة باءة وَمن قصر قَالَ دباة قَالَ عِيَاض وَلم يحك أَبُو عَليّ والجوهري غير الْمَدّ قَوْله " والنقير " بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَجَاء تَفْسِيره فِي صَحِيح مُسلم " أَنه جذع ينقرون وَسطه وينبذون فِيهِ " قَوْله " والمزفت " بتَشْديد الْفَاء أَي المطلي بالزفت أَي القار بِالْقَافِ وَرُبمَا قَالَ ابْن عَبَّاس المقير بدل المزفت وَيُقَال الزفت نوع من القار وَقَالَ ابْن سَيّده هُوَ شَيْء أسود يطلى بِهِ الْإِبِل والسفن وَقَالَ أَبُو حنيفَة أَنه شجر مر والقار يُقَال لَهُ القير بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف قيل هُوَ نبت يحرق إِذا يبس يطلى بِهِ السفن وَغَيرهَا كَمَا يطلى بالزفت وَفِي مُسْند أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ بِإِسْنَاد حسن عَن أبي بكرَة قَالَ أما الدُّبَّاء فَإِن أهل الطَّائِف كَانُوا يَأْخُذُونَ القرع فيخرطون فِيهِ الْعِنَب ثمَّ يدفنونه حَتَّى يهدر ثمَّ يَمُوت وَأما النقير فَإِن أهل الْيَمَامَة كَانُوا ينقرون أصل النَّخْلَة ثمَّ ينتبذون الرطب واليسر ثمَّ يَدعُونَهُ حَتَّى يهدر ثمَّ يَمُوت وَأما الحنتم فجرار كَانَت تحمل إِلَيْنَا فِيهَا الْخمر وَأما المزفت فَهَذِهِ الأوعية الَّتِي فِيهَا الزفت (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " كنت اقعد " التَّاء فِي كنت اسْم كَانَ وَالْجُمْلَة اعني اقعد فِي مَحل النصب خَبره قَوْله " مَعَ ابْن عَبَّاس " أَي مصاحبا مَعَه أَو هُوَ بِمَعْنى عِنْد أَي عِنْد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَوْله " فيجلسني " عطف على قَوْله " اقعد " فَإِن قلت(1/305)
الاجلاس قبل الْقعُود فَكيف جَاءَ بِالْفَاءِ قلت الاجلاس على السرير بعد الْقعُود وَمَا الدَّلِيل على امْتِنَاعه قَوْله " اجْعَل " بِالنّصب بِأَن الْمقدرَة بعد حَتَّى وَسَهْما مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول اجْعَل وَكلمَة من فِي من مَالِي بَيَانِيَّة مَعَ دلَالَته على التَّبْعِيض قَوْله " فاقمت مَعَه " أَي مصاحبا لَهُ وَإِنَّمَا قَالَ مَعَه وَلم يقل عِنْده مُطَابقَة لقَوْله اقم عِنْدِي لأجل الْمُبَالغَة لِأَن المصاحبة بلغ من العندية قَوْله " شَهْرَيْن " نصب على الظّرْف وَالتَّقْدِير مُدَّة شَهْرَيْن قَوْله " من الْقَوْم " جملَة اسمية وَكلمَة من للاستفهام قَوْله " أَو من الْوَفْد " شكّ من الرَّاوِي وَالظَّاهِر أَنه شُعْبَة وَيحْتَمل أَن يكون أَبَا جَمْرَة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ الْكرْمَانِي وَالظَّاهِر أَنه من ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَوْله " ربيعَة " خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره نَحن ربيعَة وَالْجُمْلَة مقول الْقُوَّة قَوْله " قَالَ مرْحَبًا " أَي قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرْحَبًا وَهُوَ اسْم وضع مَوضِع الترحيب وانتصابه على المصدرية من رَحبَتْ الأَرْض ترحب من بَاب كرم يكرم رحبا بِضَم الرَّاء إِذا اتسعت قَالَ سِيبَوَيْهٍ هُوَ من المصادر النائية عَن أفعالها تَقْدِيره رَحبَتْ وَقَالَ غَيره هُوَ من المفاعيل المنصوبة بعامل مُضْمر لَازم اضماره تستعمله الْعَرَب كثيرا وَمَعْنَاهُ صادفت رحبا أَي سَعَة فاستأنس وَلَا تستوحش وَفِي الْعباب وَالْعرب تَقول أَيْضا مرحبك الله ومسهلك ومرحبابك الله ومسهلا وَقَالَ العسكري أول من قَالَ مرْحَبًا سيف ذُو يزن فَإِن قلت أَنه بِالْإِضَافَة صَار معرفَة وَشرط الْحَال أَن تكون نكرَة قلت شَرط تعرفه أَن يكون الْمُضَاف ضدا للمضاف إِلَيْهِ وَنَحْوه وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك ويروى غير بِكَسْر الرَّاء على أَنه صفة للْقَوْم فَإِن قلت أَنه نكرَة كَيفَ وَقعت صفة للمعرفة قلت للمعرف بِلَا جنس قرب الْمسَافَة بَينه وَبَين النكرَة فَحكمه حكم النكرَة إِذْ لَا تَوْقِيت فِيهِ وَلَا تعْيين وَفِي رِوَايَة مُسلم " غير خزايا وَلَا ندامى " بِاللَّامِ فِي الندامى وَفِي بعض الرِّوَايَات " غير الخزايا وَلَا الندامى " بِاللَّامِ فيهمَا وَقَالَ النَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب من طَرِيق أبي التياح عَن أبي جَمْرَة " مرْحَبًا بالوفد الَّذين جاؤا غير خزايا وَلَا ندامى " وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق قُرَّة " فَقَالَ مرْحَبًا بالوفد لَيْسَ خزايا وَلَا النادمين " وَهَذَا يشْهد لمن قَالَ كَانَ الأَصْل فِي وَلَا ندامى نادمين وَلكنه اتبع خزايا تحسينا للْكَلَام كَمَا يُقَال لَا دَريت وَلَا تليت وَالْقِيَاس لَا تَلَوت والغدايا والعشايا وَالْقِيَاس بالغدوات فَجعل تَابعا لما يقارنه وَإِذا افردت لم يجز إِلَّا الغدوات وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام " ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات " وَلَو افردت لقيل موزورات بِالْوَاو لِأَنَّهُ من الْوزر وَمِنْه قَول الشَّاعِر هُنَاكَ اخبية ولاج ابوية فَجمع الْبَاب على ابوبة اتبَاعا لاخبية وَلَو أفرد لم يجز وَقَالَ الْقَزاز والجوهري وَيُقَال فِي نادم ندمان فعلى هَذَا يكون الْجمع على الأَصْل وَلَا يكون من بَاب الِاتِّبَاع قَوْله " أَن نَأْتِيك " فِي مَحل النصب على المفعولية وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير أَن لَا نستطيع الاتيان إِلَيْك قَوْله " الْحَرَام " بِالْجَرِّ صفة للشهر وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة إِلَّا فِي شهر الْحَرَام وَهِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا وَهُوَ من إِضَافَة الِاسْم إِلَى صفته بِحَسب الظَّاهِر كمسجد الْجَامِع وَنسَاء الْمُؤْمِنَات وَلكنه مؤول تَقْدِيره إِلَّا فِي شهر الْأَوْقَات الْحَرَام وَمَسْجِد الْوَقْت الْجَامِع وَقَالَ بَعضهم هَذَا من إِضَافَة الشَّيْء قلت إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه لَا تجوز كَمَا عرف فِي مَوْضِعه وَفِي رِوَايَة قُرَّة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي " إِلَّا فِي أشهر الْحرم " وَتَقْدِير فِي أشهر الْأَوْقَات الْحرم وَالْحرم بِضَمَّتَيْنِ جمع حرَام وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد أخرجهَا البُخَارِيّ فِي المناقب (غلا فِي كل شهر حرَام " قَوْله " وبيننا وَبَيْنك " الْوَاو فِيهِ للْحَال وَكلمَة من فِي قَوْله " من كفار " مُضر للْبَيَان وَمُضر مُضَاف إِلَيْهِ وَلَكِن جَرّه بِالْفَتْح لِأَن الصّرْف منع مِنْهَا للعملية والتأنيث قَوْله " فمرنا " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي مر وَالْمَفْعُول وَهُوَ نَا وأصل مر اؤمر بهمزتين لِأَنَّهُ من أَمر يَأْمر فحذفت الْهمزَة الْأَصْلِيَّة للاستثقال فَصَارَ امْر فاستغنى عَن همزَة الْوَصْل فحذفت فبقى مر على وزن عل لِأَن الْمَحْذُوف فَاء الْفِعْل قَوْله " بِأَمْر فصل " كِلَاهُمَا بِالتَّنْوِينِ على الوصفية لَا الْإِضَافَة قَوْله " نخبر بِهِ " روى بِالرَّفْع وبالجزم أما الرّفْع فعلى أَنه صفة لامر وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الامر قَوْله " من وَرَاءَنَا " كلمة من بِفَتْح الْمِيم مَوْصُولَة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء وَقَوله وَرَاءَنَا خَبره وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول نخبر وَالْخَبَر فِي الْحَقِيقَة مَحْذُوف تَقْدِيره من استقروا وَرَاءَنَا أَي خلفنا وَالْمرَاد قَومهمْ الَّذين خلفوهم فِي بِلَادهمْ وَقد علم أَن نَحْو خلف ووراء إِذا وَقع خَبرا فَإِن كَانَ بَدَلا عَن عَامله الْمَحْذُوف نَحْو زيد خَلفك أَو وَرَاءَك بَقِي على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْإِعْرَاب وَإِن لم يكن بَدَلا نَحْو ظهرك خَلفك ورجلاك أسفلك جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ النصب على الظَّرْفِيَّة وَالرَّفْع على الخبرية. ثمَّ اعْلَم أَن لَفْظَة وَرَاء من الاضداد لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنى خلف وَبِمَعْنى قُدَّام وَهِي مُؤَنّثَة وَقَالَ(1/306)
ابْن السّكيت يذكر وَيُؤَنث وَهُوَ مَهْمُوز اللَّام ذكره الصغاني فِي بَاب مَا يكون فِي آخِره همزَة وَذكر الْجَوْهَرِي فِي بَاب مَا يكون فِي آخِره يَاء وَهُوَ غلط فَكَأَنَّهُ ظن أَن همزته لَيست بأصلية وَلَيْسَ كَذَلِك بِدَلِيل وجودهَا فِي تصغيره وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات من وَرَائِنَا بِكَسْر الْمِيم قلت قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه وَلَا خلاف أَن قَوْله نحبر بِهِ من وَرَاءَنَا بِفَتْح الْمِيم والهمزة فَإِن قلت أَن صَحَّ مَا قَالَه الْكرْمَانِي فَمَا تكون من بِالْكَسْرِ قلت إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة يحْتَمل أَن تكون من للغاية بِمَعْنى أَو قَومهمْ يكونُونَ غَايَة لأخبارهم قَوْله " وندخل بِهِ الْجنَّة " بِرَفْع اللَّام وجزمها عطفا على قَوْله نخبر الموجه بِوَجْهَيْنِ وَفِي بعض الرِّوَايَات ندخل بِدُونِ الْوَاو وَكَذَا وَقع فِي مُسلم بِلَا وَاو وعَلى هَذِه الرِّوَايَة يتَعَيَّن رَفعه وَهِي جملَة مستأنفة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب قَوْله " وسألوه " أَي النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الاشربة أَي عَن ظرف الْأَشْرِبَة فالمضاف مَحْذُوف وَالتَّقْدِير سَأَلُوهُ عَن الاشربة الَّتِي تكون فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلفَة فعلى هَذَا يكون مَحْذُوف الصّفة فَافْهَم قَوْله " فَأَمرهمْ بِأَرْبَع " الْفَاء للتعقيب أَي بِأَرْبَع خِصَال أَو بِأَرْبَع جمل لقَوْله حَدثنَا بجمل من الْأَمر وَهِي رِوَايَة قُرَّة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي وَقَوله ونهاهم عطف على فَأمر قَوْله " أَمرهم بِالْإِيمَان " تَفْسِير لقَوْله " فَأَمرهمْ بِأَرْبَع " وَلِهَذَا ترك العاطف فَإِن قلت كَيفَ يكون تَفْسِيرا وَالْمَذْكُور خمس قلت قَالَ النَّوَوِيّ عد جمَاعَة الحَدِيث من المشكلات حَيْثُ قَالَ أَمرهم بِأَرْبَع وَالْمَذْكُور خمس وَاخْتلفُوا فِي الْجَواب عَنهُ فَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ الظَّاهِر أَن الْأُمُور الْخَمْسَة تَفْسِير للْإيمَان وَهُوَ أحد الْأَرْبَعَة الْمَأْمُور بهَا وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة حذفهَا الرَّاوِي نِسْيَانا واختصارا وَقَالَ الطَّيِّبِيّ من عَادَة البلغاء أَن الْكَلَام إِذا كَانَ منصبا لغَرَض من الْأَغْرَاض جعلُوا سِيَاقه لَهُ وتوجهه إِلَيْهِ كَأَن مَا سواهُ مرفوض مطرح فههنا لم يكن الغر ض فِي إِيرَاد ذكر الشَّهَادَتَيْنِ لِأَن الْقَوْم كَانُوا مقرين بهما بِدَلِيل قَوْلهم الله وَرَسُوله أعلم وَلَكِن كَانُوا يظنون أَن الْإِيمَان مَقْصُور عَلَيْهِمَا وأنهما كافيتان لَهُم وَكَانَ الْأَمر فِي أول الْإِسْلَام كَذَلِك لم يَجعله الرَّاوِي من الْأَوَامِر وَجعل الاعطاء مِنْهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَض من الْكَلَام لأَنهم كَانُوا أَصْحَاب غزوات مَعَ مَا فِيهِ من بَيَان أَن الْإِيمَان غير مَقْصُور على ذكر الشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ قيل أَن أول الْأَرْبَع الْمَأْمُور بهَا أَقَامَ الصَّلَاة وَإِنَّمَا ذكر الشَّهَادَتَيْنِ تبركا بهما كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا إِنَّمَا غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} وَهَذَا نَحْو كَلَام الطَّيِّبِيّ فَإِن قلت قَوْله " وَأقَام الصَّلَاة " مَرْفُوع عطفا على قَوْله " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " وَهَذَا يرد مَا قَالَه الطَّيِّبِيّ والقرطبي وَأجِيب بِأَنَّهُ يجوز أَن يقْرَأ وَأقَام الصَّلَاة بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله " أَمرهم بِالْإِيمَان " وَالتَّقْدِير أَمرهم بِالْإِيمَان مصدرا بِهِ وبشرطه فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَأمرهمْ بأقام الصَّلَاة إِلَى آخِره ويعضد هَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَدَب من طَرِيق أبي التياح عَن أبي جَمْرَة وَلَفظه " أَربع وَأَرْبع أقِيمُوا " إِلَى آخِره فَإِن قيل ظَاهر مَا ترْجم بِهِ المُصَنّف من أَن أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان يَقْتَضِي إِدْخَاله مَعَ الْخِصَال فِي تَفْسِير الْإِيمَان وَالتَّقْدِير الْمَذْكُور يُخَالِفهُ فَأجَاب ابْن رشد بِأَن الْمُطَابقَة تحصل من جِهَة أُخْرَى وَهِي أَنهم سَأَلُوا عَن الْأَعْمَال الَّتِي يدْخلُونَ بهَا الْجنَّة فأجيبوا بأَشْيَاء من أَدَاء الْخمس والأعمال الَّتِي يدْخل بهَا الْجنَّة هِيَ أَعمال الْإِيمَان فَيكون أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان بِهَذَا التَّقْرِير (فَإِن قلت) قد قَالَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة " أَمركُم بِأَرْبَع الْإِيمَان بِاللَّه شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وعقدة وَاحِدَة " أخرجهَا البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي وَأخرج فِي فرض الْخمس وَعقد بِيَدِهِ الْحجَّاج بن منهال فَدلَّ على أَن الشَّهَادَة إِحْدَى الْأَرْبَع وَكَذَا فِي رِوَايَة عباد بن عباد فِي أَوَائِل الْمَوَاقِيت وَلَفظه " أَمركُم بِأَرْبَع ونهاكم عَن أَربع الْإِيمَان بِاللَّه ثمَّ فَسرهَا لَهُم شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله " الحَدِيث وَهَذَا أَيْضا يدل على أَنه عد الشَّهَادَتَيْنِ من الْأَرْبَع لِأَنَّهُ أعَاد الضَّمِير فِي قَوْله ثمَّ فَسرهَا مؤنثا فَيَعُود على الْأَرْبَع وَلَو أَرَادَ تَفْسِير لأعاده مذكرا قلت أجَاب عَنهُ القَاضِي وَابْن بطال بِأَنَّهُ عد الْأَرْبَع الَّتِي وعدهم ثمَّ زادهم خَامِسَة وَهِي أَدَاء الْخمس لأَنهم كَانُوا مجاورين لكفار مُضر وَكَانُوا أهل جِهَاد وَغَنَائِم قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الصَّحِيح وَقَالَ الْكرْمَانِي لَيْسَ الصَّحِيح ذَلِك هَهُنَا لِأَن البُخَارِيّ عقد الْبَاب على أَن أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان فَلَا بُد أَن يكون دَاخِلا تَحت أَجزَاء الْإِيمَان كَمَا أَن ظَاهر الْعَطف يَقْتَضِي ذَلِك بل الصَّحِيح مَا قيل أَنه لم يَجْعَل الشَّهَادَة بِالتَّوْحِيدِ وبالرسالة من الْأَرْبَع لعلمهم بذلك وَإِنَّمَا أَمرهم بِأَرْبَع لم يكن فِي علمهمْ أَنَّهَا دعائم الْإِيمَان قلت لَو اطلع الْكرْمَانِي على رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أبي جَمْرَة وَرِوَايَة عباد لما نفى الصَّحِيح وَأثبت غير الصَّحِيح وَالتَّعْلِيل الَّذِي علله(1/307)
هُوَ السُّؤَال الَّذِي أجَاب عَنهُ ابْن رشد فَإِن قلت قد وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الزَّكَاة " وَشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " بواو الْعَطف قلت هَذِه زِيَادَة شَاذَّة لم يُتَابع عَلَيْهَا قَوْله " وَأَن تعطوا " عطف على قَوْله " بِأَرْبَع " أَي أَمركُم بِأَرْبَع وَبِأَن تعطوا وَأَن مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير وبإعطاء الْخمس من الْمغنم قَوْله " ونهاهم " عطف على قَوْله أَمرهم قَوْله " عَن الحنتم " بدل من قَوْله عَن أَربع وَمَا بعده عطف وَفِيه الْمُضَاف مَحْذُوف تَقْدِيره ونهاهم عَن نَبِيذ الحنتم والدباء قَوْله " وَرُبمَا " كلمة رب هَهُنَا للتقيل وَإِذا زيدت عَلَيْهَا مَا فالغالب أَن تكفها عَن الْعَمَل وَأَن تهيئها للدخول على الْجمل الفعلية وَأَن يكون الْفِعْل مَاضِيا لفظا وَمعنى فَإِن قلت مَا تَقول فِي قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا} قلت هُوَ مؤول بالماضي على حد قَوْله تَعَالَى 0 وَنفخ فِي الصُّور} قَوْله " وأخبروا بِهن " بِفَتْح الْهمزَة قَوْله " من وَرَائِكُمْ " مفعول ثَان لَا خبروا وَمن بِفَتْح الْمِيم مَوْصُولَة مُبْتَدأ وَقَوله وراءكم خَبره والتقدبر أخبروا الَّذين كَانُوا وراءكم واستقروا وَرِوَايَة البُخَارِيّ بِفَتْح من كَمَا ذكرنَا وَكَذَا رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن المثني وَغَيره وَوَقع لَهُ من طَرِيق ابْن أبي شيبَة من وَرَائِكُمْ بِكَسْر الْمِيم والهمزة (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " كنت اقعد مَعَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " يَعْنِي زمن ولَايَته الْبَصْرَة من قبل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. وَوَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْعلم بَيَان السَّبَب فِي إكرام ابْن عَبَّاس لأبي جَمْرَة وَهُوَ " كنت أترجم بَين ابْن عَبَّاس وَبَين النَّاس " وَفِي مُسلم " كنت بَين يَدي ابْن عَبَّاس وَبَين النَّاس " فَقيل أَن لَفظه يَدي زَائِدَة وَقيل بَينه مُرَاده مقدرَة أبي بَيِّنَة وَبَين النَّاس قَوْله " أترجم " من التَّرْجَمَة وَهِي التَّعْبِير بلغَة عَن لُغَة لمن لَا يفهم فَقيل كَانَ يتَكَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ وَكَانَ يترجم لِابْنِ عَبَّاس عَمَّن تكلم بهَا وَقَالَ ابْن الصّلاح وَعِنْدِي أَنه كَانَ يبلغ كَلَام ابْن عَبَّاس إِلَى من خَفِي عَلَيْهِ من النَّاس أما الزحام أَو لاختصار يمْنَع من فهمه وَلَيْسَت التَّرْجَمَة مَخْصُوصَة بتفسير لُغَة بلغَة أُخْرَى فقد أطْلقُوا على قَوْلهم بَاب كَذَا اسْم التَّرْجَمَة لكَونه يعبر عَمَّا يذكرهُ بعد قَالَ النَّوَوِيّ وَالظَّاهِر أَنه يفهمهم عَنهُ ويفهمه عَنْهُم وَقَالَ القَاضِي فِيهِ جَوَاز التَّرْجَمَة وَالْعَمَل بهَا وَجَوَاز المترجم الْوَاحِد لِأَنَّهُ من بَاب الْخَبَر لَا من بَاب الشَّهَادَة على الْمَشْهُور قلت قَالَ أَصْحَابنَا وَالْوَاحد يَكْفِي للتزكية والرسالة والترجمة لِأَنَّهَا خبر وَلَيْسَت بِشَهَادَة حَقِيقَة وَلِهَذَا لَا يشْتَرط لَفْظَة الشَّهَادَة قَوْله " أَن وَفد عبد الْقَيْس " قَالَ النَّوَوِيّ كَانُوا أَرْبَعَة عشر رَاكِبًا كَبِيرهمْ الْأَشَج وسمى مِنْهُم صَاحب التَّحْرِير وَصَاحب مَنْهَج الراغبين شارحا مُسلم ثَمَانِيَة أنفس الأول رئيسهم وَكَبِيرهمْ الْأَشَج واسْمه المندر بن عَائِذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن الْمُنْذر بن الْحَارِث بن النُّعْمَان بن زِيَاد بن عصر كَذَا نسبه أَبُو عمر وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ المندر بن عَوْف بن عَمْرو بن زِيَاد بن عصر وَكَانَ سيد قومه قلت عصر بِفَتْح الْمُهْمَلَتَيْنِ بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن بكر بن عَوْف بن أَنْمَار بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بِضَم اللَّام وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة بن افصى بِالْفَاءِ بن عبد الْقَيْس بن دعمى بن جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَشَج لأثر كَانَ فِي وَجهه الثَّانِي عَمْرو بن المرجوم بِالْجِيم وَاسم المرجوم عَامر بن عَمْرو بن عدي بن عَمْرو بن قيس بن شهَاب بن زيد بن عبد الله بن زِيَاد بن عصر كَانَ من أَشْرَاف الْعَرَب وساداتها الثَّالِث عبيد بن همام بن مَالك بن همام الرَّابِع الْحَارِث بن شُعَيْب الْخَامِس مزيدة بن مَالك السَّادِس منقذ بن حبَان السَّابِع الْحَارِث بن حبيب العايشي بِالْمُعْجَمَةِ الثَّامِن صحار بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الْحَاء وَفِي آخِره رَاء كلهَا مهملات وَقَالَ صَاحب التَّحْرِير لم أظفر بعد طول التتبع لأسماء البَاقِينَ قلت السِّتَّة الْبَاقِيَة على مَا ذكرُوا هم عتبَة بن حروة والجهيم بن قثم والرسيم الْعَدْوى وجويرة الْكِنْدِيّ والزارع بن عَائِد الْعَبْدي وَقيس بن النُّعْمَان وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي مُعْجمَة حَدثنِي زِيَاد بن أَيُّوب ثَنَا إِسْحَاق بن يُوسُف انبأنا عَوْف عَن أبي القموس زيد بن عَليّ حَدِيث الْوَفْد الَّذين وفدوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عبد الْقَيْس وَفِيه قَالَ النُّعْمَان بن قيس " سألناه عَن أَشْيَاء حَتَّى سألناه عَن الشَّرَاب فَقَالَ لَا تشْربُوا من دباء وَلَا حنتم وَلَا فِي نقير وَاشْرَبُوا فِي الْحَلَال الموكي عَلَيْهِ فَإِن اشْتَدَّ عَلَيْكُم فاكسروا بِالْمَاءِ فَإِن أعياكم فاهريقوه " الحَدِيث فَإِن قلت روى ابْن مَنْدَه ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق هود العصري عَن جده لِأَنَّهُ مزيدة قَالَ " بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث أَصْحَابه إِذا قَالَ لَهُم سيطلع لكم من هَذَا الْوَجْه ركب هُوَ خير أهل الْمشرق فَقَامَ عمر رَضِي الله عَنهُ فلقي ثَلَاثَة عشر رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقرب من الْقَوْم وَقَالَ من الْقَوْم قَالُوا وَفد عبد الْقَيْس وروى الدولابي(1/308)
وَغَيره من طَرِيق أبي خيرة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعدهَا الرَّاء الصباحي بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف حاء مُهْملَة نِسْبَة إِلَى الصَّباح بن لكيز بن افصى بن عبد الْقَيْس قَالَ " كنت فِي الْوَفْد الَّذين اتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رجلا فنهانا عَن الدُّبَّاء والنقير " الحَدِيث قلت أجَاب بَعضهم عَن الأول بِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون أحد الْمَذْكُورين غير رَاكب وَعَن الثَّانِي بِأَن الثَّلَاثَة عشر كَانُوا رُؤُوس الْوَفْد قلت هَذَا عَجِيب مِنْهُ لِأَنَّهُ لم يسلم التَّنْصِيص على الْعدَد الْمَذْكُور فَكيف يوفق بَينه وَبَين ثَلَاثَة عشر وَأَرْبَعين حَتَّى قَالَ وَقد وَقع فِي جملَة من الْأَخْبَار ذكر جمَاعَة من عبد الْقَيْس فعد مِنْهُم أَخا الزَّارِع وَابْن مطر وَابْن أَخِيه وشمرخا السَّعْدِيّ وَقَالَ روى حَدِيثه ابْن السكن وَأَنه قدم مَعَ وَفد عبد الْقَيْس وجذيمة بن عَمْرو وَجَارِيَة بِالْجِيم ابْن جاب وَهَمَّام بن ربيعَة وَقَالَ ذكرهم ابْن شاهين ونوح بن مخلد جد أبي جَمْرَة الصباحي قلت وَمن الَّذين كَانُوا فِي الْوَفْد الْأَعْوَر بن مَالك بن عمر ابْن عَوْف بن عَامر بن ذبيان بن الديل بن صباح وَكَانَ من أَشْرَاف عبد الْقَيْس وشجعانهم فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ وَكَانَ مِمَّن وَفد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم مَعَ الْأَشَج ذكره الرشاطي وَمِنْهُم الْقَائِف وَإيَاس ابْنا عِيسَى بن أُميَّة بن ربيعَة بن عَامر بن دبيان بن الديل بن صباح وَكَانَا من سَادَات بني صباح وَمِنْهُم شريك بن عبد الرَّحْمَن والْحَارث بن عِيسَى وَعبد الله بن قيس والذراع بن عَامر وَعِيسَى بن عبد الله كَانُوا مَعَ الَّذين وفدوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الْأَشَج ذكرهم كلهم أَبُو عُبَيْدَة وَمِنْهُم ربيعَة بن خرَاش ذكره الْمَدَائِنِي وَقَالَ أَنه وَفد وَمِنْهُم محَارب بن مرْثَد وفدوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ وَفد عبد الْقَيْس ذكره ابْن الْكَلْبِيّ وَمِنْهُم عباد بن نَوْفَل بن خِدَاش وَابْنه عبد الرَّحْمَن بن عباد وَعبد الرَّحْمَن بن حَيَّان وَأَخُوهُ الحكم بن حَيَّان وَعبد الرَّحْمَن بن أَرقم وفضالة بن سعد وَحسان ابْن يزِيد وَعبد الله بن همام وَسعد بن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن همام وَحَكِيم بن عَامر وَأَبُو عَمْرو بن شييم كلهم وفدوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا من سَادَات عبد الْقَيْس وأشرافها وفرسانها ذكرهم أَبُو عُبَيْدَة فَهَؤُلَاءِ اثْنَان وَعِشْرُونَ رجلا زِيَادَة على مَا ذكره هَذَا الْقَائِل فجملة الْجمع تكون خَمْسَة وَأَرْبَعين نفسا فَعلمنَا أَن التَّنْصِيص على عدد معِين لم يَصح وَلِهَذَا لم يُخرجهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِالْعدَدِ الْمعِين وَكَانَ سَبَب قدومهم أَن منقذ بن حبَان أحد بن غنم بن وَدِيعَة كَانَ يتجر إِلَى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد الْهِجْرَة فَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَهَضَ منقذ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " يَا منقذ ابْن حبَان كَيفَ جمع قَوْمك ثمَّ سَأَلَهُ عَن أَشْرَافهم يسميهم فَأسلم منقذ وَتعلم الْفَاتِحَة وَأقر أَثم رَحل إِلَى هجر فَكتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جمَاعَة عبد الْقَيْس فكتمه ثمَّ اطَّلَعت عَلَيْهِ امْرَأَته وَهِي بنت الْمُنْذر بن عَائِد وَهُوَ الْأَشَج الْمَذْكُور وَكَانَ منقذ يُصَلِّي وَيقْرَأ فَذكرت لأَبِيهَا فتلاقيا فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبه ثمَّ سَار الْأَشَج إِلَى قومه عصر ومحارب بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِم فَوَقع الْإِسْلَام فِي قُلُوبهم وَأَجْمعُوا على الْمسير إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَار الْوَفْد فَلَمَّا دنوا من الْمَدِينَة قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أَتَاكُم وَفد عبد الْقَيْس خير أهل الْمشرق وَفِيهِمْ الْأَشَج العصري غير ناكبين وَلَا مبدلين وَلَا مرتابين إِذا لم يسلم قوم حَتَّى وتروا قَالَ القَاضِي كَانَ وفودهم عَام الْفَتْح قبل خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة قَوْله " قَالُوا ربيعَة " فِيهِ التَّعْبِير بِالْبَعْضِ عَن الْكل لأَنهم بعض ربيعَة وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهِي طَرِيق عباد بن عباد عَن أبي جَمْرَة فَقَالُوا " أَنا هَذَا الْحَيّ من ربيعَة " أخرجهَا البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا والحي مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص قَوْله " غير خزايا وَلَا ندامى " مَعْنَاهُ لم يكن مِنْكُم تَأَخّر الْإِسْلَام وَلَا أَصَابَكُم قتال وَلَا سبي وَلَا أسر وَمَا أشبهه مِمَّا تستحيون مِنْهُ أَو تذلون أَو تفضحون بِسَبَبِهِ أَو تَنْدمُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا يدل على أَنهم أَسْلمُوا قبل وفودهم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْلهم يَا رَسُول الله وَيدل أَيْضا على تقدم إسْلَامهمْ على قبائل مُضر الَّذين كَانُوا بَينهم وَبَين الْمَدِينَة وَكَانَت مساكنهم بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا والاها من أَطْرَاف الْعرَاق وَلِهَذَا قَالُوا فِي رِوَايَة شُعْبَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْعلم " أَنا نَأْتِيك من شقة بعيدَة " أَن أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس بجواثي من الْبَحْرين " وَهِي بِضَم الْجِيم وَبعد الْألف ثاء مُثَلّثَة مَفْتُوحَة وَهِي قَرْيَة مَشْهُورَة(1/309)
لَهُم فِي الْمطَالع جواثي بواو ومخففة وَمِنْهُم من يهمزها وَهِي مَدِينَة وَإِنَّمَا جمعت بعد رُجُوع وفدهم إِلَيْهِم فَدلَّ على أَنهم سبقوا جَمِيع المدن إِلَى الْإِسْلَام وَجَاء فِي هَذَا الْخَبَر " أَن وَفد عبد الْقَيْس لما وصلوا إِلَى الْمَدِينَة بَادرُوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَامَ الْأَشَج فَجمع رِجَالهمْ وعقل نَاقَته وَلبس ثيابًا جددا ثمَّ أقبل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَجْلسهُ إِلَى جَانِبه ثمَّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم تُبَايِعُونِي على أَنفسكُم وقومكم فَقَالَ الْقَوْم نعم فَقَالَ الْأَشَج يَا رَسُول الله إِنَّك لن تزايل الرجل عَن شَيْء أَشد عَلَيْهِ من دينه نُبَايِعك على أَنْفُسنَا وَترسل مَعنا من يَدعُوهُم فَمن اتبع كَانَ منا وَمن أبي قَاتَلْنَاهُ قَالَ صدقت إِن فِيك لخصلتين يحبهما الله الْحلم والإناة " وَجَاء فِي مُسْند أبي يعلى الْموصل " أكانا فِي أم حَدثا قَالَ بل قديم قلت الْحَمد لله الَّذِي جعلني على خلقين يحبهما الله تَعَالَى " والأناة بِفَتْح الْهمزَة مَقْصُورَة قَالَ الْجَوْهَرِي الأناة على وزن قناة يُقَال تأنى فِي الْأَمر أَن توقف وانتطر وَرجل آن على وزن فَاعل أَي كثير الأناة وَقَالَ القَاضِي آنيت ممدودا وأنيت وتأنيت وَزَاد غَيره اسْتَأْنَيْت وَاصل الْحلم بِالْكَسْرِ الْعقل (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) وَهُوَ على وُجُوه الأول فِيهِ وفادة الرؤساء إِلَى الْأَئِمَّة عِنْد الْأُمُور المهمة الثَّانِي قَالَ ابْن التِّين يستنبط من وقله " اجْعَل لَك سَهْما من مَالِي " على جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على التَّعْلِيم الثَّالِث فِيهِ استعانة الْعَالم فِي تفهيم الْحَاضِرين والفهم عَنْهُم كَمَا فعله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الرَّابِع فِيهِ اسْتِحْبَاب قَول مرْحَبًا للزوار الْخَامِس فِيهِ أَنه يَنْبَغِي أَن يحث النَّاس على تَبْلِيغ الْعلم. السَّادِس فِيهِ الْأَمر بِالشَّهَادَتَيْنِ. السَّابِع فِيهِ الْأَمر بِالصَّلَاةِ. الثَّامِن فِيهِ الْأَمر بأَدَاء الزَّكَاة. التَّاسِع فِيهِ الْأَمر بصيام شهر رَمَضَان. الْعَاشِر فِيهِ وجوب الْخمس فِي الْغَنِيمَة قلت أم كثرت وَإِن لم يكن الإِمَام فِي السّريَّة الغازية. الْحَادِي عشر النَّهْي عَن الانتباذ فِي الْأَوَانِي الْأَرْبَع وَهِي أَن تجْعَل فِي المَاء حبا من تمر أَو زبيب أَو نَحْوهمَا ليحلو وَيشْرب لِأَنَّهُ يسْرع فِيهَا الاسكار فَيصير حَرَامًا وَلم ينْه عَن الانتباذ فِي أسقية الْأدم بل أذن فِيهَا لِأَنَّهَا لرقتها لَا يبْقى فِيهَا الْمُسكر بل إِذا صَار مُسكر أشقها غَالِبا ثمَّ إِن هَذَا النَّهْي كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ نسخ فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث بُرَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن الانتباذ إِلَّا فِي الأسقية فانتبذوا فِي كل وعَاء وَلَا تشْربُوا مُسكرا " وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور وَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن النَّهْي بَاقٍ مِنْهُم مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق حَكَاهُ الْخطابِيّ عَنْهُم قَالَ وَهُوَ مروى عَن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وَذكر ابْن عَبَّاس هَذَا الحَدِيث لما استفتى دَلِيل على أَنه يعْتَقد النَّهْي وَلم يبلغهُ النَّاسِخ وَالصَّوَاب الْجَزْم بِالْإِبَاحَةِ لتصريح النّسخ. الثَّانِي عشر فِيهِ دَلِيل على عدم كَرَاهَة قَول رَمَضَان من غير تَقْيِيد بالشهر. الثَّالِث عشر فِيهِ أَنه لَا عيب عل الطَّالِب للعلوم أَو المستفتي أَن يَقُول للْعَالم أوضح لي الْجَواب وَنَحْو هَذِه الْعبارَة الرَّابِع عشر فِيهِ ندب الْعَالم إِلَى إكرام الْفَاضِل الْخَامِس عشر فِيهِ أَن الثَّنَاء على الْإِنْسَان فِي وَجهه لَا يكره إِذا لم يخف فِيهِ بإعجاب وَنَحْوه السَّادِس عشر فِيهِ دَلِيل على أَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام بِمَعْنى وَاحِد لِأَنَّهُ فسر الْإِسْلَام فِيمَا مضى بِمَا فسر الْإِيمَان هَهُنَا السَّابِع عشر فِيهِ أَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة إِذا قبلت تدخل صَاحبهَا الْجنَّة الثَّامِن عشر أَنه يبْدَأ بالسؤال عَن الأهم التَّاسِع عشر فِيهِ دَلِيل على الْعذر عِنْد الْعَجز عَن تَوْفِيَة الْحق وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا قَالَه ابْن أبي جَمْرَة الْعشْرُونَ فِيهِ الِاعْتِمَاد على أَخْبَار الْآحَاد كَمَا ذَكرْنَاهُ (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَن قَوْله كنت فعل ماضي وَقَوله اقعد للْحَال أَو للاستقبال فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا أُجِيب بِأَن أقعد حِكَايَة عَن الْحَال الْمَاضِيَة فَهُوَ مَاض وَذكر بِلَفْظ الْحَال استحضار لتِلْك الصُّورَة للحاضرين وَمِنْهَا مَا قيل كَيفَ قَالَ أَمرهم بِأَرْبَع ثمَّ قَالَ أَمرهم بِالْإِيمَان أُجِيب بِأَن الْإِيمَان بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء الْأَرْبَعَة صَحَّ إِطْلَاق الْأَرْبَع عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا قيل لم لم يذكر الْحَج وَهُوَ أَيْضا من أَرْكَان الدّين أُجِيب بأجوبة. الأول إِنَّمَا ترك ذكره لكَونه على التَّرَاخِي وَهَذَا لَيْسَ بجيد لِأَن كَونه على التَّرَاخِي لَا يمْنَع من الْأَمر بِهِ وَفِيه خلاف بَين الْفُقَهَاء فَعِنْدَ أبي يُوسُف وُجُوبه على الْفَوْر وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا وَمذهب أَحْمد أَنه على التَّرَاخِي وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَن فرض الْحَج كَانَ بعد الْهِجْرَة وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَادر على الْحَج فِي سنة ثَمَان وَفِي سنة تسع وَلم يحجّ إِلَّا فِي عشر وَأجِيب بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ عَالما بإدراكه فَلذَلِك أَخّرهُ بِخِلَاف غَيره مَعَ وُرُود الْوَعيد فِي تَأْخِيره بعد الْوُجُوب. الثَّانِي إِنَّمَا تَركه لشهرته عِنْدهم وَهَذَا أَيْضا(1/310)
لَيْسَ بجيد لِأَنَّهُ عِنْد غَيرهم أشهر مِنْهُ عِنْدهم. الثَّالِث إِنَّمَا تَركه لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم سَبِيل إِلَيْهِ من أجل كفار مُضر وَهَذَا أَيْضا لَيْسَ بجيد لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم الِاسْتِطَاعَة ترك الْأَخْبَار بِهِ ليعْمَل بِهِ عِنْد الْإِمْكَان على أَن الدَّعْوَى أَنهم كَانُوا إِلَّا سَبِيل لَهُم إِلَى الْحَج بَاطِلَة لِأَن الْحَج يقه فِي الْأَشْهر الْحرم وَقد ذكرُوا أَنهم كَانُوا يأمنون فِيهَا لَكِن يُمكن أَن يُقَال إِنَّمَا أخْبرهُم بِبَعْض الْأَوَامِر لكَوْنهم سَأَلُوهُ أَن يُخْبِرهُمْ بِمَا يدْخلُونَ بِهِ الْجنَّة فاقتصر فِي المناهى عَن الانتباذ فِي الأوعية لِكَثْرَة تعاطيهم لَهَا. الرَّابِع وَهُوَ الْمُتَعَمد عَلَيْهِ مَا أجَاب بِهِ القَاضِي عِيَاض من أَن السَّبَب فِي كَونه لم يذكر الجح لِأَنَّهُ لم يكن فرض لِأَن قدومهم كَانَ فِي سنة ثَمَان قبل فتح مَكَّة وَالْحج فرض فِي سنة تسع فَإِن قلت الْأَصَح أَن الْحَج فرض سنة سِتّ وقدومهم فِي سنة ثَمَان أَو عَام الْفَتْح كَمَا نقل عَنهُ وَقد ذَكرْنَاهُ قلت اعْتِمَاد القَاضِي على أَنه فرض فِي سنة تسع فَإِن قلت أخرج الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكَبِير من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أبي زيد الْهَرَوِيّ عَن قُرَّة فِي هَذَا الحَدِيث وَفِيه ذكر الْحَج وَلَفظه " وتحجوا الْبَيْت الْحَرَام " وَلم يتَعَرَّض لعدد قلت هَذِه رِوَايَة شَاذَّة وَقد أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَمن استخرج عَلَيْهِمَا وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة من طَرِيق قُرَّة وَلم يذكر أحد مِنْهُم الْحَج. وَمِنْهَا مَا قيل لم عدل عَن لفظ الْمصدر الصَّرِيح فِي قَوْله " وَأَن تعطوا من الْمغنم " إِلَى مَا فِي معنى الْمصدر وَهِي أَن مَعَ الْفِعْل أُجِيب بِأَنَّهُ للإشعار بِمَعْنى التجدد الَّذِي للْفِعْل لِأَن سَائِر الْأَركان كَانَت ثَابِتَة قبل ذَلِك بِخِلَاف إِعْطَاء الْخمس فَإِن فرضيته كَانَت متجددة وَمِنْهَا مَا قيل لم خصصت الأوعية الْمَذْكُورَة بالنهى أُجِيب بِأَنَّهُ يسْرع إِلَيْهِ الاسكار فِيهَا فَرُبمَا شربه بعد إسكاره من لم يطلع عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا قيل مَا الْحِكْمَة فِي الْإِجْمَال بِالْعدَدِ قبل التَّفْسِير فِي قَوْله بِأَرْبَع وَعَن أَربع أُجِيب لأجل تشويق النَّفس إِلَى التَّفْصِيل لتسكن إِلَيْهِ ولتحصيل حفظهَا للسامع حَتَّى إِذا نسي شَيْئا من تفاصيل مَا أجمل طلبته نَفسه بِالْعدَدِ فَإِذا لم يسْتَوْف الْعدَد الَّذِي حفظه علم أَنه قد فَاتَهُ بعض مَا سمع فَافْهَم وَالله أعلم بِالصَّوَابِ
41 - (بَاب مَا جاءَ أنّ الأعْمَال بالنِّيَّةِ والحِسْبَةِ ولِكُلِّ امرِىء مَا نَوَى)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: التَّقْدِير: هَذَا بَاب بَيَان مَا جَاءَ، وارتفاع الْبَاب على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ مُضَاف إِلَى كلمة: مَا، الَّتِي هِيَ مَوْصُولَة، وَأَن، مَفْتُوحَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا فَاعل جَاءَ، وَالْمعْنَى: مَا ورد فِي الحَدِيث (إِن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا بِهَذَا اللَّفْظ على مَا يَأْتِي الْآن، وَكَذَلِكَ أخرجه بِهَذَا اللَّفْظ فِي بَاب هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا فِي أول الْكتاب أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي سَبْعَة مَوَاضِع عَن سَبْعَة شُيُوخ. وَقَوله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) من بعض هَذَا الحَدِيث وَقَوله: (والحسبة) لَيْسَ من لفظ الحَدِيث أصلا، لَا من هَذَا الحَدِيث وَلَا من غَيره، وَإِنَّمَا أَخذه من لَفْظَة: يحتسبها، الَّتِي فِي حَدِيث أبي مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، الَّذِي ذكره فِي هَذَا الْبَاب، فَإِن قلت: والحسبة، عطف على قَوْله: بِالنِّيَّةِ، وداخل فِي حكمه، وَقَوله: مَا جَاءَ يَشْمَل كليهمَا، وكل مِنْهُمَا يُؤذن بِأَنَّهُ من لفظ الحَدِيث وَلَيْسَ كَذَلِك. قلت: لَا نسلم. أما الْمَعْطُوف فَلَا يلْزم أَن يكون مشاركا للمعطوف عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَحْكَام، وَأما شُمُول قَوْله: مَا جَاءَ كلا اللَّفْظَيْنِ، فَإِنَّهُ أَعم أَن يكون بِاللَّفْظِ الْمَرْوِيّ بِعَيْنِه، أَو بِلَفْظ يدل عَلَيْهِ مَأْخُوذ مِنْهُ، وَقَوله: الْحِسْبَة، إسم من قَوْله: يحتسبها، الَّذِي ورد فِي حَدِيث أبي مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، فَحِينَئِذٍ دخلت هَذِه اللَّفْظَة تَحت قَوْله: مَا جَاءَ. فَإِن قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن قَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) من تَتِمَّة قَوْله: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) ، وَقَوله: (والحسبة) لَيْسَ مِنْهُ وَلَا من غَيره بِهَذَا اللَّفْظ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَلكُل امرىء مَا نوى والحسبة. قلت: نعم كَانَ هَذَا مُقْتَضى الظَّاهِر، وَلَكِن لما كَانَ لفظ: الْحِسْبَة، من الاحتساب، وَهُوَ: الْإِخْلَاص، كَانَ ذكره عقيب النِّيَّة أمسّ من ذكره عقيب قَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) ، لِأَن النِّيَّة إِنَّمَا تعْتَبر إِذا كَانَت بالإخلاص. قَالَ الله تَعَالَى: {مُخلصين لَهُ الدّين} وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَنه عقد هَذَا الْبَاب على ثَلَاث تراجم: الأولى: هِيَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَالثَّانيَِة: هِيَ الْحِسْبَة، وَالثَّالِثَة: هِيَ قَول: (وَلكُل امرىء مَا نوى) . وَلِهَذَا أخرج فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة أَحَادِيث، لكل تَرْجَمَة حَدِيث، فَحَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ، لقَوْله: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) وَحَدِيث أبي مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لقَوْله: (والحسبة) وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله عَنهُ لقَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) . فَلَو أخر لفظ: الْحِسْبَة، إِلَى آخر الْكَلَام، وَذكره عقيب قَوْله:(1/311)
(وَلكُل امرىء مَا نوى) ، كَانَ يفوت قَصده التَّنْبِيه على ثَلَاث تراجم، وَإِنَّمَا كَانَ يفهم مِنْهُ ترجمتان: الأولى: من قَوْله (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَلكُل امرىء مَا نوى) وَالثَّانيَِة: من قَوْله (والحسبة) فَانْظُر إِلَى هَذِه النكات، هَل ترى شارحا ذكرهَا أَو حام حولهَا؟ وكل ذَلِك بالفيض الإل هِيَ والعناية الرحمانية.
الْوَجْه الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْأَعْمَال الَّتِي يدْخل بهَا العَبْد الْجنَّة، وَلَا يكون الْعَمَل عملا إلاَّ بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص، فَلذَلِك ذكر هَذَا الْبَاب عقيب الْبَاب الْمَذْكُور. وَأَيْضًا فَالْبُخَارِي أَدخل الْإِيمَان فِي جملَة الْأَعْمَال، فَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، وَهُوَ اعْتِقَاد الْقلب بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ الرَّد على المرجئة: أَن الْإِيمَان قَول بِاللِّسَانِ دون عقد الْقلب، أَلا يرى إِلَى تأكيده بقوله: (فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله) إِلَى آخر الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّالِث: إِن الْحِسْبَة، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، اسْم من الاحتساب، وَالْجمع: الْحسب. يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله، أَي: اعتددته أنوي بِهِ وَجه الله تَعَالَى. وَمِنْه قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (من صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . وَفِي حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ: (يَا أَيهَا النَّاس! احتسبوا أَعمالكُم، فَإِن من احتسب عمله كتب لَهُ أجر عمله وَأجر حسبته) . وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: احتسبت بِكَذَا أجرا عِنْد الله، وَالِاسْم: الْحِسْبَة، بِالْكَسْرِ، وَهِي الْأجر. وَكَذَا قَالَ فِي (الْعباب) : الْحِسْبَة بِالْكَسْرِ: الْأجر، وَيُقَال: إِنَّه يحسن الْحِسْبَة فِي الْأَمر: إِذا كَانَ حسن التَّدْبِير لَهُ والحسبة، أَيْضا: من الْحساب. مِثَال: الْعقْدَة وَالركبَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: احتسبت عَلَيْهِ بِكَذَا، أَي: أنكرته عَلَيْهِ. وَمِنْه: محتسب الْبَلَد، واحتسب فلَان ابْنا أَو بِنْتا، إِذا مَاتَ وَهُوَ كَبِير، فَإِن مَاتَ صَغِيرا قيل: افترطه. وَقَالَ ابْن السّكيت: احتسبت فلَانا: اختبرت مَا عِنْده، وَالنِّسَاء يحتسبن مَا عِنْد الرِّجَال لَهُنَّ: أَي يختبرن. وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالحسبة طلب الثَّوَاب. قلت: لم يقل أحد من أهل اللُّغَة: إِن الْحِسْبَة طلب الثَّوَاب، بل مَعْنَاهَا مَا ذَكرْنَاهُ من أَصْحَاب اللُّغَات، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ أَيْضا مَا يشْعر بِمَعْنى الطّلب، وَإِنَّمَا الْحِسْبَة هُوَ: الثَّوَاب، على مَا فسره الْجَوْهَرِي، وَالثَّوَاب: هُوَ الْأجر على أَنه لَا يُفَسر بِهِ فِي كل مَوضِع، أَلا ترى إِلَى حَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ: فَإِن فِيهِ أجر حسبته، وَلَو فسرت الْحِسْبَة بِالْأَجْرِ فِي كل الْمَوَاضِع يصير الْمَعْنى فِيهِ: كتب لَهُ أجر عمله وَأجر أجره، وَهَذَا لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَهُ أجر عمله وَأجر احتساب عمله، وَهُوَ إخلاصه فِيهِ. أَو الْمَعْنى: من اعْتد عمله نَاوِيا، كتب لَهُ أجر عمله وَأجر نِيَّته.
فَدَخَلَ فيهِ: الإيمانُ والوضُوء والصَّلاةُ والزَّكاةُ والحَجُّ والصَّوْم والأحْكامُ
هَذَا من مقول البُخَارِيّ لَا من تَتِمَّة مَا جَاءَ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ماصرح بِهِ فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، فَقَالَ: قَالَ أَبُو عبد الله فَدخل فِيهِ الْإِيمَان إِلَخ، وَالْمرَاد بِأبي عبد الله هُوَ: البُخَارِيّ نَفسه. فَإِن قلت: مَا الْفَاء فِي قَوْله: فَدخل؟ قلت: فَاء جَوَاب شَرط مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِذا كَانَ الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ فَدخل فِيهِ الْإِيمَان ... الخ، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى مَا تقدم من قَوْله: بَاب مَا جَاءَ أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ... الخ، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور.
ثمَّ اعْلَم أَنه ذكر هُنَا سَبْعَة أَشْيَاء:
الأول: الْإِيمَان، فَدَخَلُوا فِي ذَلِك على مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ من أَن الْإِيمَان عمل، وَقد علم أَن معنى الْإِيمَان إِمَّا التَّصْدِيق أَو معرفَة الله تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِد لَا شريك لَهُ، وكل مَا جَاءَ من عِنْده حق، فَإِن كَانَ المُرَاد الأول فَلَا دخل للنِّيَّة فِيهِ، لِأَن الشَّارِع قَالَ: الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، والأعمال حركات الْبدن، وَلَا دخل للقلب فِيهِ. وَإِن كَانَ المُرَاد الثَّانِي، فدخول النِّيَّة فِيهِ محَال، لِأَن معرفَة الله تَعَالَى، لَو توقفت على النِّيَّة، مَعَ أَن النِّيَّة قصد الْمَنوِي بِالْقَلْبِ، لزم أَن يكون عَارِفًا بِاللَّه قبل مَعْرفَته، وَهُوَ محَال، وَلِأَن الْمعرفَة، وَكَذَا الْخَوْف والرجاء، متميزة لله تَعَالَى بصورتها، وَكَذَا التَّسْبِيح وَسَائِر الْأَذْكَار والتلاوة لَا يحْتَاج شَيْء مِنْهَا إِلَى نِيَّة التَّقَرُّب.
الثَّانِي: الْوضُوء، فدخوله فِي ذَلِك على مذْهبه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعَامة أَصْحَاب الحَدِيث، وَعَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حييّ: لَا يدْخل، وَقَالُوا: لَيْسَ الْوضُوء عبَادَة مُسْتَقلَّة، وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَة إِلَى الصَّلَاة. وَقَالَ الْخصم: ونوقضوا بِالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ وَسِيلَة، وَقد اشْترط الْحَنَفِيَّة النِّيَّة فِيهِ. قلت: هَذَا التَّعْلِيل ينْتَقض بتطهير الثَّوْب وَالْبدن عَن الْخبث، فَإِنَّهُ طَهَارَة، وَلم يشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، فَإِن قَالُوا: الْوضُوء تَطْهِير حكمي ثَبت شرعا غير مَعْقُول، لِأَن لَا يعقل فِي الْمحل نَجَاسَة تَزُول بِالْغسْلِ إِذْ الْأَعْضَاء طَاهِرَة حَقِيقَة وَحكما، إِمَّا حَقِيقَة فَظَاهر، وَأما حكما فَلِأَنَّهُ لَو صلى إِنْسَان وَهُوَ حَامِل مُحدث جَازَت الصَّلَاة، وَإِذا ثَبت أَنه تعبدي، وَحكم الشَّرْع بِالنَّجَاسَةِ فِي حق الصَّلَاة فَجَعلهَا كالحقيقة، كَانَ مثل التَّيَمُّم، حَيْثُ جعل الشَّارِع مَا لَيْسَ بمطهر حَقِيقَة مطهرا حكما، فَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة كالتيمم، تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّعَبُّد إِذْ(1/312)
الْعِبَادَة لَا تتأدى بِدُونِ النِّيَّة، بِخِلَاف غسل الْخبث، فَإِنَّهُ مَعْقُول لما فِيهِ من إِزَالَة عين النَّجَاسَة عَن الْبدن أَو الثَّوْب، فَلَا يتَوَقَّف على النِّيَّة. قُلْنَا: المَاء مطهر بطبعه لِأَنَّهُ خلق مطهرا. قَالَ الله تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} (الْفرْقَان: 48) كَمَا أَنه مزيل للنَّجَاسَة ومطهر بطبعه، وَإِذا كَانَ كَذَلِك تحصل الطَّهَارَة بِاسْتِعْمَالِهِ، سَوَاء نوى أَو لم ينْو، كالنار يحصل بهَا الإحراق، وَإِن لم يقْصد. وَالْحَدَث يعم الْبدن لِأَنَّهُ غير متجزىء فيسري إِلَى الْجَمِيع، وَلِهَذَا يُوصف بِهِ كُله، فَيُقَال: فلَان مُحدث، كَسَائِر الصِّفَات، إِذْ لَيْسَ بعض الْأَعْضَاء أولى بِالسّرَايَةِ من الْبَعْض، إِذْ لَو خصص بعض الْأَعْضَاء بِالْحَدَثِ لخصَّ مَوضِع خُرُوج النَّجَاسَة بذلك، لِأَنَّهُ أولى الْمَوَاضِع بِهِ لخُرُوج النَّجَاسَة مِنْهُ، لكنه لم يخص، فَإِنَّهُ لَا يُقَال: مخرجه مُحدث، فَإِذا لم يخص الْمخْرج بذلك فَغَيره أولى، وَإِذا ثَبت أَن الْبدن كُله مَوْصُوف بِالْحَدَثِ كَانَ الْقيَاس غسل كُله، إلاَّ أَن الشَّرْع اقْتصر على غسل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ الْأُمَّهَات للأعضاء تيسيرا، وَأسْقط غسل الْبَاقِي فِيمَا يكثر وُقُوعه، كالحدث الْأَصْغَر، دفعا للْحَرج، وَفِيمَا عداهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يكثر وجوده كالحدث الْأَكْبَر، مثل: الْجَنَابَة وَالْحيض وَالنّفاس، أقرّ على الأَصْل حَيْثُ أوجب غسل الْبدن فِيهَا، فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ وصف كل الْبدن بِالنَّجَاسَةِ مَعَ كَونه طَاهِرا حَقِيقَة، وَحكمهَا دون تَخْصِيص الْمخْرج، وَكَذَا الِاقْتِصَار على غسل بعض الْبدن، وَهُوَ الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة، بعد سرَايَة الْحَدث إِلَى جَمِيع الْبدن غير مَعْقُول، وكونهما مِمَّا لَا يعقل لَا يُوجب تَغْيِير صفة المطهر، فَبَقيَ المَاء مطهرا كَمَا كَانَ، فيطهر مُطلقًا. وَالنِّيَّة لَو اشْترطت، إِنَّمَا تشْتَرط للْفِعْل الْقَائِم بِالْمَاءِ وَهُوَ التَّطْهِير، لَا الْوَصْف الْقَائِم بِالْمحل وَهُوَ الْحَدث، لِأَنَّهُ ثَابت بِدُونِ النِّيَّة، وَقد بَينا أَن المَاء، فِيمَا يقوم بِهِ من صفة التَّطْهِير، لَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة، لِأَنَّهُ مطهر طبعا، فَيكون التَّطْهِير بِهِ معقولاً، فَلَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة، كَمَا لَا يحْتَاج فِي غسل الْخبث بِخِلَاف التُّرَاب، فَإِنَّهُ غير مطهر بطبعه لكَونه ملوثا بالطبع، وَإِنَّمَا صَار مطهرا شرعا حَال إِرَادَة الصَّلَاة بِشَرْط فقد المَاء، فَإِذا وجدت نِيَّة إِرَادَة الصَّلَاة صَار مطهرا، وَبعد إِرَادَة الصَّلَاة وصيرورته مطهرا شرعا مستغن عَن النِّيَّة، كَمَا اسْتغنى المَاء عَنْهَا بِلَا فرق بَينهمَا.
الثَّالِث: الصَّلَاة، وَلَا خلاف أَنَّهَا لَا تجوز إِلَّا بِالنِّيَّةِ.
الرَّابِع: الزَّكَاة، فَفِيهَا تَفْصِيل، وَهُوَ: أَن صَاحب النّصاب الحولي إِذا دفع زَكَاته إِلَى مستحقيها لَا يجوز لَهُ ذَلِك إلاَّ بنية مُقَارنَة للْأَدَاء، أَو عِنْد عزل مَا وَجب مِنْهَا تيسيرا لَهُ، وَأما إِذا كَانَ لَهُ دين على فَقير فَأَبْرَأهُ عَنهُ، سقط زَكَاته عَنهُ نوى بِهِ الزَّكَاة أَو لَا، وَلَو وهب دينه من فَقير، وَنوى عَنهُ زَكَاة دين آخر على رجل آخر، أَو نوى زَكَاة عين لَهُ، لَا يَصح. وَلَو غلب الْخَوَارِج على بَلْدَة فَأخذُوا الْعشْر سقط عَن أَرْبَاب الْأَمْوَال بِخِلَاف الزَّكَاة، فَإِن للْإِمَام أَن يَأْخُذهَا ثَانِيًا، لِأَن التَّقْصِير هَهُنَا من جِهَة صَاحب المَال حَيْثُ مر بهم، وَهُنَاكَ التَّقْصِير فِي الإِمَام حَيْثُ قصر فيهم. وَقَالَت الشَّافِعِي: السُّلْطَان إِذا أَخذ الزَّكَاة فَإِنَّهَا تسْقط وَلَو لم ينْو صَاحب المَال، لِأَن السُّلْطَان قَائِم مقَامه. قلت: كَانَ يَنْبَغِي على أصلهم أَن لَا تسْقط إلاَّ بِالنِّيَّةِ مِنْهُ، لِأَن السُّلْطَان قَائِم مقَامه فِي دَفعهَا إِلَى الْمُسْتَحقّين لَا فِي النِّيَّة، وَلَا حرج فِي اشْتِرَاط النِّيَّة عِنْد أَخذ السُّلْطَان.
الْخَامِس: الْحَج، وَلَا خلاف فِيهِ أَنه لَا يجوز إلاَّ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ دَاخل فِي عُمُوم الحَدِيث. فَإِن قلت: قَالَ الشَّافِعِي: إِذا نوى الْحَج عَن غَيره ينْصَرف إِلَى حج نَفسه، ويجزيه عَن فَرْضه، وَقد ترك الْعَمَل بِعُمُوم الحَدِيث. قلت: قَالَت الشَّافِعِيَّة: أخرجه الشَّافِعِي من عُمُوم الحَدِيث بِحَدِيث شبْرمَة، وَالْعَمَل بالخاص مقدم لِأَنَّهُ جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَحَدِيث شبْرمَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل وهناد بن السّري الْمَعْنى وَاحِد. قَالَ إِسْحَاق: أَنبأَنَا عَبدة بن سُلَيْمَان عَن ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن سعيد بن جُبَير: (عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة. قَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لَهُ، أَو قريب لَهُ. قَالَ: حججْت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حج عَن نَفسك، ثمَّ حج عَن شبْرمَة) . رُوَاته كلهم رجال مُسلم، إلاَّ إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل شيخ أبي دَاوُد، وَقد وَثَّقَهُ بَعضهم. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب أصح مِنْهُ، وَقد أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي (سنَنه) وَجَاء فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (فَاجْعَلْ هَذِه عَن نَفسك، ثمَّ حج عَن شبْرمَة) . وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا: (هَذِه عَنْك، وَحج عَن شبْرمَة) . وَقَالَ: فهم من هَذَا الحَدِيث: أَنه لَا بُد من تَقْدِيم فرض نَفسه، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، واحتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم: (أَن امْرَأَة من خثعم قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبي أَدْرَكته فَرِيضَة الْحَج، وَإنَّهُ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة، أفأحج عَنهُ؟ قَالَ: نعم حجي عَن أَبِيك) من غير استفسار: هَل حججْت أم لَا؟ وَهَذَا أصح من حَدِيث شبْرمَة، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: الصَّحِيح من الرِّوَايَة: (اجْعَلْهَا فِي نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة) قَالُوا: كَيفَ يَأْمُرهُ بذلك وَالْإِحْرَام(1/313)
وَقع عَن الأول؟ قُلْنَا: يحْتَمل أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين لم يكن الْإِحْرَام لَازِما على مَا رُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة أَنه تحلل فِي حجَّة الْوَدَاع عَن الْحَج بِأَفْعَال الْعمرَة، فَكَانَ يُمكنهُ فسخ الأول وَتَقْدِيم حج نَفسه، والزيادات الَّتِي رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ لم تثبت.
السَّادِس: الصَّوْم، فَفِيهِ خلاف، فمذهب عَطاء وَمُجاهد وَزفر أَن الصَّحِيح الْمُقِيم فِي رَمَضَان لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة، لِأَنَّهُ لَا يَصح فِي رَمَضَان النَّفْل فَلَا معنى للنِّيَّة؟ وَعند الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة: لَا بُد من النِّيَّة، غير أَن تعْيين الرمضانية لَيْسَ بِشَرْط عِنْد الْحَنَفِيَّة، حَتَّى لَو صَامَ رَمَضَان بنية قَضَاء أَو نذر عَلَيْهِ أَو تطوع أَنه يجزىء عَن فرض رَمَضَان. فَإِن قلت: لِمَ قدم الْحَج على الصَّوْم؟ قلت: بِنَاء على مَا ورد عِنْده فِي حَدِيث: (بني الْإِسْلَام على خمس) . وَقد تقدم.
السَّابِع: الْأَحْكَام، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: الْأَحْكَام أَي: بِتَمَامِهَا، فَيدْخل فِيهِ تَمام الْمُعَامَلَات والمناكحات والجراحات، إِذْ يشْتَرط فِي كلهَا الْقَصْد إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَو سبق لِسَانه من غير قصد إِلَى: بِعْت ورهنت وَطلقت ونكحت، لم يَصح شَيْء مِنْهَا. قلت: كَيفَ يَصح أَن يُقَال: الْأَحْكَام بِتَمَامِهَا، وَكثير مِنْهَا لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة، بِخِلَاف بَين الْعلمَاء؟ فَإِن قَالَ هَذَا بِنَاء على مذْهبه فمذهبه لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن القَاضِي أَبَا الطّيب نقل عَن الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي أَن: مَن صرح بِلَفْظ الطَّلَاق وَالظِّهَار وَالْعِتْق، وَلم يكن لَهُ نِيَّة، يلْزمه فِي الحكم. وَكَذَلِكَ أَدَاء الدّين ورد الودائع وَالْأَذَان والتلاوة والأذكار وَالْهِدَايَة إِلَى الطَّرِيق وإماطة الْأَذَى عبادات كلهَا تصح بِلَا نِيَّة إِجْمَاعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْأَحْكَام أَي: الْمُعَامَلَات الَّتِي يدْخل فِيهَا الِاحْتِيَاج إِلَى المحاكمات فَيشْمَل الْبيُوع والأنكحة والأقارير وَغَيرهَا. قلت. هَذَا أَيْضا مثل ذَلِك، فَإِن رد الودائع فِيمَا تقع بِهِ فِيهِ المحاكمة، مَعَ أَن النِّيَّة لَيست بِشَرْط فِيهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ أَدَاء الدّين. فَإِن قلت: مؤدي الدّين أَو راد الْوَدِيعَة يقْصد بَرَاءَة الذِّمَّة، وَذَلِكَ عبَادَة. قلت: نَحن لَا ندعي أَن النِّيَّة لَا تُوجد فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا ندعي عدم اشْتِرَاطهَا، ومؤدي الدّين إِذا قصد بَرَاءَة الذِّمَّة بَرِئت ذمَّته وَحصل بِهِ الثَّوَاب، وَلَيْسَ لنا فِيهِ نزاع، وَإِذا أدّى من غير نِيَّة بَرَاءَة الذِّمَّة، هَل يَقُول أحد إِن ذمَّته لَا تَبرأ.
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: كل عمل لَا تظهر لَهُ فَائِدَة عَاجلا، بل الْمَقْصُود بِهِ طلب الثَّوَاب، فالنية شَرط فِيهِ، وكل عمل ظَهرت فَائِدَته ناجزة، وتقاضته الطبيعة، فَلَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، إلاَّ لمن قصد بِفِعْلِهِ معنى آخر يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتلفت الْعلمَاء فِي بعض الصُّور لتحَقّق منَاط التَّفْرِقَة. قَالَ: وَأما مَا كَانَ من الْمعَانِي المختصة: كالخوف والرجاء، فَهَذَا لَا يُقَال فِيهِ بِاشْتِرَاط النِّيَّة، لِأَنَّهُ لَا يُمكن إلاَّ منوياً وَمَتى فرضت النِّيَّة مفقودة فِيهِ استحالت حَقِيقَته، فالنية فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط النِّيَّة للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل.
قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه. الأول: فِي قَوْله: كل عمل لَا يظْهر لَهُ فَائِدَة، فَإِنَّهُ منقوض بِتِلَاوَة الْقُرْآن وَالْأَذَان وَسَائِر الْأَذْكَار. فَإِنَّهَا أَعمال لَا تظهر لَهَا فَائِدَة عَاجلا، بل الْمَقْصُود مِنْهَا طلب الثَّوَاب، مَعَ أَن النِّيَّة لَيست بِشَرْط فِيهَا بِلَا خلاف. الثَّانِي: فِي قَوْله: وكل عمل ظَهرت. إِلَى آخِره. فَإِنَّهُ منقوض أَيْضا بِالْبيعِ وَالرَّهْن وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح بسبق اللِّسَان من غير قصد، فَإِنَّهُ منقوض لم يَصح شَيْء مِنْهَا على أصلهم لعدم النِّيَّة. الثَّالِث: فِي قَوْله: وَأما مَا كَانَ من الْمعَانِي المختصة. إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ جعل النِّيَّة فِيهِ حَقِيقَة تِلْكَ الْمعَانِي، ثمَّ قَالَ: فالنية فِيهَا شَرط عَقْلِي، وَبَين الْكَلَامَيْنِ تنَاقض. الرَّابِع: فِي قَوْله: وَكَذَلِكَ لَا تشْتَرط النِّيَّة للنِّيَّة فِرَارًا من التسلسل، فَإِنَّهُ بنى عدم اشْتِرَاط النِّيَّة للنِّيَّة على الْفِرَار من التسلسل وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الشَّارِع شَرط النِّيَّة للأعمال، وَهِي حركات الْبدن، وَالنِّيَّة خطرة الْقلب وَلَيْسَت من الْأَعْمَال، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) . فَإِذا كَانَت النِّيَّة عملا يكون الْمَعْنى: عمل الْمُؤمن خير من عمله. وَهَذَا لَا معنى لَهُ.
وَقَالَ الله تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ يَعْمَل على شاكِلَتِهِ} على نيَّتِهِ.
قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه جملَة حَالية لَا عطف، وَحَكَاهُ بَعضهم عَنهُ، ثمَّ قَالَ: أَي مَعَ أَن الله قَالَ: قلت: لَيْت شعري مَا هَذِه الْحَال؟ وَأَيْنَ ذُو الْحَال؟ وَهل هِيَ مَبْنِيَّة لهيئة الْفَاعِل أَو لهيئة الْمَفْعُول؟ على أَن الْقَوَاعِد النحوية تَقْتَضِي أَن الْفِعْل الْمَاضِي الْمُثبت إِنَّمَا يَقع حَالا إِذا كَانَ فِيهِ: قد، لِأَن الْمَاضِي من حَيْثُ إِنَّه مُنْقَطع الْوُجُود عَن زمَان الْحَال منَاف لَهُ، فَلَا بُد من: قد، لتقربه من الْحَال لِأَن الْقَرِيب من الشَّيْء فِي حكمه. فَإِن قلت: لَا يلْزم أَن تكون ظَاهِرَة، بل يجوز أَن تكون مضمرة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو جَاءَكُم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) أَي: قد حصرت. قلت: أنكر الْكُوفِيُّونَ إِضْمَار: قد، وَقَالُوا: هَذَا خلاف الأَصْل، أولُوا الْآيَة: بأوجاءكم حاصرة صُدُورهمْ. نعم، يُمكن أَن تجْعَل الْوَاو هُنَا للْحَال، لَكِن بِتَقْدِير مَحْذُوف، وَتَقْدِير هَذِه الْجُمْلَة إسمية، وَهُوَ أَن يُقَال تَقْدِيره: وَكَيف لَا يدْخل الْإِيمَان وأخواته الَّتِي ذكرهَا فِي قَوْله الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَالْحَال أَن الله تَعَالَى قَالَ: {قل كل يعْمل(1/314)
على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) وَقَوله: لَا عطف، لَيْسَ بسديدٍ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون للْعَطْف على مَحْذُوف، تَقْدِيره: يدْخل فِيهِ الْإِيمَان. الخ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) وَقَالَ تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) ، وَتَفْسِير بَعضهم بقوله: أَي إِن الله تَعَالَى، يشْعر بِأَن الْوَاو هَهُنَا للمصاحبة، وَقد تبع الْكرْمَانِي بِأَنَّهَا للْحَال، وَبَينهمَا تنافٍ، على أَن الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ، لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، أَو هِيَ الْوَاو الدَّاخِلَة على الْمُضَارع الْمَنْصُوب لعطفه على اسْم صَرِيح أَو مؤول كَقَوْلِه.
(وَلبس عباءة وتقر عَيْني.)
وَالثَّانِي: شَرطه أَن يتَقَدَّم الْوَاو نفي أَو طلب، ويسمي الْكُوفِيُّونَ هَذِه: وَاو الصّرْف، وَلَيْسَ النصب بهَا خلافًا لَهُم، ومثاله: {وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} (آل عمرَان: 142) وَقَول الشَّاعِر:
(لَا تنهَ عَن خلق وَتَأْتِي مثله)
وَالْوَاو هُنَا لَيست من القبيلين الْمَذْكُورين، وَيجوز أَن تكون الْوَاو هَهُنَا بِمَعْنى: لَام التَّعْلِيل، على مَا نقل عَن الْمَازرِيّ، أَنَّهَا تَجِيء بِمَعْنى لَام التَّعْلِيل، فَالْمَعْنى على هَذَا، فَدخل فِيهِ الْإِيمَان وأخواته لقَوْله تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) قَالَ اللَّيْث: الشاكلة من الْأُمُور مَا وَافق فَاعله، وَالْمعْنَى أَن كل أحد يعْمل على طَرِيقَته الَّتِي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعْمل مَا يشبه طَرِيقَته من الْإِعْرَاض عِنْد النِّعْمَة واليأس عِنْد الشدَّة، وَالْمُؤمن يعْمل مَا يشبه طَرِيقَته من الشُّكْر عِنْد الرخَاء وَالصَّبْر عِنْد الْبلَاء، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا} (الْإِسْرَاء: 84) وَقَالَ الزّجاج: على شاكلته: على طَرِيقَته ومذهبه، وَنقل ذَلِك عَن مُجَاهِد أَيْضا، وَمن هَذَا أَخذ الزَّمَخْشَرِيّ، وَقَالَ: أَي على مذْهبه وطريقته الَّتِي تشاكل كل حَاله فِي الْهدى والضلالة، من قَوْلهم: طَرِيق ذُو شواكل، وَهِي الطّرق الَّتِي تتشعب مِنْهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا} (الْإِسْرَاء: 84) أَي أَسد مذهبا، وَطَرِيقَة وَقَوله على نِيَّته تَفْسِير لقَوْله: على شاكلته، وَحذف مِنْهُ حرف التَّفْسِير، وَهَذَا التَّفْسِير رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ وَقَتَادَة فِيمَا أخرجه عبد بن حميد والطبري عَنْهُم. وَفِي (الْعباب) وَقَوله تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) أَي: على ناحيته وطريقته. وَقَالَ قَتَادَة: أَي على جَانِبه وعَلى مَا يَنْوِي. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي على خليقته ومذهبه وطريقته. ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب: والتركيب يدل معظمه على الْمُمَاثلَة.
قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَكِنْ جهِادٌ ونِيَّةٌ.
هُوَ قِطْعَة من حَدِيث لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَوله: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة، وَإِذا استنفرتم فانفروا) ، أخرجه هَهُنَا مُعَلّقا، وَأخرجه مُسْندًا فِي الْحَج وَالْجهَاد والجزية، أما فِي الْحَج فَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَفِيه، وَفِي الْجِزْيَة عَن عَليّ بن عبد الله كِلَاهُمَا عَن جرير، وَأما فِي الْجِهَاد فَعَن آدم عَن شَيبَان، وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَعَمْرو بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان، وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى، وَفِيه وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن جرير، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن يحيى بن آدم، وَفِي نُسْخَة عَن مُحَمَّد بن رَافع وَإِسْحَاق عَن يحيى بن آدم عَن مفضل بن مهلهل، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان، وَعَن عبد بن حميد عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل، وَفِي نُسْخَة عَن شَيبَان بدل إِسْرَائِيل، خمستهم عَن مَنْصُور عَنهُ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد وَالْحج عَن عُثْمَان بِهِ مقطعاً، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ عَن زِيَاد بن عبد الله البكائي عَن مَنْصُور بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الْبيعَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يحيى بن سعيد بِهِ، وَفِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن قدامَة عَن جرير، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع بِهِ مُخْتَصرا، وَالْمعْنَى: أَن تَحْصِيل الْخَيْر بِسَبَب الْهِجْرَة قد انْقَطع بِفَتْح مَكَّة وَلَكِن حصلوه فِي الْجِهَاد وَنِيَّة صَالِحَة، وَفِيه الْحَث على نِيَّة الْخَيْر مُطلقًا وَإنَّهُ يُثَاب على النِّيَّة. قَوْله: (جِهَاد) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: وَلَكِن طلب الْخَيْر جِهَاد وَنِيَّة.
ونفَقَةُ الرَّجُلِ على أهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً.
هَذَا من معنى حَدِيث أبي مَسْعُود الَّذِي يذكرهُ عَن قريب. قَوْله (وَنَفَقَة الرجل) كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله (صَدَقَة) ، وَقَوله (يحتسبها) حَال من الرجل أَي: حَال كَونه مرِيدا بهَا وَجه الله تَعَالَى، وَقد فسرنا معنى الاحتساب مُسْتَوفى عَن قريب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذكر هَذَا تَقْوِيَة لما ذكره من قبل. قلت: لما عقد الْبَاب على ثَلَاث تراجم ذكر لكل تَرْجَمَة مَا يطابقها من الْكَلَام بعد قَوْله، فَدخل فِيهِ الْإِيمَان وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَالصَّوْم وَالْأَحْكَام. فَقَوله: وَقَالَ تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} (الْإِسْرَاء: 84) لقَوْله (إِن الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَقَوله: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) لقَوْله (وَلكُل امرىء مَا نوى) ،(1/315)
وَقَوله (وَنَفَقَة الرجل على أَهله يحتسبها صَدَقَة) لقَوْله: والحسبة، وَلذَلِك ذكر ثَلَاثَة أَحَادِيث، فَحَدِيث عمر، رَضِي الله عَنهُ، لقَوْله (الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ) . وَحَدِيث أبي مَسْعُود، لقَوْله (والحسبة) ، وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص، لقَوْله: (وَلكُل امرىء مَا نوى) .
54 - حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ مُحَمّدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ بنِ وَقَّاصٍ عنْ عُمَرَ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الأَعْمَالُ بالنِّيَّةِ ولِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ ورسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ ورسولِهِ ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ لدنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هاجَرَ إِليهِ.
(الحَدِيث 54 انْظُر الحَدِيث رقم 1) .
قد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي أول الْكتاب لِأَنَّهُ صدر كِتَابه بِهَذَا الحَدِيث، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي رِجَاله ومسلمة، بِفَتْح الميمين وَاللَّام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لما كَانَ الحَدِيث بِتَمَامِهِ صَحِيحا ثَابتا عِنْد البُخَارِيّ لم خرمه فِي صدر الْكتاب؟ مَعَ أَن الخرم جَوَازه مُخْتَلف فِيهِ. قلت: لأخرم، بِالْجَزْمِ، لِأَن المقامات مُخْتَلفَة، فَلَعَلَّ فِي مقَام بَيَان أَن الْإِيمَان من النِّيَّة، واعتقاد الْقلب سمع الحَدِيث تَمامًا، وَفِي مقَام أَن الشُّرُوع فِي الْأَعْمَال إِنَّمَا يَصح بِالنِّيَّةِ، سمع ذَلِك الْقدر الَّذِي روى، ثمَّ إِن الخرم مُحْتَمل أَن يكون من بعض شُيُوخ البُخَارِيّ لَا مِنْهُ، ثمَّ إِن كَانَ مِنْهُ فخرمه ثمَّة لِأَن الْمَقْصُود يتم بذلك الْمِقْدَار. فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر عِنْد الخرم الشق الَّذِي يتَعَلَّق بمقصوده، وَهُوَ: أَن النِّيَّة يَنْبَغِي أَن تكون لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَعَلَّه نظر إِلَى مَا هُوَ الْغَالِب الْكثير بَين النَّاس. انْتهى. قلت: هَذَا كُله إطناب فِي الْكَلَام، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال، إِن هَذِه الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِي هَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله من اخْتِلَاف الروَاة، فَكل مِنْهُم قد روى مَا سَمعه. فَلَا خرم فِيهِ لَا من البُخَارِيّ وَلَا من شُيُوخه، وَإِنَّمَا البُخَارِيّ ذكر كل مَا رَوَاهُ من الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا زِيَادَة ونقصان بِحَسب مَا يُنَاسب الْبَاب الَّذِي وَضعه تَرْجَمَة لَهُ.
55 - حدّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخْبَرَنِي عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عبَد اللَّهِ بنَ يَزِيدَ عنْ أبي مَسْعُودٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا أنْفَقَ الرَّجُلُ على أهْلِهِ يَحْتَسِبُها فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ.
قد قُلْنَا: إِن الْبَاب مَعْقُود على ثَلَاث تراجم،. لكل تَرْجَمَة حَدِيث يطابقها، وَهَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وَهِي قَوْله (والحسبة) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: الْحجَّاج بن منهال، بِكَسْر الْمِيم، أَبُو مُحَمَّد الْأنمَاطِي السّلمِيّ، مَوْلَاهُم وَغَيره، سمع شُعْبَة من الْأَعْلَام، وروى عَنهُ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَابْن وارة وَالْبَغوِيّ وَإِسْمَاعِيل القَاضِي وَالْبُخَارِيّ وَآخَرُونَ، اتّفق على توثيقه، وَكَانَ رجلا صَالحا وَكَانَ سمساراً يَأْخُذ من كل دِينَار حَبَّة، فجَاء خراساني مُوسر من أَصْحَاب الحَدِيث فَاشْترى لَهُ أنماطاً وَأَعْطَاهُ ثَلَاثِينَ دِينَارا، فَقَالَ: خُذ هَذِه سمسرتك، قَالَ: دنانيرك أَهْون عَليّ من هَذَا التُّرَاب، هَات من كل دِينَار حَبَّة، وَأخذ ذَلِك. قَالَ أَحْمد بن عبد الله: هُوَ بَصرِي ثِقَة، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة سِتّ عشرَة أَو سَبْعَة عشرَة وَمِائَتَيْنِ، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) وروى لَهُ البُخَارِيّ، وروى مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) : روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد، وَقَالَ الْمُزنِيّ فِي (تهذيبه) : روى لَهُ السِّتَّة، وَالصَّوَاب أَن البُخَارِيّ وَمُسلمًا وَأَبا دَاوُد رووا عَنهُ، وَالثَّلَاثَة الْبَقِيَّة رووا لَهُ، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة حجاج بن منهال سواهُ. الثَّانِي: شُعْبَة بن حجاج، وَقد مر ذكره غير مرّة. الثَّالِث: عدي بن ثَابت الْأنْصَارِيّ الْكُوفِي، سمع جده لأمه عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ والبراء بن عَازِب وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة، روى عَنهُ الْأَعْمَش وَشعْبَة وَغَيرهمَا، قَالَ أَحْمد، ثِقَة: وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق وَكَانَ إِمَام مَسْجِد الشِّيعَة بِالْكُوفَةِ وقاضيهم، مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عبد الله بن يزِيد بن حُصَيْن بن عَمْرو بن الْحَارِث بن خطمة، واسْمه عبد الله بن خَيْثَم بن مَالك بن أَوْس، أخي الْخَزْرَج ابْني حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء، لطول عُنُقه، ابْن عَمْرو مزيقيا ابْن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة البهلول بن مَازِن بن الأزد، الْأنْصَارِيّ الخطمي الصَّحَابِيّ، سكن الْكُوفَة، وَكَانَ أَمِيرا عَلَيْهَا، شهد(1/316)
الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة، وَشهد صفّين والجمل والنهروان مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ الشّعبِيّ كَاتبه، وَكَانَ من أفاضل الصَّحَابَة وَقيل: إِن لِأَبِيهِ يزِيد صُحْبَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا حديثين: أَحدهمَا فِي الاسْتِسْقَاء مَوْقُوف، وَفِي الْمَظَالِم حَدِيث النَّهْي عَن النهبى والمثلة، وَمُسلم أَحدهمَا، وَأَخْرَجَا لَهُ عَن الْبَراء وَأبي مَسْعُود وَزيد بن ثَابت: رَضِي الله عَنْهُم، مَاتَ زمن ابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ الْوَاقِدِيّ، وَفِي الصَّحَابَة عبد الله بن زيد جمَاعَة، هَذَا أحدهم، وَالثَّانِي: عبد الله بن يزِيد الْقَارِي، لَهُ ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة أَنه عَلَيْهِ السَّلَام، سمع قِرَاءَته. وَالثَّالِث: عبد الله بن يزِيد النَّخعِيّ، وَالرَّابِع: عبد الله بن زيد البَجلِيّ، لَهُ حَدِيث: (إِذا أَتَاكُم كريم قوم فأكرموه) . أوردهُ ابْن قَانِع. وَالْخَامِس: غلط فِيهِ ابْن الْمُبَارك فِي حَدِيث ابْن مربع. كَانُوا على مَسَاجِدكُمْ. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن أسيرة، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين، وَقيل بضَمهَا، وَقيل: يسيرَة، بِضَم أَوله، بن عسيرة، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ، ابْن عَطِيَّة بن جدارة، بِكَسْر الْجِيم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة، ابْن عَوْف بن الْخَزْرَج، الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين، وَكَانَ أَصْغَرهم، وَشهد أحدا ثمَّ الْجُمْهُور على أَنه لم يشْهد بَدْرًا، وَإِنَّمَا سكنها. وَقَالَ حمدون بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَابْن إِسْحَاق صَاحب (الْمَغَازِي) ، وَالْبُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : شَهِدَهَا، وَكَذَا الحكم بن عتبَة، وَقَالَ ابْن سعد: قَالَ مُحَمَّد بن عمر وَسعد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا: لم يشْهد بَدْرًا، وَقَالَ الحكم وَغَيره من أهل الْكُوفَة: شَهِدَهَا، وَأهل الْمَدِينَة أعلم بذلك. رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وحديثان، اتفقَا مِنْهَا على تِسْعَة، وللبخاري حَدِيث، وَلمُسلم سَبْعَة، روى عَنهُ عبد الله بن يزِيد الخطمي وَابْنه بشير وَغَيرهمَا، سكن الْكُوفَة وَمَات بهَا، وَقيل: بِالْمَدِينَةِ، قبل الْأَرْبَعين، قيل: سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَفِي الصَّحَابَة: أَبُو مَسْعُود، هَذَا، وَأَبُو مَسْعُود الْغِفَارِيّ قيل: اسْمه عبد الله، وثالث الظَّاهِر أَنه الأول.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْأنمَاطِي: بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون، نِسْبَة إِلَى بيع الأنماط، وَهُوَ جمع نمط، وَهُوَ ضرب من الْبسط. السّلمِيّ، بِضَم السِّين وَفتح اللَّام، نِسْبَة إِلَى سليم بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَهُوَ من شَاذ النّسَب، وَالْقِيَاس: السليمي. وَقَالَ الرشاطي: السّلمِيّ فِي قيس غيلَان، وَفِي الأزد، فَالَّذِي فِي قيس غيلَان سليم بن مَنْصُور كَمَا ذكرنَا، وَالَّذِي فِي الأزد سليم بن فهم بن غنم بن دوس. الخطمي، بِفَتْح الْخَاء المعحمة وَسُكُون الطَّاء، نِسْبَة إِلَى: خطمة، أحد أجداد عبد الله بن يزِيد، وَقد ذكرنَا أَن اسْمه عبد الله، وَإِنَّمَا سمي: خطمة، لِأَنَّهُ ضرب رجلا على خطمه، أَي: أَنفه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الخطم من كل طَائِر منقاره، وَمن كل دَابَّة مقدم أَنفه، وَفِيه: والمخاطم الأنوف، وَاحِدهَا: مخطم، بِكَسْر الطَّاء. وَرجل أخطم طَوِيل الْأنف. البدري، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى بدر، وَهُوَ الْموضع الَّذِي لَقِي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُشْركين من قُرَيْش، فأعز الْإِسْلَام وَأظْهر دينه، وَهَذَا الْموضع يُسمى: بَدْرًا باسم الَّذِي احتفر فِيهِ الْبِئْر، وَهُوَ: بدر بن يخلد بن النَّضر بن كنَانَة، بَينه وَبَين الْمَدِينَة ثَمَانِيَة برد وميلان.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَنه وَقع للْبُخَارِيّ غَالِبا خماسياً. وَلمُسلم من جَمِيع طرقه سداسياً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن حجاج بن منهال، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسلم، وَفِي النَّفَقَات عَن آدم. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن ابْن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَأبي بكر بن رَافع عَن غنْدر، وَعَن أبي كريب عَن وَكِيع، كلهم عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت عَن عبد الله بن يزِيد عَن أبي مَسْعُود بِهِ وَقَالَ: حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن ابْن بشار عَن غنْدر، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن بشر بن الْمفضل كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله (انفق) من: إِنْفَاق المَال، وَهُوَ إنفاده وإهلاكه، وَالنَّفقَة اسْم، وَهِي من الدَّرَاهِم وَغَيرهَا، وَيجمع على نفاق، بِالْكَسْرِ. نَحْو: ثَمَرَة وثمار، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: انفق الشَّيْء وأنفده أَخَوان، وَعَن يَعْقُوب: نفق الشَّيْء ونفد، وَاحِد وكل مَا جَاءَ مِمَّا فاؤه نون، وعينه فَاء، فدال على معنى الْخُرُوج والذهاب، وَنَحْو ذَلِك، إِذا تَأَمَّلت. قلت: معنى قَوْله: إخْوَان بَينهمَا الِاشْتِقَاق الْأَكْبَر، فَإِن بَينهمَا تنَاسبا فِي التَّرْكِيب وَفِي الْمَعْنى لاشتمال كل مِنْهُمَا على معنى الْخُرُوج والذهاب. قَوْله (على أَهله) ، وَفِي (الْعباب) : الْأَهْل أهل الرجل وَأهل الدَّار، وَكَذَلِكَ الْأَهِلّة، وَالْجمع: أهلات وأهلون، والأهالي زادوا فِيهِ الْيَاء على غير قِيَاس(1/317)
كَمَا جمعُوا لَيْلًا على ليَالِي، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر:
(أهال مثل: فرخ وأفراخ)
وَأنْشد الْأَخْفَش:
(وبلدة مَا الْأنس من أهالها ... ترى بهَا العوهق من وائالها)
ومنزل أهلَّ بِهِ أَهله، وَقَالَ ابْن السّكيت مَكَان مأهول فِيهِ أَهله، وَمَكَان آهل لَهُ أهل، وَقَالَ ابْن عباد: يَقُولُونَ: هُوَ أهلة، لكل خير بِالْهَاءِ، وَالْفرق بَين الْأَهْل والآل أَن: الْآل يسْتَعْمل فِي الْأَشْرَاف: وَفِي (الْعباب) : آل الرجل: أَهله وَعِيَاله، وَآله: أَيْضا أَتْبَاعه. قَالَ تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} (آل عمرَان: 11، الْأَنْفَال: 52 و 54) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: يَعْنِي من آل إِلَيْهِ بدين أَو مَذْهَب أَو نسب، وَآل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عشيرته. وَقَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَن آل مُحَمَّد؟ قَالَ: كل تَقِيّ) . قلت: هُوَ واوي، فَلذَلِك ذكره أهل اللُّغَة فِي بَاب أول. قَوْله (يحتسبها) من الاحتساب وَقد فسرناه عَن قريب. قَوْله (صَدَقَة) وَهِي: مَا تَصَدَّقت بِهِ على الْفُقَرَاء.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِذا) كلمة فِيهَا معنى الشَّرْط و: (انفق الرجل) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فعل الشَّرْط، قَوْله: (على أَهله) يتَعَلَّق بانفق. قَوْله (يحتسبها) جملَة فعلية مضارعية وَقعت حَالا من: الرجل، والمضارع إِذا وَقع حَالا وَكَانَ مثبتاً لَا يجوز فِيهِ الْوَاو على مَا عرف. قَوْله (فَهُوَ لَهُ صَدَقَة) جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِيهَا الْفَاء. قَوْله (فَهُوَ) مُبْتَدأ. وَالْجُمْلَة، أَعنِي قَوْله (لَهُ صَدَقَة) ، خَبره فَقَوله: صَدَقَة، مُبْتَدأ و: لَهُ، مقدما خَبره، وَالضَّمِير أَعنِي: هُوَ، يرجع إِلَى الْإِنْفَاق الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله (أنْفق) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) أَي: الْعدْل أقرب إِلَى التَّقْوَى.
بَيَان الْمعَانِي: فِي قَوْله: (إِذا أنْفق) ، حذف الْمَعْمُول ليُفِيد التَّعْمِيم، وَالْمعْنَى: إِذا أنْفق أَي نَفَقَة كَانَت صَغِيرَة أَو كَبِيرَة، وَفِيه ذكر: إِذا، دون إِن، لِأَن أصل: إِن، عدم الْجَزْم بِوُقُوع الشَّرْط، وَاصل: إِذا، الْجَزْم بِهِ، وَغلب لفظ الْمَاضِي مَعَ: إِذا، على الْمُسْتَقْبل فِي الِاسْتِعْمَال، فَإِن اسْتِعْمَال: إِذا أكرمتني أكرمتك، مثلا، أَكثر من اسْتِعْمَال: إِذا تكرمني أكرمك، لكَون الْمَاضِي أقرب إِلَى الْقطع بالوقوع من الْمُسْتَقْبل، نظرا إِلَى اللَّفْظ لَا إِلَى الْمَعْنى، فَإِنَّهُ يدل على الِاسْتِقْبَال لوُقُوعه فِي سِيَاق الشَّرْط، وَفِيه التَّنْبِيه بِالْحَال لإِفَادَة زِيَادَة تَخْصِيص لَهُ، فَكلما ازْدَادَ الْكَلَام تَخْصِيصًا ازْدَادَ الحكم بعدا، كَمَا أَنه كلما ازْدَادَ عُمُوما ازْدَادَ قرباً، وَمَتى كَانَ احْتِمَال الحكم أبعد كَانَت الْفَائِدَة فِي إِيرَاده أقوى. قَوْله (يحتسبها) أَي: يُرِيد بهَا وَجه الله، وَالنَّفقَة الْمُطلقَة فِي الْأَحَادِيث ترد إِلَى هَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله الْمُقَيد بِالنِّيَّةِ، لحَدِيث امْرَأَة عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَامْرَأَة من الْأَنْصَار وسؤالهما: اتجزىء الصَّدَقَة عَنْهُمَا على أزواجهما وأيتامهما؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَهما أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة، وَأجر الصَّدَقَة) . وَقَول أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا: (هَل لي أجر فِي بني أبي سَلمَة أنْفق عَلَيْهِم؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نعم لَك أجر مَا أنفقت) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي قَوْله: يحتسبها، أَفَادَ بمنطوقه أَن الْأجر فِي الْإِنْفَاق إِنَّمَا يحصل بِقصد الْقرْبَة وَاجِبَة أَو مُبَاحَة، وَأفَاد بمفهومه أَن من لم يقْصد الْقرْبَة لم يُؤجر، لَكِن تَبرأ ذمَّته من الْوَاجِبَة لِأَنَّهَا معقولة الْمَعْنى.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ إِطْلَاق النَّفَقَة على الصَّدَقَة مجَازًا، إِذْ لَو كَانَت الصَّدَقَة حَقِيقِيَّة كَانَت تحرم على الرجل أَن ينْفق على زَوجته الهاشمية، وَوُجُود الْإِجْمَاع على جَوَاز الْإِنْفَاق على الزَّوْجَات الهاشميات وَغَيرهَا قَامَ قرينَة صارفة عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة، والعلاقة بَين الْمَوْضُوع لَهُ وَبَين الْمَعْنى الْمجَازِي ترَتّب الثَّوَاب عَلَيْهِمَا وتشابههما فِيهِ، فَإِن قلت: كَيفَ يتشابهان وَهَذَا الْإِنْفَاق وَاجِب، وَالصَّدَََقَة فِي الْعرف لَا تطلق إلاَّ على غير الْوَاجِب، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن تقيد بِالْفَرْضِ وَنَحْوه؟ قلت: التَّشْبِيه فِي أصل الثَّوَاب لَا فِي كميته وَلَا كيفيته. فَإِن قلت: شَرط البيانيون فِي التَّشْبِيه أَن يكون الْمُشبه بِهِ أقوى، وَهَهُنَا بِالْعَكْسِ، لِأَن الْوَاجِب أقوى فِي تَحْصِيل الثَّوَاب من النَّفْل. قلت: هَذَا هُوَ التشابه لَا التَّشْبِيه، والتشبيه لَا يشْتَرط فِيهِ ذَلِك، وَتَحْقِيق هَذَا الْكَلَام أَنه إِذا أُرِيد مُجَرّد الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي أَمر، وأنهما متساويان فِي جِهَة التَّشْبِيه: كعمامتين متساويتين فِي اللَّوْن، فَالْأَحْسَن ترك التَّشْبِيه إِلَى الحكم بالتشابه، ليَكُون كل وَاحِد من الطَّرفَيْنِ مشبهاً ومشبهاً بِهِ احْتِرَازًا من تَرْجِيح أحد المتساويين من جِهَة التَّشْبِيه على الآخر، لِأَن فِي التَّشْبِيه تَرْجِيحا، وَفِي التشابه تَسَاويا. وَيجوز التَّشْبِيه أَيْضا فِي مَوضِع التشابه، لَكِن إِذا وَقع التَّشْبِيه فِي بَاب التشابه صَحَّ فِيهِ الْعَكْس، بِخِلَافِهِ فِيمَا عداهُ، وَكَانَ حكم الْمُشبه بِهِ على خلاف مَا ذكر من أَن حَقه أَن يكون أعرف بِجِهَة التَّشْبِيه من الْمُشبه، وَأقوى حَالا، كتشبيه غرَّة الْفرس بالصبح وَعَكسه، فَيُقَال: بدا الصُّبْح كغرة الْفرس، وبدت غرَّة الْفرس كالصبح، مَتى أُرِيد بِوَجْه الشّبَه ظُهُور مُنِير فِي سَواد أَكثر مِنْهُ مظلم،(1/318)
أَو حُصُول بَيَاض، فَإِنَّهُ مَتى كَانَ المُرَاد بِوَجْه الشّبَه هَذَا كَانَ من بَاب التشابه، وينعكس التَّشْبِيه لعدم اخْتِصَاص وَجه الشّبَه حينئذٍ بِشَيْء من الطَّرفَيْنِ، بِخِلَاف مَا لَو لم يكن وَجه الشّبَه ذَلِك، كالمبالغة فِي الضياء، فَإِنَّهُ لَا يكون من بَاب التشابه، وَلَا مِمَّا ينعكس فِي التَّشْبِيه. قَوْله (على أَهله) خَاص بِالْوَلَدِ وَالزَّوْجَة، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْإِنْفَاق فِي الْأَمر الْوَاجِب كالصدقة فَلَا شكّ أَن يكون آكِد، وَيلْزم مِنْهُ كَونه صَدَقَة فِي غير الْوَاجِب بِالطَّرِيقِ الأولى.
56 - حدّثنا الحَكَمُ بنُ نافعٍ قَالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدّثني عامِرُ بنُ سَعْدٍ عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقاصٍ أنَّهُ أخْبَرَهُ أنّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَليْها حتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ..
هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّالِثَة، كَمَا ذكرنَا، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد ذكر فِي بَاب: إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، وَكَانَ على الاستسلام أَو الْخَوْف من الْقَتْل.
وَالْحكم بِفَتْح الْكَاف: هُوَ أَبُو الْيَمَان الْحِمصِي. وَالزهْرِيّ: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: هَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل مَشْهُور، أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا كَمَا ترى، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن يُونُس، وَفِي الدَّعْوَات عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْهِجْرَة عَن يحيى بن قزعة، ثَلَاثَتهمْ عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَفِي الْجَنَائِز عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، وَفِي الْفَرَائِض عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب أَيْضا، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان، خمستهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن يحيى بن يحيى عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْوَصَايَا أَيْضا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن سُفْيَان عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِبَعْضِه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْوَصَايَا عَن هِشَام بن عمار، وَالْحُسَيْن بن الْحسن الْمروزِي، وَسَهل بن أبي سهل بن سهل الرَّازِيّ، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله (إِنَّك) ، إِن: حرف من الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ، فالكاف إسمها و: (لن تنْفق) ، خَبَرهَا وَكلمَة: لن، حرف نصب، وَنفي واستقبال، وَفِيه ثَلَاثَة مَذَاهِب: الأول: إِنَّه حرف مقتضب بِرَأْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور. وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب الْفراء أَن أَصله: لَا، فابدلت النُّون من الْألف، فَصَارَ: لن. وَالثَّالِث: وَهُوَ مَذْهَب الْخَلِيل وَالْكسَائِيّ. أَن أَصله: لَا إِن، فحذفت الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَالْألف لالتقاء الساكنين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّه يُفِيد توكيد النَّفْي، قَالَه فِي (الْكَشَّاف) وَقَالَ فِي (انموذجه) يُفِيد تأييد النَّفْي، ورد بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيل، وَقَالُوا: لَو كَانَت للتأبيد لِمَ يُقيد منفيها بِالْيَوْمِ فِي: {لن أكلم الْيَوْم إنسياً} (مَرْيَم: 26) . ولكان ذكر الْأَبَد فِي: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة: 95) تَكْرَارا، وَالْأَصْل عَدمه. قَوْله (تنْفق) مَنْصُوب بهَا. وَقَوله (نَفَقَة) نصب على أَنه مفعول مُطلق. قَوْله (تبتغي) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: لن تنْفق، وَالْبَاء فِي: بهَا إِمَّا للمقابلة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (النَّحْل: 32) وَإِمَّا للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ) وَإِمَّا للظرفية بِمَعْنى: فِيهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا هَكَذَا لِأَن تبتغي، متعدٍ يُقَال: ابْتَغَيْت الشَّيْء وتبغيته إِذا طلبته، من: بغيت الشَّيْء: طلبته. قَوْله: (وَجه الله) ، كَلَام إضافي مفعول: تبتغي. قَوْله (إِلَّا أجرت) ، بِضَم الْهمزَة، على صِيغَة الْمَجْهُول، والمستثنى مَحْذُوف لِأَن الْفِعْل لَا يَقع اسْتثِْنَاء، وَالتَّقْدِير: لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله تَعَالَى إلاَّ نَفَقَة أجرت بهَا. وَيكون قَوْله أجرت بهَا صفة للمستثنى، وَالْمعْنَى على هَذَا، لِأَن النَّفَقَة الْمَأْجُور فِيهَا هِيَ الَّتِي تكون ابْتِغَاء لوجه الله تَعَالَى. لِأَنَّهَا لَو لم تكن لوجه الله تَعَالَى لما كَانَت مأجوراً فِيهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّقْدِير: إلاَّ فِي حَالَة أجرت بهَا، ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: أَي: لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله تَعَالَى فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ وَأَنت فِي حَال مأجوريتك عَلَيْهَا. قلت: لَو قدر هَكَذَا لن تنْفق نَفَقَة لوجه الله تَعَالَى إلاَّ حَال كونك مأجوراً عَلَيْهَا كَانَ أحسن على مَا لَا يخفى. فَإِن قلت: الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل أَو مُنْقَطع؟ قلت: مُتَّصِل، لِأَن الْمُسْتَثْنى من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ. قَوْله (بهَا) ، الْبَاء إِمَّا للسَّبَبِيَّة، وَإِمَّا(1/319)
للمقابلة، وَإِمَّا بِمَعْنى: على، وَلِهَذَا فِي بعض النّسخ، عَلَيْهَا، بدل: بهَا، وَالْبَاء تَجِيء بِمَعْنى: على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَن إِن تأمنه بقنطار} (آل عمرَان: 75) قَوْله (حَتَّى) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ العاطفة لَا الجارة، وَمَا بعْدهَا مَنْصُوب الْمحل، وَبَعْضهمْ تبعه على هَذَا. قلت: حَتَّى، هَذِه ابتدائية، أَعنِي؛ حرف تبتدأه بعده الْجمل، أَي: تسْتَأْنف فَتدخل على الْجُمْلَة الإسمية وَالْجُمْلَة الفعلية، وَذَلِكَ لِأَن: حَتَّى، العاطفة لَهَا شُرُوط مِنْهَا: أَنَّهَا لَا تعطف الْجمل، لِأَن شَرط معطوفها أَن يكون جزأ مِمَّا قبلهَا، أَو جُزْء مِنْهُ، وَلَا يتأتي ذَلِك إلاَّ فِي الْمُفْردَات، على أَن الْعَطف بحتى قَلِيل، وَأهل الْكُوفَة ينكرونه الْبَتَّةَ، وَمَا بعد حَتَّى هَهُنَا جملَة، لِأَن قَوْله (مَا) ، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَخَبره مَحْذُوف، وَكَذَا الْعَائِد إِلَى الْمَوْصُول، تَقْدِيره؛ حَتَّى الَّذِي تجْعَل فِي فَم امْرَأَتك فَأَنت مأجور فِيهِ، وَوجه آخر يمْنَع من كَون: حَتَّى، عاطفة، هُوَ: أَن الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، فَإِذا جعلت: حَتَّى، عاطفة لَا يُسْتَفَاد أَن: مَا يَجْعَل فِي فَم امْرَأَته مأجور فِيهِ. فَإِن قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يُسْتَفَاد ذَلِك من حَيْثُ إِن قيد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ قيد فِي الْمَعْطُوف. قلت: الْقَيْد فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُوَ الابتغاء لوجه الله تَعَالَى والآجر لَيْسَ بِقَيْد فِيهِ، لِأَنَّهُ أصل الْكَلَام، وَالْمَقْصُود فِي الْمَعْطُوف حُصُول الْأجر بالانفاق الْمُقَيد بالابتغاء. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي:. فِيهِ تَمْثِيل باللقمة مُبَالغَة فِي حُصُول الْأجر، لِأَن الْأجر إِذا ثَبت فِي لقْمَة زَوْجَة غير مضطرة، ثَبت فِيمَن أطْعم الْمُحْتَاج كسرة، أَو رغيفاً بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَيَان لقاعدة مهمة، وَهِي: أَن مَا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى ثَبت فِيهِ الْأجر، وَإِن حصل لفَاعِله فِي ضمنه حَظّ نفس من لَذَّة أَو غَيرهَا، فَلهَذَا مثل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَضْع اللُّقْمَة فِي فَم الزَّوْجَة، وَمَعْلُوم أَنه غَالِبا يكون بحظ النَّفس والشهوة واستمالة قَلبهَا، فَإِذا كَانَ الَّذِي هُوَ من حظوظ النَّفس بِالْمحل الْمَذْكُور من ثُبُوت الْأجر فِيهِ، وَكَونه طَاعَة وَعَملا أخروياً إِذا أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى، فَكيف الظَّن بِغَيْرِهِ مِمَّا يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَهُوَ مباعد للحظوظ النفسانية؟ قَوْله (تبتغي بهَا وَجه الله) ، أَي: ذَاته، عز وَجل. الْمَعْنى: أَنه لَا يطْلب غير الله تَعَالَى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْوَجْه والجهة بِمَعْنى، يُقَال: هَذَا وَجه الرَّائِي، أَي: هُوَ الرَّائِي نَفسه. قلت: هَذَا كَلَام الْجَوْهَرِي، فَإِن أَرَادَ بِذكرِهِ أَن الْوَجْه هَهُنَا بِمَعْنى الْجِهَة فَلَا وَجه لَهُ، وَإِن أَرَادَ أَنه من قبيل هَذَا وَجه الرَّائِي فَلَا وَجه لَهُ أَيْضا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن تكون لَفْظَة: وَجه، زَائِدَة. وَحمل الْكَلَام على الْفَائِدَة أولى. وَقَالَ الْكرْمَانِي هُنَا أَيْضا، فَإِن قلت: مَفْهُومه أَن الْآتِي بِالْوَاجِبِ إِذا كَانَ مرائياً فِيهِ لَا يُؤجر عَلَيْهِ. قلت: هُوَ حق، نعم يسْقط عَنهُ الْعقَاب لَكِن لَا يحصل لَهُ الثَّوَاب. قلت: حكمه بِسُقُوط الْعقَاب مُطلقًا غير صَحِيح، بل الصَّحِيح التَّفْصِيل فِيهِ، وَهُوَ أَن الْعقَاب الَّذِي يَتَرَتَّب على ترك الْوَاجِب يسْقط لِأَنَّهُ أَتَى بِعَين الْوَاجِب، وَلكنه كَانَ مَأْمُورا أَن يَأْتِي بِمَا عَلَيْهِ بالإخلاص وَترك الرِّيَاء، فَيَنْبَغِي أَن يُعَاقب على ترك الْإِخْلَاص. لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ، وتارك الْمَأْمُور بِهِ يُعَاقب. قَوْله (فِي فَم امْرَأَتك) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فِي فِي امْرَأَتك) ، وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: حذف الْمِيم أصوب، وبالميم لُغَة قَليلَة. قلت: لِأَن أصل فَم: فوه على وزن فعل، بِدَلِيل قَوْلهم: أَفْوَاه، وَهُوَ جمع مَا كَانَ على: فَعْلٍ سَاكن الْعين مُعْتَلًّا كَقَوْلِهِم: ثوب واثواب، وحوض وأحواض، فَإِذا أفردت عوضت من واوها، مِيم، لتثبت، وَلَا تعوض فِي حَال الْإِضَافَة إلاَّ شاذاً، وَإِعْرَابه فِي الْمِيم مَعَ فتح الْفَاء فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث، تَقول: هَذَا فَم، وَرَأَيْت فَمَا، وانتفعت بِفَم. وَمِنْهُم من يكسر الْفَاء على كل حَال، وَمِنْهُم من يرفع على كل حَال، وَمِنْهُم من يعربه من مكانين. فَإِن قلت: لم خص الْمَرْأَة بِالذكر؟ قلت: لِأَن عود مَنْفَعَتهَا إِلَى الْمُنفق، فَإِنَّهَا تؤتر فِي حسن بدنهَا ولباسها، وَالزَّوْجَة من أحظ حظوظه الدُّنْيَوِيَّة وملاذه، وَالْغَالِب من النَّاس النَّفَقَة على الزَّوْجَة لحُصُول شَهْوَته وَقَضَاء وطره، بِخِلَاف الْأَبَوَيْنِ، فَإِنَّهَا رُبمَا تخرج بكلفة ومشقة، فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه إِذا قصد باللقمة الَّتِي يَضَعهَا فِي فَم الزَّوْجَة وَجه الله تَعَالَى، وَجعل لَهُ الْأجر مَعَ الداعية، فَمَعَ غير الداعية وتكلف الْمَشَقَّة أولى.
42
- (بَاب قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدِّينُ النَّصِيحَةُ للَّهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ
وعامَّتِهِمْ وقولِهِ تَعَالَى {إِذا نَصَحُوا للَّهِ وَرَسُولِهِ} )
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه. الأول: إِن بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَلَام إضافي مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، تَقْدِيره: هَذَا بَاب قَول النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَوله: (الدّين) مُبْتَدأ و: (النصِيحَة) خَبره، وَهَذَا التَّرْكِيب(1/320)
يُفِيد الْقصر والحصر، لِأَن الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِذا كَانَا معرفتين يُسْتَفَاد ذَلِك مِنْهُمَا. فَإِن قلت: مَا مَحل هَذِه الْجُمْلَة؟ قلت: النصب لِأَنَّهُ مقول القَوْل، وَاللَّام فِي: لله، صلَة، لِأَن الفصيح أَن يُقَال: نصح لَهُ، فَإِن قلت: لِمَ ترك اللَّام فِي عامتهم؟ قلت: لأَنهم كالاتباع للأئمة لَا اسْتِقْلَال لَهُم، وإعادة اللَّام تدل على الِاسْتِقْلَال. قَوْله (وَقَوله تَعَالَى) بِالْجَرِّ، عطف على قَوْله: (قَول النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول، أَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَأَنَّهَا لَا تقبل إِلَّا إِذا كَانَت ابْتِغَاء لوجه الله تَعَالَى مَعَ ترك الرِّيَاء، وَالْعلم على هَذَا الْوَجْه من جملَة النَّصِيحَة لله تَعَالَى، وَمن جملَة النَّصِيحَة لرَسُوله أَيْضا، حَيْثُ أَتَى بِعَمَلِهِ على وفْق مَا أَمر بِهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، مجتنباً عَمَّا نَهَاهُ عَنهُ. ثمَّ إِن البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، ختم كتاب الْإِيمَان بِهَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ حَدِيث عَظِيم جليل حفيل، عَلَيْهِ مدَار الْإِسْلَام، كَمَا قيل: إِنَّه أحد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْإِسْلَام، فَيكون هَذَا ربع الْإِسْلَام. وَمِنْهُم من قَالَ: يُمكن أَن يسْتَخْرج مِنْهُ الدَّلِيل على جَمِيع الْأَحْكَام.
الثَّالِث: أَنه ذكر هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا وَلم يُخرجهُ مُسْندًا فِي هَذَا الْكتاب، لِأَن رَاوِي الحَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ، وَأشهر طرقه فِيهِ: سُهَيْل بن أبي صَالح، وَلَيْسَ من شَرطه، لِأَنَّهُ لم يخرج لَهُ فِي صَحِيحه، وَقد أخرج لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وروى عَنهُ مَالك وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بن سَلمَة وَخلق كثير، وَالْأَرْبَعَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: سَمِعت عليا يَعْنِي ابْن الْمَدِينِيّ، يَقُول: كَانَ سُهَيْل بن أبي صَالح مَاتَ لَهُ أَخ، فَوجدَ عَلَيْهِ فنسي كثيرا من الْأَحَادِيث. وَقَالَ يحيى بن معِين: لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ ابْن عدي: وَهُوَ عِنْدِي ثَبت لَا بَأْس بِهِ مَقْبُول الْأَخْبَار، وَقد روى عَنهُ الْأَئِمَّة، وَقَالَ الْحَاكِم: وَقد روى مَالك فِي شُيُوخه من أهل الْمَدِينَة النَّاقِد لَهُم، ثمَّ قَالَ فِي أَحَادِيثه بالعراق: إِنَّه نسي الْكثير مِنْهَا وساء حفظه فِي آخر عمره، وَقد أَكثر مُسلم عَنهُ فِي إِخْرَاجه فِي الشواهد مَقْرُونا فِي أَكثر رُوَاته يحافظ لَا يدافع، فَيسلم بذلك من نسبته إِلَى سوء الْحِفْظ، وَلَكِن لما لم يكن عِنْد البُخَارِيّ من شَرطه، لم يَأْتِ فِيهِ بِصِيغَة الْجَزْم، وَلَا فِي معرض الإستدلال بل أدخلهُ فِي التَّبْوِيب فَقَالَ: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا، فَلم يتْرك ذكره لِأَنَّهُ عِنْده من الواهي، بل ليفهم أَنه اطلع عَلَيْهِ أَن فِيهِ عِلّة منعته من إِسْنَاده، وَله من ذَلِك فِي كِتَابَة كثير يقف عَلَيْهِ من لَهُ تَمْيِيز، وَالله أعلم.
الرَّابِع: أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عباد الْمَكِّيّ ثَنَا سُفْيَان عَن سُهَيْل عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن تَمِيم الدَّارِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: (الدّين النَّصِيحَة. قُلْنَا: لمن؟ قَالَ: لله ولكتابه ولرسله ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم) . وَلَيْسَ لتميم الدَّارِيّ فِي صَحِيح مُسلم غَيره، أخرجه فِي بَاب الْإِيمَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر عَن سُهَيْل بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان الثَّوْريّ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ. وَأخرجه إِمَام الْأَئِمَّة، مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي كتاب (السياسة) تأليفه: حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء الْمَكِّيّ، حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن سُهَيْل، سَمِعت عَطاء بن يزِيد، حَدثنَا تَمِيم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة الدّين النَّصِيحَة! فَقَالَ رجل: لمن يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة الْمُؤمنِينَ وعامتهم) .
الْخَامِس: أَن حَدِيث النَّصِيحَة رُوِيَ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَهُوَ وهم من سُهَيْل أَو مِمَّن روى عَنهُ. قَالَ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : لَا يَصح إلاَّ عَن تَمِيم، وَلِهَذَا الِاخْتِلَاف لم يُخرجهُ فِي (صَحِيحه) ، وَلِلْحَدِيثِ طرق دون هَذِه فِي الْقُوَّة، فَمِنْهَا مَا أخرجه أَبُو يعلى من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَمِنْهَا مَا أخرجه الْبَزَّار من حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا.
السَّادِس: قَوْله (الدّين النَّصِيحَة) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: عماد الدّين وقوامه النَّصِيحَة، كَمَا يُقَال: الْحَج عَرَفَة، أَي: عماد الْحَج وقوامه وقُوف عَرَفَة. وَالتَّقْدِير: مُعظم أَرْكَان الدّين النَّصِيحَة، كَمَا يُقَال: الْحَج عَرَفَة، أَي: مُعظم أَرْكَان الْحَج وقُوف عَرَفَة. وأصل النَّصِيحَة مَأْخُوذ من نصح الرجل ثَوْبه إِذا خاطه بالمنصح، وَهِي الإبرة، وَالْمعْنَى: أَنه يلم شعث أَخِيه بالنصح، كَمَا تلم المنصحة، وَمِنْه التَّوْبَة النصوح، كَأَن الذَّنب يمزق الدّين وَالتَّوْبَة تخيطه. وَقَالَ الْمَازرِيّ: النَّصِيحَة مُشْتَقَّة من: نصحت الْعَسَل إِذا صفيته من الشمع، شبه تَخْلِيص القَوْل من الْغِشّ بتخليص الْعَسَل من الْخَلْط. وَفِي (الْمُحكم) النصح: نقيض الْغِشّ، نصح لَهُ ونصحه ينصح نصحاً أَو نصُوحًا ونصاحة. وَفِي (الْجَامِع) : النصح: بذل الْمَوَدَّة وَالِاجْتِهَاد فِي المشورة. وَفِي كتاب ابْن طريف: نصح قلب الْإِنْسَان: خلص من الْغِشّ. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ بِاللَّامِ أفْصح. وَفِي (الغريبين) نَصَحته، قَالَ أَبُو زيد أَي: صدقته. وَقَالَ الْخطابِيّ: النَّصِيحَة كلمة جَامِعَة مَعْنَاهَا: حِيَازَة الْحَظ للمنصوح لَهُ، وَيُقَال: هُوَ من وجيز الْأَسْمَاء، ومختصر(1/321)
الْكَلَام، وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة مُفْردَة تستوفى بهَا الْعبارَة عَن معنى هَذِه الْكَلِمَة، كَمَا قَالُوا فِي الْفَلاح: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة مُفْردَة تستوفى بهَا الْعبارَة عَن معنى مَا جمعت من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. أما النَّصِيحَة لله تَعَالَى: فمعناها يرجع إِلَى الْإِيمَان بِهِ، وَنفي الشّرك عَنهُ، وَترك الْإِلْحَاد فِي صِفَاته، وَوَصفه بِصِفَات الْجلَال والكمال، وتنزيهه تَعَالَى عَن النقائص، وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ وَاجْتنَاب مَعْصِيَته، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عَصَاهُ، وَالِاعْتِرَاف بنعمته وشكره عَلَيْهَا وَالْإِخْلَاص فِي جَمِيع الْأُمُور. قَالَ: وَحَقِيقَة هَذِه الْإِضَافَة رَاجِعَة، إِلَى العَبْد فِي نصيحة نَفسه، فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِي عَن نصح الناصح وَعَن الْعَالمين. وَأما النَّصِيحَة لكتابة، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فالإيمان بِأَنَّهُ كَلَام الله تَعَالَى، وتنزيهه بِأَنَّهُ لَا يُشبههُ شَيْء من كَلَام الْخلق، وَلَا يقدر على مثله أحد من الْمَخْلُوقَات، ثمَّ تَعْظِيمه وتلاوته حق تِلَاوَته، وَإِقَامَة حُرُوفه فِي التِّلَاوَة، والتصديق بِمَا فِيهِ، وتفهم علومه، وَالْعَمَل بمحكمه، وَالتَّسْلِيم لمتشابهه، والبحث عَن ناسخه ومنسوخه، وعمومه وخصوصه، وَسَائِر وجوهه، وَنشر علومه، وَالدُّعَاء إِلَيْهِ. وَأما النَّصِيحَة لرَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: فتصديقه على الرسَالَة وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، وطاعته فِي أوامره ونواهيه، ونصرته حَيا وَمَيتًا، وإعظام حَقه وإحياء سنته، والتلطف فِي تعلمهَا وَتَعْلِيمهَا والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بَيته وَأَصْحَابه. وَأما النَّصِيحَة للأئمة: فمعاونتهم على الْحق وطاعتهم فِيهِ، وتذكيرهم بِرِفْق وَترك الْخُرُوج عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ وَنَحْوه، وَالصَّلَاة خَلفهم، وَالْجهَاد مَعَهم وَأَدَاء الصَّدقَات إِلَيْهِم، هَذَا على الْمَشْهُور من أَن المُرَاد من الْأَئِمَّة أَصْحَاب الْحُكُومَة: كالخلفاء والولاة، وَقد يؤول بعلماء الدّين، ونصيحتهم قبُول مَا رَوَوْهُ وتقليدهم فِي الْأَحْكَام وإحسان الظَّن بهم. وَأما نصيحة الْعَامَّة: فإرشادهم لمصالحهم فِي آخرتهم ودنياهم، وكف الْأَذَى عَنْهُم: وَتَعْلِيم مَا جهلوا، وإعانتهم على الْبر وَالتَّقوى، وَستر عَوْرَاتهمْ والشفقة عَلَيْهِم، وَأَن يحب لَهُم مَا يحب لنَفسِهِ من الْخَيْر.
السَّابِع: فِي الحَدِيث فَوَائِد. مِنْهَا: مَا قيل: إِن الدّين يُطلق على الْعَمَل لكَونه سمى النَّصِيحَة: دينا. وَمِنْهَا: إِن النَّصِيحَة فرض على الْكِفَايَة لَازِمَة على قدر الطَّاقَة إِذا علم الناصح أَنه يقبل نصحه، ويطاع أمره وَأمن على نَفسه الْمَكْرُوه، فَإِن خشِي فَهُوَ فِي سَعَة، فَيجب على من علم بِالْمَبِيعِ عَيْبا أَن يُبينهُ بَائِعا كَانَ أَو أَجْنَبِيّا، وَيجب على الْوَكِيل وَالشَّرِيك والخازن النصح. وَمِنْهَا: أَن النَّصِيحَة كَمَا هِيَ فرض للمذكورين، فَكَذَلِك هِيَ فرض لنَفسِهِ، بِأَن ينصحها بامتثال الْأَوَامِر وَاجْتنَاب المناهي.
الثَّامِن: قَوْله تَعَالَى: {إِذا نصحوا لله وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 91) فِي سُورَة بَرَاءَة وَأول الْآيَة: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج إِذا نصحوا لله وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 91) الْآيَة. أكَّد الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذِهِ الْآيَة، وَالْمرَاد بالضعفاء: الزمنى والهرمى، وَالَّذين لَا يَجدونَ: الْفُقَرَاء. والنصح لله وَرَسُوله: الْإِيمَان بهما وطاعتهما فِي السِّرّ والعلن.
57 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنا يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ قالَ حدّثني قَيْسُ بنُ أبي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عبْدِ اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وإِيتَاءِ الزَّكاةِ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ: (والنصح لكل مُسلم) . وَفِي التَّرْجَمَة: لعامة الْمُسلمين، وَمُرَاد البُخَارِيّ من التَّرْجَمَة وُقُوع الدّين على الْعَمَل، فَإِنَّهُ سمى النَّصِيحَة: دينا. وَقَالَ ابْن بطال: مَقْصُوده الرَّد على من زعم أَن الْإِسْلَام القَوْل دون الْعَمَل، وَهُوَ ظَاهر الْعَكْس، لِأَنَّهُ لما بَايعه على الْإِسْلَام شَرط عَلَيْهِ: والنصح لكل مُسلم، فَلَو دخل فِي الْإِسْلَام لما اسْتَأْنف لَهُ بيعَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة الأول: مُسَدّد بن مسرهد، تقدم. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان، تقدم. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ التَّابِعِيّ، تقدم. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة، واسْمه عبد عَوْف، وَيُقَال: عَوْف بن عبد الْحَارِث بن الْحَارِث بن عَوْف، الأحمسي البَجلِيّ الْكُوفِي التَّابِعِيّ المخضرم، أدْرك الْجَاهِلِيَّة، وَجَاء ليبايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض وَهُوَ فِي الطَّرِيق، ووالده صَحَابِيّ، سمع خلقا من الصَّحَابَة مِنْهُم الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعين من يروي عَنْهُم غَيره، وَقيل: لم يسمع من عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعنهُ جمَاعَة من التَّابِعين، وجلالته مُتَّفق عَلَيْهَا وَهُوَ أَجود النَّاس إِسْنَادًا، كَمَا قَالَه أَبُو دَاوُد. وَمن طُرف أَحْوَاله أَنه روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة لم يرو عَنْهُم غَيره مِنْهُم أَبوهُ ودكين بن سعيد والصنابح بن الأعسر ومرداس الْأَسْلَمِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَاتَ سنة أربعٍ وَقيل: سبع وَثَمَانِينَ، وَقيل: سنة ثَمَان(1/322)
وَتِسْعين روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: جرير بن عبد الله بن جَابر بن مَالك بن نضر بن ثَعْلَبَة البَجلِيّ الأحمسي، أَبُو عبد الله، أَبُو عمر، نزل الْكُوفَة ثمَّ تحول إِلَى قرقيسيا، وَبهَا توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: غير ذَلِك، لَهُ مائَة حَدِيث، اتفقَا مِنْهَا على ثَمَانِيَة، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث، وَمُسلم بِسِتَّة. كَذَا فِي (شرح قطب الدّين) وَفِي (شرح النَّوَوِيّ) ، لَهُ مِائَتَا حَدِيث انْفَرد البُخَارِيّ بِحَدِيث، وَقيل: بِسِتَّة وَلَعَلَّ صَوَابه: وَمُسلم بِسِتَّة بدل: وَقيل بِسِتَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي (شَرحه) : لجرير عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا تِسْعَة وَهَذَا غلط صَرِيح، وَكَانَ قدومه على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سنة عشر فِي رَمَضَان فَبَايعهُ وَأسلم. وَقيل: أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى سَنَام الْبَعِير كَانَت صنمه ذِرَاعا، وَاعْتَزل الْفِتْنَة، وَكَانَ يدعى يُوسُف هَذِه الْأمة لحسنه، روى عَنهُ بنوه: عبد الله وَالْمُنْذر وَإِبْرَاهِيم، وَابْن ابْنه أَبُو زرْعَة هرم، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي تَرْجَمته أَن غُلَامه اشْترى لَهُ فرسا بثلاثمائة، فَلَمَّا رَآهُ جَاءَ إِلَى صَاحبه فَقَالَ؛ إِن فرسك خير من ثلثمِائة، فَلم يزل يزِيدهُ حَتَّى أعطَاهُ ثَمَانمِائَة. وَقَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النصح لكل مُسلم. وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ، إلاَّ هَذَا. وَمِنْهُم جرير بن عبد الله الْحِمْيَرِي فَقَط، وَقيل: ابْن عبد الحميد، وَمِنْهُم جرير بن الأرقط، وَجَرِير بن أَوْس الطَّائِي، وَقيل: جريم، وَأَبُو جرير يروي حَدِيثا عَن ابْن أبي ليلى عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: البَجلِيّ: فِي كهلان، بِفَتْح الْجِيم، ينْسب إِلَى بجيلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك، وَهُوَ مذْحج، كَانَت عِنْد أَنْمَار بن أراش بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان فولده مِنْهَا، وهم: عبقر والغوث وجهينة، ينسبون إِلَيْهَا، مِنْهُم: جرير بن عبد الله الْمَذْكُور، قَالَ الرشاطي: جرير بن عبد الله بن جَابر، وَهُوَ الشليل بن مَالك بن نضر بن ثَعْلَبَة بن جشم بن عريف بن خُزَيْمَة بن عَليّ بن مَالك بن سعد بن نَذِير بن قسر وَهُوَ مَالك بن عبقر وَهُوَ ولد بجيلة، ذكره أَبُو عَمْرو وَرفع نسبه. غير أَنه قَالَ فِي خُزَيْمَة: جزيمة، وَفِي عَليّ: عدي، وَكِلَاهُمَا وهم وتصحيف، وكما ذكرناهما ذكره ابْن الْكَلْبِيّ وَابْن حبيب وَغَيرهمَا. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: اشتقاق: البجيلة، من الغلظ، يُقَال: ثوب بجيل، أَي: غليظ، و: رجل بجال، أَيْضا: إِذا كَانَ غليظاً سميناً، وكل شَيْء عَظمته وغلظته فقد بجلته. الأحمسي: بِالْحَاء الْمُهْملَة، فِي بجيلة: أحمس بن الْغَوْث والغوث هَذَا ابْن لبجيلة، كَمَا ذكرنَا من حمس الرجل: إِذا شجع، وَأَيْضًا هاج وَغَضب، وَهُوَ حمس وأحمس: كَرجل وأرجل، وَفِي ربيعَة أَيْضا: أحمس بن ضبيعة بن ربيعَة بن نزار، مِنْهُم المتلمس الشَّاعِر، وَهُوَ: جرير بن عبد الْمَسِيح بن عبد الله بن زيد بن دوقن بن حَرْب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة.
بَيَان لطائف أسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة، وَلَا يخفى الْفرق بَين الصيغتين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا مُسَددًا. وَمِنْهَا: إِن ثَلَاثَة مِنْهُم، وهم: إِسْمَاعِيل وَقيس وَجَرِير مَكْنُون بِأبي عبد الله. وَمِنْهَا: أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة كلهم بجليون. وَمِنْهَا: أَن الأثنين مِنْهُم إِسْمَاعِيل وَقيس تابعيان.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا كَمَا ترى، وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى، وَفِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن عبد الله عَن أَبِيه، وَفِي الْبيُوع عَن عَليّ عَن سُفْيَان، وَفِي الشُّرُوط عَن مُسَدّد أَيْضا عَن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير، وَأبي أُسَامَة عَن يحيى بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيعَة عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله (بَايَعت) ، من الْمُبَايعَة، وَهُوَ عقد الْعَهْد، وَهُوَ فعل وفاعل و: (رَسُول الله) ، كَلَام إضافي مَفْعُوله. قَوْله (على إقَام الصَّلَاة) أَصله: إِقَامَة الصَّلَاة، وَإِنَّمَا جَازَ حذف التَّاء لِأَن الْمُضَاف إِلَيْهِ عوض عَنْهَا، قد مر تَفْسِير: إِقَامَة الصَّلَاة. قَوْله (وإيتاء الزَّكَاة) أَي: إعطائها قَوْله (والنصح) بِالْجَرِّ، عطف على الْمَجْرُور قبله.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله (بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) : كَانَت مبايعته عَلَيْهِ السَّلَام لأَصْحَابه فِي أَوْقَات بِحَسب الْحَاجة إِلَيْهَا من: تَحْدِيد عهد أَو توكيد أَمر، فَلِذَا اخْتلفت ألفاظها، كَمَا سَيَأْتِي. وَأَخْرَجَا من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن جرير رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة، فلقتني فِيمَا اسْتَطَعْت، والنصح لكل مُسلم) . وَرَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق أبي زرْعَة بن عَمْرو بن جرير عَن جده. وَزَاد فِيهِ: (فَكَانَ جرير إِذا اشْترى وَبَاعَ يَقُول لصَاحبه: إعلم أَن مَا أَخذنَا مِنْك أحب إِلَيْنَا مِمَّا أعطيناكه، فاختر) . قَوْله (فِيمَا اسْتَطَعْت) رُوِيَ بِضَم التَّاء وَفتحهَا، قَالَه قطب الدّين فِي (شَرحه) : ثمَّ قَالَ: فعلى الرّفْع يحْتَاج جرير(1/323)
ينْطق بهَا. أَي: قل فِيمَا اسْتَطَعْت، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 233) وَالْمَقْصُود من هَذِه اللَّفْظَة التَّنْبِيه على أَن المُرَاد: فِيمَا اسْتَطَعْت من الْأُمُور المبايع عَلَيْهَا، هُوَ: مَا يُطَاق، كَمَا هُوَ الْمُشْتَرط فِي أصل التَّكْلِيف، وَفِي قَوْله: لَقَّنَنِي، دلَالَة على كَمَال شَفَقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْخطابِيّ: جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّصِيحَة للْمُسلمين شرطا فِي الَّذِي يُبَايع عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، فَلذَلِك ترَاهُ قرنها بهما. فَإِن قلت: لِمَ اقْتصر عَلَيْهِمَا وَلم يذكر الصَّوْم وَغَيره؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: لدُخُول ذَلِك فِي السّمع وَالطَّاعَة، يَعْنِي الْمَذْكُور، فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وَقَالَ غَيره: إِنَّمَا اقْتصر عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا أهم أَرْكَان الدّين وأظهرها، وهما الْعِبَادَات: الْبَدَنِيَّة والمالية.
58 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ قَالَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحمِدَ اللَّهَ وأثْنَى عَلَيْهِ وقالَ عَلَيْكُمْ بِإِتّقَاءِ اللَّهِ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ والوَقَارِ والسَّكِينَةِ حَتَّى يأْتِيَكُمُ أميرٌ فإِنَّماَ يأْتِيكُمْ الآْنَ ثُمَّ قالَ اسْتَعْفُوا لامِيركُمْ فإِنَّهُ كانَ يُحِبُّ العَفْوَ ثُمَّ قالَ أمّا بَعْدُ فإِنِّي أتَيْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَشَرَطَ عَلَيَّ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا ورَبِّ هَذَا المَسْجِدِ إنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ..
هَذَا الحَدِيث يدل على بعض التَّرْجَمَة المستلزم للْبَعْض الآخر، إِذْ النصح لِأَخِيهِ الْمُسلم لكَونه مُسلما إِنَّمَا هُوَ فرع الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل، السدُوسِي الْبَصْرِيّ، الْمَعْرُوف بعارم، بمهملتين، وَهُوَ لقب رَدِيء، لِأَن العارم: الشرير الْمُفْسد. يُقَال: عرم يعرم عرامة، بِالْفَتْح، وَصبي عَارِم أَي: شرير بَين العرام، بِالضَّمِّ. وَكَانَ رَحمَه الله بَعيدا مِنْهُ، لَكِن لزمَه هَذَا اللقب فاشتهر بِهِ، سمع ابْن الْمُبَارك وخلائق، وروى عَنهُ البُخَارِيّ وَغَيره من الْأَعْلَام، قَالَ أَبُو حَاتِم: إِذا حَدثَك عَارِم فاختم عَلَيْهِ. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن: سَمِعت أبي يَقُول: اخْتَلَط أَبُو النُّعْمَان فِي آخر عمره وَزَالَ عقله، فَمن سمع مِنْهُ قبل الِاخْتِلَاط فسماعه صَحِيح. وَكتب عَنهُ قبل الِاخْتِلَاط سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وروى عَنهُ مُسلم بِوَاسِطَة، وَالْأَرْبَعَة كَذَلِك، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِالْفَتْح، واسْمه الوضاح الْيَشْكُرِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: زِيَاد بن علاقَة، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف، ابْن مَالك الثَّعْلَبِيّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، الْكُوفِي، أَبُو مَالك، سمع جَرِيرًا وَعَمه قُطْبَة بن مَالك وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة، وَغَيرهم. وَعنهُ جماعات من التَّابِعين مِنْهُم الْأَعْمَش، وَكَانَ يخضب بِالسَّوَادِ. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة. الرَّابِع: جرير رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: السدُوسِي: بِفَتْح السِّين الأولى: نِسْبَة إِلَى سدوس، اسْم قَبيلَة. وَقَالَ الرشاطي: السدُوسِي، فِي بكر بن وَائِل، وَفِي تَمِيم. فَالَّذِي فِي بكر بن وَائِل: سدوس بن شَيبَان بن ذهل بن ثَعْلَبَة بن عكابة بن صَعب بن عَليّ بن بكر بن وَائِل، مِنْهُم من الصَّحَابَة قُطْبَة بن قَتَادَة، وَالَّذِي فِي تَمِيم: سدوس بن دارم بن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة، وَأعلم أَن كل سدوسي فِي الْعَرَب بِفَتْح السِّين إلاَّ سدوس بن أصمع بن أبي بن عبيد بن ربيعَة بن نصر بن سعد بن نَبهَان بن طي، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: السدوس: الطيلسان. الثَّعْلَبِيّ: بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي غطفان: ثَعْلَبَة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وَفِي أَسد بن خُزَيْمَة: ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد بن خُزَيْمَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري وواسطي. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا كَمَا ترى، وَأخرجه فِي الشُّرُوط عَن أبي نعيم عَن الثَّوْريّ، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الثَّوْريّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة، وَفِي السّير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المَقْبُري، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الشُّرُوط عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد عَن شُعْبَة عَنهُ نَحوه.(1/324)
بَيَان اللُّغَات: قَوْله (وَالْوَقار) ، بِفَتْح الْوَاو، الرزانة، (والسكينة) ، السّكُون وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السكينَة: الْوَدَاع، وَالْوَقار، قَوْله (استعفوا) ، من الاستعفاء، وَهُوَ طلب الْعَفو، وَالْمعْنَى: اطْلُبُوا لَهُ الْعَفو من الله. كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْوَاو فِي آخِره، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (اسْتَغْفرُوا) ، بغين مُعْجمَة وَرَاء، من الاسْتِغْفَار، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ فِي (الْمُسْتَخْرج) .
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله (سَمِعت) . جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. وَجَرِير بن عبد الله مَفْعُوله، وَفِيه تَقْدِير لَا يَصح الْكَلَام، إِلَّا بِهِ، لِأَن جَرِيرًا ذَات، والمسموع هُوَ الصَّوْت والحروف، وَهُوَ: سَمِعت قَول جرير بن عبد الله أَو نَحوه، فَلَمَّا حذف هَذَا وَقع مَا بعده تَفْسِيرا لَهُ، وَهُوَ قَوْله: يَقُول. وَيَوْم نصب على الظَّرْفِيَّة أضيف إِلَى الْجُمْلَة، أَعنِي: قَوْله: مَاتَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة. قَوْله (قَامَ) جملَة استئنافية لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب. قَوْله (فَحَمدَ الله) عطف عَلَيْهِ، أَي: عقيب قِيَامه حمد الله تَعَالَى. قَوْله (عَلَيْكُم) اسْم من أَسمَاء الْأَفْعَال مَعْنَاهُ: الزموا اتقاء الله. قَوْله (وَحده) ، نصب على الحالية، وَإِن كَانَ معرفَة لِأَنَّهُ مؤول إِمَّا بِأَنَّهُ فِي معنى وَاحِدًا، وَإِمَّا بِأَنَّهُ مصدر: وحد يحد وحداً، نَحْو وعد يعد وَعدا. قَوْله (لَا شريك لَهُ) ، جملَة تؤكد معنى: وَحده. قَوْله (وَالْوَقار) بِالْجَرِّ عطف على: باتقاء الله، أَي: وَعَلَيْكُم بالوقار والسكون. قَوْله (حَتَّى يأتيكم أَمِير) . كلمة: حَتَّى، هَذِه للغاية، و: يأتيكم، مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة بعد حَتَّى. فَإِن قلت: هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون بعد إتْيَان الْأَمِير الاتقاء وَالْوَقار والسكون، لِأَن حكم مَا بعد: حَتَّى، الَّتِي للغاية خلاف مَا قبل. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لَا نسلم أَن حكمه خلاف مَا قبله، سلمنَا لكنه غَايَة لِلْأَمْرِ بالاتقاء لَا للأمور الثَّلَاثَة، أَو غَايَة للوقار والسكون لَا للاتقاء، أَو غَايَة للثَّلَاثَة. وَبعد الْغَايَة، يَعْنِي عِنْد إتْيَان الْأَمِير يلْزم ذَلِك بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهَذَا مَبْنِيّ على قَاعِدَة أصولية وَهِي: إِن شَرط اعْتِبَار مَفْهُوم الْمُخَالفَة فقدان مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَإِذا اجْتمعَا يقدم الْمَفْهُوم الْمُوَافق على الْمُخَالف. قلت: مَفْهُوم الْمُوَافقَة مَا كَانَ حكم الْمَسْكُوت عَنهُ مُوَافقا لحكم الْمَنْطُوق بِهِ، كمفهوم تَحْرِيم الضَّرْب للْوَالِدين، من تنصيص تَحْرِيم التأفيف لَهما، وَمَفْهُوم الْمُخَالفَة مَا كَانَ حكم الْمَسْكُوت عَنهُ مُخَالفا لحكم الْمَنْطُوق، كفهم نفي الزَّكَاة عَن العلوفة بتنصيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وجوب الزَّكَاة فِي الْغنم السَّائِمَة. قَوْله (فَإِنَّمَا يأتيكم) أَي: الْأَمِير، وَكلمَة: إِنَّمَا، من أَدَاة الْحصْر. قَوْله (الْآن) ، نصب على الظّرْف. قَوْله (فَإِنَّهُ) الْفَاء: فِيهِ للتَّعْلِيل. وَقَوله (كَانَ يحب الْعَفو) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر إِن. قَوْله (أما بعد) ، كلمة: أما، فِيهَا معنى الشَّرْط، فَلذَلِك كَانَت الْفَاء لَازِمَة لَهَا، و: بعد، من الظروف الزمانية، وَكَثِيرًا مَا يحذف مِنْهُ الْمُضَاف إِلَيْهِ ويبنى على الضَّم، وَيُسمى غَايَة. وَهَهُنَا قد حذف، فَلذَلِك بني على الضَّم، وَالْأَصْل: أما بعد الْحَمد لله وَالثنَاء عَلَيْهِ، أَو التَّقْدِير: أما بعد كَلَامي هَذَا، فَإِنِّي أتيت: قَوْله (قلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل بدل من قَوْله (أتيت) فَلذَلِك ترك العاطف حَيْثُ لم يقل: وَقلت، أَو: هِيَ اسْتِئْنَاف. وَقَوله: فَشرط على بتَشْديد الْيَاء فِي: على، على الصَّحِيح من الرِّوَايَات، وَالْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره: فَشرط على الْإِسْلَام. قَوْله (والنصح) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ عطف على الْإِسْلَام، أَي: وعَلى النصح لكل مُسلم، وَيجوز فِيهِ النصب عطفا على مفعول شَرط مُقَدّر تَقْدِيره: وَشرط النصح لكل مُسلم. قَوْله (على) هَذَا إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور من الْإِسْلَام والنصح كليهمَا. قَوْله (وَرب هَذَا الْمَسْجِد) الْوَاو فِيهِ للقسم، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَسْجِد الْكُوفَة. قَوْله (إِنِّي لناصح) جَوَاب الْقسم، وأكده بِأَن وَاللَّام وَالْجُمْلَة الإسمية. قَوْله (وَنزل) أَي: عَن الْمِنْبَر، أَو مَعْنَاهُ: قعد، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة: قَامَ. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله (يَوْم مَاتَ الْمُغيرَة) . كَانَت وَفَاته سنة خمسين من الْهِجْرَة، وَكَانَ والياً على الْكُوفَة فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، واستناب عِنْد مَوته ابْنه عَرَفَة. وَقيل: استناب جَرِيرًا الْمَذْكُور، وَلِهَذَا خطب الْخطْبَة الْمَذْكُورَة. قَوْله (فَحَمدَ الله) . أَي اثنى عَلَيْهِ بالجميل، وَأثْنى عَلَيْهِ أَي: ذكره بِالْخَيرِ، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْحَمْد وَصفه متحلياً بالكمالات، وبالثناء وَصفه متخلياً عَن النقائص، فَالْأول إِشَارَة إِلَى الصِّفَات الوجودية، وَالثَّانِي: إِلَى الصِّفَات العدمية: أَي التنزيهات. قَوْله (حَتَّى يأتيكم أَمِير) أَي: بدل هَذَا الْأَمِير الَّذِي مَاتَ، وَهُوَ الْمُغيرَة. فَإِن قلت: لم نصحهمْ بالحلم والسكون؟ قلت: لِأَن الْغَالِب أَن وَفَاة الْأُمَرَاء تُؤدِّي إِلَى الْفِتْنَة وَالِاضْطِرَاب بَين النَّاس، والهرج والمرج، وَأما ذكره الاتقاء فَلِأَنَّهُ ملاك الْأَمر وَرَأس كل خير، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا يتَعَلَّق بمصالح الدّين، وبالوقار والسكينة إِلَى مَا يتَعَلَّق بمصالح الدُّنْيَا. وَقَوله (فَإِنَّمَا يأتيكم الْآن) إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ حَقِيقَته، فَيكون ذَلِك الْأَمِير جَرِيرًا بِنَفسِهِ. لما روى أَن الْمُغيرَة اسْتخْلف جَرِيرًا على الْكُوفَة عِنْد مَوته على مَا ذكرنَا، أَو يُرِيد بِهِ الْمدَّة الْقَرِيبَة من(1/325)
الْآن فَيكون ذَلِك الْأَمِير زياداً، إِذْ ولاه مُعَاوِيَة بعد وَفَاة الْمُغيرَة الْكُوفَة. قَوْله (استعفوا) أَي: اسألوا الله تَعَالَى لأميركم الْعَفو فَإِنَّهُ كَانَ يحب الْعَفو عَن ذنُوب النَّاس، إِذْ يُعَامل بالشخص كَمَا هُوَ يُعَامل بِالنَّاسِ، وَفِي الْمثل السائر: كَمَا تدين تدان، وَقيل: كَمَا تكيل تكال. وَقَالَ ابْن بطال: جعل الْوَسِيلَة إِلَى عَفْو الله بِالدُّعَاءِ بأغلب خلال الْخَيْر عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ يُحِبهُ فِي حَيَاته، وَكَذَلِكَ يجزى كل أحد يَوْم الْقِيَامَة بِأَحْسَن أخلاقه وأعماله. قَوْله (وَرب هَذَا الْمَسْجِد) يشْعر بِأَن خطبَته كَانَت فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَيجوز أَن تكون إِشَارَة إِلَى جِهَة الْمَسْجِد، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظ: وَرب الْكَعْبَة، ذكر ذَلِك للتّنْبِيه على شرف الْمقسم بِهِ، ليَكُون أدعى للقبول. قَوْله (إِنِّي لنا صَحَّ) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنه وَفِي بِمَا بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن كَلَامه صَادِق خَالص عَن الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة. فَإِن قلت: النصح للْكَافِرِ يَصح بِأَن يدعى إِلَى الْإِسْلَام ويشار عَلَيْهِ بِالصَّوَابِ إِذا اسْتَشَارَ فَلِمَ، قَيده بقوله (لكل مُسلم) ، وَبِقَوْلِهِ: (لكم) ؟ قلت: هَذَا التَّقْيِيد من حَيْثُ الْأَغْلَب فَقَط. فَافْهَم.(1/326)
3 - (كتاب الْعلم)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول: أَن لفظ: كتاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى الْعلم، وَالتَّقْدِير: هَذَا كتاب الْعلم. أَي: فِي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي بَيَان مَاهِيَّة الْعلم، لِأَن النّظر فِي الماهيات وحقائق الْأَشْيَاء لَيْسَ من فن الْكتاب.
الثَّانِي: أَنه قدم هَذَا الْكتاب على سَائِر الْكتب الَّتِي بعده لِأَن مدَار تِلْكَ الْكتب كلهَا على الْعلم، وَإِنَّمَا لم يقدم على كتاب الْإِيمَان لِأَن الْإِيمَان أول وَاجِب على الْمُكَلف، أَو لِأَنَّهُ أفضل الْأُمُور على الْإِطْلَاق وَأَشْرَفهَا. وَكَيف لَا وَهُوَ مبدأ كل خير علما وَعَملا؟ ومنشأ كل كَمَال دقاً وجلاً؟ . فَإِن قلت: فَلِمَ قدم كتاب الْوَحْي عَلَيْهِ؟ قلت: لتوقف معرفَة الْإِيمَان وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالدّينِ عَلَيْهِ، أَو لِأَنَّهُ أول خير نزل من السَّمَاء إِلَى هَذِه الْأمة. وَقد أشبعنا الْكَلَام فِي كتاب الْإِيمَان. فليعاود هُنَاكَ.
الثَّالِث: أَن الْعلم فِي اللُّغَة مصدر: علمت وَأعلم علما. قَالَ الْجَوْهَرِي: علمت الشَّيْء أعلمهُ علما: عَرفته، بِالْكَسْرِ، فَهَذَا كَمَا ترى لم يفرق بَين الْعلم والمعرفة، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، لِأَن الْمعرفَة إِدْرَاك الجزئيات، وَالْعلم إِدْرَاك الكليات، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: الله عَارِف كَمَا يُقَال: عَالم. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعلم نقيض الْجَهْل، علم علما، وَعلم هُوَ نَفسه، وَرجل عَالم وَعَلِيم من قوم عُلَمَاء، وعلاَّم وعلامة من قوم علامين، والعلام والعلامة: النسابة. وَيُقَال، إِذا بولغ فِي وصف الشَّخْص بِالْعلمِ، يُقَال لَهُ: عَلامَة، وَعلمه الْعلم وأعلمه إِيَّاه فتعلمه، وَفرق سِيبَوَيْهٍ بَينهمَا، فَقَالَ: علمت كأدبت، وأعلمت كأديت. وَقَالَ أَبُو عبيد عبد الرحمان: عالمني فلَان فعلمته أعلمهُ، بِالضَّمِّ، وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب بِالْكَسْرِ فِي: يفعل، فَإِنَّهُ فِي بَاب المغالبة يرفع إِلَى الضَّم: كضاربته فضربته أضربه. وَعلم بالشَّيْء: شعر، وَقَالَ يَعْقُوب: إِذا قيل لَك: اعْلَم كَذَا. قلت: قد علمت. وَإِذا قيل: تعلم. لم تقل: قد تعلمت. وَفِي الْمُخَصّص: عَلمته الْأَمر، وأعلمته إِيَّاه فَعلمه وتعلمه. وَقَالَ أَبُو عَليّ: سمي الْعلم علما لِأَنَّهُ من الْعَلامَة، وَهِي الدّلَالَة وَالْإِشَارَة، وَمِمَّا هُوَ ضرب من الْعلم. قَوْلهم: الْيَقِين، وَلَا ينعكس فَنَقُول: كل يَقِين علم، وَلَيْسَ كل علم يَقِينا، وَذَلِكَ أَن الْيَقِين علم يحصل بعد استكمال اسْتِدْلَال وَنظر لغموض فِيهِ، وَالْعلم: النّظر والتصفح، وَمن الْعلم الدِّرَايَة، وَهِي ضرب مِنْهُ مَخْصُوص. ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي حد الْعلم، فَقَالَ بَعضهم: لَا يحد، وَهَؤُلَاء اخْتلفُوا فِي سَبَب عدم تحديده، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: لعسر تحديده، وَإِنَّمَا تَعْرِيفه بِالْقِسْمَةِ والمثال. وَقَالَ بَعضهم، وَمِنْهُم الإِمَام فَخر الدّين: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، إِذْ لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَاللَّازِم بَاطِل، فالملزوم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة: أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لَكَانَ نظرياً، إِذْ لَا وَاسِطَة، وَلَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، ينْتج أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه لَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، لِأَنَّهُ لَو كَانَ نظرياً لعلم بِغَيْر الْعلم لِامْتِنَاع اكتسابه من نَفسه، وَغير الْعلم لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فليزم معرفَة الْعلم بِغَيْر الْعلم الَّذِي لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَيلْزم الدّور، وَهُوَ محَال لاستلزامه تقدم الشَّيْء على نَفسه، واستلزامه امْتنَاع تصور الْعلم المتصور. وَقَالَ الْآخرُونَ: إِنَّه يحد، وَلَهُم فِيهِ أَقْوَال، وَأَصَح الْحُدُود أَنه صفة من صِفَات النَّفس، توجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض فِي الْأُمُور المعنوية، فَقَوله: صفة، جنس لتنَاوله لجَمِيع صِفَات النَّفس. وَقَوله: توجب تمييزاً، احْتِرَاز عَمَّا لم يُوجب تمييزاً كالحياة. وَقَوله: لَا يحْتَمل النقيض، احْتِرَاز عَن مِثَال الظَّن، وَقَوله: فِي الْأُمُور المعنوية، يخرج إِدْرَاك الْحَواس، لِأَن إِدْرَاكهَا فِي الْأُمُور الظَّاهِرَة المحسوسة.(2/2)
1 - (بابُ فَضْلِ العِلْمِ)
كَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، مصدرا بالبسملة بعْدهَا: بَاب فضل الْعلم، وَفِي بَعْضهَا، لَا يُوجد ذَلِك كُله، بل الْمَوْجُود هَكَذَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى ... الخ. وَفِي بَعْضهَا الْبَسْمَلَة مُقَدّمَة على لفظ كتاب الْعلم، هَكَذَا: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم كتاب الْعلم. وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالْأول رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَغَيرهمَا، اعني أَن روايتهما، أَن الْبَسْمَلَة بَين الْكتاب وَالْبَاب.
وقَوْلُ الله تَعالى: {يَرْفَع الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيْرٌ} (المجادلة: 11) وقَوْلِهِ: {عَزَّ وَجَلَّ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) .
اكْتفى البُخَارِيّ فِي بَيَان فضل الْعلم بِذكر الْآيَتَيْنِ الكريمتين، لِأَن الْقُرْآن من أقوى الْحجَج القاطعة، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بَاب الْإِثْبَات وَالنَّفْي أقوى من الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ. وَنقل الْكرْمَانِي عَن بعض الشاميين أَن البُخَارِيّ بوب الْأَبْوَاب وَذكر التراجم، وَكَانَ يلْحق بالتدريج إِلَيْهَا الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة لَهَا، فَلم يتَّفق لَهُ أَن يلْحق إِلَى هَذَا الْبَاب وَنَحْوه شَيْئا مِنْهَا، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده حَدِيث يُنَاسِبه بِشَرْطِهِ، وَإِمَّا لأمر آخر. وَنقل أَيْضا عَن بعض أهل الْعرَاق أَنه ترْجم لَهُ، وَلم يذكر شَيْئا فِيهِ قصدا مِنْهُ، ليعلم أَنه لم يثبت فِي ذَلِك الْبَاب شَيْء عِنْده. قلت: هَذَا كُله كَلَام غير سديد لَا طائل تَحْتَهُ، وَالْأَحَادِيث والْآثَار الصَّحِيحَة كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب، وَلم يكن البُخَارِيّ عَاجِزا عَن إِيرَاد حَدِيث صَحِيح على شَرطه، أَو أثر صَحِيح من الصَّحَابَة أَو التَّابِعين، مَعَ كَثْرَة نَقله واتساع رِوَايَته، وَلَئِن سلمنَا أَنه لم يثبت عِنْده مَا يُنَاسب هَذَا الْبَاب، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يذكر هَذَا الْبَاب. فَإِن قلت: ذكره للإعلام بِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ شَيْء عِنْده، كَمَا قَالَه بعض أهل الْعرَاق. قلت: ترك الْبَاب فِي مثل هَذَا يدل على الْإِعْلَام بذلك، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره حينئذٍ. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا يترجم بعد هَذَا بِبَاب فضل الْعلم وينقل فِيهِ حَدِيثا يدل على فضل الْعلم؟ قلتُ: الْمَقْصُود بذلك الْفضل غير هَذَا، الْفضل إِذْ ذَاك بِمَعْنى: الْفَضِيلَة، أَي الزِّيَادَة فِي الْعلم، وَهَذَا بِمَعْنى كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. قلت: هَذَا فرق عَجِيب، لِأَن الزِّيَادَة فِي الْعلم تَسْتَلْزِم كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. فَلَا فرق بَينهمَا فِي الْحَقِيقَة، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن لفظ: بَاب الْعلم، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَذْكُورا هَهُنَا، وَبعد بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، على مَا عَلَيْهِ بعض النّسخ، أَو يكون مَذْكُورا هُنَاكَ فَقَط. فَإِن كَانَ الأول فَهُوَ تكْرَار فِي التَّرْجَمَة بِحَسب الظَّاهِر، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا يحْتَاج إِلَى الاعتذارات الْمَذْكُورَة، مَعَ أَن الْأَصَح من النّسخ هُوَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور هَهُنَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} الْآيَة (المجادلة: 11) . وَلَئِن صَحَّ وجود: بَاب فضل الْعلم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُول: لَيْسَ بتكرار، لِأَن المُرَاد من بَاب فضل الْعلم، هُنَا التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلمَاء بِدَلِيل الْآيَتَيْنِ المذكورتين: فَإِنَّهُمَا فِي فَضِيلَة الْعلمَاء، وَالْمرَاد من: بَاب فضل الْعلم، هُنَاكَ التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم، فَلَا تكْرَار حينئذٍ. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب فضل الْعلمَاء، قلت: بَيَان فضل الْعلم يسْتَلْزم بَيَان فضل الْعلمَاء، لِأَن الْعلم صفة قَائِمَة بالعالم. فَذكر بَيَان فضل الصّفة يسْتَلْزم بَيَان فضل من هِيَ قَائِمَة بِهِ، على أَنا نقُول: إِن لم يكن المُرَاد من هَذَا الْبَاب بَيَان فضل الْعلمَاء، لَا يُطَابق ذكر الْآيَتَيْنِ المذكورتين التَّرْجَمَة، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين رَحمَه الله فِي (شَرحه) بعد الْآيَتَيْنِ، ش: جَاءَ فِي الْآثَار أَن دَرَجَات الْعلمَاء تتلو دَرَجَات الْأَنْبِيَاء، وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، ورثوا الْعلم وبينوه للْأمة، وحموه من تَحْرِيف الْجَاهِلين. وروى ابْن وهب، عَن مَالك، قَالَ: سَمِعت زيد بن أسلم، يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى: {نرفع دَرَجَات من نشَاء} (الْأَنْعَام: 83) قَالَ: بِالْعلمِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) . مدح الله الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة، وَالْمعْنَى: يرفع الله الَّذين آمنُوا وأوتوا الْعلم على الَّذين آمنُوا فَقَط وَلم يؤتوا الْعلم دَرَجَات فِي دينهم إِذا فعلوا مَا أمروا بِهِ. وَقيل: يرفعهم فِي الثَّوَاب والكرامة، وَقيل: يرفعهم فِي الْفضل فِي الدُّنْيَا والمنزلة. وَقيل: يرفع الله دَرَجَات الْعلمَاء فِي الْآخِرَة على الْمُؤمنِينَ الَّذين لم يؤتوا الْعلم. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب زِدْنِي علما} (طه: 114) أَي: بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ كلما نزل شَيْء من الْقُرْآن ازْدَادَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، علما. وَقيل: مَا أَمر الله رَسُوله بِزِيَادَة الطّلب فِي شَيْء إِلَّا فِي الْعلم، وَقد طلب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الزِّيَادَة فَقَالَ: {هَل أتبعك على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا} (الْكَهْف: 66) وَكَانَ ذَلِك لما سُئِلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فَقَالَ: أَنا أعلم. فعتب الله عَلَيْهِ إِذْ لم يرد الْعلم إِلَيْهِ. وَقَوله: دَرَجَات، مَنْصُوب بقوله يرفع. فَإِن قلت: قَوْله: وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) مَا حَظه من الْإِعْرَاب؟ قلت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَحْوَال(2/3)
التَّرْكِيب أَن يكون مجروراً، عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي قَوْله: بَاب فضل الْعلم، على تَقْدِير: وجود الْبَاب، أَو على الْعلم فِي قَوْله: كتاب الْعلم، على تَقْدِير عدم وجوده. وَقَالَ بَعضهم: ضبطناه فِي الْأُصُول بِالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف. قلت: إِن أَرَادَ بالاستئناف الْجَواب على السُّؤَال فَذا لَا يَصح، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يَقْتَضِي هَذَا، وَإِن أَرَادَ الِابْتِدَاء الْكَلَام، فَذا أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ على تَقْدِير الرّفْع لَا يَتَأَتَّى الْكَلَام، لِأَن قَوْله: وَقَول الله، لَيْسَ بِكَلَام، فَإِذا رفع لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون رَفعه بالفاعلية، أَو بِالِابْتِدَاءِ، وكل مِنْهُمَا لَا يَصح، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فلعدم الْخَبَر. فَإِن قلت: الْخَبَر مَحْذُوف. قلت: حذف الْخَبَر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون جَوَازًا أَو وجوبا. فَالْأول: فِيمَا إِذا قَامَت قرينَة، وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام عَن الْمخبر بِهِ، أَو بعد إِذا المفاجأة، أَو يكون الْخَبَر قبل قَول وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك هَهُنَا. وَالثَّانِي: إِذا الْتزم فِي مَوْضِعه غَيره، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضا كَذَلِك، فَتعين بطلَان دَعْوَى الرّفْع.
2 - (بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْماً وَهوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأتَمَّ الحَدِيثَ ثُمَّ أجابَ السَّائِلَ.)
الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن: الأول: أَن بَاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى قَوْله: من سُئِلَ، وَمن، مَوْصُولَة. قَوْله: سُئِلَ، على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول النَّائِب عَن الْفَاعِل وَقعت صلَة لَهَا. وَقَوله: علما، نصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان، وَقَوله: وَهُوَ مشتغل فِي حَدِيثه، جملَة وَقعت حَالا عَن الضَّمِير الَّذِي فِي: سُئِلَ، وَذكر قَوْله: فَأَتمَّ، بِالْفَاءِ وَقَوله: ثمَّ أجَاب، بِكَلِمَة: ثمَّ، لِأَن إتْمَام الحَدِيث حصل عقيب الِاشْتِغَال بِهِ. وَالْجَوَاب بعد الْفَرَاغ مِنْهُ. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ على تَقْدِير وجود الْبَاب السَّابِق فِي بعض النّسخ، من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول، وَإِن كَانَ الْمَذْكُور فِيهِ فضل الْعلم، وَلَكِن المُرَاد التَّنْبِيه على فضل الْعلمَاء، كَمَا حققنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ حَال الْعَالم المسؤول مِنْهُ عَن مَسْأَلَة معضلة، وَلَا يسْأَل عَن الْمسَائِل المعضلات إِلَّا الْعلمَاء الْفُضَلَاء الْعَامِلُونَ الداخلون فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} (المجادلة: 11) . وَأما على تَقْدِير عدم الْبَاب السَّابِق فِي النّسخ، فالابتداء بِهَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى مَا قيل من أَن الْعلم سُؤال وَجَوَاب، وَالسُّؤَال نصف الْعلم، فتميز هَذَا الْبَاب عَن بَقِيَّة الْأَبْوَاب الَّتِي تضمنها كتاب الْعلم، فَاسْتحقَّ بذلك التصدير على بَقِيَّة الْأَبْوَاب. فَافْهَم.
59 - حدّثنا مُحمَّدُ بْنُ سِنَان قَالَ: حدّثنا فُلَيْحُ (ح) وحدَّثني إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْح قَالَ: حدّثني أبي قَالَ: حدّثني هِلاَلُ بْنُ عَليٍّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: بَيْنَمَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَجْلِس يُحَدِّثُ القَوْمَ جاءَهُ أعْرَابِيُّ فقالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قالَ: وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذا قَضى حَدِيثَهُ قَالَ أيْنَ ارَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قالَ: هَا أَنا يَا رَسولَ! الله قَالَ: (فإذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) قالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) .
(الحَدِيث 59 طرفه فِي: 6496) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين، أَبُو بكر الْبَاهِلِيّ العوقي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة مَأْمُون، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن رجل عَنهُ، توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، ابْن سُلَيْمَان بن أبي الْمُغيرَة، وَهُوَ حنين ابْن أخي عبيد بن حنين، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك، ولقبه فليح واشتهر بلقبه، الْخُزَاعِيّ الْمدنِي، وكنيته أَبُو يحيى، روى عَن نَافِع وعدة، وروى عَنهُ عبد اللَّه بن وهب وَيحيى الوحاظي وَابْن أعين وَشُرَيْح بن النُّعْمَان وَآخَرُونَ، قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ضَعِيف مَا أقربه من ابْن أبي أويس، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: لَيْسَ بِقَوي وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: لَيْسَ بِالْقَوِيّ: وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ، وَقد اعْتَمدهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَقد روى عَنهُ زيد بن أبي أنيسَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: واجتماع البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَيْهِ فِي إخراجهما عَنهُ فِي الْأُصُول يُؤَكد أمره ويسكن الْقلب فِيهِ إِلَى تَعْدِيل، توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد اللَّه ابْن الْمُنْذر بن الْمُغيرَة بن عبد اللَّه بن خَالِد بن حزَام بن خويلد(2/4)
الْقرشِي الْحزَامِي الْمدنِي أَبُو إِسْحَاق، روى عَنهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَابْن مَاجَه وَغَيرهم، وروى البُخَارِيّ عَنهُ، وروى أَيْضا عَن مُحَمَّد بن غَالب عَنهُ، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ. قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. مَاتَ سنة سِتّ، وَقيل: خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن فليح الْمَذْكُور، روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَغَيره، روى عَنهُ هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي وَغَيره، لينه ابْن معِين: وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس لَيْسَ بذلك الْقوي، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. روى لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. الْخَامِس: أَبُو فليح الْمَذْكُور. السَّادِس: هِلَال بن عَليّ، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال لَهُ: هِلَال ابْن أبي هِلَال، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أُسَامَة، نسبته إِلَى جده، وَقد يظنّ أَرْبَعَة وَالْكل وَاحِد. قَالَ مَالك هِلَال بن أبي أُسَامَة: تَابعه على ذَلِك أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، وَقَالَ: هُوَ الفِهري الْقرشِي الْمدنِي، وَهُوَ من صغَار التَّابِعين، وَشَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث من أوساطهم، سمع أنسا وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَهُوَ شيخ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام، وروى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّابِع: عَطاء بن يسَار، مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَقد تقدم ذكره. الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة، وَقد تقدم ذكره أَيْضا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْبَاهِلِيّ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى باهلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة ابْن مَالك بن كَذَا، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. العوقي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْوَاو وبالقاف: نِسْبَة إِلَى العوقة، وهم حَيّ من عبد الْقَيْس، وَلم يكن مُحَمَّد بن سِنَان من العوقة، وَإِنَّمَا نزل فيهم، كَانَ لَهُم محلّة بِالْبَصْرَةِ فَنزل عِنْدهم فنسب إِلَى العوقة. الْخُزَاعِيّ، بِضَم الْخَاء وبالزاي المعجمتين: نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة، وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَقَالَ الرشاطي: الْخُزَاعِيّ فِي الأزد وَفِي قضاعة. فَالَّذِي فِي الأزد ينْسب إِلَى خُزَاعَة وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَفِي قضاعة بطن وَهُوَ خُزَاعَة بن مَالك بن عدي. الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى حزَام أحد الأجداد. وَقَالَ الرشاطي: الْحزَامِي فِي أَسد قُرَيْش وَفِي فَزَارَة. فَالَّذِي فِي قُرَيْش: حزَام بن خويلد بن أَسد، وَالَّذِي فِي فَزَارَة: حزَام بن سعد بن عدي بن فَزَارَة. الفِهري، بِكَسْر الْفَاء نِسْبَة إِلَى فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: إِن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا. وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَهُوَ أَن الشَّيْخ إِذا حدث لَهُ وَهُوَ السَّامع وَحده يَقُول: حَدثنِي، وَإِذا حدث وَمَعَهُ غَيره، يَقُول: حَدثنَا. وَفِيه العنعنة أَيْضا. وَمِنْهَا: أَن هَذَا إسنادان. أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح عَن هِلَال عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه عَن هِلَال ... إِلَى آخِره، وَهَذَا أنزل من الأول بِوَاحِد. وَمِنْهَا: أَن رجال الْإِسْنَاد الآخير كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِي غَالب النّسخ قبل قَوْله: وحَدثني إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر صُورَة (ح) وَهِي حاء مُهْملَة مُفْردَة. قيل: إِنَّهَا مَأْخُوذَة من التَّحَوُّل لتحوله من إِسْنَاد إِلَى آخر، وَيَقُول القارىء إِذا انْتهى إِلَيْهَا: حا، وَيسْتَمر فِي قِرَاءَة مَا بعْدهَا. وَقيل: إِنَّهَا من حَال بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا حجز لكَونهَا حَالَة بَين الإسنادين، وَأَنه لَا يلفظ عِنْد الإنتهاء إِلَيْهَا بِشَيْء. وَقيل: إِنَّهَا رمز إِلَى قَوْله: الحَدِيث وَأهل الْمغرب إِذا وصلوا إِلَيْهَا يَقُولُونَ الحَدِيث. وَقد كتب جمَاعَة عَن حفاظ عراق الْعَجم موضعهَا صَحَّ، فيشعر بِأَنَّهَا رمز صَحِيح، وَحسن هُنَا كِتَابَة صَحَّ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه سقط متن الْإِسْنَاد الأول، وَهِي كَثِيرَة فِي (صَحِيح مُسلم) : قَليلَة فِي البُخَارِيّ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا كَمَا ترى، وَأخرجه أَيْضا فِي الرقَاق مُخْتَصرا عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح بن سلمَان عَن هِلَال بن عَليّ بِهِ، وَلم يُخرجهُ من أَصْحَاب السِّتَّة غَيره.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (أَعْرَابِي) ، هُوَ الَّذِي يسكن الْبَادِيَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأَعْرَاب سَاكِني الْبَادِيَة، من الْعَرَب الَّذِي لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، سَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ عَرَبِيّ، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب، وَلم يعرف اسْم هَذَا الْأَعرَابِي. قَوْله: (السَّاعَة) قَالَ الْأَزْهَرِي: السَّاعَة: الْوَقْت الَّذِي تقوم فِيهِ الْقِيَامَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهَا تفجأ النَّاس فِي سَاعَة، فَيَمُوت الْخلق كلهم بصيحة وَاحِدَة. وَفِي (الْعباب) : السَّاعَة الْقِيَامَة. قلت: أَصله: سوعة، قلبت الْوَاو الْفَا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. قَوْله: (وسد) ، من وسدته الشَّيْء فتوسده إِذا جعله تَحت رَأسه، وَالْمعْنَى: إِذا فوض الْأَمر وَأسْندَ، وَفِي (الْمطَالع) : إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله، كَذَا لكافة الروَاة، أَي: أسْند وَجعل إِلَيْهِم وقلدوه، وَعند الْقَابِسِيّ: أَسد، وَقَالَ: الَّذِي احفظ: وسد، وَقَالَ: هما بِمَعْنى. قَالَ القَاضِي: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد قَالُوا: وساد، وأساد، واشتقاقها وَاحِد، وَالْوَاو هُنَا بعد الْألف، ولعلها صُورَة الْهمزَة. والوساد: مَا يتوسد إِلَيْهِ للنوم. يُقَال: اساد وإسادة ووسادة. وَفِي (الْعباب) : الوساد والوسادة(2/5)
والوسدة: المخدة وَالْجمع: وسد ووسائد. وسدته كَذَا أَي: جعلته لَهُ وسَادَة، وتوسد الشَّيْء جعله تَحت رَأسه. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله وسد أَي: جعل لَهُ غير أَهله وساداً. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ. كَذَا، بل الْمَعْنى: إِذا وضعت وسَادَة الْأَمر لغير أَهلهَا، وَالْمرَاد من الْأَمر جنس الْأَمر الَّذِي يتَعَلَّق بِالدّينِ، فَإِذا وضعت وسادته لغير أَهلهَا تهان وتحقر، على مَا نبينه عَن قريب. قَوْله: (فانتظر) أَمر من الإنتظار.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) : أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: مَا، وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة. قَوْله: (النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُبْتَدأ، وَقَوله: (يحدث الْقَوْم) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول خَبره، وَيحدث يَقْتَضِي مفعولين، وَأحد المفعولين هَهُنَا مَحْذُوف لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ، وَالْقَوْم: هم الرِّجَال دون النِّسَاء، وَقد تدخل النِّسَاء فِيهِ على سَبِيل التبع، لِأَن قوم كل نَبِي رجال وَنسَاء، جمعه أَقوام، وَجمع الْجمع أقاوم. وَقَوله: (فِي مجْلِس) حَال. قَوْله: (جَاءَهُ أَعْرَابِي) : جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ: أَعْرَابِي، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي جَاءَهُ، الْعَائِد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ جَوَاب: بَيْنَمَا، وَهُوَ الْعَامِل فِي: بَيْنَمَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْأَفْصَح فِي جَوَابه أَن لَا يكون بإذ وَإِذا. وَقَالَ غَيره: بِالْعَكْسِ، وَالصَّوَاب مَعَه لوُرُود الحَدِيث هَكَذَا. وَقيل: بَيْنَمَا ظرف يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك اقْتضى جَوَابا، وَفِيه نظر. قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) مُبْتَدأ وَخبر، وَكلمَة: مَتى، هَهُنَا للاستفهام. قَوْله: (يحدث) أَي: يحدث الْقَوْم، وَفِي بعض الرِّوَايَات بحَديثه، بِحرف الْجَرّ وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: يحدثه، بِزِيَادَة الْهَاء، وَلَيْسَت فِي رِوَايَة البَاقِينَ. وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ لَا يعود على الْأَعرَابِي، وَإِنَّمَا التَّقْدِير: يحدث الْقَوْم الحَدِيث الَّذِي كَانَ فِيهِ. فَإِن قلت: مَا مَحل: يحدث، من الْإِعْرَاب؟ قلت: محلهَا النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي مضى. قَوْله: (فَقَالَ بعض الْقَوْم) من هَهُنَا إِلَى قَوْله: (لم يسمع) جملَة مُعْتَرضَة. فَإِن قلت: هَل يجوز الِاعْتِرَاض بِالْفَاءِ؟ قلت: نعم جَائِز. قَوْله: (سمع) أَي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا قَالَ) أَي الْأَعرَابِي، وَمَا، مَوْصُولَة. وَقَالَ: جملَة صلته، والعائد مَحْذُوف أَي: مَا قَالَه. وَالْجُمْلَة مفعول: سمع. وَيجوز أَن تكون مَا مَصْدَرِيَّة أَي: سمع قَوْله، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: (فكره مَا قَالَ) . قَوْله: (بل لم يسمع) قَالَ الْكرْمَانِي: علام عطف: بل لم يسمع؟ إِذْ لَا يَصح أَن يعْطف على مَا تقدم، إِذْ الإضراب إِنَّمَا يكون عَن كَلَام نَفسه، بل لَا يَصح عطف أصلا على كَلَام غير العاطف: قلت: لَا نسلم امْتنَاع صِحَة الْعَطف، والإضراب بَين كَلَام متكلمين، وَمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ سلمنَا، لَكِن يكون الْكل من كَلَام الْبَعْض الأول كَأَنَّهُ قَالَ الْبَعْض الآخر للْبَعْض الأول: قل بل لم يسمع، أَو كَلَام الْبَعْض الآخر بِأَن يقدر لفظ: سمع، قبله كَأَنَّهُ قَالَ: سمع بل لم يسمع. قلت: هَذَا كُله تعسف نَشأ من عدم الْوُقُوف على أسرار الْعَرَبيَّة، فَنَقُول: التَّحْقِيق هَاهُنَا أَن كلمة: بل، حرف إضراب، فَإِن تَلَاهَا جملَة كَانَ معنى الإضراب إِمَّا الْإِبْطَال وَإِمَّا الِانْتِقَال عَن غَرَض إِلَى غَرَض، وَإِن تَلَاهَا مُفْرد فَهِيَ عاطفة، وَهَهُنَا تَلَاهَا جملَة، أَعنِي، قَوْله: لم يسمع، فَكَانَ الإضراب بِمَعْنى الْإِبْطَال. قَوْله: (حَتَّى إِذا قضى) يتَعَلَّق بقوله: فَمضى يحدث، لَا بقوله: لم يسمع. قَوْله: (قَالَ: أَيْن أرَاهُ السَّائِل؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة، مَعْنَاهُ: أَظن، وَهُوَ شكّ من مُحَمَّد بن فليح، وَرَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان وَغَيره عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن يُونُس عَن مُحَمَّد بن فليح من غير شكّ. وَلَفظه: (قَالَ أَيْن السَّائِل؟) فَإِن قلت: السَّائِل، مَرْفُوع بِمَاذَا؟ قلت: مَرْفُوع على ابْتِدَاء، وَخَبره قَوْله: (أَيْن) مقدما، وَأَيْنَ، سُؤال عَن الْمَكَان بنيت لتضمنها حرف الِاسْتِفْهَام. وَقَول بَعضهم: السَّائِل، بِالرَّفْع على الْحِكَايَة خطأ، بل هُوَ رفع على الِابْتِدَاء كَمَا قُلْنَا. وَقَوله: (أرَاهُ) جملَة مُعْتَرضَة بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَالْمعْنَى: أَظن أَنه قَالَ: أَيْن السَّائِل. قَوْله: (قَالَ) . أَي: الْأَعرَابِي: هَا، حرف التنبية، وَفِي (الْعباب) : هَاء، بِالْمدِّ تكون تَنْبِيها بِمَعْنى جَوَابا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هَا، قد تكون جَوَاب النداء تمد وتقصر، وَأَيْضًا: هَا، مَقْصُورَة للتقريب إِذا قيل لَك: أَيْن أَنْت؟ تَقول: هَا أناذا. قَوْله: (أَنا) مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: أَنا سَائل، وَإِنَّمَا ترك العاطف عِنْد: قَالَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، لِأَن الْمقَام كَانَ مقَام المقاولة، والراوي يَحْكِي ذَلِك كَأَنَّهُ، لما قَالَ الْأَعرَابِي ذَلِك، سَأَلَ سَائل: مَاذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه؟ وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (فَإِذا ضيعت الْأَمَانَة) كلمة إِذا، تضمن معنى الشَّرْط، وَلِهَذَا جَاءَ جوابها بِالْفَاءِ. وَهُوَ قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) . قَوْله: (قَالَ: كَيفَ إضاعتها؟) أَي: قَالَ الْأَعرَابِي: كَيفَ إِضَاعَة الْأَمَانَة؟ وَفِي بعض النّسخ: (فَقَالَ) ، بِالْفَاءِ، وَمَا بعده من قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِلَا فَاء، وَوَجهه أَن السُّؤَال عَن كَيْفيَّة الإضاعة متفرع على مَا قبله، فَلهَذَا عقبه بِالْفَاءِ، بِخِلَاف اختيه. قَوْله: (قَالَ: إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) جَوَاب لقَوْله: (كَيفَ إضاعتها؟) . فَإِن قلت: السُّؤَال إِنَّمَا هُوَ عَن كَيْفيَّة الإضاعة لقَوْله: كَيفَ، وَالْجَوَاب هُوَ بِالزَّمَانِ لَا بَيَان الْكَيْفِيَّة، فَمَا وَجهه؟ قلت: مُتَضَمّن للجواب إِذْ يلْزم مِنْهُ بَيَان(2/6)
أَن كيفيتها هِيَ بالتوسد الْمَذْكُور. قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) الْفَاء فِيهِ للتفريع، أَو جَوَاب شَرط مَحْذُوف يَعْنِي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فانتظر السَّاعَة. وَلَيْسَت هِيَ جَوَاب إِذا الَّتِي فِي قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّن هَهُنَا معنى الشَّرْط. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: لغير أَهله. قلت: إِنَّمَا قَالَ: إِلَى غير أَهله، ليدل على معنى تضمين الْإِسْنَاد.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) أَي: مَتى يكون قيام السَّاعَة. قَوْله: (فكره مَا قَالَ) : أَي فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَه الْأَعرَابِي، وَلِهَذَا لم يلْتَفت إِلَى الْجَواب. فَلذَلِك حصل للصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، التَّرَدُّد، مِنْهُم من قَالَ: سمع فكره، وَمِنْهُم من قَالَ: لم يسمع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره السُّؤَال عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بخصوصها. قَوْله: (أَيْن السَّائِل عَن السَّاعَة؟) أَي عَن زمَان السَّاعَة. قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر) المُرَاد بِهِ جنس الْأُمُور الَّتِي تتَعَلَّق بِالدّينِ: كالخلافة وَالْقَضَاء والإفتاء، وَنَحْو ذَلِك. وَيُقَال: أَي بِولَايَة غير أهل الَّذين والأمانات. وَمن يعينهم على الظُّلم والفجور، وَعند ذَلِك تكون الْأَئِمَّة قد ضيعوا الْأَمَانَة الَّتِي فرض الله عَلَيْهِم حَتَّى يؤتمن الخائن ويخون الْأمين، وَهَذَا إِنَّمَا يكون إِذا غلب الْجَهْل وَضعف أهل الْحق عَن الْقيام بِهِ. فَإِن قلت: تَأَخّر الْجَواب عَن السُّؤَال هَهُنَا، وَهل يجوز تَأْخِيره فِيمَا يتَعَلَّق بِالدّينِ؟ قلت: الْجَواب من وَجْهَيْن: الأول: بطرِيق الْمَنْع، فَنَقُول: لَا نسلم اسْتِحْقَاق الْجَواب هَهُنَا، لِأَن الْمَسْأَلَة لَيست مِمَّا يجب تعلمهَا، بل هِيَ مِمَّا لَا يكون الْعلم بهَا إِلَّا لله تَعَالَى. وَالثَّانِي: بطرِيق التَّسْلِيم فنقوله: سلمنَا ذَلِك، وَلكنه يحْتَمل أَن يكون، عَلَيْهِ السَّلَام، مشتغلاً فِي ذَلِك الْوَقْت بِمَا كَانَ أهم من جَوَاب هَذَا السَّائِل، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهُ انتظاراً للوحي، أَو أَرَادَ أَن يتم حَدِيثه لِئَلَّا يخْتَلط على السامعين، وَيحْتَمل أَن يكون فِي ذَلِك الْوَقْت فِي جَوَاب سُؤال سَائل آخر مُتَقَدم، فَكَانَ أَحَق بِتمَام الْجَواب.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ وجوب تَعْلِيم السَّائِل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيْن السَّائِل) ثمَّ إخْبَاره عَن الَّذِي سَأَلَ عَنهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن من آدَاب المتعلم أَن لَا يسْأَل الْعَالم مَا دَامَ مشتغلاً بِحَدِيث أَو غَيره، لِأَن من حق الْقَوْم الَّذين بَدَأَ بِحَدِيثِهِمْ أَن لَا يقطعهُ عَنْهُم حَتَّى يتمه. الثَّالِث: فِيهِ الرِّفْق بالمتعلم وَإِن جَفا فِي سُؤَاله أَو جهل، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يوبخه على سُؤَاله قبل إِكْمَال حَدِيثه. الرَّابِع: فِيهِ مُرَاجعَة الْعَالم عِنْد عدم فهم السَّائِل، لقَوْله: كَيفَ إضاعتها؟ الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز اتساع الْعَالم فِي الْجَواب أَنه يَنْبَغِي مِنْهُ، إِذا كَانَ ذَلِك لِمَعْنى أَو لمصْلحَة. السَّادِس: فِيهِ التَّنْبِيه على تَقْدِيم الأسبق فِي السُّؤَال لأَنا قُلْنَا: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون تَأْخِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب لكَونه مَشْغُولًا بِجَوَاب سُؤال سَائل آخر، فنبه بذلك أَنه يجب على القَاضِي والمفتي والمدرس تَقْدِيم الأسبق لاستحقاقه بِالسَّبقِ.
3 - (بابُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب من رفع صَوته، فالباب: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى: من، وَهِي مَوْصُولَة، وَرفع صَوته، جملَة صلتها. فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر رفع الصَّوْت بِالْعلمِ، وَالْعلم صفة معنوية؟ قلت: هَذَا من بَاب إِطْلَاق اسْم الْمَدْلُول على الدَّال، وَالتَّقْدِير: من رفع صَوته بِكَلَام يدل على الْعلم. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق سُؤال السَّائِل عَن الْعلم، والعالم قد يحْتَاج إِلَى رفع الصَّوْت فِي الْجَواب لأجل غَفلَة السَّائِل وَنَحْوهَا، لَا سِيمَا إِذا كَانَ سُؤَاله وَقت اشْتِغَال الْعَالم لغيره، وَهَذَا الْبَاب يُنَاسب ذَاك الْبَاب من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
60 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ عَارِمُ بنُ الفَضْلِ قَالَ: حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بنِ ماهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمُرٍ وَقَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاها فأَدْرَكَنا وقَدْ أرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ ونَحْنُ نَتَوضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمسَحُ عَلَى أرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأعْلى صَوْتِهِ: (ويْلٌ لْلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ) مَرَّتَيْن أوْ ثَلاَثاً
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (فَنَادَى بِأَعْلَى صَوته) ، وَهُوَ رفع الصَّوْت.(2/7)
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، الوضاح الْيَشْكُرِي، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، جَعْفَر بن إِيَاس الْيَشْكُرِي الْمَعْرُوف بِابْن أبي وحشية، والواسطي. وَقيل: الْبَصْرِيّ. قَالَ أَحْمد وَيحيى وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة كثير الحَدِيث، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: يُوسُف بن مَاهك ابْن بهزاد، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل بضَمهَا أَيْضا، وَالْأول أصح، وبالزاي الْمُعْجَمَة، الْفَارِسِي الْمَكِّيّ، نزلها. سمع ابْن عمر وَابْن عَمْرو وَعَائِشَة وَغَيرهَا، وَسمع أَبَاهُ مَاهك. قَالَ يحيى: ثِقَة، توفّي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. ويوسف فِيهِ سِتَّة أوجه، وَقد ذَكرنَاهَا. وماهك: بِفَتْح الْهَاء، غير منصرف لِأَنَّهُ اسْم اعجمي علم، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ منصرف، وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَنَّهُ لحظ فِيهِ الْوَصْف وَلم يبين مَاذَا الْوَصْف، وَقد أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: العجمة والعلمية فِيهِ عقب قَول الْأصيلِيّ إِنَّه منصرف! ؟ قلت: شَرط العجمة مَفْقُود. وَهُوَ العلمية فِي العجمية. لِأَن مَاهك مَعْنَاهُ القمير، فَهُوَ إِلَى الْوَصْف أقرب. قلت: كل مِنْهُمَا لم يُحَقّق كَلَامه، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن من يمنعهُ الصّرْف يُلَاحظ فِيهِ العلمية والعجمة، أما العلمية فَظَاهر، وَأما العجمة فَإِن مَاهك بِالْفَارِسِيَّةِ تَصْغِير ماه، وَهُوَ الْقَمَر بالعربي، وقاعدتهم أَنهم إِذا صغروا الِاسْم أدخلُوا فِي آخِره الْكَاف، وَأما من يصرفهُ فَإِنَّهُ يُلَاحظ فِيهِ معنى الصّفة، لِأَن التصغير من الصِّفَات، وَالصّفة لَا تجامع العلمية، لإن بَينهمَا تضاداً، فَحِينَئِذٍ يبْقى الِاسْم بعلة وَاحِدَة فَلَا يمْنَع من الصّرْف، وَلَو جوز الْكسر فِي الْهَاء يكون عَرَبيا صرفا، فَلَا يمْنَع من الصّرْف أصلا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون اسْم فَاعل، من مهكت الشَّيْء أمهكه مهكاً إِذا بالغت فِي سحقه، قَالَه ابْن دُرَيْد، وَفِي (الْعباب) : مهكت الشَّيْء إِذا ملسته، أَو يكون من مهكة الشَّبَاب، بِالضَّمِّ: وَهُوَ امتلاؤه وارتواؤه ونماؤه،، وَذكر الصغاني هَذِه الْمَادَّة، ثمَّ قَالَ عقيبها: ويوسف بن مَاهك من التَّابِعين الثِّقَات، وَيُمكن أَن يُقَال: إِنَّه عَرَبِيّ مَعَ كَون الْهَاء مَفْتُوحَة بِأَن يكون علما مَنْقُولًا من مَاهك، وَهُوَ فعل مَاض من المماهكة، وَهُوَ: الْجهد فِي الْجِمَاع من الزَّوْجَيْنِ، فعلى هَذَا لَا يجوز صرفه أصلا للعلمية، وَوزن الْفِعْل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَاهك اسْم أمه، وَالْأَكْثَر على أَنه اسْم أَبِيه، وَاسم أمه مُسَيْكَة. وَعَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ: أَن يُوسُف بن مَاهك، ويوسف بن ماهان وَاحِد. قلت: فعلى قَول الدَّارَقُطْنِيّ يمْنَع من الصّرْف أصلا للعلمية والتأنيث. فَافْهَم. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومكي. وَمِنْهَا: أَن فِي رِوَايَة كَرِيمَة عَن الْمُسْتَمْلِي: حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان عَارِم بن الْفضل، وَاقْتصر غَيره على أبي النُّعْمَان.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي النُّعْمَان، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِيه: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة صَلَاة الْعَصْر) . وَفِي الطَّهَارَة عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَفِيه: (فَأَدْرَكنَا وَقد ارهقتنا الْعَصْر) . واخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن شَيبَان بن فروخ وَأبي كَامِل الجحدري عَن أبي عوَانَة. واخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن ابي دَاوُد الْحَرَّانِي عَن أبي الْوَلِيد عَن مُعَاوِيَة بن صَالح عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك عَن أَبى عوَانَة عَن أبي بشر عَنهُ، واخرجه الطَّحَاوِيّ عَن أَحْمد بن دَاوُد الْمَكِّيّ عَن سهل بن بكار عَن أبي عوَانَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (تخلف) ، أَي: تَأَخّر خلفنا. قَوْله: (فادركنا) أَي لحق بِنَا، قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) أَي: غشيتنا الصَّلَاة، أَي حملتنا الصَّلَاة على أَدَائِهَا. وَقيل: قد أعجلتنا، لضيق وَقتهَا؛ وَقَالَ القَاضِي: وَمِنْه الْمُرَاهق، بِالْفَتْح فِي الْحَج وَيُقَال بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الَّذِي أعجله ضيق الْوَقْت أَن يطوف. وَفِي (الموعب) : قَالَ أَبُو زيد: رهقتنا الصَّلَاة، بِالْكَسْرِ، رهوقاً: حانت، وأرهقنا عَن الصَّلَاة إرهاقاً: أخرناها عَن وَقتهَا. وَقَالَ صَاحب (الْعين) : استأخرنا عَنْهَا حَتَّى يدنو وَقت الْأُخْرَى، ورهقت الشَّيْء رهقاً أَي: دَنَوْت مِنْهُ. وَفِي (الْمُحكم) : ارهقنا اللَّيْل دنا منا. ورهقتنا الصَّلَاة رهقاً: حانت وَفِي رهقتنا الصَّلَاة: غشيتنا. وَفِي (الِاشْتِقَاق) ، للرماني: أصل الرهق الغشيان، وكذ قَالَه الزّجاج، وَقَالَ أَبُو النَّصْر: رهقني دنا مني. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: رهقته وأرهقته بِمَعْنى: دَنَوْت مِنْهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: رهقه، بِالْكَسْرِ، ويرهقه رهقاً، أَي: غشيه؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة} (يُونُس: 26) وَقَالَ أَبُو زيد: أرهقه عسراً: إِذا كلفه إِيَّاه. يُقَال: لَا ترهقني لَا ارهقك، أَي: لَا تعسرني لَا أعسرك. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا ترهقني من أَمْرِي عسرا} (الْكَهْف: 73) أَي: لَا تلْحق بِي، من قَوْلهم: رهقه الشَّيْء إِذا غشيه، وَقيل: لَا تعجلني، وَيَجِيء على قَوْله أبي زيد: لَا تكلفني. قَوْله: (ويل) ، يُقَابل وَيْح،(2/8)
وَيُقَال لمن وَقع فِيمَا لَا يسْتَحقّهُ ترحماً عَلَيْهِ. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ: ويل: وَاد فِي جَهَنَّم لَو أرْسلت فِيهِ الْجبَال لماعت من حره، وَقيل: ويل: صديد أهل النَّار. قلت: ويل من المصادر الَّتِي لَا أَفعَال لَهَا، وَهِي كلمة عَذَاب وهلاك. قَوْله: (للاعقاب) جمع عقب مِثَال كبد، وَهُوَ المستأخر الَّذِي يمسك مُؤخر شِرَاك النَّعْل، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: عقب وعقب مِثَال: كبد وصفر، وَهِي مُؤَنّثَة، وَلم يكسروا الْعين كَمَا فِي: كبد وكتف. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: الْعقب يكون فِي الْمَتْن والساقين مختلط بِاللَّحْمِ، يمشق مِنْهُ مشقاً ويهذب وينقى من اللَّحْم ويسوى مِنْهُ الْوتر، وَأما العصب فالعلياء الغليظ، وَلَا خير فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: الْعقب مُؤخر الْقدَم فَهُوَ من العصب لَا من الْعقب. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعقب مَا أصَاب الأَرْض مُؤخر الرجل، إِلَى مَوضِع الشرَاك. وَفِي (الْمُخَصّص) : عرش الْقدَم أصُول سلامياتها المنتشرة الْقَرِيبَة من الْأَصَابِع، وعقبها مؤخرها الَّذِي يفصل عَن مُؤخر الْقدَم، وَهُوَ موقع الشرَاك من خلفهَا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (تخلف) فعل، وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي سفرة) فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (سافرناها) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة: لسفرة، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ وَقع مَفْعُولا مُطلقًا، أَي سافرنا تِلْكَ السفرة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: زيدا أَظُنهُ منطلق، أَي: زيد ينْطَلق أَظن الظَّن، أَو: ظنا. قَوْله: (فادركنا) ، بِفَتْح الْكَاف: جملَة من الْفِعْل، وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ، وَالْمَفْعُول وَهُوَ قَوْله: نَا. قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) ، جملَة وَقعت حَالا. قَالَ عِيَاض: رُوِيَ بِرَفْع الصَّلَاة على أَنَّهَا الْفَاعِل، وَرُوِيَ: ارهقنا الصَّلَاة، بِالنّصب، على أَنَّهَا مفعول. أَي: أخرنا الصَّلَاة. قلت: رُوِيَ فِي وَجه الرّفْع وَجْهَان أَيْضا، أَحدهمَا: أرهقتنا بتأنيث الْفِعْل بِالنّظرِ إِلَى لفظ الصَّلَاة، وَالْآخر: أَرْهقنَا، بِدُونِ التَّاء لِأَن تَأْنِيث الصَّلَاة غير حَقِيقِيّ. قَوْله: (وَنحن نَتَوَضَّأ) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَجعلنَا) هُوَ من أَفعَال المقاربة، وَيسْتَعْمل اسْتِعْمَال كَاد، وَهُوَ أَنه يرفع الِاسْم، وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، نَحْو: كَاد زيد يخرج. أَي: خَارِجا. وَإِنَّمَا ترك: أَن، مَعَ كَاد، وَأثبت مَعَ عَسى لِأَن: كَاد، أبلغ فِي تقريب الشَّيْء من الْحَال. أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: كَادَت الشَّمْس تغرب، كَانَ الْمَعْنى قرب غُرُوبهَا جدا. وَعَسَى، أذهب فِي الدّلَالَة على الِاسْتِقْبَال، أَلا ترى تَقول: عَسى الله أَن يدخلني الْجنَّة، وَإِن لم يكن هَذَا شَدِيد الْقرب من الْحَال، فَلَمَّا كَانَ الْأَمر على ذَا، حذف علم الِاسْتِقْبَال مَعَ كَاد، وَأثبت مَعَ عَسى، وَقد شبهه بعسى من قَالَ:
(قد كَانَ من طول الْبلَاء أَن يمصحا)
ثمَّ قَوْله: نَا فِي: فَجعلنَا، اسْم جعل، وَقَوله: نمسح، خَبره. قَوْله: (ويل) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، والمخصص كَونه مصدرا فِي. معنى الدُّعَاء كَمَا فِي سَلام عَلَيْكُم، وَخَبره قَوْله: للاعقاب، قَوْله: (من النَّار) : كلمة من، للْبَيَان كَمَا فِي قَوْله: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} (الْحَج: 30) وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله: تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة قَوْله: (مرَّتَيْنِ) : تَثْنِيَة مرّة، وَتجمع على مَرَّات، وانتصاب: كلهَا، على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (أَو ثَلَاثًا) شكّ من عبد اللَّه بن عَمْرو.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (تخلف عَنَّا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي سفرة) هَذِه السفرة قد جَاءَت مبينَة فِي بعض طرق رِوَايَات مُسلم: (رَجعْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة حَتَّى إِذا كُنَّا فِي الطَّرِيق تعجل قوم عِنْد الْعَصْر، فتوضؤا وهم عِجَال، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِم وَأَعْقَابهمْ تلوح لم يَمَسهَا المَاء. فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار، أَسْبغُوا الْوضُوء) . قَوْله: (وَقد ارهقتنا الصَّلَاة) ، وَهِي: صَلَاة الْعَصْر، على مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم مصرحة. وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق مُسَدّد، على مَا ذكرنَا. قَوْله: (وَنحن نَتَوَضَّأ، فَجعلنَا نمسح على أَرْجُلنَا) قَالَ القَاضِي عِيَاض: مَعْنَاهُ نغسل كَمَا هُوَ المُرَاد فِي الْآيَة، بِدَلِيل تبَاين الرِّوَايَات، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعضهم أَنه دَلِيل على أَنهم كَانُوا يمسحون، فنهاهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، وَأمرهمْ بِالْغسْلِ. وَقَالُوا أَيْضا: لَو كَانَ غسلا لأمرهم بِالْإِعَادَةِ لما صلوا، وَهَذَا لَا حجَّة فِيهِ لقائله، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، قد أعلمهم بِأَنَّهُم مستوجبون النَّار على فعلهم، بقوله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَهَذَا لَا يكون إلاَّ فِي الْوَاجِب. وَقد أَمرهم بِالْغسْلِ، بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) . وَلم يَأْتِ أَنهم صلوا بِهَذَا الْوضُوء، وَلَا أَنَّهَا كَانَت عَادَتهم قبلُ، فَيلْزم أَمرهم بِالْإِعَادَةِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، مَا ملخصه: أَنهم كَانُوا يمسحون عَلَيْهَا مثل مسح الرَّأْس، ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنعهم عَن ذَلِك وَأمرهمْ بِالْغسْلِ، فَهَذَا يدل على انتساخ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من الْمسْح، وَفِيه نظر، لِأَن قَوْله: نمسح على أَرْجُلنَا، يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: نغسل غسلا خَفِيفا مبقعاً. حَتَّى يرى كَأَنَّهُ مسح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي الرِّوَايَة الآخرى، (رأى قوما توضؤا وَكَأَنَّهُم تركُوا من أَرجُلهم شَيْئا) . فَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يغسلون، وَلَكِن غسلا قَرِيبا من الْمسْح، فَلذَلِك قَالَ لَهُم: أَسْبغُوا الْوضُوء، وَأَيْضًا إِنَّمَا يكون الْوَعيد على ترك الْفَرْض، وَلَو لم يكن الْغسْل فِي الأول(2/9)
فرضا عِنْدهم لما توجه الْوَعيد، لِأَن الْمسْح لَو كَانَ هُوَ المشمول فِيمَا بَينهم كَانَ يَأْمُرهُم بِتَرْكِهِ وانتقالهم إِلَى الْغسْل بِدُونِ الْوَعيد، وَلأَجل ذَلِك قَالَ القَاضِي عِيَاض: مَعْنَاهُ: نغسل كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإسباغ الْوضُوء، ووعيده وإنكاره عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْغسْل يدل على أَن وَظِيفَة الرجلَيْن هُوَ الْغسْل الوافي لَا الْغسْل المشابه بِالْمَسْحِ كَغسْل هَؤُلَاءِ. وَقَول عِيَاض: وَقد أَمرهم بِالْغسْلِ بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) ، غير مُسلم لِأَن الْأَمر بالإسباغ أَمر بتكميل الْغسْل، وَالْأَمر بِالْغسْلِ فهم من الْوَعيد لِأَنَّهُ لَا يكون إلاَّ فِي ترك وَاجِب، فَلَمَّا فهم ذَلِك من الْوَعيد أكده بقوله: (اسبغوا الْوضُوء) ، وَلِهَذَا ترك العاطف، فَوَقع هَذَا تَأْكِيدًا عَاما يَشْمَل الرجلَيْن وَغَيرهمَا من أَعْضَاء الْوضُوء، لِأَنَّهُ لم يقل: اسبغوا الرجلَيْن: بل قَالَ: (اسبغوا الْوضُوء) ، وَالْوُضُوء هُوَ غسل الْأَعْضَاء الثَّلَاثَة، وَمسح الرَّأْس، ومطلوبية الإسباغ غير مُخْتَصَّة بِالرجلَيْنِ، فَكَمَا أَنه مَطْلُوب فيهمَا، فَكَذَلِك مَطْلُوب فِي غَيرهمَا. فَإِن قلت: لم ذكر الإسباغ عَاما والوعيد خَاصّا. قلت: لأَنهم مَا قصروا إلاَّ فِي وَظِيفَة الرجلَيْن، فَلذَلِك ذكر لفظ الأعقاب، فَيكون الْوَعيد فِي مُقَابلَة ذَلِك التَّقْصِير الْخَاص.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دَلِيل على وجوب غسل الرجلَيْن فِي الْوضُوء، لِأَن الْمسْح لَو كَانَ كَافِيا لما أوعد من ترك غسل الْعقب بالنَّار، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي بَابه مُسْتَوفى. الثَّانِي: فِيهِ وجوب تَعْمِيم الْأَعْضَاء بالمطهر، وَإِن ترك الْبَعْض مِنْهَا غير مجزىء. الثَّالِث: تَعْلِيم الْجَاهِل وإرشاده. الرَّابِع: أَن الْجَسَد يعذب، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. الْخَامِس: جَوَاز رفع الصَّوْت فِي المناظرة بِالْعلمِ. السَّادِس: أَن الْعَالم يُنكر مَا يرى من التضييع للفرائض وَالسّنَن، ويغلظ القَوْل فِي ذَلِك، وَيرْفَع صَوته للإنكار. السَّابِع: تكْرَار الْمَسْأَلَة تَأْكِيدًا لَهَا ومبالغة فِي وُجُوبهَا، وَسَيَأْتِي ذكره فِي بَاب: من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا ليفهم.
الأسئلة والاجوبة: مِنْهَا مَا قيل: إِن الرجل لَهُ رجلَانِ وَلَيْسَ لَهُ أرجل، فَالْقِيَاس أَن يُقَال على رجلينا. أُجِيب: بِأَن الْجمع إِذا قوبل بِالْجمعِ يُفِيد التَّوْزِيع، فتوزع الأرجل على الرِّجَال. وَمِنْهَا مَا قيل: فعلى هَذَا يكون لكل رجل رجل. أُجِيب: بِأَن جنس الرجل يتَنَاوَل الْوَاحِد والإثنين، وَالْعقل يعين الْمَقْصُود، سِيمَا فِيمَا هُوَ محسوس. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن الْمسْح على ظهر الْقدَم لَا على الرجل كلهَا. أُجِيب: بِأَنَّهُ أطلق الرجل، وَأُرِيد الْبَعْض أَي: ظهر الْقدَم، ولقرينة الْعرف الشَّرْعِيّ إِذْ الْمَعْهُود مسح ذَلِك، وَهَذَا فِيهِ نظر، لأَنهم مَا كَانُوا يمسحون مثل مسح الرَّأْس، وإنماا كَانُوا يغسلون، وَلَكِن غسلا خَفِيفا، فَلذَلِك أطْلقُوا عَلَيْهِ الْمسْح وَقد حققناه عَن قريب. وَمِنْهَا مَا قيل: لم خص الأعقاب بِالْعَذَابِ؟ أُجِيب: لِأَنَّهَا الْعُضْو الَّتِي لم تغسل. وَفِي (الغريبين) : وَفِي الحَدِيث: (ويل للعقب من النَّار) ، أَي: لصَاحب الْعقب المقصر عَن غسلهَا، كَمَا قَالَ: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 82) أَي: أهل الْقرْيَة، وَقيل: إِن الْعقب يخص بالمؤلم من الْعقَاب إِذا قصر فِي غسلهَا، وَفِي (الْمُنْتَهى فِي اللُّغَة) : وَفِي الحَدِيث: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . أَرَادَ التَّغْلِيظ فِي إسباغ الْوضُوء، وَهُوَ التَّكْمِيل والإتمام والسبوغ: الشُّمُول. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا الْألف وَاللَّام فِي: الأعقاب؟ أُجِيب: بِأَنَّهَا للْعهد، أَي: لِلْأَعْقَابِ الَّتِي رَآهَا كَذَلِك لم تمسها المَاء، أَو يكون المُرَاد: الأعقاب الَّتِي صفتهَا هَذِه، لَا كل الأعقاب. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن اللَّام للاختصاص النافع إِذْ الْمَشْهُور أَن اللَّام تسْتَعْمل فِي الْخَيْر، وعَلى فِي الشَّرّ، نَحْو: {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} (الْبَقَرَة: 286) وَأجِيب: بِأَنَّهَا للاختصاص هَهُنَا نَحْو: {وَإِن اسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) وَنَحْو: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} (الْبَقَرَة: 10، 174، آل عمرَان: 77، 91، 177، 188، الْمَائِدَة: 36، التَّوْبَة: 61، 79، إِبْرَاهِيم، 22، النَّحْل: 63، 104، 117، الشورى: 21، 242، الْحَشْر: 15، التغابن: 5) قلت: وَقد تسْتَعْمل اللَّام فِي مَوضِع: على. وَقَالُوا: إِن اللَّام فِي: {وَإِن اسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) بِمَعْنى: عَلَيْهَا. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ أخرت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، الصَّلَاة عَن الْوَقْت الْفَاضِل؟ أُجِيب: بِأَنَّهُم إِنَّمَا أخروها عَنهُ طَمَعا أَن يصلوها مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لفضل الصَّلَاة مَعَه، فَلَمَّا خَافُوا الْفَوات استعجلوا، فانكر عَلَيْهِم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَمِنْهَا مَا قيل: روى مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، رأى رجلا لم يغسل عقبه، فَقَالَ: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَكَذَلِكَ حَدِيث مُسلم عَن عبد اللَّه بن عَمْرو الَّذِي مضى ذكره عَن قريب، وَفِيه: (فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِم وَأَعْقَابهمْ تلوح لم يَمَسهَا المَاء، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) . وَهَذَانِ الحديثان تَصْرِيح بِأَن الْوَعيد وَقع على عدم اسْتِيعَاب الرِجل بِالْمَاءِ، وَحَدِيث البُخَارِيّ يدل على أَن الْمسْح لَا يجزىء عَن الْغسْل فِي الرجل، وَأجِيب: بِأَنَّهُ ترد الْأَحَادِيث إِلَى معنى وَاحِد، وَيكون معنى قَوْله: (لم يَمَسهَا المَاء) ، أَي: بِالْغسْلِ، وَإِن مَسهَا بِالْمَسْحِ فَيكون الْوَعيد وَقع على(2/10)
الِاقْتِصَار على الْمسْح دون الْغسْل. قلت: هَذَا الْجَواب يُؤَيّد مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَن نظر، وَالله أعلم.
4 - (بَاب قَوْلِ المُحَدِّثِ: حدّثنا أوْ أخْبَرَنَا وأنْبأَنَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا وأنبأنا، هَل فِيهِ فرق أم الْكل وَاحِد؟ وَالْمرَاد بالمحدث اللّغَوِيّ، وَهُوَ الَّذِي يحدث غَيره، لَا الاصطلاحي، وَهُوَ الَّذِي يشْتَغل بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيّ. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْعلم؟ وَمَا وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: أما ذكره مُطلقًا فللتنبيه على أَنه بنى كِتَابه على المسندات المروية عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. وَأما ذكره فِي كتاب الْعلم فَظَاهر لِأَنَّهُ من جملَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُحدث فِي معرفَة الْفرق بَين الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة لُغَة وَاصْطِلَاحا، وَأما وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ فَهُوَ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق: رفع الْعَالم صَوته بِالْعلمِ ليتعلم الْحَاضِرُونَ ذَلِك، ويعلمون غَيرهم بالرواية عَنهُ، فَعِنْدَ الرِّوَايَة وَالنَّقْل عَنهُ لَا بُد من ذكر لَفْظَة من الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة، فحينئذٍ ظهر الِاحْتِيَاج إِلَى مَعْرفَتهَا لُغَة وَاصْطِلَاحا. وَمن حَيْثُ الْفرق بَينهَا وَعَدَمه، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا وَحدثنَا وأنبأنا.
وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ كانَ عِنْدَ ابنِ عُيَيْنَةَ: حدّثنا وأخْبَرَنَا وأنْبَانَا، وسَمِعْتُ واحِداً.
الْحميدِي، بِضَم الْحَاء، هُوَ أَبُو بكر عبد اللَّه بن الزبير الْقرشِي الْأَسدي الْمَكِّيّ، أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد مر ذكره. وتصدير الْبَاب بقوله تَنْبِيه على أَنه اخْتَار هَذَا القَوْل فِي عدم الْفرق بَين هَذِه الْأَلْفَاظ الْأَرْبَعَة، نقل هَذَا عَن شَيْخه الْحميدِي، والْحميدِي أَيْضا نقل ذَلِك عَن شَيْخه سُفْيَان بن عَيْنِيَّة، وَهُوَ أَيْضا قد ذكر. وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ لنا الْحميدِي، وَهِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي. وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَلَيْسَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة: وانبأنا، وَالْكل فِي رِوَايَة أبي ذَر. ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: قَالَ الْحميدِي، لَا يدل جزما على أَنه سَمعه مِنْهُ، فَيحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ أحط مرتبَة من: حَدثنَا وَنَحْوه، سَوَاء كَانَ بِزِيَادَة: لنا، أَو لم يكن، لِأَنَّهُ يُقَال على سَبِيل المذاكرة، بِخِلَاف نَحْو: حَدثنَا، فَإِنَّهُ يُقَال على سَبِيل النَّقْل والتحمل. وَقَالَ جَعْفَر بن حمدَان النَّيْسَابُورِي: كلما قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا خلاف أَنه يجوز فِي السماع من لفظ الشَّيْخ أَن يَقُول السَّامع فِيهِ: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وانبأنا، وسمعته يَقُول، وَقَالَ لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان؛ وَإِلَيْهِ مَال الطَّحَاوِيّ. وَصحح هَذَا الْمَذْهَب ابْن الْحَاجِب، وَنقل هُوَ وَغَيره عَن الْحَاكِم أَنه مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْمُحدثين مِنْهُم الزُّهْرِيّ وَيحيى الْقطَّان. وَقيل: إِنَّه قَول مُعظم الْحِجَازِيِّينَ والكوفيين فَلذَلِك اخْتَارَهُ البُخَارِيّ بنقله عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ إلاَّ مُقَيّدا مثل: حَدثنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين. وَقَالَ آخَرُونَ بِالْمَنْعِ فِي: حَدثنَا، وبالجواز فِي أخبرنَا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمُسلم بن الْحجَّاج وَجُمْهُور أهل الْمشرق، وَنقل عَن أَكثر الْمُحدثين مِنْهُم ابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن وهب. وَقيل: إِن عبد اللَّه ابْن وهب أول من أحدث هَذَا الْفرق بِمصْر، وَصَارَ هُوَ الشَّائِع الْغَالِب على أهل الحَدِيث، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه اصْطِلَاح مِنْهُم أَرَادوا بِهِ التَّمْيِيز بَين النَّوْعَيْنِ، وخصصوا قِرَاءَة الشَّيْخ: بحدثنا، لقُوَّة إشعاره بالنطق والمشافهة، وأحدث الْمُتَأَخّرُونَ تَفْصِيلًا آخر وَهُوَ أَنه مَتى سمع وَحده من لفظ الشَّيْخ أفرد، فَقَالَ: حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت، وَمَتى سمع مَعَ غَيره جمع فَقَالَ: حَدثنَا أَو أخبرنَا، وَمَتى قَرَأَ بِنَفسِهِ على الشَّيْخ أفرد فَقَالَ: أَخْبرنِي. وخصصوا الإنباء بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يشافه بهَا الشَّيْخ من يُخبرهُ، وكل هَذَا مستحسن، وَلَيْسَ بِوَاجِب عِنْدهم، لِأَن هَذَا اصْطِلَاح وَلَا مُنَازعَة فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: التحديث والإخبار والإنباء سَوَاء وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عِنْد أهل الْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الحَدِيث هُوَ القَوْل، وَالْخَبَر من الْخَبَر، بِضَم الْخَاء وَسُكُون الْبَاء، وَهُوَ الْعلم بالشَّيْء من خبرت الشَّيْء أخبرهُ خَبرا وخبرة، وَمن أَيْن خبرت هَذَا أَي: عَلمته، وَإِنَّمَا اسْتِوَاء هَذِه الْأَلْفَاظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاح، وكل مَا جَاءَ من لفظ الْخَبَر وَمَا يشتق مِنْهُ فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَغَيرهمَا فَمَعْنَاه الْأَصْلِيّ هُوَ الْعلم. فَافْهَم.(2/11)
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: حدّثنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهَوَ الصَّادِقُ المَصْدُوق، وَقَالَ شَقِيقُ عَنْ عَبْدِ اللَّه: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَةً، وَقَالَ حذَيْفَةُ: حدّثنا رسولُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثَيْنِ.
هَذِه ثَلَاث تعاليق أوردهَا تَنْبِيها على أَن الصَّحَابِيّ تَارَة كَانَ يَقُول: حَدثنَا، وَتارَة كَانَ يَقُول: سَمِعت، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَا فرق بَينهمَا. التَّعْلِيق الأول: الَّذِي رَوَاهُ عبد اللَّه بن مَسْعُود طرف من الحَدِيث الْمَشْهُور، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْقدر، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّانِي: رَوَاهُ أَبُو وَائِل شَقِيق عَن عبد اللَّه هُوَ ابْن مَسْعُود، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز. الثَّالِث: رَوَاهُ حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ، أوصله البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَاسم الْيَمَان: حسل، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَيُقَال: حسيل، بِالتَّصْغِيرِ ابْن جَابر بن عَمْرو بن ربيعَة بن جروة، بِالْجِيم الْمَكْسُورَة، ابْن الْحَارِث بن مَازِن بن قطيعة بن عبس بن بغيض، بِفَتْح الْمُوَحدَة وغين وضاد معجمتين، ابْن ريث، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، بن غطفان بن سعد بن قيس بن غيلَان بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان الْعَبْسِي، حَلِيف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار. قَالُوا: واليمان، لقب حسل. وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَابْن سعد: هُوَ لقب جروة، وَإِنَّمَا لقب الْيَمَان لِأَن جروة أصَاب دَمًا فِي قومه فهرب إِلَى الْمَدِينَة، فَخَالف بني عبد الْأَشْهَل من الْأَنْصَار، فَسَماهُ قومه: الْيَمَان، لِأَنَّهُ حَالف اليمانية، أسلم هُوَ وَأَبوهُ وشهدا أحدا، وَقتل أَبوهُ يَوْمئِذٍ، قَتله الْمُسلمُونَ خطأ، فوهب لَهُم دَمه، وَأسْلمت أم حُذَيْفَة وَهَاجَرت، وأرادا أَن يشهدَا بَدْرًا فَاسْتَحْلَفَهُمَا الْمُشْركُونَ أَن لَا يشهدَا مَعَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَحَلفا لَهُم ثمَّ سَأَلَا النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: (نفي لَهُم بعهدهم ونستعين بِاللَّه عَلَيْهِم) . وَكَانَ صَاحب سر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمُنَافِقين، يعلمهُمْ وَحده. وَسَأَلَهُ عمر، رَضِي الله عَنهُ: هَل فِي عمالهم أحد مِنْهُم؟ قَالَ: نعم، وَاحِد. قَالَ: من هُوَ؟ قَالَ: لَا أذكرهُ، فَعَزله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَأَنَّمَا دلّ عَلَيْهِ. وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِذا مَاتَ ميت، فَإِن حضر الصَّلَاة عَلَيْهِ حُذَيْفَة صلى عَلَيْهِ عمر، رَضِي الله عَنهُ، وإلاَّ فَلَا. وَحَدِيثه لَيْلَة الْأَحْزَاب مَشْهُور فِيهِ معجزات، وَكَانَ فتح هَمدَان والري والدينور على يَده، ولاه عمر، رَضِي الله عَنهُ، الْمَدَائِن، وَكَانَ كثير السُّؤَال لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْفِتَن وَالشَّر ليجتنبهما، ومناقبه كَثِيرَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا. قَالَه الْكرْمَانِي فِي شَرحه، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: أخرجَا لَهُ اثْنَي عشر حَدِيثا اتفقَا عَلَيْهَا وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِثمَانِيَة، وَمُسلم بسبعة عشر. قلت: فَهَذَا يدل على سقط عدد من الْكرْمَانِي إِمَّا مِنْهُ وَإِمَّا من النساخ، توفّي حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بعد قتل عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، بِأَرْبَعِينَ لَيْلَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
وقالَ أبُو العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وقالَ أنَسُ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وجَلَّ.
هَذِه ثَلَاث تعاليق أُخْرَى أوردهَا تَنْبِيها على حكم العنعنة، وَأَن حكمهَا الْوَصْل عِنْد ثُبُوت اللقى، وَفِيه تَنْبِيه آخر وَهُوَ أَن رِوَايَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا هِيَ عَن ربه، سَوَاء صرح بذلك الصَّحَابِيّ أم لَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، روى عَنهُ حَدِيثه الْمَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَلم يذكر فِيهِ: عَن ربه، لَا يُقَال: ذكر العنعنة لَا تعلق لَهُ بالترجمة، وَكَذَا ذكر الرِّوَايَة، لأَنا نقُول: لفظ الرِّوَايَة شَامِل لجَمِيع الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة، وَكَذَا لفظ العنعنة، لاحْتِمَاله كلاًّ من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة، وَهَذِه التَّعَالِيق وَصلهَا البُخَارِيّ فِي كتاب التَّوْحِيد، وَهَؤُلَاء الصَّحَابَة قد ذكرُوا فِيمَا مضى، وَأما أَبُو الْعَالِيَة فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: هُوَ الْبَراء، بالراء الْمُشَدّدَة، واسْمه زِيَاد بن فَيْرُوز الْبَصْرِيّ الْقرشِي مَوْلَاهُم، وَقيل: اسْمه أذينة، وَقيل: كُلْثُوم، وَقيل: زِيَاد بن أذينة، سمع ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَغَيرهم، قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة توفّي سنة تسعين، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْبَراء، لِأَنَّهُ كَانَ يبري النبل، وَمثله: أَبُو معشر الْبَراء، واسْمه يُوسُف، وَكَانَ يبري النبل. وَقيل يبري الْعود، وَمن عداهما الْبَراء مخفف، وَكله مَمْدُود، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو الْعَالِيَة، بِالْمُهْمَلَةِ والتحتانية، وَالظَّاهِر أَنه رفيع،(2/12)
بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء، ابْن مهْرَان الريَاحي، أَعتَقته امْرَأَة من بني ريَاح، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسنتَيْنِ، مَاتَ سنة تسعين. ورياح، بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتَانِيَّة، حَيّ من بني تَمِيم، وَقَالَ بَعضهم: أَبُو الْعَالِيَة الْمَذْكُور هَهُنَا هُوَ الريَاحي، وَهُوَ رفيع، بِضَم الرَّاء، وَمن زعم أَنه: الْبَراء، بالراء المثقلة فقد وهم، فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه. قلت: كل وَاحِد من أبي الْعَالِيَة الْبَراء، وَأبي الْعَالِيَة رفيع من الروَاة عَن ابْن عَبَّاس، وترجيح أَحدهمَا على الآخر فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس يحْتَاج إِلَى دَلِيل. وَقَوله: فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَة الريَاحي دونه، يحْتَاج إِلَى نقل عَن أحد مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ.
61 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدّثنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قالَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ ورَقُهَا وإِنَّها مَثَلُ المُسْلِمِ فَحَدِّثونِي مَا هِيَ) فَوقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوْادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّه: ووقَعَ فِي نَفْسِي أنَّهَا النَّخْلَةُ فاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قالُوا: حدّثنا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّه: (قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ قَالُوا: حَدثنَا مَا هِيَ يَا رَسُول الله) وَفِي قَوْله: (فحدثوني مَا هِيَ) . فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ، وَهِي التحديث والإخبار والإنباء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إِلَّا لفظ التحديث، قلت: أَلْفَاظ الحَدِيث مُخْتَلفَة، فَإِذا جمعت طرقه يُوجد ذَلِك كُله، فَفِي رِوَايَة عبد اللَّه بن دِينَار الْمَذْكُورَة هَهُنَا لفظ: حَدثُونِي مَا هِيَ، وَفِي رِوَايَة نَافِع عَنهُ فِي التَّفْسِير عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا: اخبروني، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن نَافِع عَنهُ: انبؤني، فَاشْتَمَلَ الحَدِيث الْمَذْكُور على هَذَا الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل ذكرُوا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْعلم هَذَا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر وَعَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَعَن عَليّ عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَعَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن دِينَار بِهِ، وَفِيه: (فَقَالُوا: يَا رَسُول الله أخبرنَا بهَا) . واخرجه فِي الْبيُوع فِي: بَاب بيع الْجمار وَأكله، عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَعَن أبي نعيم عَن مُحَمَّد ابْن طَلْحَة عَن زبيد عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، وَلَفظ حَدِيث عمر بن حَفْص: (بَينا نَحن عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جُلُوس، إِذْ أُتِي بجمار نَخْلَة، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن من الشّجر لما بركته كبركة الْمُسلم، فَظَنَنْت أَنه يَعْنِي النَّخْلَة، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة يَا رَسُول الله! ثمَّ الْتفت فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم، فَسكت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هِيَ النَّخْلَة) . وَفِي أول بعض طرقه: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَأْكُل الْجمار) ، وَأخرجه فِي الْأَدَب فِي: بَاب لَا يستحي من الْحق، عَن آدم عَن شُعْبَة عَن محَارب عَن أبن عمر، قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (مثل الْمُؤمن كَمثل شَجَرَة خضراء لَا يسْقط وَرقهَا وَلَا يتحات، فَقَالَ الْقَوْم: هِيَ شَجَرَة كَذَا، فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، وَأَنا غُلَام شَاب فَاسْتَحْيَيْت، فَقَالَ: هِيَ النَّخْلَة) . وَعَن شُعْبَة عَن خبيب عَن حَفْص عَن ابْن عمر مثله، وَزَاد: (فَحدثت بِهِ عمر، فَقَالَ: لَو كنت قلتهَا لَكَانَ أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا) . وَأخرجه مُسلم فِي تلو كتاب التَّوْبَة عَن مُحَمَّد بن عبيد عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن أبي الْجَلِيل، وَعَن أبي بكر وَابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عَن أبي نجيح، وَعَن أبي نمير عَن أَبِيه عَن سيف بن سُلَيْمَان، وَقَالَ ابْن أبي سُلَيْمَان: كلهم عَن مُجَاهِد بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة، وَأبي أَيُّوب، وَابْن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن ابْن دِينَار عَن ابْن عمر بِهِ، وَفِي بَعْضهَا قَالَ ابْن عمر: (فَألْقى الله تَعَالَى فِي روعي أَنَّهَا النَّخْلَة) . الحَدِيث.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الشّجر) ، قَالَ الصغاني فِي (الْعباب) : الشّجر والشجرة مَا كَانَ على سَاق من نَبَات الأَرْض، وَقَالَ الدينَوَرِي: من الْعَرَب من يَقُول: شَجَرَة وشجرة، فيكسر الشين وبفتح الْجِيم، وَهِي لُغَة لبني سليم، وَأَرْض شجراء كَثِيرَة الْأَشْجَار، وَلَا يُقَال: وَاد شجر، وَوَاحِد الشجراء شَجَرَة، وَلم يَأْتِ على هَذَا الْمِثَال إلاَّ أحرف يسيرَة، وَهِي شَجَرَة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وَقَالَ سيبوبه: الشجراء وَاحِد وَجمع، وَكَذَلِكَ: القصباء والطرفاء والحلفاء. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:(2/13)
الشَّجَرَة، بِكَسْر الشين، والشيرة، بِكَسْر الشين وَالْيَاء، وَعَن أبي عَمْرو أَنه كرهها، وَقَالَ: يقْرَأ بهَا برابر مَكَّة وسودانها. قَوْله: (الْبَوَادِي) ، جمع بادية وَهِي خلاف الْحَاضِرَة، والبدو مثل الْبَادِيَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمَا بدوي، وَعَن أبي زيد: بداوي، وَأَصلهَا بَاء ودال وواو، من البدو، وَهُوَ الظُّهُور، وَهُوَ ظَاهر فِي معنى الْبَادِيَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات البواد، بِحَذْف الْيَاء، وَهِي لُغَة. قَوْله: (النَّخْلَة) ، وَاحِدَة النّخل وَفِي (الْعباب) : النّخل والنخيل بِمَعْنى وَاحِد، الْوَاحِدَة نَخْلَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (شَجَرَة) نصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن، وخبرها قَوْله: (من الشَّجَرَة) ، وَكلمَة: من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى من جنس الشَّجَرَة. قَوْله: (لَا يسْقط وَرقهَا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لشَجَرَة. قَوْله: (وَأَنَّهَا) ، بِالْكَسْرِ عطف على (إِن) الأولى. قَوْله (مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَخبر وَالْجُمْلَة سدت حسد المفعولين لفعل الحَدِيث. قَوْله: (إِنَّهَا النحلة) . بِفَتْح: أَن لِأَنَّهَا فَاعل وَقع، والنخلة، مَرْفُوع لِأَنَّهَا خبر ان. قَوْله: (حَدثنَا مَا هِيَ) مُبْتَدأ وَهِي خَبره، وَالْجُمْلَة سدت مسد المفعولين أَيْضا، وَقَوله: (هِيَ النَّخْلَة) مُبْتَدأ وَخبر وَقعت مقول القَوْل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن من الشّجر شَجَرَة) ، مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، لِأَن المخاطبين فِيهِ كَانُوا مستشرفين كاستشراف الطَّالِب المتردد، فَلذَلِك حسن تأكيده: بِأَن، وصوغه بِالْجُمْلَةِ الإسمية. قَوْله: (لَا يسْقط وَرقهَا) صفة سلبية تبين أَن موصوفها مُخْتَصّ بهَا دون غَيره. قَوْله: (وَإِنَّهَا مثل الْمُسلم) كَذَلِك مخرج على خلاف مُقْتَضى الظَّاهِر، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (فَوَقع النَّاس فِي شجر الْبَوَادِي) أَي: ذهبت أفكارهم إِلَى شجر الْبَوَادِي وذهلوا عَن النَّخْلَة، فَجعل كل مِنْهُم يُفَسِّرهَا بِنَوْع من الْأَنْوَاع، يُقَال: وَقع الطَّائِر على الشَّجَرَة. إِذا نزل عَلَيْهَا. قَوْله: (قَالَ عبد اللَّه) أَي: عبد اللَّه بِهِ عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَوْله: (فَاسْتَحْيَيْت) زَاد فِي رِوَايَة مُجَاهِد، فِي: بَاب الْفَهم فِي الْعلم: (فَأَرَدْت أَن أَقُول: هِيَ النَّخْلَة، فَإِذا أَنا أَصْغَر الْقَوْم) . وَله فِي الْأَطْعِمَة: (فَإِذا أَنا عَاشر عشرَة أَنا أحدثهم) . وَفِي رِوَايَة نَافِع: (وَرَأَيْت أَبَا بكر وَعمر لَا يتكلمان، فَكرِهت أَن أَتكَلّم) . وَفِي رِوَايَة مَالك عَن عبد اللَّه بن دِينَار عِنْد البُخَارِيّ، فِي بَاب الْحيَاء فِي الْعلم، قَالَ عبد اللَّه: (فَحدثت أبي بِمَا وَقع (نَفسِي) ، فَقَالَ: لِأَن كنت قلتهَا أحب إِلَيّ من أَن يكون لي كَذَا وَكَذَا) . زَاد ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : (احسبه قَالَ: حمر النعم) .
بَيَان الْبَيَان: قَوْله: (مثل الْمُسلم) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء مَعًا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مثل، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الثَّاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل، كلمة تَسْوِيَة. يُقَال: هَذَا مثله ومثيله. كَمَا يُقَال: شبهه وشبيهه، بِمَعْنى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْمثل، فِي أصل كَلَامهم بِمَعْنى الْمثل، يُقَال: مثل وَمثل ومثيل كشبه وَشبه وشبيه، ثمَّ قيل لِلْقَوْلِ السائر الممثل مضربه بمورده: مثل، وَلم يضْربُوا مثلا وَلَا رَأَوْهُ أَهلا للتسيير، وَلَا جَدِيرًا بالتداول وَالْقَبُول إلاَّ قولا فِيهِ غرابة من بعض الْوُجُوه. قلت: لضرب الْمثل شَأْن فِي إبراز خبيئات الْمعَانِي، وَرفع الاستار عَن الْحَقَائِق، فَإِن الْأَمْثَال تري المخيل فِي صُورَة الْمُحَقق، والمتوهم فِي معرض الْمُتَيَقن، وَالْغَائِب كَأَنَّهُ مشَاهد، وَلَا يضْرب مثل إلاَّ قَول فِيهِ غرابة، فَإِن قلت: مَا المورد وَمَا المضرب؟ قلت: المورد: الصُّورَة الَّتِي ورد فِيهَا ذَلِك القَوْل، والمضرب هِيَ الصُّورَة الَّتِي شبهت بهَا. ثمَّ اعْلَم أَن الْمثل لَهُ مَفْهُوم لغَوِيّ، وَهُوَ النظير. وَمَفْهُوم عرفي، وَهُوَ القَوْل السائر، وَمعنى مجازي وَهُوَ الْحَال الغريبة، واستعير الْمثل هُنَا كاستعارة الْأسد للمقدام، للْحَال العجيبية أَو الصّفة الغريبة، كَأَنَّهُ قيل: حَال الْمُسلم العجيب الشَّأْن كَحال النَّخْلَة، أَو: صفة الْمُسلم الغريبة كصفة النَّخْلَة، فالمسلم هُوَ الْمُشبه، والنخلة هُوَ الْمُشبه بهَا، وَأما وَجه الشّبَه فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَثْرَة خَيرهَا ودوام ظلها وَطيب ثَمَرهَا ووجودها على الدَّوَام، فَإِنَّهُ من حِين يطلع ثَمَرهَا لَا يزَال يُؤْكَل مِنْهُ حَتَّى ييبس، وَبعد أَن ييبس يتَّخذ مِنْهَا مَنَافِع كَثِيرَة، من خشبها وورقها وَأَغْصَانهَا، فيستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومحاضر وحصراً وحبالاً وأواني، وَغير ذَلِك مِمَّا ينْتَفع بِهِ من أَجْزَائِهَا، ثمَّ آخرهَا نَوَاهَا ينْتَفع بِهِ، علفاً لِلْإِبِلِ وَغَيره، ثمَّ جمال نباتها وَحسن ثَمَرَتهَا وَهِي كلهَا مَنَافِع، وَخير وجمال، وَكَذَلِكَ الْمُؤمن خير كُله من كَثْرَة طاعاته وَمَكَارِم أخلاقه ومواظبته على صلَاته وصيامه وَذكره وَالصَّدَََقَة وَسَائِر الطَّاعَات، هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي وَجه الشّبَه. وَقَالَ بَعضهم: وَجه التَّشْبِيه أَن النَّخْلَة إِذا قطعت رَأسهَا مَاتَت بِخِلَاف بَاقِي الشّجر، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا لَا تحمل حَتَّى تلقح، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا تَمُوت إِذا مزقت أَو فسد مَا هُوَ كالقلب لَهَا. وَقَالَ بَعضهم: لِأَن لطلعها رَائِحَة الْمَنِيّ، وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهَا تعشق كالإنسان، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا ضَعِيفَة من حَيْثُ إِن التَّشْبِيه إِنَّمَا وَقع بِالْمُسلمِ، وَهَذِه الْمعَانِي تَشْمَل الْمُسلم وَالْكَافِر. قَوْله: (حَدثنَا) صُورَة أَمر وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الطّلب وَالسُّؤَال، وَقد علم أَن الْأَمر إِذا كَانَ(2/14)
بالعلو والاستعلاء، يكون حَقِيقَة فِي بَابه، وَإِذا كَانَ لمساويه يكون التماساً، وَإِذا كَانَ لأعلى مِنْهُ يكون طلبا وسؤالاً. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ اسْتِحْبَاب إِلْقَاء الْعَالم الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم فِي الْفِكر. الثَّانِي: فِيهِ توقير الْكِبَار وَترك التَّكَلُّم عِنْدهم، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ بَابا، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْحيَاء مَا لم يؤد إِلَى تَفْوِيت مصلحَة، وَلِهَذَا تمنى عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يكون ابْنه لم يسكت. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز اللغز مَعَ بَيَانه. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه نهى عَن الأغلوطات) ، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، أحد رُوَاته: هِيَ صعاب الْمسَائِل. قلت: هُوَ مَحْمُول على مَا إِذا أخرج على سَبِيل تعنيت المسؤول أَو تعجيزه أَو تخجيله وَنَحْو ذَلِك. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز ضرب الْأَمْثَال والأشباه لزِيَادَة الأفهام، وتصوير الْمعَانِي فِي الذِّهْن، وتحديد الْفِكر، وَالنَّظَر فِي حكم الْحَادِثَة. السَّادِس: فِيهِ تلويح إِلَى أَن التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ، وَلَا يلْزم أَن يكون الْمُشبه مثل الْمُشبه بِهِ فِي جَمِيع الْوُجُوه. السَّابِع: فِيهِ أَن الْعَالم الْكَبِير قد يخفى عَلَيْهِ بعض مَا يُدْرِكهُ من هُوَ دونه، لِأَن الْعلم منح إلهية ومواهب رحمانية، وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء. الثَّامِن: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة النّخل. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: {ضرب الله مثلا كلمة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) لَا إلاه إِلَّا الله، {كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) هِيَ: النَّخْلَة {أَصْلهَا ثَابت} (إِبْرَاهِيم: 24) فِي الأَرْض، {وفرعها فِي السَّمَاء} (إِبْرَاهِيم: 24) أَي: رَأسهَا {تؤتي أكلهَا كل} (إِبْرَاهِيم: 25) وَقت. شبه الله الْإِيمَان بالنخلة لثبات الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن، كثبات النَّخْلَة فِي منبتها، وَشبه ارْتِفَاع عمله إِلَى السَّمَاء بارتفاع فروع النَّخْلَة، وَمَا يكتسبه الْمُؤمن من بركَة الْإِيمَان وثوابه فِي كل وَقت وزمان بِمَا ينَال من ثَمَر النَّخْلَة فِي أَوْقَات السّنة كلهَا من الرطب وَالتَّمْر، وَقد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِيمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر هَذِه الْآيَة فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالَ ابْن عمر: لم يخف عَليّ أَنَّهَا النَّخْلَة، فَمَنَعَنِي أَن أَتكَلّم لمَكَان سني، فَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام: هِيَ النَّخْلَة) . وروى ابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن عبد اللَّه بن دِينَار عَن عبد اللَّه بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من يُخْبِرنِي عَن شَجَرَة مثلهَا مثل الْمُؤمن {أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء} (إِبْرَاهِيم: 24) ؟ فَذكر الحَدِيث، وروى الْبَزَّار أَيْضا من طَرِيق سُفْيَان بن حُسَيْن عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، فَمَا أَتَاك مِنْهَا نفعك) . هَكَذَا أوردهُ مُخْتَصرا، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ قَالَ الْبَزَّار: لم يرو هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بِهَذَا السِّيَاق إلاَّ ابْن عمر وَحده، وَلما ذكره التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: أخرجه عبد بن حميد فِي تَفْسِيره بِلَفْظ: مثل الْمُؤمن مثل النَّخْلَة، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن حبَان من حَدِيث أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَرَأَ: {مثلا كلمة طيبَة كشجرة طيبَة} (إِبْرَاهِيم: 24) ، قَالَ: هِيَ النَّخْلَة) . تفرد بِرَفْعِهِ حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: إِن النَّخْلَة خلقت من بَقِيَّة طِينَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، فَهِيَ كالعمة للأناسي. قلت: رُوِيَ فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه لم يثبت.
5 - (بَاب طرْحِ الإِمَامِ المَسْألَةَ عَلى أصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ)
62 - حدّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدّثنا سُلَيْمانُ حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ ورَقَهَا، وإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ حَدِّثونِي مَا هِي) قَال: فَوقعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ عَبْدُ: اللَّهِ فَوقَعَ فِي نَفْسي أنَّهَا النَّخْلَةُ. ثُمَّ قَالُوا حدِّثنا مَا هِيَ يَا رسُول الله! قَالَ: (هَيَ النَّخْلَةُ) .
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِلْقَاء الإِمَام الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه ليختبر أَي: ليمتحن، من الاختبار وَهُوَ الامتحان. وَكلمَة: من، فِي الْعلم بَيَانِيَّة. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، فَإِن الحَدِيث فيهمَا وَاحِد عَن صَحَابِيّ وَاحِد، غير أَن الِاخْتِلَاف فِي التَّرْجَمَة، فَلذَلِك أعَاد الحَدِيث.
وَأما التَّفَاوُت فِي نفس متن الحَدِيث فشيء يسير، وَهُوَ وجود الْفَاء فِي: فحدثوني، فِي الْبَاب الأول، وَهَهُنَا بِلَا فَاء. على أَن فِي بعض النّسخ كِلَاهُمَا بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الَّذِي بِالْفَاءِ وَبَين الَّذِي بغَيْرهَا؟ قلت: الأَصْل عدم الْفَاء لعدم الْجِهَة الجامعة بَين الجملتين الْمُقْتَضِيَة للْعَطْف. أما الأول: فَهُوَ الْفَاء الَّتِي وَقعت جَوَابا لشرط مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِن عرفتموها فحدثوني. فَإِن قلت: إِذا كَانَت إِعَادَة الحَدِيث لأجل استفادة التَّرْجَمَة الَّتِي عقد الْبَاب لَهَا مِنْهُ، فَمَا الْفَائِدَة فِي تَغْيِير رجال(2/15)
الْإِسْنَاد؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: المقامات مُخْتَلفَة، فرواية قُتَيْبَة للْبُخَارِيّ إِنَّمَا كَانَت فِي مقَام بَيَان معنى التحديث، وَرِوَايَة خَالِد فِي مقَام بَيَان طرح الْمَسْأَلَة، فَلهَذَا ذكر البُخَارِيّ فِي كل مَوضِع شَيْخه الَّذِي روى الحَدِيث لَهُ لذَلِك الْأَمر الَّذِي روى لأَجله، مَعَ مَا فِيهِ من التَّأْكِيد وَغَيره. قلت: فِيهِ قائدة أُخْرَى، وَهُوَ التَّنْبِيه على تعدد مشايخه، واتساع رِوَايَته حَتَّى إِنَّه رُبمَا أخرج حَدِيثا وَاحِدًا من شُيُوخ كَثِيرَة.
ثمَّ خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَبُو الْهَيْثَم الْقَطوَانِي، بِفَتْح الْقَاف والطاء، البَجلِيّ، مَوْلَاهُم الْكُوفِي. وقطوان مَوضِع بِالْكُوفَةِ. روى عَن مَالك وَسليمَان بن بِلَال وَغَيرهمَا. روى عَنهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وابنا أبي شيبَة وَمُحَمّد ابْن بنْدَار وَالْبُخَارِيّ عَن ابْن كَرَامَة عَنهُ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبُو حَاتِم: لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ يحيى بن معِين: مَا بِهِ بَأْس. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ من المكثرين فِي محدثي الْكُوفَة، وَهُوَ عِنْدِي، إِن شَاءَ الله، لَا بَأْس بِهِ. وروى الْبَقِيَّة غير أبي دَاوُد عَن رجل عَنهُ، مَاتَ فِي الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَسليمَان هَذَا هُوَ ابْن بِلَال أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال أَبُو أَيُّوب التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي، مولى عبد اللَّه بن أبي عَتيق واسْمه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر الصّديق، كَانَ بربرياً جميلاً حسن الْهَيْئَة عَاقِلا مفتياً، ولي خراج الْمَدِينَة، وَتُوفِّي بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَمِائَة فِي خلَافَة هَارُون الرشيد. وَقَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بِهِ ثِقَة. وَعَن يحيى بن معِين: ثِقَة صَالح، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
6 - (بابٌ القِرَاءَةُ والعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث. قَوْله: (على الْمُحدث) يتَعَلَّق بِالْقِرَاءَةِ وَالْعرض كليهمَا، فَهُوَ من بَاب تنَازع العاملين على مَعْمُول وَاحِد.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَالسَّمَاع عَلَيْهِ، وَهَذِه مُنَاسبَة قَوِيَّة، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين، لما ذكر البُخَارِيّ فِي الْبَاب الأول قِرَاءَة الشَّيْخ، وَهُوَ قَوْله: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا وأنبأنا، عقب بِهَذَا الْبَاب، فَذكر الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَالسَّمَاع عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَاب الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث، وَكَانَ من حَقه أَن يقدم هَذَا الْبَاب على: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وأنبأنا، لِأَن قَول الْمُحدث: حَدثنَا وأنبأنا فرع عَن تحمله، هَل كَانَ بِالْقِرَاءَةِ أَو بِالْعرضِ، أَو يَقُول: بَاب قِرَاءَة الشَّيْخ، ثمَّ يَقُول: بَاب الْقِرَاءَة على الْمُحدث. قلت: كَلَامه مشْعر بِبَيَان الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق على هَذَا الْبَاب، وَهُوَ: بَاب قَول الْمُحدث: حَدثنَا وَأخْبرنَا. وَحقّ الْمُنَاسبَة هُوَ الَّذِي يكون بَين الْبَابَيْنِ المتواليين، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وَقَوله: وَكَانَ من حَقه ... إِلَخ، لَيْسَ كَذَلِك، بل الَّذِي رتبه هُوَ الْحق، لأَنا قد قُلْنَا: إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ قِرَاءَة الشَّيْخ، وَفِي هَذَا الْبَاب الْقِرَاءَة على الشَّيْخ، وَقِرَاءَة الشَّيْخ أقوى، والأقوى يسْتَحق التَّقْدِيم. فَإِن قلت: مَا مَقْصُود البُخَارِيّ من وضع هَذَا الْبَاب المترجم بالترجمة الْمَذْكُورَة؟ قلت: أَرَادَ بِهِ الرَّد على طَائِفَة لَا يعتدون إلاَّ بِمَا يسمع من أَلْفَاظ الْمَشَايِخ دون مَا يقْرَأ لَهُ عَلَيْهِم، وَلِهَذَا قَالَ عقيب الْبَاب: وَرَأى الْحسن وَالثَّوْري وَمَالك الْقِرَاءَة جَائِزَة ... إِلَخ.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين مفهومي الْقِرَاءَة وَالْعرض؟ قلت: الْمَفْهُوم من كَلَام الْكرْمَانِي أَن بَينهمَا مُسَاوَاة، لِأَنَّهُ قَالَ: المُرَاد بِالْعرضِ هُوَ عرض الْقِرَاءَة بِقَرِينَة مَا يذكر بعد التَّرْجَمَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يَصح عطف الْعرض على الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ نَفسهَا. قلت: الْعرض تَفْسِير الْقِرَاءَة، وَمثله يُسمى بالْعَطْف التفسيري، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا غاير بَينهمَا بالْعَطْف لما بَينهمَا من الْعُمُوم وَالْخُصُوص، لِأَن الطَّالِب إِذا قَرَأَ كَانَ أَعم من الْعرض وَمن غَيره، وَلَا يَقع الْعرض إلاَّ بِالْقِرَاءَةِ، لِأَن الْعرض عبارَة عَمَّا يُعَارض بِهِ الطَّالِب أصل شَيْخه مَعَه أَو مَعَ غَيره بِحَضْرَتِهِ، فَهُوَ أخص من الْقِرَاءَة. قلت: هَذَا كَلَام مخبط لِأَنَّهُ تَارَة جعل الْقِرَاءَة أَعم من الْعرض، وَتارَة جعلهَا مُسَاوِيَة لَهُ، لِأَن قَوْله: لِأَن الطَّالِب إِذا قَرَأَ كَانَ أَعم من الْعرض وَمن غَيره، مشْعر بِأَن بَين الْقِرَاءَة وَالْعرض عُمُوما وخصوصاً مُطلقًا لاستلزام صدق أَحدهمَا صدق الآخر، كالإنسان وَالْحَيَوَان،، وَقَوله: وَلَا يَقع الْعرض إلاَّ بِالْقِرَاءَةِ، مشْعر بِأَن بَينهمَا مُسَاوَاة، لِأَنَّهُمَا متلازمان فِي الصدْق كالإنسان والناطق، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن الْعرض بِالْمَعْنَى الْأَخَص مساوٍ للْقِرَاءَة، وبالمعنى الْأَعَمّ يكون بَينهمَا عُمُوم وخصوص مُطلق لاستلزام صدق أَحدهمَا صدق الآخر، والمستلزم أخص مُطلقًا، وَاللَّازِم أَعم، فالقراءة بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، وَالْعرض(2/16)
بِمَنْزِلَة الْحَيَوَان. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن الْعرض لَهُ مَعْنيانِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِقِرَاءَة أَو لَا، فَالْأول: يُسمى عرض قِرَاءَة. وَالثَّانِي: عرض مناولة، وَهُوَ أَن يَجِيء الطَّالِب إِلَى الشَّيْخ بِكِتَاب فيعرضه عَلَيْهِ، فيتأمل الشَّيْخ وَهُوَ عَارِف متيقظ، ثمَّ يُعِيدهُ إِلَيْهِ وَيَقُول لَهُ: وقفت على مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثي عَن فلَان، فأجزت رِوَايَته عني، وَنَحْوه.
وَرَأَى الحَسَنُ والثَّوْرِيُّ ومالكٌ القِرَاءَةَ جائزِةً.
أَي: رأى الْحسن الْبَصْرِيّ، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْإِمَام مَالك الْقِرَاءَة على الْمُحدث جَائِزَة فِي صِحَة النَّقْل عَنهُ، فَذكر عَنْهُم أَولا مُعَلّقا، ثمَّ أسْند عَنْهُم على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا كَلَام مُسْتَأْنف غير دَاخل فِي التَّرْجَمَة، وَجوز الْكرْمَانِي أَن يكون دَاخِلا فِي التَّرْجَمَة بِتَأْوِيل الْفِعْل الْمَاضِي بِالْمَصْدَرِ، أَي: بَاب الْقِرَاءَة وَرَأى الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهَذَا بعيد.
واحْتَجَّ بَعْضُهُم فِي القَراءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضَمامِ بنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ للنَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الله أمَرَكَ أنْ نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ؟ قالَ: (نَعَمْ) قَالَ: فَهاذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبْرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذلِكَ فأَجَازُوهُ.
أَرَادَ: بِالْبَعْضِ، هَذَا، شَيْخه الْحميدِي، فَإِنَّهُ احْتج فِي جَوَاز الْقِرَاءَة على الْمُحدث فِي صِحَة النَّقْل عَنهُ بِحَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة، فَإِنَّهُ قدم على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام، ثمَّ رَجَعَ إِلَى قومه فَأخْبرهُم بِهِ، فاسلموا. وَقَوله: (آللَّهُ أَمرك) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فِي لَفْظَة: (آللَّهُ) ، وارتفاعه بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (أَمرك) جملَة خَبره، قَوْله: (أَن نصلي الصَّلَاة) أَي: بِأَن نصلي، وَالْبَاء، مقدرَة فِيهِ، وَنُصَلِّي: إِمَّا بتاء الْخطاب أَو بنُون الْجمع المصدرة على مَا يَأْتِي بَيَانه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (قَالَ: نعم) أَي قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نعم الله أمرنَا بِأَن نصلي. قَوْله: (فَهَذِهِ قِرَاءَة) أَي: قَالَ الْبَعْض الَّذِي احْتج فِي الْقِرَاءَة على الْعَالم بِحَدِيث ضمام: هَذِه قِرَاءَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي قَالَ الْبَعْض المحتج، وَهُوَ الْحسن وَالثَّوْري وَنَحْوهمَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن المُرَاد بِالْبَعْضِ هُوَ الْحميدِي كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: يحْتَمل أَن يكون هَذَا المحتج بعض الْمَذْكُورين. أَعنِي: الْحسن وَالثَّوْري ومالكاً. قلت: لَا يمْنَع من ذَلِك، وَلَكِن حق الْعبارَة على هَذَا أَن يُقَال: قَالَ الْبَعْض المحتج من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، لَا كَمَا يَقُوله الْكرْمَانِي. قَوْله: (قِرَاءَة على النَّبِي) هَكَذَا هُوَ فِي غَالب النّسخ بِإِظْهَار كلمة: على، الَّتِي للاستعلاء، وَفِي بَعْضهَا: قِرَاءَة النَّبِي، فَإِن صحت تكون الْإِضَافَة فِيهِ للْمَفْعُول، وَيقدر على: فِيهِ. قَوْله: (فأجازوه) ، أَي: قبلوا مِنْهُ، وَلَيْسَ المُرَاد الْإِجَازَة المصطلحة بَين أهل الحَدِيث، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى قوم ضمام، وَجوز الْكرْمَانِي: أَن يرجع الضَّمِير إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وصحابته، وَهَذَا بعيد، سِيمَا من حَيْثُ الْمرجع. لَا يُقَال: إجَازَة قومه لَا حجَّة فِيهِ لأَنهم كفرة، لأَنا نقُول: المُرَاد الْإِجَازَة بعد الْإِسْلَام، أَو كَانَ فيهم مُسلمُونَ يومئذٍ. فَإِن قلت: قَوْله: أخبر قومه بذلك، لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي سَاقه البُخَارِيّ، فَكيف يحْتَج بِهِ؟ قلت: إِن لم يَقع فِي هَذَا الطَّرِيق فقد وَقع فِي طَرِيق آخر، ذكره أَحْمد وَغَيره من طَرِيق ابْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: (بعث بَنو سعد بن بكر ضمام بن ثَعْلَبَة)
فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِي آخِره: إِن ضماماً قَالَ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا رَجَعَ إِلَيْهِم: (إِن الله قد بعث رَسُولا، وَأنزل الله عَلَيْهِ كتابا وَقد جِئتُكُمْ من عِنْده بِمَا أَمركُم بِهِ ونهاكم عَنهُ. قَالَ: فوَاللَّه مَا أَمْسَى فِي ذَلِك الْيَوْم وَفِي حاضرته رجل وَلَا امْرَأَة إلاَّ مُسلما) .
واحْتَجَّ مالِكٌ بالصَّكِّ يُقْرَأُ على القَوْمِ فيَقُولُونَ: أشهْدَنَا فُلاَنُ، وَيُقْرَأُ ذَلكَ قِراءَةً عَلَيْهِمْ، ويُقْرَأُ على المُقْرِىءِ فَيَقُولُ القَارِىءُ: أقْرَأَنِي فُلانٌ.
أَرَادَ بالصك الْمَكْتُوب الَّذِي يكْتب فِيهِ إِقْرَار الْمقر. قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّك: الْكتاب، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَالْجمع صكاك وصكوك، وَفِي (الْعباب) وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: صك، وَالْجمع: أصك وصكاك وصكوك، وَلَيْلَة الصَّك: لَيْلَة الْبَرَاءَة، وَهِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، لِأَنَّهُ يكْتب فِيهَا من صكاك الأوراق. قَوْله: (يقْرَأ) بِضَم الْيَاء فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي: وَيقْرَأ، الثَّانِي.(2/17)
قَوْله: (فلَان) ، منون، وَفِي بَعْضهَا بعد فلَان: وَإِنَّمَا ذَلِك قِرَاءَة عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذِه حجَّة قَاطِعَة، لِأَن الْإِشْهَاد أقوى حالات الْإِخْبَار، وَأما قِيَاس مَالك قِرَاءَة الحَدِيث على قِرَاءَة الْقُرْآن فَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي الْكِتَابَة من طَرِيق ابْن وهب، قَالَ: سَمِعت مَالِكًا، وَسُئِلَ عَن الْكتب الَّتِي تعرض عَلَيْهِ: أيقول الرجل: حَدثنِي؟ قَالَ: نعم، كَذَلِك الْقُرْآن، أَلَيْسَ الرجل يقْرَأ على الرجل فَيَقُول، أَقْرَأَنِي فلَان، فَكَذَلِك إِذا قرىء على الْعَالم صَحَّ أَن يرْوى عَنهُ، وروى الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث عَن طَرِيق مطرف، قَالَ: صَحِبت مَالِكًا سبع عشرَة سنة فَمَا رَأَيْت قَرَأَ (المؤطأ) على أحد، يقرأون عَلَيْهِ. قَالَ: وسمعته يَأْبَى أَشد الإباء على من يَقُول: لَا يجْزِيه إلاَّ السماع من لفظ الشَّيْخ، وَيَقُول: كَيفَ لَا يجْزِيك هَذَا فِي الحَدِيث، ويجزيك فِي الْقُرْآن، وَالْقُرْآن أعظم؟
حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ حدّثنا مُحَمدُ بنُ الحَسَنِ الوَاسِطيُّ عَن عوفٍ عَنِ الحَسَن قَالَ: لاَ بأسَ بالقِراءَةِ على العالِمِ.
هَذَا إِسْنَاده فِيمَا ذكره عَن الْحسن أَولا مُعَلّقا عَن مُحَمَّد بن سَلام، بتَخْفِيف اللَّام على الْأَصَح، البيكندي، عَن مُحَمَّد بن الْحسن بن عمرَان الْمُزنِيّ، قَاضِي وَاسِط، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الْأَثر هُنَا خَاصَّة، وَثَّقَهُ ابْن معِين: وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَأحمد: لَيْسَ بِهِ بَأْس، توفّي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَهُوَ يروي عَن عَوْف بن أبي جميلَة الْمَعْرُوف بالأعرابي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وروى الْخَطِيب هَذَا الْأَثر بأتم سياقاً مِنْهُ من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن مُحَمَّد بن الْحسن الوَاسِطِيّ عَن عَوْف الْأَعرَابِي: أَن رجلا سَأَلَ الْحسن، فَقَالَ: يَا أَبَا سعيد، منزلي بعيد وَالِاخْتِلَاف يشق عَليّ، فَإِن لم تكن ترى بَأْسا قَرَأت عَلَيْك. قَالَ: مَا أُبَالِي قَرَأت عَلَيْك أَو قَرَأت عَليّ. قَالَ: فاقول: حَدثنِي الْحسن؟ قَالَ: نعم، قل: حَدثنِي الْحسن. قَوْله: (لَا بَأْس) ، أَي: فِي صِحَة النَّقْل عَن الْمُحدث بِالْقِرَاءَةِ على الْعَالم أَي الشَّيْخ، وَقَوله: (على الْعَالم) لَيْسَ خَبرا لقَوْله: لَا بَأْس، بل هُوَ مُتَعَلق بِالْقِرَاءَةِ.
حدّثنا عُبَيْدُ اللَّه بنُ مُوسَى عنْ سُفْيانَ قَالَ: إِذا قُرِىءَ على المُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَن تَقُولَ: حدّثني. قَالَ: وسَمِعْتُ أَبَا عاصِمٍ يَقولُ: عنْ مالِكٍ وسفُيانَ: القِراءَةُ على العالِمِ وقرِاءَتُهُ سَواءٌ.
هَذَا إِسْنَاده فِيمَا ذكره عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس أَولا مُعَلّقا عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى بن باذام الْعَبْسِي، بالمهملتين، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. قَوْله: (فَلَا بَأْس) ، أَي على القارىء أَن يَقُول: حَدثنِي، كَمَا جَازَ أَن يَقُول: أَخْبرنِي، فَهُوَ مشْعر بِأَن لَا تفَاوت عِنْده بَين حَدثنِي وَأَخْبرنِي، وَبَين أَن يقْرَأ على الشَّيْخ أَو يقرأه الشَّيْخ عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ) أَي البُخَارِيّ، وَسمعت أَبَا عَاصِم، وَهُوَ الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم، ابْن الضَّحَّاك بن مُسلم ابْن رَافع بن الْأسود بن عَمْرو بن والان بن ثَعْلَبَة بن شَيبَان، الْبَصْرِيّ الْمَشْهُور بالنبيل، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره لَام، لقب بِهِ لِأَنَّهُ قدم الْفِيل الْبَصْرَة، فَذهب النَّاس ينظرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ابْن جرير: مَالك لَا تنظر؟ فَقَالَ: لَا أجد مِنْك عوضا. فَقَالَ: أَنْت نبيل، أَو لقب بِهِ لكبر أَنفه أَو لِأَنَّهُ كَانَ يلْزم زفر، رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَانَ حسن الْحَال فِي كسوته؟ وَكَانَ أَبُو عَاصِم آخر رث الْحَال ملازماً لَهُ، فجَاء النَّبِيل يَوْمًا إِلَى بَابه فَقَالَ الْخَادِم لزفَر: أَبُو عَاصِم بِالْبَابِ! فَقَالَ لَهُ: أَيهمَا؟ فَقَالَ: ذَلِك النَّبِيل. وَقيل: لقبه الْمهْدي، مَاتَ فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ عَن تسعين سنة وَسِتَّة أشهر، وَهَذَا الَّذِي نَقله أَبُو عَاصِم عَن مَالك وسُفْيَان هُوَ مذْهبه أَيْضا فِيمَا حَكَاهُ الرامَهُرْمُزِي عَنهُ، ثمَّ اخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي مساواتهما للسماع من لَفْظَة الشَّيْخ فِي الرُّتْبَة، أَو دونه، أَو فَوْقه على ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه أرجح من قِرَاءَة الشَّيْخ وسماعه، قَالَه أَبُو حنيفَة وَابْن أبي ذِئْب وَمَالك فِي رِوَايَة، وَآخَرُونَ. وَاسْتحبَّ مَالك الْقِرَاءَة على الْعَالم، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الروَاة) عَن مَالك أَنه كَانَ يذهب إِلَى أَنَّهَا أثبت من قِرَاءَة الْعَالم. الثَّانِي: عَكسه أَن قِرَاءَة الشَّيْخ بِنَفسِهِ أرجح من الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَقيل: إِنَّه مَذْهَب جُمْهُور أهل الْمشرق. الثَّالِث: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ قَول ابْن أبي الزِّنَاد وَجَمَاعَة، حَكَاهُ عَنْهُم ابْن سعد، وَقيل: إِنَّه مَذْهَب مُعظم عُلَمَاء الْحجاز والكوفة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأَتْبَاعه من عُلَمَاء الْمَدِينَة، وَمذهب البُخَارِيّ وَغَيرهم.(2/18)
63 - حدّثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثنا اللَّيثُ عْن سَعِيدٍ هُوَ المَقْبُرِيُّ عَن شَرِيكِ بن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي نِمَرِ أنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بنَ مالِكٍ يَقولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ على جَمَلٍ فأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثمَّ عَقَلَهُ ثمَّ قَالَ لَهُمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَّكىءٌ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ. فقُلْنا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِيءُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ. ابنَ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قَدْ أجَبْتُك) فَقَالَ الرَّجُلُ للنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدُ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: (سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ) فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَن قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى الناسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ واللَّيْلَةِ؟ قَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَم) . قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّه آللَّهُ أَمَرَكَ أَن تَأْخُذَ هذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها على فُقَرائِنا؟ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ نَعَمْ) فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِما جِئْتَ بِهِ وَأَنا رَسُولُ مَنْ ورَائِي مِن قَوْمِي، وَأَنا ضِمَامُ بنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعدِ بنِ بَكْرٍ.
لما ذكر احتجاج بَعضهم فِي الْقِرَاءَة على الْعَالم، لحَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة، أخرجه هَهُنَا بِتَمَامِهِ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد اللَّه بن يُوسُف التنيسِي، وقدمر. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ، وَقد مر. الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقد مر. الرَّابِع: شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، الْقرشِي، أَبُو عبد اللَّه الْمدنِي الْقرشِي، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: اللَّيْثِيّ، وَقَالَ غَيره: الْكِنَانِي؛ وجده أَبُو نمر شهد أحدا مَعَ الْمُشْركين، ثمَّ هداه الله إِلَى الْإِسْلَام، سمع أنس بن مَالك وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبا سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَعَطَاء بن يسَار وَغَيرهم، روى عَنهُ مَالك وَسَعِيد المَقْبُري وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَسليمَان بن بِلَال وَغَيرهم، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، وَقَالَ يحيى بن معِين: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَقَالَ ابْن عدي: شريك رجل مَشْهُور من أهل الحَدِيث، حدث عَنهُ الثِّقَات، وَحَدِيثه إِذا روى عَنهُ ثِقَة فَلَا بَأْس بِهِ، إلاَّ أَن يروي عَنهُ ضَعِيف، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ التِّرْمِذِيّ، توفّي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، وَقد مر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث فِيهِ اخْتِلَاف من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّسَائِيّ رَوَاهُ من طَرِيق يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عجلَان وَغَيره عَن سعيد. وَالثَّانِي: أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، وَالْبَغوِيّ من طَرِيق الْحَارِث بن عمر عَن عبد اللَّه الْعمريّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج ابْن مَنْدَه من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة. قلت: أما الأول: فَإِنَّهُ يُمكن أَن يكون اللَّيْث قد سمع من سعيد بِوَاسِطَة، ثمَّ لقِيه فَحدث بِهِ، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يُونُس بن مُحَمَّد عَن اللَّيْث: حَدثنِي سعيد، وَكَذَا رِوَايَة ابْن مَنْدَه من طَرِيق ابْن وهب عَن اللَّيْث. وَأما الثَّانِي فَلِأَن اللَّيْث أثبتهم فِي سعيد.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث نَحوه، وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ، وَعَن عبيد اللَّه بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن اللَّيْث: حَدثنِي ابْن عجلَان وَغَيره، من أَصْحَابنَا، عَن سعيد المَقْبُري، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عِيسَى بن حَمَّاد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على جمل) ، وَهُوَ زوج النَّاقة، وتسكين الْمِيم فِيهِ لُغَة، وَمِنْه قِرَاءَة أبي السماك {حَتَّى يلج الْجمل} (الْأَعْرَاف: 40) بِسُكُون الْمِيم، وَالْجمع: جمال وجمالة وجمالات وجمائل وأجمال. قَوْله: (فأناخه) يُقَال: أنخت الْجمل أبركته، وَيُقَال أَيْضا: أَنَاخَ الْجمل نَفسه أَي: برك. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لَا يُقَال: أَنَاخَ وَلَا ناخ. قَوْله: (ثمَّ عقله) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْقَاف، قَالَ الْجَوْهَرِي: عقلت الْبَعِير(2/19)
أعقله عقلا، وَهُوَ أَن يثني وظيفه مَعَ ذراعه ليشدهما جَمِيعًا فِي وسط الذِّرَاع، والوظيف هُوَ مستدق السَّاق والذراع من الْإِبِل، وَالْحَبل الَّذِي يشد بِهِ هُوَ العقال، وَالْجمع عُقُل. قَوْله: (متكىء) ، مَهْمُوز، يُقَال: اتكأ على الشَّيْء فَهُوَ متكىء، والموضع مُتكأ، كُله مَهْمُوز الآخر، وتوكأت على الْعَصَا، وكل من اسْتَوَى على وطاء فَهُوَ متكأ، وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث. قَوْله: (بَين ظهرانيهم) ، بِفَتْح الظَّاء وَالنُّون، وَفِي (الْفَائِق) : يُقَال: أَقَامَ فلَان بَين ظهراني قومه، وَبَين ظهرانيهم، أَي: بَينهم، وأقحم لفظ، الظّهْر، ليدل على أَن إِقَامَته بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار بهم، أَي: مِنْهُم والإستناد إِلَيْهِم، وَكَانَ معنى التَّثْنِيَة فِيهِ أَن ظهرا مِنْهُم قدامه وَآخر وَرَاءه، فَهُوَ مكتوف من جانبيه، ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِي الْإِقَامَة بَين الْقَوْم مُطلقًا، وَإِن لم يكن مكتوفاً، وَأما زِيَادَة الْألف وَالنُّون بعد التَّثْنِيَة فَإِنَّمَا هِيَ للتَّأْكِيد، كَمَا تزاد فِي النِّسْبَة، نَحْو نفساني فِي النِّسْبَة إِلَى النَّفس، وَنَحْوه. قَوْله: (فَلَا تَجِد عَليّ) ، بِكَسْر الْجِيم، أَي: لَا تغْضب يُقَال: وجد عَلَيْهِ موجدة فِي الْغَضَب، وَوجد مَطْلُوبه وجودا، وَوجد ضالته وجداناً، وَوجد فِي الْحزن وجدا، وَوجد فِي المَال جدة، أَي اسْتغنى. هَذَا الَّذِي ذكره الشُّرَّاح، وَهِي خَمْسَة مصَادر، وَقَالَ بَعضهم: ومادة وجد متحدة الْمَاضِي والمضارع، مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي. قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل يُقَال: وجد مَطْلُوبه يجده، بِكَسْر الْجِيم، ويجده، بِالضَّمِّ، وَهِي لُغَة عامرية، وَوجد، بِكَسْر الْجِيم، لُغَة، قَالَه فِي (الْعباب) : وَكَذَلِكَ يُقَال: وجد عَلَيْهِ فِي الْغَضَب يجد، بِكَسْر الْجِيم، ويجد، بضَمهَا، موجدة ووجداناً أَيْضا، حَكَاهَا بَعضهم. وَأنْشد الْفراء فِي نوادره، لصخر الغي يرثي ابْنه تليداً:
(وَقَالَت: لن ترى أبدا تليداً ... بِعَيْنِك آخر الْعُمر الْجَدِيد)
(كِلَانَا رد صَاحبه بيأسٍ ... وإثباتٍ ووجدانٍ شَدِيد)
وَكَذَا يُقَال: وجد فِي المَال وجدا ووجداً ووجداً، وَجدّة، أَربع مصَادر. وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَنَافِع وَيحيى بن يعمر وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن أبي عبلة وطاووس وَأَبُو حَيْوَة وَأَبُو الْبر هشيم: من وجدكم، بِفَتْح الْوَاو. وَقَرَأَ أَبُو الْحسن روح بن عبد الْمُؤمن: من وجدكم، بِالْكَسْرِ، وَالْبَاقُونَ من وجدكم، بِالضَّمِّ. قَوْله: (عَمَّا بدا) ، أَي ظهر، من البدو. قَوْله: (انشدك) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَضم الشين الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ: اسألك بِاللَّه، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: نشدت فلَانا أنْشدهُ نشداً، إِذا قلت لَهُ: نشدتك الله، أَي: سَأَلتك بِاللَّه، كَأَنَّك ذكرته إِيَّاه، فتنشد، أَي: تذكر. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : أَصله من النشيد، وَهُوَ رفع الصَّوْت. وَالْمعْنَى: سَأَلتك رَافعا صوتي، وَفِي (الْعباب) : نشدت فلَانا أنْشدهُ نشداً، ونشدت الضَّالة أنشدها نشداً ونشدة ونشداناً، طلبتها. قَوْله: (هَذِه الصَّدَقَة) ، أَرَادَ بِهِ الزَّكَاة.
بَيَان التصريف: قَوْله: (جُلُوس) جمع: جَالس، كركوع جمع: رَاكِع. قَوْله: (فأناخه) أَصله: فأنوخه، قلبت الْوَاو ألفا بعد نقل حركتها إِلَى مَا قبلهَا. قَوْله: (وَالنَّبِيّ متكىء) اسْم فَاعل من: اتكأ يتكىء، أَصله موتكأ، قلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي التَّاء، وَكَذَلِكَ أصل: اتكأ ويتكىء يوتكىء، لِأَن مادته: وَاو وكاف وهمزة، وَمِنْه يُقَال: رجل تكاة، أَصله وكأة، مثل تؤدة إِذا كَانَ كثير الاتكاء، والإتكاء أَيْضا مَا يتكؤ عَلَيْهِ، وَهِي المتكأ. قَالَ الله تَعَالَى: {وأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ} (يُوسُف: 31) . قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ فِي معنى: مجلسٍ. قَوْله: (فمشدد) ، اسْم فَاعل من شدد تشديداً، وَالْمَسْأَلَة، بِفَتْح الْمِيم، مصدر ميمي يُقَال: سَأَلته الشَّيْء، وَسَأَلته عَن الشَّيْء سؤالاً وَمَسْأَلَة. وَقد تخفف الْهمزَة فَيُقَال: سَأَلَ يسْأَل، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَنَافِع وَابْن كثير. {سَأَلَ سَائل} (المعارج: 1) بتَخْفِيف الْهمزَة. قَوْله: (سل) . أَمر من: سَأَلَ يسْأَل، وَأَصله اسْأَل، على وزن: إفعل فنقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى السِّين، فحذفت للتَّخْفِيف، وَاسْتغْنى عَن همزَة الْوَصْل، فحذفت فَصَارَ: سل، على وزن: قل، لِأَن السَّاقِط هُوَ عين الْفِعْل. قَوْله: (فَلَا تَجِد) على أَصله: فَلَا تُوجد لِأَنَّهُ من وجد عَلَيْهِ. قَوْله: (بدا) فعل مَاض، تَقول: بدا الْأَمر بدواً، مثل: قعد قعُودا أَي: ظهر. وأبديته: أظهرته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) أَصله، بَين، زيدت عَلَيْهِ: مَا، وَهُوَ من الظروف الزمانية اللَّازِمَة الْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة، وَبَين، وبينما، يتضمنان بِمَعْنى المجازات، وَلَا بُد لَهما من جَوَاب، وَالْعَامِل فيهمَا الْجَواب إِذا كَانَ مُجَردا من كلمة المفاجأة، وإلاَّ فَمَعْنَى المفاجأة. قَوْله: (نَحن) مُبْتَدأ و: جُلُوس، خَبره. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) اللَّام فِيهِ للْعهد، أَي: مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (دخل رجل) ، هُوَ جَوَاب. بَيْنَمَا، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، (إِذْ دخل رجل) . وَقد مر غير مرّة، أَن الْأَصْمَعِي لَا يستفصح إِذْ وَإِذا فِي جَوَاب: بَين وبينما. قَوْله: (على جمل) فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة الرجل. قَوْله: (فأناخه) عطف على قَوْله دخل. قَوْله:(2/20)
(أَيّكُم) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ و (مُحَمَّد) ، خَبره. وَأي، هَهُنَا للاستفهام. قَوْله: (وَالنَّبِيّ متكىء) ، جملَة اسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (هَذَا الرجل) ، مُبْتَدأ، وَخبر، مقول القَوْل، والأبيض بِالرَّفْع صفة للرجل، وَكَذَلِكَ المتكىء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) أَي فَقَالَ الرجل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (ابْن عبد الْمطلب) . بِفَتْح النُّون لِأَنَّهُ منادى مُضَاف، وَأَصله: يَا ابْن عبد الْمطلب، فَحذف حرف النداء. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يَا ابْن عبد الْمطلب، باثبات حرف النداء. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ الرجل) أَي: الرجل الْمَذْكُور، فِي قَوْله: (دخل رجل على جمل) ، قَوْله: (إِنِّي سَائِلك) جملَة إسمية مُؤَكدَة بِأَن، مقول القَوْل. قَوْله: (فمشدد) عطف على: (سَائِلك) . قَوْله: (فَلَا تَجِد) نهي كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَقَالَ: سل) أَي: فَقَالَ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للرجل: سل. قَوْله: (بِرَبِّك) أَي: بِحَق رَبك، الْبَاء للقسم. قَوْله: (آللَّهُ؟) بِالْمدِّ فِي الْمَوَاضِع كلهَا، لِأَنَّهَا همزتان: الأولى همزَة الِاسْتِفْهَام، وَالثَّانيَِة: همزَة لَفْظَة الله، وَهُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وأرسلك، خَبره. قَوْله: (اللَّهُمَّ نعم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: اللَّهُمَّ، أَصله: يَا الله، فَحذف حرف النداء، وَجعل الْمِيم بَدَلا مِنْهُ. وَالْجَوَاب: هُوَ نعم، وَذكر لفظ: اللَّهُمَّ، للتبرك، وَكَأَنَّهُ اسْتشْهد بِاللَّه فِي ذَلِك تَأْكِيدًا لصدقه. قلت: اللَّهُمَّ، تسْتَعْمل على ثَلَاثَة أنحاء: الأول: للنداء الْمَحْض، وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بندرة الْمُسْتَثْنى، كَمَا يُقَال: اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يكون كَذَا. وَالثَّالِث: الْبَدَل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب المقترن هُوَ بِهِ، كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم؟ اللَّهُمَّ نعم. أَو: اللَّهُمَّ لَا. كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى مستشهداً على مَا قَالَه من الْجَواب. قَوْله: (أنْشدك) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَالْبَاء فِي: بِاللَّه، للقسم. قَوْله: (أَن تصلي) بتاء الْخطاب، وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ بالنُّون، قَوْله: (الصَّلَوَات الْخمس) هَكَذَا بِجمع الصَّلَوَات عِنْد الْأَكْثَرين وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي: (الصَّلَاة) . بِالْإِفْرَادِ. فَإِن قلت: على هَذَا كَيفَ تُوصَف الصَّلَاة بالخمس وَهِي مُفْردَة؟ قلت: هِيَ للْجِنْس، فَيحْتَمل التَّعَدُّد. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: أَن نصلي، بالنُّون، أوجه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ثَابت عَن أنس بِلَفْظ: (إِن علينا خمس صلوَات ليومنا وليلتنا) . قَوْله: (أَن تَصُوم) بتاء المخاطبة. وَعند الْأصيلِيّ: بالنُّون. قَوْله: (هَذَا الشَّهْر) أَي: شهر رَمَضَان من السّنة، أَي: من كل سنة إِذْ اللَّام للْعهد، وَالْإِشَارَة فِيهِ لنَوْع هَذَا الشَّهْر لَا لشخص ذَلِك الشَّهْر بِعَيْنِه. قَوْله: (أَن تَأْخُذ هَذِه الصَّدَقَة) ، بتاء الْمُخَاطب، وَكَذَلِكَ: (تقسمها) :. وَأَن، مَصْدَرِيَّة، وَأَصلهَا: بِأَن تَأْخُذ، أَي: تَأْخُذ الصَّدَقَة. قَوْله: (فتقسمها) بِالنّصب، عطف على قَوْله: (أَن تأخذها) . قَوْله: (بِمَا جِئْت) ، أَي: بِالَّذِي جِئْت بِهِ. قَوْله: (وَأَنا) ، مُبْتَدأ و (رَسُول) خَبره مُضَاف إِلَى: من، بِفَتْح الْمِيم، وَهِي مَوْصُولَة. وَكلمَة: من، فِي قَوْله: من قومِي، للْبَيَان.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فأناخه فِي الْمَسْجِد) فِيهِ حذف، وَالتَّقْدِير، فأناخه فِي رحبة الْمَسْجِد، وَنَحْوهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا هَكَذَا لتتفق هَذِه الرِّوَايَة بالروايات الْأُخْرَى، فَإِن فِي رِوَايَة أبي نعيم: أقبل على بعير لَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِد فأناخه ثمَّ عقله، فَدخل الْمَسْجِد. وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالْحَاكِم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، ولفظها: (فاناخ بعيره على بَاب الْمَسْجِد فعقله ثمَّ دخل) . قَوْله: (هَذَا الرجل الْأَبْيَض) المُرَاد بِهِ الْبيَاض النير الزَّاهِر، وَأما مَا ورد فِي صفته أَنه، لَيْسَ بأبيض وَلَا آدم، فَالْمُرَاد بِهِ الْبيَاض الصّرْف كلون الجص، كريه المنظر، فَإِنَّهُ لون البرص. وَيُقَال: المُرَاد بالأبيض، وَهُوَ الْأَبْيَض المشرب بحمرة، يدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْحَارِث بن عُمَيْر: (فَقَالَ: أيكما ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالُوا: هُوَ الأمغر المرتفق) . قَالَ اللَّيْث: الأمغر الَّذِي فِي وَجهه حمرَة مَعَ بَيَاض صَاف. وَقَالَ غَيره: الأمغر: الْأَحْمَر الشّعْر وَالْجَلد على لون الْمغرَة، وَقَالَ ابْن فَارس: الأمغر من الْخَيل الْأَشْقَر. قلت: مادته: مِيم وغين مُعْجمَة وَرَاء مُهْملَة. قَوْله: (اجبتك) ، وَمَعْنَاهُ: سَمِعتك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَتى أجَاب حَتَّى أخبر عَنهُ؟ قلت: أجبْت بِمَعْنى: سَمِعت، أَو المُرَاد مِنْهُ إنْشَاء الْإِجَابَة، وَإِنَّمَا أَجَابَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام: بِهَذِهِ الْعبارَة لِأَنَّهُ أخل بِمَا يجب من رِعَايَة غَايَة التَّعْظِيم وَالْأَدب بِإِدْخَال الْجمل فِي الْمَسْجِد، وخطابه: بأيكم مُحَمَّد؟ وبابن عبد الْمطلب؟ انْتهى. قلت: لَا يَخْلُو ضمام إِمَّا أَنه قدم مُسلما وَإِمَّا غير مُسلم، فَإِن كَانَ الأول: فَإِنَّهُ يحمل مَا صدر مِنْهُ من هَذِه الْأَشْيَاء على أَنه لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت وقف على أُمُور الشَّرْع، وَلَا على النَّهْي، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) على أَنه كَانَت فِيهِ بَقِيَّة من جفَاء الْأَعْرَاب وجهلهم، وَإِن كَانَ الثَّانِي: فَلَا يحْتَاج إِلَى الِاعْتِذَار عَنهُ. وَاخْتلفُوا، هَل كَانَ مُسلما عِنْد قدومه أم لَا؟ فَقَالَ جمَاعَة: إِنَّه كَانَ أسلم قبل وفوده، حَتَّى زعمت طَائِفَة مِنْهُم أَن البُخَارِيّ فهم إِسْلَام ضمام قبل قدومه، وَأَنه جَاءَ يعرض على النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلِهَذَا بوب عَلَيْهِ: بَاب الْقِرَاءَة وَالْعرض على الْمُحدث، وَلقَوْله آخر الحَدِيث: (آمَنت بِمَا جِئْت بِهِ وَأَنا(2/21)
رَسُول من ورائي من قومِي) . وَإِن هَذَا إِخْبَار، وَهُوَ اخْتِيَار البُخَارِيّ، وَرجحه القَاضِي عِيَاض، وَقَالَ جمَاعَة أُخْرَى: لم يكن مُسلما وَقت قدومه، وَإِنَّمَا كَانَ إِسْلَامه بعده، لِأَنَّهُ جَاءَ مستثبتاً. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وَفِيه: (أَن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثَعْلَبَة)
الحَدِيث، وَفِي آخِره: (حَتَّى إِذا فرغ قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله) ، وَأَجَابُوا عَن قَوْله: آمَنت، بِأَنَّهُ انشاء وَابْتِدَاء إِيمَان، لَا إِخْبَار بِإِيمَان تقدم مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَأَنا رَسُول من ورائي) ورجحة الْقُرْطُبِيّ لقَوْله فِي حَدِيث ثَابت عَن أنس عِنْد مُسلم وَغَيره: فَإِن رَسُولك زعم. قَالَ: والزعم: القَوْل الَّذِي لَا يوثق بِهِ. قَالَه ابْن السّكيت وَغَيره: وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَن الزَّعْم يُطلق على القَوْل الْمُحَقق أَيْضا، كَمَا نَقله أَبُو عمر الزَّاهِد فِي شرح فصيح شَيْخه، ثَعْلَب. قلت: أصل وَضعه، كَمَا قَالَه ابْن السّكيت، واستعماله فِي القَوْل الْمُحَقق مجَاز يحْتَاج إِلَى قرينَة، وَأَجَابُوا أَيْضا عَن قَوْلهم: إِن البُخَارِيّ فهم إِسْلَام ضمام قبل قدومه، بِأَنَّهُ لَا يلْزم من تبويب البُخَارِيّ مَا ذَكرُوهُ، لِأَن الْعرض على الْمُحدث هُوَ الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، أَعم من أَن يكون تقدّمت لَهُ، أَو أبتدأ الْآن على الشَّيْخ بِقِرَاءَة شَيْء لم يتَقَدَّم قِرَاءَته وَلَا نظره، وَقَالُوا: قد بوب أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ بَاب الْمُشرك يدْخل الْمَسْجِد. وَهُوَ أَيْضا يدل على أَنه لم يكن مُسلما قبل قدومه. وَقد مَال الْكرْمَانِي إِلَى مقَالَة الْأَوَّلين حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: من أَيْن عرف حَقِيقِيَّة كَلَام الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَصدق رسَالَته، إِذْ لَا معْجزَة فِيمَا جرى من هَذِه الْقِصَّة؟ وَهَذَا الْإِيمَان لَا يُفِيد إلاَّ تَأْكِيدًا وتقريراً؟ قلت: الرجل كَانَ مُؤمنا عَارِفًا بنبوته، عَالما بمعجزاته قبل الْوُفُود، وَلِهَذَا مَا سَأَلَ إلاَّ عَن تَعْمِيم الرسَالَة إِلَى جَمِيع النَّاس، وَعَن شرائع الْإِسْلَام. قلت: عَكسه الْقُرْطُبِيّ فاستدل بِهِ على إِيمَان الْمُقَلّد بالرسول، وَلَو لم تظهر لَهُ معْجزَة، وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الصّلاح. قَوْله: (وانا ضمام ابْن ثَعْلَبَة) ، بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وثعلبة، بالثاء الْمُثَلَّثَة الْمَفْتُوحَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، أَخُو بني سعد بن بكر السَّعْدِيّ، قدم على النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بَعثه إِلَيْهِ بَنو سعد، فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم فَأخْبرهُم بِهِ فاسلموا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَا سمعنَا بوافد قطّ أفضل من ضمام ابْن ثَعْلَبَة. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ قدوم ضمام هَذَا سنة تسع، وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة والطبري وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ سنة خمس، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن حبيب، وَفِيه نظر من وُجُوه الأول: أَن فِي رِوَايَة مُسلم أَن ذَلِك كَانَ حِين نزل النَّهْي فِي الْقُرْآن عَن سُؤال الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، وَآيَة النَّهْي فِي الْمَائِدَة، ونزولها مُتَأَخّر. الثَّانِي: أَن إرْسَال الرُّسُل إِلَى الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام، إِنَّمَا كَانَ ابتداؤه بعد الْحُدَيْبِيَة، ومعظمه بعد فتح مَكَّة، شرفها الله. الثَّالِث: أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن قومه أطاعوه ودخلوا فِي الْإِسْلَام بعد رُجُوعه إِلَيْهِم، وَلم يدْخل بَنو سعد بن بكر بن هوَازن فِي الْإِسْلَام إلاَّ بعد وقْعَة حنين، وَكَانَت فِي شَوَّال سنة ثَمَان. قَوْله: (اخو بني بن سعد بن بكر) بن هوَازن، وهم أخوال رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الْعَرَب سعود قبائل شَتَّى، مِنْهَا: سعد تَمِيم، وَسعد هُذَيْل، وَسعد قيس، وَسعد بكر هَذَا. وَفِي الْمثل: بِكُل وَاد بَنو سعد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: قَالَ ابْن الصّلاح. فِيهِ دلَالَة لصِحَّة مَا ذهب إِلَيْهِ الْعلمَاء من أَن الْعَوام المقلدين مُؤمنُونَ، وَأَنه يكْتَفى مِنْهُم بِمُجَرَّد اعْتِقَادهم الْحق، جزما من غير شكّ وتزلزل، خلافًا للمعتزلة، وَذَلِكَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قرر ضماماً على مَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي تعرف رسَالَته، وَصدقه بِمُجَرَّد إخْبَاره إِيَّاه بذلك، وَلم يُنكره عَلَيْهِ، وَلَا قَالَ لَهُ: يجب عَلَيْك معرفَة ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى معجزاتي، وَالِاسْتِدْلَال بالأدلة القطعية. الثَّانِي: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد، لِأَن قومه لم يَقُولُوا لَهُ: لَا نقبل خبرك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يأتينا من طَرِيق آخر. الثَّالِث: قَالَ أَيْضا: فِيهِ جَوَاز إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ دَلِيل على طَهَارَة أَبْوَال الْإِبِل وأرواثها، إِذْ لَا يُؤمن ذَلِك مِنْهُ مُدَّة كَونه فِي الْمَسْجِد. قلت: هَذَا احْتِمَال لَا يحكم بِهِ فِي بَاب الطَّهَارَة، على أَنا قد بينَّا أَن المُرَاد من قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) فِي الحَدِيث فِي رحبة الْمَسْجِد، وَنَحْوهَا. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَسْمِيَة الْأَدْنَى للأعلى دون أَن يكنيه، إلاَّ أَنه نسخ فِي حق الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام: بقوله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) . الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الاتكاء بَين النَّاس فِي الْمجَالِس. السَّادِس: فِيهِ مَا كَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، من ترك التكبر، لقَوْله: (ظهرانيهم) . السَّابِع: فِيهِ جَوَاز تَعْرِيف الرجل بِصفة من الْبيَاض والحمرة، والطول وَالْقصر، وَنَحْو ذَلِك. الثَّامِن: فِيهِ الِاسْتِحْلَاف على الْخَبَر لعلم الْيَقِين، وَفِي مُسلم: (فبالذي خلق السَّمَاء، وَخلق الأَرْض، وَنصب هَذِه الْجبَال، آللَّهُ أرسلك؟ قَالَ: نعم) التَّاسِع: فِيهِ التَّعْرِيف(2/22)
بالشخص، فَإِنَّهُ قَالَ: (ايكم مُحَمَّد؟ وَقَالَ: ابْن عبد الْمطلب؟) . الْعَاشِر: فِيهِ النِّسْبَة إِلَى الأجداد، فَإِنَّهُ قَالَ: (ابْن عبد الْمطلب؟) وَجَاء فِي (صَحِيح مُسلم) : (يَا مُحَمَّد) . الْحَادِي عشر: استنبط مِنْهُ الْحَاكِم طلب الْإِسْنَاد العالي، وَلَو كَانَ الرَّاوِي ثِقَة، إِذْ البدوي لم يقنعه خبر الرَّسُول عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رَحل بِنَفسِهِ، وَسمع مَا بلغه الرَّسُول عَنهُ، قيل: إِنَّمَا يتم مَا ذكره إِذا كَانَ ضمام قد بلغه ذَلِك أَولا. قلت: قد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم. الثَّانِي عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْإِنْسَان بَين يَدي حَدِيثه مُقَدّمَة يعْتَذر فِيهَا ليحسن موقع حَدِيثه عِنْد الْمُحدث، وَهُوَ من حسن التَّوَصُّل، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله: (إِنِّي سَائِلك فمشدد عَلَيْك) .
الأسئلة الاجوبة: مِنْهَا مَا قيل: قَالَ: (على فقرائنا) ، وأصناف الْمصرف ثَمَانِيَة لَا تَنْحَصِر على الْفُقَرَاء. وَأجِيب: بِأَن ذكرهم بِاعْتِبَار أَنهم الْأَغْلَب من سَائِر الْأَصْنَاف، أَو لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة ذكر الْأَغْنِيَاء. وَمِنْهَا مَا قيل: لمَ لَمْ يذكر الْحَج؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ قبل فَرضِيَّة الْحَج، أَو لِأَنَّهُ لم يكن من أهل الِاسْتِطَاعَة لَهُ، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لم يذكر الْحَج فِي رِوَايَة شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر عَن أنس، وَقد ذكره مُسلم وَغَيره فِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس وَهُوَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس أَيْضا، وَمَا قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ مَنْقُول عَن ابْن التِّين، وَالْحَامِل لَهُم على ذَلِك مَا رُوِيَ عَن الْوَاقِدِيّ من أَن قدوم ضمام كَانَ سنة خمس، وَقد بَينا فَسَاده. وَمِنْهَا ماقيل: لَم لَمْ يُخَاطب بِالنُّبُوَّةِ وَلَا بالرسالة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} (النُّور: 63) وَأجِيب: بأوجه: الأول: أَنه لم يكن آمن بعد. الثَّانِي: أَنه باقٍ على جفَاء الْجَاهِلِيَّة، لكنه لم يُنكر عَلَيْهِ، وَلَا رد عَلَيْهِ. الثَّالِث: لَعَلَّه كَانَ قبل النَّهْي عَن مخاطبته عَلَيْهِ السَّلَام بذلك. الرَّابِع: لَعَلَّه لم يبلغهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، عَن قريب، وَيُقَال إِنَّمَا قَالَ: (ابْن عبد الْمطلب؟) لِأَنَّهُ لما دخل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَيّكُم ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا ابْن عبد الْمطلب) . فَقَالَ ابْن عبد الْمطلب؟ على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (ايكم ابْن عبد الْمطلب؟ فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام: انا ابْن عبد الْمطلب) . فَقَالَ يَابْنَ عبد الْمطلب وسَاق الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره الانتساب إِلَى الْكفَّار، فَكيف قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: انا ابْن عبد الْمطلب؟ . وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ هَهُنَا تطابق الْجَواب السُّؤَال. لِأَن ضماماً خاطبه بقوله: (ايكم ابْن عبد الْمطلب؟ فَأجَاب عَلَيْهِ السَّلَام، بقوله: أَنا ابْن عبد الْمطلب) فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ يكره ذَلِك؟ وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم حنين: (أَنا ابْن عبد الْمطلب؟) قلت: لم يذكرهُ إلاَّ للْإِشَارَة إِلَى رُؤْيا رَآهَا عبد الْمطلب مَشْهُورَة، كَانَت إِحْدَى دَلَائِل نبوته، فَذكرهمْ بهَا، وبخروج الْأَمر على الصدْق. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة الْإِيمَان الْمَذْكُورَة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا جرت للتَّأْكِيد وَتَقْرِير الْأَمر، لَا لافتقار إِلَيْهَا كَمَا أقسم الله تَعَالَى على أَشْيَاء كَثِيرَة كَقَوْلِه: (قل: أَي وربي إِنَّه لحق) ، (قل: بلَى وربي لتبعثن) ، (فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق) . وَمِنْهَا مَا قيل: هَل النجدي السَّائِل فِي حَدِيث طَلْحَة بن عبيد اللَّه الْمَذْكُور فِيمَا مضى هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة أَو غَيره؟ أُجِيب: بِأَن جمَاعَة قد قَالُوا: إِنَّه هُوَ إِيَّاه، والنجدي هُوَ ضمام بن ثَعْلَبَة، وَمَال إِلَى هَذَا ابْن عبد الْبر وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يبعد أَن يَكُونَا وَاحِدًا لتباين أَلْفَاظ حديثيهما ومساقهما.
رَواهُ مُوسَى وعَلِيُّ بنُ عبدِ الحَميدِ عنْ سُلَيْمانَ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذا.
أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَقد مر ذكره، وَهُوَ يروي هَذَا الحَدِيث عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة أبي سعيد الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) مَوْصُولا بِهَذَا الطَّرِيق، وَكَذَا ابْن مَنْدَه فِي الْإِيمَان. فَإِن قلت: لم علقه البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ مَوْصُولا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ يروي عَن شَيْخه مُوسَى بالواسطة، فَيكون تَعْلِيقا. وَفَائِدَة ذكره الاستشهاد وتقوية مَا تقدم. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا علقه البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لم يحْتَج بشيخه سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، يَعْنِي شيخ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الَّذِي هُوَ شيخ البُخَارِيّ. قلت: كَيفَ يَقُول: لم يحْتَج بِهِ، وَقد روى لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا عَن ابْن أبي اياس عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن حميد بن هِلَال عَن أبي صَالح السمان، قَالَ: (رَأَيْت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، فِي يَوْم جُمُعَة يُصَلِّي إِلَى شَيْء يستره من النَّاس)
الحَدِيث، ذكره فِي بَاب: يرد الْمُصَلِّي من بَين يَدَيْهِ؟ وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل فِيهِ: ثَبت ثَبت ثِقَة ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة ثَبت. وَقَالَ(2/23)
شُعْبَة: سيد أهل الْبَصْرَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: كَانَ من خِيَار النَّاس، سمع الْحسن وَابْن سِيرِين وثابت الْبنانِيّ، روى عَنهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة، وَتُوفِّي سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. قَوْله (وَعلي بن عبد الحميد) عطف على مُوسَى، وروى الحَدِيث الْمَذْكُور أَيْضا عَليّ بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة عَن ثَابت عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَوْصُولا من طَرِيقه، وَأخرجه الدَّارمِيّ عَن عَليّ بن عبد الحميد ... الخ، وَهُوَ عَليّ بن عبد الحميد بن مُصعب أَبُو الْحُسَيْن المعني، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر النُّون بعْدهَا يَاء النِّسْبَة، نِسْبَة إِلَى معن بن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس. قَالَ الرشاطي: المعني فِي الأزد وَفِي طي وَفِي ربيعَة. فَالَّذِي فِي أَزْد: معن بن مَالك. وَالَّذِي فِي طي: معن بن عتود بن غَسَّان بن سلامان بن نفل بن عَمْرو بن الْغَوْث بن طي، وَالَّذِي فِي ربيعَة: معن بن زَائِدَة بن عبد اللَّه بن زَائِدَة بن مطر بن شريك. وروى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وَقَالا: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: روى عَنهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا، وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. قلت: لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع الْمُعَلق، وَأما ثَابت الْبنانِيّ فَهُوَ ابْن أسلم، أَبُو حَامِد الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ العابد، سمع ابْن الزبير وَابْن عمر وأنساً وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، روى عَنهُ خلق كثير، وَقَالَ أَحْمد وَيحيى وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَلَا خلاف فِيهِ. توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، والبناني: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، نِسْبَة إِلَى بنانة بطن من قُرَيْش. وَقَالَ الزبير بن بكار: كَانَت بنانة أمة لسعد بن لؤَي حضنت بنيه فنسبوا إِلَيْهَا. وَقَالَ الْخَطِيب: بنانة هم بَنو سعد بن غلب، وَأم سعد بنانة. قَوْله: (بِهَذَا) ، أَشَارَ إِلَى معنى الحَدِيث الْمَذْكُور، لِأَن اللَّفْظ مُخْتَلف فَافْهَم.
7 - (بَاب مَا يُذْكَرُ فِي المُناوَلَةِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يذكر فِي المناولة، وَهِي فِي اللُّغَة من: ناولته الشَّيْء فتناوله، من النوال. وَهُوَ الْعَطاء. وَفِي اصْطِلَاح الْمُحدثين هِيَ على نَوْعَيْنِ: احدهما: المقرونة بِالْإِجَازَةِ، كَمَا أَن يرفع الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب أصل سَمَاعه مثلا، وَيَقُول: هَذَا سَمَاعي، وأجزت لَك رِوَايَته عني، وَهَذِه حَالَة السماع عِنْد مَالك وَالزهْرِيّ وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، فَيجوز إِطْلَاق: حَدثنَا وَأخْبرنَا فِيهَا، وَالصَّحِيح أَنه منحط عَن دَرَجَته، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَئِمَّة، وَالْآخر المناولة الْمُجَرَّدَة عَن الْإِجَازَة بِأَن يناوله أصل السماع، كَمَا تقدم، وَلَا يَقُول لَهُ: أجزت لَك الرِّوَايَة عني، وَهَذِه لَا تجوز الرِّوَايَة بهَا على الصَّحِيح، وَمُرَاد البُخَارِيّ من الْبَاب الْقسم الأول. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق، وَفِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَفِي هَذَا الْبَاب وُجُوه التَّحَمُّل الْمُعْتَبرَة عِنْد الْجُمْهُور، والأبواب الثَّلَاثَة أَنْوَاع شَيْء وَاحِد وَلَا تُوجد مُنَاسبَة أقوى من هَذَا.
وكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ
وَكتاب: بِالْجَرِّ عطف على قَوْله فِي: المناولة، وَالتَّقْدِير: وَمَا يذكر فِي كتاب أهل الْعلم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ الْكتاب يحْتَمل عطفه على المناولة، وعَلى مَا يذكر، قلت: الْفرق بَينهمَا أَن لفظ الْكتاب يكون مجروراً فِي الأول: بِحرف الْجَرّ، وَفِي الثَّانِي: بِالْإِضَافَة، وَالْكتاب هُنَا مصدر وَكلمَة إِلَى، الَّتِي للغاية تتَعَلَّق بِهِ. وَقَوله: (إِلَى الْبلدَانِ) ، فِيهِ حذف، أَي: إِلَى أهل الْبلدَانِ، وَهُوَ جمع بلد، وَهَذَا على سَبِيل الْمِثَال دون الْقَيْد، لِأَن الحكم عَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل الْقرى والصحارى وَغَيرهمَا. ثمَّ اعْلَم أَن الْمُكَاتبَة هِيَ أَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب شَيْئا من حَدِيثه، وَهِي أَيْضا نَوْعَانِ: إِحْدَاهمَا: المقرونة بِالْإِجَازَةِ، وَالْأُخْرَى: المتجردة عَنْهَا. وَالْأولَى: فِي الصِّحَّة وَالْقُوَّة شَبيهَة بالمناولة المقرونة بِالْإِجَازَةِ. وَأما الثَّانِيَة: فَالصَّحِيح الْمَشْهُور فِيهَا أَنَّهَا تجوز الرِّوَايَة بهَا، بِأَن يَقُول: كتب إِلَيّ فلَان قَالَ: حَدثنَا بِكَذَا، وَقَالَ بَعضهم: يجوز حَدثنَا واخبرنا فِيهَا، وَقد سوى البُخَارِيّ الْكِتَابَة المقرونة بِالْإِجَازَةِ بالمناولة، وَرجح قوم المناولة عَلَيْهَا لحُصُول المشافهة بهَا، بِالْإِذْنِ دون الْمُكَاتبَة، وَقد جوز جمَاعَة من القدماء الْأَخْبَار فيهمَا، وَالْأول مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من اشْتِرَاط بَيَان ذَلِك.
وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمانُ المَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِها إِلَى الآفاقِ.
أنس: هُوَ ابْن مَالك الصَّحَابِيّ، خَادِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعُثْمَان: هُوَ ابْن عَفَّان، أحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، رَضِي الله عَنْهُم، والمصاحف بِفَتْح الْمِيم، جمع مصحف، وَيجوز فِي ميمه الحركات الثَّلَاث عَن ثَعْلَب، قَالَ: الْفَتْح: لُغَة صَحِيحَة فصيحة، وَقَالَ الْفراء: قد استثقلت الْعَرَب الضمة فِي حُرُوف، وكسروا ميمها، وَأَصلهَا الضَّم، من ذَلِك مصحف ومخدع ومطرف ومغزل(2/24)
ومجسد، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة فِي الْمَعْنى من: أصحفت، أَي: جمعت فِيهِ الصُّحُف، وأطرف، أَي جعل فِي طَرفَيْهِ علما، وأجسد، أَي: ألصق بالجسد، وَكَذَلِكَ المغزل، إِنَّمَا هُوَ أدير وفتل، وَقَالَ أَبُو زيد: تَمِيم تَقول بِكَسْر الْمِيم، وَقيس تَقول بضَمهَا. ثمَّ قُلْنَا: إِن الْمُصحف مَا جمعت فِيهِ الصُّحُف، والصحف، بِضَمَّتَيْنِ، جمع صحيفَة، والصحيفة: الْكتاب. قَالَ الله تَعَالَى {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} (الْأَعْلَى: 19) يَعْنِي: الْكتب الَّتِي أنزلت عَلَيْهِمَا، وأصل التَّرْكِيب يدل على انبساط فِي الشَّيْء وسعة، ثمَّ هَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ من قَوْله: قَالَ أنس: نسخ عُثْمَان الْمَصَاحِف، قِطْعَة من حَدِيث لأنس، رَضِي الله عَنهُ، ذكره البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن أنس: أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قدم على عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية، وَفِيه: فَفَزعَ حُذَيْفَة من اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة، فَقَالَ لعُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ: أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة، رَضِي الله عَنْهَا، أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف، ثمَّ نردها إِلَيْك. فَأرْسلت بهَا حَفْصَة إِلَى عُثْمَان، فَأمر زيد بن ثَابت، وَعبد اللَّه بن الزبير، وَسَعِيد بن الْعَاصِ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، رَضِي الله عَنْهُم، فنسخوها فِي الْمَصَاحِف، وَفِيه: حَتَّى إِذا نسخوا الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف، رد عُثْمَان الصُّحُف إِلَى حَفْصَة وَأرْسل إِلَى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا. وَفِي غير البُخَارِيّ: أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، بعث مُصحفا إِلَى الشَّام، ومصحفاً إِلَى الْحجاز، ومصحفاً إِلَى الْيمن، ومصحفاً إِلَى الْبَحْرين، وَأبقى عِنْده مُصحفا ليجتمع النَّاس على قِرَاءَة مَا يعلم ويتيقن. وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: أَكثر الْعلمَاء على أَن عُثْمَان كتب أَربع نسخ، فَبعث إِحْدَاهُنَّ إِلَى الْبَصْرَة، وَأُخْرَى إِلَى الْكُوفَة، وَأُخْرَى إِلَى الشَّام، وَحبس عِنْده أُخْرَى. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: كتب سَبْعَة، فَبعث إِلَى مَكَّة وَاحِدًا، وَإِلَى الشَّام آخر، وَإِلَى الْيمن آخر وَإِلَى الْبَحْرين آخر، وَإِلَى الْبَصْرَة آخر، وَإِلَى الْكُوفَة آخر، وَدلَالَة هَذَا على تَجْوِيز الرِّوَايَة بالمكاتبة ظَاهِرَة، فَإِن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَمرهم بالاعتماد على مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِف، وَمُخَالفَة مَا عَداهَا. والمستفاد من بَعثه الْمَصَاحِف إِنَّمَا هُوَ قبُول إِسْنَاد صُورَة الْمَكْتُوب بهَا، لَا أصل ثُبُوت الْقُرْآن، فَإِنَّهُ متواتر.
وَرَأَى عبدُ اللَّه بنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بنُ سَعِيدٍ ومالِكٌ ذَلكَ جَائِزا.
أَي: عبد اللَّه بن عمر بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، أَبُو عبد الرحمان الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَمَالك بن أنس الْمدنِي. أما عبد اللَّه ابْن عمر هَذَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: كنت أرى الزُّهْرِيّ يَأْتِيهِ الرجل بِكِتَاب لم يقرأه عَلَيْهِ، وَلم يقْرَأ عَلَيْهِ، فَيَقُول: أرويه عَنْك؟ فَيَقُول: نعم. وَقَالَ: مَا أَخذنَا نَحن وَلَا مَالك عَن الزُّهْرِيّ إِلَّا عرضا. وَأما يحيى وَمَالك فَإِن الْأَثر عَنْهُمَا بذلك أخرجه الْحَاكِم فِي (عُلُوم الحَدِيث) من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. قَالَ: سَمِعت خَالِي، مَالك بن أنس، يَقُول: قَالَ يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الْعرَاق: الْتقط لي مائَة حَدِيث من حَدِيث ابْن شهَاب، حَتَّى أرويها عَنْك! قَالَ مَالك: فكتبتها، ثمَّ بعثتها إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: عبد اللَّه بن عمر هَذَا، كنت أَظُنهُ، الْعمريّ الْمدنِي، ثمَّ ظهر لي، من قرينَة تَقْدِيمه فِي الذّكر على يحيى بن سعيد، أَنه لَيْسَ إِيَّاه، لِأَن يحيى بن سعيد أكبر مِنْهُ سنا وَقدرا، فتتبعته فَلم أَجِدهُ. عَن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب صَرِيحًا، وَلَكِن وجدت فِي (كتاب الْوَصِيَّة) لِابْنِ الْقَاسِم بن مَنْدَه من طَرِيق البُخَارِيّ بِسَنَد لَهُ صَحِيح إِلَى أبي عبد اللَّه الحبلي، بِضَم الْمُهْملَة وَالْمُوَحَّدَة، أَنه أَتَى عبد اللَّه بِكِتَاب فِيهِ أَحَادِيث، فَقَالَ انْظُر فِي هَذَا الْكتاب، فَمَا عرفت مِنْهُ أتركه، وَمَا لم تعرفه امحه. وَعبد اللَّه: يحْتَمل أَن يكون هوّ ابْن عمر بن الْخطاب فَأن الحبلي سمع مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِن الحبلي مَشْهُور بالرواية مِنْهُ. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن تَقْدِيم عبد اللَّه بن عمر الْمَذْكُور على يحيى بن سعيد لَا يسْتَلْزم أَن يكون هُوَ الْعمريّ الْمدنِي الْمَذْكُور، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ بَيَان الْمُلَازمَة. الثَّانِي: أَن قَول الحبلي: إِنَّه أَتَى عبد اللَّه، لَا يدل بِحَسب الِاصْطِلَاح إلاَّ على عبد اللَّه بن مَسْعُود، فَإِنَّهُ إِذا أطلق عبد اللَّه غير مَنْسُوب يفهم مِنْهُ عبد اللَّه بن مَسْعُود إِن كَانَ مَذْكُورا بَين الصَّحَابَة، وَعبد اللَّه بن الْمُبَارك إِن كَانَ فِيمَا بعدهمْ. الثَّالِث: أَنه إِن أَرَادَ من قَوْله: وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، أَن يكون المُرَاد من قَول البُخَارِيّ من: عبد اللَّه بن عمر، عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَذَاك غير صَحِيح، لِأَنَّهُ لم يثبت فِي نُسْخَة من نسخ البُخَارِيّ إِلَّا عبد اللَّه بن عمر، بِدُونِ الْوَاو، وَالَّذِي يظْهر لي أَن عبد اللَّه بن عمر هَذَا هُوَ الْعمريّ الْمدنِي كَمَا(2/25)
جزم بِهِ الْكرْمَانِي، مَعَ الِاحْتِمَال الْقوي أَنه عبد اللَّه بن عمر بن الْخَاطِب، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَلَا يلْزم من عدم وجدان هَذَا الْقَائِل مَعَ تتبعه عَن عبد اللَّه بن عمر فِي ذَلِك شَيْئا صَرِيحًا أَن لَا يكون عَنهُ رِوَايَة فِي هَذَا الْبَاب، وَأَن لَا يكون هُوَ عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا. قَوْله: (ذَلِك جَائِزا) إِشَارَة إِلَى كل وَاحِد من: المناولة وَالْكِتَابَة بِاعْتِبَار الْمَذْكُور، وَقد وَردت الْإِشَارَة بذلك إِلَى الْمثنى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 68) .
ثمَّ اعْلَم أَن البُخَارِيّ، رَحمَه الله، بوب على أَعلَى الْإِجَازَة، وَنبهَ على جنس الْإِجَازَة بِذكر نَوْعَيْنِ مِنْهَا، فَهَذِهِ ثَمَانِيَة أوجه لأصول الرِّوَايَة، وَقد تقدّمت الثَّلَاثَة الأول فِي الْبَابَيْنِ الْأَوَّلين. وَأما الرَّابِع: فالمناولة المقرونة بِالْإِجَازَةِ، وَصورتهَا أَن يَقُول الشَّيْخ: هَذِه روايتي، أَو حَدِيثي عَن فلَان، فاروه عني، أَو: أجزت لَك رِوَايَته عني، ثمَّ يملكهُ الْكتاب. أَو يَقُول: خُذْهُ وانسخه، وقابل بِهِ ثمَّ رده إِلَيّ، أَو نَحوه، أَو يَأْتِي إِلَيْهِ بِكِتَاب فيتأمله الشَّيْخ الْعَارِف المتيقظ ويعيده إِلَيْهِ، فَيَقُول لَهُ: وقفت على مَا فِيهِ وَهُوَ رِوَايَته، فاروه عني. أَو: أجزت لَك ذَلِك، وَهَذَا كالسماع بِالْقُوَّةِ عِنْد جمَاعَة، حَكَاهُ الْحَاكِم عَنْهُم، مِنْهُم: الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَيحيى الْأنْصَارِيّ، وَمُجاهد، وَابْن الزبير، وَابْن عُيَيْنَة فِي جمَاعَة من المكيين و: عَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم وَقَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة وَابْن وهب وَابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَغَيرهم، وروى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد اللَّه الْعمريّ أَنه قَالَ: دفع إِلَيّ ابْن شهَاب صحيفَة فَقَالَ: إنسخ مَا فِيهَا وَحدث بِهِ عني. قلت: أَو يجوز ذَلِك؟ قَالَ: نعم، ألم تَرَ إِلَى الرجل يشْهد على الْوَصِيَّة وَلَا يفتحها، فَيجوز ذَلِك وَيُؤْخَذ بِهِ. قَالَ أَبُو عمر وَابْن الصّلاح: وَالصَّحِيح أَنَّهَا منحطة عَن السماع وَالْقِرَاءَة، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، والبويطي والمزني صَاحِبيهِ، وَأحمد وَإِسْحَاق وَيحيى بن يحيى، وَمِنْه أَن يناول الشَّيْخ الطَّالِب سَمَاعه ويخبره بِهِ، ثمَّ يمسِكهُ الشَّيْخ، وَهَذِه دونه، لكنه يجوز الرِّوَايَة بهَا إِذا وجد الْكتاب أَو مَا قوبل بِهِ كَمَا يعْتَبر فِي الْإِجَازَة الْمُجَرَّدَة فِي معِين. الْخَامِس: المناولة الْمُجَرَّدَة، مثل أَن يناوله مُقْتَصرا على قَوْله: هَذَا سَمَاعي، وَلَا يَقُول إروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته، وَنَحْوه. قَالَ ابْن الصّلاح: لَا يجوز الرِّوَايَة بهَا على الصَّحِيح، وَقد أجَاز بهَا الرِّوَايَة جمَاعَة. السَّادِس: الْكِتَابَة المقرونة، مثل أَن يكْتب مسموعه لغَائِب أَو حَاضر بِخَطِّهِ أَو بأَمْره، وَيَقُول: أجزت لَك مَا كتبت إِلَيْك، وَنَحْوه، وَهِي مثل المناولة فِي الصِّحَّة وَالْقُوَّة. السَّابِع: الْكِتَابَة الْمُجَرَّدَة، أجازها الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم أَيُّوب وَمَنْصُور وَاللَّيْث وَأَصْحَاب الْأُصُول وَغَيرهم، وعدوه من الْمَوْصُول لإشعاره بِمَعْنى الْإِجَازَة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: هِيَ أقوى من الْإِجَازَة، واكتفوا فِيهَا بِمَعْرِِفَة الْخط. وَالصَّحِيح أَنه يَقُول فِي الرِّوَايَة بهَا: كتب إِلَيّ فلَان، أَو أَخْبرنِي كِتَابَة، وَنَحْوه. وَلَا يجوز إِطْلَاق: حَدثنَا وَأخْبرنَا فِيهِ، وأجازهما اللَّيْث وَمَنْصُور وَغَيرهم. الثَّامِن: الْإِجَازَة، وأقواها أَن يُجِيز معينا لمُعين، كأجزتك البُخَارِيّ وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فهرسته، وَالصَّحِيح جَوَاز الرِّوَايَة وَالْعَمَل، وَقَالَ الْبَاجِيّ: لَا خلاف فِي جَوَاز الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِالْإِجَازَةِ، وَادّعى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْعَمَل. وَقَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: وَالصَّحِيح ثُبُوت الْخلاف، وَجَوَاز الرِّوَايَة بهَا، إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول جمَاعَة. وَقَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم قَالَ: سَأَلت مَالِكًا عَن الْإِجَازَة، فَقَالَ: لَا أرى ذَلِك، وَإِنَّمَا يُرِيد أحدهم أَن يُقيم الْمقَام الْيَسِير وَيحمل الْعلم الْكثير. وَقَالَ الْخَطِيب: قد ثَبت عَن مَالك أَنه كَانَ يصحح الرِّوَايَة وَالْإِجَازَة بهَا، وَيحمل هَذَا القَوْل من مَالك على كَرَاهَة أَن يُجِيز الْعلم لمن لَيْسَ من أَهله وَلَا خدمه. وَمِنْهَا: أَن يُجِيز غير معيّن بِوَصْف الْعُمُوم، كأجزت الْمُسلمين، وَأهل زماني. فَفِيهِ خلاف الْمُتَأَخِّرين.
واحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحجَازِ فِي المُناوَلَةِ بِحَدِيثِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيثُ كَتبَ لأَمِيرِ السَّريَّةِ كِتَاباً وَقَالَ: (لَا تقْرَأْهُ حتَّى تَبْلُغَ مَكانَ كَذَا وكَذا) فَلمَّا بَلَغَ ذَلكَ المَكانَ قَرَأَهُ على النَّاسِ وأخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
المُرَاد من بعض أهل الْحجاز هُوَ الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ احْتج فِي المناولة أَي فِي صِحَة المناولة، بِحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا الحَدِيث لم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه مَوْصُولا. وَله طَرِيقَانِ: أَحدهمَا مُرْسل ذكره ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَن زيد بن بن رُومَان، وَأَبُو الْيَمَان فِي نسخته عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، كِلَاهُمَا عَن عُرْوَة بن الزبير. وَالْآخر مَوْصُول: أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث البَجلِيّ بِإِسْنَاد حسن، وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ(2/26)
الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره. الثَّانِي: وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه جَازَ لَهُ الْإِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِيهِ، وَإِن كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، لم يقرأه وَلَا هُوَ قَرَأَ عَلَيْهِ، فلولا أَنه حجَّة لم يجب قبُوله، فَفِيهِ المناولة وَمعنى الْكِتَابَة وَيُقَال: فِيهِ نظر، لِأَن الْحجَّة إِنَّمَا وَجَبت بِهِ لعدم توهم التبديل والتغيير فِيهِ لعدالة الصَّحَابَة، بِخِلَاف من بعدهمْ. حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قلت: شَرط قيام الْحجَّة بِالْكِتَابَةِ أَن يكون الْكتاب مَخْتُومًا، وحامله مؤتمناً، والمكتوب إِلَيْهِ يعرف الشَّيْخ، إِلَى غير ذَلِك من الشُّرُوط، لتوهم التَّغْيِير. الثَّالِث: قَوْله: أهل الْحجاز، هِيَ بِلَاد سميت بِهِ لِأَنَّهَا حجزت بَين نجد والغور، وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة ويمامة ومخاليفها، أَي: قراها: كخيبر للمدينة، والطائف لمَكَّة شرفها الله تَعَالَى. قَوْله: (امير السّريَّة) اسْمه عبد اللَّه بن جحش الْأَسدي، أَخُو زَيْنَب، أم الْمُؤمنِينَ. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: عبد اللَّه بن جحش ابْن ربَاب، أَخُو أبي أَحْمد وَزَيْنَب زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأم حَبِيبَة وَحمْنَة أخوهم عبيد اللَّه، تنصر بِأَرْض الْحَبَشَة. وَعبد اللَّه وَأَبُو أَحْمد كَانَا من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين. وَعبد اللَّه يُقَال لَهُ: المجدع، شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم أحد بعد أَن قطع أَنفه وَأذنه. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَت هَذِه السّريَّة أول سَرِيَّة غنم فِيهَا الْمُسلمُونَ، وَكَانَت فِي رَجَب من السّنة الثَّانِيَة قبل بدر الْكُبْرَى، بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ ثَمَانِيَة رَهْط من الْمُهَاجِرين، وَكتب لَهُ كتابا وَأمره أَن لَا ينظر حَتَّى يسير يَوْمَيْنِ، ثمَّ ينظر فِيهِ، فيمضي لما أَمر بِهِ، وَلَا يستكره من أَصْحَابه أحدا، فَلَمَّا سَار يَوْمَيْنِ فَتحه، فَإِذا فِيهِ: إِذا نظرت فِي كتابي هَذَا فأمضِ حَتَّى تنزل نَخْلَة، بَين مَكَّة والطائف، فترصد بهَا قُريْشًا، وَتعلم لنا أخبارهم، وَفِيه: وَقتلُوا عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ فِي أول يَوْم من رَجَب واستأسروا اثْنَيْنِ، فَأنْكر عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: مَا أَمرتكُم بِقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام. وَقَالَت قُرَيْش: قد اسْتحلَّ مُحَمَّد الشَّهْر الْحَرَام، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير} (الْبَقَرَة: 217) فَهَذِهِ أول غنيمَة، وَأول أَسِير، وَأول قَتِيل قَتله الْمُسلمُونَ انْتهى. والسرية، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: قِطْعَة من الْجَيْش.
64 - حدّثنا إسمْاعِيلُ بن عبدِ اللَّه قَالَ: حدّثني إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَن صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ عَن عُبَيْدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعودٍ أنّ عبدَاللَّه بنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنْ رسولَ اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ بِكِتابِهِ رَجُلاً وأَمَرَهُ أَن يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البْحَرَيْنِ، فدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْن إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أنّ ابنَ المُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعا عَلَيْهِم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث لجزئي التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما للجزء الأول فَمن حَيْثُ إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ناول الْكتاب لرَسُوله، وَأمر أَن يخبر عَظِيم الْبَحْرين أَن هَذَا الْكتاب كتاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن لم يكن سمع مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ، وَأما للجزء الثَّانِي فَمن حَيْثُ إِنَّه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب كتابا وَبَعثه إِلَى عَظِيم الْبَحْرين ليَبْعَثهُ إِلَى كسْرَى، وَلَا شكّ أَنه كتاب من سَيِّدي ذَوي الْعُلُوم إِلَى بعض الْبلدَانِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة، الأول: إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، وَهُوَ ابْن أبي أويس الْمدنِي. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد، سبط عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان الْغِفَارِيّ الْمدنِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس، وَالْكل قد مر ذكرهم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث، بِالْجمعِ والإفراد، والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح، وَفِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن يُونُس، وَفِي الْجِهَاد عَن عبد اللَّه بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن عقيل، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي السّير عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، قَاضِي دمشق، عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد الْهَاشِمِي عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان وَابْن أخي الزُّهْرِيّ، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بكتابه رجلا) أَي: بعث رجلا ملتبساً بكتابه مصاحباً لَهُ، وانتصاب رجلا، على المفعولية. قَوْله:(2/27)
(وَأمره) عطف على: بعث. قَوْله: (أَن يَدْفَعهُ) ، أَي: بِأَن يَدْفَعهُ، و: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بِدَفْعِهِ. قَوْله: (فَدفعهُ) ، مَعْطُوف على مُقَدّر: أَي: فَذهب إِلَى عَظِيم الْبَحْرين فَدفعهُ إِلَيْهِ، ثمَّ بَعثه الْعَظِيم إِلَى كسْرَى فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى: فَاء: الفصيحة. قَوْله: (مزقه) ، جَوَاب: لما. قَوْله: (إِن ابْن الْمسيب) ، فِي مَحل النصب على أَنه أحد مفعولي: حسبت. قَوْله: (قَالَ) ، جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان: لحسبت. قَوْله: (فَدَعَا) مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: لما مزقه، وَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك غضب فَدَعَا، والمحذوف هُوَ مقول القَوْل. قَوْله: (أَن يمزقوا) ، أَي: بِأَن يمزقوا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، أَي: بالتمزيق. قَوْله: (كل ممزق) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على النِّيَابَة عَن الْمصدر، كَمَا فِي قَوْله.
(يظنان كل الظَّن أَن لَا تلاقيا)
والممزق، بِفَتْح الزَّاي، مصدر على وزن اسْم الْمَفْعُول بِمَعْنى: التمزيق.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (رجلا) ، هُوَ عبد اللَّه بن حذافة السَّهْمِي، وَقد سَمَّاهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي، وحذافة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف فَاء، ابْن قيس بن عدي بن سعد، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْعين، ابْن سهم بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي، أَخُو خُنَيْس بن حذافة، زوج حَفْصَة. أَصَابَته جِرَاحَة بِأحد، فَمَاتَ مِنْهَا، وَخلف عَلَيْهَا بعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعبد اللَّه هُوَ الَّذِي قَالَ: (يَا رَسُول الله من أبي؟ قَالَ: أَبوك حذافة، أسلم قَدِيما وَكَانَ من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، وَكَانَت فِيهِ دعابة) . وَقيل: إِنَّه شهد بَدْرًا، وَلم يذكرهُ الزُّهْرِيّ وَلَا مُوسَى بن عقبَة، وَلَا ابْن إِسْحَاق فِي الْبَدْرِيِّينَ، وأسره الرّوم فِي زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فأرادوه على الْكفْر. وَله فِي ذَلِك قصَّة طَوِيلَة، وَآخِرهَا: أَنه قَالَ لَهُ ملكهم: قبِّل رَأْسِي أطلقك. قَالَ: لاَ، قَالَ لَهُ: وَأطلق من مَعَك من أسرى الْمُسلمين، فَقبل رَأسه، فَأطلق مَعَه ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. فَكَانَ الصَّحَابَة يَقُولُونَ لَهُ: قبَّلت رَأس علج. فَيَقُول: اطلق الله بِتِلْكَ الْقبْلَة ثَمَانِينَ أَسِيرًا من الْمُسلمين. توفّي عبد اللَّه فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (عَظِيم الْبَحْرين) هُوَ الْمُنْذر بن ساوي، بِالسِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، والبحرين بلد بَين الْبَصْرَة وعمان، هَكَذَا يُقَال، بِالْيَاءِ، وَفِي (الْعباب) : قَالَ الحذاق: يُقَال هَذِه البحران، وانتهينا إِلَى الْبَحْرين. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّمَا ثنوا الْبَحْرين لِأَن فِي نَاحيَة قراها بحيرة على بَاب الأحساء، وقرى هَجَر بَينهَا وَبَين الْبَحْر الْأَخْضَر عشرَة فراسخ، قَالَ: وقدرت الْبحيرَة بِثَلَاثَة أَمْيَال فِي مثلهَا، وَلَا يغيض مَاؤُهَا راكد زعاق، وَالنِّسْبَة إِلَى الْبَحْرين: بحراني. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد اليزيدي: سَأَلَني الْمهْدي، وَسَأَلَ الْكسَائي عَن النِّسْبَة إِلَى الْبَحْرين، وَإِلَى حصنين: لم قَالُوا: بحراني وحصني؟ فَقَالَ الْكسَائي: كَرهُوا أَن يَقُولُوا: حصناني، لِاجْتِمَاع النونين. وَقلت: إِنَّمَا كَرهُوا أَن يَقُولُوا: بحري، فَيُشبه النِّسْبَة إِلَى الْبَحْر. قلت: قد صَالح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الْبَحْرين، وَأمر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ، وَبعث أَبَا عُبَيْدَة فَأتى بجزيتها، وَقد ذكرنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ إِلَى الْمُنْذر بن ساوي الْعَبْدي، ملك الْبَحْرين، فَصدق واسلم. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يقل: إِلَى ملك الْبَحْرين؟ وَقَالَ: عَظِيم الْبَحْرين؟ قلت: لِأَنَّهُ لَا ملك وَلَا سلطنة للْكفَّار، إِذْ الْكل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن ولاه. قَوْله: (إِلَى كسْرَى) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن الجواليقي: الْكسر أفْصح، وَهُوَ فَارسي مُعرب: خسرو، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَجمعه أكاسرة، على غير قِيَاس، لِأَن قِيَاسه: كسرون، بِفَتْح الرَّاء. وَقد ذكرنَا فِي قصَّة هِرقل أَن: كسْرَى، لقب لكل من ملك الْفرس، كَمَا أَن: قَيْصر، لقبٌ لكل من ملك الرّوم. وَالَّذِي مزق الْكتاب من الأكاسرة هُوَ برويز بن هُرْمُز بن أنوشروان، وَلما مزق الْكتاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مزق ملكه) . وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا مَاتَ كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده) . قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَسلط على كسْرَى ابْنه شرويه وَقَتله سنة سبع، فتمزق ملكه كل ممزق، وَزَالَ من جَمِيع الأَرْض واضمحل بدعوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ أنو شرْوَان هُوَ الَّذِي ملك النُّعْمَان بن الْمُنْذر على الْعَرَب، وَهُوَ الَّذِي قَصده سيف بن ذِي يزن يستنصره على الْحَبَشَة، فَبعث مَعَه قائداً من قواده، فنفوا السودَان. وَكَانَ ملكه سبعا وَأَرْبَعين سنة وَسَبْعَة أشهر. وَقَالَ ابْن سعد: لما مزق كسْرَى كتاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث إِلَى باذان، عَامله فِي الْيمن، أَن ابْعَثْ من عنْدك رجلَيْنِ جلدين إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي بالحجاز فليأتياني بِخَبَرِهِ، فَبعث باذان قهرمانه ورجلاً آخر، وَكتب مَعَهُمَا كتابا، فَقدما الْمَدِينَة فدفعا كتاب باذان إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَتَبَسَّمَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودعاهما إِلَى الْإِسْلَام وفرائصهما ترْعد، وَقَالَ لَهما: (أبلغا صاحبكما أَن رَبِّي قتل ربه كسْرَى فِي هَذِه اللَّيْلَة لسبع سَاعَات مَضَت مِنْهَا) ، وَهِي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لعشر مضين من جُمَادَى الأولى سنة سبع، وَأَن الله سلط عَلَيْهِ ابْنه شرويه فَقتله. وَقَالَ ابْن هِشَام: لما مَاتَ وهرز الَّذِي كَانَ بِالْيمن على جَيش الْفرس، أَمر كسْرَى ابْنه، يَعْنِي ابْن وهرز، ثمَّ عَزله وَولى باذان، فَلم يزل عَلَيْهَا حَتَّى بعث الله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: فبلغني عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: كتب كسْرَى إِلَى(2/28)
باذان: إِنَّه بَلغنِي أَن رجلا من قُرَيْش يزْعم أَنه نَبِي، فسر إِلَيْهِ فاستتبه، فَإِن تَابَ وإلاَّ فَابْعَثْ إِلَيّ بِرَأْسِهِ. فَبعث باذان بكتابه إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكتب إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله وَعَدَني بقتل كسْرَى فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا من شهر كَذَا وَكَذَا) . فَلَمَّا أَتَى باذانَ الكتابُ قَالَ: إِن كَانَ نَبيا سَيكون مَا قَالَ. فَقتل الله كسْرَى فِي الْيَوْم الَّذِي قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الزُّهْرِيّ: فَلَمَّا بلغ باذان بعث بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَام من مَعَه من الْفرس. قَوْله: (فحسبت) الْقَائِل هُوَ: ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، رَاوِي الحَدِيث. أَي قَالَ الزُّهْرِيّ. ظَنَنْت أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ ... إِلَى آخِره.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة بِالْعلمِ إِلَى الْبلدَانِ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الدُّعَاء على الْكفَّار إِذا أساؤوا الْأَدَب وأهانوا الدّين. الثَّالِث: فِيهِ أَن الرجل الْوَاحِد يجزىء فِي حمل كتاب الْحَاكِم إِلَى الْحَاكِم، وَلَيْسَ من شَرطه أَن يحملهُ شَاهِدَانِ كَمَا تصنع الْقُضَاة الْيَوْم، قَالَه ابْن بطال. قلت: إِنَّمَا حملُوا على شَاهِدين لما دخل على النَّاس من الْفساد، فاحتيط لتحصين الدِّمَاء والفروج وَالْأَمْوَال بِشَاهِدين.
65 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أُبو الحَسَنِ أخْبَرَنا عبدُ اللَّهِ قَالَ: أخْبَرَنا شُعْبَةُ عَن قَتادَةَ عَن أَنَسِ بْنِ مالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَاباً أَو أَرادَ أنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ: إنِّهمْ لاَ يقْرَأُنَ كِتاباً إلاَّ مَخْتُوماً، فاتَّخَذَ خاتَماً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رسولُ الله، كأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمدٌ رسولُ الله؟ قَالَ أنَسٌ..
هَذَا يُطَابق الْجُزْء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَهُوَ ظَاهر.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مقَاتل، بِصِيغَة الْفَاعِل، من الْمُقَاتلَة بِالْقَافِ وبالمثناة من فَوق، الْمروزِي، شيخ البُخَارِيّ، انْفَرد بِهِ عَن الْأَئِمَّة الْخَمْسَة، روى عَن ابْن الْمُبَارك ووكيع، وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَمُحَمّد بن عبد الرحمان النَّسَائِيّ. قَالَ الْخَطِيب: كَانَ ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق، توفّي آخر سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد اللَّه بن الْمُبَارك، وَقد تقدم ذكره. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي. الْخَامِس: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، وَقد تقدمُوا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وواسطي وبصري، وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن الْجَعْد، وَفِي اللبَاس عَن آدم، وَفِي الْأَحْكَام عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة، وَفِي السّير، وَفِي الْعلم، وَفِي التَّفْسِير عَن حميد بن مسْعدَة عَن بشر بن الْمفضل، خمستهم عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (مَخْتُومًا) ، من ختمت الشَّيْء ختماً فَهُوَ مختوم، ومختم، شدد للْمُبَالَغَة، وَختم الله لَهُ بِالْخَيرِ، وختمت الْقُرْآن: بلغت آخِره، واختتمت الشَّيْء نقيض افتتحت. قَوْله: (خَاتمًا) فِيهِ لُغَات، الْمَشْهُور مِنْهَا أَرْبَعَة: فتح التَّاء، وَكسرهَا، وخاتام، وخيتام، وَالْجمع: الْخَوَاتِم. وتختمت إِذا لبسته، والختام الَّذِي يخْتم بِهِ. قَوْله: (نقشه) ، من نقشت الشَّيْء فَهُوَ منقوش، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: النقش نقشك الشَّيْء بلونين، أَو ألوان كَائِنا مَا كَانَ، والنقاش الَّذِي ينقشه والنقاشة حرفته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (كتابا) مفعول كتب، وَهُوَ مفعول بِهِ لِأَن الْكتاب هُنَا اسْم غير مصدر. قَوْله: (أَن يكْتب) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول: أَرَادَ، وَأَن، مَصْدَرِيَّة أَي: الْكِتَابَة. قَوْله: (إلاَّ مَخْتُومًا) ، نصب على الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ من كَلَام غير مُوجب. قَوْله: (خَاتمًا) مفعول إتخذ، وَكلمَة: من، فِي: من فضَّة، بَيَانِيَّة. قَوْله: (نقشه) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. وَقَوله: (مُحَمَّد رَسُول الله) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، خبر الْمُبْتَدَأ. فَإِن قلت: الْجُمْلَة إِذا وَقعت خَبرا لَا بُد لَهَا من عَائِد. قلت: إِذا كَانَ الْخَبَر عين الْمُبْتَدَأ لَا حَاجَة إِلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهِي وَإِن كَانَت جملَة، وَلكنهَا فِي تَقْدِير الْمُفْرد، تَقْدِيره: نقشه هَذِه الْكَلِمَات. قلت: هَذِه الْكَلِمَات، أَيْضا جملَة، لِأَنَّهَا مُبْتَدأ وَخبر. قَوْله: (كَأَنِّي) أصل: كَأَن، للتشبيه لَكِنَّهَا هَهُنَا للتحقيق، ذكره الْكُوفِيُّونَ والزجاج، وَمَعَ هَذَا لَا يَخْلُو عَن معنى التَّشْبِيه. قَوْله: (أنظر إِلَى بياضه) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: كَأَن. قَوْله: (فِي يَده) حَال إِمَّا من الْبيَاض، أَو من الْمُضَاف إِلَيْهِ، أَي كَأَنِّي انْظُر إِلَى بَيَاض الْخَاتم حَال كَون الْخَاتم فِي يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: الْخَاتم لَيْسَ فِي الْيَد، بل فِي(2/29)
الاصبع. قلت: هَذَا من قبيل إِطْلَاق الْكل وارادة الْجُزْء. فَإِن قلت: الإصبع فِي خَاتم لَا الْخَاتم فِي الإصبع. قلت: هُوَ من بَاب الْقلب، نَحْو: عرضت النَّاقة على الْحَوْض. قَوْله: (مَنْ قَالَ) ، جملَة إسمية: وَمن، إستفهامية. لَا وَقَوله: (نقشه: مُحَمَّد رَسُول الله) ، مقول القَوْل. قَوْله: (قَالَ: أنس) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، ومقول القَوْل مَحْذُوف، أَي: قَالَ أنس: نقشه مُحَمَّد رَسُول الله.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كتابا) أَي: إِلَى الْعَجم أَو إِلَى الرّوم، فقد جَاءَ الرِّوَايَتَانِ صريحتين بهما فِي كتاب اللبَاس. قَوْله: (أَو أَرَادَ أَن يكْتب) شكّ من الرَّاوِي، وَقيل: هُوَ أنس. قَوْله: (إِنَّهُم) أَي: إِن الرّوم والعجم، وَلَا يُقَال: إِنَّه، إضمارٌ قبل الذّكر لقِيَام الْقَرِينَة، وَهِي قَوْله: (لَا يقرأون الْكتاب إلاَّ مَخْتُومًا) ، وَكَانُوا لَا يقرأون إِلَّا مَخْتُومًا خوفًا من كشف أسرارهم، وإشعاراً بِأَن الْأَحْوَال المعروضة عَلَيْهِم يَنْبَغِي أَن يكون مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهَا غَيرهم، وَعَن أنس: إِن ختم كتاب السُّلْطَان والقضاة سنة متبعة. وَقد قَالَ بَعضهم: هُوَ سنة لفعل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد قيل فِي قَوْله تعالي: {إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم} (النَّمْل: 29) إِنَّهَا إِنَّمَا قَالَت ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مَخْتُومًا. وَفِي ذَلِك أَيْضا مخالقة النَّاس بأخلاقهم، واستئلاف الْعَدو بِمَا لَا يضر، وَقد جَاءَ فِي بعض طرقه عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ، لما أَرَادَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يكْتب إِلَى الرّوم، وَفِي بَعْضهَا إِلَى الرَّهْط أَو النَّاس من الْأَعَاجِم، وَفِي مُسلم (أَرَادَ أَن يكْتب إِلَى كسْرَى وَقَيْصَر وَالنَّجَاشِي، فَقيل لَهُ: إِنَّهُم لَا يقبلُونَ كتابا إلاَّ مَخْتُومًا)
وَذكر الحَدِيث. فَإِن قلت: مَا كَانَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يكْتب؟ فَكيف قَالَ: كتب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ باسناد الْكِتَابَة إِلَيْهِ. قلت: قد نقل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب بِيَدِهِ، وَسَيَجِيءُ، إِن شَاءَ الله فِي كتاب الْجِهَاد، وَإِن ثَبت أَنه لم يكْتب أصلا يكون الْإِسْنَاد فِيهِ مجازياً، نَحْو: كتب الْأَمِير كتابا، أَي: كتبه الْكَاتِب بأَمْره، والقرينة للمجاز الْعرف، لِأَن الْعرف أَن الْأَمِير لَا يكْتب الْكتاب بِنَفسِهِ. قَوْله: (فَقلت) ، الْقَائِل هُوَ: شُعْبَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة بِالْعلمِ إِلَى الْبلدَانِ. الثَّانِي: جَوَاز الْكِتَابَة إِلَى الْكفَّار. الثَّالِث: فِيهِ ختم الْكتاب للسُّلْطَان والقضاة والحكام. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز اسْتِعْمَال الْفضة للرِّجَال عِنْد التَّخَتُّم، وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على جَوَاز اتِّخَاذ الْخَوَاتِم من الْوَرق وَهِي الْفضة للرِّجَال إلاَّ مَا رُوِيَ عَن بعض أهل الشَّام من كَرَاهَة لبسه إلاَّ لذِي سُلْطَان، وَهُوَ شَاذ مَرْدُود، وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم خَاتم الذَّهَب على الرِّجَال، إلاَّ مَا رُوِيَ عَن أبي بكر مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم إِبَاحَته، وَرُوِيَ عَن بَعضهم كَرَاهَته. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَانِ النقلان باطلان، وَحكى الْخطابِيّ أَنه يكره للنِّسَاء التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ من زِيّ الرِّجَال، ورد عَلَيْهِ ذَلِك. قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَنه لَا يكره لَهَا ذَلِك، وَقَول الْخطابِيّ ضَعِيف أَو بَاطِل لَا أصل لَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: فِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد. مِنْهَا: نسخ جَوَاز لبس خَاتم الذَّهَب بعد أَن كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لبسه، وَلَا يُعَارض ذَلِك مَا جَاءَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم عَن أنس أَنه رأى فِي يَد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمًا من ورق يَوْمًا وَاحِدًا، ثمَّ إِن النَّاس اصطنعوا الْخَاتم من ورق فَلَبِسُوهَا، فَطرح رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَاتمه، فَطرح النَّاس خواتيمهم، رَوَاهُ يُونُس وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَزِيَاد، وزاده أَبُو دَاوُد وَابْن مُسَافر، فَهَؤُلَاءِ خَمْسَة من رُوَاة الزُّهْرِيّ الثِّقَات يَقُولُونَ عَنهُ: من ورق، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اجْمَعْ أهل الحَدِيث أَن هَذَا وهم من ابْن شهَاب، من خَاتم الذَّهَب إِلَى خَاتم الْوَرق، وَالْمَعْرُوف من رِوَايَة أنس من غير طَرِيق ابْن شهَاب اتِّخَاذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتم فضَّة، وَأَنه لم يطرحه، وَإِنَّمَا طرح خَاتم الذَّهَب. وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره: وَقد يُمكن أَن يتَأَوَّل لِابْنِ شهَاب مَا يَنْفِي عَنهُ الْوَهم، وَإِن كَانَ الْوَهم أظهر بِاحْتِمَال أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما عزم على طرح خَاتم الذَّهَب اصْطنع خَاتم الْفضة، بِدَلِيل أَنه لَا يَسْتَغْنِي عَن الْخَتْم بِهِ على الْكتب إِلَى الْبلدَانِ، وأجوبة الْعمَّال وَغَيرهمَا، فَلَمَّا لبس خَاتم الْفضة أرَاهُ النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم ليعلمهم إِبَاحَته، وَأَن يصطنعوا مثله ثمَّ طرح خَاتم الذَّهَب وأعلمهم تَحْرِيمه، فَطرح النَّاس خَوَاتِيم الذَّهَب. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز نقش الْخَاتم، وَنقش اسْم صَاحب الْخَاتم، وَنقش اسْم الله تَعَالَى فِيهِ، بل فِيهِ كَونه مَنْدُوبًا، وَهُوَ قَول مَالك وَابْن الْمسيب وَغَيرهمَا، وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين. وَأما نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن ينقش أحد على نقش خَاتمه، فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا نقش فِيهِ ذَلِك ليختم بِهِ كتبه إِلَى الْمُلُوك، فَلَو نقش على نقشه لدخلت الْمفْسدَة وَحصل الْخلَل.(2/30)
8 - (بَاب مَنْ قعَدَ حَيْث يَنْتَهِي بِه المَجْلِسُ ومَنْ رَأى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيها)
الْكَلَام فِيهِ على نَوْعَيْنِ: الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من قعد ... إِلَى آخِره، وَهُوَ مَرْفُوع على الخبرية مُضَاف إِلَى من، وَهِي مَوْصُولَة، و: قعد، جملَة الْفِعْل وَالْفَاعِل صلتها، و: حَيْثُ، ظرف للمكان مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة محلا، وَبني على الضَّم تَشْبِيها بالغايات. وَمن الْعَرَب من يعربه. قَوْله: (الْمجْلس) ، مَرْفُوع بقوله: يَنْتَهِي. قَوْله: (وَمن رأى) عطف على: من قعد، و (الفرجة) بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، لُغَتَانِ، وَهِي الْخلَل بَين الشَّيْئَيْنِ؛ قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ النّحاس: الفرجة، بِالْفَتْح، فِي الْأَمر، والفرجة بِالضَّمِّ فِيمَا يرى من الْحَائِط وَنَحْوه، وَفِي (الْعباب) : الفرجة، بِالْكَسْرِ، والفرجة بِالضَّمِّ لُغَتَانِ فِي فُرْجَة الْهم. وَقَالَ أَيْضا: الفرجة يَعْنِي، بِالْفَتْح: التفصي من الْهم. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الفرجة: الرَّاحَة من الْغم، وَذكر فِيهَا فتح الْفَاء وَضمّهَا وَكسرهَا، وَقد فرج لَهُ فِي الْحلقَة والصف وَنَحْو ذَلِك، بِفَتْح الْعين، يفرج بضَمهَا، وَلم يذكر الْجَوْهَرِي فِي الفرجة بَين الشَّيْئَيْنِ غير الضَّم، وَفِي التفصي من الْهم غير الْفَتْح، وَأنْشد عَلَيْهِ:
(رُبمَا تكره النُّفُوس من الْأُم ... ر لَهُ فُرْجَة كحل العقال)
(وَالْحَلقَة) ، هُنَا بِإِسْكَان اللَّام، وَحكى الْجَوْهَرِي فتحهَا، وَالْأول أشهر. وَفِي (الْعباب) : الْحلقَة، بالتسكين: الدروع، وَكَذَلِكَ حَلقَة الْبَاب، وحلقة الْقَوْم، وَالْجمع الْحلق على غير قِيَاس، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْجمع الْحلق، مِثَال: بدرة وَبدر، وقصعة وقصع. وَنهى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْحلق قبل الصَّلَاة، يَعْنِي صَلَاة الْجُمُعَة، نَهَاهُم عَن التحليق والاجتماع على مذاكرة الْعلم قبل الصَّلَاة، وَحكى يُونُس عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: حَلقَة، فِي الْوَاحِد بِالتَّحْرِيكِ. وَالْجمع: حلق وحلقات. وَقَالَ ثَعْلَب: كلهم يُجِيز ذَلِك على ضعف. وَقَالَ الْفراء فِي نوادره: الْحلقَة، بِكَسْر اللَّام، لُغَة لِلْحَارِثِ بن كَعْب فِي الْحلقَة وَالْحَلقَة. وَقَالَ ابْن السّكيت: سَمِعت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ يَقُول: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب حَلقَة، بِالتَّحْرِيكِ، إلاَّ فِي قَوْلهم: هَؤُلَاءِ حَلقَة، للَّذين يحلقون الشّعْر جمع حالق. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول فِيهِ ذكر المناولة، وَهِي تكون فِي مجْلِس الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان شَأْن من يَأْتِي إِلَى الْمجْلس كَيفَ يقْعد، وَالْمرَاد مِنْهُ مجْلِس الْعلم، وَقَالَ بَعضهم: مُنَاسبَة هَذَا الْبَاب لكتاب الْعلم من جِهَة أَن المُرَاد بالحلقة: حَلقَة الْعلم، فَيدْخل فِي آدَاب الطَّالِب من هَذَا الْوَجْه. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ هَذَا بَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان وَجه مُنَاسبَة إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْعلم، وَلَيْسَ الْقُوَّة إلاَّ فِي بَيَان وُجُوه الْمُنَاسبَة بَين الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة فِي كتب هَذَا الْكتاب، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هَذَا الْبَاب حَقه أَن يَأْتِي عقب بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، أَو عقب بَاب: طرح الْمَسْأَلَة، لِأَن كليهمَا من آدَاب الْعَالم، وَهَذَا الْبَاب من آدَاب المتعلم، وَمَا بعد هَذَا الْبَاب يُنَاسب الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ قَوْله: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رب مبلَّغٍ أوعى من سامع) . لِأَن فِيهِ معنى التَّحَمُّل عَن غير الْعَارِف، وَغير الْفَقِيه. قلت: الَّذِي ذَكرْنَاهُ أنسب لِأَن الْبَاب السَّابِق فِي بَيَان مناولة الْعَالم فِي مجْلِس علمه، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان أدب من يحضر هَذَا الْمجْلس، كَمَا ذكرنَا.
66 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدَّثني مَالِكٌ عَن إسْحاقَ بن عبدِ اللَّه أبي طَلْحَةَ أنّ أَبَا مُرَّة، مَوْلَى عَقِيلِ بنِ أبي طَالِبٍ، أخْبَرَهُ عنْ أبي واقِدٍ اللَّيثَّي أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينَمَا هُو جالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاس مَعَهُ إِذ أَقَبَلَ ثَلاَثةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنانِ إِلى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَهَبَ واحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفا على رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأمّا أحدُهمُا فَرَأى فُرْجَةً فِي الحَلقَةِ فَجَلَس فِيهَا، وأمّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلفَهُم، وأمّا الثالِثُ فأدْبَرَ ذاهِباً. فلمَّا فَرَغَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَلا أُخُبِرُكُمْ عَن النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أمّا أحدُهُمْ فَأَوَى إِلَى الله فآوَاهُ الله، وأمّا الآخَرُ فاستَحْيا فاسْتحيْا الله مِنُه، وأمّا الآخَرُ فأعْرَضَ فأَعْرَضَ الله عَنهُ) .
(الحَدِيث 66 طرفه فِي 474) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة فِيمَن قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس، وفيمن رأى فُرْجَة فِي الْحلقَة فَجَلَسَ فِيهَا(2/31)
، والْحَدِيث مُشْتَمل على ذكر الْحلقَة والفرجة، وعَلى من جلس حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس، وَلأَجل هَذَا قَالَ: فِي الْحلقَة، وَلم يقل: وَمن رأى فُرْجَة فِي الْمجْلس، ليطابق مَا فِي الْبَاب من ذكر الْحلقَة، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الأول بِلَفْظ الْمجْلس للإشعار بِأَن حكمهمَا وَاحِد هَهُنَا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أويس. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام. الثَّالِث: إِسْحَاق بن عبد اللَّه بن أبي طَلْحَة زيد بن سُهَيْل بن الْأسود بن حرَام الْأنْصَارِيّ النجاري، ابْن أخي أنس لأمه كَانَ يسكن دَار جده بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ تَابِعِيّ، سمع أَبَاهُ وَعَمه لأمه أنس بن مَالك وَغَيرهمَا، وَاتَّفَقُوا على توثيقه، وَهُوَ أشهر أخوته وَأَكْثَرهم حَدِيثا. وهم: عبد اللَّه وَيَعْقُوب وَإِسْمَاعِيل وَعمر بَنو عبد اللَّه، وَكَانَ مَالك لَا يقدم على إِسْحَاق فِي الحَدِيث أحدا، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، اسْمه يزِيد، مولى عقيل بن أبي طَالب، وَقيل: مولى أَخِيه عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: مولى اختهما أم هانىء. روى عَن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي وَاقد، روى لَهُ الْجَمَاعَة. قَالَ ابْن مَيْمُونَة: كَانَ شَيخا قَدِيما. الْخَامِس: أَبُو وَاقد، بِالْقَافِ الْمَكْسُورَة وبالدال الْمُهْملَة، وَهُوَ مَشْهُور بكنيته، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: اسْمه الْحَارِث بن عَوْف، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحَارِث بن مَالك. وَقَالَ غَيرهمَا: عَوْف بن الْحَارِث. قَالَ أَبُو عَمْرو: الأول أصح، ابْن أسيد بن جَابر بن عويرة بن عبد مَنَاة ابْن شجع بن عَامر بن لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن عَليّ بن كنَانَة بن خُزَيْمَة. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: قَالَ بَعضهم: شهد بَدْرًا وَلم يذكرهُ مُوسَى بن عقبَة، وَلَا ابْن إِسْحَاق فِي الْبَدْرِيِّينَ، وَذكر بَعضهم أَنه كَانَ قديم الْإِسْلَام، وَيُقَال: أسلم يَوْم الْفَتْح، وَأخْبر عَن نَفسه أَنه شهد حنيناً. قَالَ: وَكنت حَدِيث عهد بِكفْر، وَهَذَا يدل على تَأَخّر إِسْلَامه. وَشهد بعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اليرموك، ثمَّ جاور بِمَكَّة سنة، وَتُوفِّي بهَا، وَدفن بمقبرة الْمُهَاجِرين. روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة وَعشْرين حَدِيثا، اتفقَا على حَدِيث، وَهُوَ هَذَا، وَزَاد مُسلم حَدِيثا آخر، وَهُوَ مَا كَانَ يقْرَأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَضْحَى. وَقيل: إِنَّه ولد فِي الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ ابْن عَبَّاس، قَالَ الْمَقْدِسِي: وَفِي هَذَا وشهوده بَدْرًا نظر، وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْن خمس وَسبعين سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَفِي الصَّحَابَة من يكنى بِهَذِهِ الكنية ثَلَاثَة، هَذَا أحدهم، وثانيهم: أَبُو واقدٍ مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، روى عَنهُ أَبُو عمر زَاذَان. وثالثهم: أَبُو وَاقد النميري، روى عَنهُ نَافِع بن سرجس والليثي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالتَّاء الْمُثَلَّثَة، نِسْبَة إِلَى لَيْث بن بكر الْمَذْكُور.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة والاخبار. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ عَن أبي وَاقد غير هَذَا الحَدِيث، لم يروه عَنهُ إلاَّ أَبُو مرّة، وَلم يرو عَن أبي مرّة إلاَّ ابْن إِسْحَاق، وَقد صرح النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته بِالتَّحْدِيثِ من طَرِيق يحيى بن أبي كثير عَن إِسْحَاق، فَقَالَ عَن أبي مرّة: إِن أَبَا وَاقد حَدثهُ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد اللَّه ابْن يُوسُف عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن الْمُنْذر عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن حَرْب بن شَدَّاد وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال عَن أبان بن يزِيد، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن أبي كثير عَن إِسْحَاق بن عبد الله بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ، عَن معن بن مَالك وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن أبي الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَعَن عَليّ بن سعيد بن جرير عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (نفر) ، بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: عدَّة رجال، من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَفِي (الْعباب) : النَّفر والنفير عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، وَجمع النَّفر: أَنْفَار وانفرة ونفراء. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: نفر الرجل رهطه. فَإِن قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير أقل مَا يفهم مِنْهُ هَهُنَا تِسْعَة رجال، لِأَن أقل النَّفر ثَلَاثَة؟ لكنه لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ لم يكن المقبلون إلاَّ رجَالًا ثَلَاثَة. قلت: مَعْنَاهُ ثَلَاثَة هِيَ نفر، كَأَن النَّفر هُوَ بَيَان للثَّلَاثَة، أَو المُرَاد من النَّفر مَعْنَاهُ الْعرفِيّ، إِذْ هُوَ بِحَسب الْعرف يُطلق على الرجل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَة رجال. فَإِن قلت: مُمَيّز الثَّلَاثَة لَا بُد أَن يكون جمعا، والنفر لَيْسَ بِجمع. قلت: النَّفر إسم جمع فِي وُقُوعه تمييزاً كالجمع. نَحْو قَوْله تَعَالَى: {تِسْعَة رَهْط} (النَّمْل: 48) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّمَا جَاءَ تَمْيِيز التِّسْعَة بالرهط لِأَنَّهُ فِي معنى الْجَمَاعَة،(2/32)
فَكَأَنَّهُ قيل: تِسْعَة أنفسٍ، وَالْفرق بَين الرَّهْط والنفر: أَن الرَّهْط من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، أَو من السَّبْعَة إِلَى الْعشْرَة، والنفر من الثَّلَاثَة إِلَى التِّسْعَة، وَلَا يخفى مُخَالفَته لما فِي (الصِّحَاح) . قَوْله: (فَأَدْبَرَ) من الإدبار، وَهُوَ التولي. قَوْله: (فأوى إِلَى الله) بِالْهَمْزَةِ الْمَقْصُورَة. وَقَوله: (فآواه الله) بِالْهَمْزَةِ الممدودة، وَيُقَال بالمقصورة أَيْضا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة الصَّحِيحَة قصر الأول وَمد الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُور فِي اللُّغَة، وَفِي الْقُرْآن: {إِذْ أَوَى الْفتية إِلَى الْكَهْف} (الْكَهْف: 10) بِالْقصرِ، {وآويناهما إِلَى ربوة} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) بِالْمدِّ. وَقَالَ القَاضِي: حكى بَعضهم فيهمَا اللغتين: الْقصر وَالْمدّ، وَالْمَشْهُور الْفرق وَفِي (الْمطَالع) قَوْله: (فأوى إِلَى الله) مَقْصُور الْألف، فآواه الله، مَمْدُود الْألف هَذَا هُوَ الْأَشْهر فِيمَا روينَاهُ. وَقد جَاءَ الْمَدّ فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا، وَالْقصر فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا، لَكِن الْمَدّ فِي الْمُتَعَدِّي أشهر، وَالْقصر فِي اللَّازِم أشهر، وَمعنى: آواه الله: جعل الله لَهُ فِيهِ مَكَانا وفسحة لما انْضَمَّ إِلَيْهِ، أَعنِي مجْلِس النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: قربه إِلَى مَوضِع نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: يؤويه إِلَى ظلّ عَرْشه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أوياً، على فعول، وآويته إيواءً وأويته: إِذا انزلته بك. فعلت وأفعلت بِمَعْنى.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) قد مر غير مرّة أَن: بَيْنَمَا، أَصله: بَين، زيدت فِيهِ لَفْظَة: مَا. وَهُوَ من الظروف الَّتِي لَزِمت إضافتها إِلَى الْجُمْلَة، وَفِي بعض النّسخ: بَينا، بِغَيْر لَفْظَة: مَا، وأصل: بَينا، أَيْضا بَين، فاشبعت فَتْحة النُّون بِالْألف، وَالْعَامِل فِيهِ معنى المفاجأة المستفادة من لَفْظَة: إِذْ أقبل، وَقد قُلْنَا: إِن الْأَصْمَعِي لَا يستفصح مَجِيء إِذا وَإِذ فِي جَوَاب بَين. قَوْله: (هُوَ) ، مُبْتَدأ و: جَالس، خَبره. وَقَوله: (فِي الْمَسْجِد) حَال، كَذَا قَوْله: (وَالنَّاس مَعَه) جملَة حَالية. قَوْله: (إِذْ أقبل) جَوَاب: بَيْنَمَا. وَقَوله: (ثَلَاثَة نفر) فَاعل أقبل. قَوْله: (وَذهب وَاحِد) ، جملَة فعلية عطف على قَوْله: (فَأقبل اثْنَان) . قَوْله: (فوقفا) عطف على قَوْله: (أقبل اثْنَان) قَوْله: (فَأَما) ، كلمة: اما، للتفصيل، و: أحدهم، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره: فَرَأى فُرْجَة، وَإِنَّمَا دخلت: الْفَاء، لتضمن: اما، معنى الشَّرْط. وَإِنَّمَا أخرت إِلَى الْخَبَر كَرَاهَة أَن يوالى بَين حرفي الشَّرْط وَالْجَزَاء لفظا. قَوْله: (فَجَلَسَ فِيهَا) عطف على قَوْله: (فَرَأى) ، وَالْكَلَام فِي إِعْرَاب: (وَأما الآخر فَجَلَسَ خَلفهم) ، كَالْكَلَامِ فِي الأول، وخلفهم، نصب على الظَّرْفِيَّة، وَكَذَا الْكَلَام فِي: أدبر. قَوْله: (ذَاهِبًا) . حَال. قَوْله: (قَالَ: ألاَ) جَوَاب لما، وَألا، حرف التَّنْبِيه سَوَاء فِيهِ مَا كَانَ الْمُخَاطب بِهِ مُفردا أَو مثنى أَو مجموعاً، وَيحْتَمل أَن تكون الْهمزَة للاستفهام، و: لَا، للنَّفْي. قَوْله: (أما أحدهم) الْكَلَام فِي إعرابه، وَفِي إِعْرَاب: أما، الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة مثل الْكَلَام فِي إِعْرَاب: أما أَحدهمَا فَرَأى فُرْجَة.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِذْ أقبل ثَلَاثَة نفر) : اعْلَم أَن هَهُنَا إقبالين: أَحدهمَا: إقبالهم أَولا من الطَّرِيق، أَقبلُوا ودخلوا الْمَسْجِد مارين، يدل عَلَيْهِ حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ: (فَإِذا ثَلَاثَة نفر يَمرونَ) ، وَالْآخر: إقبال الِاثْنَيْنِ مِنْهُم حِين رَأَوْا مجْلِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الثَّالِث فَإِنَّهُ اسْتمرّ ذَاهِبًا. وَبِهَذَا التَّقْدِير سقط سُؤال من قَالَ: كَيفَ قَالَ أَولا: أقبل ثَلَاثَة؟ ثمَّ قَالَ: فَأقبل اثْنَان؟ وَالْحَال لَا يَخْلُو من أَن يكون الْمقبل اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة. قَوْله: (فوقفا) زَاد فِي رِوَايَة (الْمُوَطَّأ) : (فَلَمَّا وَقفا سلما) ، وَكَذَا عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يذكر البُخَارِيّ هَهُنَا، وَلَا فِي الصَّلَاة، السَّلَام وَكَذَا لم يَقع فِي رِوَايَة مُسلم. وَمعنى قَوْله: (فوقفا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقفا على مجْلِس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مَعْنَاهُ: أشرفا عَلَيْهِ، وَمِنْه وقفته على ذَنبه أَي: أطلعته عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: على، بِمَعْنى: عِنْد. قلت: لم تجىء: على، بِمَعْنى: عِنْد، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان من كَلَام الْعَرَب. قَوْله: (وَأما الآخر) ، بِفَتْح الْخَاء بِمَعْنى: وَأما الثَّانِي، لِأَن الآخر، بِالْفَتْح، أحد الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ اسْم أفعل، وَالْأُنْثَى: أُخْرَى إلاَّ أنّ فِيهِ معنى الصّفة، لِأَن أفعل من كَذَا لَا يكون إلاَّ فِي الصّفة. وَأما الآخر بِكَسْر الْخَاء، فَهُوَ بعد الأول، وَهُوَ صفة، يُقَال: جَاءَ آخرا، أَي: أخيراً. وَتَقْدِيره فَاعل، وَالْأُنْثَى آخِرَة، وَالْجمع أَوَاخِر. قَوْله: (فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: عَمَّا كَانَ مشتغلاً بِهِ من الْخطْبَة، وَتَعْلِيم الْعلم أَو الذّكر، وَنَحْوه. قَوْله: (أما أحدهم) فِيهِ حذف تَقْدِيره قَالُوا: أخبرنَا، فَقَالَ: أما أحدهم فاوى إِلَى الله أَي: لَجأ إِلَى الله. وَقَالَ القَاضِي: مَعْنَاهُ: دخل مجْلِس ذكر الله. قَوْله: (فآواه الله) ، من بَاب المشاكلة. والمقابلة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمرَان: 54) فَسمى مجازاته باسم فعله بطرِيق الْمجَاز، وَذَلِكَ لِأَن الإيواء هُوَ الْإِنْزَال عنْدك، وَهُوَ لَا يتَصَوَّر فِي حق الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن لَازمه، وَهُوَ إِرَادَة إِيصَال الْخَيْر وَنَحْوه، فَيكون من ذكر الْمَلْزُوم، وَإِرَادَة اللَّازِم. وَيُقَال: مَعْنَاهُ فآواه الله إِلَى جنته. قَوْله: (وَأما الآخر فاستحيى) أَي: ترك الْمُزَاحمَة كَمَا فعل رَفِيقه حَيَاء من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحاضرين. قَالَه القَاضِي عِيَاض.(2/33)
وَيُقَال: مَعْنَاهُ استحيى من الذّهاب عَن الْمجْلس، كَمَا فعل رَفِيقه الثَّالِث، وَيُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى مَا جَاءَ فِي رِوَايَة الْحَاكِم الثَّانِي: (فَلبث ثمَّ جَاءَ فَجَلَسَ) . قَوْله: (فاستحيى مِنْهُ) . أَي: جازاه بِمثل فعله بِأَن رَحمَه وَلم يُعَاقِبهُ، وَهَذَا أَيْضا من بَاب المشاكلة، وَذَلِكَ لِأَن الْحيَاء تغير وانكسار يعتري الْإِنْسَان من خوف مَا يذم بِهِ، وَهَذَا محَال على الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن ترك الْعقَاب للاستحياء، فَيكون هَذَا أَيْضا من قبيل ذكر الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم. قَوْله: (وَأما الآخر فاعرض) أَي: عَن مجْلِس رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ، بل ولى مُدبرا. قَوْله: (فاعرض الله عَنهُ) أَي: جازاه بِأَن سخط عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضا من بَاب المشاكلة، وَذَلِكَ لِأَن الْإِعْرَاض هُوَ الِالْتِفَات إِلَى جِهَة أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَلِيق فِي حق الله تَعَالَى، فَيكون مجَازًا عَن السخط وَالْغَضَب الْمجَاز عَن إِرَادَة الانتقام. وَالْقَاعِدَة فِي مثل هَذِه الإطلاقات الَّتِي لَا يُمكن حملهَا على ظواهرها أَن يُرَاد بِهِ غاياتها ولوازمها، والعلاقة بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَالْمعْنَى الْمجَازِي: اللُّزُوم والقرينة الصارفة عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة هُوَ الْعقل، إِذا لَا يتَصَوَّر الْعقل صُدُور هَذِه الْأَشْيَاء من الله تَعَالَى. فَإِن قلت: هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة إِخْبَار أَو دُعَاء. قلت: يحْتَمل الْمَعْنيين فِي لَفْظَة: الإيواء والإعراض، وَلَكِن مَا وَقع فِي رِوَايَة أنس: (وَأما الآخر فاستغنى فاستغنى الله عَنهُ) ، يُؤَيّد معنى الْإِخْبَار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون من بَاب التَّشْبِيه، أَي: يفعل الله تَعَالَى كَمَا يفعل المؤوي والمستحي والمعرض. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يستحي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا} (آل عمرَان: 54) فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ وصف الْقَدِيم بالاستحياء؟ قلت: هُوَ جَار على سَبِيل التَّمْثِيل، وَمثل تَركه يتْرك من يتْرك شَيْئا حَيَاء مِنْهُ.
ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: (فاعرض الله) ، مَحْمُول على من ذهب معرضًا، لَا لعذر. قَالَ القَاضِي عِيَاض: من أعرض عَن نبيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وزهد مِنْهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَإِن كَانَ هَذَا مُؤمنا وَذهب لحَاجَة دنياوية أَو ضَرُورِيَّة فإعراض الله عَنهُ ترك رَحمته وعفوه، فَلَا يثبت لَهُ حَسَنَة وَلَا يمحو عَنهُ سَيِّئَة. قلت: وَإِن كَانَ ذَاك منافقاً كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع على أمره، فَلذَلِك قَالَ: فاعرض الله عَنهُ.
بَيَان استنباط الاحكام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ أَن من جلس إِلَى حَلقَة علم أَنه فِي كنف الله تَعَالَى وَفِي ايوائه، وَهُوَ مِمَّن تضع لَهُ الْمَلَائِكَة اجنحتها. وَقَالَ ابْن بطال: وَكَذَلِكَ يجب على الْعَالم أَن يؤوي المتعلم لقَوْله: (فآواه الله) . الثَّانِي: أَن فِيهِ أَن من قصد الْعَالم ومجالسته فاستحيى مِمَّن قَصده فَإِن الله يستحيي مِنْهُ فَلَا يعذبه. الثَّالِث: فِيهِ أَن من أعرض عَن مجالسة الْعَالم فَإِن الله يعرض عَنهُ، وَمن أعرض الله عَنهُ فقد تعرض لسخطه. الرَّابِع: اسْتِحْبَاب التحلق للْعلم وَالذكر فِي الْمَسْجِد. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْقرب من الْكَبِير فِي الْحلقَة ليسمع كَلَامه. السَّادِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب الثَّنَاء على من فعل جميلاً. السَّابِع: فِيهِ أَن الْإِنْسَان إِذا فعل قبيحاً أَو مذموماً وباح بِهِ جَازَ أَن ينْسب إِلَيْهِ. الثَّامِن: فِيهِ أَن من حسن الْأَدَب أَن يجلس الْمَرْء حَيْثُ انْتهى مَجْلِسه، وَلَا يُقيم أحدا. وَقد رُوِيَ ذَلِك فِي الحَدِيث أَيْضا. التَّاسِع: فِيهِ ابْتِدَاء الْعَالم جلساءه بِالْعلمِ قبل أَن يسْأَل عَنهُ. الْعَاشِر: فِيهِ أَن من سبق إِلَى مَوضِع فِي مجْلِس كَانَ هُوَ أَحَق بِهِ، لتَعلق حَقه بِهِ فِي الْجُلُوس. الْحَادِي عشر: فِيهِ سد خلل الْحلقَة، كَمَا ورد التَّرْغِيب فِي سد خلل الصُّفُوف فِي الصَّلَاة. الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز التخطي لسد الْخلَل مَا لم يؤذ أحدا، فَإِن خشِي اسْتحبَّ أَن يجلس حَيْثُ يَنْتَهِي. الثَّالِث عشر: فِيهِ الثَّنَاء على من زاحم فِي طلب الْخَيْر.
9 - (بَاب قَولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سامِعٍ)
الْكَلَام فِيهِ على وُجُوه: الأول: التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (رب مبلغ اوعى من سامع) ، وَالْبَاب مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب حَال الْمبلغ، بِفَتْح اللَّام، وَمن جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْجَالِس فِي الْحلقَة، وَهُوَ أَيْضا من جملَة المبلغين، لِأَن حَلقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت مُشْتَمِلَة على الْعُلُوم، وَالْأَمر بتعلمها والتبليغ إِلَى الغائبين، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب الِاسْتِدْلَال على جَوَاز الْحمل على من لَيْسَ بفقيه من الشُّيُوخ الَّذين لَا علم عِنْدهم وَلَا فقه، إِذا ضبط مَا يحدث بِهِ. قلت: هَذَا بَيَان وَجه وضع هَذَا الْبَاب وَلَيْسَ فِيهِ تعرض إِلَى وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح(2/34)
تعرض لهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُعَلّقا، وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنى الحَدِيث الَّذِي ذكره بعده بِالْإِسْنَادِ، فَهُوَ من بَاب نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَنه ثَبت عِنْده بِهَذَا اللَّفْظ من طَرِيق آخر. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَقد جَاءَت لَفْظَة التَّرْجَمَة فِي التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عبد الرحمان بن عبد اللَّه بن مَسْعُود عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (نضر الله أمرأ سمع منَّا شَيْئا فَبَلغهُ كَمَا سمع، فَرب مبلغ اوعى من سامع) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: كل مِنْهُمَا قد أبعد وتعسف، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يُقَال هُوَ: إِن هَذَا حَدِيث مُعَلّق، أورد البُخَارِيّ مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَأما لَفظه: فَهُوَ مَوْصُول عِنْده فِي: بَاب الْخطْبَة بمنى، من كتاب الْحَج، أخرجه من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة، وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن بن حميد بن عبد الرَّحْمَن، كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، قَالَ: (خَطَبنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم النَّحْر، قَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟) وَفِي آخِره هَذَا اللَّفْظ. وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ. فِي (جَامعه) وَابْن حباب وَالْحَاكِم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) من حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (نصر الله أمرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها فأداها إِلَى من لم يسْمعهَا، فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَوْله: (نضر) بِالتَّشْدِيدِ أَكثر من التَّخْفِيف، أَي: حسن، وَيُقَال: نضر الله وَجهه، ونضر، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي. قلت: وَجَاء: نضر، بِالْفَتْح أَيْضا، حَكَاهُ أَبُو عبيد. والمصدر: نضارة ونضرة أَيْضا، وَهُوَ: الْحسن والرونق. فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ التِّرْمِذِيّ لحَدِيث ابْن مَسْعُود: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد تكلم النَّاس فِي سَماع عبد الرحمان عَن أَبِيه، فَقَالُوا: كَانَ صَغِيرا؟ وَقَالَ يحيى بن معِين: عبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة ابْنا عبد اللَّه ابْن مَسْعُود لم يسمعا من أَبِيهِمَا. وَقَالَ أَحْمد: مَاتَ عبد اللَّه ولعَبْد الرَّحْمَن ابْنه سِتّ سِنِين أَو نَحْوهَا؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يعبأ بِمَا قيل فِي عدم سَماع عبد الرَّحْمَن من أَبِيه لصغره، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: لم يخرج البُخَارِيّ لأبي عُبَيْدَة شَيْئا، وَأخرج هُوَ وَمُسلم لعبد الرَّحْمَن عَن مَسْرُوق، فَلَمَّا كَانَ الحَدِيث لَيْسَ من شَرطه جعله فِي التَّرْجَمَة. قلت: هَذَا بِنَاء على تعسفه فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالَّذِي جعله فِي التَّرْجَمَة قد ذكره فِي كتاب الْحَج على مَا ذكرنَا. الرَّابِع: قَوْله: (رب) هُوَ للتقليل، لكنه كثر فِي الِاسْتِعْمَال للتكثير بِحَيْثُ غلب حَتَّى صَارَت كَأَنَّهَا حَقِيقَة فِيهِ، وَهِي حرف خلافًا للكوفيين فِي دَعْوَى إسميته، وَقَالُوا: قد أخبر عَنهُ الشَّاعِر فِي قَوْله.
(وَرب قتل عَار)
وَأجِيب: بِأَن عَار، خبر لمبتدأ مَحْذُوف، وَالْجُمْلَة صفة للمجرور، أَو خبر للمجرور، إِذْ هُوَ فِي مَوضِع مُبْتَدأ، وينفرد: رب، بِوُجُوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إِن كَانَ ظَاهرا، وإفراده وتذكيره وتمييزه بِمَا يُطَابق الْمَعْنى إِن كَانَ ضميراً، وَغَلَبَة حذف معداها ومضيه، وَوُجُوب كَون فعلهَا مَاضِيا لفظا أَو معنى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وفيهَا لُغَات عشر، ثمَّ عدهَا. قلت: فِيهَا سِتّ عشرَة لُغَة: ضم الرَّاء، وَفتحهَا، وَكِلَاهُمَا مَعَ التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، وَالْأَوْجه الْأَرْبَعَة مَعَ تَاء التَّأْنِيث الساكنة أَو المتحركة، أَو مَعَ التجرد مِنْهَا، فَهَذِهِ اثْنَتَيْ عشرَة، وَالضَّم وَالْفَتْح مَعَ إسكان الْبَاء، وَضم الحرفين مَعَ التَّشْدِيد وَمَعَ التَّخْفِيف. قَوْله: (مبلغ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: مبلغ إِلَيْهِ، فَحذف الْجَار وَالْمَجْرُور كَمَا يُقَال الْمُشْتَرك وَيُرَاد بِهِ الْمُشْتَرك فِيهِ. قَوْله: (أوعى) أفعل التَّفْضِيل من الوعي، وَهُوَ الْحِفْظ. فَإِن قلت: كَيفَ إِعْرَاب هَذَا الْكَلَام؟ قلت: إعرابه على مَذْهَب الْكُوفِيّين: أَن (رب مبلغ) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله (أوعى من سامع) خَبره، وَالْمعْنَى: رب مبلغ إِلَيْهِ عني أفهم وأضبط لما أَقُول من سامع مني، وَلَا بُد من هَذَا الْقَيْد لِأَن الْمَقْصُود ذَلِك، وَقد صرح بذلك ابْن مَنْدَه فِي رِوَايَته من طَرِيق هودة عَن ابْن عون، وَلَفظه: (فَإِنَّهُ عَسى أَن يكون بعض من لم يشْهد أوعى لما أَقُول من بعض من شهد) . وَأما على مَذْهَب الْبَصرِيين، فَإِن قَوْله: (مبلغ) ، وَإِن كَانَ مجروراً بِالْإِضَافَة، وَلكنه مَرْفُوع على الِابْتِدَاء محلا. وَقَوله: (أوعى) صفة لَهُ، وَالْخَبَر مَحْذُوف وَتَقْدِيره: يكون أَو يُوجد، أَو نَحْوهمَا. وَقَالَ النُّحَاة فِي نَحْو: رب رجل صَالح عِنْدِي، مَحل مجرورها رفع على الابتدائية وَفِي نَحْو: رب رجل لَقيته، نصب على المفعولية، وَفِي نَحْو: رب رجل صَالح لَقيته، رفع أَو نصب كَمَا فِي قَوْلك: هَذَا لَقيته.
67 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا بِشْرُ قَالَ: حدّثنا ابنُ عَوْنٍ عَن ابنِ سِيرِينَ عَن عبدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرَةَ عَن أبِيهِ، ذَكَرَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قعَدَ على بَعِيرِهِ وأمْسَك إنسانٌ بِخِطامِهِ(2/35)
أوْ بِزِمامِهِ قَالَ: (أيُّ يَوْمٍ هَذَا؟) فَسَكَتْنا حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِيهِ سِوَى اسمِهِ؟ قَالَ: (ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ) قُلْنا: بَلَى. قَالَ: (فأَيّ شَهُرٍ هَذَا) فَسَكتنا حتَّى ظَنَنَّا أنهُ سَيُسَميِّهِ بِغَيْرِ اسمِهِ، فَقَالَ: (ألَيْسَ بِذِى الحِجةِ؟) قُلْنا: بَلَى. قَالَ: (فإنّ دِماءَكُمْ وَأَمُوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرامُ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغائِبَ فإنّ الشاهدَ عَسَى أَن يُبَلِّغَ مَن هُو أوْعَى لهُ مِنهُ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى كَمَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، ابْن الْمفضل بن لَاحق الرقاشِي أَبُو إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، سمع ابْن الْمُنْكَدر وَعبد اللَّه بن عون وَغَيرهمَا، روى عَنهُ أَحْمد، وَقَالَ: إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت بِالْبَصْرَةِ. قَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث عثمانياً، توفّي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقَالَ: إِنَّه كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة. يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: عبد اللَّه بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ، وأرطبان مولى عبد اللَّه بن مُغفل الصَّحَابِيّ، رأى أنس بن مَالك وَلم يثبت لَهُ مِنْهُ سَماع، وَسمع الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن وَمُحَمّد بن سِيرِين وَغَيرهم، روى عَنهُ شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَآخَرُونَ، وَعَن خَارِجَة قَالَ: صَحِبت ابْن عون أَرْبعا وَعشْرين سنة فَمَا أعلم أَن الْمَلَائِكَة كتبت عَلَيْهِ خَطِيئَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ عَمْرو بن عَليّ: ولد سنة سِتّ وَسِتِّينَ، وَمَات وَهُوَ ابْن خمس وَثَمَانِينَ، وَيُقَال: توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث أَبُو عمر الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ، أَخُو عبيد اللَّه وَمُسلم ووراد، وَهُوَ أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع عشرَة، سمع أَبَاهُ وعلياً وَغَيرهمَا، أخرج لَهُ البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي غير مَوضِع عَن ابْن سِيرِين وَعبد الْملك بن عُمَيْر وخَالِد الْحذاء، وَعنهُ عَن أَبِيه قَالَ ابْن معِين: توفّي سنة تسع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: أَبوهُ أَبُو بكرَة، واسْمه نفيع، بِضَم النُّون وَفتح الْفَاء، ابْن الْحَارِث وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِي رُوَاته ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وهم: عبد اللَّه ابْن عون، وَابْن سِيرِين، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن قُرَّة بن خَالِد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَرجل آخر أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن كِلَاهُمَا عَن أبي بكرَة، وَزَاد فِي آخِره: قَالَ عبد الرَّحْمَن: حَدَّثتنِي أُمِّي عَن أبي بكرَة أَنه قَالَ: لَو دخلُوا عَليّ مَا نهشت لَهُم بقصبة، وَفِي الْحَج عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد عَليّ أبي عَامر الْعَقدي عَن قُرَّة بن خَالِد بِإِسْنَادِهِ نَحوه، وسمى الرجل حميد بن عبد الرَّحْمَن وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي بَدْء الْخلق عَن أبي مُوسَى، وَفِي الْأَضَاحِي عَن مُحَمَّد بن سَلام كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَفِي الْعلم وَالتَّفْسِير أَيْضا عَن عبد اللَّه بن عبد الْوَهَّاب الحَجبي عَن حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب، وَأخرجه مُسلم فِي الدِّيات عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن حبيب ابْن عَرَبِيّ، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن نصر بن عَليّ عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَعَن أبي مُوسَى عَن حَمَّاد بن مسْعدَة، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون بِهِ، وَزَاد فِي آخِره: ثمَّ انكفأ إِلَى كبشين أملحين فذبحهما إِلَى جريعة من الْغنم، فَقَسمهَا بَيْننَا. وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى بن سعيد نَحوه، وَلم يذكر حَدِيث عبد الرَّحْمَن عَن أمه، وَعَن مُحَمَّد ابْن عَمْرو بن جبلة، وَأحمد بن الْحسن بن خرَاش، كِلَاهُمَا عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وسمى حميد بن عبد الرحمان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بن بشر بن الْمفضل نَحوه، وَعَن يحيى بن مسْعدَة عَن يزِيد بن زُرَيْع نَحوه، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ عَن أبي عَامر الْعَقدي نَحوه، وَذكر حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن سُلَيْمَان بن مُسلم عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي عون. واخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم، بِنَحْوِهِ، وَله طرق تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَذكره ابْن مَنْدَه فِي (مستخرجه) من حَدِيث سَبْعَة عشر صحابياً.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على بعيره) الْبَعِير الْجمل الْبَاذِل، وَقيل: الْجذع، وَقد يكون للْأُنْثَى. وَحكي عَن بعض الْعَرَب: شربت من لبن بَعِيري وصرعتني بَعِيري. وَفِي (الْجَامِع) : الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان، يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس، إِذا(2/36)
رَأَيْت جملا على الْبعد. قلت: هَذَا بعير فَإِذا استثبته قلت: جمل أَو نَاقَة، وَيجمع على: أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعر وبعران. وَفِي (الْعباب) : يُقَال للجمل بعير وللناقة بعير، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: بعير وشعير، بِكَسْر الْبَاء والشين وَالْفَتْح هُوَ الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ: بعير إِذا جذع، وَالْجمع أَبْعِرَة فِي أدنى الْعدَد، وأباعر فِي الْكثير، وأباعير وبعران هَذِه عَن الْفراء. قَوْله: (أمسك إِنْسَان بخطامه) أَي: تمسك بِهِ، ومسكت بِهِ مثل أَمْسَكت بِهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب} (الْأَعْرَاف: 170) أَي: يتمسكون بِهِ، وَقَرَأَ البصريون: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} (الممتحنه: 10) بِالتَّشْدِيدِ، والخطام، بِكَسْر الْخَاء: الزِّمَام الَّذِي يشد فِيهِ الْبرة، بِضَم الْبَاء وَفتح الرَّاء؛ حَلقَة من صفر تجْعَل فِي لحم أنف الْبَعِير. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: تجْعَل فِي إِحْدَى جَانِبي المنخرين. قَوْله: (بِذِي الْحجَّة) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر افصح، وَيجمع على: ذَوَات الْحجَّة، وَذي الْقعدَة، بِكَسْر الْقَاف، وَيجمع على ذَوَات الْعقْدَة. قَوْله: (وَأَعْرَاضكُمْ) جمع عرض، بِكَسْر الْعين، وَهُوَ مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه. وَقيل: الْعرض الْحسب، وَقيل: الْخلق، وَقيل: النَّفس. وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (الشَّاهِد) أَي الْحَاضِر، من: شهد إِذا حضر. قَوْله: (أوعى) أَي: أحفظ، من الوعي وَهُوَ: الْحِفْظ والفهم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ذكر النَّبِي) ، بِنصب: النَّبِي، لِأَنَّهُ مفعول: ذكر، وَالضَّمِير فِي ذكر يرجع إِلَى الرَّاوِي. الْمَعْنى عَن أبي بكرَة أَنه كَانَ يُحَدِّثهُمْ، فَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: (قعد على بعيره) ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر عَن أبي بكرَة أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (قعد) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، عَن أبي بكرَة، قَالَ وَذكر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فالواو: وَاو الْحَال، وَيجوز أَن تكون وَاو الْعَطف، على أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ محذوفاً. فَافْهَم. قَوْله: (قعد على بعيره) جملَة وَقعت مقول قَالَ الْمُقدر. قَوْله: (وَأمْسك) يجوز أَن تكون الْوَاو، فِيهِ للْحَال. وَقد علم أَن الْمَاضِي إِذا وَقع حَالا تجوز فِيهِ الْوَاو وَتركهَا، وَلَكِن لَا بُد من قد، ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَيجوز أَن تكون للْعَطْف على قعد. قَوْله: (أَي يَوْم هَذَا؟) جملَة وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فسكتنا) عطف على: قَالَ. قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى. قَوْله: (أَنه) ، بِفَتْح الْهمزَة فِي مَحل النصب على المفعولية. قَوْله: (سيسميه) : السِّين فِيهِ تفِيد توكيد النِّسْبَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ سيرحمهم الله} (التَّوْبَة: 71) السِّين مفيدة وجود الرَّحْمَة لَا محَالة، فَهِيَ تؤكد الْوَعْد كَمَا تؤكد الْوَعيد إِذا قلت: سأنتقم مِنْك. قَوْله: (أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟) الْهمزَة فِيهِ لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، وَإِنَّمَا هِيَ تفِيد نفي مَا بعْدهَا، وَمَا بعْدهَا هَهُنَا منفي، فَتكون إِثْبَاتًا. لِأَن نفي النَّفْي إِثْبَات، فَيكون الْمَعْنى: هُوَ يَوْم النَّحْر. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} (الزمر: 39) أَي: الله كَاف عَبده، وَكَذَلِكَ قَوْله: {ألم نشرح لَك صدرك} (الإنشراح: 1) فَمَعْنَاه: شرحنا صدرك، وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ قَوْله: {ووضعنا} (الإنشراح: 2) . قَوْله: (فَقُلْنَا) عطف على قَوْله: قَالَ. قَوْله: (بلَى) مقول القَوْل أقيم مقَام الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ مقول القَوْل، وَهِي حرف يخْتَص بِالنَّفْيِ ويفيد إِبْطَاله سَوَاء كَانَ مُجَردا نَحْو: {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي} (التغابن: 7) أَو مَقْرُونا بالاستفهام حَقِيقِيًّا كَانَ نَحْو: أَلَيْسَ زيد بقائم، فَتَقول: بلَى، أَو توبيخاً نَحْو: {أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} (الزخرف: 80) . {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه بلَى} (الْقِيَامَة: 3) . أَو تقريراً نَحْو: {ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى} (الْملك: 8 9) . {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} (الْأَعْرَاف: 172) . أجروا النَّفْي مَعَ التَّقْدِير مجْرى النَّفْي الْمُجَرّد فِي رده ببلى، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالُوا: نعم كفرُوا، لِأَن: نعم، تَصْدِيق للْخَبَر بِنَفْي أَو إِيجَاب، وَلذَلِك قَالَت جمَاعَة من الْفُقَهَاء: لَو قَالَ: أَلَيْسَ لي عَلَيْك ألف؟ فَقَالَ: بلَى، لَزِمته. وَلَو قَالَ: نعم، لم تلْزمهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: تلْزمهُ فيهمَا، وجروا فِي ذَلِك على مُقْتَضى الْعرف لَا اللُّغَة. قَوْله: (حرَام) خبر: إِن، قَوْله: (ليبلغ) ، بِكَسْر الْغَيْن، لِأَنَّهُ أَمر، وَلكنه لما وصل بِمَا بعده حرك بِالْكَسْرِ، لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ. قَوْله: (عَسى أَن يبلغ) ، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن، وَقد علم أَن لعسى استعمالان: أَحدهمَا: أَن يكون فَاعله إسماً نَحْو: عَسى زيد أَن يخرج، فزيد مَرْفُوع بالفاعلية، و: أَن يخرج، فِي مَوضِع نصب لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة: قَارب زيد الْخُرُوج. وَالْآخر: أَن تكون أَن مَعَ صلتها فِي مَوضِع الرّفْع نَحْو: عَسى أَن يخرج زيد، فَيكون إِذْ ذَاك بِمَنْزِلَة: قرب أَن يخرج، أَي: خُرُوجه. وَمَا فِي الحَدِيث من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (مِنْهُ) ، صلَة لأَفْعَل التَّفْضِيل، أَعنِي قَوْله: (أوعى) . فَإِن قلت: صلته كالمضاف إِلَيْهِ، فَكيف جَازَ الْفَصْل بَينهمَا بِلَفْظَة: لَهُ؟ قلت: جَازَ، لِأَن فِي الظّرْف سَعَة كَمَا جَازَ الْفَصْل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بِهِ، قَالَ.
(فرشني بِخَير لأكونن ومدحتي ... كناحت يَوْمًا صَخْرَة بعسيل)
فَإِن قَوْله: يَوْمًا، فصل بَين: ناحت، الَّذِي هُوَ مُضَاف، وَبَين صَخْرَة، الَّذِي هُوَ مُضَاف إِلَيْهِ. وَقَوله: (فرشني) أَمر من راش(2/37)
يريش، يُقَال: رَشَّتْ فلَانا إِذا أصلحت حَاله، والعسيل، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة، مكنسة الْعَطَّار الَّذِي يجمع بِهِ الْعطر.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (قعد على بعيره) ، وَذَلِكَ كَانَ بمنى فِي يَوْم النَّحْر فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله: (وَأمْسك إِنْسَان بخطامه) قيل: هَذَا الممسك كَانَ بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أم الْحصين، قَالَت: حججْت فَرَأَيْت بِلَالًا يَقُود بِخِطَام رَاحِلَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيُقَال: كَانَ الممسك عَمْرو بن خَارِجَة، فَإِنَّهُ وَقع فِي السّنَن من حَدِيثه، قَالَ: كنت آخذ بزمام نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... فَذكر الْخطْبَة. قيل: هُوَ أولى أَن يُفَسر بِهِ الْمُبْهم، لِأَنَّهُ أخبر عَن نَفسه أَنه كَانَ ممسكاً بزمام نَاقَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُقَال: كَانَ الممسك هُوَ أَبَا بكرَة الرَّاوِي، لما روى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْحُسَيْن عَن سُفْيَان عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك عَن أبي عون بِسَنَدِهِ إِلَى أبي بكرَة. قَالَ: (خطب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على رَاحِلَته يَوْم النَّحْر، وَأَمْسَكت، إِمَّا قَالَ: بخطامها أَو بزمامها) . قَوْله: (أَي يَوْم) ، هَذَا؟ لَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والأصيلي والحموي السُّؤَال عَن الشَّهْر، وَالْجَوَاب الَّذِي قبله وَلَفْظهمَا: (أَي يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحجَّة؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وكريمة بالسؤال عَن الشَّهْر وَالْجَوَاب الَّذِي قبله، وَهِي أَيْضا كَذَلِك فِي مُسلم وَغَيره، وَكَذَا وَقع فِي مُسلم وَغَيره السُّؤَال عَن الْبَلَد، فَهَذِهِ ثَلَاثَة اسئلة عَن الْيَوْم والشهر والبلد، وَهِي ثَابِتَة عِنْد البُخَارِيّ فِي الْأَضَاحِي من رِوَايَة أَيُّوب، وَفِي الْحَج أَيْضا من رِوَايَة قُرَّة، كِلَاهُمَا عَن ابْن سِيرِين. وَذكر فِي أول حَدِيثه: (خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم، فَسكت حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه) . وَذكر قَوْله: الله وَرَسُوله أعلم فِي الْجَواب عَن الأسئلة الثَّلَاثَة، وَكَذَلِكَ أوردهُ من رِوَايَة ابْن عمر، وَجَاء من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: (خَطَبنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَوْم النَّحْر، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْم حرَام. قَالَ: فَأَي بلد هَذَا؟ قَالُوا: بلد حرَام. قَالَ: فَأَي شهر هَذَا؟ قَالُوا: شهر حرَام) . فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس يشْعر بِأَنَّهُم أجابوه بقَوْلهمْ: هَذَا يَوْم حرَام وبلد حرَام وَشهر حرَام، وَهُوَ مُخَالف للمذكور هُنَا من حَدِيث أبي بكرَة، وَمن حَدِيث ابْن عمر أَيْضا أَنهم سكتوا حَتَّى ظنُّوا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه، الْجَواب أَنه يحْتَمل أَن تكون الْخطْبَة مُتعَدِّدَة، فَأجَاب فِي الثَّانِيَة من علم فِي الأولى، وَلم يجب من لم يعلم فَنقل كل من الروَاة مَا سمع، وَيُقَال: إِن حَدِيث أبي بكرَة من رِوَايَة مُسَدّد وَقع نَاقِصا مخروماً لنسيان وَقع من بعض الروَاة. قَوْله: (فَإِن دماءكم) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سفك دمائكم، وَكَذَا فِي: أَمْوَالكُم، التَّقْدِير: أَخذ أَمْوَالكُم، وَكَذَا فِي: أعراضكم، التَّقْدِير: سلب أعراضكم. قَوْله: (ليبلغ الشَّاهِد) ، أَي الْحَاضِر فِي الْمجْلس الْغَائِب عَنهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ إِمَّا تَبْلِيغ القَوْل الْمَذْكُور، أَو تَبْلِيغ جَمِيع الْأَحْكَام. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: هُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ أَن الْعَالم يجب عَلَيْهِ تَبْلِيغ الْعلم لمن لم يبلغهُ، وتبيينه لمن لَا يفهمهُ، وَهُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه الله تَعَالَى على الْعلمَاء. {ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه} (آل عمرَان: 187) . الثَّانِي: فِيهِ أَنه يَأْتِي فِي آخر الزَّمَان من يكون لَهُ من الْفَهم فِي الْعلم من لَيْسَ لمن تقدمه، وَأَن ذَلِك يكون فِي الْأَقَل، لِأَن: رب، مَوْضُوعَة للتقليل، و: عَسى، موضعهَا الإطماع، وَلَيْسَت لتحقيق الشَّيْء. الثَّالِث: فِيهِ أَن حَامِل الحَدِيث يجوز أَن يُؤْخَذ عَنهُ، وَإِن كَانَ جَاهِلا بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبليغه، مَحْسُوب فِي زمرة أهل الْعلم. الرَّابِع: فِيهِ أَن مَا كَانَ حَرَامًا يجب على الْعَالم أَن يُؤَكد حرمته، ويغلظ عَلَيْهِ بأبلغ مَا يُوجد، كَمَا فعل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي المتشابهات. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْقعُود على ظهر الدَّوَابّ إِذا احْتِيجَ إِلَى ذَلِك، لَا للأشر والبطر، وَالنَّهْي فِي قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تَتَّخِذُوا ظُهُور الدَّوَابّ مجَالِس) ، مَخْصُوص بِغَيْر الْحَاجة. السَّادِس: فِيهِ الْخطْبَة على مَوضِع عَال ليَكُون أبلغ فِي سماعهَا للنَّاس، ورؤيتهم إِيَّاه. السَّابِع: فِيهِ مُسَاوَاة المَال وَالدَّم وَالْعرض فِي الْحُرْمَة. الثَّامِن: فِيهِ تَشْبِيه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض بِالْيَوْمِ وبالشهر وبالبلد فِي الْحُرْمَة دَلِيل على اسْتِحْبَاب ضرب الْأَمْثَال، وإلحاق النظير بالنظير قِيَاسا، قَالَه النَّوَوِيّ.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: لِمَ شبه الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض فِي الْحُرْمَة بِالْيَوْمِ والشهر والبلد فِي غير هَذِه الرِّوَايَة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُم كَانُوا لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة هَذِه الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال، وَكَانَ تَحْرِيمهَا ثَابتا فِي نُفُوسهم مقرراً عِنْدهم بِخِلَاف الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض، فَإِنَّهُم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يستبيحونها. وَقَالَ بَعضهم: أعلمهم الشَّارِع بِأَن تَحْرِيم دم الْمُسلم وَمَاله وَعرضه أعظم من تَحْرِيم الْبَلَد والشهر وَالْيَوْم، فَلَا يرد كَون الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه لِأَن الْخطاب إِنَّمَا وَقع(2/38)
بِالنِّسْبَةِ لما اعتاده المخاطبون قبل تَقْرِير الشَّرْع. قلت: لَا نسلم أَن الشَّارِع قَالَ: حُرْمَة هَذِه الْأَشْيَاء أعظم من حُرْمَة تِلْكَ الْأَشْيَاء حَتَّى يرد السُّؤَال بِكَوْن الْمُشبه بِهِ أَخفض رُتْبَة من الْمُشبه، وَإِنَّمَا الشَّارِع شبه حُرْمَة تِلْكَ بِحرْمَة هَذِه، لما ذكرنَا من وَجه التَّشْبِيه من غير تعرض إِلَى غير ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: لمَ سَأَلَ، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة وَسكت بعد كل سُؤال مِنْهَا؟ أُجِيب: لاستحضار فهومهم وليقبلوا عَلَيْهِ بكليتهم وليعلموا عَظمَة مَا يُخْبِرهُمْ عَنهُ، وَلذَلِك قَالَ بعد هَذَا: (فَإِن دماكم)
إِلَى آخِره، مُبَالغَة فِي تَحْرِيم الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ جوابهم عَن كل سُؤال بقَوْلهمْ: الله وَرَسُوله أعلم، على مَا ثَبت فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى للْبُخَارِيّ وَغَيره؟ أُجِيب: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لحسن أدبهم. لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مَا يعرفونه من الْجَواب، وَأَنه لَيْسَ مُرَاد مُطلق الْإِخْبَار بِمَا يعرفونه، وَلِهَذَا قَالَ فِي رِوَايَة الْبَاب: (حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه) وَفِيه إِشَارَة إِلَى تَفْوِيض الْأُمُور بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى الشَّارِع، والانعزال عَمَّا ألفوه من الْمُتَعَارف الْمَشْهُور. وَمِنْهَا مَا قيل: لم أمسك الممسك بِخِطَام نَاقَته؟ أُجِيب: لصونه الْبَعِير عَن الِاضْطِرَاب والتشويش على رَاكِبه.
10 - (بابٌ العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ لِقولِهِ تَعَالَى {فاعلَمْ أنَّهُ لَا إلَهَ إلاَّ الله} (مُحَمَّد: 19) فبَدَأ بالعلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْعلم قبل القَوْل وَالْعَمَل، أَرَادَ أَن الشَّيْء يعلم أَولا، ثمَّ يُقَال وَيعْمل بِهِ، فالعلم مقدم عَلَيْهِمَا بِالذَّاتِ، وَكَذَا مقدم عَلَيْهِمَا بالشرف، لِأَنَّهُ عمل الْقلب، وَهُوَ أشرف أَعْضَاء الْبدن. وَقَالَ ابْن بطال: الْعَمَل لَا يكون إلاَّ مَقْصُودا، يَعْنِي مُتَقَدما، وَذَلِكَ الْمَعْنى هُوَ علم مَا وعد الله عَلَيْهِ بالثواب. وَقَالَ ابْن الْمُنِير، أَرَادَ أَن الْعلم شَرط فِي صِحَة القَوْل وَالْعَمَل، فَلَا يعتبران إلاَّ بِهِ، فَهُوَ مُتَقَدم عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مصحح النِّيَّة المصححة للْعَمَل، فنبه البُخَارِيّ على ذَلِك حَتَّى لَا يسْبق إِلَى الذِّهْن من قَوْلهم: إِن الْعلم لَا يُفِيد إلاَّ بِالْعَمَلِ تهوين أَمر الْعلم والتساهل فِي طلبه. قَوْله: (فَبَدَأَ بِالْعلمِ) أَي: بَدَأَ الله تَعَالَى بِالْعلمِ أَولا حَيْثُ قَالَ: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} (مُحَمَّد: 19) ثمَّ قَالَ: {واستغفر لذنبك} (مُحَمَّد: 19) الاسْتِغْفَار إِشَارَة إِلَى القَوْل وَالْعَمَل؛ وَالْخطاب، وَإِن كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهُوَ متناول لأمته. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف؛ الْمَعْنى، قد بَينا وَقُلْنَا مَا يدل على أَن الله تَعَالَى وَاحِد، فَاعْلَم ذَلِك. وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قد علم ذَلِك، وَلكنه خطاب يدْخل النَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن} (الطَّلَاق: 1) ، وَالْمعْنَى: من علم فَليقمْ على ذَلِك الْعلم، كَقَوْلِه تَعَالَى {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} (الْفَاتِحَة: 6) أَي ثبتنا. وَقيل: يتَعَلَّق بِمَا قبله، وَالْمعْنَى: إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة فَاعْلَم أَن لَا ملك وَلَا حكم لأحد إلاّ لله، وَيبْطل مَا عداهُ. وَسُئِلَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن فضل الْعلم، فَقَالَ: ألم تسمع قَوْله تَعَالَى حِين بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله واستغفر لذنبك} (مُحَمَّد: 19) فَأمره بِالْعَمَلِ بعد الْعلم، وَيعلم من الْآيَة أَن التَّوْحِيد مِمَّا يجب الْعلم بِهِ، وَلَا يجوز فِيهِ تَقْلِيد. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَكْفِي الِاعْتِقَاد الْجَازِم، وَإِن لم يعرف الْأَدِلَّة، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من سيرة السّلف. وَمذهب أَكثر الْمُتَكَلِّمين أَن إِيمَان الْمُقَلّد فِي أصُول الدّين غير صَحِيح. وَقَالَ محيي السّنة: يجب على كل مُكَلّف معرفَة علم الْأُصُول، وَلَا يسع فِيهِ التَّقْلِيد لظُهُور دلائله. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ حَال الْمبلغ وَالسَّامِع، والمبلغ، بِكَسْر اللَّام، والمبلغ، بِفَتْحِهَا، لَا يقدران على التَّعْلِيم والتعلم إِلَّا بِالْعلمِ، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان الْعلم قبل القَوْل وَالْعَمَل.
وأنّ العُلَماءَ هُمْ ورَثَةُ الأنْبِياءِ ورَّثُوا العِلْمَ، مَن أخَذَهُ أخَذَ بِحَظِّ وافِرٍ.
يجوز فِي: أَن، الْكسر وَالْفَتْح، أما الْفَتْح فبالعطف على مَا قبله، وَأما الْكسر فعلى سَبِيل الْحِكَايَة، أَو على تَقْدِير بَاب هَذِه الْجُمْلَة، وَهَذَا من حَدِيث مطول أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن خِدَاش عَن مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ عَن عَاصِم بن رَجَاء بن حَيْوَة عَن قيس بن كثير عَن أبي الدَّرْدَاء، رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قَالَ: (من سلك طَرِيقا يطْلب فِيهِ علما سهل الله لَهُ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة، وَأَن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا رَضِي لطَالب الْعلم، وَأَن الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض، حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء. وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب، وَأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، وَأَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما، وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه أَخذ بحظ وافر) . ثمَّ قَالَ: كَذَا حَدثنَا مَحْمُود، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا(2/39)
الحَدِيث عَن عَاصِم عَن دَاوُد بن جميل عَن كثير بن قيس عَن أبي الدَّرْدَاء، وَهَذَا أصح من حَدِيث مَحْمُود، وَلَا يعرف هَذَا الحَدِيث إلاَّ من حَدِيث عَاصِم. وَلَيْسَ إِسْنَاده عِنْدِي بمتصلٍ وَفِي (علل) الدَّارَقُطْنِيّ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن كثير بن قيس، عَن يزِيد بن سَمُرَة عَن أبي الدَّرْدَاء. قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لم يقمه الْأَوْزَاعِيّ، وَقد خلط فِيهِ. وَقَالَ حَمْزَة: رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن عبد السَّلَام بن سليم عَن يزِيد بن سَمُرَة وَغَيره من أهل الْعلم عَن كثير بن قيس. قَالَ أَبُو عمر: وَعَاصِم بن رَجَاء، هَذَا ثِقَة مَشْهُور، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عَاصِم بن رَجَاء وَمن فَوْقه إِلَى أبي الدَّرْدَاء ضعفاء، وَلَا يثبت. قَالَ: دَاوُد بن جميل، مَجْهُول، وَقَالَ الْبَزَّار: دَاوُد بن جميل وَكثير بن قيس لَا يعلمَانِ فِي غير هَذَا الحَدِيث، وَلَا نعلم روى عَن كثير غير دَاوُد والوليد بن مرّة، وَلَا نعلم روى عَن دَاوُد عَن غير عَاصِم. قَالَ ابْن الْقطَّان: اضْطربَ فِيهِ عَاصِم، فَعَنْهُ فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَول عبد اللَّه بن دَاوُد عَن عَاصِم بن دَاوُد عَن كثير بن قيس. الثَّانِي: قَول أبي نعيم عَن عَاصِم عَمَّن حَدثهُ عَن كثير. الثَّالِث: قَول مُحَمَّد بن يزِيد الوَاسِطِيّ عَن عَاصِم عَن كثير، لم يذكر بَينهمَا أحد. والمتحصل من حَال هَذَا الْخَبَر هُوَ الْجَهْل بِحَال رَاوِيَيْنِ من رُوَاته، وَالِاضْطِرَاب فِيهِ مِمَّن لم يثبت عَدَالَته. انْتهى. وَقد مر من عِنْد التِّرْمِذِيّ أَن مُحَمَّد بن يزِيد روى عَن مَحْمُود بن خِدَاش فَسَماهُ قيس بن كثير، فَصَارَ اضطراباً رَابِعا، وَالْخَامِس: قَالَ فِي (التَّهْذِيب) : دَاوُد بن جميل، وَقَالَ بَعضهم: الْوَلِيد بن جميل. وَفِي (جَامع بَيَان الْعلم) لِابْنِ عبد الْبر، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن عَاصِم عَن جميل بن قيس، ثمَّ قَالَ: قَالَ حَمْزَة بن مُحَمَّد، كَذَا قَالَ ابْن عَيَّاش: فِي هَذَا الْخَبَر جميل بن قيس. وَقَالَ مُحَمَّد بن يزِيد وَغَيره عَن عَاصِم عَن كثير بن قيس، قَالَ: وَالْقلب إِلَى مَا قَالَه مُحَمَّد بن يزِيد أميل، وَهَذَا اضْطِرَاب سادس. وسابع: ذكره الدَّارَقُطْنِيّ، وَقد تقدم. وثامن: ذكره ابْن قَانِع فِي كتاب الصَّحَابَة، وَزعم أَن كثير بن قيس صَحَابِيّ، وَأَنه هُوَ الرَّاوِي عَن النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، هَذَا الحَدِيث، وَتبع ابْن القانع ابْن الْأَثِير على هَذَا. وَقَول ابْن الْقطَّان: لَا يعلم كثير فِي غير هَذَا الحَدِيث يردهُ قَول أبي عمر: روى عَن أبي الدَّرْدَاء، وَعبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَمَعَ ذَلِك فقد قَالَ أَبُو عمر: قَالَ حَمْزَة: وَهُوَ حَدِيث حسن غَرِيب. وَالْتزم الْحَاكِم صِحَّته، وَكَذَلِكَ ابْن حبَان رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الثَّقَفِيّ: ثَنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: ثَنَا عبد اللَّه بن دَاوُد، فَذكره مطولا. وَلما ذكر فِي (كتاب الضُّعَفَاء) تأليفه حَدِيث جَابر بن عبد اللَّه قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أكْرمُوا الْعلمَاء فَإِنَّهُم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء) قَالَ: فِيهِ الضَّحَّاك بِهِ حَمْزَة، وَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقد رُوِيَ: (الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء) بأسانيد صَالِحَة، وَرَوَاهُ أَبُو عمر من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم عَن خَالِد بن يزِيد عَن عُثْمَان بن أَيمن عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ، وَلما ذكر الْخَطِيب فِي (تَارِيخه) حَدِيث نَافِع عَن مَوْلَاهُ ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (حَملَة الْعلم فِي الدُّنْيَا خلفاء الْأَنْبِيَاء، وَفِي الْآخِرَة من الشُّهَدَاء) . قَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لم نَكْتُبهُ إلاَّ بِهَذَا السَّنَد، وَهُوَ غير ثَابت، وَإِنَّمَا سمى الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} (فاطر: 32) . قَوْله: (ورثوا الْعلم) ، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء من التوريث. وَيجوز بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء المخففة، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ يرجع إِلَى الْأَنْبِيَاء فِي قِرَاءَة التَّشْدِيد، وَإِلَى الْعلمَاء فِي قِرَاءَة التَّخْفِيف، وَأعَاد بَعضهم الضَّمِير إِلَى الْعلمَاء فِي الْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيح، وَيجوز ضم الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة أَيْضا، فعلى هَذَا يرجع الضَّمِير أَيْضا إِلَى الْعلمَاء. قَوْله: (من أَخذه) أَي: من أَخذ الْعلم من مِيرَاث النُّبُوَّة أَخذ بحظ، أَي: بِنَصِيب وافر كثير كَامِل، فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يفصح البُخَارِيّ بِكَوْن هَذَا حَدِيثا. قلت: للعلل الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلذَا لَا يعد أَيْضا من تعاليقه، وَلَكِن إِيرَاده فِي التَّرْجَمَة يشْعر بِأَن لَهُ أصلا، وَشَاهده فِي الْقُرْآن.
ومَنَ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ بِهِ عِلْماً سَهَّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إِلى الجَنةِ
هَذَا أخرجه مُسلم من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل أَوله: (من نفس عَن مُؤمن كربَة)
الحَدِيث، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: حَدِيث حسن. فَإِن قلت: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلذَا أخرجه مُسلم، فَكيف اقْتصر التِّرْمِذِيّ على قَوْله: حسن، وَلم يقل: حسن صَحِيح؟ قلت: لِأَنَّهُ يُقَال: إِن الْأَعْمَش دلّس فِيهِ، فَقَالَ: حدثت عَن أبي صَالح، وَلَكِن فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي أُسَامَة عَن الْأَعْمَش: حَدثنَا أَبُو صَالح، فانتفت تُهْمَة تدليسه. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن أبي الْأَحْوَص عَن هَارُون بن عنترة عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، مَوْقُوفا. قَوْله: (يطْلب) جملَة وَقعت حَالا، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، رَجَعَ إِلَى المسلك الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: سلك، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . قَوْله: (علما) ، إِنَّمَا نكره ليتناول(2/40)
أَنْوَاع الْعُلُوم الدِّينِيَّة، وليندرج فِيهِ الْقَلِيل وَالْكثير. قَوْله: (سهل الله لَهُ) ، أَي فِي الْآخِرَة، أَو المُرَاد مِنْهُ: وَفقه الله للأعمال الصَّالِحَة فيوصله بهَا إِلَى الْجنَّة أَو: سهل عَلَيْهِ مَا يزِيد بِهِ علمه، لِأَنَّهُ أَيْضا من طرق الْجنَّة بل أقربها.
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {إنَّما يَخْشَى الله مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} (فاطر: 28)
هَذَا فِي الْمَعْنى عطف على قَوْله: لقَوْل الله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} (مُحَمَّد: 19) . الْمَعْنى؛ إِنَّمَا يخَاف الله من عباده الْعلمَاء، أَي: من علم قدرته وسلطانه، وهم الْعلمَاء. قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: المُرَاد الْعلمَاء الَّذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا لَا يجوز، فعظموه وقدروه وخشوه حق خَشيته، وَمن ازْدَادَ بِهِ علما ازْدَادَ مِنْهُ خوفًا، وَمن كَانَ عَالما بِهِ كَانَ آمنا. وَفِي الحَدِيث: (أعلمكُم بِاللَّه أَشدّكُم لَهُ خشيَة) . وَقَالَ رجل لِلشَّعْبِيِّ: افتني أَيهَا الْعَالم؟ فَقَالَ: الْعَالم من خشِي الله. وَقيل: نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، وَقد ظهر عَلَيْهِ الخشية حَتَّى عرفت. انْتهى. وقرىء: (إِنَّمَا يخْشَى الله) بِرَفْع لَفْظَة: الله، وَنصب: الْعلمَاء، وَهُوَ قِرَاءَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَأبي حنيفَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَوجه هَذِه الْقِرَاءَة أَن الخشية فِيهَا تكون اسْتِعَارَة، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا يجلهم ويعظمهم، وَمن لَوَازِم الخشية التَّعْظِيم، فَيكون هَذَا من قبيل ذكر الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم. وَفِي أَيَّام اشتغالي على الإِمَام الْعَلامَة أبي الرّوح شرف الدّين عِيسَى السِّرّ ماري فِي علمي التَّفْسِير والمعاني وَالْبَيَان، تغمده الله برحمته، حضر شخص من أهل الْعلم وَقت الدَّرْس وَسَأَلَهُ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: خشيَة الله تَعَالَى مَقْصُورَة على الْعلمَاء بقضية الْكَلَام، وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى أَن الْجنَّة لمن خشِي، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن خشِي ربه} (الْبَيِّنَة: 8) فليزم من ذَلِك أَن لَا تكون الْجنَّة إِلَّا للْعُلَمَاء خَاصَّة، فَسكت جَمِيع من كَانَ هُنَاكَ من الْفُضَلَاء الأذكياء الَّذين كَانَ كل مِنْهُم يزْعم أَنه المفلق فِي العلمين الْمَذْكُورين، فَأجَاب الشَّيْخ، رَحمَه الله: إِن المُرَاد من الْعلمَاء: الموحدون، وَإِن الْجنَّة لَيست إلاَّ للموحدين الَّذين يَخْشونَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ ظَاهر، وَذَلِكَ أَن الْبَاب فِي الْعلم، وَالْآيَة فِي مدح الْعلمَاء، وَلم يستحقوا هَذَا الْمَدْح إلاَّ بِالْعلمِ.
وَقَالَ {وَمَا يَعْقِلُها إِلاَّ العالِمُون} (العنكبوت: 43)
أَي: وَمَا يعقل الْأَمْثَال المضروبة إلاَّ الْعلمَاء الَّذين يعْقلُونَ عَن الله، وروى جَابر، رَضِي الله عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تَلا هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: الْعَالم الَّذِي عقل عَن الله فَعمل بِطَاعَتِهِ واجتنب سخطه) . وَوجه إدخالها فِي التَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْآيَة السَّابِقَة.
وَقَالُوا: {لَو كُنّا نَسْمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أصْحابِ السَّعِيرِ} (الْملك: 10)
هَذَا حِكَايَة عَن قَول الْكفَّار حِين دُخُولهمْ النَّار، أَي: لَو كُنَّا نسْمع الْإِنْذَار سَماع طَالِبين للحق، أَو نعقله عقل متأملين، وَإِنَّمَا حذف مفعول نعقل لِأَنَّهُ جعل كالفعل اللَّازِم، وَالْمعْنَى: لَو كُنَّا من أهل الْعلم لما كُنَّا من أهل النَّار، وَإِنَّمَا جمع بَين السّمع وَالْعقل لِأَن مدَار التَّكْلِيف على أَدِلَّة السّمع وَالْعقل. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ لَو كُنَّا نسْمع سمع من يعي، أَو نعقل عقل من يُمَيّز وَينظر، مَا كُنَّا من أهل النَّار. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (إِن لكل شَيْء دعامة، ودعامة الْمُؤمن عقله) . فبقدر مَا يعقل يعبد ربه، وَلَقَد نَدم الْفجار يَوْم الْقِيَامَة فَقَالُوا: {لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} (الْملك: 10) روى أنس، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا؛ (إِن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم من فجور الْفَاجِر، وَإِنَّمَا يرْتَفع الْعباد غَدا فِي الدَّرَجَات، وينالون الزلفى من رَبهم على قدر عُقُولهمْ. فَإِن قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذِه الْآيَة فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: وَجهه أَن المُرَاد من الْعقل الْعلم هَهُنَا، فَإِن الْكفَّار تمنوا أَن لَو كَانَ لَهُم الْعلم لما دخلُوا النَّار.
وَقَالَ {هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعلَمُون والذِينَ لاَ يَعلمُون} (الزمر: 9)
أَرَادَ بالذين يعلمُونَ: العاملين من عُلَمَاء الدّيانَة، كَأَنَّهُ جعل من لَا يعْمل غير عَالم، وَفِيه ازدراء عَظِيم بالذين يقتنون الْعُلُوم ثمَّ يفتنون بالدنيا، وَوجه دُخُولهَا فِي التَّرْجَمَة هُوَ أَن الله تَعَالَى نفى الْمُسَاوَاة بَين الْعلم وَالْجَاهِل، وَيَقْتَضِي نفي الْمُسَاوَاة أَيْضا بَين الْعَالم وَالْجَاهِل، وَفِيه مدح للْعلم وذم للْجَهْل.
وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَن يُرِدِ الله بِهِ خَيراً يُفَقِّههُ(2/41)
ذكره مُعَلّقا، وَقد علم أَن مَا كَانَ من هَذَا فَهُوَ عِنْده فِي حكم الْمُتَّصِل لإيراده لَهُ بِصِيغَة الْجَزْم، مَعَ أَنه ذكره مَوْصُولا بعد هَذَا ببابين، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (يفقهه) أَي: يفهمهُ، إِذْ الْفِقْه فِي اللُّغَة الْفَهم. قَالَ تَعَالَى {يفقهوا قولي} (طه: 28) أَي: يفهموا قولي، من فقه يفقه، من بَاب: علم يعلم، ثمَّ خص بِهِ علم الشَّرِيعَة، والعالم بِهِ يُسمى فَقِيها. وَجَاء: فقه، بِالضَّمِّ، فقاهة، وَهَكَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين: يفقه، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِالْهَاءِ الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة بعْدهَا مِيم، وَأخرجه ابْن أبي عَاصِم بِهَذَا اللَّفْظ فِي كتاب الْعلم من طَرِيق ابْن عمر عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد حسن.
{وَإِنَّمَا العِلم بالتَّعَلُّمِ}
قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ. قلت: هَذَا حَدِيث مَرْفُوع أوردهُ ابْن أبي عَاصِم وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ، بِلَفْظ: (يَا أَيهَا النَّاس تعلمُوا إِنَّمَا الْعلم بالتعلم، وَالْفِقْه بالتفقه وَمن يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) ، إِسْنَاده حسن، والمبهم الَّذِي فِيهِ اعتضد بمجيئه من وَجه آخر، وَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) من حَدِيث مَكْحُول عَن مُعَاوِيَة وَلم يسمع مِنْهُ. قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا الْعلم بالتعلم وَالْفِقْه بالتفقه) . وروى الْبَزَّار نَحوه من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا: (بالتعلم) ، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد اللَّام، وَفِي بعض النّسخ بالتعليم، أَي لَيْسَ الْعلم المعتد إلاَّ الْمَأْخُوذ عَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، على سَبِيل التَّعَلُّم والتعليم، فيفهم مِنْهُ أَن الْعلم لَا يُطلق إلاَّ على علم الشَّرِيعَة، وَلِهَذَا لَو أوصى رجل للْعُلَمَاء لَا ينْصَرف إلاَّ على أَصْحَاب الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه.
وَقَالَ أبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصمَّصْامَةَ على هَذِه، وأشارَ إِلَى قَفَاهُ، ثمَّ ظَنَنْتُ أنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُها مِنَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ أَن تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُها.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الدَّارمِيّ مَوْصُولا فِي (مُسْنده) من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (أتيت أَبَا ذَر وَهُوَ جَالس عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى، وَقد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ يستفتونه، فَأَتَاهُ رجل فَوقف عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: ألَمْ تُنْهَ عَن الْفتيا؟ فَرفع رَأسه إِلَيْهِ، فَقَالَ: أرقيب أَنْت عَليّ؟ لَو وضعتم) فَذكر مثله. وَرَوَاهُ أَحْمد بن منيع عَن سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي، عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مرْثَد بن أبي مرْثَد عَن أَبِيه قَالَ: (جَلَست إِلَى أبي ذَر الْغِفَارِيّ، رَضِي الله عَنهُ، إِذْ وقف عَلَيْهِ رجل فَقَالَ: ألم ينهك أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن الْفتيا؟ فَقَالَ أَبُو ذَر: وَالله لَو وضعتم الصمصامة على هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى حلقه، على أَن أترك كلمة سَمعتهَا من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأنفذتها قبل أَن يكون ذَلِك) . قلت: كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا ذَر كَانَ بِالشَّام، وَاخْتلف مَعَ مُعَاوِيَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة} (التَّوْبَة: 24) فَقَالَ مُعَاوِيَة: نزلت فِي أهل الْكتاب خَاصَّة، وَقَالَ أَبُو ذَر: نزلت فِينَا وَفِيهِمْ، فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، فَأرْسل إِلَى أبي ذَر، فحصلت مُنَازعَة أدَّت إِلَى انْتِقَال أبي ذَر عَن الْمَدِينَة، فسكن الربذَة، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة، إِلَى أَن مَاتَ، وَقد ذَكرْنَاهُ، واسْمه جند بن جُنَادَة. قَوْله: (الصمصامة) قَالَ الْجَوْهَرِي: الصمصام والصمصامة: السَّيْف الصارم الَّذِي لَا ينثني، وَأَشَارَ بقوله: هَذِه، إِلَى: الْقَفَا، والقفا: يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور مُؤخر الْعُنُق. قَوْله: (أنفذ) ، بِضَم الْهمزَة والذال الْمُعْجَمَة، أَي ظَنَنْت أَنِّي أقدر على إِنْفَاذ كلمة أَي: تبليغها. وَقَوله: (قبل أَن تجيزوا) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَبعد الْيَاء زَاي مُعْجمَة، أَي قبل أَن يقطعوا عَليّ، أَرَادَ بِهِ: قبل أَن يقطعوا رَأْسِي. وَقَالَ الصغاني: والتركيب يدل على قطع الشَّيْء. قلت: وَمِنْه قَوْله:
(حَتَّى أجَاز الْوَادي)
أَي: قطعه.
(فَأَكُون أول من يُجِيز)
أَي: أول من يقطع مَسَافَة الصِّرَاط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وتجيزوا، أَي الصمصامة عَليّ، أَي: على قفاي. قلت: هُوَ من أجَاز الشَّيْء إِذا انفذه، و: الصمصامة، مَفْعُوله، وَكلمَة: على لَيست صلَة لأجل التَّعَدِّي. وَحَاصِل الْمَعْنى: أَنه يبلغ مَا يحملهُ فِي كل حَال، وَلَا ينثني عَن ذَلِك، وَلَو عرض عَلَيْهِ الْقَتْل أَو وضع على قَفاهُ السَّيْف، وَفِيه دَلِيل على أَن أَبَا ذَر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ لَا يرى بِطَاعَة الإِمَام إِذا نَهَاهُ عَن الْفتيا، لِأَنَّهُ كَانَ يرى أَن ذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتبليغ عَنهُ، وَلَعَلَّه أَيْضا سمع الْوَعيد فِي حق من كتم علما يُعلمهُ. فَإِن قلت: لَو لِامْتِنَاع الثَّانِي لِامْتِنَاع الأول على الْمَشْهُور، فَمَعْنَاه: انْتَفَى الإنفاذ لانْتِفَاء الْوَضع، وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ. قلت: هُوَ مثل: (لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ) . يَعْنِي: يكون الحكم ثَابتا على تَقْدِير النقيض بِالطَّرِيقِ الأولى، فَالْمُرَاد أَن الإنفاذ حَاصِل على تَقْدِير الْوَضع، وعَلى تَقْدِير عدم الْوَضع حُصُوله أولى، أَو إِن: لَو هَهُنَا لمُجَرّد الشَّرْط يَعْنِي حكمهَا حكم: إِن، من(2/42)
غير مُلَاحظَة الِامْتِنَاع. وَفِيه من الْفِقْه أَنه يجوز للْعَالم أَن يَأْخُذ فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بالشدة، ويتحمل الْأَذَى، ويحتسب رَجَاء ثَوَاب الله تَعَالَى، وَيُبَاح لَهُ أَن يسكت إِذا خَافَ الْأَذَى كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقطع هَذَا البلعوم، وَعنهُ: لَو حدثتكم بِكُل مَا فِي جوفي لرميتموني بالبعر. وَقَالَ الْحسن: صدق، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَا يتَعَلَّق بالفتن مِمَّا لَا يتَعَلَّق بِذكرِهِ مصلحَة شَرْعِيَّة.
وَقَالَ ابنُ عَباسٍ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَماءَ فُقَهاءَ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْخَطِيب فِي كتاب (الْفَقِيه والمتفقه) بِسَنَد صَحِيح عَن أبي بكر الْحَرْبِيّ: ثَنَا أَبُو مُحَمَّد حَاجِب ابْن أَحْمد الطوسي، ثَنَا عبد الرَّحِيم بن حبيب، ثَنَا الفضيل ابْن عِيَاض عَن عَطاء عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ. وَرَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب (الْعلم) عَن الْمقدمِي: ثَنَا أَبُو دَاوُد عَن معَاذ عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَنهُ، وَقد فسر ابْن عَبَّاس: الرباني بِأَنَّهُ الْحَكِيم الْفَقِيه، وَوَافَقَهُ ابْن مَسْعُود فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي غَرِيبه عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، والرباني: مَنْسُوب إِلَى الرب، وَأَصله الربي، فزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون للتَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة فِي النِّسْبَة. وَقَالَ أَبُو الْمعَانِي فِي كِتَابه (الْمُنْتَهى) : فِي اللُّغَة الرباني: المتأله الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى، وربيت الْقَوْم سستهم أَي: كنت فَوْقهم. وَقَالَ أَبُو نصر: هُوَ من الربوبية، وَعَن ابْن الْأَعرَابِي لَا يُقَال للْعَالم رباني حَتَّى يكون عَالما معلما. وَيُقَال: هُوَ العالي الدرجَة فِي الْعلم، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: الرباني مَنْسُوب إِلَى الرب كَأَنَّهُ الَّذِي يقْصد مَا أمره الرب، وَفِي كتاب (الْفَقِيه) للخطيب عَن مُجَاهِد: الربانيون الْفُقَهَاء، وهم فَوق الْأَحْبَار. وَقَالَ نفطويه: قَالَ أَحْمد بن يحيى: إِنَّمَا قيل للْعُلَمَاء ربانيون لأَنهم يربون الْعلم، أَي: يقومُونَ بِهِ. وَفِي كتاب (الْفِقْه) عَنهُ إِذا كَانَ الرجل عَالما عَاملا معلما قيل لَهُ: هَذَا رباني. فَإِن خرم خصْلَة مِنْهَا لم يقل لَهُ رباني. وَعند الطَّبَرِيّ عَن ابْن زيد: الربيون الأتباع، والربانيون الْوُلَاة، والربيون الرّعية. وَعَن الْأَزْهَرِي: هم أَرْبَاب الْعلم الَّذين يعلمُونَ مَا يعلمُونَ. وَقَالَ أَبُو عبيد: سَمِعت رجلا عَالما بالكتب يَقُول: الربانيون الْعلمَاء بالحلال وَالْحرَام. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الربي، وَالْجمع: ربيون: هم الْعباد الَّذين يصحبون الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، ويصبرون مَعَهم، وهم الربانيون، نسبوا إِلَى عبَادَة الرب، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقيل: هم الْعلمَاء الصَّبْر. وَقيل: لَيْسَ ربيون بلغَة الْعَرَب، إِنَّمَا هِيَ سريانية أَو عبرانية. وَحكي عَن بعض اللغويين أَن الْعَرَب لَا تعرف الرباني، وَقَالَ: إِنَّمَا فسره الْفُقَهَاء. قَالَ الْقَزاز: وَأَنا أرى أَن يكون عَرَبيا. قَوْله: (حكماء) جمع حَكِيم، وَالْحكمَة صِحَة القَوْل وَالْعقد وَالْفِعْل، وَيُقَال: الْحِكْمَة، الْفِقْه فِي الدّين. وَقيل: الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء جمع فَقِيه، وَالْفِقْه: الْفَهم لُغَة، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة العملية من أدلتها التفصيلية، وَفِي بعض النّسخ: (حلماء) ، جمع حَلِيم بِاللَّامِ، والحلم هُوَ الطُّمَأْنِينَة عِنْد الْغَضَب، وَفِي بَعْضهَا عُلَمَاء، وَهُوَ من بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام، وَالظَّاهِر أَن حكماء وفقهاء تَفْسِير للربانيين.
ويُقالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي الناسَ بِصِغارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ
هَذَا حِكَايَة البُخَارِيّ عَن قَول بَعضهم، وَهُوَ من التربية أَي: الَّذِي يُربي النَّاس بجزئيات الْعلم قبل كلياته، أَو بفروعه قبل أُصُوله، أَو بمقدماته قبل مقاصده. فَإِن قلت: هَذَا كُله هُوَ التَّرْجَمَة، فَأَيْنَ مَا هَذِه تَرْجَمته؟ قلت: إِمَّا أَنه أَرَادَ أَن يلْحق الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة إِلَيْهَا، فَلم يتَّفق لَهُ. وَإِمَّا أَنه للإشعار بِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ مَا يُنَاسِبهَا، وَإِمَّا أَنه اكْتفى بِمَا ذكره تَعْلِيقا، لِأَن الْمَقْصُود من الْبَاب بَيَان فَضِيلَة الْعلم، وَيعلم ذَلِك من الْمَذْكُور آيَة وحديثاً وإجماعاً سكوتياً من الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِحَيْثُ انْتهى إِلَى حد علم الضَّرُورَة فَلم يحْتَج إِلَى الزِّيَادَة، أَو لسَبَب آخر، وَالله أعلم.
11 - (بَاب مَا كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُهُمْ بالموْعِظَةِ والعِلْمِ كَي لاَ يَنْفِرُوا)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: إِن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يَتَخَوَّلُ الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، بِالْمَوْعِظَةِ، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده من الْجُمْلَة، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: بَاب كَون النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يتخولهم. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الْعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التخول بِالْعلمِ. الثَّالِث: قَوْله: يتخولهم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره اللَّام، مَعْنَاهُ: يتعهدهم، وَهُوَ من التخول، وَهُوَ التعهد(2/43)
يَعْنِي: كَانَ يتعهدهم ويراعي الْأَوْقَات فِي وعظهم، ويتحرى مِنْهَا مَا كَانَ مَظَنَّة الْقبُول، وَلَا يَفْعَله كل يَوْم لِئَلَّا يسأم. والخائل الْقَائِم المتعهد للْحَال، ذكره الْخطابِيّ. والآن يَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) قَالَ الصغاني: الْوَعْظ والعظة وَالْمَوْعِظَة مصَادر قَوْلك: وعظته أعظه. والوعظ: هُوَ النصح والتذكير بالعواقب، وَعطف الْعلم على الموعظة من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، عكس: وَمَلَائِكَته وَجِبْرِيل. وَذكره الموعظة لكَونهَا مَذْكُورَة فِي الحَدِيث، وَأما الْعلم فَإِنَّمَا ذكره استنباطاً. قَوْله: (كي لَا ينفروا) : أَي: لِئَلَّا يملوا عَنهُ ويتباعدوا مِنْهُ، يُقَال: نفر ينفر، من بَاب: ضرب يضْرب، وَنَفر ينفر من بَاب نصر ينصر نفوراً بِالضَّمِّ، ونفار بِالْفَتْح، والنفور أَيْضا جمع نافر كشاهد وشهود، وَيُقَال: فِي الدَّابَّة نفار، بِكَسْر النُّون، وَهُوَ اسْم مثل الحران، والتركيب يدل على تجافٍ وتباعد.
68 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنا سُفْيانُ عَن الأعْمَشِ عَن أبي وائِلٍ عنِ ابْنِ مَسْعُودَ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهةَ السَّآمَة عَلَيْنا.
مُطَابقَة الحَدِيث لإحدى الترجمتين وَهِي قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) ظَاهِرَة، وَالْبَاب مترجم بترجمتين إِحْدَاهمَا: قَوْله: (بِالْمَوْعِظَةِ) وَالْأُخْرَى: قَوْله: (كي لَا ينفروا) ، فأورد فِيهِ حديثين كل مِنْهُمَا يُطَابق وَاحِدَة مِنْهُمَا.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي (شَرحه) : هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف بن وَاقد الْفرْيَابِيّ، أَبُو عبد اللَّه الضَّبِّيّ، مَوْلَاهُم، سكن قيسارية من سَاحل الشَّام، أدْرك الْأَعْمَش وروى عَنهُ وَعَن السفيانين وَغَيرهم، وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَمُحَمّد الذهلي وَمُحَمّد بن مُسلم ابْن وارة وَغَيرهم، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وروى فِي كتاب الصَدَاق عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب عَنهُ، وروى بَقِيَّة الْجَمَاعَة عَن رجل عَنهُ. قَالَ أَحْمد: كَانَ رجلا صَالحا. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: كَانَ من أفضل أهل زَمَانه، مَاتَ فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البيكندي، وَهَذَا وهم، لِأَن البُخَارِيّ حَيْثُ يُطلق مُحَمَّد بن يُوسُف لَا يُرِيد بِهِ، إلاَّ الْفرْيَابِيّ، وَإِن كَانَ يروي أَيْضا عَن البيكندي. فَافْهَم. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ: فَإِن قلت: مُحَمَّد بن الْفرْيَابِيّ يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَيْضا كَمَا ذكرنَا، فَمَا الْمُرَجح هَهُنَا لِسُفْيَان الثَّوْريّ؟ قلت: الْفرْيَابِيّ، وَإِن كَانَ يروي عَن السفيانين، وَلكنه حَيْثُ يُطلق لَا يُرِيد بِهِ، إلاَّ الثَّوْريّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: أَبُو واثل، شَقِيق بن سَلمَة الْكُوفِي. الْخَامِس: عبد اللَّه بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْفرْيَابِيّ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة نِسْبَة إِلَى فرياب، اسْم مَدِينَة من نواحي بَلخ. قَالَ الصغاني: فرياب مثل جربال، وَيُقَال: فيرياب مثل: كيمياء، وَيُقَال: فارياب، مثل: قاصعاء، وَأما: فاراب، فَهِيَ نَاحيَة وَرَاء نهر سيحون فِي تخوم بِلَاد التّرْك، وفراب مثل سَحَاب قَرْيَة فِي سفح جبل على ثَمَانِيَة فراسخ من سَمَرْقَنْد، وفراب مثل: كفار، قَرْيَة من قرى أَصْبَهَان. الضَّبِّيّ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى ضبة بن اد بن طابخة بن الياس بن مُضر، وَفِي قُرَيْش أَيْضا: ضبة بن الْحَارِث بن فهر، ذكره ابْن حبيب. وَفِي هُذَيْل أَيْضا: ضبة بن عَمْرو ابْن الْحَارِث بن تَمِيم بن سعد بن هُذَيْل. البيكندي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة وَفتح الْكَاف وَسُكُون النُّون بعْدهَا الدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى بيكند، قَرْيَة من قرى بُخَارى.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كوفيون مَا خلا الْفرْيَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. فَإِن قلت: الْأَعْمَش مُدَلّس وَقد عنعن هُنَا، وَقد روى مُسلم من طَرِيق عَليّ بن مسْهر عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه، فَذكر الحَدِيث: قَالَ عَليّ بن مسْهر قَالَ الْأَعْمَش: وحَدثني عَمْرو بن مرّة عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه مثله، فقد يُوهم هَذَا أَن الْأَعْمَش دلسه، أَولا عَن شَقِيق، ثمَّ سمى الْوَاسِطَة بَينهمَا. قلت: صرح أَحْمد فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث بِسَمَاع الْأَعْمَش عَن شَقِيق، فَقَالَ: سَمِعت شقيقاً، وَهُوَ أَبُو وَائِل، وَكَذَا صرح الْأَعْمَش بِالتَّحْدِيثِ عِنْد البُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات من رِوَايَة حَفْص بن غياث عَنهُ، قَالَ: حَدثنِي شَقِيق، وَزَاد فِي أَوله: إِنَّهُم كَانُوا ينتظرون عبد اللَّه بن مَسْعُود ليخرج إِلَيْهِم فيذكرهم، وَإنَّهُ لما خرج قَالَ: أما إِنِّي أخبر بمكانكم، وَلكنه يَمْنعنِي من الْخُرُوج إِلَيْكُم ... فَذكر الحَدِيث.(2/44)
بَيَان تعد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود بِهِ، وَأخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَأَبُو مُعَاوِيَة وَمُحَمّد بن نمير عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن الْأَشَج عَن ابْن إِدْرِيس، وَعَن منْجَاب عَن عَليّ بن مسْهر، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن خشرم عَن عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، كلهم عَن الْأَعْمَش. زَاد الْأَعْمَش فِي رِوَايَة ابْن مسْهر: وحَدثني عَمْرو بن مرّة عَن شَقِيق عَن عبد اللَّه مثله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن غيلَان عَن أبي أَحْمد الزبيرِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى بن سعيد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش بِهِ، وَفِي نُسْخَة عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (يَتَخَوَّلنَا) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام، من التخول، وَهُوَ: التعهد، من: خَال المَال، وخال على الشَّيْء خولاً، إِذا تعهد، وَيُقَال: خَال المَال يخوله خولاً إِذا ساسه وَأحسن الْقيام عَلَيْهِ، والخائل المتعاهد للشَّيْء المصلح لَهُ، وخول الله الشَّيْء أَي: ملكه إِيَّاه، وخول الرجل حشمه، الْوَاحِد خائل، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الصَّوَاب يتحولهم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: يطْلب أَحْوَالهم الَّتِي ينشطون فِيهَا للموعظة، فيعظهم وَلَا يكثر عَلَيْهِم فيملوا. وَكَانَ الْأَصْمَعِي يرويهِ: يتخوننا، بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: يتعهدنا. حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحب (نِهَايَة الْغَرِيب) . وَفِي (مجمع الغرائب) قَالَ الْأَصْمَعِي: أَظُنهُ يتخونهم، بالنُّون، وَهُوَ بِمَعْنى: التعهد. وَقيل: إِن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سمع الْأَعْمَش يحدث هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: يَتَخَوَّلنَا، بِاللَّامِ، فَرده عَلَيْهِ بالنُّون فَلم يرجع لأجل الرِّوَايَة، وكلا اللَّفْظَيْنِ جَائِز، وَالصَّوَاب: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: مَعْنَاهُ يتخذنا خولاً. وَيُقَال: يناجينا بهَا. وَقيل: يُصْلِحنَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يذللنا بهَا، يُقَال: خول الله لَك أَي: ذلله لَك وسخره. وَقيل: يحبسهم عَلَيْهَا كَمَا يحبس الخول. قَوْله: (كَرَاهِيَة السَّآمَة) من كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة وكراهية، والسآمة مثل الملالة، بِنَاء وَمعنى، وَقَالَ أَبُو زيد: سئمت من الشَّيْء أسأم سأماً وسآمةً وسآماً: إِذا مللته، وَرجل سؤوم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (النَّبِي) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ. وَقَوله: (يَتَخَوَّلنَا) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ. فَإِن قلت: كَانَ لثُبُوت خَبَرهَا مَاضِيا، و: يَتَخَوَّلنَا، إِمَّا حَال وَإِمَّا اسْتِقْبَال، فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: كَانَ يُرَاد بِهِ الِاسْتِمْرَار، وَكَذَا الْفِعْل الْمُضَارع، فاجتماعهما يُفِيد شُمُول الْأَزْمِنَة. وَقَالَ الأصوليون: قَوْله: كَانَ حَاتِم يكرم الضَّيْف، يُفِيد تكْرَار الْفِعْل فِي الْأَزْمَان، وَالْبَاء فِي: بِالْمَوْعِظَةِ، تتَعَلَّق: بيتخولنا، قَوْله: (فِي الْأَيَّام) ، صفة لموعظة أَي: بِالْمَوْعِظَةِ الكائنة فِي الْأَيَّام. قَوْله: (كَرَاهِيَة السَّآمَة) ، كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ، أَي: لأجل كَرَاهِيَة السَّآمَة، وصلَة السَّآمَة محذوفة، لِأَنَّهُ يُقَال: سأمت من الشَّيْء، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة من الموعظة. وَقَوله: (علينا) إِمَّا يتَعَلَّق بالسآمة على تضمين السَّآمَة معنى الْمَشَقَّة، أَي: كَرَاهَة الْمَشَقَّة علينا، إِذْ الْمَقْصُود بَيَان رفق النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، بالأمة وشفقته عَلَيْهِم ليأخذوا مِنْهُ بنشاط وحرص لَا عَن ضجر وملل، وَإِمَّا يَجْعَل صفة، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة الطارئة علينا. وَإِمَّا يَجْعَل حَالا، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة حَال كَونهَا طارئة علينا. وَإِمَّا يتَعَلَّق بالمحذوف، وَالتَّقْدِير: كَرَاهِيَة السَّآمَة شَفَقَة علينا. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: الْمَعْنى: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعظ الصَّحَابَة فِي أَوْقَات مَعْلُومَة، وَلم يكن يسْتَغْرق الْأَوْقَات خوفًا عَلَيْهِم من الْملَل والضجر، كَمَا كَانَ نَهَاهُم بقوله: (لَا يُصَلِّي أحد خاماً وركيه) . وكما قَالَ: (ابدأوا بالعشاء لِئَلَّا تشْغَلُوا عَن الإقبال على الله تَعَالَى بِغَيْرِهِ) . وَعَن الصَّلَاة وَعَن النِّيَّة، وَقد وَصفه الله تَعَالَى بالرفق بأمته فَقَالَ: {عَزِيز عَلَيْهِ ماعنتم} (التَّوْبَة: 128) الْآيَة: فَإِن قلت: أَيجوزُ أَن يكون المُرَاد من السَّآمَة سآمة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من القَوْل؟ قلت: لَا يجوز، وَيدل عَلَيْهِ السِّيَاق وقرينة الْحَال.
69 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ: حدّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ: حدّثنيأبو التَّيَّاح عَن أنسٍ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وبشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا) .
(الحَدِيث 69 طرفه فِي: 6125) .
هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة كَمَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد(2/45)
الشين الْمُعْجَمَة، ابْن عُثْمَان بن دَاوُد بن كيسَان الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، كنيته أَبُو بكر ولقبه بنْدَار، واشتهر بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ بنداراً فِي الحَدِيث، جمع حَدِيث بَلَده، وَبُنْدَار، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون النُّون وَالدَّال الْمُهْملَة وبالراء: الْحَافِظ. وَقَالَ أَحْمد: كتبت عَنهُ نَحوا من خمسين ألف حَدِيث، روى عَنهُ السِّتَّة وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان وَعبد اللَّه بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَعنهُ قَالَ: كتب عني خَمْسَة قُرُون، وسألوني الحَدِيث وَأَنا ابْن ثَمَان عشرَة سنة. وَقَالَ: ولدت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَقَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين يَعْنِي وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان الْأَحول. الثَّالِث: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد بن حميد، بِالتَّصْغِيرِ، الضبعِي من أنفسهم، سمع أنسا وَعمْرَان بن حُصَيْن من الصَّحَابَة، وخلقاً من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، قَالَ أَحْمد: هُوَ ثِقَة ثَبت. وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: هُوَ مَعْرُوف ثِقَة، مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْعَبْدي: نِسْبَة إِلَى عبد بن نصر بن كلاب بن مرّة فِي قُرَيْش، وَفِي ربيعَة بن نزار عبد الْقَيْس بن أفصى، وَفِي تَمِيم عبد اللَّه بن دارم، وَفِي خولان عبد اللَّه بن جَبَّار، وَفِي هَمدَان عبد بن غيلَان بن أرحب. الضبعِي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى ضبيعة بن زيد بن مَالك فِي الْأَنْصَار، وَفِي ربيعَة بن نزار ضبيعة بن ربيعَة بن نزار، وَفِي بني ثَعْلَبَة ضبيعة بن قيس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ والإفراد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن آدم عَن شُعْبَة بِهِ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن عبد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبيد بن سعيد، وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر، كلهم عَن شُعْبَة بِهِ، فَوَقع للْبُخَارِيّ عَالِيا رباعياً من طَرِيق آدم، وآدَم مِمَّن انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن بنْدَار بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (يسروا) ، أَمر من: يسر ييسر تيسيراً من الْيُسْر، وَهُوَ نقيض الْعسر. قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) ، من عسر تعسيراً. يُقَال: عسرت الْغَرِيم أعسره عسراً، إِذا طلبت مِنْهُ الدّين على عسرته. وَقَالَ ابْن طريف: هَذَا مِمَّا جَاءَ على فعل وأفعل: كعسرتك عسراً وأعسرتك، إِذا طلبت مِنْك الدّين على عسرة، وعسر الشَّيْء وعسر، بِضَم السِّين وَكسرهَا، عسراً وعسارة، وعسر الرجل: قل سماحه وضاق خلقه، وأعسر الرجل: افْتقر. وَفِي (الْعباب) : قد عسر الْأَمر، بِالضَّمِّ، عسراً فَهُوَ عسر وعسير، وعسر عَلَيْهِ الْأَمر، بِالْكَسْرِ، يعسر عسراً، بِالتَّحْرِيكِ، أَي: التاث، فَهُوَ عسر. وَيُقَال: عسرت النَّاقة بذنبها تعسر عسراً أَو عسراناً، مِثَال: ضرب يضْرب ضربا وضربانا: إِذا شالت بِهِ، وعسرت الْمَرْأَة إِذا عسر ولادها، وعسرني فلَان إِذا جَاءَ على يساري، والمعسور ضد الميسور، والمعسرة ضد الميسرة، وهما مصدران. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هما صفتان، والعسرى نقيض الْيُسْرَى. قَوْله: (وبشروا) ، من الْبشَارَة وَهِي الْإِخْبَار بِالْخَيرِ، وَهِي نقيض: النذارة، وَهِي الْإِخْبَار بِالشَّرِّ. يُقَال: بشرت الرجل أُبَشِّرهُ، بِالضَّمِّ، بشرا وبشوراً من الْبشرَة، وَكَذَلِكَ الإبشار والتبشير. يُقَال: أبشر وَبشر. قَالَ الله تَعَالَى: {وابشروا بِالْجنَّةِ} (فصلت: 30) {وبشروا الَّذين آمنُوا} (الْبَقَرَة: 25، وَيُونُس: 2) {ذَلِك الَّذِي يبشر} (الشورى: 23) ثَلَاث لُغَات فِي الْقُرْآن أبشر وَبشر وَبشر بِالتَّخْفِيفِ، وَالِاسْم: الْبشَارَة والبشارة، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، تَقول: بَشرته بمولود، وأبشرتك بِالْخَيرِ، وبشرتك. وَقَالَ الصغاني: الْبشَارَة، بِالْكَسْرِ وَالضَّم، أَي حق مَا يعْطى على التبشير. وَقَالَ اللحياني، رَحمَه الله تَعَالَى: الْبشَارَة مَا بشرت من بطن الْأَدِيم، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْبشَارَة والقشارة والخسارة. إِسْقَاط النَّاس، وبشرت بِكَذَا، بِكَسْر الشين، أبشر، أَي: استبشرت. قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) ، من: نفر، بِالتَّشْدِيدِ، تنفيراً. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (يسروا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) عطف على: يسروا، وَيجوز عطف النَّهْي على الْأَمر كَمَا بِالْعَكْسِ، وَالْخلاف فِي عطف الْخَبَر على الْإِنْشَاء وَبِالْعَكْسِ، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَكَذَا الْكَلَام فِي قَوْله: (بشروا وَلَا تنفرُوا) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (يسروا) أَمر بالتيسير، لَا يُقَال: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، فَمَا الْفَائِدَة فِي قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا) ؟ لأَنا نقُول: لَا نسلم ذَلِك، وَلَئِن سلمنَا فالغرض التَّصْرِيح بِمَا لزم ضمنا للتَّأْكِيد. وَيُقَال: لَو اقْتصر على(2/46)
قَوْله: (يسروا) ، وَهُوَ نكرَة لصدق ذَلِك على من يسر مرّة وعسر فِي مُعظم الْحَالَات، فَإِذا قَالَ: وَلَا تُعَسِّرُوا، انْتَفَى التعسير فِي جَمِيع الْأَحْوَال من جَمِيع الْوُجُوه، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) لَا يُقَال: كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على قَوْله: (وَلَا تُعَسِّرُوا وَلَا تنفرُوا) لعُمُوم النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم التعسير ثُبُوت التَّيْسِير، وَلَا من عدم التنفير ثُبُوت التَّيْسِير، فَجمع بَين هَذِه الْأَلْفَاظ لثُبُوت هَذِه الْمعَانِي، لِأَن هَذَا الْمحل يَقْتَضِي الإسهاب، وَكَثْرَة الْأَلْفَاظ لَا الِاخْتِصَار لشبهه بالوعظ، وَالْمعْنَى: وبشروا النَّاس أَو الْمُؤمنِينَ بِفضل الله تَعَالَى وثوابه، وجزيل عطائه وسعة رَحمته، وَكَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله: (وَلَا تنفرُوا) يَعْنِي: بِذكر التخويف وأنواع الْوَعيد، فيتألف من قرب إِسْلَامه بترك التَّشْدِيد عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ من قَارب الْبلُوغ من الصّبيان، وَمن بلغ وَتَابَ من الْمعاصِي يتلطف بجميعهم بأنواع الطَّاعَة قَلِيلا قَلِيلا، كَمَا كَانَت أُمُور الْإِسْلَام على التدريج فِي التَّكْلِيف شَيْئا بعد شَيْء، لِأَنَّهُ مَتى يسر على الدَّاخِل فِي الطَّاعَة المريد للدخول فِيهَا، سهلت عَلَيْهِ وتزايد فِيهَا غَالِبا، وَمَتى عسر عَلَيْهِ أوشك أَن لَا يدْخل فِيهَا. وَإِن دخل أوشك أَن لَا يَدُوم أَو لَا يستحملها.
وَفِيه الْأَمر للولاة بالرفق، وَهَذَا الحَدِيث من جَوَامِع الْكَلم لاشْتِمَاله على خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، لِأَن الدُّنْيَا دَار الْأَعْمَال، وَالْآخِرَة دَار الْجَزَاء، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بالدنيا بالتسهيل، وَفِيمَا يتَعَلَّق بِالآخِرَة بالوعد بِالْخَيرِ والإخبار بالسرور تَحْقِيقا لكَونه رَحْمَة للْعَالمين فِي الدَّاريْنِ.
بَيَان البديع: اعْلَم أَن بَين: (يسروا) ، وَبَين (بشروا) ، جناس خطي، والجناس بَين اللَّفْظَيْنِ تشابههما فِي اللَّفْظ، وَهَذَا من الجناس التَّام الْمُتَشَابه، وَهَذَا بَاب من أَنْوَاع البديع الَّذِي يزِيد فِي كَلَام البليغ حسنا وطلاوة. فَإِن قلت: كَانَ الْمُنَاسب أَن يُقَال بدل: (وَلَا تنفرُوا) وَلَا تنذروا، لِأَن الْإِنْذَار وَهُوَ نقيض التبشير لَا التنفير. قلت: الْمَقْصُود من الْإِنْذَار التنفير، فَصرحَ بِمَا هُوَ الْمَقْصُود مِنْهُ.
12 - (بَاب مَنْ جَعَلَ لأهْلِ العِلْمِ أيَّاماً مَعلُومَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من جعل، فالباب مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى: من، هَذَا رِوَايَة كَرِيمَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَيَّامًا مَعْلُومَات) ، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (يَوْمًا مَعْلُوما) . وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن الْبَاب الأول فِي التخويل بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعلم، وَقد ذكرنَا أَن مَعْنَاهُ هُوَ التعهد فِي أَيَّام خوفًا من الْملَل والضجر، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا كَذَلِك.
70 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ: حدّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصورٍ عنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ! لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أمَا إنَّهُ يمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُم، وإِنِّي أتَخَوَّلُكُم بالمَوعِظَةِ كَمَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَخَوَّلُنا بِها مخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
. [/ محه
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهَا، إِمَّا أَن يكون بِفعل الصَّحَابِيّ عِنْد من يَقُول بِهِ، أَو بالاستنباط من فعل النَّبِي. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عُثْمَان بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي شيبَة بن عُثْمَان ابْن خواستي، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف سين مُهْملَة ثمَّ تَاء مثناة من فَوق، أَبُو الْحسن الْعَبْسِي الْكُوفِي، أَخُو أبي بكر وقاسم، وَهُوَ أكبر من أبي بكر بِثَلَاث سِنِين، وَأَبُو بكر أجل مِنْهُ، نزل بَغْدَاد ورحل إِلَى مَكَّة والري، وَكتب الْكثير، روى عَنهُ يحيى بن مُحَمَّد الذهلي وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، سُئِلَ عَنهُ مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير، فَقَالَ: وَمثله يسْأَل عَنهُ؟ وَقَالَ يحيى بن معِين وَأحمد بن عبد اللَّه ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: مَا علمت إلاَّ خيرا، وَأثْنى عَلَيْهِ وَكَانَ يُنكر عَلَيْهِ أَحَادِيث حدث بهَا. مِنْهَا حَدِيث جرير عَن الثَّوْريّ عَن ابْن عقيل عَن جَابر قَالَ: شهد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عيد الْمُشْركين، توفّي لثلاث بَقينَ من الْمحرم سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: جرير بن عبد الحميد بن قرط بن هِلَال، وَقيل: تيري بدل هِلَال، الضَّبِّيّ الْكُوفِي. قَالَ: ولدت سنة مَاتَ الْحسن، وَهِي سنة عشر وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقيل: سبع، روى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق وَأَبُو بكر، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة كثير الْعلم يرحل إِلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق من أهل الْعلم روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: مَنْصُور بن(2/47)
الْمُعْتَمِر بن عبد اللَّه بن ربيعَة، وَيُقَال: ابْن الْمُعْتَمِر بن عتاب بن عبد اللَّه بن ربيعَة، بِضَم الرَّاء، وعتاب، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق، روى عَنهُ أَيُّوب وَالْأَعْمَش ومسعر وَالثَّوْري. وَهُوَ أثبت النَّاس فِيهِ، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْعلم وَالْوُضُوء وَالْغسْل وَالْحج وَغير مَوضِع عَن شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وشيبان وروح بن الْقَاسِم وَحَمَّاد بن زيد وَجَرِير بن عبد الحميد عَنهُ عَن أبي وَائِل، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَمُجاهد وَالزهْرِيّ ورِبْعِي وَسَالم بن أبي الْجَعْد، أُرِيد على الْقَضَاء فَامْتنعَ. قيل: صَامَ أَرْبَعِينَ سنة وَقَامَ لَيْلهَا، وَقيل: سِتِّينَ سنة، وعمش من الْبكاء، وَمَات سنة ثَلَاث، وَقيل: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. الْخَامِس: عبد اللَّه بن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِي اسناده التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كوفيون. وَمِنْهَا: أَنهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (يذكر النَّاس) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا خبر: كَانَ. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) ، أَي لعبد اللَّه، رجل قيل: إِنَّه يزِيد بن مُعَاوِيَة النَّخعِيّ. قَوْله: (يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن) هُوَ كنية عبد اللَّه بن مَسْعُود. قَوْله: (لَوَدِدْت) اللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف، أَي: وَالله لَوَدِدْت أَي: لاحببت. وَقَول: (أَنَّك) بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ مفعول وددت. وَقَوله: (ذكرتنا) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر أَن. قَوْله: (كل يَوْم) كَلَام إضافي مَنْصُوب على الظّرْف. قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم، من حُرُوف التَّنْبِيه، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: أما، هَذِه على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون حرف استفتاح بِمَنْزِلَة أَلا، وَيكثر قبل الْقسم. وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى حَقًا، وَأما، هَهُنَا من الْقسم الأول. قَوْله: (إِنَّه) ، بِكَسْر الْهمزَة، وَالضَّمِير فِيهِ للشأن، وبفتح أَن بعد أما إِذا كَانَ بِمَعْنى حَقًا. قَوْله: (يَمْنعنِي) فعل ومفعول. وَقَوله: (أَنِّي أكره) ، بِفَتْح الْهمزَة من: أَنِّي، فَاعل يَمْنعنِي، و: أكره، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر أَن. قَوْله: (أَن أَملكُم) أَن: هَذِه مَصْدَرِيَّة، و: أَملكُم، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْمِيم وَتَشْديد اللاَّم، وَالتَّقْدِير: أكره إملالكم وضجركم. قَوْله: (وَإِنِّي) بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (اتخولكم) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (كَمَا كَانَ) الْكَاف للتشبيه، و: مَا، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (بهَا) أَي بِالْمَوْعِظَةِ. قَوْله: (علينا) يتَعَلَّق بالمخافتة، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بالسآمة.
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، من الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والمحافظة على سنته على حسب معاينتهم لَهَا مِنْهُ وتجنب مُخَالفَته لعلمهم بِمَا فِي مُوَافَقَته من عظم الْأجر، وَمَا فِي مُخَالفَته بعكس ذَلِك.
13 - (بَاب مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من يرد الله بِهِ خيرا وَمن مَوْصُولَة (وَيرد الله بِهِ خيرا) صلتها وَإِنَّمَا جزم يرد لِأَنَّهُ فعل الشَّرْط لِأَن من يتَضَمَّن معنى الشَّرْط وَخيرا مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يرد وَقَوله (يفقهه) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط قَوْله (فِي الدّين) فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره سَاقِط. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول شَأْن من يذكر النَّاس فِي أُمُور دينهم بِبَيَان مَا يَنْفَعهُمْ وَمَا يضرهم وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا شَأْن الْفَقِيه فِي الدّين وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ مدح هَذَا الْفَقِيه وَكَيف لَا يكون ممدوحاً وَقد أَرَادَ الله بِهِ خيرا حَيْثُ جعله فَقِيها فِي دينه عَالما بِأَحْكَام شَرعه.
71 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثنا ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعاويَةَ خَطِيباً يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (مَنْ يُردِ الله بهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وإنَّمَا أَنا قاسِمٌ وَالله يُعْطِي ولَنْ تَزَالَ هَذِه الأُمَّةُ قائِمَةً عَلَى أمْر الله لاَ يضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفُمْ حَتَّى يأتِي أمْرُ الله) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهَا كلهَا من عين الحَدِيث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي قَوْله: بَاب من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، أعلم أَن مثله سمي مُرْسلا عِنْد طَائِفَة وَالْحق وَعَلِيهِ الْأَكْثَر أَنه إِذا ذكر الحَدِيث مثلا، ثمَّ وصل بِهِ إِسْنَاده يكون مُسْندًا لَا مُرْسلا قلت: لَا دخل للإسناد والإرسال فِي مثل هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ تَرْجَمَة، وَلَا يقْصد بهَا إِلَّا الْإِشَارَة إِلَى مَا قَصده من وضع هَذَا الْبَاب.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء،(2/48)
وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير بن مُسلم بن يزِيد ابْن حبيب بن الْأسود، أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ، سمع مَالِكًا، وَابْن وهب وَاللَّيْث وَآخَرين، روى عَنهُ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَالْبُخَارِيّ، وروى مُسلم وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ ابْن حَاتِم فِي كتاب (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) : سَمِعت مِنْهُ، أَي: وَقَالَ: لم يكن بالثبت، كَانَ يقْرَأ من كتب النَّاس وَهُوَ صَدُوق. وَقَالَ الْمَقْدِسِي: وَكَانَ سعيد بن عفير من أعلم النَّاس بالأنساب وَالْأَخْبَار الْمَاضِيَة والتواريخ والمناقب أديباً فصيحاً، حَاضر الْحجَّة مليح الشّعْر، توفّي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد اللَّه بن وهب بن مُسلم الْبَصْرِيّ، أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي الفِهري، مولى يزِيد بن رمانة، مولى أبي عبد الرَّحْمَن يزِيد بن أنيس الفِهري. سمع مَالِكًا وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَابْن أبي ذِئْب وَابْن جريج وَغَيرهم، وَذكر بَعضهم أَنه روى عَن نَحْو أَرْبَعمِائَة رجل، وَأَن مَالِكًا لم يكْتب إِلَى أحد: الْفَقِيه إلاَّ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ صَحِيح الحَدِيث، يفصل السماع من الْعرض، والتحديث من الحَدِيث، مَا أصح حَدِيثه وَمَا أثْبته. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: نظرت فِي نَحْو ثَمَانِينَ ألف حَدِيث من حَدِيث ابْن وهب بِمصْر وَغير مصر، فَلَا أعلم أَنِّي رَأَيْت حَدِيثا لَا أصل لَهُ. وَقَالَ: صَالح الحَدِيث صَدُوق. وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: حدث بِمِائَة ألف حَدِيث، وَقَالَ ابْن بكير بن وهب: أفقه من ابْن الْقَاسِم، ولد فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَقيل: سنة أَربع، وفيهَا مَاتَ الزُّهْرِيّ، وَتُوفِّي بِمصْر سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، لأَرْبَع بَقينَ من شعْبَان، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عبد اللَّه بن وهب غَيره، فَهُوَ من أفرادهما، وَفِي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه: عبد اللَّه بن وهب الْأَسدي تَابِعِيّ، وَفِي النَّسَائِيّ: عبد اللَّه بن وهب عَن تَمِيم الدَّارِيّ، وَصَوَابه: ابْن موهب، وَفِي الصَّحَابَة عبد اللَّه بن وهب خَمْسَة. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: حميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله عَنهُ، وَقد تقدم. السَّادِس: مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان: صَخْر بن حَرْب الْأمَوِي، كَاتب الْوَحْي، أسلم عَام الْفَتْح، وعاش ثمانياً وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتِّينَ فِي رَجَب، ومناقبه جمة، وَفِي آخر عمره أَصَابَته لقُوَّة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، مائَة حَدِيث وَثَلَاثَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا ثَمَانِيَة، وَمُسلم خَمْسَة، واتفقا على أَرْبَعَة أَحَادِيث. روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة مُعَاوِيَة بن صَخْر غَيره، وَفِيهِمْ مُعَاوِيَة فَوق الْعشْرين.
بَيَان الطَّائِف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وايلي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَنه قَالَ فِي هَذَا الْإِسْنَاد وَعَن ابْن شهَاب قَالَ: قَالَ حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَلم يذكر فِيهِ لفظ السماع. وَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ من البُخَارِيّ، وَجَاء فِي مُسلم فِيهِ عَن ابْن شهَاب حَدثنِي حميد بِلَفْظ التحديث، وَقد اتّفق أَصْحَاب الْأَطْرَاف وَغَيرهم على أَنه من حَدِيث ابْن شهَاب عَن حميد الْمَذْكُور. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: فَلَا أَدْرِي لم قَالَ فِيهِ: قَالَ حميد، مَعَ الِاتِّفَاق على تحديث ابْن شهَاب عَن حميد الْمَذْكُور. قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك لأجل شهرة تحديث ابْن شهَاب عَنهُ بِهَذَا الحَدِيث اقْتصر فِيهِ على هَذَا القَوْل، وَلِهَذَا قَالَ فِي بَاب الِاعْتِصَام: عَن ابْن شهَاب، أَخْبرنِي حميد. وللبخاري عَادَة بذلك. وَقد قَالَ فِي كتاب التَّوْكِيل فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رجل آتَاهُ الله الْقُرْآن) ، فَقَالَ فِيهِ: حَدثنَا عَليّ بن عبد اللَّه، ثَنَا سُفْيَان قَالَ الزُّهْرِيّ ... وَذكر الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: سَمِعت من سُفْيَان مرَارًا، لم أسمعهُ يذكر الْخَبَر، وَهُوَ من صَحِيح حَدِيثه، لَكِن يُمكن أَن يُقَال: سُفْيَان مُدَلّس، فَلذَلِك نبه عَلَيْهِ البُخَارِيّ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من يرد الله) ، بِضَم الْيَاء، مُشْتَقّ من الْإِرَادَة، وَهِي عِنْد الْجُمْهُور صفة مخصصة لأحد طرفِي الْمَقْدُور بالوقوع، وَقيل: إِنَّهَا اعْتِقَاد النَّفْع أَو الضّر، وَقيل: ميل يتبعهُ الِاعْتِقَاد، وَهَذَا لَا يَصح فِي الْإِرَادَة الْقَدِيمَة. قَوْله: (خيرا) أَي: مَنْفَعَة، وَهُوَ ضد: الشَّرّ، وَهُوَ اسْم هَهُنَا، وَلَيْسَ بافعل التَّفْضِيل. قَوْله: (يفقهه) ، أَي يَجعله فَقِيها فِي الدّين. وَالْفِقْه لُغَة: الْفَهم، وَعرفا: الْعلم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وَلَا يُنَاسب هُنَا إلاَّ الْمَعْنى اللّغَوِيّ ليتناول فهم كل علم من عُلُوم الدّين. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْفَقِيه هُوَ الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِب فِي الْآخِرَة، والبصير بِأَمْر دينه، المداوم على عبَادَة ربه. وَقَالَ ابْن سَيّده فِي (الْمُخَصّص) : فقه الرجل فقاهة وَهُوَ فَقِيه من قوم فُقَهَاء، وَالْأُنْثَى فقيهة. وَقَالَ بَعضهم: فقه الرجل فقها وفقها وفقها، ويعدى فَيُقَال: فقهته، كَمَا يُقَال عَلمته. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: فقه فقهاً وَهُوَ فَقِيه كعلم علما وَهُوَ عليم، وَقد افقهته وفقهته: عَلمته وفهمته، والتفقه تعلم الْفِقْه، وفقهت عَلَيْهِ فهمت، وَرجل فقه وفقيه، والانثى فقهة. وَيُقَال للشَّاهِد: كَيفَ فقاهتك(2/49)
لما اشهدناك، وَلَا يُقَال فِي غير ذَلِك. وَالْفِقْه: الفطنة. وَقَالَ عِيسَى بن عمر: قَالَ لي أعرابيّ شهِدت عَلَيْك بالفقه. أَي: بالفطنة. وَفِي (الْمُحكم) : الْفِقْه الْعلم بالشَّيْء والفهم لَهُ، وَغلب على علم الدّين لسيادته وشرفه وفضله على سَائِر أَنْوَاع الْعُلُوم، والانثى: فقيهة من نسْوَة فقهاية، وَحكى اللحياني: من نسْوَة فُقَهَاء، وَهِي نادرة. وَكَأن قَائِل هَذَا من الْعَرَب لم يعْتد بهاء التَّأْنِيث، ونظيرها نسْوَة فُقَرَاء، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التيامي: فقه فقهاً مِثَال: حذر إِذا فهم، وافقهته إِذا بيّنت لَهُ. وَقَالَ ثَعْلَب: الْقُرْآن أصل لكل علم بِهِ فقه الْعلمَاء، فَمن قَالَ: فقه فَهُوَ فَقِيه، مِثَال: مرض فَهُوَ مَرِيض، وَفقه فَهُوَ فَقِيه، ككرم وظرف فَهُوَ كريم وظريف. وَفِي (الصِّحَاح) : فاقهته إِذا باحثته فِي الْعلم. وَفِي (الْجَامِع) لأبي عبد اللَّه: فقه الرجل تفقه فقهاً فَهُوَ فَقِيه. وَقيل: أفْصح من هَذَا فقه يفقه مثل علم يعلم علما، وَالْفِقْه علم الدّين، وَقد تفقه الرجل تفقها كثر علمه، وَفُلَان مَا يتفقه وَلَا يفقه، أَي: لَا يعلم وَلَا يفهم، وَقَالُوا: كل عَالم بِشَيْء فَهُوَ فَقِيه بِهِ، وَفِي (الغريبين) : فقه: فهم، وَفقه: صَار فَقِيها. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال للْعلم الْفِقْه لِأَنَّهُ عَن الْفَهم يكون، والعالم فَقِيه لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم بفهمه على تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا كَانَ لَهُ سَببا. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَوْلهم: رجل فَقِيه، مَعْنَاهُ: عَالم. قَوْله: (قَاسم) اسْم فَاعل من قسم الشَّيْء يقسمهُ قسما، بِالْفَتْح، وَالْقسم، بِالْكَسْرِ، الْحَظ والنصيب، وبالفتح أَيْضا هُوَ: الْقِسْمَة بَين النِّسَاء فِي البيتوتة، وَالْقسم، بِفتْحَتَيْنِ: الْيَمين. وَالْقِسْمَة الِاسْم. قَوْله: (وَلنْ تزَال) : الْفرق بَين: زَالَ يزَال، وَزَالَ يَزُول هُوَ أَن الأول من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وَيلْزمهُ النَّفْي بِخِلَاف الثَّانِي، وَالْأمة: الْجَمَاعَة. قَالَ الْأَخْفَش: هُوَ فِي اللَّفْظ وَاحِد، وَفِي الْمَعْنى جمع. وكل جنس من الْحَيَوَان أمة. وَفِي الحَدِيث: (لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها) . وَالْأمة الْقَامَة، وَالْأمة الطَّرِيقَة وَالدّين. وَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: 110) قَالَ الْأَخْفَش: يُرِيد أهل أمة، أَي: خير أهل دين، وَالْأمة الْحِين. قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُر بعد أمة} (يُوسُف: 45) وَقَالَ: {وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة} (هود: 8) وَالْأمة، بِالْكَسْرِ، لُغَة فِي الْأمة، وَالْأمة، بِالْكَسْرِ أَيْضا: النِّعْمَة، وَالْأمة، بِالضَّمِّ: الْملك أَيْضا، وَأَتْبَاع الْأَنْبِيَاء أَيْضا. وَالْأمة: الرجل الْجَامِع للخير أَيْضا، وَالْأمة: الْأُم، وَالْأمة: الرجل الْمُنْفَرد بِرَأْيهِ لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (سَمِعت مُعَاوِيَة) ، فِيهِ حذف المسموع، لِأَن المسموع هُوَ الصَّوْت لَا الشَّخْص. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تَقول سَمِعت رجلا يَقُول كَذَا، فتوقع الْفِعْل على الرجل، وتحذف المسموع لِأَنَّك وَصفته بِمَا يسمع، أَو جعلته حَالا عَنهُ فاغناك عَن ذكره، وَلَوْلَا الْوَصْف أَو الْحَال لم يكن مِنْهُ بُد أَن يُقَال: سَمِعت قَول فلَان. قَوْله: (خَطِيبًا) نصب على الْحَال من مُعَاوِيَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حَال من الْمَفْعُول لَا من الْفَاعِل، لِأَنَّهُ أقرب. وَلِأَن الْخطْبَة تلِيق بالولاة. قلت: لَا يُبَادر الْوَهم قطّ هَهُنَا إِلَى كَون حميد هُوَ الْخَطِيب حَتَّى يُعلل بِهَذَيْنِ التعليلين، وَلَو قَالَ مثل مَا قُلْنَا لَكَانَ كفى. قَوْله: (يَقُول) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال. وَقَوله: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مقول القَوْل، وَقَوله: يَقُول، أَيْضا حَال. وَقَوله: (من) ، مَوْصُولَة يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك جزم: يرد، و: يفقه، لِأَنَّهُمَا فعل الشَّرْط وَالْجَزَاء. قَوْله: (إِنَّمَا) ، من أَدَاة الْحصْر، و: أَنا، مُبْتَدأ، و: قَاسم، خَبره. وَقَوله: (وَالله) أَيْضا مُبْتَدأ، وَيُعْطِي خَبره، وَالْجُمْلَة تصح أَن تكون حَالا. قَوْله: (وَلنْ تزَال) كلمة: لن، ناصبة للنَّفْي فِي الِاسْتِقْبَال، وتزال من الْأَفْعَال النَّاقِصَة. وَقَوله: (هَذِه الْأمة) اسْمه: وقائمة، خَبره. قَوْله: (لَا يضرهم) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، وَقَوله: (من) فَاعله، وَهِي مَوْصُولَة، و: خالفهم، جملَة صلتها. فَإِن قلت: مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة، أَعنِي قَوْله: لَا يضرهم من خالفهم؟ قلت: حَال، وَقد علم أَن الْمُضَارع الْمَنْفِيّ، إِذا وَقع حَالا يجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه. قَوْله: (حَتَّى) غَايَة لقَوْله: لن تزَال، فَإِن قلت: حكم مَا بعد الْغَايَة مُخَالف لما قبلهَا، فَيلْزم مِنْهُ أَن يَوْم الْقِيَامَة لَا تكون هَذِه الْأمة على الْحق، وَهُوَ بَاطِل. قلت: المُرَاد من قَوْله: (على أَمر الله) هُوَ التكاليف، وَيَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ زمَان التكاليف، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ معنى الْغَايَة، بل هُوَ مَذْكُور لتأكيد التَّأْبِيد، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} (هود: 107 108) وَيُقَال: حَتَّى، للغاية على أَصله، وَلكنه غَايَة لقَوْله: لَا يضرهم، لِأَنَّهُ أقرب. وَالْمرَاد من قَوْله: (حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) حَتَّى يَأْتِي بلَاء الله فيضرهم حينئذٍ، فَيكون مَا بعْدهَا مُخَالفا لما قبلهَا، أَو يكون ذكره لتأكيد عدم الْمضرَّة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يضرهم أبدا.، وَالْمرَاد قَوْله: حَتَّى يَأْتِي أَمر الله يَوْم الْقِيَامَة، والمضرة لَا تمكن يَوْم الْقِيَامَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يضرهم من خالفهم أصلا. فَإِن قلت: إِذا جَاءَ الدَّجَّال مثلا، وقتلهم فقد ضرهم. قلت: على تَفْسِير أَمر الله ببلاء الله ظَاهر لَا يرد شَيْء، وعَلى التَّفْسِير بِيَوْم الْقِيَامَة، يُقَال: لَيْسَ ذَلِك مضرَّة فِي الْحَقِيقَة، إِذْ(2/50)
الشَّهَادَة أعظم الْمَنَافِع من جِهَة الْآخِرَة، وَإِن كَانَت مضرَّة بِحَسب الظَّاهِر. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن تتَعَلَّق حَتَّى بالفعلين الْمَذْكُورين بِأَن يتنازعا فِيهَا. قلت: لَا مَانع من ذَلِك، لَا من جِهَة الْمَعْنى وَلَا من جِهَة الْإِعْرَاب. فَإِن قلت: إِذا كَانَ: حَتَّى، بِمَعْنى: إِلَى، وَيكون معنى: حَتَّى يَأْتِي أَمر الله: إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله. هَل يكون بَينهمَا فرق؟ قلت: نعم بَينهمَا فرق، لِأَن مجرور: حَتَّى، يجب أَن يكون آخر جُزْء من الشَّيْء أَو مَا يلاقي آخر جُزْء مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم} (الحجرات: 5) الْفرق بَينهمَا أَن: حَتَّى، مُخْتَصَّة بالغاية المضروبة، أَي الْمعينَة. تَقول: أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا، وَلَو قلت: حَتَّى نصفهَا أَو صدرها لم يجز، و: إِلَى، عَامَّة فِي كل غَايَة. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ تنكير قَوْله: خيرا، لفائدة التَّعْمِيم، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط كالنكرة فِي سِيَاق النَّفْي، فَالْمَعْنى: من يرد الله بِهِ جَمِيع الْخيرَات. وَيجوز أَن يكون التَّنْوِين للتعظيم، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(لَهُ حَاجِب عَن كل أَمر يشينه)
أَي: صَاحب عَظِيم، ومانع قوي. وَفِيه إِنَّمَا الَّتِي تفِيد الْحصْر، وَالْمعْنَى: مَا أَنا إلاَّ قَاسم. فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَذَا وَله صِفَات أُخْرَى مثل كَونه رَسُولا وَمُبشرا وَنَذِيرا. قلت: الْحصْر بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاد السَّامع، وَهَذَا ورد فِي مقَام كَانَ السَّامع مُعْتَقدًا كَونه معطياً، وَإِن اعْتقد أَنه قَاسم فَلَا يَنْفِي إلاَّ مَا اعتقده السَّامع، لَا كل صفة من الصِّفَات، وحينئذٍ إِن اعْتقد أَنه معطٍ لَا قَاسم فَيكون من بَاب قصر الْقلب، أَي: مَا أَنا إلاَّ قَاسم، أَي: لَا معط، وَإِن اعْتقد أَنه قَاسم ومعط أَيْضا فَيكون من قصر الْإِفْرَاد، أَي: لَا شركَة فِي الوصفين، أَي: بل أَنا قَاسم فَقَط، وَمَعْنَاهُ أَنا أقسم بَيْنكُم، فَألْقى إِلَى كل وَاحِد مَا يَلِيق بِهِ، وَالله يوفق من يَشَاء مِنْكُم لفهمه والتفكر فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ التوربشتى: إعلم أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أعلم أَصْحَابه أَنه لم يفضل فِي قسْمَة مَا أوحى الله إِلَيْهِ أحدا من أمته على أحد، بل سوَّى فِي الْبَلَاغ وَعدل فِي الْقِسْمَة، وَإِنَّمَا التَّفَاوُت فِي الْفَهم وَهُوَ وَاقع من طَرِيق الْعَطاء، وَلَقَد كَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يسمع الحَدِيث فَلَا يفهم مِنْهُ إلاّ الظَّاهِر الْجَلِيّ، ويسمعه آخر مِنْهُم، أَو من بعدهمْ، فيستنبط مِنْهُ مسَائِل كَثِيرَة، وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي شَرحه: (إِنَّمَا أَنا قَاسم) ، يَعْنِي: أَنه لم يستأثر بِشَيْء من مَال الله، وَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (مَا لي بِمَا أَفَاء الله عَلَيْكُم إلاَّ الْخمس، وَهُوَ مَرْدُود عَلَيْكُم) . وَإِنَّمَا قَالَ: (أَنا قَاسم) تطييباً لنفوسهم لمفاضلته فِي الْعَطاء، فَالْمَال لله والعباد لله وأَنا قَاسم بِإِذن الله مَاله بَين عباده. قلت: بَين الْكَلَامَيْنِ بونٌ، لِأَن الْكَلَام الأول يشْعر الْقِسْمَة فِي تَبْلِيغ الْوَحْي وَبَيَان الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْكَلَام صَرِيح فِي قسْمَة المَال. وَلكُل مِنْهُمَا وَجه. أما الأول: فَإِن نظر صَاحبه إِلَى سِيَاق الْكَلَام فَإِنَّهُ أخبر فِيهِ أَن من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين، أَي: فِي دين الْإِسْلَام. قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين الْفِقْه فِي الْقَوَاعِد الْخمس، ويتصل الْكَلَام عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، ثمَّ لما كَانَ فقههم متفاوتاً لتَفَاوت الأفهام أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إِنَّمَا أَنا قَاسم) . يَعْنِي هَذَا التَّفَاوُت لَيْسَ مني، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ مني هُوَ الْقِسْمَة بَيْنكُم يعْنى: تَبْلِيغ الْوَحْي إِلَيْهِم من غير تَخْصِيص بِأحد، والتفاوت فِي أفهامهم من الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي، يُعْطي النَّاس على قدر مَا تعلّقت بِهِ إِرَادَته، لِأَن ذَلِك فضل مِنْهُ يؤتيه من يَشَاء. وَأما الثَّانِي: فَإِن نظر صَاحبه إِلَى ظَاهر الْكَلَام، لِأَن الْقِسْمَة حَقِيقَة تكون فِي الْأَمْوَال، وَلَكِن يتَوَجَّه هُنَا السُّؤَال عَن وَجه مُنَاسبَة هَذَا الْكَلَام لما قبله، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن مورد الحَدِيث كَانَ وَقت قسْمَة المَال حِين خصص، عَلَيْهِ السَّلَام، بَعضهم بِالزِّيَادَةِ لحكمة اقْتَضَت ذَلِك، وخفيت عَلَيْهِم، حَتَّى تعرض مِنْهُم بِأَن هَذِه قسْمَة فِيهَا تَخْصِيص لناس، فَرد عَلَيْهِم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَبِقَوْلِهِ: (من يرد الله بِهِ) إِلَى آخِره ... ، يَعْنِي: من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يوفقه وَيزِيد لَهُ فِي فهمه فِي أُمُور الشَّرْع، وَلَا يتَعَرَّض لأمر لَيْسَ على وفْق خاطره، إِذْ الْأَمر كُله لله، وهوالذي يُعْطي وَيمْنَع، وَهُوَ الَّذِي يزِيد وَينْقص، وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَاسم وَلَيْسَ بمعط حَتَّى ينْسب إِلَيْهِ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، وَعَن هَذَا فسر أَصْحَاب الْكَلَام الثَّانِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (وَالله يُعْطي) بقَوْلهمْ: أَي: من قسمت لَهُ كثيرا فبقدر الله تَعَالَى، وَمَا سبق لَهُ فِي الْكتاب، وَكَذَا من قسمت لَهُ قَلِيلا فَلَا يزْدَاد لأحد فِي رزقه، كَمَا لَا يزْدَاد فِي أَجله. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِي قَوْله: (إِنَّمَا أَنا قَاسم وَالله يُعْطي) ، دَلِيل على أَنه إِنَّمَا يُعْطي بِالْوَحْي، ثمَّ قَالَ فِي آخر كَلَامه: إِن شَأْن أمته الْقيام على أَمر الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وهم الَّذين أَرَادَ الله بهم خيرا، حَتَّى فقهوا فِي الدّين، ونصروا الْحق وَلم يخَافُوا مِمَّن خالفهم، وَلَا أَكثر ثوابهم:(2/51)
{أُولَئِكَ حزب الله أَلا أَن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة: 22) قَوْله: (وَالله يُعْطي) فِيهِ تَقْدِيم لَفْظَة الله لإِفَادَة التقوية عِنْد السكاكي، وَلَا يحْتَمل التَّخْصِيص أَي: الله يُعْطي لَا محَالة، وَأما عِنْد الزَّمَخْشَرِيّ فيحتمله أَيْضا، وحينئذٍ يكون مَعْنَاهُ: الله يُعْطي لَا غَيره. فَإِن قلت: إِذا كَانَت هَذِه الْجُمْلَة حَالية، أَعنِي قَوْله: (وَالله يُعْطي) ، فَمَا يكون معنى الْحصْر حِينَئِذٍ؟ قلت: الْحصْر بإنما دَائِما فِي الْجُزْء الْأَخير فَيكون مَعْنَاهُ: مَا أَنا بقاسم إلاَّ فِي حَال إِعْطَاء الله لَا فِي حَال غَيره، وَفِيه حذف الْمَفْعُول أَعنِي: مفعول يُعْطي، لِأَنَّهُ جعله كاللازم إعلاماً بِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان اتخاد هَذِه الْحَقِيقَة، أَي: حَقِيقَة الْإِعْطَاء لَا بَيَان الْمَفْعُول، أَي الْمُعْطِي. قَوْله: (وَلنْ تزَال)
الخ، أَرَادَ بِهِ أَن أمته آخر الْأُمَم، وَأَن عَلَيْهَا تقوم السَّاعَة، وَإِن ظَهرت أشراطها وَضعف الدّين فَلَا بُد أَن يبْقى من أمته من يقوم بِهِ، فَإِن قيل: قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يَقُول أحد الله) ، وَقَالَ أَيْضا: (لَا تقوم السَّاعَة إلاَّ على شرار الْخلق) . قُلْنَا: هَذِه الْأَحَادِيث لَفظهَا الْعُمُوم وَالْمرَاد مِنْهَا الْخُصُوص، فَمَعْنَاه: لَا تقوم على أحد يوحد الله تَعَالَى إلاَّ بِموضع كَذَا، إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ توَحد الله هِيَ شرار الْخلق، وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ. أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خالفهم، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا مُخَالفَة بَين الْأَحَادِيث، لِأَن المُرَاد من أَمر الله الرّيح اللينة الَّتِي تَأتي قريب الْقِيَامَة، فتأخذ روح كل مُؤمن ومؤمنة، وَهَذَا قبل الْقِيَامَة. وَأما الحديثان الأخيران فهما على ظاهرهما إِذْ ذَلِك عِنْد الْقِيَامَة. فَإِن قلت: من هَؤُلَاءِ الطَّائِفَة؟ قلت: قَالَ البُخَارِيّ: هم أهل الْعلم. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: إِن لم يَكُونُوا أهل الحَدِيث فَلَا أَدْرِي من هم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا أَرَادَ الإِمَام أَحْمد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الطَّائِفَة مفرقة من أَنْوَاع الْمُؤمنِينَ، فَمنهمْ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُم فُقَهَاء وَمِنْهُم محدثون وَمِنْهُم زهاد إِلَى غَيره ذَلِك.
بَيَان استنبطاط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على حجية الْإِجْمَاع، لِأَن مفهومة أَن الْحق لَا يعدو الْأمة، وَحَدِيث: لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة، ضَعِيف. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض على امْتنَاع خلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد. الثَّالِث: فِيهِ فضل الْعلمَاء على سَائِر النَّاس. الرَّابِع: فِيهِ فضل الْفِقْه فِي الدّين على سَائِر الْعُلُوم، وَإِنَّمَا ثَبت فَضله لِأَنَّهُ يَقُود إِلَى خشيَة الله تَعَالَى والتزام طَاعَته. الْخَامِس: فِيهِ إخْبَاره، عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام، بالمغيبات. وَقد وَقع مَا أخبر بِهِ، وَللَّه الْحَمد، فَلم تزل هَذِه الطَّائِفَة من زَمَنه وهلم جراً، وَلَا تَزُول حَتَّى يَأْتِي أَمر الله تَعَالَى.
14 - (بَاب الفَهمِ فِي العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْفَهم فِي الْعلم. قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْجَوْهَرِي: فهمت الشَّيْء، أَي: عَلمته، فالفهم وَالْعلم بِمَعْنى وَاحِد، فَكيف يَصح أَن يُقَال: الْفَهم فِي الْعلم؟ ثمَّ أجَاب بقوله: المُرَاد من الْعلم الْمَعْلُوم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب إِدْرَاك المعلومات. قلت: تَفْسِير الْفَهم بِالْعلمِ غير صَحِيح، لِأَن الْعلم عبارَة عَن الْإِدْرَاك الْكُلِّي، والفهم جودة الذِّهْن، والذهن قُوَّة تقتنص الصُّور والمعاني، وتشمل الإدراكات الْعَقْلِيَّة والحسية. وَقَالَ اللَّيْث: يُقَال: فهمت الشَّيْء، أَي: عقلته وعرفته، وَيُقَال: فهم وَفهم، بتسكين الْهَاء وَفتحهَا، وَهَذَا قد فسر الْفَهم بالمعرفة، وَهُوَ غير الْعلم. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْفَهم فِي الْعلم دَاخل فِي قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) . وَقد مر أَن الْفِقْه هُوَ الْفَهم. فَافْهَم.
72 - حدّثناعَلِيٌّ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ أبي نَجِيحٍ: عَن مُجاهدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابنَ عُمَرَ إلَى المَدِينَةِ فَلْم أسْمَعه يُحدِّثُ عَن رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ حَدِيثاً واحِداً، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُتَي بِجُمَّارٍ فَقَالَ: (إنّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثلُها كَمثَلِ المُسْلِمِ) ، فَأرَدْتُ أَن أقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فإذَا أَنا أصْغَرُ القَوْم، فَسَكَتُّ. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هِيَ النَّخْلَةُ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من الشّجر)
الحَدِيث، كَانَ على سَبِيل الاستعلام مِنْهُم،(2/52)
وَأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فهم ذَلِك الْعلم، وَلكنه مَنعه عَن الإبداء حياؤه وصغره.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد اللَّه بن جَعْفَر بن نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، السَّعْدِيّ، مَوْلَاهُم أَبُو الْحسن الْمَدِينِيّ الإِمَام المبرز فِي هَذَا الشَّأْن. وَقَالَ البُخَارِيّ: مَا استصغرت نَفسِي عِنْد أحد قطّ إلاَّ عِنْد ابْن الْمَدِينِيّ. وَقَالَ: عَليّ خير من عشرَة آلَاف مثل الشَّاذكُونِي. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن: عَليّ أعلم النَّاس بِحَدِيث رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، خَاصَّة. وَقَالَ السَّمْعَانِيّ وَغَيره: كَانَ أعلم أهل زَمَانه بِحَدِيث رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَعنهُ قَالَ: تركت من حَدِيثي مائَة ألف حَدِيث، مِنْهَا ثَلَاثُونَ ألفا لعباد بن صُهَيْب. وَقَالَ الْأَعْين: رَأَيْت عَليّ بن الْمَدِينِيّ مُسْتَلْقِيا، وَأحمد بن حَنْبَل عَن يَمِينه، وَيحيى بن معِين عَن يسَاره، وَهُوَ يملي عَلَيْهِمَا. روى عَنهُ أَحْمد وَإِسْمَاعِيل القَاضِي والذهلي وَأَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا، أخرج البُخَارِيّ عَنهُ عَن ابْن عُيَيْنَة وَابْن علية وَعَن الْقطَّان ومروان بن مُعَاوِيَة وَغَيرهم، ولد سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة بسامرا، وَقَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ بالعسكر لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تقدم. الثَّالِث: عبد اللَّه بن يسَار، وكنية يسَار: أَبُو نجيح، مولى الْأَخْنَس بن شريق. قَالَ يحيى الْقطَّان: كَانَ قدرياً. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مكي ثِقَة، يُقَال فِيهِ: يرى الْقدر صَالح الحَدِيث. وَقَالَ عَليّ: سَمِعت يحيى يَقُول: ابْن أبي نجيح من رُؤَسَاء الدعاة، أخرج البُخَارِيّ فِي الْعلم والجنائز، وَفِي غير مَوضِع عَن شُعْبَة وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَإِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن علية عَنهُ عَن عَطاء، وَمُجاهد وَعبد اللَّه بن كثير، وَعَن أَبِيه عَن مُسلم، وَلم يخرج البُخَارِيّ لِأَبِيهِ شَيْئا، توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: مُجَاهِد بن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: جُبَير، أَبُو الْحجَّاج المَخْزُومِي، مولى عبد اللَّه بن السَّائِب من الطَّبَقَة الثَّانِيَة من تَابِعِيّ أهل مَكَّة وفقهائها، إِمَام مُتَّفق على جلالته وإمامته وتوثيقه، وَهُوَ إِمَام فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث، روى عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي بَاب: إِثْم من قتل معاهداً بِغَيْر جرم، عَن الْحسن بن عمر، وَعنهُ عَن عبد اللَّه بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ مَرْفُوعا: (من قتل معاهداً لم يرح رَائِحَة الْجنَّة) . وَهُوَ مُرْسل. كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مُجَاهِد لم يسمع من عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَإِنَّمَا سَمعه من جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن ابْن عَمْرو، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَرْوَان عَن الْحسن بن عَمْرو عَنهُ، وَأنكر شُعْبَة وَابْن أبي حَاتِم سَمَاعه من عَائِشَة، وَكَذَا ابْن معِين: لَكِن حَدِيثه عَنْهَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَقَالَ مُجَاهِد: قَالَ لي ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وددت أَن نَافِعًا يحفظ كحفظك. وَقَالَ يحيى الْقطَّان: مرسلات مُجَاهِد أحب إِلَيّ من مرسلات عَطاء. وَقَالَ مُجَاهِد: عرضت الْقُرْآن على ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، ثَلَاثِينَ مرّة. مَاتَ سنة مائَة، وَقيل: اثْنَتَيْنِ، وَقيل: ثَلَاث، وَقيل: أَربع عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة، وَقد رأى هاروت وماروت وَكَاد يتْلف، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: مُجَاهِد بن جبر، غير هَذَا. وَفِي مُسلم وَالْأَرْبَعَة: مُجَاهِد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ، شيخ ابْن عُيَيْنَة، وَفِي الْأَرْبَعَة: مُجَاهِد بن وردان عَن عُرْوَة. الْخَامِس: عبد اللَّه ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
بَيَان الْأَنْسَاب: السَّعْدِيّ: فِي قبائل، فَفِي قيس غيلَان: سعد بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة، بن حَفْصَة بن قيس غيلَان. وَفِي كنَانَة: سعد بن لَيْث بن بكر بن عبد منَاف، وَفِي أَسد بن خُزَيْمَة: سعد بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أَسد، وَفِي مُرَاد: سعد بن غطيف ابْن عبد اللَّه بن نَاجِية بن مُرَاد، وَفِي طَيء: سعد بن نَبهَان بن عَمْرو بن الْغَوْث بن طي، وَفِي تَمِيم: سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، وَفِي خولان قضاعة: سعد بن خولان، وَفِي جذام: سعد بن إِيَاس بن حرَام بن حزَام، وَفِي خثعم: سعد بن مَالك. الْمَدِينِيّ: بِإِثْبَات الْيَاء آخر الْحُرُوف، نِسْبَة إِلَى الْمَدِينَة. وَكَانَ أَصله من الْمَدِينَة وَنزل الْبَصْرَة، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: وَالْأَصْل فِيمَن ينْسب إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُقَال فِيهِ: مدنِي: بِحَذْف الْيَاء، وَإِلَى غَيرهَا بِإِثْبَات الْيَاء، واستثنوا هَذِه، فَقَالُوا: الْمَدِينِيّ بِإِثْبَات الْيَاء. المَخْزُومِي: نِسْبَة إِلَى مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر، وَهُوَ فِي قُرَيْش، وَفِي عبس أَيْضا: مَخْزُوم بن مَالك بن غَالب بن قطيعة بن عبس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ سُفْيَان، قَالَ: قَالَ لي ابْن نجيح، وَلم يقل: حَدثنِي، وَفِي (مُسْند الْحميدِي) عَن سُفْيَان: حَدثنِي ابْن أبي نجيح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: روى عَن(2/53)
مُجَاهِد مُعَنْعنًا، وَعَن ابْن أبي نجيح بِلَفْظ: قَالَ، وَالْبُخَارِيّ لَا يذكر المعنعن إلاّ إِذا ثَبت السماع، وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد إِمْكَان السماع، كَمَا اكْتفى بِهِ مُسلم، فالمعنعن إِذا لم يكن من المدلس كَانَ أَعلَى دَرَجَة من: قَالَ، لِأَن: قَالَ: إِنَّمَا تذكر عِنْد الْمُجَاورَة، لَا على سَبِيل النَّقْل والتحميل، ثمَّ فِي لَفْظَة: لي، إِشَارَة إِلَى أَنه جاور مَعَه وحدة. وَقَالَ البُخَارِيّ: كلما قلت: قَالَ لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة، فَمَا رُوِيَ عَن سُفْيَان يحْتَمل أَن يكون عرضا لِسُفْيَان أَيْضا.
وَبَقِيَّة مَا فِيهِ من الْكَلَام من تعدد مَوْضِعه. وَمن أخرجه، ولغاته، وَإِعْرَابه ومعانيه، قد مرت فِي أَوَائِل كتاب الْعلم.
قَوْله: (صَحِبت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى الْمَدِينَة) اللَّام فِيهَا للْعهد، أَي: مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر مُبْتَدأ الصُّحْبَة. قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه من مَكَّة، وَفِيه الدّلَالَة على أَن ابْن عمر كَانَ متوقياً للْحَدِيث، وَقد كَانَ علم قَول أَبِيه: أقلوا الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن بطال. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قد يكون تَركه لغير هَذَا الْوَجْه، إِمَّا لعدم نشاط الِاشْتِغَال بمؤونة السّفر وتعبه، أَو لعدم السُّؤَال. قلت: يُمكن التَّوْفِيق بَينهم بِأَنَّهُ كَانَ يتوقى الحَدِيث مَا لم يسْأَل، فَإِذا سُئِلَ أجَاب، واكثر الْجَواب عِنْد كَثْرَة السُّؤَال فَإِنَّهُ كَانَ من المكثرين فِي الحَدِيث. قَوْله: (يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) حَال عَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي لم اسْمَعْهُ. قَوْله: (إِلَّا حَدِيثا) أَرَادَ بِهِ الحَدِيث الَّذِي بعده مُتَّصِلا بِهِ. قَوْله: (فَأتي) بِضَم الْهمزَة. قَوْله: (بجمار) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم: وَهُوَ شَحم النخيل، وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَل مِنْهُ. وَفِي (الْعباب) : وَيُقَال لَهُ الجامور أَيْضا. قَوْله: (مثلهَا) ، بِفَتْح الْمِيم: أَي صفتهاالعجيبة، والمثل، وَإِن كَانَ بِحَسب اللُّغَة الصّفة، لَكِن لَا تسْتَعْمل إلاَّ عِنْد الصّفة العجيبة. قَوْله: (فَأَرَدْت أَن أَقُول) أَي: فِي جَوَاب الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: حَدثُونِي مَا هِيَ! كَمَا علم من سَائِر الرِّوَايَات. قَوْله: (فَسكت) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمُتَكَلّم، وسكوته كَانَ استحياء وتعظيماً للأكابر.
15 - (بَاب الاغْتِباطِ فِي العِلْمِ والحِكْمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاغْتِبَاط، وَهُوَ افتعال من: غبطه يغبطه، من بَاب: ضرب يضْرب، غبطاً وغبطةً، وَالْغِبْطَة أَن يتَمَنَّى مثل حَال المغبوط من غير أَن يُرِيد زَوَالهَا عَنهُ، وَلَيْسَ بحسد. والحسد أَن: يتَمَنَّى زَوَال مَا فِيهِ. وَقَالَ ابْن بزرج: غبط يغبط، مِثَال: سمع يسمع، لُغَة فِيهِ. وَبِنَاء بَاب الافتعال مِنْهَا يدل على التَّصَرُّف وَالسَّعْي فِيهَا، وَالْحكمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَهِيَ مرادفة للْعلم، فالعطف عَلَيْهِ من بَاب الْعَطف التفسيري، إلاّ أَن يُفَسر الْعلم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ من الْيَقِين المتناول للظن أَيْضا، أَو تفسر الْحِكْمَة بِمَا يتَنَاوَل سداد الْعَمَل أَيْضا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول: الْفَهم فِي الْعلم، وَفِي هَذَا الْبَاب: الِاغْتِبَاط فِي الْعلم، وَكلما زَاد فهم الرجل فِي الْعلم زَادَت غبطته فِيهِ، لِأَن من زَاد فهمه وَقَوي يزْدَاد نظره فِيمَن هُوَ أقوى فهما مِنْهُ، ويتمنى أَن يكون مثله، وَهُوَ الْغِبْطَة.
وَقَالَ عُمَرُ: تَفقَّهُوا قَبْلَ أَن تُسَوَّدُوا
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ لَيْسَ من تَمام التَّرْجَمَة إِذْ لم يذكر بعده شَيْء يكون هَذَا مُتَعَلقا بِهِ، إلاَّ أَن يُقَال: الِاغْتِبَاط فِي الْحِكْمَة على الْقَضَاء لَا يكون إلاَّ قبل كَون الغابط قَاضِيا، وَيَزُول حينئذٍ. وَقَالَ عمر: بِمَعْنى الْمصدر، أَي: قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ. قلت: كَيفَ يؤول الْمَاضِي بِالْمَصْدَرِ وَتَأْويل الْفِعْل بِالْمَصْدَرِ لَا يكون إلاَّ بِوُجُود أَن المصدرية؟ وَقَالَ ابْن الْمُنِير: مُطَابقَة قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ، للتَّرْجَمَة أَنه جعل السِّيَادَة من ثَمَرَات الْعلم، وَأوصى الطَّالِب باغتنام الزِّيَادَة قبل بُلُوغ دَرَجَة السِّيَادَة، وَذَلِكَ يُحَقّق اسْتِحْقَاق الْعلم بِأَن يغبط صَاحبه، فَإِنَّهُ سَبَب لسيادته. قلت: لَا شكّ أَن الَّذِي يتفقه قبل السِّيَادَة يغبط فِي فقهه وَعلمه، فَيدْخل فِي قَوْله: بَاب الِاغْتِبَاط فِي الْعلم.
الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر الَّذِي علقه أخرجه أَبُو عمر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أَحْمد بن مُحَمَّد: ثَنَا مُحَمَّد بن عِيسَى، ثَنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو عبيد، ثَنَا ابْن علية ومعاذ عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين عَن الْأَحْنَف عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ بِهِ. وَأخرجه الْحَوْزِيِّ فِي كِتَابه: ثَنَا إِسْحَاق بن القعْنبِي، ثَنَا بشر بن أبي الْأَزْهَر، ثَنَا خَارِجَة بن مُصعب عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين عَن الْأَحْنَف عَنهُ بِهِ،(2/54)
وخارجة ضَعِيف جدا. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِسَنَد مُنْقَطع عَن وَكِيع عَن ابْن عون بِهِ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابه (الْمدْخل) عَن الروذبازي عَن الصفار عَن سَعْدَان بن نصر، ثَنَا وَكِيع عَن ابْن عون بِهِ.
الثَّالِث: قَوْله: (قبل أَن تسودوا) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو، أَي: قبل أَن تصيروا سادة، وتعلموا الْعلم مَا دمتم صغَارًا قبل السِّيَادَة والرياسة، وَقبل أَن ينظر إِلَيْكُم، فَإِن لم تعلمُوا قبل ذَلِك استحييتم أَن تعلمُوا بعد الْكبر، فبقيتم جهلاء. وَفِي (مجمع الغرائب) : يحْتَمل أَن معنى قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: قبل أَن تزوجوا فتصيروا سادة بالتحكم على الْأزْوَاج والاشتغال بِهن لهواً، ثمَّ تمحلاً للتفقه. وَمِنْه الاستياد، وَهُوَ: طلب التسيد من الْقَوْم. وَجزم الْبَيْهَقِيّ فِي (مدخله) بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يذكر غَيره. وَقَالَ: مَعْنَاهُ قبل أَن تزوجوا فتصيروا أَرْبَاب بيُوت. قَالَه شمر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَا تَأْخُذُوا الْعلم من الأصاغر فيزرى بكم ذَلِك، وَهَذَا أشبه بِحَدِيث عبد اللَّه: (لن يزَال النَّاس بِخَير مَا أخذُوا الْعلم عَن أكابرهم) ثمَّ قَوْله: (تسودوا) من: سود يسود تسويداً، وثلاثيه: سَاد يسود وَفِي (الْمُحكم) : سادهم سُودًا وسودداً وسيادة وسيدودة، فاستادهم كسادهم، وسوده. وَهُوَ. وَقَالَ: والسودد: الشّرف، وَقد يهمز، وَضم الدَّال لُغَة طائية، وَالسَّيِّد: الرئيس. وَقَالَ كرَاع: وَجمعه سادة، وَنَظِيره: قيم وقامة. قلت: السَّادة جمع سائدة، وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ، وَفِي (الْمُخَصّص) : ساودني فسدته. وَقَالُوا: سيد وسائد، وَجمع السَّيِّد سادة. وَحكى الزبيدِيّ فِي كتاب (طَبَقَات النَّحْوِيين) : أَن أَبَا مُحَمَّد العذري الْأَعرَابِي قَالَ لإِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الثابر باشبيلية: تالله أَيهَا الْأَمِير مَا سيدتك الْعَرَب، إلاّ بحقك، فَقَالَهَا بِالْيَاءِ، فَلَمَّا أنكر عَلَيْهِ قَالَ: السوَاد السخام، وأصر على أَن الصَّوَاب مَعَه، ومالأه على ذَلِك الْأَمِير لعظم مَنْزِلَته فِي الْعلم. وَفِي (الْجَامِع) : وَهُوَ مسود عَلَيْهِم إِذا جعل سيدهم، والمسود هُوَ الَّذِي سَاد غَيره. وَفِي (الصِّحَاح) : يجمع السَّيِّد على سيائد، بِالْهَمْزَةِ على غير قِيَاس، لِأَن جمع فيعل فياعل بِلَا همز، وَالدَّال فِي سودد زَائِدَة للإلحاق. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الْعَرَب تَقول: هُوَ سيدنَا، أَي: رئيسنا وَالَّذِي نعظمه فِينَا. وَقَالَ الصغاني: سَاد قومه يسودهم سيادة وسودداً وسؤددا، بِالْهَمْزَةِ وَضم الدَّال الأولى، وَهِي لُغَة طي، وسودا عَن الْفراء، وسيدودة. فَهُوَ سيدهم، وهم سادة. وتقديرها: فعلة بِالتَّحْرِيكِ، لِأَن تَقْدِير: سيد فعيل، وَهُوَ مثل: سري وسراة وَلَا نَظِير لَهَا، يدل على ذَلِك أَنه يجمع على سيائد، بِالْهَمْزَةِ، مِثَال: أفيل وأفائل، وتبيع وتبائع. وَقَالَ أهل الْبَصْرَة: تَقْدِير سيد فيعل، جمع على فعلة كَأَنَّهُمْ جمعُوا سائداً مِثَال: قَائِد وقادة، وزائد وزادة. وَالدَّال فِي سودد زَائِدَة للإلحاق بِبِنَاء فعلل مِثَال: برقع. وَقَالَ الْفراء: يُقَال: هَذَا سيد قومه الْيَوْم، فَإِذا أخْبرت أَنه عَن قَلِيل يكون سيدهم، قلت: هُوَ سائد قومه عَن قَلِيل، وَسيد. وَقَالَ الْكسَائي: السَّيِّد من الْمعز المسن، وَقَالَ ابْن فَارس: سمي السَّيِّد سيداً لِأَن النَّاس يلتجئون إِلَى سوَاده، أَي شخصه، وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب} (يُوسُف: 25) أَي زَوجهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 39) السَّيِّد الَّذِي يفوق فِي الْخَيْر قومه. وَيُقَال: السَّيِّد الْحَلِيم. (وَجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: أَنْت سيد قُرَيْش؟ فَقَالَ: السَّيِّد الله تَعَالَى) . قَالَ الْأَزْهَرِي: كره أَن يمدح فِي وَجهه، وَأحب التَّوَاضُع. وَقَالَ عِكْرِمَة: السَّيِّد الَّذِي لَا يغلبه غَضَبه. وَقَالَ قَتَادَة: السَّيِّد العابد. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَرَب تَقول: السَّيِّد كل مقهور مغمور بحلمه. وَقَالَ الْفراء: السَّيِّد الْمَالِك، وَفُلَان أسود من فلَان أَي أَعلَى سودداً مِنْهُ، وساودت الرجل من سَواد اللَّوْن وَمن السودد جَمِيعًا أَي غالبته.
الرَّابِع: قَالَ ابْن بطال: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذَلِك لِأَن من سوده النَّاس يستحي أَن يقْعد مقْعد المتعلم خوفًا على رياسته عِنْد الْعَامَّة. وَقَالَ يحيى بن معِين: من عَاجل الرياسة فَاتَهُ علم كثير. وَقيل: إِن السِّيَادَة تحصل بِالْعلمِ، وَكلما زَاد الْعلم زَادَت السِّيَادَة بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِي بعض النّسخ بدل: تفهموا تفقهوا، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْأَمر. قلت: الْمَشْهُور من الرِّوَايَة: تفقهوا، فَإِنَّهُ يحث بِهِ على تَحْصِيل الْفِقْه. وَفِي كتاب ابْن عمر: قَالَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم) . وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا انبؤكم بالفقيه كل الْفَقِيه؟ قَالُوا: بلَى، قَالَ: من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله، وَلم يؤيسهم من روح الله، وَلم يؤمنهم من مكر الله، وَلَا يدع الْقُرْآن رَغْبَة عَنهُ إِلَى مَا سواهُ أَلا لَا خير فِي عبَادَة لَيْسَ فِيهَا فقه، وَلَا علم لَيْسَ فِيهِ تفهم، وَلَا قِرَاءَة لَيْسَ فِيهَا تدبر) . قَالَ أَبُو عمر: لم يَأْتِ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، وَأَكْثَرهم يوقفونه على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن شَدَّاد بن أَوْس يرفعهُ: (لَا يفقه العَبْد كل الْفِقْه حَتَّى يمقت النَّاس فِي ذَات الله تَعَالَى، وَلَا يفقه العَبْد كل الْفِقْه حَتَّى يرى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: لَا يَصح مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا الصَّحِيح أَنه من قَول أبي الدَّرْدَاء. وَصدقَة السمين رَاوِيه مَرْفُوعا مجمع على ضعفه. وَقَالَ قَتَادَة:(2/55)
من لم يعرف الِاخْتِلَاف لم يشم الْفِقْه بِأَنْفِهِ. وَقَالَ ابْن أبي عرُوبَة: لَا نعده عَالما، وَكَذَا قَالَه عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه. وَقَالَ الْحَارِث بن يَعْقُوب: الْفَقِيه من فقه فِي الْقِرَاءَة، وَعرف مكيدة الشَّيْطَان.
قَالَ أبوُ عبْدِ اللَّهِ: وبعْدَ أنْ تُسوَّدُوا، وقدْ تَعَلَّمَ أصْحابُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِبَرِ سِنّهِمْ.
هَذِه زيادات جَاءَت فِي رِوَايَة الْكشميهني فَقَط، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بقوله: (قَالَ أَبُو عبد اللَّه) ، نَفسه لِأَن كنيته أَبُو عبد اللَّه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا بُد من مُقَدّر يتَعَلَّق بِهِ لفظ: وَبعد، وَالْمُنَاسِب أَن يقدر: لفظ تفهموا، يَعْنِي الْمَاضِي، فَيكون لفظ: (تسودوا) بِفَتْح التَّاء مَاضِيا كَمَا أَنه يحْتَمل أَن يكون: تسودوا، من التسويد الَّذِي من السوَاد، أَي: بعد أَن يسودوا لحيتهم مثلا، أَي: فِي كبرهم، أَو أَي: بعد زَوَال السوَاد أَي فِي الشيب. وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال. قلت: هَذَا كُله تعسف خَارج عَن مَقْصُود البُخَارِيّ، إِذْ مَقْصُوده الْأَمر بالتفقه قبل السِّيَادَة وَبعدهَا. فَقَوله: (وَبعد أَن تسودوا) عطف على قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: قبل أَن تسودوا، وَهُوَ أَيْضا، بِضَم التَّاء كَمَا فِي قَول عمر: رَضِي الله عَنهُ، وَالْمعْنَى: تفقهوا قبل أَن تسودوا وتفقهوا بعد أَن تسودوا، إِذْ لَا يجوز ترك التفقه بعد السِّيَادَة، إِذا فَاتَهُ قبلهَا، وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا أَن البُخَارِيّ أكد ذَلِك بقوله: وَقد تعلم أَصْحَاب النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي كبر سنهم، لِأَن النَّاس الَّذين آمنُوا بِالنَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَام، وهم كبار مَا تفقهوا إلاَّ فِي كبر سنهم.
73 - حدّثناالحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدثنَا سُفيانُ قَالَ: حدْثني إسْماعِيلُ بنُ أبي خالِدٍ عَلى غيْرِ مَا حدثناهُ الزُّهريُّ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بنَ أبي حازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لاَ حَسَدَ إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله مَالا فَسُلِّطَ عَلى هَلَكَتهِ فِي الحَقِّ، ورَجُلٌ آتاهُ الله الحكْمَة فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُها) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ حمل مَا وَقع فِي الحَدِيث من لفظ الْحَسَد على الْغِبْطَة، فَأخْرجهُ عَن ظَاهره وَحمله على الْغِبْطَة، وتمني الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَترْجم الْبَاب عَلَيْهِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة، وَالْكل قد ذكرُوا، والْحميدِي: هُوَ أَبُو بكر عبد اللَّه بن الزبير ابْن عِيسَى الْمَكِّيّ، صَاحب الشَّافِعِي، أَخذ عَنهُ ورحل مَعَه إِلَى مصر، وَلما مَاتَ الشَّافِعِي رَجَعَ إِلَى مَكَّة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَقيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد ذكر أَن الزُّهْرِيّ حَدثهُ بِهَذَا الحَدِيث بِلَفْظ غير اللَّفْظ الَّذِي حَدثهُ بِهِ إِسْمَاعِيل، وَهُوَ معنى قَوْله: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد على غير مَا حدّثنَاهُ الزُّهْرِيّ، بِرَفْع الزُّهْرِيّ، لِأَنَّهُ فَاعل: حدث، و: نَا، مَفْعُوله، وَالضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث الَّذِي يدل عَلَيْهِ: حَدثنَا، وَالْغَرَض من هَذَا الْإِشْعَار بِأَنَّهُ سمع ذَلِك من إِسْمَاعِيل على وَجه غير الْوَجْه الَّذِي سمع من الزُّهْرِيّ، إِمَّا مُغَايرَة فِي اللَّفْظ، وَإِمَّا مُغَايرَة فِي الْإِسْنَاد، وَإِمَّا غير ذَلِك. وَفَائِدَته: التقوية وَالتَّرْجِيح بتعداد الطّرق، وَرِوَايَة سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ أخرجهَا البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَنهُ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَرَوَاهَا مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَغَيره عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: ثَنَا الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، سَاقه مُسلم تَاما، وَاخْتَصَرَهُ البُخَارِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا تَاما فِي فَضَائِل الْقُرْآن من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي سَالم بن عبد اللَّه بن عمر، فَذكره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى الْقطَّان. وَفِي الْأَحْكَام وَفِي الِاعْتِصَام عَن شهَاب بن عباد عَن إِبْرَاهِيم بن حميد الرواسِي. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير عَن أَبِيه، وَمُحَمّد بن بشر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير ووكيع وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد اللَّه بن الْمُبَارك، ثمانيتهم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَنهُ بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (لَا حسد) ، الْحَسَد: تمني الرجل أَن يحول الله إِلَيْهِ نعْمَة الآخر أَو فضيلته، ويسلبهما عَنهُ.(2/56)
وَفِي (مجمع الغرائب) : الْحَسَد أَن يرى الْإِنْسَان لِأَخِيهِ نعْمَة فيتمنى أَن تكون لَهُ وتزول عَن أَخِيه، وَهُوَ مَذْمُوم. والغبط: أَن يرى النِّعْمَة فيتمناها لنَفسِهِ من غير أَن تَزُول عَن صَاحبهَا، وَهُوَ مَحْمُود. وَقَالَ ثَعْلَب: المنافسة أَن يتَمَنَّى مثل مَا لَهُ من غير أَن يفْتَقر وَهُوَ مُبَاح. وَيُقَال: الْحَسَد تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ، وَبَعْضهمْ خصّه بِأَن يتَمَنَّى ذَلِك لنَفسِهِ، وَالْحق أَنه أَعم. وَقَالَ ابْن سَيّده: يُقَال: حسده يحسده ويحسده حسداً، وَرجل حَاسِد من قوم حسد وَالْأُنْثَى بِغَيْر هَاء، وهم يتحاسدون. وحسده على الشَّيْء وحسده إِيَّاه. وَفِي (الصِّحَاح) : يحسده حسوداً. وَقَالَ الْأَخْفَش: وَبَعْضهمْ يَقُول: يحسده بِالْكَسْرِ، والمصدر حسد بِالتَّحْرِيكِ، وحسادة، وهم قوم حسدة مثل: حَامِل وَحَملَة. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْحَسَد مَأْخُوذ من الحسود، وَهُوَ القراد، فَهُوَ يقشر الْقلب كَمَا يقشر القراد الْجلد فيمص الدَّم. قَوْله: (آتَاهُ الله) بِالْمدِّ فِي أَوله، أَي: اعطاه الله من الإيتاء وَهُوَ الْإِعْطَاء. قَوْله: (على هَلَكته) ، بِفَتْح اللَّام، أَي: هَلَاكه. وَفِي (الْعباب) : هلك الشَّيْء يهْلك بِالْكَسْرِ هَلَاكًا وهلوكاً ومهلكاً ومهلكاً وتهلوكاً وهلكة وتهلكةً وتهلكة. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 195) وَقَرَأَ الْخَلِيل: إِلَى التَّهْلُكَة، بِالْكَسْرِ. قَالَ اليزيدي: التَّهْلُكَة، بِضَم اللَّام، من نَوَادِر المصادر وَلَيْسَت مِمَّا يجْرِي على الْقيَاس. وَهلك يهْلك مِثَال: شرك يُشْرك لُغَة فِيهِ. قَوْله: (الْحِكْمَة) المُرَاد بهَا الْقُرْآن، وَالله أعلم. كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَا حسد إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رجل علمه الله الْقُرْآن فَهُوَ يتلوه آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَار، وَرجل آتَاهُ الله مَالا فَهُوَ يهلكه) . وَفِي رِوَايَة: (يُنْفِقهُ فِي الْحق) . وَفِي مُسلم نَحوه من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (لَا حسد) ، كلمة: لَا، لنفي الْجِنْس، و: حسد، اسْمه مَبْنِيّ على الْفَتْح، وَخَبره مَحْذُوف أَي: لَا حسد جَائِز، أَو صَالح، أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: (رجل) ، يجوز فِيهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة من الْإِعْرَاب: الرّفْع على تَقْدِير إِحْدَى الِاثْنَيْنِ خصْلَة رجل، فَلَمَّا حذف الْمُضَاف اكتسى الْمُضَاف إِلَيْهِ إعرابه. وَالنّصب على إِضْمَار: أَعنِي رجلا، وَهِي رِوَايَة ابْن مَاجَه. والجر على أَنه بدل من اثْنَيْنِ. وَأما على رِوَايَة اثْنَتَيْنِ بِالتَّاءِ فَهُوَ بدل أَيْضا على تَقْدِير حذف الْمُضَاف أَي خصْلَة رجل لِأَن الاثنتين مَعْنَاهُ خَصْلَتَيْنِ، على مَا يَجِيء. قَوْله: (آتَاهُ الله مَالا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، والمفعولين أَحدهمَا الضَّمِير الْمَنْصُوب وَالْآخر: مَالا، وَهِي فِي مَحل الرّفْع أَو الْجَرّ أَو النصب على تَقْدِير إِعْرَاب الرجل، لِأَنَّهَا وَقعت صفته. قَوْله: (فَسلط) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وَرِوَايَة البَاقِينَ، فَسَلَّطَهُ عطفا على: آتَاهُ. وَعبر بالتسليط لدلالته على قهر النَّفس المجبولة على الشُّح. قَوْله: (وَرجل) عطف على رجل الأول، وَإِعْرَابه فِي الْأَوْجه كإعرابه. قَوْله: (آتَاهُ الله الْحِكْمَة) مثل: (آتَاهُ الله مَالا) . قَوْله: (فَهُوَ يقْضِي بهَا) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر عطف على مَا قبلهَا.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) أَي: لَا حسد فِي شَيْء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، أَي: فِي خَصْلَتَيْنِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات بِالتَّاءِ. ويروى: (إِلَّا فِي اثْنَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ. فَإِن قلت: الْحَسَد مَوْجُود فِي الْحَاسِد لَا فِي اثْنَتَيْنِ، فَمَا معنى هَذَا الْكَلَام؟ قلت: الْمَعْنى لَا حسد للرجل إِلَّا فِي شَأْن اثْنَتَيْنِ، لَا يُقَال: قد يكون الْحَسَد فِي غَيرهمَا فَكيف يَصح الْحصْر؟ لأَنا نقُول: المُرَاد لَا حسد جَائِز فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، أَو الْمَعْنى: لَا رخصَة فِي الْحَسَد فِي شَيْء إلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ. فَإِن قلت: مَا فِي هذَيْن الِاثْنَيْنِ غِبْطَة، وَهُوَ غير الْحَسَد، فَكيف يُقَال: لَا حسد؟ قلت: أطلق الْحَسَد وَأَرَادَ الْغِبْطَة، من قبيل إِطْلَاق اسْم الْمُسَبّب على السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى الْحَسَد هَهُنَا شدَّة الْحِرْص وَالرَّغْبَة، كنى بِالْحَسَدِ عَنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا سَببه والداعي إِلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ البُخَارِيّ اغتباطاً. وَقد جَاءَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مَا يبين ذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: (لَيْتَني أُوتيت مثل مَا أُوتِيَ فلَان فَعمِلت مثل مَا يعْمل) . ذكره البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي: بَاب اغتباط صَاحب الْقُرْآن، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يتمن السَّلب، وَإِنَّمَا تمنى أَن يكون مثله. وَقد تمنى ذَلِك الصالحون والأخيار، وَفِيه قَول بِأَنَّهُ تَخْصِيص لإباحة نوع من الْحَسَد. وَإِخْرَاج لَهُ عَن جملَة مَا حظر مِنْهُ كَمَا رخص فِي نوع من الْكَذِب. وَإِن كَانَت جملَته محظورة، فَالْمَعْنى لَا إِبَاحَة فِي شَيْء من الْحَسَد إلاَّ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبيله، أَي: لَا حسد مَحْمُود إلاَّ هَذَا، وَقيل: إِنَّه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع بِمَعْنى: لَكِن فِي اثْنَتَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون من قبيل قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} (الدُّخان: 56) أَي: لَا حسد إلاَّ فِي هذَيْن الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِمَا: لَا حسد أَيْضا، فَلَا حسد أصلا. قلت: الْمَعْنى فِي الْآيَة: لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت الْبَتَّةَ، فَوَقع قَوْله: إلاَّ الموتة الأولى، موقع ذَلِك، لِأَن الموتة الْمَاضِيَة محَال ذوقها فِي الْمُسْتَقْبل، فَهُوَ من بَاب التَّعْلِيق بالمحال، كَأَنَّهُ قيل: إِن كَانَت الموتة الأولى يَسْتَقِيم ذوقها فِي الْمُسْتَقْبل، فَإِنَّهُم يذوقونها فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَا(2/57)
يَتَأَتَّى هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله: (لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَيْنِ) ، فَكيف يكون من قبيل الْآيَة الْمَذْكُورَة، وَفِي الْآيَة جَمِيع الْمَوْت منفي. بِخِلَاف الْحَسَد، فَإِن جَمِيعه لَيْسَ بمنفي، فَإِن الْحَسَد فِي الْخيرَات ممدوح، وَلِهَذَا نكر الْحَاسِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} (الفلق: 5) لِأَن كل حَاسِد لَا يضر. قَالَ أَبُو تَمام:
(وَمَا حَاسِد فِي المكرمات بحاسد)
وَكَذَلِكَ نكر الْغَاسِق، لِأَن كل غَاسِق لَا يكون فِيهِ الشَّرّ، وَإِنَّمَا يكون فِي بعض دون بعض، بِخِلَاف النفاثات، فَإِنَّهُ عرف، لِأَن كل نفاثة شريرة. قَوْله: (مَالا) ، إِنَّمَا نكره وَعرف الْحِكْمَة، لِأَن المُرَاد من الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءَ الشَّرْع بهَا، يَعْنِي الشَّرِيعَة، فَأَرَادَ التَّعْرِيف بلام الْعَهْد، أَو المُرَاد مِنْهُ الْقُرْآن كَمَا ذكرنَا، فَاللَّام للْعهد أَيْضا بِخِلَاف المَال، فَلهَذَا دخل صَاحبه بِأَيّ قدر من المَال أهلكه فِي الْحق تَحت هَذَا الحكم. قَوْله: (فَسلط على هَلَكته) ، فِي هَذِه الْعبارَة مبالغتان: احداهما: التسليط فَإِنَّهُ يدل على الْغَلَبَة وقهر النَّفس المجبولة على الشُّح الْبَالِغ، وَالْأُخْرَى: لفظ: على هَلَكته، فَإِنَّهُ يدل على أَنه لَا يبقي من المَال شَيْئا، وَلما أوهم اللفظان التبذير، وَهُوَ صرف المَال فِيمَا لَا يَنْبَغِي، ذكر قَوْله: (فِي الْحق) ، دفعا لذَلِك الْوَهم. وَكَذَا الْقَرِينَة الْأُخْرَى اشْتَمَلت على مبالغتين إِحْدَاهمَا: الْحِكْمَة، فَإِنَّهَا تدل على علم دَقِيق مُحكم. وَالْأُخْرَى: الْقَضَاء بَين النَّاس وتعليمهم، فَإِنَّهَا من خلَافَة النُّبُوَّة، ثمَّ إِن لفظ الْحِكْمَة إِشَارَة إِلَى الْكَمَال العلمي ويفضي إِلَى الْكَمَال العملي، وبكليهما إِلَى التَّكْمِيل. والفضيلة إِمَّا داخلية، وَإِمَّا خارجية. وأصل الْفَضَائِل الداخلية الْعلم، وأصل الْفَضَائِل الخارجية المَال. ثمَّ الْفَضَائِل، إمَّا تَامَّة، وإمَّا فَوق التَّامَّة، وَالْأُخْرَى أفضل من الأولى لِأَنَّهَا كَامِلَة متعدية، وَهَذِه قَاصِرَة غير متعدية. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَمعنى الحَدِيث التَّرْغِيب فِي طلب الْعلم وتعلمه وَالتَّصَدُّق بِالْمَالِ، وَقيل: إِنَّه تَخْصِيص لإباحة نوع من الْحَسَد، كَمَا رخص فِي نوع من الْكَذِب. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الْكَذِب لَا يحل إلاَّ فِي ثَلَاث)
الحَدِيث. والحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود، فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد. وَأما القسمان الْآخرَانِ فغبطة، وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود. قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه تبَارك وَتَعَالَى فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم.
16 - (بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهابِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ فِي البَحْرِ إِلى الخضِرِ)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي مَا ذكر ... إِلَى آخِره، وارتفاع: بَاب، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ مُضَاف إِلَى مَا بعده: والذهاب، الْفَتْح مصدر ذهب. قَالَ الصغاني: وَذهب مر ذَاهِبًا ومذهباً وذهوباً. وَذهب مذهبا حسنا.
الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ الِاغْتِبَاط فِي الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْمَشَقَّة فِي طلب الْعلم، وَمَا يغتبط فِيهِ يتَحَمَّل فِيهِ الْمَشَقَّة، وَوجه آخر وَهُوَ: أَن المغتبط شَأْنه الِاغْتِبَاط، وَإِن بلغ الْمحل الْأَعْلَى من كل الْفَضَائِل. وَهَذَا الْبَاب فِيهِ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يمنعهُ بُلُوغه من السِّيَادَة الْمحل الْأَعْلَى من طلب الْفَضِيلَة والكمال حَتَّى قاسى تَعب الْبر وركوب الْبَحْر.
الثَّالِث: أَن هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ركب الْبَحْر لما توجه فِي طلب الْخضر، مَعَ أَن الَّذِي ثَبت عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره أَنه خرج إِلَى الْبر، وَإِنَّمَا ركب الْبَحْر فِي السَّفِينَة هُوَ وَالْخضر بعد أَن التقيا، وَيُمكن أَن يُوَجه هَذَا بتوجيهين: أَحدهمَا: أَن الْمَقْصُود من الذّهاب إِنَّمَا حصل بِتمَام الْقِصَّة، وَمن تَمامهَا أَنه ركب مَعَ الْخضر الْبَحْر. فَأطلق على جَمِيعهَا ذَهَابًا مجَازًا من قبيل إِطْلَاق أسم الْكل على الْبَعْض، أَو من قبيل تَسْمِيَة السَّبَب باسم مَا تسبب عَنهُ. الآخر: أَن الظّرْف، وَهُوَ قَوْله: فِي الْبَحْر، فِي قَوْله: (وَكَانَ يتبع أثر الْحُوت فِي الْبَحْر) ، يحْتَمل أَن يكون لمُوسَى، وَيحْتَمل أَن يكون للحوت، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَعَلَّهُ قوى عِنْده أحد الِاحْتِمَالَيْنِ بِمَا روى عبد بن حميد عَن أبي الغالية: أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، التقى بالخضر فِي جَزِيرَة من جزائر الْبَحْر. انْتهى. والتوصل إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر لَا يَقع إلاَّ بسلوك الْبَحْر، وَبِمَا رَوَاهُ أَيْضا من طَرِيق الرّبيع بن أنس قَالَ: انجاب المَاء عَن مَسْلَك الْحُوت، فَصَارَ طَاقَة مَفْتُوحَة، فَدَخلَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على أثر الْحُوت حَتَّى انْتهى إِلَى الْخضر، فهذان(2/58)
الأثران الموقوفان بِرِجَال ثِقَات يوضحان أَنه ركب الْبَحْر إِلَيْهِ. وَعَن هَذَا قَالَ ابْن رشيد: يحْتَمل أَن يكون ثَبت عِنْد البُخَارِيّ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، توجه فِي الْبَحْر لما طلب الْخضر، وَحمل ابْن الْمُنِير كلمة: إِلَى، بِمَعْنى: مَعَ، يَعْنِي: مَعَ الْخضر، وَقَالَ بَعضهم: يحمل قَوْله: إِلَى الْخضر، على أَن فِيهِ حذفا، أَي: إِلَى قصد الْخضر، لِأَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يركب الْبَحْر لحَاجَة نَفسه، وَإِنَّمَا رَكبه تبعا للخضر. قلت: هَذَا لَا يَقع جَوَابا عَن الْإِشْكَال الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام طائح، وَلَا يخفى ذَلِك.
الرَّابِع: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ابْن عمرَان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، ولد وعُمِّر عمرَان سَبْعُونَ سنة، وعْمرِّ عمرَان مائَة وَسبعا وَثَلَاثِينَ سنة، وعُمِّر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، مائَة وَعشْرين سنة. وَقَالَ الْفربرِي: مَاتَ مُوسَى وعمره مائَة وَسِتُّونَ سنة، وَكَانَت وَفَاته فِي التيه فِي سَابِع آذار لمضي ألف سنة وسِتمِائَة وَعشْرين سنة من الطوفان فِي أَيَّام منوجهر الْملك، وَكَانَ عمره لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر ثَمَانِينَ سنة، وَأقَام بالتيه أَرْبَعِينَ سنة. وَلما مَاتَ الريان بن الْوَلِيد الَّذِي ولَّى يُوسُف على خَزَائِن مصر، وَأسلم على يَدَيْهِ ملك بعده قَابُوس بن مُصعب، فَدَعَاهُ يُوسُف إِلَى الْإِسْلَام فَأبى، وَكَانَ جباراً، وَقبض الله يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، وَطَالَ ملكه. ثمَّ هلك وَملك بعده أَخُوهُ الْوَلِيد بن مُصعب بن رَيَّان بن أراشة بن شرْوَان بن عَمْرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ أَعْتَى من قَابُوس، وامتدت أَيَّام ملكه حَتَّى كَانَ فِرْعَوْن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي بَعثه الله إِلَيْهِ، وَلم يكن فِي الفراعنة أَعْتَى مِنْهُ وَلَا أطول عمرا فِي الْملك مِنْهُ، عَاشَ أَربع مائَة سنة. ومُوسَى مُعرب: موشى، بالشين الْمُعْجَمَة، سمته بِهِ آسِيَة بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن لما وجدوه فِي التابوت، وَهُوَ اسْم اقْتَضَاهُ حَاله، لِأَنَّهُ وجد بَين المَاء وَالشَّجر. فمو، بلغَة القبط المَاء، و: شى، الشّجر فعرب فَقيل: مُوسَى، وَقَالَ الصغاني: هُوَ عبراني عرب، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: مُوسَى اسْم رجل، وَزنه مفعل، فعلى هَذَا يكون مصروفاً فِي النكرَة. وَقَالَ الْكسَائي: وَزنه: فعلى، وَهُوَ لَا ينْصَرف بِحَال. قلت: إِن كَانَ عَرَبيا يكون اشتقاقه من الموس، وَهُوَ حلق الشّعْر، فالميم أَصْلِيَّة. وَيُقَال من: أوسيت رَأسه، إِذا حلقته بِالْمُوسَى، فعلى هَذَا: الْمِيم، زَائِدَة. وَقَالَ ابْن فَارس: النِّسْبَة إِلَيْهِ موسي، وَذَلِكَ لِأَن الْيَاء فِيهِ زَائِدَة، كَذَا قَالَ الْكسَائي، وَقَالَ ابْن السّكيت فِي كتاب (التصغير) : تَصْغِير اسْم رجل مويسي، كَأَن مُوسَى فعلى. وَإِن شِئْت قلت: مويسى، بِكَسْر السِّين، وَإِسْكَان الْيَاء غير منونة. وَيُقَال فِي النكرَة: هَذَا مويسى ومويس آخر، فَلم تصرف الأول لِأَنَّهُ أعجمي معرفَة، وصرفت الثَّانِي لِأَنَّهُ نكرَة. ومُوسَى فِي هَذَا التصغير مفعل. قَالَ: فَأَما مُوسَى الحديدة فتصغيرها: مويسية، فَمن قَالَ: هَذِه مُوسَى ومويس، قَالَ: وَهِي تذكر وتؤنث، وَهِي من الْفِعْل: مفعل، وَالْيَاء أَصْلِيَّة.
الْخَامِس: الْبَحْر خلاف الْبر، قيل: سمي بذلك لعمقه واتساعه، وَالْجمع أبحر وبحار وبحور. وَقَالَ ابْن السّكيت: تَصْغِير بحور وبحار أبيحر. وَلَا يجوز أَن تصغر بحار على لَفظهَا، فَتَقول: بحير لَان ذَلِك مضارع الْوَاحِد فَلَا يكون بَين تَصْغِير الْوَاحِد وتصغير الْجمع إلاَّ التَّشْدِيد، وَالْعرب تنزل المشدد منزلَة المخفف، والتركيب يدل على الْبسط والتوسع. وَاخْتلفُوا فِي الْبَحْرين فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا أَبْرَح حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين} (الْكَهْف: 60) فَقيل: هُوَ ملتقي بحري فَارس وَالروم. مِمَّا يَلِي الْمشرق. وَقيل: طنجة. وَقيل: أفريقية. وَذكر السُّهيْلي: أَنَّهَا بَحر الْأُرْدُن وبحر القلزم. وَقيل: بَحر الْمغرب وبحر الزقاق. قلت: بَحر فَارس ينبعث من بَحر الْهِنْد شمالاً بَين مكران، وَهِي على فَم بَحر فَارس من شرقيه، وَبَين عمان وَهِي على فَم بَحر فَارس من غربيه، وبحر الرّوم هُوَ بَحر أفريقية وَالشَّام، يَمْتَد من عِنْد الْبَحْر الْأَخْضَر إِلَى الْمشرق، ويتصل بطرسوس، وبحر طنجة بَينهَا وَبَين سبتة وَغَيرهمَا من بر العدوة من الأندلس. وبحر أفريقية هُوَ بَحر طرابلس الغرب يَمْتَد مِنْهَا شرقاً حَتَّى يتَجَاوَز حُدُود أفريقية، وَهُوَ الَّذِي يتَّصل بإسكندرية، وَالْكل يُسمى بَحر الرّوم. وَإِنَّمَا يُضَاف إِلَى الْبِلَاد عِنْد الِاتِّصَال إِلَيْهَا، وبحر القلزم يَأْخُذ من القلزم، وَهِي بَلْدَة للسودان على طرفه الشمَال جنوباً بميله إِلَى الْمشرق، حَتَّى يصير عِنْد الْقصير، وَهِي فرْصَة قوص، والأردن: بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَضم الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَتَشْديد النُّون فِي آخرهَا، بَلْدَة من بِلَاد الْغَوْر من الشَّام، وَلَا أعرف بحراً ينْسب إِلَيْهَا وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهَا نهر كَبِير يُسمى نهر الْأُرْدُن، وَهُوَ نهر الْغَوْر، وَيُسمى الشَّرِيعَة أَيْضا، وَآخره يَنْتَهِي إِلَى الْبحيرَة المنتنة، وَهِي بحيرة زغر. وبحر الزقاق بَين طنجة وبر الأندلس، هُنَاكَ يُسمى بَحر الزقاق، وَهُوَ يضيق هُنَاكَ و: وبحر الغرب: وَهُوَ الْبَحْر الْأَخْضَر، الَّذِي لَا يعرف إلاَّ مَا يَلِي الغرب من أقاصي الْحَبَشَة إِلَى خلف بِلَاد الرومية، وَهِي بِحَيْثُ لَا يدْرك آخرهَا، لِأَن المراكب لَا تجْرِي فِيهَا، وَله خليج إِلَى الأندلس وطنجة.
السَّادِس: الْخضر، وَالْكَلَام فِيهِ على(2/59)
أَنْوَاع. الأول: فِي اسْمه: فَذكر ابْن قُتَيْبَة فِي (المعارف) : عَن وهب بن مُنَبّه أَنه: بليا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالياء آخر الْحُرُوف. وَيُقَال: إبليا، بِزِيَادَة الْهمزَة فِي أَوله، وَقيل اسْمه: خضرون، ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي. وَقيل: ارميا، وَقيل: اسْمه: اليسع قَالَه مقَاتل، وَيُسمى بذلك لِأَن علمه وسع سِتّ سموات وست أَرضين، ووهاه ابْن الْجَوْزِيّ، وَالْيَسع اسْم أعجمي لَيْسَ بمشتق. وَقيل اسْمه: أَحْمد، حَكَاهُ الْقشيرِي، ووهاه ابْن دحْيَة، فَإِنَّهُ لم يسم أحد قبل نَبينَا، عَلَيْهِ السَّلَام، بذلك. وَقيل: عَامر، حَكَاهُ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (مرج الْبَحْرين) ، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَالْخضر، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، لقبه. وَيجوز إسكان الضَّاد مَعَ كسر الْخَاء وَفتحهَا كَمَا فِي نَظَائِره. الثَّانِي: فِي سَبَب تلقيبه بذلك: وَهُوَ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: إِنَّمَا سمي الْخضر لِأَنَّهُ جلس على فَرْوَة بَيْضَاء فَإِذا هِيَ تهتز من خَلفه خضراء، والفروة وَجه الأَرْض. وَقيل: النَّبَات الْمُجْتَمع الْيَابِس، وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا صلى اخضر مَا حوله، قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا سمي بِهِ لحسنه وإشراق وَجهه، وكنيته أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث فِي نسبه: فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ بليا بن ملكان، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون اللَّام، ابْن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: خضرون بن عماييل بن الفتر بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: هُوَ ابْن حلقيا، وَقيل: ابْن قابيل بن آدم، وَذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي. وَقيل: إِنَّه كَانَ ابْن فِرْعَوْن صَاحب مُوسَى ملك مصر. وَهَذَا غَرِيب جدا. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رَوَاهُ مُحَمَّد بن أَيُّوب عَن أبي لَهِيعَة وهما ضعيفان. وَقيل: إِنَّه ابْن ملك، وَهُوَ أَخُو الياس، قَالَه السّديّ. وَقيل: ابْن بعض من آمن بإبراهيم الْخَلِيل وَهَاجَر مَعَه، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر عَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: الْخضر أمه رُومِية، وَأَبوهُ فَارسي. وروى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى الدَّارَقُطْنِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْفَتْح القلانسي، حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبد اللَّه، حَدثنَا دَاوُد بن الْجراح، حَدثنَا مقَاتل بن سُلَيْمَان عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْخضر ابْن آدم لصلبه، ونسىء لَهُ فِي أَجله حَتَّى يكذّب الدَّجَّال، وَهَذَا مُنْقَطع غَرِيب. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: قيل: إِنَّه الرَّابِع من أَوْلَاده، وَقيل: إِنَّه من ولد عيصوا، حَكَاهُ ابْن دحْيَة. وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه من سبط هَارُون، وَكَذَا قَالَ ابْن إِسْحَاق. وَقَالَ عبد اللَّه بن مؤدب: إِنَّه من ولد فَارس. وَقَالَ بعض أهل الْكتاب: إِنَّه ابْن خَالَة ذِي القرنين. الرَّابِع. فِي أَي وَقت كَانَ: قَالَ الطَّبَرِيّ: كَانَ فِي أَيَّام أفريدون، قَالَ: وَقيل: كَانَ مُقَدّمَة ذِي القرنين الْأَكْبَر الَّذِي كَانَ أَيَّام إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَذُو القرنين عِنْد قوم هُوَ أفريدون. وَيُقَال: إِنَّه كَانَ وَزِير ذِي القرنين، وَإنَّهُ شرب من مَاء الْحَيَاة. وَذكر الثَّعْلَبِيّ اخْتِلَافا أَيْضا: هَل كَانَ فِي زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، أم بعده بِقَلِيل أم بِكَثِير، وَذكر بَعضهم أَنه كَانَ فِي زمن سُلَيْمَان. عَلَيْهِ السَّلَام. وَأَنه المُرَاد بقوله: {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} (النَّمْل: 40) حَكَاهُ الدَّاودِيّ: وَيُقَال: كَانَ فِي زمن كستاسب بن لهراسب. قَالَ ابْن جرير: وَالصَّحِيح أَنه كَانَ مقدما على زمن أفريدون حَتَّى أدْركهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام. الْخَامِس: هَل كَانَ وليا أَو نَبيا؟ وبالأول جزم الْقشيرِي، وَاخْتلف أَيْضا هَل كَانَ نَبيا مُرْسلا أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ. وَأغْرب مَا قيل: إِنَّه من الْمَلَائِكَة. وَالصَّحِيح أَنه نَبِي، وَجزم بِهِ جمَاعَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ نَبِي على جَمِيع الْأَقْوَال معمر مَحْجُوب عَن الْأَبْصَار، وَصَححهُ ابْن الْجَوْزِيّ أَيْضا فِي كِتَابه، لقَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنهُ: {وَمَا فعلته عَن امري} (الْكَهْف: 82) فَدلَّ على أَنه نَبِي أُوحِي إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ أعلم من مُوسَى فِي علم مَخْصُوص، وَيبعد أَن يكون ولي أعلم من نَبِي وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون أُوحِي إِلَى نَبِي فِي ذَلِك الْعَصْر يَأْمر الْخضر بذلك، وَلِأَنَّهُ أقدم على قتل ذَلِك الْغُلَام، وَمَا ذَلِك إلاَّ للوحي إِلَيْهِ فِي ذَلِك. لِأَن الْوَلِيّ لَا يجوز لَهُ الْإِقْدَام على قتل النَّفس بِمُجَرَّد مَا يلقى فِي خلده، لِأَن خاطره لَيْسَ بِوَاجِب الْعِصْمَة. السَّادِس: فِي حَيَاته: فالجمهور على أَنه بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قيل: لِأَنَّهُ دفن آدم بعد خُرُوجهمْ من الطوفان فنالته دَعْوَة أَبِيه آدم بطول الْحَيَاة. وَقيل: لِأَنَّهُ شرب من عين الْحَيَاة. وَقَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ حَيّ عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ والعامة مَعَهم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا شَذَّ بإنكاره بعض الْمُحدثين، وَنَقله النَّوَوِيّ عَن الْأَكْثَرين. وَقيل: إِنَّه لَا يَمُوت إلاَّ فِي آخر الزَّمَان حَتَّى يرْتَفع الْقُرْآن. وَفِي (صَحِيح مُسلم) ، فِي حَدِيث الدَّجَّال: أَنه يقتل رجلا ثمَّ يحييه. قَالَ إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان، رَاوِي كتاب مُسلم: يُقَال لَهُ: إِنَّه الْخضر، وَكَذَلِكَ قَالَ معمر فِي مُسْنده، وَأنكر حَيَاته جمَاعَة مِنْهُم البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن الْمَنَاوِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ. فَإِن قيل: خضر علم، فَكيف دخل عَلَيْهِ آلَة التَّعْرِيف؟ قيل لَهُ: قد يتَأَوَّل الْعلم بِوَاحِد من الْأمة المساوية، فَيجْرِي مجْرى رجل وَفرس، فَيجْرِي على إِضَافَته وعَلى إِدْخَال اللَّام(2/60)
عَلَيْهِ، ثمَّ بعض الْأَعْلَام دُخُول لَام التَّعْرِيف عَلَيْهِ لَازم نَحْو: النَّجْم والثريا، وَبَعضهَا غير لَازم نَحْو: الْحَارِث وَالْخضر من هَذَا الْقسم. قلت: الْعلم إِذا لوحظ فِيهِ معنى الْوَصْف يجوز إِدْخَال اللَّام عَلَيْهِ، كالعباس وَالْحسن، وَغَيرهمَا.
وقوْلِهِ تعالَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ علَى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشدْاً} (الْكَهْف: 66)
وَقَوله، مجرور عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي قَوْله: بَاب مَا ذكر ... الخ وَهَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى شرف الْعلم حَتَّى جَازَت المخاطرة فِي طلبه بركوب الْبَحْر، وَركبهُ الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي طلبه بِخِلَاف ركُوب الْبَحْر فِي طلب الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يكره عِنْد جمَاعَة، وَإِلَى اتِّبَاع الْعلمَاء لأجل تَحْصِيل الْعُلُوم الَّتِي لَا تُوجد إلاَّ عِنْدهم. قَوْله: (هَل اتبعك) حِكَايَة عَن خطاب مُوسَى الْخضر، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَأَلَهُ أَن يُعلمهُ من الْعلم الَّذِي عِنْده، مِمَّا لم يقف عَلَيْهِ مُوسَى، وَكَانَ لَهُ ذَلِك ابتلاء حَيْثُ لم يكل الْعلم إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (الْآيَة) بِالنّصب على تَقْدِير: تذكر الْآيَة، وَيجوز الرّفْع على أَن يكون مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، أَي: الْآيَة بِتَمَامِهَا. وَذكر الْأصيلِيّ فِي رِوَايَته بَاقِي الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {مِمَّا علمت رشدا} (الْكَهْف: 66) .
16 - (حَدثنِي مُحَمَّد بن غرير الزُّهْرِيّ قَالَ حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي أبي عَن صَالح عَن ابْن شهَاب حدث أَن عبيد الله بن عبد الله أخبرهُ عَن ابْن عَبَّاس أَنه تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس بن حصن الْفَزارِيّ فِي صَاحب مُوسَى قَالَ ابْن عَبَّاس هُوَ خضر فَمر بهما أَبى بن كَعْب فَدَعَاهُ ابْن عَبَّاس فَقَالَ إِنِّي تماريت أَنا وصاحبي هَذَا فِي صَاحب مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقبه هَل سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شانه قَالَ نعم سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلأ من بني إِسْرَائِيل جَاءَهُ رجال فَقَالَ هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك قَالَ مُوسَى لَا فَأوحى الله إِلَى مُوسَى بلَى عَبدنَا خضر فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ فَجعل الله لَهُ الْحُوت آيَة وَقيل لَهُ إِذا فقدت الْحُوت فَارْجِع فَإنَّك ستلقاه وَكَانَ يتبع أثر الْحُوت وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان أَن أذكرهُ قَالَ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً فوجدا خضرًا فَكَانَ من شَأْنهمَا الَّذِي قصّ الله عز وَجل فِي كِتَابه) . مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي ذهَاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْخضر وركوبه الْبَحْر وسؤاله مِنْهُ الِاتِّبَاع لأجل التَّعَلُّم والْحَدِيث بَين ذَلِك كُله (بَيَان رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول مُحَمَّد بن غرير بغين مُعْجمَة مَضْمُومَة وَرَاء مكررة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة ابْن الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو عبد الله الْقرشِي الزهدي الْمدنِي نزيل سَمَرْقَنْد يعرف بالفربري روى عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ومطرف بن عبد الله النَّيْسَابُورِي روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد بن نصر التِّرْمِذِيّ وَعبد الله بن شبيب الْمَكِّيّ قَالَ الكلاباذي أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الْكتاب فِي عَلامَة مَوَاضِع هُنَا وَالزَّكَاة وَفِي بني إِسْرَائِيل وَلَيْسَ فِي الْكتب وَالسّنة من اسْمه على هَذَا الْمِثَال وَهُوَ من الْأَفْرَاد. النَّبِي يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ويوسف الْقرشِي الْمدنِي الزُّهْرِيّ سَاكن بَغْدَاد روى عَن أَبِيه وَغَيره وروى عَنهُ أَحْمد وَيحيى بن معِين وعَلى بن الْمَدِينِيّ واسحق وَمُحَمّد بن يحيى الدهلي قَالَ ابْن سعد كَانَ ثِقَة مَأْمُونا وَلم ينزل بِبَغْدَاد ثمَّ خرج إِلَى الْحسن بن سهل بِفَم لصلح فَلم يزل مَعَه حَتَّى توفّي هُنَاكَ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ قلت فَلم الصُّلْح بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهِي بَلْدَة على دجلة قريبَة من وَاسِط وَقيل هُوَ نهر ميبسان. الثَّالِث أَبوهُ أعنى أَبَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ من(2/61)
جملَة شُيُوخ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقد مر ذكره فِي بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان. الرَّابِع صَالح بن كيسَان التَّابِعِيّ تقدم ذكره فِي آخر قصَّة هِرقل توفّي وَهُوَ ابْن مائَة ونيف وَسِتِّينَ سنة ابْتَدَأَ بالتعليم وَهُوَ ابْن تسعين سنة الْخَامِس مُحَمَّد بن ابْن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ تقدم غير مرّة السَّادِس عبيد بن عبد الله بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عُيَيْنَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة وَقد مر ذكره السَّابِع عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا الثَّامِن الْحر بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء ابْن قيس بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة ابْن حصن بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ ابْن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء وَالزَّاي نِسْبَة إِلَى فَزَارَة بن شَيبَان بن بغيض بن ريث بن غطفان وَهُوَ ابْن أخي عُيَيْنَة بن حصن كَانَ أحد الْوَفْد الَّذين قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرجعه من تَبُوك وَكَانَ من جلساء عمر رَضِي الله عَنهُ التَّاسِع أبي بن كَعْب بن الْمُنْذر الْأنْصَارِيّ اقْرَأ هَذِه الْأمة شهد الْعقبَة وبدرا وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول أبي سيد الْمُسلمين روى لَهُ عَن رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا اتفقَا مِنْهَا على ثَلَاثَة أَحَادِيث وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بأَرْبعَة وَمُسلم بسبعة مَاتَ سنة تسع عشرَة وَقيل عشْرين وَقيل ثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ روى لَهُ الْجَمَاعَة (بَيَان لطائف اسناده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والاخبار والعنعنة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يرْوى بَعضهم عَن بعض وَمِنْهَا أَن فِيهِ أَرْبَعَة زهر بَين وهم مُحَمَّد بن غرير وَيَعْقُوب وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم وَابْن شهَاب. وَمِنْهَا أَن سِتَّة مِنْهُم مدنيون وهم الروَاة إِلَى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا. وَمِنْهَا انه قَالَ عَن ابْن شهَاب حدث وَبعده قَالَ اخبره أَن لوحظ الْفرق بَان التحديث عِنْد قِرَاءَة الشَّيْخ وَالْأَخْبَار عِنْد الْقِرَاءَة على الشَّيْخ فَذَاك وَإِلَّا فتغيير الْعبارَة للتفتن فِي الْكَلَام وَحدث بغَيْرهَا رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره حَدثهُ بِالْهَاءِ وَبِغير الْهَاء أَيْضا مَحْمُول على السماع لَان صَالحا غير مُدَلّس وَقَوله حَدثنَا مُحَمَّد بن غرير هَكَذَا بِصِيغَة الْجمع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ حَدثنِي بِصِيغَة الْأَفْرَاد (بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخراجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع فَوق الْعشْرَة هُنَا كَمَا ترى وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة السَّلَام عَن عَمْرو بن مُحَمَّد وَفِي الْعلم أَيْضا عَن خَالِد بن خلى عَن مُحَمَّد بن حَرْب فِي التَّوْحِيد عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن أبي عَمْرو كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء أَيْضا عَن عَليّ بن الْمدنِي وَفِي النذور وَالتَّفْسِير عَن الْحميدِي وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَفِي الْعلم أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مُخْتَصرا وَفِي التَّفْسِير والاجارة والشروط عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن يعلى بن مُسلم وَعَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَعَن عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَابْن رَاهَوَيْه وَعبيد الله بن سعيد وَابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن جُبَير وَعَن النَّاقِد أَيْضا وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر عَن أَبِيه عَن رقية عَن أبي أسحق عَن ابْن جُبَير بِهِ وَعَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَعَن عبد بن حميد عَن عبيد الله بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن إِسْرَائِيل عَن أبي أسحق بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى ابْن أبي عمر بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عمرَان بن يزِيد عَن اسمعيل بن عبد الله بن سَمَّاعَة عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ وَفِي الْعلم عَن أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن سُلَيْمَان الرهاوي عَن عبيد الله بن مُوسَى بِهِ (بَيَان اللُّغَات) قَوْله " تماريت " أَي تجادلت من التمارى وَهُوَ التجادل والتنازع وَهُوَ بِمَعْنى ماريت لِابْنِ بَاب المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ وَبَاب التفاعل لأكْثر مِنْهُمَا يُقَال ماريت الرجل اماريه مراء أَي جادلته ومادته الْمِيم وَالرَّاء وَالْيَاء آخر الْحُرُوف قَوْله " لقِيه بِضَم اللَّام وَكسر الْقَاف وتسديد الْيَاء آخر الْحُرُوف مصدر بِمَعْنى اللِّقَاء يُقَال لَقيته لِقَاء بالمدولقي بِالضَّمِّ وَالْقصر ولقيا بِالتَّشْدِيدِ ولقيانا ولقيانة وَاحِدَة ولقية وَاحِدَة وَلَا تقل لقاة بِالْفَتْح(2/62)
فَإِنَّهَا مولدة وَلَيْسَت من كَلَام الْعَرَب وَهَذِه سبع مصَادر قَوْله " شانه " أَي قصَّته قَوْله " فِي مَلأ " بِالْقصرِ هِيَ الْجَمَاعَة قَالَه عِيَاض وَقَالَ غَيره الْمَلأ الإشراف وَفِي الْعباب الْمَلأ بِالتَّحْرِيكِ الْجَمَاعَة وَالْمَلَأ أَيْضا الْخلق يُقَال مَا أحسن مَلأ بنى فلَان أَي عشرتهم وأخلاقهم وَالْجمع املاء وَالْمَلَأ أَيْضا الْأَشْرَاف قَوْله " من بني إِسْرَائِيل " هُوَ أَوْلَاد يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَان إِسْرَائِيل هُوَ اسْم يَعْقُوب وَأَوْلَاده اثْنَا عشر نفسا وهم يُوسُف وبنيامين وداني ويفتالي وزابلون وجاد وَيَسْتَأْخِر واشير وروبيل ويهوذا وشمعون ولاوى وهم الَّذين سماهم الأسباط وَسموا بذلك لَان كل وَاحِد مِنْهُم والدقبيلة والأسباط فِي كَلَام الْعَرَب الشّجر الملتف الْكثير الأغصان والأسباط من بني إِسْرَائِيل كالشعوب من الْعَجم والقبائل من الْعَرَب وَجَمِيع بني إِسْرَائِيل من هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين قَوْله " الْحُوت " السَّمَكَة وَالْجمع الْحيتَان والاحوات والحوتة قَوْله " آيَة " أَي عَلامَة قَوْله " وَكَانَ يتبع أثر الْحَوَادِث " أَي ينْتَظر فقدانه قَوْله " فتاء " أَي صَاحبه وَهُوَ يُوشَع بن نون وَإِنَّمَا قَالَ فتاه لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدمه ويتبعه وَقيل كَانَ يَأْخُذ الْعلم عَنهُ قلت يُوشَع بن نون بن اليشامع ابْن عميهوذابن بارص بن بعدان بن ناخر بن تالخ بن راشف بن راقخ بن بريعا بن افراثيم بن يُوسُف بن يَعْقُوب عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ويوشع بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَنون مَصْرُوف كنوح قَوْله " إِذْ أوينا " بِالْقصرِ من أَوَى فلَان إِلَى منزله يأوي أوياً قَوْله " إِلَى الصَّخْرَة " هِيَ الَّتِي دون نهر الزَّيْت بالمغرب قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ والصخرة فِي اللُّغَة الْحجر الْكَبِير وَالْجمع صَخْر وصخر وصخور وصخورة وصخرات قَوْله " نبغي " أَي نطلب من بغيت الشَّيْء طلبته قَوْله " فارتدا " أَي رجعا على آثارهما هُوَ جمع أثر بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة واثر الشَّيْء مَا شخص مِنْهُ قَوْله " قصصا " من قصّ أَثَره يقص قصاً وقصصا أَي تتبعه قَالَ الله تَعَالَى (وَقَالَت لأخته قصه) أَي تتبعي أَثَره وَقَالَ الصغاني قَالَ تَعَالَى (فارتدا على آثارهما قصصا) أَي رجعا من الطَّرِيق الَّذِي سلكاه يقصان الْأَثر (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " تمارى هُوَ " أبي ابْن عَبَّاس واتى بضمير الْفَصْل لِأَنَّهُ لَا يعْطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل إِلَّا إِذا أكد بالمنفصل فَقَوله " وَالْحر بن قيس " عطف على الضَّمِير الَّذِي فِي تمارى وَحسن ذَلِك تأكيده بقوله هُوَ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ يُوهم عطف الِاسْم على الْفِعْل قَوْله " فِي صَاحب مُوسَى " بتعلق بقوله " تمارى " قَوْله " هُوَ خضر " جملَة اسمية وَقعت مقول القَوْل قَوْله " تماريت أَنا وصاحبي " مثل تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس حَيْثُ أكد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بالضمير الْمُنْفَصِل لتحسين الْعَطف وَيجوز أَن ينْتَصب على أَن يكون مَفْعُولا مَعَه وَأَرَادَ بقوله " صَاحِبي " هُوَ الْحر بن قيس قَوْله " هَل سَمِعت " استفهم بِهِ ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنْهُم قَوْله " يذكر شَأْنه " جملَة حَالية قَوْله " يَقُول " أَيْضا جملَة حَالية قَوْله " بَيْنَمَا " قد مر غير مرّة أَن أَصله بَين زيدت فِيهِ مَا والفصيح فِي جَوَابه ترك إِذْ وَإِذا وَجَوَابه قَوْله " جَاءَهُ رجل " وَفِي بعض الرِّوَايَات " إِذْ جَاءَهُ رجل " قَوْله " اعْلَم " بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة أحد قَوْله " بل عندنَا خضر " أَي هُوَ أعلم هَكَذَا هُوَ فِي اكثر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " بلَى عَبدنَا خضر " وبل للإضراب وَهُوَ من حُرُوف الْعَطف فَإِن قلت مَا الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بالمضروب عَنهُ قلت مُقَدّر تَقْدِيره أوحى الله إِلَيْهِ لَا تقل لَا بل عَبدنَا خضر أَي قل إِلَّا علم عَبدك خضر فَإِن قلت فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول بل عبد الله أَو عَبدك قلت ورد عِلّة طَريقَة الْحِكَايَة عَن قَول الله تَعَالَى قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى " أَي سَأَلَ مُوسَى عَن الله تَعَالَى السَّبِيل إِلَى خضر وَالْفَاء فِي فَجعل للتعقيب قَوْله " لَهُ " أَي لأَجله والحوت وَآيَة منصوبان على انهما مَفْعُولا جعل قَوْله " فتاه " فَاعل فَقَالَ قَوْله " أَرَأَيْت " أَي أَخْبرنِي وَهُوَ مقول القَوْل قَوْله " إِذْ " بِمَعْنى حِين وَهَهُنَا حذف تَقْدِيره أَرَأَيْت مَا دهاني (إِذا أوينا إِلَى الصَّخْرَة) قَوْله " فَإِنِّي " الْفَاء فِيهِ تفسيرية يُفَسر بهَا مَا دهاه من نِسْيَان الْحُوت حِين أويا إِلَى الصَّخْرَة قَوْله " وماأنسانيه " أَي أنساني ذكره إِلَّا الشَّيْطَان قَوْله " أَن اذكره " بدل من الْهَاء فِي أنسانيه قَوْله " ذَلِك " فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء قَوْله " مَا كُنَّا نبغي " خَبره وَكلمَة مَا مَوْصُولَة وَقَوله " كُنَّا نبغي " صلتها أَي ذَلِك الَّذِي كُنَّا نطلب والعائد إِلَى الْمَوْصُول مَحْذُوف أَي مَا كُنَّا نبغيه وَيجوز حذف الْيَاء من نبغي للتَّخْفِيف وَهَكَذَا قرئَ ايضافي الْقُرْآن وإثباتها احسن وَهِي قِرَاءَة أبي عمر وَقَوله " قصصا " نصب على تَقْدِير يقصان قصصا أعنى النصب على المصدرية قَوْله " مَا قصّ الله " فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ اسْم كَانَ وَقَوله من شَأْنهمَا مقدما خَبره وَفِي بعض الرِّوَايَة " فَكَانَ من شَأْنهمَا الَّذِي قصّ الله "(2/63)
(بَيَان الْمعَانِي) قَوْله " تمارى " هُوَ وَالْحر بن قيس وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاس فِي هَذِه الْقِصَّة تماريان تمار بَينه وَبَين الْبَحْر ابْن قيس أهوَ الْخضر أَن غَيره وتمار بَينه وَبَين نوف البكالى فِي مُوسَى بن عمرَان الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ التَّوْرَاة أم مُوسَى بن مِيشَا بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعد هاشين مُعْجمَة هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي فِي التمارى الثَّانِي وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن هَذَا التمارى كَانَ بَين سعيد بن جُبَير وَبَين الْبكالِي على مَا يَجِيء فِي التَّفْسِير وَسِيَاق سعيد بن جُبَير للْحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس أتم من سِيَاق عبيد الله بن عبد الله هَذَا بِشَيْء كثير وَسَيَأْتِي مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله " فِي صَاحب مُوسَى " أَي الَّذِي ذهب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ هَل اتبعك لفتاه الَّذِي كَانَ رَفِيقه عِنْد الذّهاب قَوْله " فَدَعَاهُ ابْن عَبَّاس " أَي فناداه وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ حذف تَقْدِيره فَقَامَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ لَان الْمَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس التأدب مَعَ من يَأْخُذ عَنهُ وإخباره فِي ذَلِك مَشْهُورَة قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ " أَي قَالَ فادللني لَان الْمَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس التأدب مَعَ من يَأْخُذ عَنهُ وإخباره فِي ذَلِك مَشْهُورَة قَوْله " فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَيْهِ " أَي قَالَ إفادللني اللَّهُمَّ إِلَيْهِ قَوْله " فَقَالَ هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك قَالَ مُوسَى لَا " وَجَاء فِي كتاب التَّفْسِير وَغَيره " فَسئلَ أَي النَّاس أعلم فَقَالَ أَنا فعتب الله عَلَيْهِ إِذا لم يرد الْعلم إِلَيْهِ " وَكَذَا جَاءَهُ فِي مُسلم وَفِيه أَيْضا " بَينا مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قومه يذكرهم أَيَّام الله وَأَيَّام الله نعماؤه وبلاؤه إِذْ قَالَ مَا اعْلَم فِي الأَرْض رجلا خيرا وَأعلم مني فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن فِي الأَرْض رجلا هُوَ أعلم مِنْك " وَقَالَ المازرى أما على رِوَايَة من روى هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك فَقَالَ أَنا فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا خبر عَمَّا يعلم وَأما على رِوَايَة أَي النَّاس أعلم فَقَالَ أَنا أعلم فَقَالَ أَنا أعلم أَي فِيمَا يَقْتَضِيهِ شَاهد الْحَال وَدلَالَة النُّبُوَّة وَيظْهر لي أَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ من النُّبُوَّة بِالْمَكَانِ الأرفع وَالْعلم من اعظم الْمَرَاتِب فقد يعْتَقد أَنه أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْمرتبَة فَإِذا كَانَ مُرَاده بقوله أَنا أعلم فِي اعتقادي لم يكن خَبره كذبا وَقيل قَول الْمَازرِيّ فَلَا عتب عَلَيْهِ مَرْدُود بقوله عَلَيْهِ السَّلَام " فعتب الله عَلَيْهِ " لَكِن يَنْبَغِي العتب لَهُ أَن لَا ينفى العتب مُطلقًا بل عتب مَخْصُوص وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَقيل مُرَاد مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَنا أعلم أَي بوظائف النُّبُوَّة وَأُمُور الشَّرِيعَة وسياسة الْأَمر وَالْخضر أعلم مِنْهُ بِأُمُور أخر من عُلُوم غيبية كَمَا ذكر من خبرهما وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْلَم على الْجُمْلَة والعموم مِمَّا لَا يُمكن جهل الْأَنْبِيَاء بِشَيْء مِنْهُ وَالْخضر أعلم على الْخُصُوص مِمَّا أ ‘ لم من الغيوب وحوادث الْقدر مِمَّا لَا يعلم الْأَنْبِيَاء مِنْهُ إِلَّا مَا أعلمُوا من غيبَة وَلِهَذَا قَالَ لَهُ الْخضر انك على علم من علم الله علمك لَا أعلمهُ وَأَنا على علم من علم الله علمنه لَا تعلمه " أَلا ترَاهُ لم يعرف مُوسَى بن إِسْرَائِيل حَتَّى عرفه بِنَفسِهِ إِذا لم يعرفهُ الله بِهِ وَهَذَا مثل قَول نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لَا علم إِلَّا مَا عَلمنِي رَبِّي وَمعنى قَوْله " فعتب الله عَلَيْهِ " أَي لم يرض قَوْله وَآخذه بِهِ وَاصل العتب الْمُؤَاخَذَة يُقَال مِنْهُ عتب عَلَيْهِ إِذا وجده وَذكره لَهُ فالمؤاخذة والعتب فِي حق الله محَال فَمَعْنَى قَوْله " فعتب الله عَلَيْهِ " لم يرض قَوْله شرعا ودينا وَقد عتب الله عَلَيْهِ إِذا لم يرد رد الْمَلَائِكَة (لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا) وَقيل جَاءَ هَذَا تَنْبِيها لمُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعليماً لمن بعده وَلِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ غَيره فِي تَزْكِيَة نَفسه وَالْعجب بِحَالهِ فَيهْلك وَإِنَّمَا الجيء مُوسَى للخضر لتأديب لَا للتعليم قَوْله " فَجعل الله لَهُ الْحُوت آيَة " أَي عَلامَة لمَكَان الْخضر ولقائه وَذَلِكَ أَنه لما قَالَ مُوسَى أَيْن أطلبه قَالَ الله لَهُ على السَّاحِل عِنْد الصَّخْرَة قَالَ يَا رب كَيفَ لي بِهِ قَالَ تَأْخُذ حوتا فِي مكتل فَحَيْثُ فقدته فَهُوَ هُنَاكَ فَقيل أَخذ سَمَكَة مملوحة قَالَ لفتاه إِذا فقدت الْحُوت فاخبرني وَكَانَ يمشي وَيتبع أثر الْحُوت أَي ينْتَظر فقدانه فرقد مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاضطرب الْحُوت وَوَقع فِي الْبَحْر قيل أَن يُوشَع حمل الْخبز والحوت فِي المكتل فَنزلَا لَيْلَة على شاطئ عين تسمى عين الْحَيَاة فَلَمَّا أصَاب السَّمَكَة روح المَاء وبرده عاشت وَقيل تَوَضَّأ يُوشَع من تِلْكَ الْعين فانتضح المَاء على الْحُوت فَعَاشَ وَوَقع فِي المَاء قَوْله " نسيت الْحُوت " أَي نسيت تفقد أمره وَمَا يكون مِنْهُ مِمَّا جعل امارة على الظفر بالطلبة من لِقَاء الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله " قَالَ " أَي مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِك أَي فقدان الْحُوت هُوَ الَّذِي كُنَّا نبغي أَي نطلب لِأَنَّهُ عَلامَة وجدان الْمَقْصُود قَوْله " فارتدا " أَي رجعا على آثارهما يقصان قصصا أَي يتبعان آثارهما اتبَاعا قَوْله " من شَأْنهمَا " أَي شَأْن الْخضر ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَالَّذِي قصّ الله تَعَالَى فِي كِتَابه اشارة إِلَى قَوْله تَعَالَى (هَل أتبعك على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا) إِلَى قَوْله (ويسألونك عَن ذِي القرنين) (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول قَالَ ابْن بطال فِيهِ جَوَاز التمارى فِي الْعلم إِذا كَانَ كل وَاحِد يطْلب الْحق وَلم يكن تعنتاً الثَّانِي فِيهِ الرُّجُوع إِلَى قَول أهل الْعلم عِنْد التَّنَازُع الثَّالِث فِيهِ أَنه يجب على الْعَالم الرَّغْبَة فِي التزيد من الْعلم والحرص عَلَيْهِ(2/64)
وَلَا يقنع بِمَا عِنْده كَمَا لم يكتف مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعِلْمِهِ الرَّابِع فِيهِ وجوب التَّوَاضُع لن الله تَعَالَى عَاتب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين لم يرد الْعلم إِلَيْهِ وَأَرَادَ من هُوَ أعلم مِنْهُ قلت يَعْنِي فِي علم مَخْصُوص الْخَامِس فِيهِ حمل الزَّاد وأعداده للسَّفر بِخِلَاف قَول الصُّوفِيَّة السَّادِس قَول النَّوَوِيّ فِيهِ أَنه لَا بَأْس على الْعَالم والفاضل أَن يَخْدمه الْمَفْضُول وَيقْضى لَهُ حَاجته وَلَا يكون هَذَا من أَخذ الْعِوَض على تَعْلِيم الْعلم والآداب بل من مروآت الْأَصْحَاب وَحسن المعاشرة وَدَلِيله اتيان فتاه غداءهما السَّابِع فِيهِ الرحلة وَالسّفر لطلب الْعلم برا وبحراً الثَّامِن فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد الصدوق وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
17 - (بَاب قوْل النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا لفظ الحَدِيث، وَضعه تَرْجَمَة على صُورَة التَّعْلِيق، ثمَّ ذكره مُسْندًا، وَهل يُقَال لمثله مُرْسل أم لَا؟ فِيهِ خلاف. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ من وضع هَذَا تَرْجَمَة؟ قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذَا لَا يخْتَص جَوَازه بِابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن من جملَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول غَلَبَة ابْن عَبَّاس على حر بن قيس فِي تماريهما فِي صَاحب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَاكَ من كَثْرَة علمه وغزارة فَضله، وَفِي هَذَا الْبَاب إِشَارَة إِلَى أَن علمه الغزير وفضيلته الْكَامِلَة ببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لَهُ: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) . وَوجه آخر: أَن فِي الْبَاب الأول بَيَان استفادة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْخضر من الْعلم الَّذِي لم يكن عِنْده من ذَلِك شَيْء، وَفِي هَذَا الْبَاب بَيَان استفادة ابْن عَبَّاس علم الْكتاب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
75 - حدّثناأبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَارثِ قَالَ: حَدثنَا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّني رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَّمُهُ الكِتابَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، بل هُوَ عين التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد اللَّه بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج ميسرَة، الْبَصْرِيّ المقعد، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين، الْمنْقري الْحَافِظ الْحجَّة، سمع عبد الْوَارِث الدَّرَاورْدِي وَغَيرهمَا، روى عَنهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالْبُخَارِيّ، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ. قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ثِقَة عَاقل، وَفِي رِوَايَة: ثَبت، وَكَانَ يَقُول بِالْقدرِ، توفّي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد ابْن ذكْوَان التَّمِيمِي الْعَنْبَري أَبُو عُبَيْدَة الْبَصْرِيّ، روى عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَغَيره، قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة حجَّة. توفّي بِالْبَصْرَةِ فِي الْمحرم سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، أَبُو الْمنَازل، بِضَم الْمِيم، كَذَا ذكره أَبُو الْحسن، وَقَالَ عبد الْغَنِيّ: مَا كَانَ من منَازِل فَهُوَ بِضَم الْمِيم إلاَّ يُوسُف بن منَازِل فَإِنَّهُ بِفَتْح الْمِيم. قَالَ الْبَاجِيّ: قَرَأت على الشَّيْخ أبي ذَر، يَعْنِي الْهَرَوِيّ، فِي كتاب (الْأَسْمَاء والكنى) لمُسلم: خَالِد بن مهْرَان أَبُو الْمنَازل، بِفَتْح الْمِيم، وَكَذَا ذكره فِي سَائِر الْبَاب، وَالضَّم أظهر. وَقَالَ مُحَمَّد ابْن سعد: هُوَ مولى لأبي عبد اللَّه عَامر بن كريز الْقرشِي، وَلم يكن بحذّاء إِنَّمَا كَانَ يجلس إِلَيْهِم. يُقَال إِنَّه مَا حذا نعلا قطّ، وَإِنَّمَا كَانَ يجلس إِلَى صديق لَهُ حذاء. وَقيل: إِنَّه كَانَ يَقُول: أخذُوا عَليّ هَذَا النَّحْو، فلقب بِهِ. تَابِعِيّ، رأى أنس بن مَالك، قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ يحيى وَأحمد: ثِقَة، توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى عبد اللَّه بن عَبَّاس، أَبُو عبد اللَّه الْمدنِي. أَصله من البربر من أهل الْمغرب، سمع مَوْلَاهُ وَعبد اللَّه بن عمر وخلقاً من الصَّحَابَة، وَكَانَ من الْعلمَاء فِي زَمَانه بِالْعلمِ وَالْقُرْآن، وَعنهُ أَيُّوب وخَالِد الْحذاء وَخلق، وَتكلم فِيهِ بِرَأْيهِ، رَأْي الْخَوَارِج، وَأطلق نَافِع وَغَيره عَلَيْهِ الْكَذِب، وروى لَهُ مُسلم مَقْرُونا بطاوس وَسَعِيد بن جُبَير، وَاعْتَمدهُ البُخَارِيّ فِي أَكثر مَا يَصح عَنهُ من الرِّوَايَات، وَرُبمَا عيب عَلَيْهِ إِخْرَاج حَدِيثه، وَمَات ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة مَمْلُوك فَبَاعَهُ عَليّ ابْنه من خَالِد بن مُعَاوِيَة بأَرْبعَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَة: بِعْت علم أَبِيك بأَرْبعَة آلَاف دِينَار؟ فاستقاله فأقاله وَأعْتقهُ. وَكَانَ جوالاً فِي الْبِلَاد، وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة خمس، أَو سِتّ، أَو سبع وَمِائَة، وَمَات مَعَه فِي ذَلِك الْيَوْم كُثَيِّر الشَّاعِر، فَقيل: مَاتَ الْيَوْم أفقه النَّاس وأشعر النَّاس. وَقيل: مَاتَ عِكْرِمَة سنة خمس عشرَة وَمِائَة، وَقد بلغ ثَمَانِينَ. وَاجْتمعَ حفاظ ابْن عَبَّاس على عِكْرِمَة، فيهم عَطاء وَطَاوُس(2/65)
وَسَعِيد بن جُبَير فَجعلُوا يسْأَلُون عِكْرِمَة عَن حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَجعل يُحَدِّثهُمْ. وَسَعِيد كلما حدث بِحَدِيث وضع أُصْبُعه الْإِبْهَام على السبابَة، أَي سوى، حَتَّى سَأَلُوهُ عَن الْحُوت وقصة مُوسَى، فَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ يسايرهما فِي ضحضاح من المَاء، فَقَالَ سعيد: أشهد على ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يحملانه فِي مكتل، يعْنى الزنبيل. قَالَ أَيُّوب: ورأيي، وَالله أعلم، أَن ابْن عَبَّاس حدث بالخبرين جَمِيعًا. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْمنْقري، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الْقَاف بعْدهَا رَاء، نِسْبَة إِلَى منقر بن عبيد بن الْحَارِث، وَهُوَ مقاعس بن عَمْرو بن كَعْب بن سعيد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَالَ ابْن دُرَيْد: من نقرت عَن الْأَمر: كشفت عَنهُ. التَّمِيمِي: فِي مُضر ينْسب إِلَى تَمِيم بن مر ابْن أد بن طابخة بن الياس. الْعَنْبَري، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء، فِي تَمِيم ينْسب إِلَى العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث، والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته بصريون خلا عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس. وهما أَيْضا سكنا الْبَصْرَة مُدَّة. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده على شَرط الْأَئِمَّة السِّتَّة، قَالَه بعض الشَّارِحين. وَفِيه نظر. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه هُنَا عَن أبي معمر، وَأخرجه أَيْضا فِي فَضَائِل الصَّحَابَة عَن أبي معمر ومسدد عَن عبد الْوَارِث وَعَن مُوسَى عَن وهيب، كِلَاهُمَا عَن خَالِد، قَالَ أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي: هُوَ عِنْد القواريري عَن عبد الْوَارِث، وَأخرجه أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد، حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل ابْن عَبَّاس، حَدثنَا زُهَيْر وَأَبُو بكر بن أبي النَّصْر، حَدثنَا هَاشم بن الْقَاسِم، حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبيد اللَّه بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن بشار عَن الثَّقَفِيّ عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَأبي بكر بن خَلاد، كِلَاهُمَا عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (ضمني) : من ضم يضم ضماً، وضممت الشَّيْء إِلَى الشَّيْء فانضم إِلَيْهِ، وَهُوَ من بَاب: نصر ينصر. قَوْله: (اللَّهُمَّ) أَصله: يَا الله، فَحذف حرف النداء وَعوض عَنهُ الْمِيم، وَلذَلِك لَا يَجْتَمِعَانِ. وَأما قَول الشَّاعِر:
(وَمَا عَلَيْك أَن تَقول كلماسبحت أَو صليت يَا اللهما)
ارْدُدْ علينا شَيخنَا مُسلما
فَلَيْسَ يثبت، وَهَذَا من خَصَائِص اسْم الله تَعَالَى، كَمَا اخْتصَّ بِالْبَاء فِي الْقسم، وبقطع همزته فِي: يَا الله، وَبِغير ذَلِك. وَكَأَنَّهُم لما أَرَادوا أَن يكون نداؤه باسمه متميزاً عَن نِدَاء عباده باسمائهم من أول الْأَمر، حذفوا حرف النداء من الأول وَزَادُوا الْمِيم لقربها من حرف الْعلَّة، كالنون فِي الآخر، وخصت لِأَن النُّون كَانَت ملتبسة بضمير النِّسَاء صُورَة، وشددت لِأَنَّهَا خلف من حرفين، وَاخْتَارَ سِيبَوَيْهٍ أَن لَا تُوصَف، لِأَن وُقُوع خلف حرف النداء بَين الْمَوْصُوف وَالصّفة، كوقوع حرف النداء بَينهمَا، وَمذهب الْكُوفِيّين أَن أَصله: يَا الله أم، أَي: أقصد بِخَير، فتصرف فِيهِ، وَرجح الْأَكْثَرُونَ قَول الْبَصرِيين، وَرجح الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ قَول الْكُوفِيّين من وَجه وَكَأن الأَصْل أَن: يَا، الَّذِي هُوَ حرف النداء لَا يدْخل على مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام إلاَّ بِوَاسِطَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} (المزمل: 1) وَشبهه، وَإِنَّمَا ادخلوها هُنَا لخصوصية هَذَا الِاسْم الشريف بِاللَّه تَعَالَى، وَاللَّام فِيهِ لَازِمَة غير مُفَارقَة لِأَنَّهَا عوض عَمَّا حذف مِنْهُ، وَهِي الْهمزَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ضمني) فعل ومفعول، و: (رَسُول الله) فَاعله، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله: (وَقَالَ) ، عطف على: (ضمني) . قَوْله: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) ، مقول القَوْل، وَالْهَاء فِي: علمه، مفعول أول لعلم، و: الْكتاب، مفعول ثَان. فَإِن قلت: هَذَا الْبَاب، أَعنِي: التَّعْلِيم، يتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَة مفاعيل، ومفعوله الأول كمفعول أَعْطَيْت، وَالثَّانِي وَالثَّالِث كمفعولي: علمت، يَعْنِي لَا يجوز حذف الثَّانِي أَو الثَّالِث فَقَط، فَكيف هَهُنَا؟ قلت: علمه بِمَعْنى عرفه، فَلَا يَقْتَضِي إلاَّ مفعولين.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (ضمني) فِيهِ حذف تَقْدِيره ضمني إِلَى نَفسه، أَو إِلَى صَدره، وَقد جَاءَ بذلك مُصَرحًا فِي رِوَايَته الْأُخْرَى عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَارِث: (إِلَى صَدره) . قَوْله: (الْكتاب) أَي: الْقُرْآن، لِأَن الْجِنْس الْمُطلق مَحْمُول على الْكَامِل، وَلِأَن الْعرف الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، أَو لِأَن اللَّام للْعهد. فَإِن قلت: المُرَاد نفس الْقُرْآن أَي: لَفظه، أَو مَعَانِيه أَي: أَحْكَام الدّين؟ قلت: اللَّفْظ، بِاعْتِبَار دلَالَته على مَعَانِيه، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسَدّد: (الْحِكْمَة) بدل: (الْكتاب) . وَذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن ذَلِك هُوَ الثَّابِت فِي الطّرق كلهَا عَن خَالِد الْحذاء، وَفِيه نظر، لِأَن البُخَارِيّ أخرجه أَيْضا من حَدِيث وهيب عَن خَالِد بِلَفْظ: الْكتاب،(2/66)
أَيْضا فَيحمل على أَن المُرَاد بالحكمة أَيْضا الْقُرْآن، فَيكون بَعضهم رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة} الْآيَة (الْبَقَرَة: 269) . إِن الْحِكْمَة الْقُرْآن. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دَعَا لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَوتى الْحِكْمَة مرَّتَيْنِ. قلت: يحْتَمل تعدد الْوَاقِعَة فَيكون المُرَاد بِالْكتاب الْقُرْآن، وبالحكمة السّنة، وَقد فسرت الْحِكْمَة بِالسنةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} (الْبَقَرَة: 129) قَالُوا: المُرَاد بالحكمة هُنَا السّنة الَّتِي سنّهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِوَحْي من الله تَعَالَى، وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة عبد اللَّه بن أبي يزِيد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، الَّتِي أخرجهَا الشَّيْخَانِ بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ فقهه) ، وَزَاد البُخَارِيّ فِي رِوَايَة: (فِي الدّين) . وَذكر الْحميدِي فِي (الْجمع) : أَن أَبَا مَسْعُود ذكر فِي (أَطْرَاف الصَّحِيحَيْنِ) ، بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل) . قَالَ الْحميدِي: هَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهِي فِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير عِنْد أَحْمد وَابْن حبَان، وَوَقع فِي بعض نسخ ابْن مَاجَه من طَرِيق عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن خَالِد الْحذاء بِلَفْظ: (اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَهَذِه الرِّوَايَة غَرِيبَة من هَذَا الْوَجْه، وَقد رَوَاهَا التِّرْمِذِيّ والإسماعيلي وَغَيرهمَا من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بِدُونِهَا، وروى ابْن سعد من وَجه آخر عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (دَعَاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمسح على ناصيتي وَقَالَ: اللَّهُمَّ علمه الْحِكْمَة وَتَأْويل الْكتاب) . وَقد رَوَاهُ أَحْمد عَن هشيم عَن خَالِد فِي حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: (مسح على رَأْسِي) . فَإِن قلت: مَا معنى تَسْمِيَة الْكتاب وَالسّنة بالحكمة؟ قلت: أما الْكتاب فَلِأَن الله تَعَالَى أحكم فِيهِ لِعِبَادِهِ حَلَاله وَحَرَامه، وَأمره وَنَهْيه. وَأما السّنة فحكمة فصل بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل، وبيَّن بهَا مُجمل الْقُرْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل جَازَ أَن لَا يُسْتَجَاب دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، وَإجَابَة الْبَاقِي فِي مَشِيئَة الله تَعَالَى، وَأما هَذَا الدُّعَاء فمما لَا شكّ فِي قبُوله، لِأَنَّهُ كَانَ عَالما بِالْكتاب، حبر الْأمة، بَحر الْعلم، رَئِيس الْمُفَسّرين، ترجمان الْقُرْآن. وَكَونه فِي الدرجَة القصوى فِي الْمحل الْأَعْلَى مِنْهُ، مِمَّا لَا يخفى. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ ابْن عَبَّاس من الْأَحْبَار الراسخين فِي علم الْقُرْآن وَالسّنة، أجيبت فِيهِ الدعْوَة، إِلَى هُنَا كَلَام الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا السُّؤَال لَا يُعجبنِي، فَإِن فِيهِ بشاعة، وَأَنا لَا أَشك أَن جَمِيع دعوات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستجابة. وَقَوله: (لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة) ، لَا يَنْفِي ذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحصور. فَإِن قلت: مَا كَانَ سَبَب هَذَا الدُّعَاء لِابْنِ عَبَّاس؟ قلت: بيَّن ذَلِك البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: (دخل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْخَلَاء فَوضعت لَهُ وضوأ) . زَاد مُسلم: (فَلَمَّا خرج ثمَّ اتفقَا قَالَ: من وضع هَذَا؟ فَأخْبر) . وَلمُسلم: (قَالُوا: ابْن عَبَّاس) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَنهُ أَن مَيْمُونَة هِيَ الَّتِي أخْبرته بذلك،، وَأَن ذَلِك كَانَ فِي بَيتهَا لَيْلًا. قلت: وَلَعَلَّ ذَلِك فِي اللَّيْلَة الَّتِي بَات فِيهَا ابْن عَبَّاس عِنْدهَا ليرى صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما سَيَأْتِي فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استناط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة دُعَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وإجابته. الثَّانِي: فِيهِ فضل الْعلم والحض على تعلمه وعَلى حفظ الْقُرْآن وَالدُّعَاء بذلك. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الضَّم، وَهُوَ إِجْمَاع للطفل والقادم من سفر ولغيرهما، ومكروه عِنْد الْبَغَوِيّ، وَالْمُخْتَار جَوَازه، وَمحل ذَلِك إِذا لم يؤد إِلَى تَحْرِيك شَهْوَة. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَمذهب أبي حنيفَة أَن ذَلِك يجوز إِذا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيص، وَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور الماتريدي: الْمَكْرُوه من المعانقة مَا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة، وَأما على وَجه الْبر والكرامة فَجَائِز.
18 - (بَاب متَى يَصِحُّ سَماعُ الصَّغِيرِ)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الصَّبِي الصَّغِير، أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَكلمَة: مَتى، للاستفهام. إِذا قلت: مَتى الْقِتَال؟ كَانَ الْمَعْنى الْيَوْم أم غَدا أم بعد غَد. وَبني لتَضَمّنه معنى حرف الِاسْتِفْهَام، كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور. قَالَ الْكرْمَانِي: معنى الصِّحَّة جَوَاز قبُول مسموعه. وَقَالَ بَعضهم هَذَا تَفْسِير لثمرة الصِّحَّة لَا لنَفس الصِّحَّة. قلت: كَأَنَّهُ فهم: أَن الْجَوَاز هُوَ ثَمَرَة الصِّحَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْجَوَاز هُوَ الصِّحَّة وَثَمَرَة الصِّحَّة عدم ترَتّب الشَّيْء. عَلَيْهِ عِنْد الْعَمَل فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن مَا ذكر فِي الْبَاب الأول من دُعَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِابْنِ عَبَّاس، إِنَّمَا كَانَ وَابْن عَبَّاس إِذْ ذَاك غُلَام مُمَيّز، وَالْمَذْكُور(2/67)
فِي هَذَا الْبَاب حَال الْغُلَام الْمُمَيز فِي السماع، على أَن الْقَضِيَّة هَهُنَا لِابْنِ عَبَّاس أَيْضا، كَمَا كَانَت فِي الْبَاب الأول، وَمرَاده الِاسْتِدْلَال على أَن الْبلُوغ لَيْسَ شرطا فِي التَّحَمُّل. وَاخْتلفُوا فِي السن الَّذِي يَصح فِيهِ السماع للصَّغِير، فَقَالَ مُوسَى بن هَارُون الْحَافِظ: إِذا فرق بَين الْبَقَرَة وَالدَّابَّة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا عقل وَضبط. وَقَالَ يحيى بن معِين: أقل سنّ التَّحَمُّل خَمْسَة عشر سنة، لكَون ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، رد يَوْم أُحد، إِذْ لم يبلغهَا، وَلما بلغ أَحْمد أنكر ذَلِك. وَقَالَ: بئس القَوْل. وَقَالَ عِيَاض: حدد أهل الصّفة ذَلِك أَن أَقَله سنّ مَحْمُود بن الرّبيع، ابْن خمس. كَذَا ذكره البُخَارِيّ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه كَانَ ابْن أَربع، وَقَالَ ابْن الصّلاح: والتحديد بِخمْس هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ عمل أهل الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين، فيكتبون لِابْنِ خمس سِنِين فَصَاعِدا سمع ولدون حضر أَو أحضر، وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي ذَلِك اعْتِبَار التَّمْيِيز، فَإِن فهم الْخطاب ورد الْجَواب كَانَ مُمَيّزا وصحيح السماع، وَإِن كَانَ دون خمس. وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يَصح سَمَاعه وَلَو كَانَ ابْن خمس، بل ابْن خمسين. وَعَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ: رَأَيْت صَبيا، ابْن أَربع سِنِين، قد حمل إِلَى الْمَأْمُون قد قَرَأَ الْقُرْآن وَنظر فِي الْآي، غير أَنه إِذا جَاع بَكَى. وَحفظ الْقُرْآن أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّه بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ وَله خمس سِنِين، فامتحنه فِيهِ أَبُو بكر بن الْمقري وَكتب لَهُ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين، وَحَدِيث مَحْمُود لَا يدل على التَّحْدِيد بِمثل سنه.
76 - حدّثنا إِسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ حدّثني مالِكٌ عَن ابْن شِهابٍ عنْ عُبَيدِ اللَّه ابنِ عَبْدِ اللَّه بنِ عُتْبَةَ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أقْبَلْتُ راكِباً عَلَى حِمارٍ أَتانٍ، وأنَا يوْمَئِذٍ قَدْ ناهَزْتُ الإحْتِلامَ، ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِمِنَى إِلى غَيْرِ جِدارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وأرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِك علَيَّ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعلمَاء جوزوا الْمُرُور بَين يَدي الْمُصَلِّي، إِذا لم يكن ستْرَة، بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس هَذِه، وَابْن عَبَّاس تحمل هَذَا فِي حَالَة الصبى، فَعلم مِنْهُ قبُول سَماع الصَّبِي إِذا أَدَّاهُ بعد الْبلُوغ. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي سَماع الصَّغِير وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سَماع الصَّبِي. قلت: الْمَقْصُود من السماع هُوَ وَمَا يقوم مقَامه لتقرير الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي مَسْأَلَتنَا لمروره. فَإِن قلت: عقد الْبَاب على الصَّبِي الصَّغِير، أَو الصَّغِير فَقَط، على اخْتِلَاف الرِّوَايَة، والمناهز للاحتلام لَيْسَ صَغِيرا، فَمَا وَجه الْمُطَابقَة؟ قلت: المُرَاد من الصَّغِير غير الْبَالِغ، وَذكره مَعَ الصَّبِي من بَاب التَّوْضِيح وَالْبَيَان.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل هُوَ: ابْن عبد اللَّه الْمَشْهُور بِابْن أبي أويس، ابْن أُخْت مَالك، وَابْن شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الصَّلَاة عَن عبد اللَّه بن يُوسُف والقعنبي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي الْحَج عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن سعد عَن ابْن أخي ابْن شهَاب، وَفِي الْمَغَازِي، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي يُونُس. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وَعَن يحيى بن يحيى، وَعَمْرو النَّاقِد، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن عبد بن حميد كِلَاهُمَا عِنْد عبد الرَّزَّاق عَن معمر، خمستهم عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمَالِك أبي الشَّوَارِب عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن معمر نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن هِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (على حمَار) ، قَالَ فِي (الْعباب) : الْحمار العير، وَالْجمع: حمير وحمر وحمر وحمرات واحمرة ومحمور، والحمارة: الأتان، والحمارة أَيْضا: الْفرس الهجين، وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ: يالانى،، واليحمور حمَار الْوَحْش. (أتان) ، بِفَتْح الْهمزَة وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره نون: وَهِي الْأُنْثَى من الْحمر، وَقد يُقَال، بِكَسْر الْهمزَة، حَكَاهُ الصغاني فِي (شوارده) ،(2/68)
وَلَا يُقَال: أتانة. وَحكى يُونُس وَغَيره: أتانة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الاتان الحمارة وَلَا يُقَال: أتانة. وَثَلَاث أتن مثل: عنَاق وأعنق، وَالْكثير اتن واتن، والمأتونا الاتن مثل، المعبورا. قَوْله: (ناهزت الِاحْتِلَام) ، أَي: قاربت يُقَال: ناهز الصَّبِي الْبلُوغ إِذا قاربه وداناه. قَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : ناهز الصَّبِي الْفِطَام دنا مِنْهُ، ونهز الشَّيْء أَي: قرب، وَقَالَ شمر: المناهزة الْمُبَادرَة، فَقيل للأسد: نهز، لِأَنَّهُ يُبَادر مَا يفترسه، والنهزة بِالضَّمِّ: الفرصة. ونهزت الشَّيْء دَفعته، ونهزت إِلَيْهِ: نهضت إِلَيْهِ. والاحتلام: الْبلُوغ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ مُشْتَقّ من الحالم بِالضَّمِّ، وَهُوَ مَا يرَاهُ النَّائِم. قَوْله: (بمنى) ، مَقْصُور: مَوضِع بِمَكَّة تذبح فِيهِ الْهَدَايَا وترمى فِيهِ الجمرات. قَالَ الْجَوْهَرِي: مُذَكّر مَصْرُوف؛ قلت: لِأَنَّهُ علم للمكان فَلم يُوجد فِيهِ شَرط الْمَنْع. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ لُغَتَانِ: الصّرْف وَالْمَنْع، وَلِهَذَا يكْتب بِالْألف وَالْيَاء، والأجود صرفهَا وكتابتها بِالْألف، سميت بهَا لما يمنى بهَا من الدِّمَاء أَي: تراق. قَوْله: (ترتع) ، بتاءين مثناتين من فَوق مفتوحتين وَضم الْعين أَي: تَأْكُل مَا تشَاء، من: رتعت الْمَاشِيَة ترتع رتوعاً. وَقيل: تسرع فِي الْمَشْي وَجَاء أَيْضا، بِكَسْر الْعين على وزن تفتعل، من: الرَّعْي: وَأَصله: ترتعي، وَلَكِن حذفت الْيَاء تَخْفِيفًا، وَالْأول أصوب وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْحَج: نزلت عَنْهَا فرتعت.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَقبلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (رَاكِبًا) نصب على الْحَال. (وعَلى حمَار) يتَعَلَّق بِهِ قَوْله: (أتان) : صفة للحمار أَو بدل مِنْهُ. فَإِن قلت: من أَي قسم من أَقسَام الْبَدَل؟ قلت: قيل: إِنَّه بدل غلط، وَقَالَ القَاضِي: وَعِنْدِي أَنه بدل الْبَعْض من الْكل، إِذْ قد يُطلق الْحمار على الْجِنْس فَيشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالُوا: بعير. وَقَالَ النَّوَوِيّ والقرطبي وَغَيرهمَا أَيْضا: إِن الْحمار اسْم جنس للذّكر والانثى، كلفظة الشَّاة وَالْإِنْسَان. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين فِي بعض طرقه: على حمَار، أَرَادَ بِهِ الْجِنْس وَلم يرد الذُّكُورَة، وَفِي بَعْضهَا: أتان. وَجمع البُخَارِيّ بَينهمَا، فَقَالَ: (على حمَار أتان) . وَقَالَ القَاضِي: وَجَاء فِي البُخَارِيّ (على حمَار أتان) ، بِالتَّنْوِينِ فيهمَا، إِمَّا على الْبَدَل أَو الْوَصْف. وَقد ذَكرْنَاهُ، وَرُوِيَ: (على حمَار أتان) ، بِالْإِضَافَة، أَي: حمَار أُنْثَى، كفحل اتن. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا استدرك الحمارة بِالْأُنْثَى ليعلم أَن الْأُنْثَى من الْحمر لَا تقطع الصَّلَاة، فَكَذَلِك لَا تقطعها الْمَرْأَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ: على حمارة، فيستغني عَن لفظ: أتان؟ قلت: لِأَن التَّاء فِي حمارة يحْتَمل أَن تكون للوحدة وللتأنيث فَلَا تكون نصا فِي الْأُنُوثَة. قلت: هُنَا قرينَة تدل على تَرْجِيح المُرَاد بأنوثته فَلَا يَقع الْجَواب موقعه، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِي الْجَواب: إِن الحمارة قد تطلق على الْفرس الهجين، كَمَا نَقَلْنَاهُ عَن الصغاني عَن قريب، فَلَو قَالَ: على حمارة، رُبمَا كَانَ يفهم أَنه أقبل على فرس هجين، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، على أَن الْجَوْهَرِي حكى أَن الحمارة فِي الْأُنْثَى شَاذ. قَوْله: (وَأَنا يَوْمئِذٍ) ، الْوَاو: فِيهِ للْحَال و: أَنا، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (قد ناهزت الِاحْتِلَام) . قَوْله: (وَرَسُول الله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاو: فِيهِ للْحَال، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (يُصَلِّي) . قَوْله: (بمنى) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (إِلَى غير جِدَار) فِي مَحل النصب على الْحَال، وَفِيه حذف تَقْدِيره: يُصَلِّي غير مُتَوَجّه إِلَى جِدَار. قَوْله: (وارسلت) ، عطف على: مَرَرْت، و: الأتان، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (ترتع) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة، وَالتَّقْدِير: مُقَدرا رتوعها. قَوْله: (وَدخلت) ، بِالْوَاو عطف على: (أرْسلت) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فد خلت) ، وبالفاء الَّتِي للتعقيب. قَوْله: (فَلم يُنكر) على صِيغَة الْمَعْلُوم، أَي: فَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك عَليّ، وَرُوِيَ بِلَفْظ الْمَجْهُول: أَي لم يُنكر أحد لَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غَيره مِمَّن كَانُوا مَعَه.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَقبلت رَاكِبًا على حمَار) ، وَزَاد البُخَارِيّ فِيهِ فِي الْحَج: (أَقبلت أَسِير على أتان حَتَّى صرت بَين يَدي الصَّفّ ثمَّ نزلت عَنْهَا) . وَلمُسلم: (فَسَار الْحمار بَين يَدي بعض الصَّفّ) . قَوْله: (إِلَى غير جِدَار) يَعْنِي: إِلَى غير ستْرَة. فَإِن قلت: لَفْظَة إِلَى غير جِدَار، لَا يَنْفِي شَيْئا غَيره، فَكيف يُفَسر، بِغَيْر ستْرَة؟ إِخْبَار ابْن عَبَّاس عَن مروره بالقوم وَعَن عدم جِدَار، مَعَ أَنهم لم ينكروا عَلَيْهِ، وَأَنه مَظَنَّة إِنْكَار يدل على حُدُوث أَمر لم يعْهَد قبل ذَلِك، من كَون الْمُرُور مَعَ الستْرَة غير مُنكر، فَلَو فرض ستْرَة أُخْرَى غير الْجِدَار لم يكن لهَذَا الْإِخْبَار فَائِدَة. قَوْله: (بَين يَدي بعض الصَّفّ) : هُوَ مجَاز عَن القدام، لِأَن الصَّفّ لَا يَد لَهُ، وَبَعض الصَّفّ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ صف من الصُّفُوف، أَو بعض من الصَّفّ الْوَاحِد، يَعْنِي المُرَاد بِهِ: إِمَّا جُزْء من الصَّفّ، وَإِمَّا جزئي مِنْهُ. قَوْله: (ناهزت الِاحْتِلَام) قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فِيهِ معنى يَقْتَضِي تَأْكِيد الحكم، وَهُوَ عدم بطلَان الصَّلَاة بمرور الْحمار، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بِعَدَمِ الْإِنْكَار، وَعدم الْإِنْكَار على من هُوَ فِي مثل هَذَا السن أدل على هَذَا الحكم، فَإِنَّهُ لَو كَانَ فِي سنّ عدم التَّمْيِيز لاحتمل أَن يكون عدم الْإِنْكَار عَلَيْهِ لعدم مؤاخذته لصِغَر سنه، فَعدم الْإِنْكَار دَلِيل على جَوَاز الْمُرُور،(2/69)
وَالْجَوَاز دَلِيل على عدم إِفْسَاد الصَّلَاة. وَقَالَ عِيَاض: وَقَوله: (ناهزت الِاحْتِلَام) يصحح قَول الْوَاقِدِيّ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، توفّي وَابْن عَبَّاس ابْن ثَلَاث عشرَة سنة. وَقَول الزبير بن بكار: إِنَّه ولد فِي الشّعب قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين. وَمَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ، توفّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة. قَالَ أَحْمد: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ يرد رِوَايَة من يروي عَنهُ، أَنه قَالَ: توفّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنا ابْن عشر سِنِين. وَقد يتَأَوَّل، إِن صَحَّ، على أَن مَعْنَاهُ رَاجع إِلَى مَا بعده، وَهُوَ قَوْله وَقد قَرَأت (الْمُحكم) .
بَيَان استنباط الاحكام: الأول: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير، وَضَبطه السّنَن والتحمل لَا يشْتَرط فِيهِ كَمَال الْأَهْلِيَّة، وَإِنَّمَا يشْتَرط عِنْد الْأَدَاء. ويلتحق بِالصَّبِيِّ فِي ذَلِك: العَبْد وَالْفَاسِق وَالْكَافِر. وَقَامَت حِكَايَة ابْن عَبَّاس لفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَقْرِيره مقَام حِكَايَة قَوْله. الثَّانِي: فِيهِ إجَازَة من علم الشَّيْء صَغِيرا وَأَدَّاهُ كَبِيرا، وَلَا خلاف فِيهِ، وَأَخْطَأ من حكى فِيهِ خلافًا، وَكَذَا الْفَاسِق وَالْكَافِر إِذا أديا حَال الْكَمَال. الثَّالِث: فِيهِ احْتِمَال بعض الْمَفَاسِد لمصْلحَة أرجح مِنْهَا، فَإِن الْمُرُور أَمَام الْمُصَلِّين مفْسدَة، وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة وَفِي الصَّفّ مصلحَة راجحة، فاغتفرت الْمفْسدَة للْمصْلحَة الراجحة من غير إِنْكَار. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الرّكُوب إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة. الْخَامِس: قَالَ الْمُهلب: فِيهِ أَن التَّقَدُّم إِلَى الْقعُود لسَمَاع الْخطْبَة إِذا لم يضر أحدا والخطيب يخْطب جَائِز، بِخِلَاف مَا إِذا تخطى رقابهم. السَّادِس: أَن مُرُور الْحمار لَا يقطع الصَّلَاة، وَعَلِيهِ بوب أَبُو دَاوُد، فِي (سنَنه) ، وَمَا ورد من قطع ذَلِك مَحْمُول على قطع الْخُشُوع. السَّابِع: فِيهِ صِحَة صَلَاة الصَّبِي. الثَّامِن: فِيهِ أَنه إِذا فُعل بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء وَلم يُنكره فَهُوَ حجَّة. التَّاسِع: جَوَاز إرْسَال الدَّابَّة من غير حَافظ أَو مَعَ حَافظ غير مُكَلّف. الْعَاشِر: قَالَ ابْن بطال وأبوعمر وَالْقَاضِي عِيَاض: فِيهِ دَلِيل على أَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، وَكَذَا بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ، وَحكى ابْن بطال وَأَبُو عمر فِيهِ الْإِجْمَاع. قَالَا: وَقد قيل: الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه، وَأما وَجه الدّلَالَة فَقَالَ عِيَاض: قَوْله: فَلم يُنكر ذَلِك أحد، لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ، وَهُوَ الظَّاهِر لقَوْله، بَين يَدي الصَّفّ فَهُوَ حجَّة لتقريره، وَإِن كَانَ بِموضع لم يره فقد رَآهُ أَصْحَابه بجملتهم فَلم ينكروه، وَلَا أحد مِنْهُم، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ عِنْدهم بمنكر، وَقَالَ غَيره: يحْتَمل أَن لَفْظَة: أحد، تَشْمَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره، لما فِيهَا من الْعُمُوم، لكنه ضَعِيف بِأَنَّهُ لَا معنى لعدم إِنْكَار غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ حُضُوره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعدم إِنْكَاره أَيْضا، فَيجوز أَن يكون الصَّفّ ممتداً فَلَا يرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا أَن ابْن عَبَّاس ذكر الرائين وَلم يذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِرَازًا مِنْهُ. قلت: فعلى هَذَا لَا يكون من بَاب الْمَرْفُوع قطعا، بل مِمَّا يتَوَجَّه فِيهِ الْخلاف، وَيحْتَمل كَمَا قَالُوا فِي شبهه. وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، هَذَا يخص بِحَدِيث ابْن سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، يرفعهُ: (إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ) . قَالَ: فَحَدِيث أبي سعيد هَذَا يحمل على الإِمَام وَالْمُنْفَرد، فَأَما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ لحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا، قَالَ: وَهَذَا كُله لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء، وَمِمَّا يُوضحهُ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بهم الظّهْر، أَو الْعَصْر، فَجَاءَت بَهِيمَة تمر بَين يَدَيْهِ، فَجعل يدرؤها حَتَّى رَأَيْته ألصق مَنْكِبَيْه بالجدار فمرت من خَلفه) . قلت: أخرجه أَبُو دَاوُد من أَبُو دَاوُد من أَوله: كَانَ يُصَلِّي إِلَى جدر، وَفِيه: حَتَّى ألصق بَطْنه بالجدر. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَاب ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: والمرور بَين يَدي الْمُصَلِّي مَكْرُوه إِذا كَانَ إِمَامًا أَو مُنْفَردا أَو مُصَليا إِلَى ستْرَة، وَأَشد مِنْهُ أَن يدْخل الْمَار بَين الستْرَة وَبَينه، وَأما الْمَأْمُوم فَلَا يضرّهُ من مر بَين يَدَيْهِ، كَمَا أَن الإِمَام أَو الْمُنْفَرد لَا يضر وَاحِد مِنْهُمَا مَا مر من وَرَاء سترته، لِأَن ستْرَة الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه. وَقد قيل: إِن الإِمَام نَفسه ستْرَة لمن خَلفه. قَالَ: وَهَذَا كُله إِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف أَصْحَاب مَالك فِيمَن صلى إِلَى غير ستْرَة فِي فضاء يَأْمَن أَن يمر أحد بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجوز وَلَا حرج عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون ومطرف: السّنة أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة مُطلقًا. قَالَ: وَحَدِيث ابْن عَبَّاس يشْهد لصِحَّة قَول ابْن الْقَاسِم وَهُوَ قَول عَطاء وَسَالم وَعُرْوَة وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالْحسن، وَكَانُوا يصلونَ فِي الفضاء إِلَى غير ستْرَة، وَسَيَأْتِي بسط الْكَلَام فِيهِ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
77 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثنا أبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حدّثني مُحمَّدُ بنُ حَرْب حدّثني(2/70)
الزُّبَيْدِيُّ عنِ الزُّهْرِيّ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبيِعِ قَالَ: عَقَلْتُ منَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجَّةً مجَّها فِي وجْهي وَأَنا ابنُ خَمْسِ سنِينَ مِنْ دَلْوٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ استدلالهم بِهِ على إِبَاحَة مج الرِّيق على الْوَجْه إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة، وعَلى طَهَارَته وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ لاعتبارهم نقل مَحْمُود بن الرّبيع، فَدلَّ على أَن سَماع الصَّغِير صَحِيح، والترجمة فِيهِ، بل مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَشد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، فَإِن من ناهز الِاحْتِلَام لَا يُسمى صَغِيرا عرفا، ومحمود ابْن الرّبيع أخبر بذلك وعمره خمس سِنِين.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي، أَبُو أَحْمد، نَص عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَذَلِكَ لِأَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن أبي مسْهر. الثَّانِي: أَبُو مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء، واسْمه عبد الْأَعْلَى أَبُو مسْهر الغساني الدِّمَشْقِي. قيل: مَا رُؤي أحد فِي كورة من الكور أعظم قدرا وَلَا أجلّ عِنْد أَهلهَا من أبي مسْهر بِدِمَشْق، وَكَانَ إِذا خرج إِلَى الْمَسْجِد اصطف النَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ، ويقبلون يَده. وَحمله الْمَأْمُون إِلَى بَغْدَاد فِي أَيَّام المحنة، فَجرد للْقَتْل على أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، وَمد رَأسه إِلَى السَّيْف، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك مِنْهُ حمل إِلَى السجْن، فَمَاتَ بِبَغْدَاد سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَدفن بِبَاب التِّين، وَقد لقِيه البُخَارِيّ وَسمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَحدث هُنَا بِوَاسِطَة، وَذكر ابْن المرابط فِيمَا نَقله ابْن رشيد عَنهُ أَن أَبَا مسْهر تفرد بِرِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَإِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى عَن مُحَمَّد بن حَرْب، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمدْخل) من رِوَايَة ابْن جوصا، بِفَتْح الْجِيم وَالصَّاد الْمُهْملَة، عَن سَلمَة بن الْخَلِيل وَابْن التقي، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْقَاف، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة غير أبي مسْهر رَوَوْهُ عَن مُحَمَّد بن حَرْب، فَكَأَنَّهُ الْمُنْفَرد بِهِ عَن الزبيدِيّ. الثَّالِث: مُحَمَّد بن حَرْب، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: هُوَ الأبرش أَي: الَّذِي يكون فِيهِ نكت صغَار يُخَالف سَائِر لَونه، الْخَولَانِيّ الْحِمصِي أَبُو عبد اللَّه، سمع الْأَوْزَاعِيّ وَغَيره، وتقضى بِدِمَشْق وَهُوَ ثِقَة، مَاتَ سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو الْهُذيْل مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر الزبيدِيّ الشَّامي الْحِمصِي قاضيها، الثِّقَة الْكَبِير الْمُفْتِي الْكَبِير، روى عَن مَكْحُول وَالزهْرِيّ وَغَيرهمَا، وَعنهُ مُحَمَّد بن حَرْب وَيحيى بن حَمْزَة، وَهُوَ أثبت أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، مَاتَ بِالشَّام سنة سبع، وَقيل: ثَمَان واربعين وَمِائَة وَهُوَ شَاب، قَالَه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْبَغْدَادِيّ. وَقَالَ ابْن سعد: ابْن سبعين، سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى التِّرْمِذِيّ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. السَّادِس: مَحْمُود بن الرّبيع بن سراقَة بن عَمْرو بن زيد بن عَبدة ابْن عَامر بن عدي بن كَعْب بن الْخَزْرَج بن الْحَارِث ابْن الْخَزْرَج، الْأنْصَارِيّ الخزرجي، أَبُو نعيم. وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، مدنِي مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين عَن ثَلَاث وَتِسْعين، وَهُوَ ختن عبَادَة ابْن الصَّامِت، نزل بَيت الْمُقَدّس وَمَات بهَا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الغساني: نِسْبَة إِلَى غَسَّان، مَاء بالمشلل قريب من الْجحْفَة، وَالَّذين شربوا مِنْهُ تسموا بِهِ، وهم من ولد مَازِن بن الأزد، فَإِن مَازِن جماع غَسَّان فَمن نزل من بنيه ذَلِك المَاء فَهُوَ غَسَّان، وَذكر الرشاطي الغساني فِي الأزد. وَقَالَ ابْن هِشَام: نسبوا إِلَى مَاء بسد مأرب كَانَ شرباً لولد مَازِن فسموا بِهِ. الْخَولَانِيّ: فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب (الإكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن أدد، قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ خولان بن قحطان، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي كتاب (المعارف) : وخولان بن سعد بن مذْحج. الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالدَّال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى زبيد، قَبيلَة من مذْحج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة. وَذكر الرشاطي الزبيدِيّ فِي قبائل مذْحج وَغَيرهَا، فَالَّذِي فِي مذْحج: زبيد، واسْمه مُنَبّه الْأَكْبَر بن صَعب بن سعد الْعَشِيرَة بن مَالك، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. قَالَ ابْن دُرَيْد: زبيد تَصْغِير: زبد، والزبد الْعَطِيَّة، زبدته أزبده زبداً. وَفِي الأزد: زبيد بطن، وَهُوَ زبيد بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب ابْن الْحَارِث الغطريف الْأَصْغَر بن عبد اللَّه بن عَامر الغطريف الْأَكْبَر بن بكر بن يشْكر بن بشير بن كَعْب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كَعْب بن الْحَارِث بن كَعْب بن عبد اللَّه بن مَالك بن نصر بن الأزد. وَفِي خولان القضاعية: زبيد بطن ابْن الْخِيَار بن زِيَاد بن سُلَيْمَان بن الناجش بن حَرْب بن سعد بن خولان.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته إِلَى الزُّهْرِيّ شَامِيُّونَ.(2/71)
وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي الدَّعْوَات عَن عبد الْعَزِيز بن عبد اللَّه عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن مصفى عَن مُحَمَّد بن حَرْب بِهِ، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ نَحوه، وَلم يذكر: وَأَنا ابْن خمس سِنِين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (عقلت) أَي: عرفت. وَيُقَال: مَعْنَاهُ حفظت، عَن: عقل يعقل من بَاب: ضرب يضْرب، عقلا ومعقولاً. وَهُوَ مصدر. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَهُوَ صفة، وَكَانَ يَقُول: إِن الْمصدر لَا يَتَأَتَّى على وزن مفعول الْبَتَّةَ. قَوْله: (مجة) يُقَال: مج الشَّرَاب من فِيهِ إِذا رمى بِهِ. وَقَالَ أهل اللُّغَة: المج إرْسَال المَاء من الْفَم مَعَ نفخ. وَقيل لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. وَكَذَلِكَ مج لعابه والمجاجة والمجاج الرِّيق الَّذِي تمجه من فِيك، ومجاجة الشَّيْء إيضاً عصارته، وَيُقَال: إِن الْمَطَر مجاج المزن وَالْعَسَل مجاج النَّحْل والمجاج أَيْضا اللَّبن، لِأَن الضَّرع يمجه والتركيب يدل على رمي الشَّيْء بِسُرْعَة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (عقلت) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول القَوْل. قَوْله: (مجة) بِالنّصب مَفْعُوله، قَوْله: (مجها) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لمجة، وَالضَّمِير فِيهَا يرجع إِلَى المجة. قَوْله: (فِي وَجْهي) حَال من مجه. قَوْله: (من دلو) ، أَي: من مَاء دلو والدلو يذكر وَيُؤَنث. وَقَوله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين) جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مُعْتَرضَة وَقعت حَالا: إمّا من: تَاء، عقلت، أَو من: يَاء وَجْهي.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وَأَنا ابْن خمس سِنِين) ، قد ذكرنَا أَن الْمُتَأَخِّرين قد حددوا أقل سنّ التَّحَمُّل بِخمْس سِنِين. وَقَالَ ابْن رشيد: الظَّاهِر أَنهم أَرَادوا بتحديد الْخمس أَنَّهَا مَظَنَّة لذَلِك، لَا أَن بُلُوغهَا شَرط لَا بُد من تحَققه، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَلَا فِي غَيرهمَا من الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد التَّقْيِيد بِالسِّنِّ عِنْد التَّحَمُّل فِي شَيْء من طرقه إلاَّ فِي طَرِيق الزبيدِيّ هَذِه، وَهُوَ من كبار الْحفاظ المتقنين عَن الزُّهْرِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ والخطيب فِي (الْكِفَايَة) ، من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن نمر، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي مَحْمُود بن الرّبيع: وَتُوفِّي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين، واستفيد من هَذِه الرِّوَايَة أَن الْوَاقِعَة الَّتِي ضَبطهَا كَانَت فِي آخر سنة من حَيَاة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ذكر ابْن حبَان وَغَيره أَنه مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن أَربع وَتِسْعين سنة، وَهُوَ مُطَابق لهَذِهِ الرِّوَايَة. وَذكر عِيَاض فِي (الإلماع) وَغَيره أَن فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ ابْن أَربع سِنِين، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَات شَيْء يُصَرح بذلك، فَكَأَن ذَلِك أَخذ من قَول ابْن عمر أَنه عقل المجة وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين أوخمس، وَكَأن الْحَامِل لَهُ على هَذَا التَّرَدُّد قَول الْوَاقِدِيّ: إِنَّه كَانَ ابْن ثَلَاث وَتِسْعين سنة لما مَاتَ، وَالْأول أصح. قَوْله: (من دلو) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من دلو مُعَلّق) ، وَفِي (الرقَاق) من رِوَايَة معمر: (من دلو كَانَت فِي دَارهم) . وَفِي الطَّهَارَة وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا: (من بِئْر) ، بدل: (دلو) . وَلَا تعَارض بَينهمَا، لِأَنَّهُ يتَأَوَّل بِأَن المَاء أَخذ بالدلو من الْبِئْر وتناوله النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الدَّلْو.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بركَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا جَاءَ من أَنه يحنك الصّبيان بِأَن يَأْخُذ التمرة يمضغها ويجعلها فِي فَم الصَّبِي، وحنك بهَا: حنكه بالسبابة حَتَّى تحللت فِي حلقه، وَكَانَت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يحرصون على ذَلِك إِرَادَة بركته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأولادهم، كَمَا رَأَوْا بركته فِي المحسوسات والأجرام من تَكْثِير المَاء بمجه فِي فرلادين وَفِي بِئْر الْحُدَيْبِيَة. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز سَماع الصَّغِير وَضَبطه بالسنن. الثَّالِث: قَالَ التَّيْمِيّ: فِيهِ جَوَاز مداعبة الصَّبِي، إِذْ داعبه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأخذ مَاء من الدَّلْو فمجه فِي وَجهه.
فَائِدَة: تعقب ابْن أبي صفرَة على البُخَارِيّ من ذكره حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فِي اعْتِبَار خمس سِنِين، وإعقاله حَدِيث عبد اللَّه بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه رأى أَبَاهُ يخْتَلف إِلَى بني قُرَيْظَة فِي يَوْم الخَنْدَق ويراجعهم، فَفِيهِ السماع مِنْهُ وَكَانَ سنه إِذْ ذَاك ثَلَاث سِنِين، أَو أَربع، فَهُوَ أَصْغَر من مَحْمُود، وَلَيْسَ فِي قصَّة مَحْمُود ضَبطه لسَمَاع شَيْء، فَكَانَ ذكره حَدِيث ابْن الزبير أولى لهذين الْمَعْنيين. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ إِنَّمَا أَرَادَ نقل السّنَن النَّبَوِيَّة لَا الْأَحْوَال(2/72)
الوجودية، ومحمود نقل سنة مَقْصُودَة فِي كَون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مج مجة فِي وَجهه لإفادته الْبركَة، بل فِي مُجَرّد رُؤْيَته إِيَّاه فَائِدَة شَرْعِيَّة يثبت بهَا كَونه صحابياً. وَأما قصَّة ابْن الزبير فَلَيْسَ فِيهَا نقل سنة من السّنَن النَّبَوِيَّة حَتَّى يدْخل فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي (تنقيحه) : وَيحْتَاج الْمُهلب إِلَى ثُبُوت أَن قَضِيَّة ابْن الزبير صَحِيحَة على شَرط البُخَارِيّ. قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، فَإِن قَضِيَّة ابْن الزبير الْمَذْكُورَة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي مَنَاقِب الزبير فِي (الصَّحِيح) ، وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ. وَالله أعلم.
19 - (بابُ الخُرُوجِ فِي طَلَبِ العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُرُوج لأجل طلب الْعلم، وَأطلق الْخُرُوج ليشْمل سفر الْبَحْر وَالْبر. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول إقبال ابْن عَبَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاة، ودخوله فِيهَا مَعَه، ثمَّ إخْبَاره ذَلِك كُله لمن روى عَنهُ الحَدِيث. وَفِي ذَلِك كُله معنى طلب الْعلم، وَمعنى الْخُرُوج فِي طلبه، وَمَعَ هَذَا كَانَ ذكر هَذَا الْبَاب عقيب بَاب مَا ذكره فِي ذهَاب مُوسَى إِلَى الْخضر فِي الْبَحْر أنسب وأليق على مَا لَا يخفى.
ورَحَلَ جابِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلى عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ واحِدٍ.
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَنه أَرَادَ بِذكر هَذَا الْأَثر الْمُعَلق التَّنْبِيه على فَضِيلَة السّفر والرحلة فِي طلب الْعلم برا وبحراً.
الثَّانِي: أَن جَابر بن عبد اللَّه هُوَ الْأنْصَارِيّ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، وَعبد اللَّه بن أنيس، بِضَم الْهمزَة، مصغر أنس ابْن مسعد الْجُهَنِيّ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء، حَلِيف الْأَنْصَار، شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار، وَشهد أحدا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَبَعثه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده سَرِيَّة. وَاخْتلف فِي شُهُوده بَدْرًا. لَهُ خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، روى لَهُ مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا فِي لَيْلَة الْقدر، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة. وَلم يذكرهُ الكلاباذي وَغَيره فِيمَن روى لَهُ البُخَارِيّ، وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب (الرَّد على الْجَهْمِية) : وَيذكر عَن جَابر بن عبد اللَّه عَن عبد اللَّه بن أنيس، فَذكره. توفّي بِالشَّام سنة أَربع وَخمسين فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ: عَن عبد اللَّه بن أنيس الْأنْصَارِيّ، عَنهُ ابْنه عِيسَى، وَلَعَلَّه الأول. وَفِي الصَّحَابَة، أَو أنيس عبد اللَّه بن أنيس، أَو أنيس. قيل: هُوَ الَّذِي رمى ماعزاً لما رَجَمُوهُ فَقتله، وَعبد اللَّه بن أنيس قتل يَوْم الْيَمَامَة، وَعبد اللَّه بن أنيس العامري لَهُ وفادة، وَمن رِوَايَة يعلى بن الْأَشْدَق وَعبد اللَّه بن أبي أنيسَة، قَالَ الْوَلِيد بن مُسلم: ثَنَا دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن الْمَكِّيّ عَن عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل عَن جَابر سَمِعت حَدِيثا فِي الْقصاص لم يبْق أحد يحفظه إلاَّ رجل بِمصْر يُقَال لَهُ، عبد اللَّه بن أبي أنيسَة.
الثَّالِث: قَوْله: (فِي حَدِيث وَاحِد) أَي لأجل حَدِيث وَاحِد، وَكلمَة: فِي، تَجِيء للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} (يُوسُف: 32) وَقَوله:: {لمسكم فِيمَا افضتم} (النُّور: 14) وَفِي الحَدِيث: (أَن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها) .
الرَّابِع: قَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بقوله: (فِي حَدِيث وَاحِد) ، حَدِيث السّتْر على الْمُسلم، قيل: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ يُقَال: إِن أَبَا أَيُّوب خَالِد بن زيدٍ الْأنْصَارِيّ، رَحل إِلَى عقبَة بن عَامر، أخرجه الْحَاكِم: حَدثنَا عَليّ بن حَمَّاد، حَدثنَا بشر بن مُوسَى، حَدثنَا الْحميدِي، حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن أبي سعيد الْأَعْمَى عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: خرج أَبُو أَيُّوب إِلَى عقبَة بن عَامر يسْأَله عَن حَدِيث سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يبْق أحد سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره وَغير عقبَة، فَلَمَّا قدم أَبُو أَيُّوب منزل سَلمَة بن مخلد الْأنْصَارِيّ، أَمِير مصر، فاخبره، فَعجل عَلَيْهِ فَخرج إِلَيْهِ فعانقه، ثمَّ قَالَ: مَا جَاءَ بك يَا أَبَا أَيُّوب؟ قَالَ: حَدِيث سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق أحد سَمعه من رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، غَيْرِي وَغَيْرك فِي ستر الْمُؤمن. قَالَ عقبَة: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من ستر مُؤمنا فِي الدُّنْيَا على عَورَة ستره الله يَوْم الْقِيَامَة) . فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوب: صدقت، ثمَّ انْصَرف أَبُو أَيُّوب إِلَى رَاحِلَته، فركبها رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة. وَفِي (مُسْند عبد اللَّه بن وهب) ، صَاحب مَالك: أَنبأَنَا عبد الْجَبَّار بن عمر، حَدثنَا مُسلم بن أبي حرَّة عَن رجل من الْأَنْصَار عَن رجل من أهل قبا أَنه قدم مصر على مسلمة بن مخلد، فَقَالَ: أرسل معي إِلَى فلَان، رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: حسبت أَنه قَالَ: سرق، قَالَ: فَذهب إِلَيْهِ فِي قريته، فَقَالَ: هَل تذكر مَجْلِسا كنت أَنا وَأَنت فِيهِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ أحد مَعنا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: كَيفَ سمعته يَقُول؟ فَقَالَ: سمعته يَقُول: (من أطلع من أَخِيه على عَورَة ثمَّ سترهَا، جعلهَا الله لَهُ يَوْم الْقِيَامَة(2/73)
حِجَابا من النَّار) . قَالَ: كنت أعرف ذَلِك، وَلَكِن أوهمت الحَدِيث فَكرِهت أَن أحدث بِهِ على غير مَا كَانَ، ثمَّ ركب رَاحِلَته وَرجع. وَقَالَ ابْن وهب: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، عَن أَبِيه عَن مولى لخارجة عَن أبي صياد الْأسود الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ عريفهم، أَن رجلا قدم على مسلمة بن مخلد، فَلم ينزل، وَقَالَ: أرسل معي إِلَى عقبَة بن عَامر، فَأرْسل مَعَه أَبَا صياد، فَقَالَ الرجل لعقبة: هَل تذكر مَجْلِسا لنا فِيهِ عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: (من ستر عَورَة مُؤمن كَانَت لَهُ كموؤودة أَحْيَاهَا) فَقَالَ عقبَة: نعم، فَكبر الرجل، قَالَ: لهَذَا ارتحلت من الْمَدِينَة، ثمَّ رَجَعَ. وَالصَّحِيح أَن المُرَاد من قَوْله: فِي حَدِيث وَاحِد، هُوَ الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب (الرَّد على الْجَهْمِية) آخر الْكتاب، فَقَالَ: وَنَذْكُر عَن جَابر بن عبد اللَّه عَن عبد اللَّه بن أنيس: سَمِعت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقُول: (يحْشر الله الْعباد فيناديهم، بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك أَنا الديَّان) لم يزدْ البُخَارِيّ على هَذَا، وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) من طَرِيق عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل أَنه سمع جَابر بن عبد اللَّه يَقُول: بَلغنِي عَن رجل حَدِيث سَمعه عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فاشتريت بَعِيرًا، ثمَّ شددت رحلي فسرت إِلَيْهِ شهرا حَتَّى قدمت الشَّام، فَإِذا عبد اللَّه بن أنيس، فَقلت للبواب: قل لَهُ جَابر بن عبد اللَّه على الْبَاب. فَقَالَ: ابْن عبد اللَّه؟ قلت: نعم. فَخرج فاعتنقني، فَقلت: حَدِيث بَلغنِي عَنْك أَنَّك سمعته من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَخَشِيت أَن أَمُوت قبل أَن أسمعك. فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (يحْشر الله النَّاس يَوْم الْقِيَامَة عُرَاة غرلًا بهما، فيناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك، أَنا الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة وَاحِد من أهل النَّار يَطْلُبهُ بمظلمة حَتَّى يقتصه مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَة قَالَ: وَكَيف، وَإِنَّمَا نأتي عُرَاة غرلًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ والسيئات وَأخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْعلم عَن شَيبَان: حَدثنَا همام، حَدثنَا الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد، حَدثنِي عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن عقيل أَن جَابِرا حَدثهُ ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي مُسْنده عَن هدبة عَن همام بِسَنَدِهِ نَحوه. وَأخرجه أَيْضا نصر الْمَقْدِسِي فِي كتاب (الْحجَّة على تَارِك المحجة) عَن عَليّ ابْن طَاهِر: حَدثنَا الْحُسَيْن بن خرَاش، حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز، ثَنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، ثَنَا همام إِلَى آخِره. فَإِن قلت: ذكر أَبُو سعيد بن يُونُس بِسَنَدِهِ عَن جَابر قَالَ: بَلغنِي حَدِيث فِي الْقصاص عَن عقبَة بن عَامر، وَهُوَ بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا فشددت عَلَيْهِ رحلاً وسرت إِلَيْهِ شهرا حَتَّى أتيت مصر وَذكر الحَدِيث. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين، وَتَمام فِي (فَوَائده) من طَرِيق الْحجَّاج بن دِينَار عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر، قَالَ: كَانَ بَلغنِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث فِي الْقصاص، وَكَانَ صَاحب الحَدِيث بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا فسرت حَتَّى وَردت مصر، فقصدت إِلَى بَاب الرجل ... ، فَذكر نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِسْنَاده صَالح. وروى الْخَطِيب فِي كتاب (الرحلة) ، من حَدِيث عبد الوارث بن سعيد عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد عَن ابْن عقيل عَن جَابر قَالَ: تقدّمت على ابْن أنيس بِمصْر ... وَرَوَاهُ أَيْضا، من طَرِيق عِيسَى الغنجار عَن عمر بن صَالح عَن مقَاتل بن حبَان عَن أبي جارود الْعَبْسِي عَن جَابر، فَأتيت مصر فَإِذا هُوَ بِبَاب الرجل، فَخرج إليَّ وَفِيه: (والرب على عَرْشه يُنَادى بِصَوْت رفيع غير فظيع)
الحَدِيث. قلت: يحْتَمل أَن يَكُونَا وَاقِعَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا لعبد اللَّه بن أنيس، وَالْأُخْرَى: لعقبة بن عَامر، رَضِي الله عَنْهُمَا. قَوْله: (عُرَاة) جمع عَار. قَوْله: (غرلًا) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء جمع أغرل وَهُوَ: الأقلف. وَقَوله: (بهما) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: لَيْسَ مَعَهم شَيْء، وَيُقَال أصحاء. قلت: يَعْنِي لَيْسَ فيهم شَيْء من العاهات: كالعمى والعور وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا أجساد صَحِيحَة للخلود، إِمَّا فِي الْجنَّة وَإِمَّا فِي النَّار. والبهم فِي الأَصْل الَّذِي يخالط لَونه لون سَواد. قَوْله: (فيناديهم بِصَوْت) قَالَ القَاضِي الْمَعْنى يَجْعَل ملكا يُنَادي، أَو يخلق صَوتا ليسمعه النَّاس، وَأما كَلَام الله تَعَالَى فَلَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر (فينادي بِصَوْت) على مَا لم يسم فَاعله.
الْخَامِس: ادَّعَت جمَاعَة أَن البُخَارِيّ قد نقض قَاعِدَته، وَذَلِكَ أَن من قَوَاعِده أَنه يذكر التَّعْلِيق إِذا كَانَ صَحِيحا بِصِيغَة الْجَزْم. وَإِذا كَانَ ضَعِيفا بِصِيغَة التمريض، وَهنا قَالَ: ورحل جَابر بن عبد اللَّه بِصِيغَة الْجَزْم، وَقَالَ فِي أَوَاخِر (صَحِيحَة) : وَيذكر جَابر بِصِيغَة التمريض، وَأجَاب عَنهُ الشَّيْخ قطب الدّين بِأَنَّهُ جزم: بالرحلة دون الحَدِيث، فَعِنْدَ مَا ذكر الحَدِيث اتى بِصِيغَة التمريض، فَقَالَ: وَيذكر عَن جَابر بن عبد اللَّه.
78 - حدّثنا أَبُو القاسِمِ خالِدُ بنُ خلِيٍّ قَالَ: حدّثنا مُحمَّدُ بنُ حَرْبٍ قَالَ: قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: أخبرنَا الزُهْرَي)(2/74)
عنْ عُبيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عَن ابْن عَبَّاس أنَّهُ تَمَارَى هُوَ والحُرّ بنُ قَيْسِ بن حصْنٍ الفَزَاريُّ فِي صاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِما أبَيُّ بنُ كَعْبٍ، فَدَعاهُ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي تَمارَيْتُ أَنا وصاحِبِي هَذا فِي صاحِبِ مُوسى الَّذِي سأَل السَّبِيلَ إلَى لُقِيِّه، هَلْ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شَأْنَه؟ فَقَالَ ابَيٌّ: نَعَمْ! سَمعْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شأْنَهُ يَقُولُ: (بَيْنَما مُوسَى فِي مَلأٍ مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أتَعْلَمُ أحَداً أعْلَمَ منْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لاَ. فأَوْحَى الله عَزَّ وجَلَّ إلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنا خضِرٌ، فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلىَ لُقِيِّهِ فَجَعَلَ الله لَهُ الحُوتَ آيَةً وقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإِنَّكَ سَتَلْقاهُ، فَكان مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَّبِعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَي لِمُوسَى: {أرَأيْتَ إِذْ أوَيْنَا إِلى الصَّخْرَةِ فانِّي نَسيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهِ إِلا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ} قَالَ مُوسى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فارْتَدَّا علَى آثارِهِما قَصَصَاً فَوَجدا خَضِراً، فَكان مِنْ شَأنهمَا مَا قَصَّ الله فِي كِتابهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد عقد على هَذَا الحَدِيث بَابَيْنِ بترجمتين. الأول: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر. وَالثَّانِي: هَذَا الْبَاب.
والتفاوت فِي بعض الروَاة، فَإِن هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن غرير عَن يَعْقُوب عَن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ: وَهَهُنَا: عَن أبي الْقَاسِم خَالِد بن خلي عَن مُحَمَّد بن حَرْب عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَكَذَا التَّفَاوُت فِي بعض الْأَلْفَاظ. فَإِن هُنَاكَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، بعد قَوْله: فِي صَاحب مُوسَى، وَقبل قَوْله: فَمر بهما أبي بن كَعْب. وَهُنَاكَ: هَل سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَهَهُنَا: هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَهُنَاكَ: قَالَ: نعم، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهَهُنَا: نعم، سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر شَأْنه. وَهُنَاكَ: جَاءَ رجل فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَهَهُنَا: إِذْ جَاءَهُ. وَهُنَاكَ: فَقَالَ: هَل تعلم أحدا؟ وَهَهُنَا: فَقَالَ: تعلم أحدا؟ وَهُنَاكَ: فَكَانَ يتبع الْحُوت، وَهَهُنَا: فَكَانَ مُوسَى يتبع أثر الْحُوت. وَهُنَاكَ: فَقَالَ لمُوسَى فتاه: أريت؟ وَهَهُنَا: فَقَالَ فَتى مُوسَى لمُوسَى: أَرَأَيْت؟ وَوَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: تمارى وَالْحر بِغَيْر لَفظه هُوَ، وَهُوَ عطف على الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بِغَيْر التَّأْكِيد بالمنفصل، وَذَلِكَ جَائِز عِنْد الْكُوفِيّين وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَكَذَا الْكَلَام فِي رِجَاله مَا خلا شيخ البُخَارِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ أما شَيْخه فَهُوَ أَبُو الْقَاسِم خَالِد بن خلي الْحِمصِي الكلَاعِي من حَدِيث عبد الْوَارِث بن سعيد عَن الْقَاسِم بن عبد الْوَاحِد عَن ابْن عقيل عَن جَابر، انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ قَاضِي حمص، صَدُوق، أخرج لَهُ هَهُنَا، وَفِي التَّعْبِير، روى عَن بَقِيَّة وطبقته، وَعنهُ ابْنه مُحَمَّد وَأَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، وَأخرج لَهُ من أهل السّنَن: النَّسَائِيّ فَقَط. وخلي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء، على وزن: عَليّ، وَقَالَ بَعضهم: وَقع عِنْد الزَّرْكَشِيّ مضبوطاً بلام مُشَدّدَة، وَهُوَ سبق قلم، أَو خطأ من النَّاسِخ قلت: لَيْسَ الزَّرْكَشِيّ ضَبطه هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ: بخاء مُعْجمَة مَفْتُوحَة وَلَام مَكْسُورَة وياء مُشَدّدَة بِوَزْن عَليّ. وَأما الْأَوْزَاعِيّ فَهُوَ أحد الْأَعْلَام أَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن يحمد، وَقيل: كَانَ اسْمه عبد الْعَزِيز فَسمى نَفسه عبد الرَّحْمَن، أحد اتِّبَاع التَّابِعين، كَانَ يسكن دمشق خَارج بَاب الفراديس ثمَّ تحول إِلَى بيروت فسكنها مرابطاً إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة سبع وَخمسين وَمِائَة، آخر خلَافَة أبي جَعْفَر، دخل الْحمام فَذهب الحمامي فِي حَاجَة وأغلق عَلَيْهِ الْبَاب، ثمَّ جَاءَ فَفتح عَلَيْهِ الْبَاب فَوَجَدَهُ مَيتا متوسداً يَمِينه مُسْتَقْبل الْقبْلَة، رَحمَه الله. وَكَانَ مولده ببعلبك سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أَصله من سبي الْهِنْد، روى عَن عَطاء وَمَكْحُول وَغَيرهمَا، وَرَأى ابْن سِيرِين، وَعنهُ قَتَادَة وَيحيى بن أبي كثير وهما من شُيُوخه، وَكَانَ رَأْسا فِي الْعِبَادَة وَالْعلم، وَكَانَ أهل الشَّام وَالْمغْرب على مذْهبه قبل انتقالهم إِلَى مَذْهَب مَالك، وَسُئِلَ عَن الْفِقْه، يَعْنِي: استفتي، وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة، وَقيل: إِنَّه أفتى فِي ثَمَانِينَ ألف مَسْأَلَة. ونسبته إِلَى الأوزاع، بِفَتْح الْهمزَة، قيل: إِنَّهَا قَرْيَة بِقرب دمشق خَارج بَاب الفراديس، سميت بذلك لِأَنَّهُ سكنها فِي صدر الْإِسْلَام قبائل شَتَّى، وَقيل: الأوزاع، بطن من حمير. وَقيل: من هَمدَان بِسُكُون الْمِيم، وَقيل: هُوَ نِسْبَة إِلَى(2/75)
أوزاع الْقَبَائِل: أَي: فرقها وبقاياها مجتمعة من قبائل شَتَّى.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ: حَدثنَا مُحَمَّد بن حَرْب قَالَ الْأَوْزَاعِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ: أخبرنَا الزُّهْرِيّ، وَفِي الطَّرِيق السَّابِقَة عَن صَالح عَن ابْن شهَاب، وَابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ، وَهَذَا الِاخْتِلَاف من جملَة ضبط البُخَارِيّ وَقُوَّة احتياطه حَيْثُ يَقُول تَارَة: ابْن شهَاب، وَتارَة: الزُّهْرِيّ، وَتارَة: مُحَمَّد بن مُسلم، لِأَنَّهُ يَنْقُلهُ فِي كل مَوضِع بِاللَّفْظِ الَّذِي نَقله شَيْخه.
20 - (بَاب فَضْل مَنْ عَلِمَ وعلَّمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من علم، بتَخْفِيف اللَّام الْمَكْسُورَة، أَي: صَار عَالما، وعلّم، بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة، من التَّعْلِيم؛ أَي: علم غَيره.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ بَيَان حَال الْعَالم والمعلم، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان فضلهما.
79 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ العَلاءِ قَالَ: حدّثنا حَمَّادُ بنُ أُسامةَ عنْ بُريْدِ بن عبد اللَّه عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضاً، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادبُ أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ الله بِها النَّاسَ فَشَربُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصابَتْ مِنْها طائِفَةٌ أخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاء وَلَا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دينِ الله ونَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بهِ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الْبَاب مَعْقُود على قَوْله فِي الحَدِيث: فَعلم وَعلم، وَفضل من بَاشر الْعلم والتعليم ظَاهر مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي معرض الْمَدْح على سَبِيل التَّمْثِيل على مَا نبينه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بِالْمُهْمَلَةِ وبالمد، ابْن كريب الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم وَالدَّال الْمُهْملَة، المكنى بِأبي كريب، بِضَم الْكَاف، مصغر كرب، بِالْمُوَحَّدَةِ. وشهرته بالكنية أَكثر. روى عَنهُ الْجَمَاعَة وَآخَرُونَ، وَهُوَ صَدُوق لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ مكثر. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن سعيد: ظهر لَهُ بِالْكُوفَةِ ثَلَاثَة مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة بن زيد الْهَاشِمِي الْقرشِي الْكُوفِي، مولى الْحسن بن عَليّ أَو غَيره، وشهرته بكنيته أَكثر. روى عَن بريد وَغَيره، وَأكْثر عَن هِشَام ابْن عُرْوَة، لَهُ عَنهُ سِتّمائَة حَدِيث، وَعنهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا، وَكَانَ ثِقَة ثبتاً صَدُوقًا حَافِظًا حجَّة اخبارياً، رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: كتبت بإصبعي هَاتين مائَة ألف حَدِيث، مَاتَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة، فِيمَا قيل، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من هُوَ بِهَذِهِ الكنية سواهُ، وَفِي النَّسَائِيّ أَبُو أُسَامَة الرقي النَّخعِيّ زيد بن عَليّ بن دِينَار، صَدُوق، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من اشْتهر بِهَذِهِ الكنية سواهُمَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن عبد اللَّه بن أبي بردة ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، والمكنى بِأبي بردة الْكُوفِي وَقد تقدم. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء: عَامر بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن بريداً يروي عَن جده، وجده عَن أَبِيه، وَهَذِه لَطِيفَة.(2/76)
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، وَلم يقل: عَن أبي بردة عَن أَبِيه. قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تفنناً. قلت: التفنن هُوَ التنوع فِي أَنْوَاع الْكَلَام وأساليبه من الْفَنّ وَاحِد الْفُنُون، وَهِي الْأَنْوَاع، وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ باخْتلَاف الْعبارَات، وَلَيْسَ هَهُنَا إلاَّ عبارَة وَاحِدَة فَكيف يكون من هَذَا الْقَبِيل.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا فَقَط. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعبد اللَّه بن براد وَأبي كريب، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا الْكُوفِي، ثَلَاثَتهمْ عَن أبي أُسَامَة عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (مثل) ، بِفَتْح الْمِيم والثاء الْمُثَلَّثَة: المُرَاد بِهِ هَهُنَا الصّفة العجبية لَا القَوْل السائر. قَوْله: (من الْهدى) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْهدى الرشاد، وَالدّلَالَة، يذكر وَيُؤَنث. يُقَال: هداه الله للدّين هدى، وهديته الطَّرِيق وَالْبَيْت هِدَايَة، أَي: عَرفته، هَذِه لُغَة أهل الْحجاز وَغَيرهم. تَقول: هديته إِلَى الطَّرِيق وَإِلَى الدَّار، حَكَاهَا الْأَخْفَش، وَهدى واهتدى بِمَعْنى، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْهدى: هُوَ الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية. قَوْله: (وَالْعلم) هُوَ صفة توجب تمييزاً لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة. قَوْله: (الْغَيْث) هُوَ الْمَطَر، وغيثت الأَرْض فَهِيَ مغيثة ومغيوثة. يُقَال: غاث الْغَيْث الأَرْض إِذا أَصَابَهَا. وغاث الله الْبِلَاد يغيثها غيثاً. قَوْله: (نقية) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: من النَّقَاء، هَكَذَا هُوَ عِنْد البُخَارِيّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ والْحميدِي، وَفِي حَاشِيَة أصل أبي ذَر: ثغبة، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة بعْدهَا بَاء مُوَحدَة خَفِيفَة مَفْتُوحَة، قَالَ الْخطابِيّ: هِيَ مستنقع المَاء فِي الْجبَال والصخور، وَقَالَ الصغاني: الثغب، بِالتَّحْرِيكِ: الغدير، يكون فِي ظلّ جبل لَا تصيبه الشَّمْس فيبرد مَاؤُهُ، وَالْجمع: ثغبان. مثل: شبث وشبثان. وَقد يسكن فَيُقَال: ثغب، وَيجمع على: ثغبان، مثل: ظهر وظهران. وَيجمع على: ثغاب أَيْضا. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هَذِه الرِّوَايَة غلط من الناقلين وتصحيف، وإحالة للمعنى لِأَنَّهُ إِنَّمَا جعلت هَذِه الطَّائِفَة الأولى مثلا لما تنْبت، والثغبة لَا تنْبت، ويروى: بقْعَة، ويروى: (طيبَة) . كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (قبلت المَاء) : من الْقبُول، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَهَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ. قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْخلاف فِي قَوْله: قَالَ إِسْحَاق: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَة قبلت المَاء، يَعْنِي: هَل يُقَال فِيهِ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، أَو بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف على مَا يَجِيء عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى؟ وَقَالَ بَعضهم: كَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات. وَوَقع عِنْد الْأصيلِيّ: قيلت، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قلت: ذكر هَذَا هَهُنَا غير مُنَاسِب، لِأَن هَذَا الْموضع لَا خلاف فِيهِ، كَمَا قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين، وَإِنَّمَا يذكر هَذَا عِنْد قَول إِسْحَاق. قَوْله: (الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام، وَفِي آخِره همزَة بِلَا مد. قَالَ الصغاني: الْكلأ العشب، وَقد كلئت الأَرْض فَهِيَ كليئة، ثمَّ قَالَ فِي بَاب العشب: العشب الْكلأ الرطب، وَلَا يُقَال لَهُ حشيش حَتَّى يهيج، وأعشبت الأَرْض إِذا أنبتت العشب. وَقَالَ فِي بَاب الْحَشِيش: الحشيس الْكلأ الْيَابِس، وَلَا يُقَال لَهُ: رطب حشيش. قلت: علم من كَلَامه أَن الْكلأ يُطلق على الرطب من النَّبَات واليابس مِنْهُ، وَكَذَا صرح بِهِ ابْن فَارس والجوهري وَالْقَاضِي عِيَاض: الْكلأ يُطلق على الرطب واليابس من النَّبَات، وَفهم من قَول الصغاني أَيْضا أَن الْحَشِيش لَا يُطلق على الرطب، كَذَا صرح بِهِ الْجَوْهَرِي، وَهُوَ مَنْقُول عَن الْأَصْمَعِي ذكره البطليوسي فِي (أدب الْكتاب) وَنقل عَن أبي حَاتِم إِطْلَاقه عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكلأ، بِالْهَمْزَةِ: هُوَ النَّبَات يَابسا ورطباً، وَأما العشب والخلاء مَقْصُورا فمختصان بالرطب، والحشيش مُخْتَصّ. باليابس. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخَلَاء، مَقْصُور: الْحَشِيش الْيَابِس، الْوَاحِدَة خلاءة. وَالصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي، فالجوهري سهى فِيهِ لِأَن الْخَلَاء الرطب، فَإِذا يبس فَهُوَ حشيش. قَوْله: (أجادب) ، بِالْجِيم وبالدال الْمُهْملَة: جمع جَدب على غير قِيَاس، كَمَا قَالُوا فِي: حسن، جمعه: محَاسِن. وَالْقِيَاس أَنه جمع: محسن، أَو جمع: جديب. وَهُوَ من الجدب الَّذِي هُوَ الْقَحْط، وَالْأَرْض الجدبة الَّتِي لم تمطر، وَالْمرَاد هَهُنَا الأَرْض الَّتِي لَا تشرب لصلابتها فَلَا تنْبت شَيْئا. وَفِي (الْعباب) : أَرض جدبة وجدوب أَيْضا، وارضون جدوب، وَمَكَان جَدب وجديب بَين الجدوبة، وعام جَدب، واجدب الْقَوْم أَصَابَهُم الجدب، وأجدبت أَرض كَذَا أَي: وَجدتهَا جدبة. وَقَالَ ابْن السّكيت: جادبت الْإِبِل الْعَام إِذا كَانَ الْعَام محلا، فَصَارَت لَا تَأْكُل إلاَّ الدرين الْأسود ودرين الثمام، وَهَكَذَا هُوَ عَامَّة الرِّوَايَات فِي البُخَارِيّ، وَرِوَايَة مُسلم أَيْضا هَكَذَا، وَضَبطه الْمَازرِيّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَكَذَا ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ: هِيَ صلاب الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء. وَقَالَ القَاضِي: هَذَا وهم. قلت: إِن صَحَّ مَا قَالَه الْخطابِيّ يكون من الجذب، وَهُوَ انْقِطَاع الرِّيق، قَالَه أَبُو عَمْرو. وَيُقَال للناقة إِذا قل لَبنهَا: قد جذبت فَهِيَ جاذب، وَالْجمع: جواذب،(2/77)
وجذاب أَيْضا، مثل: نَائِم ونيام، وَرَوَاهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى عَن أبي كريب: أُحَارب، بحاء وَرَاء مهملتين. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لم يضبطه أَبُو يعلى، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيست هَذِه الرِّوَايَة بِشَيْء. قلت: إِن صَحَّ هَذَا يكون من الحرباء، وَهِي النشز من الأَرْض، وَمثل هَذِه لَا تمسك المَاء لِأَنَّهُ ينحدر عَنْهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: قَالَ بَعضهم: أجارد، بجيم وَرَاء ثمَّ دَال مُهْملَة: جمع جرداء، وَهِي البارزة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. قَالَ: وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى إِن ساعدته الرِّوَايَة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الأجارد من الأَرْض الَّتِي لَا تنْبت الْكلأ، مَعْنَاهُ: أَنَّهَا جرداء بارزة لَا يَسْتُرهَا النَّبَات. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إخاذات، بِكَسْر الْهمزَة وَالْخَاء والذال المعجمتين وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، جمع.، إخاذة: وَهِي الأَرْض الَّتِي تمسك المَاء، وَيُقَال: هِيَ الغدران الَّتِي تمسك المَاء. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن عبد الغافر الْفَارِسِي: هُوَ الصَّوَاب. وَقَالَ الشَّيْخ مغلطاي: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هِيَ أخذات سقط مِنْهَا الْألف، والأخذات مساكات المَاء، واحدتها اخذة. قلت: على مَا قَالَه الْبَعْض يَنْبَغِي أَن تفتح الْهمزَة فِي الأخذات، وَفِي الأخذة أَيْضا الَّذِي هُوَ مفردها وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ بِكَسْر الْهمزَة فِي الْجمع والمفرد. وَفِي (الْعباب) : الْأَخْذ جمع إخاذ وَهُوَ كالغدير مِثَال: كتاب وَكتب، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأخاذة والأخاذ، بِالْهَاءِ وَبِغير الْهَاء، صنع للْمَاء ليجتمع فِيهِ، وَسمي إخاذاً لِأَنَّهُ يَأْخُذ مَاء السَّمَاء، وَيُقَال لَهُ: المساكة لِأَنَّهُ تمسكه. ونهيا ونهيا وتنهية: لِأَنَّهُ ينهاه ويحبسه ويمنعه من الجري، وَيُسمى حاجزاً لِأَنَّهُ يحجزه، حائراً لِأَنَّهُ يحار المَاء فِيهِ فَلَا يدْرِي كَيفَ يجْرِي. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هَذِه كلهَا منقولة مروية. قلت: وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (شرح مُسلم) : لم يُرو هَذَا الْحَرْف فِي مُسلم وَغَيره إلاَّ بِالدَّال الْمُهْملَة، من الجدب الَّذِي ضد الخصب، وَعَلِيهِ شرح الشارحون. قَوْله: (وَسقوا) قَالَ أهل اللُّغَة: سقى واسقى بِمَعْنى لُغَتَانِ، وَقيل: سقَاهُ: نَاوَلَهُ ليشْرب، وأسقاه: جعل لَهُ سقيا. قَوْله: (طَائِفَة) أَي قِطْعَة أُخْرَى من الأَرْض. قَوْله: (قيعان) ، بِكَسْر الْقَاف: جمع القاع وَهِي الأَرْض المتسعة. وَقيل: الملساء، وَقيل: الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا وَهَذَا هُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث. قلت: أصل قيعان: قوعان، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، والقاع يجمع أَيْضا على: قوع وأقواع. والقيعة بِكَسْر الْقَاف بِمَعْنى القاع. قَوْله: (من فقه) قَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ هُنَا بِالْوَجْهَيْنِ، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَالضَّم أشهر، قلت: الْفِقْه: الْفَهم، يُقَال فقه بِكَسْر الْقَاف كفرح يفرح، وَأما الْفِقْه الشَّرْعِيّ فَقَالُوا: يُقَال مِنْهُ فقه، بِضَم الْقَاف، وَقَالَ ابْن دُرَيْد بِكَسْرِهَا، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا هُوَ الثَّانِي، فتضم الْقَاف على الْمَشْهُور، على قَول ابْن دُرَيْد تكسر، وَقد مر الْكَلَام مُسْتَوفى.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (مثل مَا) كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره، قَوْله: (كَمثل الْغَيْث) و: مَا، مَوْصُولَة: (وبعثني الله) جملَة صلتها، والعائد قَوْله: بِهِ. قَوْله: (من الْهدى) كلمة من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (وَالْعلم) بِالْجَرِّ عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (أصَاب أَرضًا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل النصب على الْحَال، بِتَقْدِير: قد. قَوْله: (فَكَانَ) الْفَاء للْعَطْف. (ونقية) بِالرَّفْع اسْم كَانَ. (وَمِنْهَا) مقدما خَبره، قَوْله: (قبلت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة لنقية. قَوْله: (فانبتت) ، عطف على: قبلت، و: الْكلأ، مَنْصُوب بِهِ، و: العشب، عطف عَلَيْهِ، و: الْكثير، بِالنّصب صفة العشب. قَوْله: (وَكَانَت) عطف على قَوْله: (فَكَانَ) ، و: (أجادب) ، بِالرَّفْع اسْم: كَانَ وَخَبره قَوْله: (مِنْهَا) مقدما. قَوْله: (أَمْسَكت المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة: أجادب. قَوْله: (فنفع الله) جملَة معطوفة على الَّتِي قبلهَا، و: الْفَاء، التعقيبية. يكون التعقيب فِيهَا بِحَسب الشَّيْء الَّذِي يدْخل فِيهِ. قَوْله: (فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) جمل عطف بَعْضهَا على بعض. قَوْله: (وَأصَاب) عطف على قَوْله: (أصَاب أَرضًا) ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: الْغَيْث. كَمَا فِي: أصَاب، الأول. و: طَائِفَة، مَنْصُوب بِهِ لِأَنَّهُ مفعول، و: أُخْرَى، صفة طَائِفَة. قَوْله: (مِنْهَا) حَال مُتَقَدم من طَائِفَة، وَقد علم أَن الْحَال إِذا كَانَ عَن نكرَة تتقدم على صَاحبهَا. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: (أَصَابَت) ، وَالتَّقْدِير: أَصَابَت طَائِفَة أُخْرَى. وَوَقع كَذَلِك صَرِيحًا عِنْد النَّسَائِيّ. قَوْله: (إِنَّمَا هِيَ قيعان) أَي: مَا هِيَ إلاَّ قيعان لِأَن: إِنَّمَا، من أدوات الْحصْر، و: هِيَ، مُبْتَدأ، و: قيعان، خَبره. قَوْله: (لَا تمسك مَاء) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة: قيعان. قَوْله: (وَلَا تنْبت كلأ) عطف عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا صفته. قَوْله: (فَكَذَلِك) الْفَاء فِيهِ تفصيلية، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، وَهُوَ فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء. وَقَوله: (مثل من فقه) كَلَام إضافي خَبره. قَوْله: (ونفعه) ، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول عطف على: (من فقه) . وَقَوله: (مَا بَعَثَنِي الله) فِي مَحل الرّفْع على أَنه فَاعل لقَوْله: ونفعه، و: مَا، مَوْصُولَة، (وبعثني الله بِهِ) جملَة صلتها. قَوْله: (فَعلم) عطف على قَوْله: (فقه) ، و: علم، عطف على: علم، قَوْله: (وَمثل من) كَلَام إضافي عطف على قَوْله: (مثل(2/78)
من فقه) و: من، مَوْصُولَة و: لم يرفع بذلك رَأْسا، صلتها. قَوْله: (وَلم يقبل) عطف على: (من لم يرفع) . و: (هدى الله) كَلَام إضافي مفعول: لم يقبل، وَقَوله: (الَّذِي أرْسلت بِهِ) ، فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة هدى. و: أرْسلت، مَجْهُول، وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى: الَّذِي. فَافْهَم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ عطف الْمَدْلُول على الدَّلِيل: لِأَن الْهدى هُوَ الدّلَالَة، وَالْعلم هُوَ الْمَدْلُول، وجهة الْجمع بَينهمَا هُوَ النّظر إِلَى أَن الْهدى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْر أَي التَّكْمِيل، وَالْعلم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّخْص أَي الْكَمَال. وَيُقَال: الْهدى الطَّرِيقَة، وَالْعلم هُوَ الْعَمَل، وَفِيه عطف الْخَاص على الْعَام: لِأَن العشب أَعم من الْكلأ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. والتخصيص بِالذكر لفائدة الاهتمام بِهِ لشرفه، وَنَحْوه. وَفِيه حذف المفاعيل من قَوْله: (فَشَرِبُوا وَسقوا وزرعوا) ، لكَونهَا مَعْلُومَة، وَلِأَنَّهَا فضلَة فِي الْكَلَام. وَالتَّقْدِير: فَشَرِبُوا من المَاء وَسقوا دوابهم وزرعوا مَا يصلح للزَّرْع. وَفِيه ضرب الْأَمْثَال. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مثل ضرب لمن قبل الْهدى وَعلم ثمَّ علم غَيره فنفعه الله ونفع بِهِ، وَمن لم يقبل الْهدى فَلم ينفع بِالْعلمِ وَلم ينْتَفع بِهِ. قلت: فعلى هَذَا لم يَجْعَل النَّاس على ثَلَاثَة أَنْوَاع، بل على نَوْعَيْنِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْقِسْمَة الثنائية هِيَ المتصورة، وَذَلِكَ أَن: (أصَاب مِنْهَا طَائِفَة) ، مَعْطُوف على: أصَاب أَرضًا. و: كَانَت، الثَّانِيَة معطوفة على: كَانَ، لَا على: أصَاب. وَقسمت الأَرْض الأولى إِلَى النقية وَإِلَى الاجادب، وَالثَّانيَِة على عكسها، وَفِي: كَانَ، ضم وتر إِلَى وتر، وَفِي أصَاب، ضم شفع إِلَى شفع، وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (الْأَحْزَاب: 35) من جِهَة أَنه عطف الْإِنَاث على الذُّكُور أَولا، ثمَّ عطف الزَّوْجَيْنِ على الزَّوْجَيْنِ، وَكَذَا هَهُنَا عطف: كَانَت على كَانَت، ثمَّ عطف: أصَاب على أصَاب. فَالْحَاصِل أَنه قد ذكر فِي الحَدِيث الطرفان العالي فِي الاهتداء والعالي فِي الضلال، فَعبر عَمَّن قبل هدى الله وَالْعلم بقوله: (فقه) ، وَعَن أَبى قبُولهَا بقوله: (لم يرفع بذلك رَأْسا) . لِأَن مَا بعْدهَا وَهُوَ: نَفعه ... إِلَى آخِره، فِي الأول. وَلم يقبل هدى الله ... إِلَى آخِره، فِي الثَّانِي عطف تفسيري لفقه، وَلقَوْله: (لم يرفع) ، وَذَلِكَ لِأَن الْفَقِيه هُوَ الَّذِي علم وَعمل، ثمَّ علم غَيره وَترك الْوسط، وَهُوَ قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الَّذِي انْتفع بِالْعلمِ فِي نَفسه فَحسب، وَالثَّانِي: الَّذِي لم ينْتَفع هُوَ بِنَفسِهِ، وَلَكِن نفع الْغَيْر. وَقَالَ المظهري فِي (شرح المصابيح) : إعلم أَنه ذكر فِي تَقْسِيم الأَرْض ثَلَاثَة أَقسَام، وَفِي تَقْسِيم النَّاس بِاعْتِبَار قبُول الْعلم قسمَيْنِ: أَحدهمَا من فقه ونفع الْغَيْر، وَالثَّانِي من لم يرفع بِهِ رَأْسا. وَإِنَّمَا ذكره كَذَلِك لِأَن الْقسم الأول وَالثَّانِي من أَقسَام الأَرْض كقسم وَاحِد من حَيْثُ إِنَّه ينْتَفع بِهِ، وَالثَّانِي هُوَ مَا لَا ينْتَفع بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاس قِسْمَانِ: من يقبل وَمن لَا يقبل. وَهَذَا يُوجب جعل النَّاس فِي الحَدِيث على قسمَيْنِ: من ينْتَفع بِهِ وَمن لَا ينْتَفع. وَأما فِي الْحَقِيقَة فَالنَّاس على ثَلَاثَة أَقسَام: فَمنهمْ من يقبل من الْعلم بِقدر مَا يعْمل بِهِ وَلم يبلغ دَرَجَة الإفادة، وَمِنْهُم من يقبل ويبلغ، وَمِنْهُم من لَا يقبل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل لفظ الحَدِيث تثليث الْقِسْمَة فِي النَّاس أَيْضا، بِأَن يقدر قبل لَفْظَة: نَفعه، كلمة: من، بِقَرِينَة عطفه على: من فقه، كَمَا فِي قَوْله حسان، رَضِي الله عَنهُ.
(أَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ... ويمدحه وينصره سَوَاء؟)
إِذْ تَقْدِيره: وَمن يمدحه، وحينئذٍ يكون الْفَقِيه بِمَعْنى الْعَالم بالفقه مثلا فِي مُقَابلَة الأجادب، والنافع فِي مُقَابلَة النقية على اللف والنشر غير الْمُرَتّب، وَمن لم يرفع فِي مُقَابلَة القيعان. فَإِن قلت: لمَ حذف لَفْظَة: من؟ قلت: إشعاراً بِأَنَّهُمَا فِي حكم شَيْء وَاحِد، أَي: فِي كَونه ذَا انْتِفَاع فِي الْجُمْلَة كَمَا جعل للنقية والاجادب حكما وَاحِدًا، وَلِهَذَا لم يعْطف بِلَفْظ أصَاب فِي الأجادب. انْتهى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى هَذَا التَّمْثِيل أَن الأَرْض ثَلَاثَة أَنْوَاع، فَكَذَلِك النَّاس. فالنوع الأول: من الأَرْض ينْتَفع بالمطر فتحيي بعد أَن كَانَت ميتَة، وتنبت الْكلأ فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَالنَّوْع الأول: من النَّاس يبلغهُ الْهدى وَالْعلم فيحفظه ويحيي قلبه وَيعْمل بِهِ ويعلمه غَيره فينتفع وينفع. وَالنَّوْع الثَّانِي: من الأَرْض: مَا لَا يقبل الِانْتِفَاع فِي نَفسهَا، لَكِن فِيهَا فَائِدَة وَهِي إمْسَاك المَاء لغَيْرهَا، فينتفع بِهِ النَّاس وَالدَّوَاب. وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي: من النَّاس: لَهُم قُلُوب حافظة، لَكِن لَيست لَهُم أذهان ثاقبة وَلَا رسوخ لَهُم فِي الْعلم يستنبطون بِهِ الْمعَانِي وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ لَهُم اجْتِهَاد فِي الْعَمَل بِهِ، فهم يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَجِيء أهل الْعلم للنفع وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخذهُ مِنْهُم فينتفع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نفعوا بِمَا بَلغهُمْ. وَالثَّالِث: من الأَرْض: هُوَ السباخ الَّتِي لَا تنْبت، فَهِيَ لَا تنْتَفع بِالْمَاءِ وَلَا تمسكه لينْتَفع بِهِ غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِث من النَّاس: لَيست لَهُم قُلُوب حافظة، وَلَا أفهام وَاعِيَة، فَإِذا سمعُوا الْعلم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلَا يَحْفَظُونَهُ لنفع غَيرهم. الأول: المنتفع النافع، وَالثَّانِي: النافع غير المنتفع. وَالثَّالِث: غير النافع وَغير المنتفع. فَالْأول: إِشَارَة إِلَى الْعلمَاء. وَالثَّانِي إِلَى النقلَة. وَالثَّالِث: إِلَى من لَا علم لَهُ وَلَا عقل. قلت: الصَّوَاب مَعَ الطَّيِّبِيّ، لِأَن تَقْسِيم الأَرْض، وَإِن كَانَ ثَلَاثَة(2/79)
بِحَسب الظَّاهِر، وَلكنه فِي الْحَقِيقَة قِسْمَانِ، لِأَن النَّوْعَيْنِ محمودان وَالثَّالِث مَذْمُوم، وتقسيم النَّاس نَوْعَانِ: أَحدهمَا ممدوح، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) الخ وَالْآخر مَذْمُوم، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) ، وَمَا ذكره الْكرْمَانِي تعسف، وَهَذَا التَّقْدِير الَّذِي ذكره غير سَائِغ فِي الِاخْتِيَار. وَبَاب الشّعْر وَاسع. وَأَيْضًا يلْزمه أَن يكون تَقْسِيم النَّاس أَرْبَعَة: الأول: قَوْله: (مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى) . وَالثَّانِي: قَوْله: (ونفعه مَا بَعَثَنِي الله بِهِ) على قَوْله: وَالثَّالِث: قَوْله: (وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسا) . وَالرَّابِع: (وَلم يقبل هدى الله) . قَوْله: (فنفع الله بهَا) أَي: بأجادب، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بِهِ، وتذكيره الضَّمِير بِاعْتِبَار المَاء. قَوْله: (وزرعوا) من الزَّرْع، كَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا: (ورعوا) ، من الرَّعْي. قَالَ النَّوَوِيّ: كِلَاهُمَا صَحِيح، وَرجح القَاضِي عِيَاض رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ: هُوَ رَاجع إِلَى الأولى، لِأَن الثَّانِيَة لم يحصل مِنْهَا نَبَات. قلت: وَيُمكن أَن يرجع إِلَى الثَّانِيَة أَيْضا، بِمَعْنى أَن المَاء الَّذِي اسْتَقر بهَا سقيت مِنْهُ أَرض أُخْرَى فأنبتت. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَيحْتَمل أَن يُرِيد بقوله: (ورعوا) ، النَّاس الَّذِي أخذُوا الْعلم عَن الَّذين حملوه على النَّاس، وهم غير الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة على رَأْي جمَاعَة. وَرُوِيَ: ووعوا، وَهُوَ تَصْحِيف. قَوْله: (من لم يرفع بذلك رَأْسا) يَعْنِي: تكبر، يُقَال ذَلِك وَيُرَاد بِهِ أَنه لم يلْتَفت إِلَيْهِ من غَايَة تكبره.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ تَشْبِيه مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الدّين بالغيث الْعَام الَّذِي يَأْتِي النَّاس فِي حَال حَاجتهم إِلَيْهِ، وتشبيه السامعين لَهُ بِالْأَرْضِ الْمُخْتَلفَة. فَالْأول: تَشْبِيه الْمَعْقُول بالمحسوس، وَالثَّانِي: تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس، وعَلى قَول من يَقُول بِتَثْلِيث الْقِسْمَة يكون ثَلَاث تشبيهات على مَا لَا يخفى، وَيحْتَمل أَن يكون تَشْبِيها وَاحِدًا من بَاب التَّمْثِيل، أَي تَشْبِيه صفة الْعلم الْوَاصِل إِلَى أَنْوَاع النَّاس من جِهَة اعْتِبَار النَّفْع وَعَدَمه بِصفة الْمَطَر الْمُصِيب، إِلَى أَنْوَاع الأَرْض من تِلْكَ الْجِهَة. قَوْله: (فَذَلِك مثل من فقه) تَشْبِيه آخر ذكر كالنتيجة للْأولِ، ولبيان الْمَقْصُود مِنْهُ. والتشبيه هُوَ الدّلَالَة على مُشَاركَة أَمر لأمر فِي وصف من أَوْصَاف أَحدهمَا فِي نَفسه: كالشجاعة فِي الْأسد، والنور فِي الشَّمْس. وَلَا بُد فِيهِ من: الْمُشبه، والمشبه بِهِ، وأداة التَّشْبِيه، وَوجه الشّبَه. أما الْمُشبه والمشبه بِهِ فظاهران، وَكَذَا أَدَاة التَّشْبِيه وَهِي الْكَاف، وَأما وَجه الشّبَه فَهُوَ الْجِهَة الجامعة بَين الْعلم والغيث، فَإِن الْغَيْث يحيي الْبَلَد الْمَيِّت، وَالْعلم يحيي الْقلب الْمَيِّت. فَإِن قلت: لم اختير الْغَيْث من بَين سَائِر أَسمَاء الْمَطَر؟ قلت: ليؤذن باضطرار الْخلق إِلَيْهِ حينئذٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا} (الشورى: 28) . وَقد كَانَ النَّاس قبل المبعث قد امتحنوا بِمَوْت الْقُلُوب، وتصوب الْعلم حَتَّى أَصَابَهُم الله برحمة من عِنْده: وَفِيه التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، فَقَوله: (أصَاب أَرضًا) مُجمل، وَقَوله: (فَكَانَ مِنْهَا نقية) إِلَى آخِره ... تَفْصِيل، فَلذَلِك ذكره بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: لِمَ كرر لَفْظَة: مثل، فِي قَوْله: (من لم يرفع) ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ نوع آخر مُقَابل لما تقدم، فَلذَلِك كَرَّرَه.
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحاقُ: وكانَ مِنْها طائِفةٌ قَيَّلَتِ الماءَ
أَبُو عبد اللَّه هُوَ البُخَارِيّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق قَالَ: قيلت، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، مَكَان قبلت بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ الْأصيلِيّ: قيلت، تَصْحِيف من إِسْحَاق، وَإِنَّمَا هِيَ: قبلت، كَمَا ذكر فِي أول الحَدِيث، وَقَالَ غَيره: معنى قيلت: شربت القيل. وَهُوَ شرب نصف النَّهَار، يُقَال: قيلت الْإِبِل إِذا شربت نصف النَّهَار. وَقيل: معنى: قيلت: جمعت وحبست. قَالَ القَاضِي: وَقد رَوَاهُ سَائِر الروَاة، غير الْأصيلِيّ: قبلت، يَعْنِي بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي أول الحَدِيث وَفِي قَول إِسْحَاق، فعلى هَذَا إِنَّمَا خَالف إِسْحَاق فِي لَفْظَة طَائِفَة جعلهَا مَكَان نقية، قَالَه الشَّيْخ قطب الدّين وبنحوه قَالَ الْكرْمَانِي. قَالَ إِسْحَاق: وَفِي بعض النّسخ بعده: عَن أبي أُسَامَة، يَعْنِي حَمَّاد بن أُسَامَة، وَالْمَقْصُود مِنْهُ أَنه روى إِسْحَاق عَن حَمَّاد لفظ: طَائِفَة، بدل مَا روى مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن حَمَّاد لفظ: نقية. وَأما إِسْحَاق، فقد قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: هَذَا من الْمَوَاضِع المشكلة فِي كتاب البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ذكر جمَاعَة فِي كِتَابه لم ينسبهم، فَوَقع من بعض النَّاس اعْتِرَاض عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك لما يحصل من اللّبْس وَعدم الْبَيَان، وَلَا سِيمَا إِذا شاركهم ضَعِيف فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة، وأزال الْحَاكِم ابْن الرّبيع اللّبْس بِأَن نسب بَعضهم، وَاسْتدلَّ على نسبته. وَذكر الكلاباذي بَعضهم، وَذكر ابْن السكن بَعْضًا، وَمن جملَة التراجم المعترضة: إِسْحَاق، فَإِنَّهُ ذكر هَذِه التَّرْجَمَة فِي مَوَاضِع من كِتَابه مُهْملَة، وَهِي كَثِيرَة جدا. قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: روى البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ، وَإِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أبي أُسَامَة، وَقد حدث(2/80)
مُسلم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج عَن أبي أُسَامَة. قلت: إِسْحَاق الْمَذْكُور هُنَا لَا يخرج عَن أحد الثَّلَاثَة، ويترجح أَن يكون إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه لِكَثْرَة رِوَايَته عَنهُ، وَقد حكى الجياني عَن سعيد بن السكن الْحَافِظ: أَن مَا كَانَ فِي كتاب البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَهُوَ: بِالْهَاءِ وَالْوَاو المفتوحتين وَالْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَيُقَال أَيْضا: بِالْهَاءِ المضمومة وبالياء أخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام، أَبُو يَعْقُوب الْحَنْظَلِي الْمروزِي، سكن نيسابور، وَقَالَ عبد اللَّه بن طَاهِر لَهُ: لِمَ قيل لَك ابْن رَاهَوَيْه؟ قَالَ: إعلم أَيهَا الْأَمِير أَن أبي ولد فِي طَرِيق مَكَّة، فَقَالَ المراوزة: راهوي، لِأَنَّهُ ولد فِي الطَّرِيق، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: رَاه، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْمُسلمين، وَعلم من أَعْلَام الدّين، مَاتَ بنيسابور سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، قلت: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، بِالْخَاءِ العجمة، نزيل الْمَدِينَة، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، أَو: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج الْمروزِي، مَاتَ عَام أحد وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، إِذْ البُخَارِيّ فِي هَذَا الصَّحِيح يروي عَن الثَّلَاثَة عَن أبي أُسَامَة، قَالَ الغساني فِي كتاب (تَقْيِيد المهمل) إِن البُخَارِيّ إِذا قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق، غير مَنْسُوب، حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، يَعْنِي بِهِ أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، وَلَا يَخْلُو عَن أحدهم.
قاعٌ يَعْلُوهُ الماءُ، والصَّفْصَفٌ المُسْتَوي منَ الأَرْض
لما كَانَ فِي الحَدِيث لفظ: قيعان، أَشَارَ بقوله: (قاع يعلوه المَاء) إِلَى شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن قيعان، الْمَذْكُورَة وَاحِدهَا: قاع. وَالْآخر: أَن القاع هِيَ الأَرْض الَّتِي يعلوها المَاء وَلَا يسْتَقرّ فِيهَا، وَذكر: الصفصف، مَعَه بطرِيق الاستطراد، لِأَن من عَادَته تَفْسِير مَا وَقع فِي الحَدِيث من الْأَلْفَاظ الْوَاقِعَة فِي الْقُرْآن، وَوَقع فِي الْقُرْآن: {قاعا صفصفا} (طه: 106) قَالَ أَكثر أهل اللُّغَة: الصفصف المستوي من الأَرْض، مثل مَا فسره البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن عباد الصفصف، حرف الْجَبَل. وَوَقع فِي بعض النّسخ: والمصطف المستوي من الأَرْض، وَهُوَ تَصْحِيف. ثمَّ قَوْله: قاع ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره لَيْسَ بموجود.
21 - (بَاب رفْعِ العِلْمِ وظُهُورِ الجَهْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَإِنَّمَا قَالَ: وَظُهُور الْجَهْل، مَعَ أَن رفع الْعلم يسْتَلْزم ظُهُور الْجَهْل، لزِيَادَة الْإِيضَاح. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول: فضل الْعَالم والمتعلم، وَفِيه التَّرْغِيب فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْإِشَارَة إِلَى فَضِيلَة الْعلم، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ ضد ذَلِك، لِأَن فِيهِ: رفع الْعلم المستلزم لظُهُور الْجَهْل، وَفِيه التحذير وذم الْجَهْل وبالضد تتبين الْأَشْيَاء.
وَقَالَ رَبيعَةُ لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ أنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
ربيعَة: هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، بِإِسْكَان الْهمزَة، إِنَّمَا قيل لَهُ ذَلِك لِكَثْرَة اشْتِغَاله بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد، وَهُوَ ابْن أبي عبد الرَّحْمَن فروخ، بِالْفَاءِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة المضمومة وبالخاء الْمُعْجَمَة، الْمدنِي التَّابِعِيّ الْفَقِيه، شيخ مَالك بن أنس، روى عَنهُ الْأَعْلَام مِنْهُم أَبُو حنيفَة. توفّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بالأنبار، فِي دولة أبي الْعَبَّاس. فَإِن قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة قَول ربيعَة هَذَا للتبويب فِي رفع الْعلم؟ قلت: من كَانَ لَهُ فهم وَقبُول يلْزمه من فرض الْعلم مَا لَا يلْزم غَيره، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَهد فِيهِ وَلَا يضيع علمه فيضيع نَفسه، فَإِنَّهُ إِذا لم يتَعَلَّم أفْضى إِلَى رفع الْعلم، لِأَن البليد لَا يقبل الْعلم، فَهُوَ عَنهُ مُرْتَفع. فَلَو لم يتَعَلَّم الْفَهم لارتفع الْعلم عَنهُ أَيْضا، فيرتفع عُمُوما، وَذَلِكَ من أَشْرَاط السَّاعَة. وَيُقَال: معنى كَلَام ربيعَة: الْحَث على نشر الْعلم، لِأَن الْعَالم فِي قومه إِذا لم ينشر علمه، وَمَات قبل ذَلِك، أدّى ذَلِك إِلَى رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا يُنَاسب التَّبْوِيب. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَنْبَغِي للْعَالم أَن يَأْتِي بِعِلْمِهِ أهل الدُّنْيَا. وَلَا يتواضع لَهُم إجلالاً للْعلم. فعلى هَذَا فَالْمَعْنى فِي مُنَاسبَة التَّبْوِيب مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ من قلَّة الإشتغال بِالْعلمِ والاهتمام بِهِ لما يرى من ابتذال أَهله وَقلة الاحترام لَهُم. قَوْله: (أَن يضيع) وَفِي بعض النّسخ: يضيع، بِدُونِ: أَن، مَعْنَاهُ، بِأَن لَا يُفِيد النَّاس وَلَا يسْعَى فِي تَعْلِيم الْغَيْر، وَقد قيل:
(وَمن منع المستوجبين فقد ظلم)
وَقَالَ التَّيْمِيّ:(2/81)
قَالَ الْفُقَهَاء: لزم معِين الْبَلَد للْقَضَاء طلبه لحَاجَة إِلَى رزقة من بَيت المَال أَو لخمول ذكره وَعدم شهرة فضيلته، يَعْنِي: إِذا ولي الْقَضَاء انْتَشَر علمه. فَإِن قلت: مَا حَال هَذَا التَّعْلِيق؟ قلت: قد علم أَن مَا يذكر البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم يدل على صِحَّته عِنْده، وَمَا يذكرهُ بِصِيغَة التمريض يدل على ضعفه. وَهَذَا بِصِيغَة الْجَزْم وَوَصله الْخَطِيب فِي (الْجَامِع) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الْمدْخل) من طَرِيق عبد الْعَزِيز الأويسي عَن مَالك عَن ربيعَة.
80 - حدّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّ منْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ وَيُشْرَبَ الخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنا) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عمرَان، بِكَسْر الْعين: ابْن ميسرَة، بِفَتْح الْمِيم، ضد الميمنة: أَبُو الْحسن الْمنْقري الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والحاء الْمُهْملَة: اسْمه يزِيد بن زِيَادَة بن حميد الضبعِي، من أنفسهم، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من يشْتَرك مَعَه فِي هَذِه الكنية، وَرُبمَا كنى بِأبي حَمَّاد، وَهُوَ ثِقَة ثَبت صَالح: مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، روى عَنهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة: وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده رباعي.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عمرَان بن ميسرَة، وَمُسلم فِي الْقدر عَن شَيبَان بن فروخ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الْوَارِث عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) ، بِفَتْح الْهمزَة: أَي: علاماتها، وَهُوَ جمع شَرط، بِفَتْح الشين وَالرَّاء، وَبِه سميت: شَرط السُّلْطَان، لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلَامَات يعْرفُونَ بهَا. وَقد مر زِيَادَة الْكَلَام فِيهِ فِي الْإِيمَان. قَوْله: (وَيثبت الْجَهْل) ، من الثُّبُوت، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ ضد النَّفْي. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (ويبث) ، من البث، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والثاء الْمُثَلَّثَة. وَهُوَ الظُّهُور والفشو. وَقَالَ بَعضهم: وغفل الْكرْمَانِي فعزاها إِلَى البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) . قلت: لم يقل الْكرْمَانِي: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَلَا قَالَ: روى، وَإِنَّمَا قَالَ: وَفِي بعض النّسخ: يبث من البث، وَهُوَ النشر، وَلَا يلْزم من هَذِه الْعبارَة نسبته إِلَى البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ يُمكن أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة من غير البُخَارِيّ وَقد كتب فِي كِتَابه، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: ينْبت من النَّبَات، بالنُّون. والمعترض الْمَذْكُور أَيْضا، وَلَيْسَت هَذِه فِي شَيْء من الصَّحِيحَيْنِ قَالَ وَلَا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على ذَلِك نَفْيه بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبمَا ثَبت ذَلِك عِنْد أَحْمد من نَقله (الصَّحِيحَيْنِ) ، فنقله ثمَّ جعل ذَلِك نُسْخَة، وَالْمُدَّعِي بالفن لَا يقدر على إحاطة جَمِيع مَا فِيهِ، وَلَا سِيمَا علم الرِّوَايَة، فَإِنَّهُ علم وَاسع لَا يدْرك ساحله. قَوْله: (وَيشْرب الْخمر) قَالَ بَعضهم: المُرَاد كَثْرَة ذَلِك واشتهاره، ثمَّ أكد كَلَامه بقوله: وَعند المُصَنّف فِي النِّكَاح من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة: (وَيكثر شرب الْخمر) . أَو الْعَلامَة مَجْمُوع ذَلِك. قلت: لَا نسلم أَن المُرَاد كَثْرَة ذَلِك، بل شرب الْخمر مُطلقًا هُوَ جُزْء الْعلَّة من أَشْرَاط السَّاعَة، وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (وَيكثر شرب الْخمر) لَا يسْتَلْزم أَن يكون نفي مُطلق الشّرْب من أشراطها، لِأَن الْمُقَيد بِحكم لَا يسْتَلْزم نفي الحكم الْمُطلق، وَالْأَصْل إِجْرَاء كل لفظ على مُقْتَضَاهُ، وَلَا تنَافِي بَين حكم يُمكن حُصُوله مُعَلّقا بِشَرْط تَارَة، وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى، وَنَظِيره: الْملك، فَإِنَّهُ يُوجد بِالشِّرَاءِ وَغَيره، وَهَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: شرب الْخمر كَيفَ يكون من علاماتها، وَالْحَال أَنه كَانَ وَاقعا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وَقد حد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض النَّاس لشربه إِيَّاهَا؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ أَن يشرب شرباً فاشياً، أَو أَن نقس الشّرْب وَحده لَيْسَ عَلامَة، بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة. قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وُقُوعهَا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وحد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شاربها أَن لَا يكون من عَلَامَات السَّاعَة. نعم قَوْله: بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة هُوَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة(2/82)
وَالسَّلَام، جمع بَين الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِحرف الْجمع، وَالْجمع بِحرف الْجمع كالجمع بِلَفْظ الْجمع، وَوُجُود الْمَجْمُوع هُوَ الْعَلامَة لوُقُوع السَّاعَة، وكل مِنْهَا جُزْء الْعلَّة، فحينئذٍ تَقْيِيد الشّرْب بِالْكَثْرَةِ لَا يُفِيد. وَقد قُلْنَا: إِن مَا ورد من قَوْله: وَيكثر شرب الْخمر، لَا يُنَافِي كَون مُطلق الشّرْب جُزْء عِلّة، وكل من الشّرْب الْمُطلق وَالشرب الْمُقَيد بِالْكَثْرَةِ والشهرة جُزْء عِلّة لِأَن الْعلَّة الدَّالَّة على وُقُوع الحكم هِيَ الْعلَّة المركبة من وجود الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة. ثمَّ الْخمر فِي اللُّغَة من التخمير، وَهُوَ: التغطية. سميت بِهِ لِأَنَّهَا تغطي الْعقل. وَمِنْه الْخمار للْمَرْأَة، وَفِي (الْعباب) : يُقَال: خمرة وخمر وخمور. مِثَال تَمْرَة وتمر وتمور، وَيُقَال: خمرة صرف، وَفِي الحَدِيث: (الْخمْرَة مَا خامر الْعقل) . وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: سميت الْخمْرَة خمرًا لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها تَغْيِير رِيحهَا، وَعند الْفُقَهَاء: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَيلْحق بهَا غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِذا أسكر. قَوْله: (وَيظْهر الزِّنَا) أَي: يفشو وينتشر، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ويفشو الزِّنَا) ، وَالزِّنَا: يمد وَيقصر، وَالْقصر لأهل الْحجاز قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} (الْإِسْرَاء: 32) وَالْمدّ لأهل نجد، وَقد زنى يَزْنِي وَهُوَ من النواقص اليائية، وَالنِّسْبَة إِلَى الْمَقْصُور: زنوي، وَإِلَى المدود: زنائي.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن) : حرف من الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ يرفع وَينصب فَقَوله: (أَن يرفع الْعلم) فِي مَحل النصب إسمها، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْرِيره: رفع الْعلم. وخبرها قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم) ، من غير أَن فِي أَوله، فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون مَحل (أَن يرفع الْعلم) الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما (من أَشْرَاط السَّاعَة) . وَقَالَ بَعضهم: وَسَقَطت: أَن، من رِوَايَة النَّسَائِيّ حَيْثُ أخرجه عَن عمرَان شيخ البُخَارِيّ. قلت: هَذَا غَفلَة وسهو، لِأَن شيخ البُخَارِيّ هُوَ عمرَان بن ميسرَة، وَشَيخ النَّسَائِيّ هُوَ عمرَان بن مُوسَى. قَوْله: (وَيثبت) بِالنّصب عطفا على: (أَن يرفع) ، وَكَذَلِكَ: (وَيشْرب وَيظْهر) منصوبان بالْعَطْف على الْمَنْصُوب، و: أَن، مقدرَة فِي الْجمع، و: يرفع وَيشْرب، مَجْهُولَانِ، و: وَيثبت وَيظْهر، معلومان.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَن يرفع الْعلم) فِيهِ إِسْنَاد مجازي، وَالْمرَاد: رَفعه بِمَوْت حَملته وَقبض الْعلمَاء، وَلَيْسَ المُرَاد محوه من صُدُور الْحفاظ وَقُلُوب الْعلمَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بَاب: كَيفَ يقبض الْعلم؟ عَن عبد اللَّه بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إِن الله عز وَجل لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه من الْعباد، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيسألوا، فافتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) . وَبَين بِهَذَا الحَدِيث أَن المُرَاد بِرَفْع الْعلم هُنَا قبض أَهله وهم الْعلمَاء لَا محوه من الصُّدُور، لَكِن بِمَوْت أَهله واتخاذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيحكمون فِي دين الله تَعَالَى برأيهم ويفتون بجهلهم، قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك فِي زَمَاننَا، كَمَا أخبر بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قلت: هَذَا قَوْله مَعَ توفر الْعلمَاء فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا؟ قَالَ العَبْد الضَّعِيف: هَذَا قَوْله مَعَ كَثْرَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والمحدثين الْكِبَار فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا الَّذِي خلت الْبِلَاد عَنْهُم، وتصدرت الْجُهَّال بالإفتاء والتعين فِي الْمجَالِس والتدريس فِي الْمدَارِس؟ فنسأل السَّلامَة والعافية.
81 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ قالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (منْ أشْراطِ السَّاعَةِ أنْ يَقلَّ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهلُ، ويَظْهَرَ الزِّنا، وتَكْثُرَ النِّساءُ ويَقِلَّ الرِّجالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسينَ امْرَأةً القَيِّمُ الوَاحدُ) ..
مُطَابقَة هَذَا أَيْضا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَفِي التَّرْجَمَة: رفع الْعلم، من لفظ الحَدِيث الأول، وفيهَا: ظُهُور الْجَهْل من لفظ هَذَا الحَدِيث.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَالْكل بصريون، وَبِهَذَا التَّرْتِيب وَقع فِي بَاب الْإِيمَان: (أَن يحب لاخيه) . وَفِي إِسْنَاده تحديث وعنعنة وَسَمَاع. قَوْله: (عَن أنس) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن أنس بن مَالك.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْقدر عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عَليّ وَأبي مُوسَى، وَابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.(2/83)
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن يقل) ، بِكَسْر الْقَاف: من الْقلَّة ضد الْكَثْرَة. قَوْله: (الْقيم الْوَاحِد) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الْقَائِم بِأُمُور النِّسَاء، وَكَذَا الْقيام والقوام. يُقَال: فلَان قوام أهل بَيته وقيامه، وَهُوَ الَّذِي يُقيم شَأْنهمْ. وَمِنْه قَوْله: تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} (النِّسَاء: 5) وقوام الْأَمر أَيْضا: ملاكه الَّذِي يقوم بِهِ، وأصل: قيم قيوم على وزن فيعل، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فابدلت من الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. وَلم يعكس الْأَمر هَهُنَا هرباً من الالتباس: بِقوم، الَّذِي هُوَ ماضٍ من التَّقْوِيم. قَوْله: (لأحدثنكم) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة، وَهُوَ جَوَاب قسم مَحْذُوف، أَي وَالله لاحدثنكم، وَلِهَذَا جَازَ دُخُول النُّون الْمُؤَكّدَة عَلَيْهِ، وَصرح بِهِ أَبُو عوَانَة من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (أَلا أحدثكُم) . فَيحْتَمل أَن يكون قَالَ لَهُم أَولا: أَلا أحدثكُم، فَقَالُوا: نعم. فَقَالَ: لأحدثنكم. قَوْله: (حَدِيثا) قَائِم مقَام أحد المفعولين: لأحدثنكم. قَوْله: (لَا يُحَدثكُمْ أحد) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله: (حَدِيثا) . قَوْله: (بعدِي) ، كَلَام إضافي صفة: لأحد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا يحدث أحد بعدِي) . بِحَذْف الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن غنْدر عَن شُعْبَة: (لَا يُحَدثكُمْ بِهِ أحد بعدِي) . وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق هِشَام: (لَا يُحَدثكُمْ بِهِ غَيْرِي) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: لَا يُحَدثكُمْ أحد سَمعه من رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعدِي. قَوْله: (سَمِعت) بَيَان أَو بدل لقَوْله: (لأحدثنكم) وَقد مر تَوْجِيه كَيْفيَّة جعل الذَّات مسموعاً. قَوْله: (يَقُول) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (أَن يقل الْعلم) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَأَن: مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) خبر مقدم، وَالتَّقْدِير: من أَشْرَاط السَّاعَة قلَّة الْعلم. قَوْله: (وَيظْهر) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، و: تكْثر ويقل، فِي الْأَخير كلهَا منصوبات بِتَقْدِير: أَن، لِأَنَّهَا عطف على قَوْله: (أَن يقل الْعلم) وَالْكل على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (حَتَّى يكون) حَتَّى، هَهُنَا للغاية، بِمَعْنى إِلَى، و: أَن، بعْدهَا مقدرَة. قَوْله: (الْقيم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: يكون، و: الْوَاحِد، صفته.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) قَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا: يقل الرِّجَال بِكَثْرَة الْقَتْل فَيَمُوت الرِّجَال فتكثر النِّسَاء، وبقتلهم يكثر الْفساد وَالْجهل. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: هُوَ إِشَارَة إِلَى كَثْرَة الْفتُوح فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الْوَاحِد عدَّة موطوآت. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ صرح بِالْعِلَّةِ فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْآتِي فِي الزَّكَاة عِنْد المُصَنّف. فَقَالَ: (من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) . وَالظَّاهِر أَنَّهَا عَلامَة مَحْضَة لَا لسَبَب آخر. قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى شَيْء من التَّنْبِيه على الْعلَّة، لَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة، وَإِنَّمَا معنى قَوْله: (من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) مثل معنى قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: (وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) ، وَالْعلَّة لهَذَا لَا تطلب إلاَّ من خَارج، وَقد ذكرُوا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال: يكثر فِي آخر الزَّمَان ولادَة الْإِنَاث، ويقل ولادَة الذُّكُور، وبقلة الرِّجَال يظْهر الْجَهْل وَيرْفَع الْعلم، وَيَكْفِي كثرتهن فِي قلَّة الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَالزِّنَا، لِأَن النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان وَهن ناقصات عقل وَدين. قَوْله: (لخمسين امْرَأَة) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا حَقِيقَة هَذَا الْعدَد، وَأَن يُرَاد بهَا كَونهَا مجَازًا عَن الْكَثْرَة، وَلَعَلَّ السِّرّ فِيهِ أَن الْأَرْبَعَة فِي كَمَال نِصَاب الزَّوْجَات، فَاعْتبر الْكَمَال مَعَ زِيَادَة وَاحِدَة عَلَيْهِ، ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة بِعشر أَمْثَالهَا ليصير فَوق الْكَمَال مُبَالغَة فِي الْكَثْرَة، أَو لِأَن الْأَرْبَعَة مِنْهَا يُمكن تألف الْعشْرَة، لِأَن فِيهَا وَاحِد أَو اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، وَهَذَا الْمَجْمُوع: عشرَة، وَمن العشرات المئات، وَمن المئات الألوف، فَهِيَ أصل جَمِيع مَرَاتِب الْأَعْدَاد، فزيد فَوق الأَصْل وَاحِد آخر ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة مِنْهَا بِعشر أَمْثَالهَا أَيْضا تَأْكِيدًا للكثرة، ومبالغة فِيهَا.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: من أَيْن عرف أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن أحدا لَا يحدث بعده؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ لَعَلَّه عرفه بِإِخْبَار الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو قَالَ بِنَاء على ظَنّه أَنه لم يسمع الحَدِيث غَيره من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن أنسا، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يبْق من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره، أَو لما رأى من التَّغَيُّر وَنقص الْعلم فوعظهم بِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نقص الْعلم أَنه من أَشْرَاط السَّاعَة، ليحضهم على طلب الْعلم، ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ على نَصه. قلت: يحْتَمل أَن يكون الْخطاب بذلك لأهل الْبَصْرَة خَاصَّة، لِأَنَّهُ آخر من مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، رَضِي الله عَنهُ. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قلَّة الْعلم تَقْتَضِي بَقَاء شَيْء مِنْهُ، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: (يرفع الْعلم) ، وَالرَّفْع عدم بَقَائِهِ، فبينهما تناف. أُجِيب: بِأَن الْقلَّة قد تطلق وَيُرَاد بهَا الْعَدَم، أَو كَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار الزمانين، كَمَا يُقَال مثلا: الْقلَّة فِي ابْتِدَاء أَمر الإشراط والعدم(2/84)
فِي انتهائه، وَلِهَذَا قَالَ ثمَّة: (يثبت الْجَهْل) ، وَهَهُنَا (يظْهر) وَمن الدَّلِيل على إِطْلَاق الْقلَّة وَإِرَادَة الْعَدَم وَالرَّفْع أَنه وَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر، وَغَيره عَن شُعْبَة: أَن يرفع الْعلم. وَكَذَا فِي رِوَايَة سعيد عِنْد ابْن أبي شيبَة، وَهَمَّام عِنْد البُخَارِيّ فِي الْحُدُود، وَهِشَام عِنْده فِي النِّكَاح، كلهم عَن قَتَادَة، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة أبي التياح. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة، من طَرِيق هِشَام: أَن يقل، فَافْهَم. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة التَّعْرِيف فِي قَوْله: (الْقيم) ، وَكَانَ حق الظَّاهِر أَن يُقَال: قيم وَاحِد؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَته الْإِشْعَار بِمَا هُوَ مَعْهُود من: {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} (النِّسَاء: 34) فَاللَّام للْعهد. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة تَخْصِيص هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة بِالذكر؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَة ذَلِك أَنَّهَا مشعرة باختلال الضرورات الْخمس الْوَاجِبَة رعايتها فِي جَمِيع الْأَدْيَان الَّتِي بحفظها صَلَاح المعاش والمعاد ونظام أَحْوَال الدَّاريْنِ، وَهِي: الدّين وَالْعقل وَالنَّفس وَالنّسب وَالْمَال، فَرفع الْعلم مخل بِحِفْظ الدّين، وَشرب الْخمر بِالْعقلِ وبالمال أَيْضا، وَقلة الرِّجَال سَبَب الْفِتَن بِالنَّفسِ وَظُهُور الزِّنَا بِالنّسَبِ، وَكَذَا بِالْمَالِ. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ اختلال هَذِه الْأُمُور من علاماتها؟ أُجِيب: لِأَن الْخَلَائق لَا يتركون سدى وَلَا نَبِي بعد هَذَا الزَّمَان، فَتعين خراب الْعَالم، وَقرب الْقِيَامَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث علم من أَعْلَام النُّبُوَّة، إِذْ أخبر عَن أُمُور ستقع فَوَقَعت، خُصُوصا فِي هَذِه الْأَزْمَان. وَالله الْمُسْتَعَان.
22 - (بابُ فَضْلِ العلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْعلم، وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن الْمَذْكُور فِي كل مِنْهُمَا الْعلم، وَلَكِن فِي كل وَاحِد بِصفة من الصِّفَات، فَفِي الأول: بَيَان رَفعه، وَفِي هَذَا بَيَان فَضله. وَلَا يُقَال: إِن هَذَا الْبَاب مُكَرر لِأَنَّهُ ذكره مرّة فِي أول كتاب الْعلم، لأَنا نقُول: هَذَا الْبَاب بِعَيْنِه لَيْسَ بِثَابِت فِي أول كتاب الْعلم فِي عَامَّة النّسخ، وَلَئِن سلمنَا وجوده هُنَاكَ فَالْمُرَاد التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلمَاء، وَهَهُنَا التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم، وَقد حققنا الْكَلَام هُنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي. وَقَالَ بَعضهم: الْفضل هَهُنَا بِمَعْنى: الزِّيَادَة أَي: مَا فضل عَنهُ، وَالْفضل الَّذِي تقدم فِي أول كتاب الْعلم بِمَعْنى: الْفَضِيلَة، فَلَا يظنّ أَنه كَرَّرَه. قلت: لم يبوب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب لبَيَان أَن الْفضل بِمَعْنى الزِّيَادَة، وَلم يقْصد بِهِ الْإِشَارَة إِلَى مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، بل قَصده من التَّبْوِيب بَيَان فَضِيلَة الْعلم، وَلَا سِيمَا الْبَاب من جملَة أَبْوَاب كتاب الْعلم، فَإِن كَانَ الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الحَدِيث: (ثمَّ أَعْطَيْت فضلي عمر بن الْخطاب) ، فَإِنَّهُ لَا دخل لَهُ فِي التَّرْجَمَة، فَإِنَّهَا لَيست فِي بَيَان إِعْطَاء النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضله لعمر، رَضِي الله عَنهُ. وَإِنَّمَا تَرْجَمته فِي بَيَان فضل الْعلم وَشرف قدره، واستنبط البُخَارِيّ بِأَن إعطاءه، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضله لعمر عبارَة عَن الْعلم، وَهُوَ عين الْفَضِيلَة، لِأَنَّهُ جُزْء من النُّبُوَّة، وَمَا فضل عَنهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، فَضِيلَة وَشرف، وَقد فسره: بِالْعلمِ، فَدلَّ على فَضِيلَة الْعلم.
82 - حدّثنا سَعيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عُقَيْلٌ عَن ابْن شِهابٍ عنْ حَمْزَةَ بن عَبْدِ اللَّه بنِ عُمَرَ أنَّ ابنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَيْنا أَنا نائِمٌ أتيِتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى أَنِّي لأرى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أظْفارِي، ثُمَّ أعْطَيْتُ فَضْلي عُمَرَ بن الخَطَّابِ) . قالُوا: فمَا أوَّلْتَهُ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: (العِلْمَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء، وَقد مر. الثَّانِي: لَيْث بن سعد، الإِمَام الْكَبِير الْمصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين وَفتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره لَام: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حَمْزَة بن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُم، المكنى: بَابي عمَارَة، بِضَم الْعين؛ الْقرشِي الْمدنِي الْعَدوي التَّابِعِيّ، سمع أَبَاهُ وَعَائِشَة. قَالَ أَحْمد بن عبد اللَّه:(2/85)
تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: أمه أم ولد، وَهِي أم سَالم وَعبيد اللَّه، وَكَانَ ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة وَالسَّمَاع، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة: حَدثنِي اللَّيْث حَدثنِي عقيل، وللبخاري فِي التَّعْبِير: أَخْبرنِي، حَمْزَة. وَمِنْهَا: أَن نصف رُوَاته مصريون ونصفهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن آخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن سعيد بن عفير، وَفِي تَعْبِير الرُّؤْيَا عَن يحيى بن بكير وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن لَيْث عَن عقيل. وَفِيه عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن الصَّلْت الْكُوفِي، وَفِي فضل عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن عَبْدَانِ، كِلَاهُمَا، عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس، وَفِيه عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن صَالح، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد ابْن حميد كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرُّؤْيَا، وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَعَن عبد اللَّه بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بِهِ، وَفِي المناقب عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأَعَادَهُ فِي الْعلم عَن قُتَيْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (بقدح) ، الْقدح، بِفتْحَتَيْنِ وَاحِد الأقداح الَّتِي هِيَ للشُّرْب فِيهَا، و: الْقدح؛ بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال: السهْم قبل أَن يراش ويركب نصله، وقدح الميسر أَيْضا، والقدح بِالْكَسْرِ: مَا يقْدَح بِهِ النَّار، والقدح: المغرفة. والمقديح: المغرف، والقدوح: الذُّبَاب. قَوْله: (الرّيّ) ، بِكَسْر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مصدر، يُقَال: رويت من المَاء، بِالْكَسْرِ، أروي رياً بِالْكَسْرِ، وَحكى الْجَوْهَرِي الْفَتْح أَيْضا وَقَالَ: ريا وريا، وَرُوِيَ أَيْضا مثل: رضى رضى، وارتويت وترويت كُله بِمَعْنى. وَقَالَ غَيره: يُقَال: رُوِيَ من المَاء وَالشرَاب، بِكَسْر الْوَاو ويروى بِفَتْحِهَا: رياً، بِالْكَسْرِ فِي الِاسْم والمصدر، قَالَ القَاضِي: وَحكى الدَّاودِيّ الْفَتْح فِي الْمصدر، وَأما فِي الرِّوَايَة فعكسه، تَقول: رويت الحَدِيث أرويه رِوَايَة، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُسْتَقْبل، والرواء من المَاء مَا يروي إِذا مددت فتحت الرَّاء، وَإِذا كسرت قصرت. قلت: الرّيّ: أَصله الروي اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فأبدلت الْيَاء من الْوَاو وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (فِي أظفاري) : جمع ظفر. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الظفر ظفر الْإِنْسَان، وَالْجمع أظفار، وَلَا تَقول: ظفر، بِالْكَسْرِ. وَإِن كَانَت الْعَامَّة قد أولعت بِهِ، وَتجمع أظفار على أظافير. قَالَ: وَقَالَ قوم: بل الأظافير جمع أظفور، وَالظفر والأظفور سَوَاء، وأظفار الْإِبِل مناسمها، وأظفار السبَاع براثنها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَينا) ، قد مر غير مرّة أَن أَصله: بَين، فاشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا، وَقد تدخل عَلَيْهَا: مَا، فَيُقَال: بَيْنَمَا. وَقَوله: أَنا، مُبْتَدأ، و: نَائِم، خَبره. قَوْله: (أتيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وعامل فِيهِ. والأصمعي لَا يستفصح إلاَّ طرح إِذْ وَإِذا مِنْهُ، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (بقدح لبن) كَلَام إضافي يتَعَلَّق بأتيت. قَوْله: (فَشَرِبت) عطف على: أتيت. قَوْله: (حَتَّى) إِمَّا ابتدائية وَإِمَّا جَارة، فعلى الأول: أَتَى بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى الثَّانِي بِفَتْحِهَا، وياء الْمُتَكَلّم اسْم: إِن، وَخَبره قَوْله: لأري الرّيّ) ، وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. وَقَالَ بَعضهم: اللَّام جَوَاب قسم مَحْذُوف. قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لَيْسَ هُنَا قسم صَرِيح وَلَا مُقَدّر، وَلَا يَصح التَّقْدِير، وَإِنَّمَا هَذِه اللَّام هِيَ اللَّام الدَّاخِلَة فِي خبر إِن للتَّأْكِيد، كَمَا فِي قَوْلك: إِن زيدا لقائم. وَقَوله: اري، إِن كَانَ من الرُّؤْيَة، بِمَعْنى: الْعلم يَقْتَضِي مفعولين، أَحدهمَا هُوَ قَوْله: الرّيّ، وَالْآخر هُوَ قَوْله (يخرج فِي أظفاري) . وَإِن كَانَ من الرُّؤْيَة، بِمَعْنى: الإبصار، لَا يَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْله: (الرّيّ) . وَقَوله: (يخرج) حينئذٍ يكون حَالا من: اللَّبن، وَيكون الضَّمِير فِيهِ رَاجعا إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يكون حَالا من: الرّيّ، تجوزاً، وَيكون الضَّمِير رَاجعا إِلَيْهِ. قَوْله: (وَفِي اظفاري) وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (من أظفاري) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير: (من أطرافي) ، وَالْكل بِمَعْنى: فِي الْحَقِيقَة، فَإِن قلت: يخرج من أظفاري ظَاهر، فَمَا معنى قَوْله: يخرج فِي أظفاري؟ قلت: يجوز أَن تكون: فِي، هَهُنَا بِمَعْنى: على، أَي: على أظفاري، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 71) أَي: عَلَيْهَا، وَيكون بِمَعْنى: يظْهر عَلَيْهَا، وَالظفر إِمَّا منشأ الْخُرُوج أَو ظرفه. قَوْله: (ثمَّ اعطيت) عطف على قَوْله: (فَشَرِبت) ، وَهِي جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. وَقَوله: (فضلي) كَلَام إضافي، مَفْعُوله الأول، وَقَوله: عمر بن الْخطاب، مَفْعُوله الثَّانِي. قَوْله: (فَمَا أولته) كلمة مَا استفهامية، وأولته جملَة من الْفِعْل(2/86)
وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى شرب اللَّبن الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (فَشَرِبت) . قَوْله: (يَا رَسُول الله) منادى مَنْصُوب. فَإِن قلت: مَا الْفَاء فِي قَوْله: (فَمَا أولته) ؟ قلت: زَائِدَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {هَذَا فليذوقوه} (ص: 57) قَوْله: (الْعلم) بِالنّصب وَالرَّفْع رِوَايَتَانِ، أما وَجه النصب فعلى المفعولية، وَالتَّقْدِير: أولته الْعلم. وَأما وَجه الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: المؤول بِهِ الْعلم.
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ: حذف الْمَفْعُول من قَوْله: (فَشَرِبت) ، للْعلم بِهِ وَالتَّقْدِير: فَشَرِبت اللَّبن، يَعْنِي: مِنْهُ، لِأَنَّهُ شرب حَتَّى رُوِيَ ثمَّ أعْطى فَضله لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. وَفِيه: اسْتِعْمَال الْمُضَارع مَوضِع الماضى، وَهُوَ قَوْله: (يخرج) ، وَكَانَ حَقه أَن يُقَال: خرج، وَلكنه أَرَادَ استحضار صُورَة الرُّؤْيَة للسامعين قصدا إِلَى أَن يبصرهم تِلْكَ الْحَالة وقوعاً وحدوثاً. قَوْله: (ثمَّ أَعْطَيْت فضلي) أَي: مَا فضل من اللَّبن الَّذِي هُوَ فِي الْقدح الَّذِي شربت مِنْهُ. قَوْله: (فَمَا أولته) ؟ أَي: فَمَا عبرته؟ والتأويل فِي اللُّغَة: تَفْسِير مَا يؤول إِلَيْهِ الشَّيْء. وَهَهُنَا المُرَاد بِهِ تَعْبِير الرُّؤْيَا. وَفِيه: تَأْكِيد الْكَلَام بصوغه جملَة إسمية، وتأكيدها بِأَن وَاللَّام فِي الْخَبَر، وَهُوَ قَوْله: (إِنِّي لأري الرّيّ) . فَإِن قلت: لم تكن الصَّحَابَة منكرين وَلَا مترددين فِي أخباره، فَمَا فَائِدَة هَذِه التأكيدات؟ قلت: قَوْله: (أرى الرّيّ يخرج فِي أظفاري) أورثهم حيرة فِي خُرُوج اللَّبن من الْأَظْفَار، فأزال تِلْكَ الْحيرَة بِهَذِهِ التأكيدات، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ابرىء نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء} (يُوسُف: 53) لِأَن: مَا أبرىء، أَي: مَا أزكي، أورث الْمُخَاطب حيرة فِي أَنه كَيفَ لَا ينزه نَفسه عَن السوء مَعَ كَونهَا مطمئنة زكية، فأزال تِلْكَ الْحيرَة بقوله: {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} (يُوسُف: 53) فِي جَمِيع الْأَشْخَاص إلاَّ من عصمه الله. قَوْله: (الْعلم) ، تَفْسِير اللَّبن بِالْعلمِ لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِي كَثْرَة النَّفْع بهما، وَفِي أَنَّهُمَا سَببا الصّلاح، فاللبن غذَاء الْإِنْسَان وَسبب صَلَاحهمْ وَقُوَّة أبدانهم، وَالْعلم سَبَب الصّلاح فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وغذاء الْأَرْوَاح. وَقَالَ الْمُهلب: رُؤْيَة اللَّبن فِي النّوم تدل على السّنة والفطرة وَالْعلم وَالْقُرْآن، لِأَنَّهُ أول شَيْء يَنَالهُ الْمَوْلُود من طَعَام الدُّنْيَا، وَبِه تقوم حَيَاته كَمَا تقوم بِالْعلمِ حَيَاة الْقُلُوب، فَهُوَ يُنَاسب الْعلم من هَذِه الْجِهَة، وَقد يدل على الْحَيَاة لِأَنَّهَا كَانَت فِي الصغر، وَقد يدل على الثَّوَاب لِأَنَّهُ من نعيم الْجنَّة، إِذْ روى نهر من اللَّبن، وَقد يدل على المَال والحلال. قَالَ: وَإِنَّمَا أَوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعلمِ فِي عمر، رَضِي الله عَنهُ، لصِحَّة فطرته وَدينه، وَالْعلم زِيَادَة فِي الْفطْرَة. فَإِن قلت: رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، حق، فَهَل كَانَ هَذَا الشَّرَاب وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَاقعا حَقِيقَة، أَو هُوَ على سَبِيل التخيل؟ قلت: وَاقع حَقِيقَة وَلَا مَحْذُور فِيهِ إِذْ هُوَ مُمكن، وَالله على كل شَيْء قدير.
بَيَان الْبَيَان: فِيهِ: الِاسْتِعَارَة الْأَصْلِيَّة، وَهِي قَوْله: (إِنِّي لأري الرّيّ) ، لِأَن الرّيّ لَا يرى، وَلكنه شبه بالجسم، وأوقع عَلَيْهِ الْفِعْل ثمَّ أضيف إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص الْجِسْم، وَهُوَ كَونه مرئيا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ فَضِيلَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَجَوَاز تَعْبِير الرُّؤْيَا، ورعاية الْمُنَاسبَة بَين التَّعْبِير. وَمَا لَهُ التَّعْبِير.
23 - (بَاب الفُتْيا وهْوَ واقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وغَيْرها)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن الْبَاب مَرْفُوع بِأَنَّهُ خير مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى مَا بعده، وَفِيه حذف تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يستفتى بِهِ الشَّخْص وَهُوَ وَاقِف، أَي: وَالْحَال أَنه وَاقِف على ظهر الدَّابَّة أَو غَيرهَا. الثَّانِي: أَن الْفتيا، بِضَم الْفَاء: إسم، وَكَذَلِكَ الْفَتْوَى، وَهُوَ الْجَواب فِي الْحَادِثَة. يُقَال: استفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، وتفاتوا إِلَى الْفَقِيه: ارتفعوا إِلَيْهِ فِي الْفتيا، وَفِي (الْمُحكم) : أفتاه فِي الْأَمر أبانه لَهُ، والفتى والفتيا وَالْفَتْوَى مَا افتى بِهِ الْفَقِيه، الْفَتْح لأهل الْمَدِينَة. وَقَالَ الشَّيْخ، قطب الدّين: الْفتيا اسْم، ثمَّ قَالَ: وَلم يَجِيء من المصادر على: فعلى، غير الْفتيا والرجعي وبقيا ولقيا. قلت: فِيهِ نظران إحدهما: أَنه قَالَ أَولا: الْفتيا اسْم، ثمَّ قَالَ: مصدر. الثَّانِي: أَنه قَالَ: لم يجىء من المصادر على فعلى، يَعْنِي بِضَم الْفَاء، غير هَذِه الْأَمْثِلَة الْأَرْبَعَة، وَقد جَاءَ: العذرى بِمَعْنى الْعذر، والعسرى بِمَعْنى الْعسر، واليسرى بِمَعْنى الْيُسْر، والعتبى: بِمَعْنى العتاب، وَالْحُسْنَى بِمَعْنى الْإِحْسَان، والشورى بِمَعْنى المشورة، والرغبى بِمَعْنى الرَّغْبَة، والنهبى بِمَعْنى الانتهاب، وزلفى بِمَعْنى التزلف، وَهُوَ التَّقَرُّب، والبشرى بِمَعْنى الْبشَارَة. قَوْله: (على ظهر الدَّابَّة) ، وَفِي بعض النّسخ: على الدَّابَّة، من دب على الأَرْض يدب دبيباً، وكل ماش على الأَرْض دَابَّة ودبيب، وَالدَّابَّة(2/87)
الَّتِي تركب، قَالَه فِي (الْعباب) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: الدَّابَّة لُغَة: الْمَاشِيَة على الأَرْض، وَعرفا الْخَيل والبغل وَالْحمار، وَقَالَ بَعضهم: وَبَعض أهل الْعرف خصها بالحمار. قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَا، وَإِنَّمَا الدَّابَّة فِي الْعرف اسْم لذات الْأَرْبَع من الْحَيَوَان، وَلَكِن مُرَاد البُخَارِيّ مَا قَالَه الصغاني، وَهِي: الدَّابَّة الَّتِي تركب. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى جَوَاز سُؤال الْعَالم، وَإِن كَانَ مشتغلاً رَاكِبًا وماشياً وواقفاً وعَلى كل أَحْوَاله، وَلَو كَانَ فِي طَاعَة. وَقَالَ بعض الشَّارِحين: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي الْبَاب لفظ الدَّابَّة ليطابق مَا بوب عَلَيْهِ. وَأجَاب بَعضهم: بِأَنَّهُ أحَال بِهِ على الطَّرِيق الْأُخْرَى الَّتِي أوردهَا فِي الْحَج، فَقَالَ: كَانَ على نَاقَته. قلت: بعد هَذَا الْجَواب كبعد الثرى من الثريا، وَكَيف يعْقد بَاب بترجمة، ثمَّ يُحَال مَا يُطَابق ذَلِك على حَدِيث يَأْتِي فِي بَاب آخر؟ وَيُمكن أَن يُجَاب: بِأَن بَين قَوْله: وَغَيرهَا، أَي: وَغير الدَّابَّة، وَبَين حَدِيث الْبَاب مُطَابقَة، لِأَن مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْله: (وقف فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس) ، أَعم من أَن يكون وُقُوفه على الأَرْض أَو على الدَّابَّة، وَيكون ذكر لفظ الدَّابَّة إِشَارَة إِلَى أَنه فِي حَدِيث الْبَاب طَرِيق أُخْرَى فِيهَا ذكر الدَّابَّة، وَهِي قَوْله: كَانَ على نَاقَته. الثَّالِث: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ فضل الْعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْفتيا، وَهُوَ أَيْضا من الْعلم.
83 - حدّثنا إِسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَن ابنِ شِهابٍ عنْ عِيَسى بن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ اللَّهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بنِ العَاص أنّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمنى للنَّاس يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أشْعُرْ فَحَلقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ {فَقَالَ: (ادْبَحْ ولاَ حَرَجَ) فَجَاءَ آخرُ فَقَالَ: لَمْ أشْعُرْ فَنحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْميَ} قَالَ: (ارْمِ وَلَا حَرجَ) فمَا سُئِلَ النبيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: (افْعَلْ ولاَ حَرَجَ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ الاستفتاء والإفتاء، والترجمة هِيَ الْفتيا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، ابْن اخت مَالك. الثَّانِي: مَالك بن أنس الإِمَام. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عِيسَى بن طَلْحَة ابْن عبيد اللَّه الْقرشِي التَّيْمِيّ تَابِعِيّ، ثِقَة من أفاضل أهل الْمَدِينَة وعقلائهم، أَخُو مُوسَى وَمُحَمّد، مَاتَ سنة مائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف أسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن أبي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة، وَفِي الْحَج عَن عبد اللَّه بن يُوسُف عَن مَالك، وَعَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح، وَعَن سعيد بن يحيى بن سعيد الْأمَوِي عَن أَبِيه عَن ابْن جريج، وَفِي النذور: وحَدثني عُثْمَان بن الْهَيْثَم عَن ابْن جريج، أربعتهم عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن سعيد ابْن يحيى عَن أَبِيه، وَعَن عَليّ بن خشرم عَن عِيسَى بن يُونُس، وَعَن عبد بن حميد عَن مُحَمَّد بن بكر، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن جريج بِهِ، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن ابْن عَمْرو عبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرازق عَن معمر، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن قهزاد عَن عَليّ بن الْحسن عَن ابْن شَقِيق عَن ابْن الْمُبَارك عَن مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة، أربعتهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي وَابْن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي عَن غنْدر عَن معمر بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد عَن مَالك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن مَالك وَيُونُس بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ أَيْضا عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان بِهِ مُخْتَصرا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سُئِلَ عَمَّن ذبح قبل أَن يحلق أَو حلق قبل أَن يذبح؟ قَالَ: لَا حرج) .(2/88)
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (العَاصِي) : الْجُمْهُور على كِتَابَته بِالْيَاءِ، وَهُوَ الفصيح عِنْد أهل الْعَرَبيَّة، وَيَقَع فِي كثير من الْكتب بحذفها، وَقد قرىء فِي السَّبع نَحوه {كالكبير المتعال} (الرَّعْد: 9) و: {الداع} (الْبَقَرَة: 86، وَالْقَمَر: 6 و 8) قَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: أجوف، وَجمعه الأعياض. قلت: العَاصِي من الْعِصْيَان وَجمعه عصاة، كَالْقَاضِي يجمع على قُضَاة. والأعياص جمع عيص، بِكَسْر الْعين: وَهُوَ الشّجر الْكثير الملتف. وَقَالَ عمار: الْعيص من السدر والعوسج وَالسّلم من العصاة، كلهَا إِذا اجْتمع وتدانى والتف. وَفِي (الْعباب) : وَالْجمع عيصان وأعياص، وَفِيه: والأعياص من قُرَيْش أَوْلَاد أُميَّة بن عبد شمس الْأَكْبَر، وهم أَرْبَعَة: الْعَاصِ، وَأَبُو الْعَاصِ، والعيص وَأَبُو الْعيص. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: العيصان من معادن بِلَاد الْعَرَب. قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَالْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة الْفَتْح، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحجَّة، بالكسرة: الْمرة الْوَاحِدَة، وَهُوَ من الشواذ، لِأَن الْقيَاس الْفَتْح. وَفِي (الْعباب) : الْحَج، بِالْكَسْرِ، الِاسْم. وَالْحجّة: الْمرة الْوَاحِدَة، وَهَذَا من الشواذ. قلت: يَعْنِي الْقيَاس فِي الْمرة الْفَتْح، قَالُوا. المفعل للموضع، والمفعل للآلة. والفعلة للمرة والفعلة للحالة. وَالْحجّة أَيْضا: السّنة، وَالْجمع: الْحجَج. وَذُو الْحجَّة: شهر الْحَج، وَالْجمع: ذَوَات الْحجَّة، كذوات الْقعدَة، وَلم يَقُولُوا: ذووا على واحده. وَالْحجّة، أَيْضا: شحمة الْأذن، و: الْوَدَاع، بِفَتْح الْوَاو، اسْم التوديع: كالسلام بِمَعْنى التَّسْلِيم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: جَازَ الْكسر بِأَن يكون من بَاب المفاعلة، وَتَبعهُ على هَذَا بَعضهم، وَمَا أَظن هَذَا صَحِيحا لِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ يتَغَيَّر الْمَعْنى، لِأَن الْمُوَادَعَة مَعْنَاهَا الْمُصَالحَة، وَكَذَا الْوَدَاع بِالْكَسْرِ، وَالْمعْنَى هُوَ التوديع، وَهُوَ عِنْد الرحيل مَعْرُوف، وَهُوَ تخليف الْمُسَافِر النَّاس خافضين وادعين وهم يودعونه إِذا سَافر تفاؤلاً بالدعة الَّتِي يصير إِلَيْهَا إِذا نقل، أَو يتركونه وسفره. قَوْله: (بمنى) ؛ هُوَ قَرْيَة بِالْقربِ من مَكَّة تذبح فِيهَا الْهَدَايَا، وترمى فِيهَا الجمرات، وَهُوَ مَقْصُور مُذَكّر مَصْرُوف. قَوْله: (لم أشعر) ، بِضَم الْعين، أَي: لم أعلم، أَي: لم افطنه. يُقَال شعر يشْعر من بَاب: نصر ينصر، شعرًا وشعرة وشعرى، بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وشعرة وبالفتح، وشعوراً ومشعوراً ومشعورة. قَالَ الصغاني: شَعرت بالشَّيْء أعلمت بِهِ، وفطنت لَهُ، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري: مَعْنَاهُ: لَيْتَني أشعر، وَالشعر وَاحِد الْأَشْعَار. قَوْله: (وَلَا حرج) أَي: وَلَا إِثْم. قَوْله: (فنحرت) ، النَّحْر فِي اللبة مثل الذّبْح فِي الْحلق، وتستعمل بِمَعْنى الذَّبِيح.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وقف) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (بمنى) ، فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (يسألونه) فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: وقف، وَيجوز أَن يكون: من النَّاس، أَي: وقف لَهُم حَال كَونهم سائلين عَنهُ، وَيجوز أَن يكون استئنافاً بيانياً لعِلَّة الْوُقُوف. قَوْله: (فجَاء رجل) ، عطف على قَوْله: وقف. قَوْله: (فحلقت) الْفَاء فِيهِ سَبَبِيَّة، وَكَذَلِكَ الْفَاء فِي: فنحرت، كَأَنَّهُ جعل الْحلق والنحر كلا مِنْهُمَا مسبباً عَن عدم شعوره، كَأَنَّهُ يعْتَذر لتَقْصِيره. قَوْله: (قبل أَن أذبح) أَن: فِيهِ مَصْدَرِيَّة، أَي: قبل الذّبْح. قَوْله: (وَلَا حرج) ، كلمة: لَا، للنَّفْي. وَقَوله: (حرج) اسْمه، مَبْنِيّ على الْفَتْح، وَخَبره مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: لَا حرج عَلَيْك قَوْله: (فجَاء آخر) أَي: رجل آخر. قَوْله: (أَن ارمي) أَن: فِيهِ أَيْضا مَصْدَرِيَّة، أَي: قبل الرَّمْي. قَوْله: (فَمَا سُئِلَ) على صِيغَة الْمَجْهُول، و: النَّبِي، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، و: عَن شَيْء، يتَعَلَّق بالسؤال. قَوْله: (قدم) على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة: لشَيْء. قَوْله: (وَلَا أُخر) أَيْضا على صِيغَة الْمَجْهُول، عطف على: قدم، وَالتَّقْدِير: لَا قدم وَلَا أخر، لِأَن الْكَلَام الفصيح قل مَا يَقع: لَا، الدَّاخِلَة على الْمَاضِي فِيهِ إلاَّ مكررة، وَحسن ذَلِك هُنَا لِأَنَّهُ وَقع فِي سِيَاق النَّفْي، وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} (الْأَحْقَاف: 9) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (مَا سُئِلَ عَن شَيْء قدم أَو أخر إلاَّ قَالَ: إفعل وَلَا حرج) .
بَيَان الْمعَانِي: فِيهِ: حذف المفاعيل من قَوْله: (فحلقت) و (أَن أذبح) و (أذبح) و (فنحرت) و (أَن ارمي) و (ارْمِ) للْعلم بهَا بِقَرِينَة الْمقَام. قَوْله: (عَن شَيْء) أَي، مِمَّا هُوَ من الْأَعْمَال يَوْم الْعِيد، وَهِي: الرَّمْي والنحر وَالْحلق وَالطّواف. قَوْله: (افْعَل وَلَا حرج) قَالَ القَاضِي: قيل: هَذَا إِبَاحَة لما فعل وَقدم، وإجازة لَهُ لَا أَمر بالعيادة، كَأَنَّهُ قَالَ: إفعل ذَلِك كَمَا فعلته قبل، أَو مَتى شِئْت وَلَا حرج عَلَيْك، لِأَن السُّؤَال إِنَّمَا كَانَ عَمَّا انْقَضى وَتمّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ جَوَاز سُؤال الْعَالم رَاكِبًا وماشياً وواقفاً. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْجُلُوس على الدَّابَّة للضَّرُورَة بل للْحَاجة، كَمَا كَانَ جُلُوسه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَلَيْهَا ليشرف على النَّاس، وَلَا يخفى عَلَيْهِم كَلَامه لَهُم. الثَّالِث: فِي تَرْتِيب الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث، هَل هُوَ سنة وَلَا شَيْء فِي تَركه، أَو وَاجِب يتَعَلَّق الدَّم بِتَرْكِهِ؟ فَإلَى الأول ذهب الشَّافِعِي وَأحمد، وَإِلَى الثَّانِي ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك. وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على أَن سنة الْحَاج أَن يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر، ثمَّ يطوف(2/89)
وَقَالَ غَيره فَلَو خَالف وَقدم بَعْضهَا على بعض جَازَ، وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَلَا فديَة لهَذَا الحَدِيث، ولعموم وَقَوله: (وَلَا حرج) ، وَهَذَا مَذْهَب عَطاء وَطَاوُس وَمُجاهد. وَقَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَالْمَشْهُور من قَول الشَّافِعِي، وحملوا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 196) على الْمَكَان الَّذِي يَقع فِيهِ النَّحْر. وَللشَّافِعِيّ قَول ضَعِيف أَنه إِذا قدم الْحلق على الرَّمْي وَالطّواف لزمَه الدَّم، بِنَاء على قَوْله الضَّعِيف عِنْد أَصْحَابه أَن الْحلق لَيْسَ بنسك. قَالَ النَّوَوِيّ: وَبِهَذَا القَوْل قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك، ويروى عَن سعيد بن جُبَير وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة، وَرِوَايَة شَاذَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَن من قدم بَعْضهَا على بعض لزمَه الدَّم. وَقَالَ الْمَازرِيّ: لَا فديَة عَلَيْهِ عِنْد مَالك، يَعْنِي: فِي تَقْدِيم بَعْضهَا على بعض إلاَّ الْحلق على الرَّمْي فَعَلَيهِ الْفِدْيَة. وَقَالَ عِيَاض: وَكَذَا إِذا قدم الطّواف للإفاضة على الرَّمْي عِنْده، فَقيل: يُجزئهُ، وَعَلِيهِ الْهَدْي. وَقيل: لَا يُجزئهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: إِذا رمى ثمَّ أَفَاضَ قبل أَن يحلق. وَأَجْمعُوا على أَن من نحر قبل الرَّمْي لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا فرق بَين الْعَامِد والساهي فِي وجوب الْفِدْيَة وَعدمهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْإِثْم وَعَدَمه عِنْد من منع التَّقْدِيم. قلت: إِذا حلق قبل أَن يذبح فَعَلَيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة، وَإِن كَانَ قَارنا فعلية دمان. وَقَالَ زفر: إِذا حلق قبل أَن ينْحَر عَلَيْهِ ثَلَاثَة دِمَاء: دم للقران، وَدَمَانِ للحلق قبل النَّحْر. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: من حلق قبل أَن يذبح أهرق دَمًا. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم خلافًا فِيمَن نحر قبل أَن يَرْمِي أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِيمَن أَفَاضَ قبل أَن يحلق بعد الرَّمْي، فَكَانَ ابْن عمر يَقُول: يرجع فيحلق أَو يقصر، ثمَّ يرجع إِلَى الْبَيْت فيفيض. وَقَالَ عَطاء وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَسَائِر الْفُقَهَاء: يُجزئهُ الْإِفَاضَة ويحلق أَو يقصر، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قلت: احْتج الشَّافِعِي وَأحمد وَمن تبعهما فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِظَاهِر الحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِن معنى قَوْله: (وَلَا حرج) أَي: لَا شَيْء عَلَيْك مُطلقًا من الْإِثْم، لَا فِي ترك التَّرْتِيب وَلَا فِي ترك الْفِدْيَة، واحتجت الْحَنَفِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: من قدم شَيْئا من حجه أَو اخره فليهرق لذَلِك دَمًا. وَتَأْويل الحَدِيث الْمَذْكُور: لَا إِثْم عَلَيْكُم فِيمَا فعلتموه من هَذَا، لأنكم فعلتموه على الْجَهْل مِنْكُم، لَا الْقَصْد مِنْكُم خلاف السّنة. وَكَانَت السّنة خلاف هَذَا، وَأسْقط عَنْهُم الْحَرج، وأعذرهم لأجل النسْيَان وَعدم الْعلم. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول السَّائِل: فَلم أشعر، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا فِي حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَأَلَهُ رجل فِي حجَّته فَقَالَ: إِنِّي رميت وأفضت ونسيت فَلم احْلق. قَالَ: فَاحْلِقْ وَلَا حرج. ثمَّ جَاءَ رجل آخر فَقَالَ: إِنِّي رميت وحلقت ونسيت أَن أنحر. فَقَالَ: انْحَرْ وَلَا حرج) . فَدلَّ ذَلِك على أَن الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عَنْهُم، إِنَّمَا كَانَ لأجل نسيانهم ولجهلهم أَيْضا بِأَمْر الْمَنَاسِك، لَا لغير ذَلِك. وَذَلِكَ أَن السَّائِلين كَانُوا نَاسا أعراباً لَا علم لَهُم بالمناسك، فأجابهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (لَا حرج) يَعْنِي: فِيمَا فَعلْتُمْ بِالنِّسْيَانِ وبالجهل، لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَلِك فِيمَا بعد وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا ويؤكده قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، الْمَذْكُور. وَالْحَال أَنه أحد رُوَاة الحَدِيث الْمَذْكُور، فَلَو لم يكن معنى الحَدِيث عِنْده على مَا ذكرنَا لما قَالَ بِخِلَافِهِ. وَمن الدَّلِيل على مَا ذكرنَا أَن ذَلِك كَانَ بِسَبَب جهلهم مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، أخرجه الطَّحَاوِيّ قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ بَين الْجَمْرَتَيْن، عَن رجل حلق قبل أَن يَرْمِي. قَالَ: لَا حرج. وَعَن رجل ذبح قبل أَن يَرْمِي، قَالَ: لَا حرج، ثمَّ قَالَ: عباد اللَّه، وضع الله عز وَجل الْحَرج والضيق، وتعلموا مَنَاسِككُم فَإِنَّهَا من دينكُمْ) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَفلا يرى إِلَى أَنه أَمرهم بتَعَلُّم مناسكهم لأَنهم كَانَ لَا يحسنونها، فَدلَّ ذَلِك أَن الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عَنْهُم هُوَ لجهلهم بِأَمْر مناسكهم، لَا لغير ذَلِك. فَإِن قلت: قد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات الصَّحِيحَة: وَلم يَأْمر بكفارة، قلت: يحْتَمل أَنه لم يَأْمر بهَا لأجل نِسْيَان السَّائِل، أَو أَمر بهَا وَذهل عَنهُ الرَّاوِي.
24 - (بَاب مَنْ أجَاب الفُتْيا باشارَةِ اليَدِ والرَّأسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمُفْتِي الَّذِي أجَاب المستفتي فِي فتياه بِإِشَارَة بِيَدِهِ أَو رَأسه. وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر.
84 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ: حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ: حدّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عَن ابْن(2/90)
عَبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، فَأْوَمَأ بِيدِهِ قَالَ: (وَلَا حَرَجَ) . قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، فَأوْمأ بِيَدِهِ ولاَ حَرَجَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالْيَدِ فِي جَوَاب الْفتيا، وَهُوَ قَوْله: (فاومأ بِيَدِهِ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: التَّبُوذَكِي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ. وَقد مر ذكره. الثَّانِي: وهيب، بِضَم الْوَاو وَفتح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن خَالِد الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: عِكْرِمَة، مولى ابْن الْعَبَّاس. الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أَيُّوب بِهِ نَحوه. وَأخرجه أَيْضا فِي الْحَج عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن عبد اللَّه بن طَاوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد عَن وهيب عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن الْمُعَلَّى بن أَسد عَن وهيب بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله (فَأَوْمأ) أَي: أَشَارَ، وثلاثيه: ومأت إِلَيْهِ أميء ومأً، وأَومأت إِلَيْهِ وأومأته أَيْضا، وومأت تومئة: اشرت. قَوْله: (سُئِلَ) ، بِضَم السِّين. قَوْله: (فَقَالَ) أَي السَّائِل: ذبحت قبل أَن أرمي، أَي: فَمَا حكمك فِيهِ هَل يَصح؟ وَهل عَليّ فِيهِ حرج؟ قَوْله: (فَأَوْمأ) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِيَدِهِ. قَوْله: (قَالَ: وَلَا حرج) : أَي: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: وَلَا حرج عَلَيْك. فَإِن قلت: مَا مَحل: قَالَ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: مَحَله النصب على الْحَال. أَي: فَأَوْمأ بِيَدِهِ حَال كَونه قد قَالَ: وَلَا حرج عَلَيْك، وَالْأَحْسَن أَن يكون بَيَانا لقَوْله: (فَأَوْمأ) ، وَلِهَذَا ذكر بِدُونِ الْوَاو العاطفة حَيْثُ لم يقل: فَأَوْمأ بِيَدِهِ، وَقَالَ: وَأما الْوَاو فِي: (وَلَا حرج) . فَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره، وَلَيْسَت بموجودة فِي رِوَايَة ابْن ذَر. وَأما فِي (وَلَا حرج) الثَّانِي فَهِيَ مَوْجُودَة عِنْد الْكل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم ترك الْوَاو أَولا فِي: (وَلَا حرج) : وَذكر ثَانِيًا فِيهِ؟ قلت: لِأَن الأول كَانَ فِي ابْتِدَاء الحكم، وَالثَّانِي عطف على الْمَذْكُور أَولا. قلت: هَذَا إِنَّمَا يتمشى على رِوَايَة أبي ذَر على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَقَالَ: حلقت) أَي: قَالَ سَائل آخر، أَو ذَلِك السَّائِل بِعَيْنِه. قَوْله: (قبل أَن اذْبَحْ) أَن، فِيهِ مَصْدَرِيَّة أَي: قبل الذّبْح. قَوْله: (فَأَوْمأ) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِيَدِهِ وَلَا حرج. وَلم يذكر هَهُنَا: قَالَ: وَلَا حرج. وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَوْمأ بِيَدِهِ وَلَا حرج. وَلم يحْتَج إِلَى ذكر: قَالَ، هَهُنَا لِأَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ بِحَيْثُ فهم من تِلْكَ الْإِشَارَة أَنه لَا حرج، سِيمَا وَقد سُئِلَ عَن الْحَرج، أَو يقدر لَفْظَة قَالَ. وَالتَّقْدِير: فَأَوْمأ بِيَدِهِ، قَالَ: وَلَا حرج، أَو قَائِلا: وَلَا حرج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: (فَأَوْمأ بِيَدِهِ أَن لَا حرج) ، ثمَّ قَالَ: ان، إِمَّا صلَة لقَوْله: (أَوْمَأ) . وَإِمَّا تفسيرية، إِذْ فِي الْإِيمَاء معنى القَوْل.
85 - حدّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ: أخبرنَا خَنْظَلةُ بنُ أبي سُفْيانَ عنْ سالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يُقْبَضُ العِلْمُ وَيَظْهَرُ الجَهْلُ والفِتَنُ وَيَكْثُرُ الهَرْجُ) قِيلَ: يَا رَسُول الله! ومَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَها كأنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالْيَدِ كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وبالراء، ابْن فرقد أَبُو السكن الْبَلْخِي أَخُو إِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب، سمع حَنْظَلَة وَغَيره من التَّابِعين، وَهُوَ أكبر شُيُوخ البُخَارِيّ من الخراسانيين لِأَنَّهُ روى عَن التَّابِعين، وروى عَنهُ أَحْمد وَيحيى بن معِين، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة والبيوع وَغير مَوضِع، وَأخرج فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَنهُ عَن عبد اللَّه بن سعيد، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَقَالَ أَحْمد: ثِقَة. وَقَالَ ابْن سعد: ثِقَة ثَبت، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. ولد سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة، وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ(2/91)
ببلخ، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة مكي بن إِبْرَاهِيم غَيره، و: مكي، بتَشْديد الْيَاء على وزن النِّسْبَة. وَلَيْسَ بِنِسْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمه. الثَّانِي: حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان بن عبد الْملك، وَقد مر فِي: بَاب الْحيَاء من الْإِيمَان. الثَّالِث: سَالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُم. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة وَالسَّمَاع، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ عَن حَنْظَلَة قَالَ: سَمِعت سالما، وَزَاد فِيهِ: لَا أَدْرِي كم رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَة وَاقِفًا فِي السُّوق يَقُول: يقبض الْعلم ... فَذكره مَوْقُوفا، لَكِن ظهر فِي آخِره أَنه مَرْفُوع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومكي ومدني. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده من الرباعيات العوالي.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (الْهَرج) ، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: قَالَ فِي (الْعباب) : الْهَرج الْفِتْنَة والاختلاط، وَقد هرج النَّاس يهرجون، بِالْكَسْرِ، هرجاً. وَمِنْه حَدِيث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يتقارب الزَّمَان وَينْقص الْعلم ويلقى الشُّح وَتظهر الْفِتَن وَيكثر الْهَرج. قيل: وَمَا الْهَرج يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الْقَتْل الْقَتْل) . ثمَّ قَالَ الصغاني: وأصل الْهَرج الْكَثْرَة فِي الشَّيْء، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْجِمَاع: بَات يهرجها ليلته جَمْعَاء. وَيُقَال للْفرس: مر يهرج، وَإنَّهُ لمهرج ومهراج إِذا كَانَ كثير الجري، وهرج الْقَوْم فِي الحَدِيث إِذا أفاضوا فِيهِ فَأَكْثرُوا، والهراجة: الْجَمَاعَة يهرجون فِي الحَدِيث. وَقَالَ فِي آخر الْفَصْل: والتركيب يدل على اخْتِلَاط وتخليط. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الْهَرج الْفِتْنَة فِي آخر الزَّمَان. وَقَالَ القَاضِي: الْفِتَن بعض الْهَرج، وأصل الْهَرج والتهارج الِاخْتِلَاط والقتال، وَمِنْه قَوْله: فَلَنْ يزَال الْهَرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَمِنْه: يتهارجون تهارج الْحمر، قيل: مَعْنَاهُ: يتخالطون رجَالًا وَنسَاء ويتناكحون مزاناة. وَيُقَال: هرجها يهرجها إِذا نَكَحَهَا، و: يهرجها، بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا وَكسرهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِرَادَة الْقَتْل من لفظ الْهَرج إِنَّمَا هُوَ على طَرِيق التَّجَوُّز، إِذْ هُوَ لَازم معنى الْهَرج، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يثبت وُرُود الْهَرج بِمَعْنى الْقَتْل لُغَة. وَقَالَ بَعضهم: وَهِي غَفلَة عَمَّا فِي البُخَارِيّ فِي كتاب الْفِتَن. والهرج الْقَتْل بِلِسَان الْحَبَشَة. قلت: هَذَا غَفلَة، لِأَن كَون الْهَرج بِمَعْنى الْقَتْل بِلِسَان الْحَبَشَة لَا يسْتَلْزم أَن يكون بِمَعْنى الْقَتْل فِي لُغَة الْعَرَب، غير أَنه لما اسْتعْمل بِمَعْنى الْقَتْل وَافق اللُّغَة الحبشية، وَأما فِي أصل الْوَضع فالعرب مَا استعملته إلاَّ لِمَعْنى الْفِتْنَة والاختلاط، واستعملوه بِمَعْنى الْقَتْل تجوزاً. فَإِن قلت: قَالَ صَاحب (الْمطَالع) : فسر الْهَرج فِي الحَدِيث بِالْقَتْلِ بلغَة الْحَبَشَة، ثمَّ قَالَ: وَقَوله: بلغَة الْحَبَشَة وهم من بعض الروَاة، وَإِلَّا فَهِيَ عَرَبِيَّة صَحِيحَة. قلت: لَا يلْزم من تَفْسِيره فِي الحَدِيث بِالْقَتْلِ أَن يكون مَعْنَاهُ الْقَتْل فِي أصل الْوَضع. قَوْله: (يقبض الْعلم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقد مر أَن قَبضه بِقَبض الْعلمَاء، كَمَا جَاءَ مُبينًا فِي الحَدِيث. وَجَاء فِي مُسلم: (وَينْقص الْعلم وَيظْهر الْجَهْل) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَظُهُور الْجَهْل من لَوَازِم قبض الْعلم، وَذكره لزِيَادَة الْإِيضَاح والتأكيد. قَوْله: (الْفِتَن) بِالرَّفْع عطفا على: الْجَهْل، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (وَتظهر الْفِتَن) . قَوْله: (وَيكثر الْهَرج) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ) ، مَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ محرفا، وَفِيه إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل، وَهُوَ كثير. وَمِنْه قَول الْعَرَب: قَالُوا بزيد وَقُلْنَا بِهِ، أَي: قَتَلْنَاهُ، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ الرجل بالشَّيْء، أَي: غلب. وَقَالَ الصغاني: وَفِي دُعَاء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: سُبْحَانَ من تعطف بالعز وَقَالَ بِهِ، وَهَذَا من الْمجَاز الْحكمِي كَقَوْلِهِم: نَهَاره صَائِم. وَالْمرَاد وصف الرجل بِالصَّوْمِ، وَوصف الله تَعَالَى بالعز. قَوْله: (وَقَالَ بِهِ) أَي: وَغلب بِهِ كل عَزِيز، وَملك عَلَيْهِ أمره. وَفِي (الْمطَالع) : وَفِي حَدِيث الْخضر: (فَقَالَ بِيَدِهِ فأقامه) . أَي: أَشَارَ أَو تنَاول. وَقَوله: (فِي الْوضُوء فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا) أَي: نفضه. قَوْله: (فَقَالَ باصبعه السبابَة وَالْوُسْطَى) أَي: أَشَارَ. وَفِي حَدِيث دُعَاء الْوَالِد: (وَقَالَ بِيَدِهِ نَحْو السَّمَاء) أَي: رَفعهَا. قَوْله: (فحرفها) من التحريف. تَفْسِير لقَوْله: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ) كَأَن الرَّاوِي بَين أَن الْإِيمَاء كَانَ محرفاً، وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى الْفَاء التفسيرية. نَحْو: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 54) إِذْ الْقَتْل هُوَ نفس التَّوْبَة على أحد التفاسير. قَوْله: (كَأَنَّهُ يُرِيد الْقَتْل) الظَّاهِر أَن هَذَا زِيَادَة من الرَّاوِي عَن حَنْظَلَة، فَإِن أَبَا عوَانَة رَوَاهُ عَن عَبَّاس الدوري عَن أبي عَاصِم عَن حَنْظَلَة، وَقَالَ فِي آخِره: وأرانا أَبُو عَاصِم كَأَنَّهُ يضْرب عنق الْإِنْسَان، وَكَأن الرَّاوِي فهم من تَحْرِيك الْيَد وتحريفها أَنه يُرِيد الْقَتْل. قلت: وَقع فِي بعض النّسخ: فحركها بِالْكَاف، مَوضِع: فحرفها. فَالظَّاهِر أَنه غير ثَابت، وَفِيه دَلِيل على أَن الرجل إِذْ أَشَارَ بِيَدِهِ أَو بِرَأْسِهِ أَو بِشَيْء يفهم مِنْهُ ارادته أَنه جَائِز عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي كتاب الطَّلَاق حكم الْإِشَارَة بِالطَّلَاق وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(2/92)
86 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ: حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ: حدّثنا هِشامٌ عنْ فاطِمَةَ عنْ أسْماءَ قالَتْ: أَتيْتُ عائِشَةَ وَهْيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ: مَا شأْنُ النَّاسِ؟ فَأشارَتْ إلَى السَّماءِ فَإذَا النَّاسُ قِيامٌ، فقالَتْ: سُبْحانَ الله! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأشارَتْ بِرَأْسِها أيْ: نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشْيُ فَجَعَلْتُ أصُبُّ عَلَى رَأسِي الماءَ، فَحَمِدَ الله عزَّ وَجَلَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأثْنَى عَلِيْهِ ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَيْءِ لَمْ أكُنْ أرِيتُه إلاَّ رَأيْتُهُ فِي مَقامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ فأُوحِيَ إلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أوْ قَرِيبَ، لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالَتْ أسْماءُ. مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقالُ: مَا عِلْمُكَ بِهذَا الرَّجُلِ؟ فَأمَّا المُؤْمنُ) أَو المُوقِنُ، لَا أدْرِي بِأيّهِما قالتْ أسْماءُ فَيَقولُ: (هُوَ مُحمَّدٌ رسولُ الله جاءَنا بالبَيِّناتِ والهُدَى فَأجَبْنَا واتَّبَعْنا، هُوَ مُحمَّدٌ ثَلاثاً، فَيُقالُ: نَمْ صالِحاً قَد عَلِمْنا إنْ كُنْتَ لُموقِناً بِهِ، وأمَّا المُنَافِقُ) أَو المُرْتابُ، لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالتْ أسْماءُ (فَيَقولُ: لَا أدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ) ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، لكنه من فعل عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: فَيكون مَوْقُوفا، لَكِن لَهُ حكم الْمَرْفُوع لِأَنَّهَا كَانَت تصلي خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ فِي الصَّلَاة يرى من خَلفه. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، بل وجود شَيْء فِي حَدِيث الْبَاب مِمَّا هُوَ مُطَابق للتَّرْجَمَة كافٍ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا يدل إلاَّ على بعض التَّرْجَمَة، وَهُوَ الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ، كَمَا أَن الْأَوَّلين لَا يدلان أَيْضا إلاَّ على الْبَعْض الآخر، وَهُوَ الْإِشَارَة بِالْيَدِ. قلت: لَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي الْبَاب على تَمام التَّرْجَمَة، بل إِذا دلّ الْبَعْض على الْبَعْض بِحَيْثُ دلّ الْمَجْمُوع على الْمَجْمُوع صحت التَّرْجَمَة، وَمثله مر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. الثَّانِي: وهيب بن خَالِد، وَقد ذكرا الْآن. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله عَنْهُم، وَقد تقدم. الرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير بن الْعَوام، وَهِي زَوْجَة هِشَام بن عُرْوَة، وَبنت عَمه. رَوَت عَن جدَّتهَا أَسمَاء، روى عَنْهَا زَوجهَا هِشَام وَمُحَمّد بن إِسْحَاق. وَقَالَ أَحْمد بن عبد اللَّه: تابعية ثِقَة، روى لَهَا الْجَمَاعَة. الْخَامِس: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، زَوْجَة الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، وَكَانَ عبد اللَّه بن أبي بكر شقيقها، وَعَائِشَة وَعبد الرَّحْمَن أَخَوَاهَا لأَبِيهَا، وَهِي ذَات النطاقين، ولدت قبل الْهِجْرَة بِسبع وَعشْرين سنة، وَأسْلمت بعد سَبْعَة عشر إنْسَانا، رُوِيَ لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَخَمْسُونَ حَدِيثا، انْفَرد البُخَارِيّ بأَرْبعَة، وَمُسلم بِمِثْلِهَا، واتفقا على أَرْبَعَة عشر، توفيت بِمَكَّة فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَسبعين بعد قتل ابْنهَا عبد اللَّه بن الزبير، وَقد بلغت الْمِائَة وَلم يسْقط لَهَا سنّ وَلم يتَغَيَّر عقلهَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تابعية عَن صحابية مَعَ ذكر صحابية أُخْرَى. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْكُسُوف عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي الِاعْتِصَام عَن القعْنبِي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة: أما بعد، وَقَالَ فِيهِ مَحْمُود: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، وَفِي كتاب الخسوف: وَقَالَ أَبُو أُسَامَة، وَفِي كتاب السَّهْو فِي: بَاب الْإِشَارَة فِي الصَّلَاة، عَن يحيى بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن الثَّوْريّ مُخْتَصرا، وَفِي الخسوف مُخْتَصرا عَن الرّبيع بن يحيى عَن زَائِدَة وَعَن مُوسَى بن مَسْعُود عَن زَائِدَة مُخْتَصرا، وَتَابعه عَليّ عَن الدَّرَاورْدِي وَعَن مُحَمَّد الْمقدمِي عَن تَمام فِي الْعتَاقَة. وَأخرجه مُسلم فِي الخسوف عَن أبي كريب عَن ابْن غير، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب عَن أبي أُسَامَة كلهم عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن امْرَأَته فَاطِمَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (حَتَّى علاني) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة، من: عَلَوْت الرجل غلبته، تَقول: علاهُ يعلوه علوا، وَعلا فِي الْمَكَان يَعْلُو علوا(2/93)
أَيْضا، وَعلا بِالْكَسْرِ فِي الشِرف يعلي عَلَاء، وَيُقَال أَيْضا: بِالْفَتْح يعلى، قَالَ رؤبة:
(دفعك داواني وَقد جويت ... لما علا كعبك لي عليت)
فَجمع بَين اللغتين، هَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين، أَعنِي: علاني. وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: تجلاني، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة وَالْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَأَصله: تجللني، أَي: علاني. قَالَ فِي (الْعباب) : تجلله أَي: علاهُ. قلت: هَذَا مثل: تقضى الْبَازِي، أَصله: تقضض، فاستثقلوا ثَلَاث ضادات، فابدلوا من إِحْدَاهُنَّ يَاء، فَصَارَ يَاء. وَكَذَلِكَ استثقلوا ثَلَاث لامات فأبدلوا من إِحْدَاهُنَّ يَاء فَصَارَ: تجلى. وَرُبمَا يَظُنّهُ من لَا خبْرَة لَهُ من مواد الْكَلَام أَن هَذَا من النواقص، وَهُوَ من المضاعف. وَقَالَ بَعضهم: تجلاني، بمثناة وجيم وَلَام مُشَدّدَة: وجلال الشَّيْء مَا غطي بِهِ. قلت: الْجلَال جمع: جلّ الْفرس، وَلَا مُنَاسبَة لذكره مَعَ: تجلاني، وَإِن كَانَا مشتركين فِي أصل الْمَادَّة، لِأَن ذَلِك فعل من بَاب التفعيل، وَهَذَا اسْم، وَهُوَ جمع. وَلَو قَالَ: وَمِنْه جلال الشَّيْء، كَانَ لَا بَأْس بِهِ، تَنْبِيها على أَنَّهُمَا مشتركان فِي أصل الْمَادَّة. وَأَيْضًا لَا يُقَال: جلال الشَّيْء مَا غطى بِهِ، بل الَّذِي يُقَال: جلّ الشَّيْء. قلت: (الغشي) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف، مُخَفّفَة من غشى عَلَيْهِ غشية وغشياً وغشياناً فَهُوَ مغشي عَلَيْهِ، واستغشى بِثَوْبِهِ وتغشى أَي: تغطى بِهِ. وَقَالَ القَاضِي: روينَاهُ فِي مُسلم وَغَيره بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء، وباسكان الشين وَالْيَاء، وهما بِمَعْنى: الغشاوة، وَذَلِكَ لطول الْقيام وَكَثْرَة الْحر، وَلذَلِك قَالَت: فَجعلت أصب على رَأْسِي، أَو على وَجْهي من المَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: الغشي، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء: مرض مَعْرُوف يحصل بطول الْقيام فِي الْحر وَغير ذَلِك، وعرفه أهل الطِّبّ بِأَنَّهُ تعطل القوى المحركة والحساسة لضعف الْقلب واجتماع الرّوح كُله إِلَيْهِ. فَإِن قلت: إِذا تعطلت القوى فَكيف صبَّتْ المَاء؟ قلت: أَرَادَت بالغشي الْحَالة الْقَرِيبَة مِنْهُ، فأطلقت الغشي عَلَيْهَا مجَازًا، أَو كَانَ الصب بعد الْإِفَاقَة مِنْهُ. قَالَ بعض الشَّارِحين: ويروى بِعَين مُهْملَة. قَالَ القَاضِي: لَيْسَ بِشَيْء. وَفِي (الْمطَالع) : الغشي، بِكَسْر الشين وَتَشْديد الْيَاء: كَذَا قَيده الْأصيلِيّ، وَرَوَاهُ بَعضهم: الغشي، وهما بِمَعْنى وَاحِد يُرِيد: الغشاوة وَهُوَ الغطاء. ورويناه عَن الْفَقِيه ابْن مُحَمَّد عَن الطَّبَرِيّ: الْعشي، بِعَين مُهْملَة، وَلَيْسَ بِشَيْء. قَوْله: (تفتنون) أَي: تمتحنون. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْفِتْنَة الامتحان والاختبار. تَقول: فتنت الذَّهَب إِذا أدخلته النَّار لتنظر مَا جودته، ودينار مفتون، وَيُسمى الصَّائِغ: الفتان. وأفتن الرجل وَفتن فَهُوَ مفتون إِذا أَصَابَته فتْنَة فَذهب مَاله وعقله، وَذَلِكَ إِذا اختبر. قَالَ الله تَعَالَى: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} (طه: 40) . قَوْله: (الْمَسِيح الدَّجَّال) ، إِنَّمَا سمي مسيحاً لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، أَو لِأَنَّهُ مَمْسُوح الْعين. قَالَ فِي (الْعباب) : الْمَسِيح الْمَمْسُوح بالشوم. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمت الْيَهُود الدَّجَّال مسيحاً لِأَنَّهُ مَمْسُوح إِحْدَى الْعَينَيْنِ. وَبَعض الْمُحدثين يَقُولُونَ فِيهِ الْمَسِيح، مِثَال: سكيت، لِأَنَّهُ مسح خلقه، أَي: شوه. وَأما الْمَسِيح، بِالْفَتْح، فَهُوَ عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ ابْن مَاكُولَا عَن شَيْخه: الصَّوَاب هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة: المسيخ، يُقَال مَسحه الله، بِالْمُهْمَلَةِ: إِذا خلقه خلقا حسنا. ومسخه، بِالْمُعْجَمَةِ: إِذا خلقه خلقا ملعوناً. والدجال على وزن فعال من الدجل، وَهُوَ الْكَذِب والتمويه وخلط الْحق بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ كَذَّاب مموه خلاط. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: سمي دجالًا لضربه فِي الأَرْض وقطعه أَكثر نَوَاحِيهَا. يُقَال: دجل الرجل إِذا فعل ذَلِك. وَيُقَال: دجل إِذا لبس، وَيُقَال: الدجل طلي الْبَعِير بالقطران وَبِغَيْرِهِ، وَمِنْه سمي الدَّجَّال. وَيُقَال لماء الذَّهَب: دجال، بِالضَّمِّ، وَشبه الدَّجَّال بِهِ لِأَنَّهُ يظْهر خلاف مَا يضمر، وَيُقَال: الدجل السحر وَالْكذب، وكل كَذَّاب دجال، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمي بِهِ لِأَنَّهُ يُغطي الأَرْض بِالْجمعِ الْكثير، مثل دجلة تغطي الأَرْض بِمَائِهَا، والدجل: التغطية. يُقَال: دجل فلَان الْحق بباطله أَي: غطاه. يُقَال: دجل الرجل، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد مَعَ فتح الْجِيم، ودجل أَيْضا بِالضَّمِّ مخففاً.
بَيَان الْأَعْرَاب: قَوْله: (عَائِشَة) مَنْصُوب بقوله: (أتيت) ، وَمنع التَّنْوِين لِأَنَّهُ غير منصرف للعلمية والتأنيث، قَوْله: (وَهِي تصلي) جملَة إسمية وَقعت حَالا من: عَائِشَة. قَوْله: (فَقلت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَقَوله: (مَا شَأْن النَّاس) ؟ جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) عطف على قَوْله: (فَقلت) . قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة و: النَّاس، مُبْتَدأ و: قيام خَبره. قَوْله: (فَقَالَت) أَي: عَائِشَة. (سُبْحَانَ الله) . فَإِن قلت: يَنْبَغِي أَن يكون مقول القَوْل جملَة، و: سُبْحَانَ الله، لَيْسَ بجملة. قلت: قَالَت: مَعْنَاهُ هَهُنَا ذكرت، وَقَالَ بَعضهم: فَقَالَت: سُبْحَانَ الله. أَي أشارت قائلة: سُبْحَانَ الله. قلت: هَذَا التَّقْدِير فَاسد، لِأَن: قَالَت، هَهُنَا عطف بِحرف الْفَاء، فَكيف يقدر حَالا مُفْردَة، و: سُبْحَانَ، علم للتسبيح: كعثمان، علم للرجل، وَهُوَ(2/94)
مفعول مُطلق الْتزم إِضْمَار فعله، وَالتَّقْدِير: يسبح الله سُبْحَانَ أَي تسبيحاً، مَعْنَاهُ: أنزهه من النقائص وسمات المخلوقين. فَإِن قلت: إِذا كَانَ علما كَيفَ أضيف؟ قلت: يُنكر عِنْد إِرَادَة الْإِضَافَة. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: كَونه علما إِنَّمَا هُوَ فِي غير حَالَة الْإِضَافَة. قَوْله: (آيَة) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وحذفها، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ آيَة. أَي: عَلامَة لعذاب النَّاس. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) عطف على: قلت. قَوْله: (أَي نعم) تَفْسِير لقَوْله: أشارت. قَوْله: (حَتَّى علاني) حَتَّى، هَهُنَا للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن علاني. وعلاني، فعل ومفعول، و: الغشي، بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (فَجعلت) من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وَالتَّاء اسْمه، وَقَوله: (أصب على رَأْسِي المَاء) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ أَنا الْمُسْتَتر فِي أصب، وَالْمَفْعُول وَهُوَ قَوْله: المَاء، وَمحله النصب، لِأَنَّهَا خبر: جعلت. قَوْله: (فَحَمدَ) فعل وَلَفْظَة: (الله) ، مَفْعُوله، (وَالنَّبِيّ) فَاعله. قَوْله: (وَأثْنى عَلَيْهِ) عطف على: حمد. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) عطف على: حمد. قَوْله: (مَا من شَيْء) كلمة: مَا، للنَّفْي، وَكلمَة: من، زَائِدَة لتأكيد النَّفْي و: شَيْء، اسْم مَا. وَقَوله: (لم أكن أريته) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لشَيْء، وَهُوَ مَرْفُوع فِي الأَصْل وَإِن كَانَ جر بِمن الزَّائِدَة، وَاسم: أكن، مستتر فِيهِ، و: أريته، بِضَم الْهمزَة جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: لم أكن. وَقَوله: (إلاَّ رَأَيْته) اسْتثِْنَاء مفرغ، وَقَالَت النُّحَاة: كل اسْتثِْنَاء مفرغ مُتَّصِل وَمَعْنَاهُ أَن مَا قبلهَا مفرغ لما بعْدهَا إِذْ الِاسْتِثْنَاء من كَلَام غير تَامّ فيلغى فِيهِ إلاَّ من حَيْثُ الْعَمَل لَا من حَيْثُ الْمَعْنى نَحْو: مَا جَاءَنِي إلاَّ زيد، وَمَا رَأَيْت إلاَّ زيدا، أَو مَا مَرَرْت إلاَّ بزيد. فالفعل الْوَاقِع هَهُنَا قبل: إلاَّ، مفرغ لما بعْدهَا، و: إلاَّ، هَهُنَا بِمَنْزِلَة سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تغير الْمَعْنى دون الْأَلْفَاظ، نَحْو: هَل وَغَيره، وَلَا يجوز هَذَا إلاَّ فِي الْمَنْفِيّ. فَافْهَم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: و: رَأَيْته، فِي مَوضِع الْحَال وَتَقْدِيره: مَا من شَيْء لم يكن أريته كَائِنا فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ فِي حَال رؤيتي إِيَّاه. قلت: لَا يَصح هَذَا الْكَلَام، لِأَن ذَا الْحَال إِن كَانَ لَفظه: شَيْء، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُبْتَدأ يبْقى بِلَا خبر، وَإِن كَانَ هُوَ الضَّمِير الَّذِي فِي: لم أكن، فَلَا يَصح لذَلِك، بل مَحل رَأَيْته فِي نفس الْأَمر رفع على الخبرية، لِأَن التَّقْدِير: إِذا أزيل: مَا وإلاَّ، يكون هَكَذَا: وَشَيْء لم أكن أريته رَأَيْته فِي مقَامي هَذَا، و: شَيْء، وَإِن كَانَ نكرَة وَلكنه تخصص بِالصّفةِ. قَوْله: (فِي مقَامي) حَال تَقْدِيره: حَال كوني فِي مقَامي هَذَا. فَإِن قلت: هَذَا، مَا موقعه من الْإِعْرَاب؟ قلت: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: فِي مقَامي هُوَ هَذَا. ويؤول بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ الْمقَام يحْتَمل الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان. قلت: نعم يحْتَمل فِي غير هَذَا الْموضع، وَلكنه هَهُنَا بِمَعْنى الْمَكَان. قَوْله: (حَتَّى الْجنَّة وَالنَّار) يجوز فيهمَا الرّفْع وَالنّصب والجر: أما الرّفْع فعلى أَن تكون: حَتَّى، ابتدائية و: الْجنَّة، تكون مَرْفُوعا على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر تَقْدِيره: حَتَّى الْجنَّة مرئية، و: النَّار، عطف عَلَيْهِ. كَمَا فِي قَوْله: أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا، بِرَفْع الرَّأْس أَي: رأسُها ماكولٌ، وَهُوَ أحد الْأَوْجه الثَّلَاثَة فِيهِ. وَأما النصب فعلى أَن تكون: حَتَّى، عاطفة عطف الْجنَّة فِي الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رَأَيْته، وَأما الْجَرّ فعلى أَن تكون: حَتَّى، جَارة. قَوْله: (فَأُوحي إِلَيّ) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَنكُمْ) بِفَتْح الْهمزَة، لِأَنَّهُ مفعول أُوحِي، قد نَاب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (تفتنون) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (مثل أَو قَرِيبا) كَذَا رُوِيَ فِي رِوَايَة بترك التَّنْوِين فِي: مثل، وبالتنوين فِي: قَرِيبا. وَرُوِيَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: (مثل أَو قريب) بِغَيْر تَنْوِين فيهمَا، وَرُوِيَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: (مثلا أَو قَرِيبا) ، بِالتَّنْوِينِ فيهمَا. قَالَ القَاضِي: روينَاهُ عَن بَعضهم، وَكَذَا رُوِيَ: من فتْنَة الْمَسِيح بِلَفْظَة: من، قبل: فتْنَة الْمَسِيح. رُوِيَ أَيْضا بِدُونِ: من. أما وَجه الرِّوَايَة الأولى: فَهُوَ مَا قَالَه ابْن مَالك إِن أَصله: مثل فتْنَة الدَّجَّال أَو قَرِيبا من فتْنَة الدَّجَّال، فَحذف مَا كَانَ: مثل، مُضَافا إِلَيْهِ، وَترك على هَيئته قبل الْحَذف، وَجَاز الْحَذف لدلَالَة مَا بعده. قَالَ: والمعتاد فِي صِحَة هَذَا الْحَذف أَن يكون مَعَ إضافتين، كَقَوْل الشَّاعِر:
(أَمَام وَخلف الْمَرْء من لطف ربه ... كوال تروى عَنهُ مَا هُوَ يحذر)
وَجَاء أَيْضا فِي إِضَافَة وَاحِدَة، كَمَا هُوَ فِي الحَدِيث:
(مَه عاذلي فهائما لن أبرحا ... كَمثل أَو أحسن من شمس الضُّحَى)
وَأما وَجه الرِّوَايَة الثَّانِيَة: فَهُوَ أَن يكون: مثل أَو قريب، كِلَاهُمَا مضافان إِلَى: فتْنَة الْمَسِيح، وَيكون قَوْله: (لَا أَدْرِي أَي ذَلِك قَالَت أَسمَاء) مُعْتَرضَة بَين المضافين والمضاف إِلَيْهِ، مُؤَكدَة لِمَعْنى الشَّك الْمُسْتَفَاد من كلمة: أَو، وَمثل هَذِه لَا تسمى أَجْنَبِيَّة حَتَّى يُقَال: كَيفَ يجوز الْفَصْل بَين المضافين وَبَين مَا أضيفا إِلَيْهِ؟ لِأَن الْمُؤَكّدَة للشَّيْء لَا تكون أَجْنَبِيَّة مِنْهُ، فَجَاز كَمَا فِي قَوْله:
(يَا تيم تيم عدي)
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل يَصح أَن يكون لشَيْء وَاحِد مضافان؟ قلت: لَيْسَ هَهُنَا مضافان، بل مُضَاف وَاحِد، وَهُوَ أَحدهمَا، لَا على التَّعْيِين، وَلَئِن سلمنَا فتقديره: مثل الْمَسِيح أَو قريب فتْنَة الْمَسِيح، فَحذف أحد اللَّفْظَيْنِ مِنْهُمَا(2/95)
لدلَالَة الآخر عَلَيْهِ، نَحْو قَول الشَّاعِر.
(بَين ذراعي وجبهة الْأسد)
قلت: قَوْله: لَيْسَ هُنَا مضافان غير صَحِيح، بل هَهُنَا مضافان صَرِيحًا، وَقد جَاءَ ذَلِك فِي كَلَام الْعَرَب كَمَا مر فِي الْبَيْت الْمَذْكُور. وَأما وَجه الرِّوَايَة الثَّالِثَة: فَهُوَ أَن يكون: مثلا، مَنْصُوبًا على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف و: أَو قَرِيبا، عطف عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: تفتنون فِي قبوركم فتْنَة مثلا أَي مماثلاً فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، أَو فتْنَة قَرِيبا من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال. أما وَجه: من، فِي رِوَايَة من أثبتها قبل قَوْله: فتْنَة الْمَسِيح، على تَقْدِير إِضَافَة الْمثل أَو الْقَرِيب إِلَى فتْنَة الْمَسِيح، فعلى نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا أَن إِظْهَار حرف الْجَرّ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ لَا يمْتَنع عِنْد قوم من النُّحَاة، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلك: أَلا أَبَا لَك وَالْآخر، مَا قيل: إنَّهُمَا ليسَا بمضافين إِلَى فتْنَة الْمَسِيح على هَذَا التَّقْدِير، بل هما مضافان إِلَى فتْنَة مقدرَة، والمذكورة بَيَان لتِلْك الْمقدرَة. فَافْهَم. قَوْله: (لَا أَدْرِي) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (أَي ذَلِك) كَلَام إضافي و: أَي، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره قَوْله: (قَالَت اسماء) وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف، أَي: قالته. ثمَّ قَوْله: (أَي) يجوز أَن تكون استفهامية وموصولة، فَإِن كَانَت استفهامية يكون فعل الدِّرَايَة مُعَلّقا بالاستفهام لِأَنَّهُ من أَفعَال الْقُلُوب، وَيجوز أَن تكون: أَي، مَبْنِيا على الضَّم مُبْتَدأ على تَقْدِير حذف صدر صلته، وَالتَّقْدِير: لَا أَدْرِي أَي ذَلِك هُوَ قالته أَسمَاء، وَإِن كَانَت مَوْصُولَة تكون: أَي، مَنْصُوبَة بِأَنَّهَا مفعول: لَا أَدْرِي، وَيجوز أَن يكون انتصابها: بقالت، سَوَاء كَانَت: أَي، مَوْصُولَة أَو استفهامية. وَيجوز أَن تكون من شريطة التَّفْسِير بِأَن يشْتَغل: قَالَت، بضميره الْمَحْذُوف. قَوْله: (يُقَال) بَيَان لقَوْله: (تفتنون) وَلِهَذَا ترك العاطف بَين الْكَلَامَيْنِ. قَوْله: (مَا علمك) ؟ جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَأَما الْمُؤمن) كلمة: أما، للتفصيل تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِي جوابها الْفَاء، وَهُوَ قَوْله: (فَيَقُول: هُوَ مُحَمَّد) . قَوْله: (أَو الموقن) شكّ من الرواي، وَهِي: فَاطِمَة. قَوْله: (لَا أَدْرِي أَيهمَا قَالَت أَسمَاء) جملَة مُعْتَرضَة، أَيْضا. قَوْله: (هُوَ مُحَمَّد) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَكَذَلِكَ قَوْله: (هُوَ رَسُول الله) . قَوْله: (جَاءَنَا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ جَاءَنَا. قَوْله: (فأجبنا) ، عطف على: جَاءَنَا. وَقَوله: (وَاتَّبَعنَا) عطف على: (اجبنا) . قَوْله: (هُوَ مُحَمَّد) مُبْتَدأ وَخبر. قَوْله: (ثَلَاثًا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: يَقُول الْمُؤمن: هُوَ مُحَمَّد. قَوْله: (قولا ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، مرَّتَيْنِ بِلَفْظ مُحَمَّد، وَمرَّة بِصفتِهِ وَهُوَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. لَا يُقَال: إِذا قَالَ هَذَا الْمَذْكُور أَي مَجْمُوعه ثَلَاثًا يلْزم أَن يكون هُوَ مُحَمَّد مقولاً تسع مَرَّات، وَلَيْسَ كَذَلِك، لأَنا نقُول لفظ ثَلَاثًا ذكر للتَّأْكِيد الْمَذْكُور، فَلَا يكون الْمَقُول إلاَّ ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (فَيُقَال) عطف على قَوْله: فَيَقُول. قَوْله: (نم صَالحا) جملَة وَقعت مقول القَوْل، و: صَالحا، نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: نم، وَهُوَ أَمر من نَام ينَام. قَوْله: (إِن كنت) كلمة: إِن، هَذِه هِيَ المخففة من الثَّقِيلَة، أَي: إِن الشَّأْن كنت، وَهِي مَكْسُورَة، وَدخلت اللَّام فِي قَوْله: (لموقنا) لتفرق بَين: أَن، هَذِه وَبَين: إِن النافية، هَذَا قَول الْبَصرِيين. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِن، بِمَعْنى: مَا. و: اللَّام، بِمَعْنى: إلاَّ، مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} (الطارق: 4) أَي: مَا كل نفس إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ. وَيكون التَّقْدِير هَهُنَا: مَا كنت إلاَّ موقنا. وَحكى السفاقسي فتح: إِن، على جعلهَا مَصْدَرِيَّة، أَي علمنَا كونك موقناً بِهِ. وَيرد مَا قَالَه دُخُول اللَّام. قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق) عطف على قَوْله: (فَأَما الْمُؤمن) وَقَوله: (فَيَقُول: لَا أَدْرِي) جَوَاب: أما، ومفعوله مَحْذُوف. أَي: لَا أَدْرِي مَا أَقُول. قَوْله: (يَقُولُونَ) ، حَال من: النَّاس، و: شَيْئا، مَفْعُوله. قَوْله: (فقلته) ، عطف على: يَقُولُونَ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَا شَأْن النَّاس؟) أَي: قَائِمين مضطربين فزعين. قَوْله: (فَأَشَارَتْ) أَي: عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، إِلَى السَّمَاء، تَعْنِي: انكسفت الشَّمْس فَإِذا النَّاس قيام أَي لصَلَاة الْكُسُوف، وَالْقِيَام جمع قَائِم كالصيام جمع صَائِم. قَوْله: (آيَة) : عَلامَة لعذاب النَّاس كَأَنَّهَا مُقَدّمَة لَهُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفاً} (الْإِسْرَاء: 59) أَو عَلامَة لقرب زمَان الْقِيَامَة وأمارة من أماراتها، أَو عَلامَة لكَون الشَّمْس مخلوقة دَاخِلَة تَحت النَّقْص، مسخرة لقدرة الله تَعَالَى لَيْسَ لَهَا سلطنة على غَيرهَا، بل لَا قدرَة لَهَا على الدّفع عَن نَفسهَا. فَإِن قلت: ماتقول فِيمَا قَالَ أهل الْهَيْئَة: إِن الْكُسُوف سَببه حيلولة الْقَمَر بَينهَا وَبَين الأَرْض؟ فَلَا يرى حينئذٍ إلاَّ لون الْقَمَر وَهُوَ كمد لَا نور لَهُ، وَذَاكَ لَا يكون إلاَّ فِي آخر الشَّهْر عِنْد كَون النيرين فِي إِحْدَى عقدتي الرَّأْس والذنب، وَله آثَار فِي الأَرْض، هَل جَازَ القَوْل بِهِ أم لَا؟ قلت: الْمُقدمَات كلهَا مَمْنُوعَة، وَلَئِن سلمنَا، فَإِن كَانَ غرضهم أَن الله تَعَالَى أجْرى سنته بذلك، كَمَا أجْرى باحتراق الْحَطب الْيَابِس عِنْد مساس النَّار لَهُ فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَ غرضهم أَنه وَاجِب عقلا، وَله تَأْثِير بِحَسب ذَاته فَهُوَ بَاطِل،(2/96)
لما تقرر أَن جَمِيع الْحَوَادِث مستندة إِلَى إِرَادَة الله تَعَالَى ابْتِدَاء، وَلَا مُؤثر فِي الْوُجُود إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله: (وَأثْنى عَلَيْهِ) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن الثَّنَاء أَعم من الْحَمد، وَالشُّكْر والمدح أَيْضا ثَنَاء. قَوْله: (مَا من شَيْء لم أكن أريته إِلَّا رَأَيْته) قَالَ الْعلمَاء: يحْتَمل أَن يكون قد رأى رُؤْيَة عين، بِأَن كشف الله تَعَالَى لَهُ مثلا عَن الْجنَّة وَالنَّار، وأزال الْحجب بَينه وَبَينهمَا، كَمَا فرج لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى حِين وَصفه بِمَكَّة للنَّاس. وَقد تقرر فِي علم الْكَلَام أَن الرُّؤْيَة أَمر يخلقه الله تَعَالَى فِي الرَّائِي، وَلَيْسَت مَشْرُوطَة بِمُقَابلَة وَلَا مُوَاجهَة وَلَا خُرُوج شُعَاع وَغَيره، بل هَذِه شُرُوط عَادِية جَازَ الانفكاك عَنْهَا عقلا وَأَن يكون رُؤْيَة علم ووحي باطلاعه وتعريفه من أمورهما تَفْصِيلًا مَا لم يعرفهُ قبل ذَلِك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيجوز على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى مثل لَهُ الْجنَّة وَالنَّار وصورهما لَهُ فِي الْحَائِط، كَمَا تمثل المرئيات فِي الْمرْآة. ويعضده مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس فِي الْكُسُوف، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْجنَّة وَالنَّار ممثلتين فِي قبْلَة هَذَا الْجِدَار) . وَفِي مُسلم: (إِنِّي صورت لي الْجنَّة وَالنَّار فرأيتهما بدور هَذَا الْحَائِط) . وَلَا يستبعد هَذَا من حَيْثُ إِن الانطباع كَمَا فِي الْمرْآة إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْسَام الصقيلة، لأَنا نقُول: إِن ذَلِك الشَّرْط عادي لَا عَقْلِي، وَيجوز أَن تنخرق الْعَادة خُصُوصا للنبوة، وَلَو سلم أَن تِلْكَ الْأُمُور عقلية لجَاز أَن تُوجد تِلْكَ الصُّور فِي جسم الْحَائِط، وَلَا يدْرك ذَلِك إلاَّ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ: وَالْأول أولى وأشبه بِأَلْفَاظ الْأَحَادِيث، لقَوْله فِي بعض الْأَحَادِيث: (فتناولت مِنْهَا عنقوداً) وتأخره مَخَافَة أَن يُصِيبهُ النَّار. قَوْله: (مَا علمك) ، الْخطاب فِيهِ للمقبور بِدَلِيل قَوْله: (إِنَّكُم تفتنون فِي قبوركم) ، وَلكنه عدل عَن خطاب الْجمع إِلَى خطاب الْمُفْرد، لِأَن السُّؤَال عَن الْعلم يكون لكل وَاحِد بِانْفِرَادِهِ واستقلاله. قيل: قد يتَوَهَّم أَن فِيهِ التفاتاً، لِأَنَّهُ انْتِقَال من جمع الْخطاب إِلَى مُفْرد الْخطاب، كَمَا قَالَ المرزوقي فِي شرح (الحماسة) فِي قَوْله:
(أحمى أباكن يَا ليلى الأماديح)
إِنَّه الْتِفَات، وكما فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: 1) قلت: الْجُمْهُور من أهل الْمعَانِي على خلاف ذَلِك، وَلَا يُسمى هَذَا التفاتاً إلاَّ على قَول من يَقُول: إِن الِالْتِفَات هُوَ انْتِقَال من صِيغَة إِلَى صِيغَة أُخْرَى، سَوَاء كَانَ من الضمائر بَعْضهَا إِلَى بعض، أَو من غَيرهَا، وَالتَّفْسِير الْمَشْهُور أَن الِالْتِفَات هُوَ التَّعْبِير عَن معنى بطرِيق من الطّرق الثَّلَاثَة بعد التَّعْبِير عَنهُ بطرِيق آخر من الطّرق الثَّلَاثَة، وَهِي التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة. أما الشّعْر فَإِن فِيهِ تَخْصِيص الْخطاب بعد التَّعْمِيم لكَون الْمَقْصُود الْأَعْظَم هُوَ خطاب ليلى، وَأما الْآيَة فقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: خص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالنداء، وَعم بِالْخِطَابِ لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَام أمته وقدوتهم، كَمَا يُقَال لرئيس الْقَوْم وَكَبِيرهمْ: يَا فلَان افعلوا كَيْت وَكَيْت، إِظْهَارًا لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وَأَنه مَدَرَة قومه ولسانهم، وَالَّذِي يصدر عَنْهُم رَأْيه وَلَا يستبدون بِأَمْر دونه، فَكَانَ هُوَ وَحده فِي حكم كلهم وساداً مسد جَمِيعهم. قَوْله: (بِهَذَا الرجل) أَي: بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَإِنَّمَا لم يقل: بِي، لِأَنَّهُ حِكَايَة عَن قَول الْمَلَائِكَة للمقبور. وَالْقَائِل هما الْملكَانِ السائلان المسميان بمنكر وَنَكِير. فَإِن قلت: لِمَ لَا يَقُولَانِ رَسُول الله؟ قلت: لِئَلَّا يَتَلَقَّن المقبور مِنْهُمَا إكرام الرَّسُول وَرفع مرتبته فيعظمه تقليداً لَهما لَا اعتقاداً. قَوْله: (أَو الموقن) أَي: الْمُصدق بنبوة مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو الموقن بنبوته. قَوْله: (جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أَي: بالمعجزات الدَّالَّة على نبوته، و: الْهدى، أَي: الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية أَو الْإِرْشَاد إِلَى الطَّرِيق الْحق الْوَاضِح. قَوْله: (فأجبنا) أَي: قبلنَا نبوته معتقدين حقيتها معترفين بهَا، واتبعناه فِيمَا جَاءَ بِهِ إِلَيْنَا. وَيُقَال: الْإِجَابَة تتَعَلَّق بِالْعلمِ والاتباع بِالْعَمَلِ. قَوْله: (صَالحا) أَي: مُنْتَفعا بأعمالك وأحوالك، إِذْ الصّلاح كَون الشَّيْء فِي حد الِانْتِفَاع. وَيُقَال: لَا روع عَلَيْك مِمَّا يروع بِهِ الْكفَّار من عرضهمْ على النَّار أَو غَيره من عَذَاب الْقَبْر، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ صَالحا لِأَن تكرم بنعيم الْجنَّة. قَوْله: (إِن كنت لموقنا) قَالَ الدَّرَاورْدِي: مَعْنَاهُ أَنَّك مُؤمن، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: 110) أَي: أَنْتُم. قَالَ القَاضِي: وَالْأَظْهَر أَنه على بَابهَا، وَالْمعْنَى: أَنَّك كنت مُؤمنا. يكون مَعْنَاهُ: إِن كنت مُؤمنا فِي علم الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله: {كُنْتُم خير أمه} (آل عمرَان: 110) أَي: فِي علم الله. قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق) أَي: غير الْمُصدق بِقَلْبِه لنبوته، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الْمُؤمن. قَوْله: (والمرتاب) أَي: الشاك، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الموقن. وَهَذَا اللَّفْظ يشْتَرك فِيهِ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفرق بِالْقَرِينَةِ، وَأَصله: مرتيب، بِفَتْح الْيَاء فِي الْمَفْعُول، وَكسرهَا فِي الْفَاعِل من الريب، وَهُوَ الشَّك. قَوْله: (فقلته) أَي: قلت مَا كَانَ النَّاس يَقُولُونَهُ، وَفِي بعض النّسخ بعده: وَذكر الحَدِيث إِلَى آخِره، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات الْأُخَر أَنه يُقَال: (لَا دَريت وَلَا تليت، وَيضْرب بمطارق من حَدِيد ضَرْبَة فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا من يَلِيهِ غير الثقلَيْن) . نسْأَل الله الْعَافِيَة.(2/97)
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ كَون الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتين الْيَوْم، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة، وَيدل عَلَيْهِ الْآيَات وَالْأَخْبَار المتواترة، مثل قَوْله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 22، طه: 121) وَقَوله: {عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى عِنْدهَا جنَّة المأوى} (النَّجْم: 15) : {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 133) إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات، وتواتر الْأَخْبَار فِي قصَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الْجنَّة ودخوله إِيَّاهَا وَخُرُوجه مِنْهَا، ووعده الرَّد إِلَيْهَا، كل ذَلِك ثَابت بِالْقطعِ. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: أنكر طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة خلقهما قبل يَوْم الْحساب وَالْعِقَاب، وَقَالُوا: لَا فَائِدَة فِي خلقهما قبل ذَلِك، وحملوا قصَّة آدم على بُسْتَان من بساتين الدُّنْيَا. قَالَ: وَهَذَا بَاطِل وتلاعب بِالدّينِ وانسلال عَن إِجْمَاع الْمُسلمين. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: الْجنَّة مخلوقة مهيأة بِمَا فِيهَا، سقفها عرش الرَّحْمَن وَهِي خَارِجَة من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض، وكل مَخْلُوق يفنى ويجدد أَو لَا يجدد إلاَّ الْجنَّة وَالنَّار، وَلَيْسَ للجنة سَمَاء إلاَّ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. يَعْنِي قَوْله: (وسقفها عرش الرَّحْمَن) ، وَلها ثَمَانِيَة أَبْوَاب. وَرُوِيَ: أَنَّهَا كلهَا مغلقة إلاَّ بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا. وَأما من قَالَ بِأَن قَوْله: {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} (آل عمرَان: 133) يدل على أَنَّهَا مخلوقة فَغير مُسْتَقِيم لما تقدم من أَنَّهَا فِي عَالم آخر، وَالْمعْنَى: عرضهَا كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض، كَمَا جَاءَ فِي مَوضِع آخر فَحذف هَهُنَا. وَسَأَلت الْيَهُود عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن هَذِه الْآيَة، وَقَالُوا: أَيْن تكون النَّار؟ فَقَالَ لَهُم عمر، رَضِي الله عَنهُ: أَرَأَيْتُم إِذا جَاءَ اللَّيْل، فَأَيْنَ يكون النَّهَار؟ وَإِذا جَاءَ النَّهَار فَأَيْنَ يكون اللَّيْل؟ فَقَالُوا لَهُ: لقد نزعت مِمَّا فِي التَّوْرَاة. وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ: تقرن السَّمَوَات السَّبع والأرضون السَّبع كَمَا تقرن الثِّيَاب بَعْضهَا بِبَعْض، فَذَلِك عرض الْجنَّة، وَلَا يصف أحد طولهَا لاتساعه. وَقيل: عرضهَا سعتها، وَلم يرد الْعرض الَّذِي هُوَ ضد الطول، وَالْعرب تَقول: ضربت فِي أَرض عريضة، أَي: وَاسِعَة. الثَّانِي: فِيهِ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر مَعَ غَيره من الْأَدِلَّة، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وإحياء الْمَيِّت. قَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بذلك، وباستعاذة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَذَاب الْقَبْر. الثَّالِث: فِيهِ سُؤال مُنكر وَنَكِير، وهما ملكان يرسلهما الله تَعَالَى يسألان الْمَيِّت عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الرَّابِع: فِيهِ خُرُوج الدَّجَّال. الْخَامِس: فِيهِ أَن الرُّؤْيَة لَيست مَشْرُوطَة بِشَيْء عقلا من المواجهة وَنَحْوهَا، وَوُقُوع رُؤْيَة الله تَعَالَى لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن من ارتاب فِي صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة رسَالَته فَهُوَ كَافِر. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز التَّخْصِيص بالمخصصات الْعَقْلِيَّة والعرفية. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز وُقُوع الْفِعْل مُسْتَثْنى صُورَة. الثَّامِن: فِيهِ تعدد المضافين لفظا إِلَى مُضَاف وَاحِد. التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز إِظْهَار حرف الْجَرّ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ. الْعَاشِر: فِيهِ سنية صَلَاة الْكُسُوف وَتَطْوِيل الْقيام فِيهَا. الْحَادِي عشر: فِيهِ مَشْرُوعِيَّة هَذِه الصَّلَاة للنِّسَاء أَيْضا. الثَّانِي عشر: فِيهِ جَوَاز حضورهن وَرَاء الرِّجَال فِي الْجَمَاعَات. الثَّالِث عشر: فِيهِ جَوَاز السُّؤَال من الْمُصَلِّي. الرَّابِع عشر: فِيهِ امْتنَاع الْكَلَام فِي الصَّلَاة. الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْإِشَارَة، وَلَا كَرَاهَة فِيهَا إِذا كَانَ لحَاجَة. السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي الصَّلَاة، وَإنَّهُ لَا يُبْطِلهَا. السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز التَّسْبِيح للنِّسَاء فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت: لَهُنَّ التصفيح لَا التَّسْبِيح إِذا نابهن شَيْء. قلت: الْمَقْصُود من تَخْصِيص التصفيح بِهن أَن لَا يسمع الرِّجَال صوتهن، وَفِيمَا نَحن فِيهِ الْقِصَّة جرت بَين الْأُخْتَيْنِ، أَو التصفيح هُوَ الأولى لَا الْوَاجِب. الثَّامِن عشر: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْخطْبَة بعد صَلَاة الْكُسُوف. التَّاسِع عشر: فِيهِ أَن الْخطْبَة يكون أَولهَا التَّحْمِيد وَالثنَاء على الله، عز وَجل. الْعشْرُونَ: قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ أَن الغشي لَا ينْقض الْوضُوء مَا دَامَ الْعقل بَاقِيا.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا ماقيل: إِن لَفْظَة الشَّيْء فِي قَوْله: (مَا من شَيْء) أَعم الْعَام، وَقد وَقع نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي أَيْضا، وَلَكِن بعض الْأَشْيَاء مِمَّا لَا يَصح رُؤْيَته. أُجِيب: بِأَن الْأُصُولِيِّينَ قَالُوا: مَا من عَام إلاَّ وَقد خص، إلاَّ: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} (الْبَقَرَة: 231 و 282، النِّسَاء: 176، الْمَائِدَة: 97، الْأَنْفَال: 75، التَّوْبَة: 115، النُّور: 35 و 64، الحجرات: 16، المجادلة: 7، التغابن: 11) والمخصص قد يكون عقلياً أَو عرفياً، فخصصه الْعقل بِمَا صَحَّ رُؤْيَته، وَالْعرْف بِمَا يَلِيق أَيْضا بِأَنَّهُ مِمَّا يتَعَلَّق بِأَمْر الدّين وَالْجَزَاء وَنَحْوهمَا. وَمِنْهَا مَا قيل: هَل فِيهِ دلَالَة على أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِي هَذَا الْمقَام ذَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ أُجِيب: نعم، إِذْ: الشَّيْء يتَنَاوَلهُ وَالْعقل لَا يمنعهُ وَالْعرْف لَا يَقْتَضِي إِخْرَاجه. وَمِنْهَا مَا قيل: من أَيْن علم الغشي وصب المَاء كَانَا فِي الصَّلَاة. أُجِيب: بِأَنَّهُ من حَيْثُ جعل ذَلِك مقدما على الْخطْبَة، وَالْخطْبَة متعقبة للصَّلَاة لَا وَاسِطَة بَينهمَا بِدَلِيل الْفَاء فِي: فَحَمدَ الله تَعَالَى. وَمِنْهَا مَا قيل: هَذَانِ فعلان يفسدان الصَّلَاة. أُجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على أَنه لم تكن أفعالها مُتَوَالِيَة، وإلاَّ بطلت الصَّلَاة.(2/98)
25 - (بَاب تحْرِيضِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ عَلَى أنْ يَحْفَظُوا الإِيمانَ والعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والتحريض، بالضاد الْمُعْجَمَة، على الشَّيْء: الْحَث عَلَيْهِ. قَالَ الْكرْمَانِي: والتحريص، بِالْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَاهُ أَيْضا. وَقَالَ بَعضهم: من قَالَهَا بِالْمُهْمَلَةِ فقد صحف. قلت: إِذا كَانَ كِلَاهُمَا يسْتَعْمل فِي معنى وَاحِد لَا يكون تصحيفاً، فَإِن أنكر هَذَا الْقَائِل اسْتِعْمَال الْمُهْملَة بِمَعْنى الْمُعْجَمَة فَعَلَيهِ الْبَيَان. والوفد: هم الَّذين يقدمُونَ أَمَام النَّاس، جمع: وَافد، وَعبد الْقَيْس قَبيلَة. وَقد مر تَفْسِير أَكثر مَا فِي هَذَا الْبَاب فِي: بَاب أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وهما غَالِبا لَا يخلوان عَن التحريض لِأَنَّهُمَا تَعْلِيم وَتعلم، وَمن شَأْنهمَا التحريض.
وَقَالَ مالِكُ بنُ الحُوَيْرِثِ: قَالَ لنا النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ارْجِعُوا إِلَى أهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ) .
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث مَشْهُور أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة وَالْأَدب وَخبر الْوَاحِد كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه مُسلم أَيْضا. الثَّانِي: أَن مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث، بِالْمُثَلثَةِ: ابْن حشيش، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة المكررة، وَقيل: بِضَم الْحَاء، وَقيل: بِالْجِيم: ابْن عَوْف بن جندع اللَّيْثِيّ، يكنى أَبَا سُلَيْمَان، قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سِتَّة من قومه فَأسلم وَأقَام عِنْده أَيَّامًا، ثمَّ أذن لَهُ فِي الرُّجُوع إِلَى أَهله، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث. وَهَذَا أحد الْحَدِيثين الْمُتَّفق عَلَيْهِ، وَالْآخر فِي: الرّفْع وَالتَّكْبِير. نزل الْبَصْرَة وَتُوفِّي بهَا سنة أَربع وَتِسْعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: قَوْله: (إِلَى أهليكم) جمع الْأَهْل، وَهُوَ يجمع مكسراً نَحْو: الأهال والأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون. نَحْو: الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. الرَّابِع: فعلموهم، وَفِي بعض النّسخ: فعظوهم.
87 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ قَالَ: حدّثنا عُنْدَرٌ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أتَرْجِمُ بَيْنَ ابنِ عَبَّاسٍ وبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ أَتُوا النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (مَنِ الوَفْدُ؟ أوْ: مَنِ القَوْمُ قالُوا: رَبِيعَةُ. فَقَالَ: (مَرْحَباً بالْقوْمِ) أوْ: بِالوَفْدِ (غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى) . قالُوا: إِنَّا نَأتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ وبَيْننَا وَبيْنَك هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَلَا نَسْتَطِيعُ أنْ نَأْتِيَكَ إلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنا بأمْرٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنا نَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. فأمَرَهُمْ بأرْبَعٍ ونَهاهُمْ عَنْ أرْبَعٍ، أمَرَهُمْ باْلإِيمان بِاللَّه عَزَّ وجَلَّ وحْدَهُ. قَالَ: (هَلْ تَدرُونَ مَا الإِيمانُ بِاللَّه وحْدَهُ؟) قالُوا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: (شَهادَةُ أنْ لَا إِلاهَ إِلاَّ الله وأنّ مُحمَّداً رسولُ الله، وإِقامُ الصَّلاةِ، وإِيتاءُ الزَّكاةِ، وَصَوْمُ رَمَضانَ، وتُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المغْنَم) ونَهَاهُمْ عنِ الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ والمُزَفَّتِ قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّما قَالَ: النَّقِيرِ، وَرُبَّما قالَ: المُقَيَّرِ. قَالَ: (احْفَظُوهُ وأخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا جَمِيعًا، وغندر اسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو جَمْرَة بِالْجِيم اسْمه نصر بن عمرَان، وَهَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي تِسْعَة مَوَاضِع قد ذَكرنَاهَا فِي بَاب: أَدَاء الْخمس من الْإِيمَان، أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، وَهَذَا ثَانِي الْمَوَاضِع عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة، فلنتكلم هَهُنَا على الْأَلْفَاظ الَّتِي لَيست هُنَاكَ.
فَقَوله: (كنت أترجم) أَي: اعبر للنَّاس مَا أسمع من ابْن عَبَّاس، وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (قَالُوا: ربيعَة) إِنَّمَا قَالُوا: نَحن ربيعَة، لِأَن عبد الْقَيْس من أَوْلَاده، وَمَا قَالَ التَّيْمِيّ من قَوْله، لِأَن ربيعَة بطن من عبد الْقَيْس، فَهُوَ سَهْو مِنْهُ. قَوْله: (من شقة بعيدَة) ، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ السّفر الْبعيد، وَرُبمَا قَالُوهُ بِكَسْرِهَا. وَفِي (الْعباب) : الشق، بِالضَّمِّ: الْبعد. قَالَ تَعَالَى: {بَعدت عَلَيْهِم الشقة} (التَّوْبَة: 42) وَقَالَ ابْن عَرَفَة: أَي النَّاحِيَة الَّتِي تَدْنُو إِلَيْهَا. قَالَ الْفراء: وَجَمعهَا شقق، وَحكي عَن بعض قيس: شقق. وَقَالَ البرندي: إِن فلَانا(2/99)
لبعيد الشقة، أَي: بعيد السّفر، قَوْله: (ندخل بِهِ الْجنَّة) ، وَقع هُنَا بِغَيْر الْوَاو، وَهُنَاكَ بِالْوَاو، وَيجوز فِيهِ الرّفْع والجزم، أما الرّفْع فعلى أَنه حَال أَو اسْتِئْنَاف أَو بدل أَو صفة بعد صفة. وَأما الْجَزْم فعلى أَنه جَوَاب الْأَمر. فَإِن قلت: الدُّخُول لَيْسَ هَيْئَة لَهُم فَكيف يكون حَالا؟ قلت: حَال مقدرَة: وَالتَّقْدِير: نخبر مقدرين دُخُول الْجنَّة، وَفِي بعض النّسخ: نخبر، بِالْجَزْمِ أَيْضا، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة: تدخل، بدل مِنْهُ، أَو هُوَ جَوَاب لِلْأَمْرِ بعد جَوَاب. قَوْله: (وتعطوا) كَذَا وَقع بِدُونِ النُّون، لِأَنَّهُ مَنْصُوب بِتَقْدِير: أَن، لِأَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ اسْم، وروى أَحْمد عَن غنْدر، فَقَالَ: (وَأَن تعطوا) ، فَكَأَن الْحَذف من شيخ البُخَارِيّ. قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) وَرُبمَا قَالَ: أَي أَبُو جَمْرَة النقير، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف: وَهُوَ الْجذع المنقور. قَوْله: (وَرُبمَا قَالَ. المقير) أَي: وَرُبمَا قَالَ أَبُو جَمْرَة. المقير. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَإِذا قَالَ المقير يلْزم التّكْرَار، لِأَنَّهُ هُوَ المزفت. قلت: حَيْثُ قَالُوا: المزفت هُوَ المقير تجوزوا، إِذْ الزفت هُوَ شَيْء يشبه القار. انْتهى. قلت: تَحْرِير هَذَا الْموضع أَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه كَانَ يتَرَدَّد فِي هَاتين اللفظتين ليثبت إِحْدَاهمَا دون الْأُخْرَى لِأَنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير يلْزم التّكْرَار الْمَذْكُور، بل المُرَاد أَنه كَانَ جَازِمًا بِذكر الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الأول، شاكاً فِي الرَّابِع، وَهُوَ: النقير، فَكَانَ تَارَة يذكرهُ وَتارَة لَا يذكرهُ، وَكَانَ أَيْضا شاكاً فِي التَّلَفُّظ بالثالث: أَعنِي: المزفت، فَكَانَ تَارَة يَقُول: المزفت، وَتارَة يَقُول: المقير، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه جزم بالنقير فِي الْبَاب السَّابِق، وَلم يتَرَدَّد إلاَّ فِي المزفت والمقير فَقَط. قَوْله: (واخبروا) بِفَتْح الْهمزَة بِدُونِ الضَّمِير فِي آخِره فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَعند غَيره: (وَأَخْبرُوهُ) بالضمير.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن من علم علما أَنه يلْزمه تبليغه لمن لَا يُعلمهُ، وَهُوَ الْيَوْم من فروض الْكِفَايَة لظُهُور الْإِسْلَام وانتشاره، وَأما فِي أول الْإِسْلَام فَإِنَّهُ كَانَ فرضا معينا أَن يبلغهُ حَتَّى يكمل الْإِسْلَام ويبلغ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، وَفِيه أَنه يلْزم تَعْلِيم أهل الْفَرَائِض لعُمُوم لفظ: (من وراءكم) ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
26 - (بَاب الرِّحْلةِ فِي المَسْألَةِ النَّازِلِةِ وتَعْلِيمِ أهْلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرحلة، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء: الارتحال، من: رَحل يرحل إِذا مضى فِي سفر، ورحلت الْبَعِير أرحله رحلاً: إِذا شددت عَلَيْهِ الرحل، وَهُوَ للبعير أَصْغَر من القتب، وَهُوَ من مراكب الرِّجَال دون النِّسَاء. وَقَالَ بَعضهم: الرحلة، بِالْكَسْرِ، من الارتحال. قلت: الْمصدر لَا يشتق من الْمصدر وَقَالَ ابْن قرقول: الرحلة، بِكَسْر الرَّاء، ضبطناه عَن شُيُوخنَا، وَمَعْنَاهُ: الارتحال. وَحكى أَبُو عُبَيْدَة ضمهَا قلت: الرحلة بِالضَّمِّ، الْوَجْه الَّذِي تريده. قَالَ: أَبُو عَمْرو: يُقَال أَنْتُم رحلتي أَي: الَّذِي ارتحل إِلَيْهِم. وَقَالَ الْأمَوِي: الرحلة، بِالضَّمِّ: جودة الشَّيْء. وَفِي (الْعباب) : بعير مرحل، بِكَسْر الْمِيم، و: ذُو رحْلَة إِذا كَانَ قَوِيا على السّير، قَالَه الْفراء. قَوْله: (وَتَعْلِيم أَهله) ، بِالْجَرِّ عطف على الرحلة، وَهَذَا اللَّفْظ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة غَيرهَا، وَالصَّوَاب حذفه لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي بَاب آخر.
فَإِن قلت: قد تقدم: بَاب الْخُرُوج فِي طلب الْعلم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا بِهَذَا الْمَعْنى، فَيكون تَكْرَارا. قلت: لَيْسَ بتكرار بل بَينهمَا فرق، لِأَن هَذَا لطلب الْعلم فِي مَسْأَلَة خَاصَّة وَقعت للشَّخْص وَنزلت بِهِ، وَذَاكَ لَيْسَ كَذَلِك. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول التحريض على الْعلم، والمحرض من شدَّة تحرضه قد يرحل إِلَى الْمَوَاضِع لطلب الْعلم، وَلَا سِيمَا لنازلة تنزل بِهِ.
88 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ قَالَ: أخْبرنا عَبْدُ اللَّهِ قالَ: أخْبرنا عُمَرُ بنُ سَعِيدِ بن أبي حُسَيْنٍ قَالَ: حدّثني عَبْدُ اللَّهِ بنُ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ ابنَةً لأبي إِهابِ بنِ عَزِيزِ، فَأتَتْهُ امْرَأةٌ فَقالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرضَعْتُ عُقْبَةَ والَّتِي تَزَوَّجَ، فقالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أعْلَمُ أنَّكِ أرْضَعْتِنِي وَلا أخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إِلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمَدِينَة فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَيْفَ وقَدْ قِيلَ) . فَفارَقَها عُقْبَةُ ونَكَحَتْ زَوْجاً غَيَرَهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (فَركب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق قَوْله: (وَتَعْلِيم أَهله)(2/100)
فَلهَذَا قُلْنَا: وَالصَّوَاب حذفه، لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي بَاب آخر.
بَيَان رِجَاله: وهم خسمة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: عبد اللَّه بن الْمُبَارك الْمروزِي، وَقد تقدم: الثَّالِث: عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن النَّوْفَلِي الْمَكِّيّ، روى عَن طَاوس وَعَطَاء وعدة، وَعنهُ يحيى الْقطَّان وروح وَخلق، وَهُوَ ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَأَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل، وَهُوَ ابْن عَم عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن. الرَّابِع: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: زُهَيْر بن عبد اللَّه التَّيْمِيّ الْقرشِي الْأَحول الْمَكِّيّ، وَقد تقدم. الْخَامِس: عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْحَارِث بن عَامر بن عدي بن نَوْفَل بن عبد منَاف الْقرشِي الْمَكِّيّ، أَبُو سروعة بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَحكى فتحهَا، أسلم يَوْم الْفَتْح وَسكن مَكَّة، هَذَا قَول أهل الحَدِيث. وَأما جُمْهُور أهل النّسَب فَيَقُولُونَ: عقبَة هَذَا هُوَ أَخُو أبي سروعة، وأنهما أسلما جَمِيعًا يَوْم الْفَتْح. وَقَالَ الزبير بن بكار: وَأَبُو سروعة هُوَ قَاتل حبيب بن عدي، أخرج لعقبة البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا، روى لَهُ البُخَارِيّ ثَلَاثَة أَحَادِيث فِي الْعلم وَالْحُدُود وَالزَّكَاة عَن ابْن أبي مليكَة عَنهُ أَحدهَا هَذَا، وَأخرجه مَعَه هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي رُوَاته مروزيان وَثَلَاثَة مكيون. وَمِنْهَا: أَن هَذَا من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن مُسلم، وَانْفَرَدَ عَنهُ أَيْضا بعقبة بن الْحَارِث. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: ابْن أبي ملكية لم يسمع من عقبَة، بَينهمَا عبيد بن أبي مَرْيَم، فعلى هَذَا يكون الْإِسْنَاد مُنْقَطِعًا. قلت: هَذَا سَهْو مِنْهُ، وَسَيَجِيءُ فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب شَهَادَة الْمُرضعَة، أَن ابْن أبي ملكية قَالَ: حَدثنَا عبيد بن أبي مَرْيَم عَن عقبَة بن الْحَارِث. قَالَ: وسمعته من عقبَة، لكني لحَدِيث عبيد أحفظ، فَهَذَا صَرِيح فِي سَمَاعه من عقبَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن أبي عَاصِم كِلَاهُمَا عَن عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن، وَفِي الْبيُوع فِي: بَاب تَفْسِير الشَّهَادَات، عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الثَّوْريّ عَن عبد اللَّه بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن، وَفِي الشَّهَادَات عَن عَليّ عَن يحيى بن أبي سعي عَن ابْن جريج، ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن أبي مليكَة عَن عقبَة بِهِ، وَفِي النِّكَاح عَن عَليّ عَن إِسْمَاعِيل بن عَليّ عَن أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبيد بن أبي مَرْيَم عَن عقبَة، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَعَن أَحْمد بن شُعَيْب الْحَرَّانِي عَن الْحَارِث بن عُمَيْر الْبَصْرِيّ عَن أَيُّوب بِهِ، وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عقبَة بن الْحَارِث بِهِ. قَالَ ابْن أبي مليكَة: وحدثنيه صَاحب لي عَنهُ، وَأَنا لحَدِيث صَاحِبي أحفظ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرَّضَاع عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح، عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَفِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن أبان وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد ابْن الْحَارِث عَن ابْن جريج بِهِ، وَفِيه وَفِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن يُونُس عَن عمر بن سعيد بِهِ.
بَيَان مَا فِيهِ من اللُّغَة وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (ارضعت) مزِيد: رضع الصَّبِي أمه يرضعها رضَاعًا، مثل: سمع يسمع سَمَاعا، وَأهل نجد يَقُولُونَ: رضع يرضع رضعاً، مِثَال: ضرب يضْرب ضربا، وَكَذَلِكَ الرَّضَاع وَالرضَاعَة. قَالَ الله تَعَالَى: {أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 233) وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَة وَأَبُو رَجَاء والجارود وَابْن أبي عبلة: (أَن يتم الرضَاعَة) ، بِكَسْر الرَّاء. قَالَ فِي (الْعباب) : قَالُوا: رضع الرجل، بِالضَّمِّ: رضاعة كَأَنَّهُ كالشيء يطبع عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن عباد: رضع الرجل من الرضَاعَة، بِالْفَتْح أَيْضا، مثله رضع فَهُوَ راضع ورضيع ورضاع، وَجمع الراضع: رضع، كراكع وَركع، ورضاع أَيْضا: ككافر وكفار. ثمَّ قَالَ: والتركيب يدل على شرب اللَّبن من الضَّرع أَو الثدي. قَوْله: (تزوج ابْنة) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (لأبي إهَاب) صفة ابْنة. قَوْله: (فَاتَتْهُ أمْرَأَة) عطف على تزوج. قَوْله: (عقبَة) بِالنّصب مفعول: أرضعت. قَوْله: (وَالَّتِي تزوج بهَا) عطف على: عقبَة. قَوْله: (مَا أعلم) جملَة منفية من الْفِعْل وَالْفَاعِل. وَقَوله: (إِنَّك أرضعتني) إِن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مفعولي: أعلم. وَفِي بعض النّسخ: (ارضعتيني واخبرتيني) بِالْيَاءِ فيهمَا، الْحَاصِلَة من إشباع الكسرة. قَوْله: (وَلَا أَخْبَرتنِي) عطف على قَوْله: لَا أعلم. فَافْهَم. وَإِنَّمَا قَالَ: أعلم بِصِيغَة الْمُضَارع، و: أخْبرت، بِصِيغَة الْمَاضِي لِأَن نفي الْعلم حَاصِل فِي الْحَال بِخِلَاف نفي الْإِخْبَار فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي فَقَط. قَوْله: (بِالْمَدِينَةِ) ، يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، لَا بقوله: فَركب، ومحلها(2/101)
النصب على الْحَال، وَالتَّقْدِير: فَركب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه بِالْمَدِينَةِ، أَي فِيهَا. وَكَانَ ركُوبه من مَكَّة لِأَنَّهَا دَار إِقَامَته. قَوْله: (فَسَأَلَهُ) أَي: فَسَأَلَ عقبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الحكم فِي الْمَسْأَلَة النَّازِلَة لذاته. قَوْله: (كَيفَ؟) هُوَ ظرف يسْأَل بِهِ عَن الْحَال. قَوْله: (وَقد قيل؟) أَيْضا حَال، وهما يستدعيان عَاملا يعْمل فيهمَا، وَالتَّقْدِير: كَيفَ تباشرها وتفضي إِلَيْهَا وَقد قيل إِنَّك أَخُوهَا؟ أَي إِن ذَلِك بعيد من ذِي الْمُرُوءَة والورع. قَوْله: (عقبَة) فَاعل: فَارقهَا، قَوْله: (ونكحت) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. و: زوجا، مَفْعُوله، و: غَيره، بِالنّصب: صفته.
فِيهِ من المبهمات أَرْبَعَة: الأول: قَوْله: (ابْنة) ، قَالَ الْكرْمَانِي كنيتها أم يحيى، وَلم يعلم اسْمهَا. قلت: يعلم، وَاسْمهَا: غنية، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الثَّانِي: قَوْله: أَبُو إهَاب، بِكَسْر الْهمزَة. وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن عَزِيز، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره زَاي أَيْضا، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ: عَزِيز بِضَم الْعين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: عَزِيز، بِضَم الْمُهْملَة وبالزاي الْمَفْتُوحَة الرَّاء، وَقَالَ بَعضهم: وَمن قَالَ بِضَم أَوله فقد حرف. قلت: إِن كَانَ مُرَاده بِضَم الأول وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة فَيمكن ذَلِك، وَإِن كَانَ مُرَاده الغمز على الْكرْمَانِي فِي قَوْله: وَفِي بعض الرِّوَايَات، فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى بَيَان وَلَيْسَ نَقله أرجح من نَقله، وَأَبُو إهَاب هَذَا لَا يعرف اسْمه، وَهُوَ ابْن عَزِيز بن قيس بن سُوَيْد بن ربيعَة بن زيد بن عبد اللَّه بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، قَالَه خَليفَة، وَأمه فَاخِتَة بنت عَامر بن نَوْفَل بن عبد منَاف ابْن قصي، وَهُوَ حَلِيف لبني نَوْفَل روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى أَن يَأْكُل أَحَدنَا وَهُوَ متكىء، أخرجه أَبُو مُوسَى فِي الصَّحَابَة، وَلم يذكرهُ أَبُو عمر، وَلَا ابْن مَنْدَه. الثَّالِث: قَوْله: (فَأَتَتْهُ امْرَأَة) مَا سَمَّاهَا أحد. الرَّابِع: قَوْله: (زوجا غَيره) ، اسْمه: ظريب، بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن الْحَارِث. قَالَ بعض الشَّارِحين: ضريب بن الْحَارِث تزَوجهَا بعد عقبَة فَولدت لَهُ أم قبال، زَوْجَة جُبَير بن مطعم ومحمداً ونافعاً، وَرَأَيْت فِي مَوضِع نقل عَن خطّ الْحَافِظ الدمياطي: نَافِع بن ضريب بن عَمْرو بن نَوْفَل، وَالله أعلم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ أَن الْوَاجِب على الْمَرْء أَن يجْتَنب مَوَاقِف التهم وَإِن كَانَ نقي الذيل بَرِيء الساحة. الثَّانِي: فِيهِ الْحِرْص على الْعلم وإيثار مَا يقربهُمْ إِلَى الله تَعَالَى. قَالَ الشّعبِيّ: لَو أَن رجلا سَافر من أقْصَى الشَّام إِلَى أقْصَى الْيمن لحفظ كلمة تَنْفَعهُ فِيمَا بَقِي من عمره لم أر سَفَره يضيع. الثَّالِث: احْتج بِظَاهِرِهِ من أجَاز شَهَادَة الْمُرضعَة وَحدهَا، وَمن منع حمله على الْوَرع دون التَّحْرِيم، وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفتاه بالتحرز عَن الشُّبْهَة، وَأمره بمجانبة الرِّيبَة خوفًا من الْإِقْدَام على فرج قَامَ فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَرْأَة ارضعتهما، لكنه لم يكن قَاطعا وَلَا قَوِيا، لاجماع الْعلمَاء على أَن شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا تجوز فِي مثل ذَلِك، لَكِن أَشَارَ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأحوط. وَقَالَ غَيره: لم يَأْمُرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وَجه الْقَضَاء، وَإِنَّمَا كَانَ احْتِيَاطًا لما بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي الْبيُوع بَاب: تَفْسِير الشُّبُهَات، وَمِنْهُم من حمل حَدِيث عقبَة على الْإِيجَاب، وَقَالَ: تقبل شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة على الرَّضَاع، وَهُوَ قَول أَحْمد. ويروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن شهادتها تقبل إِذا كَانَت مُرْضِعَة، وتستحلف مَعَ شهادتها. وَقَالَ مَالك: يقبل قَوْلهَا بِشَرْط أَن يفشو ذَلِك فِي الْأَهْل وَالْجِيرَان، فَإِن شهِدت امْرَأَتَانِ شَهَادَة فَاشِية فَلَا خلاف فِي الحكم بهَا عِنْده، وَإِن شهدتا من غير فشو، أَو شهِدت وَاحِدَة مَعَ الفشو، فَفِيهِ قَولَانِ. وَمن قَالَ بِالْوُجُوب قَالَ: لَو كَانَ أمره لعقبة على الْوَرع أَو التَّنَزُّه لأَمره بِطَلَاقِهَا لتحل لغيره، وَيكون قَوْله: (كَيفَ وَقد قيل؟) على هَذَا ليهون عَلَيْهِ الْأَمر، وَيُؤَيِّدهُ تبسمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمنع أَبُو حنيفَة عَن شَهَادَة النِّسَاء متمحضات فِي الرَّضَاع. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي ففصل أَصْحَابه، وَقَالُوا: إِذا شهِدت الْمُرضعَة وَادعت مَعَ شهادتها أُجْرَة الرَّضَاع فَلَا تسمع شهادتها، لِأَنَّهَا تشهد لنَفسهَا فتتهم، وَإِن أطلقت الشَّهَادَة وَلم تدع أُجْرَة بِأَن قَالَت: أشهد أَنِّي ارضعته، فَفِيهِ خلاف عِنْدهم. مِنْهُم من قَالَ: لَا تقبل لِأَنَّهَا تشهد على فعل نَفسهَا، فَأَشْبَهت الْحَاكِم إِذا شهد على حكمه بعد الْعَزْل. وَمِنْهُم من قبلهَا، وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم، لِأَنَّهَا لَا تجر بهَا نفعا وتدفع بهَا ضِرَارًا. قلت: وَقد ظهر لَك الْخلَل فِي نقل ابْن بطال الاجماع على أَن شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا تجوز فِي الرَّضَاع وَشبهه من الَّذِي ذكرنَا، لِأَن مَذْهَب أَحْمد وَغَيره أَن شَهَادَة الْوَاحِدَة فِي كل مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال من الرَّضَاع وَغَيره تقبل، وَمِمَّا نقل عَن مَالك من شَهَادَة الْوَاحِدَة على الشياع. قلت: رُوِيَ عَن الْحسن وَإِسْحَاق أَيْضا نَحْو مَذْهَب أَحْمد، وَكَذَا قَالَ الاصطخري:(2/102)
وَإِنَّمَا يثبت بِالنسَاء المتمحضات. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يثبت الرَّضَاع بِمَا يثبت بِهِ المَال، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ، أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا تقبل شَهَادَة النِّسَاء المنفردات، لِأَن ثُبُوت الْحُرْمَة من لَوَازِم الْملك فِي بَاب النِّكَاح، ثمَّ الْملك لَا يَزُول بِشَهَادَة النِّسَاء المنفردات، فَلَا تثبت الْحُرْمَة. وَعند الشَّافِعِي: تثبت بِشَهَادَة أَربع نسْوَة. وَعند مَالك بامرأتين. وَعند أَحْمد بمرضعة. وَقَالَ التَّيْمِيّ: معنى الحَدِيث: الْأَخْذ بالوثيقة فِي بَاب الْفروج، وَلَيْسَ قَول الْمَرْأَة الْوَاحِدَة شَهَادَة تجوز بهَا الحكم فِي أصل من الْأُصُول، وَفِي: (كَيفَ وَقد قيل؟) الِاحْتِرَاز من الشُّبْهَة، وَمعنى: فَارقهَا: طَلقهَا. فَإِن قلت: النِّكَاح مَا انْعَقَد صَحِيحا على تَقْدِير ثُبُوت الرَّضَاع، والمفارقة كَانَت حَاصِلَة، فَمَا معنى فَارقهَا؟ قلت: إِمَّا أَن يُرَاد بهَا الْمُفَارقَة الصورية، أَو يُرَاد الطَّلَاق فِي مثل هَذِه الْحَالة هُوَ الْوَظِيفَة ليحل للْغَيْر نِكَاحهَا قطعا.
27 - (بَاب التَّناوُبِ فِي العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التناوب فِي الْعلم، والتناوب: تفَاعل من نَاب لي يَنُوب نوباً ومناباً، أَي: قَامَ مقَامي. وَمَعْنَاهُ: أَن تتناوب جمَاعَة لوقت مَعْرُوف يأْتونَ بالنوبة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول: الرحلة فِي طلب الْعلم. وَهِي لَا تكون إلاَّ من شدَّة الْحِرْص فِي طلب الْعلم، وَفِي التناوب أَيْضا هَذَا الْمَعْنى، لأَنهم لَا يتناوبون إلاَّ لطلب الْعلم والباعث عَلَيْهِ شدَّة حرصهم.
89 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيّ.
(ح) قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ ابنُ وهْبٍ: أخْبرنا يُونُسُ عَن ابنِ شِهابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي ثَوْرٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسِ عنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنا وجارٌ لِي مِنَ الأنْصارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ، وهْيَ مِنْ عَوالِي المَدِينَةِ، وكُنَّا نَتَناوَبُ النُّزُولَ عَلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَنْزِلُ يَوْماً وأنْزِلُ يَوْماً، فَإذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْي وغَيِرهِ، وإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذلِكَ، فَنَزَلَ صاحِبِي الأَنْصاريُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَربَ بَابي ضَرْباً شدِيداً فقالَ: أثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقالَ: قَدْ حَدثَ أمْرٌ عَظِيمٌ! قالَ: فَدَخلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإذَا هيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَتْ: لَا أدْرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْتْ وأنَا قائِمٌ: أطلَّقْتَ نِساءَكَ؟ قَالَ: (لَا) ، فَقُلْتُ: الله أكْبَرُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (كُنَّا نتناوب النُّزُول) .
بَيَان رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ أخرجهم من طَرِيقين: الأولى: عَن أبي الْيَمَان: الحكم ابْن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي جَمْرَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي ثَوْر، بِالْمُثَلثَةِ، الْقرشِي النَّوْفَلِي التَّابِعِيّ الثِّقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَقد اشْترك مَعَه فِي اسْمه وَاسم أَبِيه فِي الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا عبيد اللَّه بن عبد اللَّه ابْن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ الْمدنِي، لَكِن رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس كَثِيرَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَلَيْسَ لِابْنِ أبي ثَوْر عَن ابْن عَبَّاس غير هَذَا الحَدِيث. الطَّرِيق الثَّانِيَة: من التعليقات حَيْثُ قَالَ: قَالَ أَبُو عبد اللَّه، أَرَادَ بِهِ البُخَارِيّ نَفسه. قَالَ ابْن وهب، أَي: عبد اللَّه بن وهب الْمصْرِيّ، أخبرنَا يُونُس، وَهُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ الزُّهْرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن ابْن قُتَيْبَة، عَن حَرْمَلَة عَن عبد اللَّه بن وهب بِسَنَدِهِ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَته قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ: كنت أَنا وجار لي من الْأَنْصَار نتناوب النُّزُول، وَهُوَ الْمَقْصُود من هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا وَقع ذَلِك فِي رِوَايَة شُعَيْب وَحده عَن الزُّهْرِيّ، نَص على ذَلِك الذهلي وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَآخَرُونَ. فَإِن قلت: لم ذكر هَهُنَا رِوَايَة يُونُس؟ قلت: لينبه أَن الحَدِيث كُله من أَفْرَاد شُعَيْب.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَمِنْهَا:(2/103)
أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَنه ذكر فِي الْمَوْصُول: الزُّهْرِيّ، وَفِي التَّعْلِيق: ابْن شهَاب، تَنْبِيها على قُوَّة مُحَافظَة مَا سَمعه من الشُّيُوخ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كلمة (ح) مُهْملَة، إِشَارَة إِلَى تَحْويل الْإِسْنَاد.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أبي الْيَمَان، كَمَا أخرجه هَهُنَا عَن عَنهُ، وَفِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن بكير عَن لَيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن عمر كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق بِطُولِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن الحكم بن نَافِع بِهِ، وَعَن عبيد اللَّه بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن عَمه يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُحَمَّد بن ثَوْر عَن معمر بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (من الْأَنْصَار) جمع نَاصِر أَو نصير، وهم عبارَة عَن الصَّحَابَة الَّذين آووا ونصروا رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، من أهل الْمَدِينَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ اسْم إسلامي سمى الله تَعَالَى بِهِ الْأَوْس والخزرج. وَلم يَكُونُوا يدعونَ الْأَنْصَار قبل نصرتهم رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلَا قبل نزُول الْقُرْآن بذلك. قَوْله: (فِي بني أُميَّة بن زيد) أَي: فِي هَذِه الْقَبِيلَة، ومواضعهم يَعْنِي: فِي نَاحيَة بني أُميَّة. سميت الْبقْعَة باسم من نزلها. قَوْله: (من عوالي الْمَدِينَة) هُوَ جمع: عالية، وعوالي الْمَدِينَة عبارَة عَن قرى بِقرب مَدِينَة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فَوْقهَا من جِهَة الشرق، وَأقرب العوالي إِلَى الْمَدِينَة على ميلين أَو ثَلَاثَة أَمْيَال وَأَرْبَعَة، وأبعدها ثَمَانِيَة. وَفِي (الصِّحَاح) : الْعَالِيَة مَا فَوق نجد إِلَى أَرض تهَامَة، وَإِلَى أَرض مَكَّة وَهِي الْحجاز وَمَا والاها، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: عالي، وَيُقَال أَيْضا: علوي، على غير قِيَاس، وَيُقَال: عالى الرجل، وَأَعْلَى: إِذا أَتَى عالية نجد. قَوْله: (فَفَزِعت) ، بِكَسْر الزَّاي: أَي خفت، لِأَن الضَّرْب الشَّديد كَانَ على خلاف الْعَادة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وجار) ، بِالرَّفْع: لِأَنَّهُ عطف على الضَّمِير الْمُنْفَصِل الْمَرْفُوع. أَعنِي قَوْله: أَنا، وَإِنَّمَا أظهر أَنا لصِحَّة الْعَطف حَتَّى لَا يلْزم عطف الِاسْم على الْفِعْل، هَذَا قَول البصرية. وَعند الكوفية: يجوز من غير إِعَادَة الضَّمِير، وَيجوز فِيهِ النصب على معنى الْمَعِيَّة. قَوْله: (لي) : جَار ومجرور فِي مَحل الرّفْع، أَو النصب على الوصفية لِجَار. قَوْله: (من الْأَنْصَار) كلمة: من، بَيَانِيَّة. قَوْله: (فِي بني أُميَّة) فِي مَحل نصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَ، أَي: مستقرين فِيهَا، أَو نازلين أَو كائنين، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَهُوَ) مُبْتَدأ، وَخَبره قَوْله: (من عوالي الْمَدِينَة) . قَوْله: (نتناوب) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، و: النُّزُول، بِالنّصب على أَنه مفعول: نتناوب. قَوْله: (ينزل) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: جاري ينزل يَوْمًا، وَهُوَ نصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَأنزل) عطف على: ينزل. قَوْله: (فَإِذا) للظرفية، لكنه تضمن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (جِئْته) جَوَابه. قَوْله: (من الْوَحْي) بَيَان للْخَبَر. قَوْله: (وَإِذا نزل) أَي: جاري. قَوْله: (الْأنْصَارِيّ) بِالرَّفْع صفة لقَوْله: (صَاحِبي) ، وَهُوَ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: نزل. فَإِن قلت: الْجمع إِذا أُرِيد النِّسْبَة إِلَيْهِ يرد إِلَى الْمُفْرد، ثمَّ ينْسب إِلَيْهِ. قلت: الْأنْصَارِيّ هَهُنَا صَار علما لَهُم، فَهُوَ كالمفرد، فَلهَذَا نسب إِلَيْهِ بِدُونِ الرَّد. قَوْله: (فَضرب بَابي) عطف على مُقَدّر أَي: فَسمع اعتزال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن زَوْجَاته، فَرجع إِلَى العوالي، فجَاء إِلَى بَابي فَضرب. . وَمثل هَذِه الْفَاء تسمى بِالْفَاءِ الفصيحة، وَقد ذَكرنَاهَا غير مرّة. قَوْله: (أَثم؟) هُوَ: بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم، وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، نَحْو قَوْله: {وازلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا: لرأيت، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما} (الْإِنْسَان: 20) وَلَا يتقدمه حرف التَّنْبِيه وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ كَاف الْخطاب. قَوْله: (فَفَزِعت) : الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي لأجل الضَّرْب الشَّديد فزعت، وَالْفَاء فِي فَخرجت: للْعَطْف، وَيحْتَمل السَّبَبِيَّة، لِأَن فزعه كَانَ سَببا لِخُرُوجِهِ. وَالْفَاء فِي: فَقَالَ، للْعَطْف. قَوْله: (قد حدث أَمر عَظِيم) ، جملَة وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (فَدخلت) أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: دخلت. وَيفهم من ظَاهر الْكَلَام أَن: دخلت، من كَلَام الْأنْصَارِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الدَّاخِل هُوَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَإِنَّمَا وَقع هَذَا من الِاخْتِصَار وإلاَّ فَفِي أصل الحَدِيث بعد قَوْله: (امْر عَظِيم طلق رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نِسَاءَهُ) . قلت: قد كنت أَظن أَن هَذَا كَائِن حَتَّى إِذا صليت الصُّبْح شددت عَليّ ثِيَابِي، ثمَّ نزلت. فَدخلت على حَفْصَة، أَرَادَ أم الْمُؤمنِينَ بنته، رَضِي الله عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (قد حدث أَمر عَظِيم فَدخلت) بِالْفَاءِ. فَإِن قلت: مَا هَذِه الْفَاء؟ قلت: الْفَاء الفصيحة، تفصح عَن الْمُقدر. لِأَن التَّقْدِير نزلت من العوالي فَجئْت إِلَى الْمَدِينَة فَدخلت. قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة، وَهِي متبدأ: وتبكي، خَبره. قَوْله: (طَلَّقَكُن؟) وَفِي رِوَايَة: (أطلقكن؟) ، بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. قَوْله:(2/104)
(قَالَت) أَي: حَفْصَة: (لَا أَدْرِي) أَي: لَا أعلم، ومفعوله مَحْذُوف. قَوْله: (وَأَنا قَائِم) : جملَة اسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (طلقت) أَي: أطلقت، والهمزة محذوفة مِنْهُ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وجار لي من الْأَنْصَار) : هَذَا الْجَار هُوَ عتْبَان بن مَالك بن عَمْرو ابْن العجلان الْأنْصَارِيّ الخزرجي، رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (ينزل يَوْمًا) أَي: ينزل صَاحِبي يَوْمًا من العوالي إِلَى الْمَدِينَة وَإِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتعلم الْعلم من الشَّرَائِع وَنَحْوهَا. قَوْله: (يَوْم نوبَته) أَي: يَوْمًا من أَيَّام نوبَته. قَوْله: (فَفَزِعت) إِنَّمَا كَانَ فزع عمر، رَضِي الله عَنهُ، بِسَبَب مَا يَجِيء فِي كتاب التَّفْسِير مَبْسُوطا، قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: (كُنَّا نتخوف ملكا من مُلُوك غَسَّان ذكر لنا أَنه يُرِيد أَن يسير إِلَيْنَا وَقد امْتَلَأت صدورنا مِنْهُ، فتوهمت لَعَلَّه جَاءَ إِلَى الْمَدِينَة، فَخفت لذَلِك) . قَوْله: (أَمر عَظِيم) أَرَادَ بِهِ اعتزال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، عَن أَزوَاجه الطاهرات، رَضِي الله عَنْهُن. فَإِن قلت: مَا العظمة فِيهِ؟ قلت: كَونه مَظَنَّة الطَّلَاق، وَهُوَ عَظِيم لاسيما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن بنته إِحْدَى زَوْجَاته. قَوْله: (الله أكبر {) وَقع فِي موقع التَّعَجُّب. فَإِن قلت: مَا ذَاك التَّعَجُّب؟ قلت: كَأَن الْأنْصَارِيّ ظن اعتزاله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن نِسَائِهِ طَلَاقا أَو ناشئاً عَن الطَّلَاق، فَالْخَبَر لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِالطَّلَاق بِحَسب ظَنّه، وَلِهَذَا سَأَلَ عمر، رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الطَّلَاق. فَلَمَّا رأى عمر أَن صَاحبه لم يصب فِي ظَنّه تعجب مِنْهُ لفظ: الله أكبر.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الْحِرْص على طلب الْعلم. الثَّانِي: فِيهِ أَن لطَالب الْعلم أَن ينظر فِي معيشته وَمَا يَسْتَعِين بِهِ على طلب الْعلم. الثَّالِث: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد وَالْعَمَل بمراسيل الصَّحَابَة. الرَّابِع: فِيهِ أَن الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، كَانَ يخبر بَعضهم بَعْضًا بِمَا يسمع من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. ويجعلون ذَلِك كالمسند، إِذْ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من يكذب وَلَا غير ثِقَة. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز ضرب الْبَاب ودقه. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز دُخُول الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن أَزوَاجهنَّ، والتفتيش عَن الْأَحْوَال، سِيمَا عَمَّا يتَعَلَّق بالمزاوجة. السَّابِع: فِيهِ السُّؤَال قَائِما. الثَّامِن: فِيهِ التناوب فِي الْعلم والاشتغال بِهِ.
28 - (بَاب الغَضَبِ فِي المَوْعِظَةِ والتَّعْلِيمِ إِذَا رَأى مَا يَكْرَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْغَضَب، وَهُوَ انفعال يحصل من غليان الدَّم لشَيْء دخل فِي الْقلب. قَوْله: (فِي الموعظة) أَي: الْوَعْظ، وَهُوَ مصدر ميمي. (والتعليم) أَي: وَفِي التَّعْلِيم، أَرَادَ فِي حَالَة الْوَعْظ وَحَالَة التَّعْلِيم. قَوْله: (إِذا رأى) الْوَاعِظ أَو الْمعلم: (مَا يكره) أَي: مَا يكرههُ، لِأَن: مَا، مَوْصُولَة، فَلَا بُد لَهَا من عَائِد، والعائد قد يحذف. وَيُقَال: أَرَادَ البُخَارِيّ الْفرق بَين قَضَاء القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان، وَبَين تَعْلِيم الْعلم وتذكير الْوَاعِظ، فَإِنَّهُ بِالْغَضَبِ أَجْدَر، وخصوصاً بِالْمَوْعِظَةِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول التناوب فِي الْعلم،، وَهُوَ من جملَة صِفَات المتعلمين، وَمن جملَة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا بعض صفاتهم، هُوَ أَن الْمعلم إِذا رأى مِنْهُم مَا يكرههُ يغْضب عَلَيْهِم، وينكر عَلَيْهِم، فتناسق البابان من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
90 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قالَ: أخْبرنا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبي خالِدٍ عنْ قَيْسِ بنِ أبي حازمٍ عنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصارِيّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ الله} لَا أكادُ أُدْرِكُ الصَّلاةِ مَمَّا يُطَوّلُ بِنَا فُلانُ، فَمَا رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْعِظَةٍ أشَدَّ غَضَباً مِنْ يوْمِئذٍ، فَقَالَ: (أيُّها النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفّرُونَ، فَمنْ صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيُخَفّفْ فإنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ والضَّعيفَ وذَا الحاجَةِ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي موعظة أَشد غَضبا من يومئذٍ) .
بَيَان رِجَاله: الأول: مُحَمَّد بن كثير، بِفَتْح الْكَاف وبالمثلثة: الْعَبْدي، بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، الْبَصْرِيّ أَخُو سُلَيْمَان بن كثير، وَسليمَان أكبر مِنْهُ بِخمْس سِنِين، روى عَن أَخِيه سُلَيْمَان وَشعْبَة وَالثَّوْري، وروى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا، وروى مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ عَن(2/105)
رجل عَنهُ. قَالَ أَبُو حاتمٍ: صَدُوق. وَقَالَ يحيى بن معِين: لَا تكْتبُوا عَنهُ لم يكن بالثقة. مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، عَن تسعين سنة، أخرج لَهُ مُسلم حَدِيثا فِي الرُّؤْيَا أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يَقُول لأَصْحَابه: (من رأى مِنْكُم رُؤْيا) عَن الدَّارمِيّ عَنهُ عَن أَخِيه سُلَيْمَان، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) مُحَمَّد بن كثير غير هَذَا. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: مُحَمَّد بن كثير الصغاني روى عَن الدَّارمِيّ وَهُوَ ثِقَة اخْتَلَط بِآخِرهِ. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي الأحمسي التَّابِعِيّ، الطَّحَّان الْمُسَمّى بالميزان. الرَّابِع: قيس بن أبي حَازِم، بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي، أَبُو عبد اللَّه الأحمسي الْكُوفِي البَجلِيّ المخضرم، روى عَن الْعشْرَة، وَقد تقدم. الْخَامِس: أَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ الخزرجي البدري، وَقد تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْمُفْرد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، بل ثَلَاثَة مِنْهُم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيا وَهُوَ ابْن كثير الْعَبْدي لَيْسَ فِي البُخَارِيّ غَيره.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الثَّوْريّ، وَفِيه عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر،، وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد عَن يحيى، وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد اللَّه عَن ابْن أبي خَالِد وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن هَيْثَم، وَعَن أبي بكر عَن هَيْثَم ووكيع، وَعَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير عَن أَبِيه، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن قيس بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن يحيى الْقطَّان بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن نمير بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (لَا أكاد أدْرك الصَّلَاة) : قد علم أَن: كَاد، مَعْنَاهُ: قرب، وَلِهَذَا عدوه من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ لمقاربة الشَّيْء فعل أَو لم يفعل، فمجرده ينبىء عَن نفي الْفِعْل، ومقرونه ينبىء عَن وُقُوع الْفِعْل. وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: إِذا دخل النَّفْي على: كَاد، فَهُوَ كالأفعال على الْأَصَح. وَقيل: يكون فِي الْمَاضِي للإثبات، وَفِي الْمُسْتَقْبل كالأفعال، وَهُوَ يرفع الِاسْم وَخَبره فعل مضارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، نَحْو: كَاد زيد يخرج، أَي خَارِجا، إلاَّ أَنهم تركُوا اسْتِعْمَاله، لِأَن: كَاد، مَوْضُوع للتقريب من الْحَال. فالتزم بعده مَا يدل بصيغته على الْحَال، أَعنِي الْمُضَارع، ليَكُون أدل على مُقْتَضَاهُ. وَهَهُنَا اسْمه الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ، وَخَبره قَوْله: (أدْرك الصَّلَاة) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر هَذَا مُشكل، لِأَن التَّطْوِيل يَقْتَضِي الْإِدْرَاك لَا عَدمه. قَالَ: فَكَأَن الْألف زيدت بعد: لَا، وَكَأن: أدْرك، كَانَت أترك. وَأجِيب: عَنهُ بِمَا قَالَ أَبُو الزِّنَاد: مَعْنَاهُ أَنه كَانَ بِهِ ضعف، فَكَانَ إِذا طول بِهِ الإِمَام فِي الْقيام لَا يبلغ الرُّكُوع إلاَّ وَقد ازْدَادَ ضعفه، فَلَا يكَاد يتم مَعَه الصَّلَاة، ورد بِأَن البُخَارِيّ روى عَن الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظ: لاتأخر عَن الصَّلَاة: وَجَاء فِي غير البُخَارِيّ: إِنِّي لَا أدع الصَّلَاة، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَيكون الْمَعْنى: إِنِّي لَا أكاد أدْرك الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة، وأتأخر عَنْهَا أَحْيَانًا من أجل التَّطْوِيل. قلت: هَذَا لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال، وَالْمعْنَى صَحِيح. وَقد قُلْنَا: إِن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ تنبئان أَن معنى هَذَا أَنِّي أتأخر عَن الصَّلَاة مَعَ الْجَمَاعَة وَلَا أكاد أدْركهَا لأجل تَطْوِيل فلَان. قَوْله: لِأَن التَّطْوِيل يَقْتَضِي الْإِدْرَاك: إِنَّمَا يسلم إِذا طلب الْإِدْرَاك، وَأما إِذا تَأَخّر خوفًا من التَّطْوِيل، لَا يكَاد يدْرك مَعَ التَّطْوِيل فَافْهَم. قَوْله: (مِمَّا يطول) كلمة: من، للتَّعْلِيل، و: مَا، مَصْدَرِيَّة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: (مِمَّا يطول لنا) بِاللَّامِ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (مِمَّا يُطِيل) ، فَالْأولى من التَّطْوِيل، وَهَذِه من الإطالة. قَوْله: (فلَان) فَاعله، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ، وَيُقَال فِي غير الْآدَمِيّ: الفلان، مُعَرفا بِاللَّامِ، قَوْله: (أَشد غَضبا من يومئذٍ) وَفِي بعض النّسخ: (أَشد غَضبا مِنْهُ من يومئذٍ) ، وَلَفظه: مِنْهُ، صلَة: أَشد. فَإِن قلت: الضَّمِير رَاجع إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَيلْزم أَن يكون الْمفضل والمفضل عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا. قلت: جَازَ ذَلِك باعتبارين: فَهُوَ مفضل بِاعْتِبَار يومئذٍ ومفضل عَلَيْهِ بِاعْتِبَار سَائِر الْأَيَّام. و: غَضبا، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَيهَا النَّاس) : أَي يَا أَيهَا النَّاس، فَحذف حرف النداء وَالْمَقْصُود بالنداء هُوَ النَّاس، وَإِنَّمَا جاؤوا بِأَيّ ليمكن وَصله إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام لأَنهم كَرهُوا الْجمع بَين التَّخْصِيص بالنداء وَلَام التَّعْرِيف، فَكَانَ المنادى هُوَ الصّفة، وَالْهَاء مقحمة للتّنْبِيه. قَوْله: (منفرون) خبر: أَن، أَي: منفرون عَن الْجَمَاعَات وَفِي بعض الرِّوَايَات: (إِن مِنْكُم منفرين) . فَإِن قلت: كَانَ الْمُقْتَضى أَن يُخَاطب الْمَعْلُول. قلت: إِنَّمَا خَاطب الْكل وَلم يعين المطول كرماً ولطفاً عَلَيْهِ. وَكَانَت هَذِه عَادَته حَيْثُ مَا كَانَ يخصص العتاب والتأديب بِمن يسْتَحقّهُ حَتَّى لَا يحصل لَهُ الخجل، وَنَحْوه على رُؤُوس الأشهاد. قَوْله: (فَمن صلى بِالنَّاسِ) ، كلمة: من شَرْطِيَّة. قَوْله: (فيخفف) جوابها،(2/106)
فَلذَلِك دَخلهَا الْفَاء. قَوْله: (فَإِن فيهم) الْفَاء فِيهِ تصلح للتَّعْلِيل. (وَالْمَرِيض) ، نصب لِأَنَّهُ اسْم: إِن، وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وخبرها هُوَ قَوْله: فيهم، مقدما. قَوْله: (بِالنَّاسِ) أَي: ملتبساً بهم إِمَامًا لَهُم. قَوْله: (وَذَا الْحَاجة) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: (وَذُو الْحَاجة) . وَجهه أَن يكون مَعْطُوفًا على مَحل اسْم: إِن، وَهُوَ رفع مَعَ الْخلاف فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: أَو هُوَ اسْتِئْنَاف. قلت: لَا يَصح أَن يكون استئنافاً لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة جَوَاب سُؤال، وَلَيْسَ هَذَا مَحَله. وَيجوز أَن يكون الْمُبْتَدَأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَتَكون الْجُمْلَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى، وَالتَّقْدِير: وَذُو الْحَاجة كَذَلِك، وَالْفرق بَين الضعْف وَالْمَرَض أَن الضعْف أَعم من الْمَرَض، فالمرض ضد الصِّحَّة. يُقَال: مرض يمرض مَرضا ومرضاً فَهُوَ مَرِيض ومارض. وَيُقَال: الْمَرَض، بالإسكان، مرض الْقلب خَاصَّة. قَالَ الصغاني: وأصل الْمَرَض الضعْف، وَكلما ضعف مرض. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أصل الْمَرَض النُّقْصَان. يُقَال: بدن مَرِيض أَي: نَاقص الْقُوَّة، وقلب مَرِيض أَي: نَاقص الدّين. وَقيل: الْمَرَض اختلال الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها، والضعف خلاف الْقُوَّة، وَقد ضعف وَضعف، وَالْفَتْح عَن يُونُس: فَهُوَ ضَعِيف، وَقوم ضِعَاف وضعفة. وَفرق بَعضهم بَين الضعْف والضعف. فَقَالَ: الضعْف بِالْفَتْح فِي الْعقل والرأي، والضعف بِالضَّمِّ فِي الْجَسَد. وَرجل ضعوف أَي ضَعِيف. فَإِن قيل: لم ذكر هَذَا الثَّلَاثَة؟ قلت: لِأَنَّهُ متناول لجَمِيع الْأَنْوَاع الْمُقْتَضِيَة. للتَّخْفِيف، فَإِن الْمُقْتَضى لَهُ إِمَّا فِي نَفسه أَو لَا، وَالْأول إِمَّا بِحَسب ذَاته، وَهُوَ الضعْف أَو بِحَسب الْعَارِض وَهُوَ الْمَرَض.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ جَوَاز التَّأَخُّر عَن صَلَاة الْجَمَاعَة إِذا علم من عَادَة الإِمَام التَّطْوِيل الْكثير. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز ذكر الْإِنْسَان بفلان وَنَحْوه فِي معرض الشكوى. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْغَضَب لما يُنكر من أُمُور الدّين. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْإِنْكَار على من ارْتكب مَا ينْهَى عَنهُ، وَإِن كَانَ مَكْرُوها غير محرم. الْخَامِس: فِيهِ التَّعْزِير على إطالة الصَّلَاة إِذا لم يرض الْمَأْمُوم بِهِ وَجَوَاز التَّعْزِير بالْكلَام. السَّادِس: فِيهِ الْأَمر بتَخْفِيف الصَّلَاة. وَقَالَ ابْن بطال: وَإِنَّمَا غضب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ كره التَّطْوِيل فِي الصَّلَاة من أجل أَن فيهم الْمَرِيض وَنَحْوه، فَأَرَادَ الرِّفْق والتيسير بأمته وَلم يكن نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من التَّطْوِيل لِحُرْمَتِهِ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجده وَيقْرَأ بالسور الطوَال مثل سُورَة يُوسُف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَه أجلة أَصْحَابه، ومَن أَكثر همه طلب الْعلم وَالصَّلَاة. أَقُول: وَلِهَذَا خفف فِي بعض الْأَوْقَات، كَمَا: فِيمَا سمع صَوت بكاء الصَّبِي وَنَحْوه.
91 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحمَّدٍ قَالَ: حدّثنا أبُو عامِرٍ قَالَ: حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ بِلاَلٍ المدِيِنيُّ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبي عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ عَن زَيْدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنِيِّ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سألَهُ رَجُلٌ عنِ اللُّقَطَةِ فقالَ: (اعْرِفْ وكَاءَها) أوْ قَالَ: وِعاءَها. وعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْها سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِها، فَإنْ جاءَ رَبُّها فَأدِّها إليهِ قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وجْنَتاهُ أوْ قَالَ: أحْمَرَّ وجْهُهُ فَقَالَ: (وَمَا لَكَ ولَهَا؟ مَعَها سِقاؤُها وحذَاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْها حَتَّى يَلْقاها رَبُّها) قَالَ: فَضَالَّةُ الغنَمِ؟ قَالَ: (لكَ أوْ لأخِيكَ أوْ للْدِّئْبِ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَغَضب حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه) .
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد اللَّه بن مُحَمَّد أَبُو جَعْفَر المسندي، بِفَتْح النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك، وَقد تقدم. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال الْمَدِينِيّ، وَقد تقدم. وَفِي بعض النّسخ: الْمدنِي. قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة الْمَنْصُور: مديني، وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى: مدائني. قلت: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يَصح الْمَدِينِيّ، لِأَنَّهُ من مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْمَقْدِسِي فِي كتاب (الْأَنْسَاب) : قَالَ البُخَارِيّ: الْمَدِينِيّ هُوَ الَّذِي أَقَامَ بِمَدِينَة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يفارقها. وَالْمَدَنِي هُوَ الَّذِي تحول عَنْهَا وَكَانَ مِنْهَا. الرَّابِع: ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف: بربيعة الرَّأْي، وَقد يُقَال: الرئي، بِالتَّشْدِيدِ مَنْسُوبا إِلَى الرَّأْي، وَهُوَ شيخ مَالك وَقد تقدم. الْخَامِس: يزِيد من الزِّيَادَة مولى المنبعث، اسْم فَاعل من الانبعاث، بالنُّون وَالْمُوَحَّدَة والمهملة والمثلثة، الْمدنِي. روى عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد، وَعَن ربيعَة وَيحيى بن سعيد، ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.(2/107)
السَّادِس: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، بِضَم الْجِيم وَفتح الْهَاء وَالنُّون، مَنْسُوب إِلَى جُهَيْنَة بن زيد بن لوث بن سود بن أسلم، بِضَم اللَّام، بن الحاف بن قضاعة، يكنى أَبَا طَلْحَة، وَقيل: أَبَا عبد الرَّحْمَن. وَقيل: أَبَا زرْعَة. وَكَانَ مَعَه لِوَاء جُهَيْنَة يَوْم الْفَتْح، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا خَمْسَة، نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا سنة ثَمَان وَسبعين وَهُوَ ابْن خمس وَثَمَانِينَ. قيل: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقيل: بِمصْر، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة زيد بن خَالِد، سواهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن المسندي عَن الْعَقدي عَن الْمَدِينِيّ، وَفِي اللّقطَة عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي الشّرْب عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه، كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَفِي اللّقطَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَفِي اللّقطَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعَن عَمْرو بن الْعَبَّاس عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمهْدي، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، أربعتهم عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، وَفِي اللّقطَة عَن إِسْمَاعِيل بن عبد اللَّه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن يحيى بن سعيد، كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن يحيى بن سعيد عَنهُ بِهِ مُرْسلا: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سُئِلَ عَن ضَالَّة الْغنم، قَالَ يحيى: وَيَقُول ربيعَة عَن يزِيد، مولى المنبعث، عَن زيد بن خَالِد قَالَ سُفْيَان: فَلَقِيت ربيعَة وَلم أحفظ عَنهُ شَيْئا غير هَذَا. قلت: أَرَأَيْت حَدِيث يزِيد مولى المنبعث فِي أَمر الضَّالة هُوَ عَن يزِيد بن خَالِد؟ قَالَ: نعم. وَأخرجه مُسلم فِي الْقَضَاء عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك،، وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَعَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم الْأَزْدِيّ عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن الثَّوْريّ وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث وَغَيرهم، كلهم عَن ربيعَة بِهِ، وَعَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان ابْن بِلَال عَن يحيى بن سعيد بِهِ مُتَّصِلا، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن يحيى بن سعيد وَرَبِيعَة بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللّقطَة عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِهِ، وَعَن أَحْمد بن حَفْص عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن عباد بن إِسْحَاق عَن عبد اللَّه بن يزِيد، مولى المنبعث، عَن أَبِيه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الضوال واللقطة عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَعلي بن حجر بِهِ مقطعاً، وَعَن أَحْمد بن حَفْص بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن الْعَلَاء الْأَيْلِي عَن سُفْيَان عَن يحيى عَن ربيعَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (عَن اللّقطَة) ، بِضَم اللَّام وَفتح الْقَاف: الشَّيْء الملقوط. وَقَالَ القَاضِي: لَا يجوز فِيهِ غير ضم اللَّام وَفتح الْقَاف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَشْهُور. قَالَ الْأَزْهَرِي: قَالَ الْخَلِيل بالإسكان، قَالَ: وَالَّذِي سمع من الْعَرَب، وَأجْمع عَلَيْهِ أهل اللُّغَة ورواة الْأَخْبَار فتحهَا، وَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِي وَالْفراء وَابْن الْأَعرَابِي، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال لَهَا: لقطَة، بِالضَّمِّ، ولقط بِفَتْح اللَّام وَالْقَاف بِغَيْر هَاء، وَهُوَ من الِالْتِقَاط، وَهُوَ وجود الشَّيْء من غير طلب. فَإِن قلت: مَا هَذِه الصِّيغَة؟ قلت: قَالَ بعض الشَّارِحين: هُوَ اسْم الْفَاعِل للْمُبَالَغَة، وبسكون الْقَاف اسْم الْمَفْعُول: كالضحكة، وَهُوَ اسْم لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَسمي باسم المَال مُبَالغَة لزِيَادَة معنى اخْتصَّ بِهِ، وَهُوَ أَن كل من رَآهَا يمِيل إِلَى رَفعهَا، فَكَأَنَّهُ يَأْمُرهُ بِالرَّفْع لِأَنَّهَا حاملة إِلَيْهِ، فأسند إِلَيْهَا مجَازًا فَجعلت كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رفعت نَفسهَا، وَنَظِيره قَوْلهم: نَاقَة حَلُوب، ودابة ركُوب. وَهُوَ اسْم فَاعل، سميت بذلك لِأَن من رآهما يرغب فِي الرّكُوب والحلب، فَنزلت كَأَنَّهَا أحلبت نَفسهَا، أَو أركبت نَفسهَا، وَفِيه تعسف، وَلَيْسَ كَذَلِك بل اللّقطَة سَوَاء كَانَ بِفَتْح الْقَاف أَو سكونها اسْم مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَلَيْسَ هَذَا مثل ضحكة وَلَا مثل نَاقَة حَلُوب ودابة ركُوب، لِأَن هَذِه صِفَات تدل على الْحُدُوث والتجدد. غير أَن الأول فِي الْمُبَالغَة فِي وصف الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول، وَالثَّانِي وَالثَّالِث بِمَعْنى الْمَفْعُول للْمُبَالَغَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الْخَلِيل، بِالْفَتْح: هُوَ اللاقط، وبالسكون الملقوط. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هَذَا هُوَ الْقيَاس فِي كَلَام الْعَرَب، لِأَن فعلة: كالضحكة، جَاءَ فَاعِلا، وفعلة كالضحكة مَفْعُولا، إلاَّ أَن اللّقطَة على خلاف الْقيَاس إِذْ أَجمعُوا على الْهَاء بِالْفَتْح هُوَ الملقوط، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهَا أَربع لُغَات: اللّقطَة بِالْفَتْح وبالسكون واللقاطة بِضَم اللَّام واللقطة بِفَتْح اللَّام وَالْقَاف. قَوْله: (إعرف) بِكَسْر الْهمزَة من الْمعرفَة لَا من الإعراف، قَوْله: (وكاءها) بِكَسْر الْوَاو وبالمد: هُوَ الَّذِي تشد بِهِ رَأس الصرة والكيس وَنَحْوهمَا. وَيُقَال: هُوَ الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ الْوِعَاء: يُقَال:(2/108)
أوكيته إيكاءً فَهُوَ موكىً، مَقْصُور، وَالْفِعْل مِنْهُ معتل اللَّام بِالْيَاءِ، يُقَال: أوكى على مَاء فِي سقائه أَي: شده بالوكاء، وَمِنْه أوكوا قربكم، وأوكى يوكي مثل: أعْطى يُعْطي إِعْطَاء. وَأما المهموز فَمَعْنَى آخر، يُقَال: أوكأت الرجل: أَعْطيته مَا يتَوَكَّأ عَلَيْهِ، واتكأ على الشَّيْء بِالْهَمْزَةِ فَهُوَ متكىء. قَوْله: (وعاءها) بِكَسْر الْوَاو، وَهُوَ الظّرْف. وَيجوز ضمهَا وَهُوَ قِرَاءَة الْحسن: {وعَاء أَخِيه} (يُوسُف: 76) وَهُوَ لُغَة، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: (اعاء أَخِيه) . بقلب الْوَاو همزَة، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْوِعَاء وَاحِد الأوعية، يُقَال: أوعيت الزَّاد وَالْمَتَاع إِذا جعلته فِي الْوِعَاء. قَالَ عبيد بن الأبرص.
(الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد)
قَوْله: (وعفاصها) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالفاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وبالقاف، وَالظَّاهِر أَنه غلط من النَّاسِخ أَو سَهْو مِنْهُ، أَو يكون ذهنه بَادر إِلَى مَا قيل: العقاص، بِالْقَافِ: الْخَيط يشد بِهِ أَطْرَاف الذوائب. قَالَ فِي (الْعباب) : العفاص الْوِعَاء الَّذِي يكون فِيهِ النَّفَقَة إِن كَانَ جلدا أَو خرقَة أَو غير ذَلِك، عَن أبي عبيد. وَكَذَلِكَ يُسمى الْجلد الَّذِي يكبس رَأس القارورة: العفاص، لِأَنَّهُ كالوعاء لَهَا، وَمِنْه الحَدِيث، ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ اللَّيْث: عفاص القارورة صمامها، وَيُقَال أَيْضا: عفاص القارورة غلافها، وَهُوَ فعال من العفص، وَهُوَ الثني والعطف لِأَن الْوِعَاء ينثني على مَا فِيهِ وينعطف، وَقد عفصت القارورة أعفصها بِالْكَسْرِ عفصاً إِذا شددت عَلَيْهَا العفاص. وَقَالَ الْفراء: عفصت القارورة إِذا جعلت لَهَا عفاصاً، والصمام بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة هُوَ الْجلد الَّذِي يدْخل فِي فَم القارورة، وَكَذَا أَيْضا يُقَال لكل مَا سددت بِهِ شَيْئا: السداد، بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْبلْغَة أَيْضا، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)
وَأما السداد، بِالْفَتْح: فالقصد فِي الدّين والسبيل. قَوْله: (رَبهَا) أَي: مَالِكهَا، وَلَا يُطلق الرب على غير الله إلاَّ مُضَافا مُقَيّدا. قَوْله: (فضَالة الْإِبِل) قَالَ الْأَزْهَرِي: لَا يَقع اسْم الضَّالة إلاَّ على الْحَيَوَان. يُقَال: ضل الْإِنْسَان وَالْبَعِير وَغَيرهمَا من الْحَيَوَان وَهِي الضوال. وَأما الْأَمْتِعَة وَمَا سوى الْحَيَوَان فَيُقَال لَهُ: لقطَة، وَلَا يُقَال: ضال. وَيُقَال للضوالي أَيْضا: الهوامي والهوافي، واحدتها هامية وهافية، وهمت وهفت وهملت: إِذا ذهبت على وَجههَا بِلَا رَاع. قَوْله: (وجنتاه) ، الوجنة: مَا ارْتَفع من الخد. وَيُقَال مَا علا من لحم الْخَدين، يُقَال فِيهِ: وجنة، بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا وَضمّهَا، وأجنة بِضَم الْهمزَة، ذكره الْجَوْهَرِي وَغَيره. قَوْله: (سقاؤها) ، بِكَسْر السِّين: هُوَ اللَّبن وَالْمَاء، وَالْجمع الْقَلِيل: أسقية، وَالْكثير: أساقي، كَمَا أَن الرطب للبن خَاصَّة، والنحي للسمن والقربة للْمَاء. قَوْله: (وحذاؤها) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد: مَا وطىء عَلَيْهِ الْبَعِير من خفه، وَالْفرس من حَافره، والحذاء: النَّعْل أَيْضا. قَوْله: (ترد) من الْوُرُود. قَوْله: (فذرها) أَي: دعها، من: يذر، وأميت ماضيه، قَوْله: (الْغنم) وَهُوَ اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وعَلى الْإِنَاث، وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا. فَإِذا صغرتها ألحقتها الْهَاء، فَقلت: غنيمَة، لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت لغير الآدمين فالتأنيث لَهَا لَازم، يُقَال: خمس من الْغنم ذُكُور، فتؤنث الْعدَد وَإِن عنيت الكباش إِذا كَانَ يَلِيهِ من الْغنم، لِأَن الْعدَد يجْرِي تذكيره وتأنيثه على اللَّفْظ لَا على الْمَعْنى، وَالْإِبِل كالغنم فِي جَمِيع ذَلِك. قَوْله: (للذئب) ، بِالْهَمْزَةِ وَقد تخفف بقلبها يَاء، وَالْأُنْثَى ذئبة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (رجل) فَاعل: سَأَلَهُ. قَوْله: (وكاءها) بِالنّصب مفعول: اعرف. وَقَوله: (ثمَّ عرفهَا) عطف على: (أعرفهَا) . قَوْله: (سنة) ، نصب بِنَزْع الْخَافِض، أَي مُدَّة سنة. قَوْله: (ثمَّ استمتع) عطف على: (ثمَّ عرفهَا) . قَوْله: (فأدها) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله: (فضَالة الْإِبِل) كَلَام إضافي: مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي: مَا حكمهَا؟ أَكَذَلِك أم لَا؟ وَهُوَ من بَاب إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. قَوْله: (فَغَضب) : الْفَاء، فِيهِ للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) ، قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى أَن. وَقَوله: (وجنتاه) فَاعل: احْمَرَّتْ، وعلامة الرّفْع الْألف. قَوْله: (مَالك وَلها) وَفِي بعض النّسخ: وَمَالك بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: فمالك بِالْفَاءِ. وَكلمَة: مَا، استفهامية، وَمَعْنَاهُ: مَا نصْنَع بهَا؟ أَي: لم تأخذها وَلم تتناولها، وَإِنَّهَا مُسْتَقلَّة باسباب تعيشها. قَوْله: (سقاؤها) مُبْتَدأ و: مَعهَا، مقدما خَبره. و: حذاؤها، عطف على: سقاؤها. قَوْله: (ترد المَاء) جملَة يجوز أَن تكون بَيَانا لما قبلهَا فَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَيجوز أَن يكون محلهَا الرّفْع على أَنَّهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هِيَ ترد المَاء وترعى الشّجر. قَوْله: (فذرها) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفَاء فِيهَا جَوَاب شَرط مَحْذُوف، التَّقْدِير: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فذرها، فكلمة(2/109)
حَتَّى للغاية. قَوْله: (فضَالة الْغنم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ خَبره: أَي: مَا حكمهَا؟ أَهِي مثل ضَالَّة الْإِبِل أم لَا؟ قَوْله: (لَك أَو لأخيك أَو للذئب) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: لَيست ضَالَّة الْغنم مثل ضَالَّة الْإِبِل هِيَ لَك إِن أَخَذتهَا، أَو هِيَ لأخيك إِن لم تأخذها، يَعْنِي يَأْخُذهَا غَيْرك من اللاقطين، أَو يكون الْمَار من الْأَخ صَاحبهَا. وَالْمعْنَى: أَو هِيَ لأخيك الَّذِي هُوَ صَاحبهَا إِن ظهر؟ أَو هِيَ للذئب إِن لم تأخذها وَلم يتَّفق أَن يَأْخُذهَا غَيْرك أَيْضا؟ لِأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهَا من الذِّئْب وَنَحْوه فيأكلها غَالِبا، فَإِذا كَانَ الْمَعْنى على هَذَا يكون مَحل: لَك، من الْإِعْرَاب الرّفْع لِأَنَّهُ: خبر مُبْتَدأ، وَكَذَلِكَ: لأخيك وللذئب.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (سَأَلَهُ رجل) هُوَ عُمَيْر وَالِد مَالك. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ زيد بن خَالِد. قلت: وَيجوز أَن يكون مِمَّن دونه من الروَاة، وَفِي بعض طرقه عِنْد البُخَارِيّ: (أعرف عفاصها ووكائها) ، من غير شكّ. (ثمَّ عرفهَا سنة فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا) إِنَّمَا أَمر بِمَعْرِِفَة العفاص والوكاء ليعرف صدق واصفها من كذبه، وَلِئَلَّا يخْتَلط بِمَالِه، وَيسْتَحب التَّقْيِيد بِالْكِتَابَةِ خوف النسْيَان. وَعَن ابْن دَاوُد، من الشَّافِعِيَّة، أَن مَعْرفَتهَا قبل حُضُور الْمَالِك مُسْتَحبّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِي: يجب مَعْرفَتهَا عِنْد الِالْتِقَاط، وَيعرف أَيْضا الْجِنْس وَالْقدر وَطول الثَّوْب وَغير ذَلِك ودقته وصفاقته. قَوْله: (ثمَّ عرفهَا) أَي للنَّاس، بِذكر بعض صفاتها فِي المحافل: (سنة) ، أَي: مُتَّصِلَة، كل يَوْم مرَّتَيْنِ ثمَّ مرّة ثمَّ فِي كل أُسْبُوع ثمَّ فِي كل شهر فِي بلد اللقط. فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث أبي: ثَلَاث سِنِين، وَفِي بعض طرقه الشَّك فِي سنة أَو ثَلَاث؟ قلت: جمع بَينهَا بطرح الشَّك وَالزِّيَادَة، وَترد الزِّيَادَة لمخالفتها بَاقِي الْأَحَادِيث. وَقيل: هِيَ قصتان: الأولى للأعرابي، وَالثَّانيَِة لأبي، أفتاه بالورع بالتربص ثَلَاثَة أَعْوَام إِذْ هُوَ من فضلاء الصَّحَابَة. قَوْله: (ثمَّ استمتع بهَا) قَالُوا: الْإِتْيَان هُنَا: بثم، دَال على الْمُبَالغَة فِي التثبت على العفاص والوكاء. إِذْ كَانَ وَضعهَا للتراخي والمهلة، فَكَأَنَّهُ عبارَة عَن قَوْله: لَا تعجل وَتثبت فِي عرفان ذَلِك. قَوْله: (فَغَضب) أَي: رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا كَانَ غَضَبه استقصاراً لعلم السَّائِل وَسُوء فهمه، إِذْ لم يراع الْمَعْنى الْمشَار إِلَيْهِ وَلم يتَنَبَّه لَهُ، فقاس الشَّيْء على غير نَظِيره، فَإِن اللّقطَة إِنَّمَا هِيَ اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه وَلَا يدْرِي أَيْن مَوْضِعه، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِبِل، فَإِنَّهَا مُخَالفَة للقطة إسما وَصفَة، فَإِنَّهَا غير عادمة أَسبَاب الْقُدْرَة على الْعود إِلَى رَبهَا لقُوَّة سَيرهَا، وَكَون الْحذاء والسقاء مَعهَا، لِأَنَّهَا ترد المَاء ربعا وخمساً، وتمتنع من الذئاب وَغَيرهَا من صغَار السبَاع، وَمن التردي وَغير ذَلِك، بِخِلَاف الْغنم فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ، فَجعل سَبِيل الْغنم سَبِيل اللّقطَة. قلت: فِي بعض من ذكره نظر، وَهُوَ قَوْله: اللّقطَة اسْم للشَّيْء الَّذِي يسْقط من صَاحبه إِلَى قَوْله: وَصفَة. فَإِن الْغنم أَيْضا لَيْسَ كَذَلِك، فَيَنْبَغِي أَن يكون مثل الْإِبِل على هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَنه لَيْسَ مثل الْإِبِل. وَقَوله أَيْضا: وتمتنع من الذئاب، فَإِن الجواميس تمْتَنع من كبار السبَاع فضلا عَن صغارها، وتغيب عَن صَاحبهَا أَيَّامًا عديدة ترعى وتشرب ثمَّ تعود، فَيَنْبَغِي أَن تكون مثل الْإِبِل مَعَ أَنه لَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (مَا لَك وَلها) فِيهِ نهي عَن أَخذهَا. وَقَوله: (لَك أَو لأخيك) فِيهِ إِذن لأخذها.
وَمن الْبَيَان فِيهِ: التَّشْبِيه، وَهُوَ فِي قَوْله: (مَعهَا سقاؤها وحذاؤها) ، فَإِنَّهُ شبه الْإِبِل بِمن كَانَ مَعَه حذاء وسقاء فِي السّفر.
وَمن البديع: فِيهِ الجناس النَّاقِص: وَهُوَ فِي قَوْله: إعرف وَعرف، والحرف المشدد فِي حكم المخفف فِي هَذَا الْبَاب. فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: حكى القَاضِي عَن بَعضهم الْإِجْمَاع على أَن معرفَة العفاص والوكاء من إِحْدَى عَلَامَات اللّقطَة. قلت: فَإِن وصفهَا وبيّنها، قَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: حل للملتقط أَن يَدْفَعهَا إِلَيْهِ من غير أَن يجْبر عَلَيْهِ فِي الْقَضَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجْبر على دَفعهَا لما جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إِيَّاه، وإلاَّ فَهِيَ لَك) . وَهَذَا أَمر، وَهُوَ للْوُجُوب. قَالَت الْحَنَفِيَّة: هَذَا مُدع وَعَلِيهِ الْبَيِّنَة، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْبَيِّنَة على من ادّعى) . والعلامة لَا تدل على الْملك وَلَا على الْيَد، لِأَن الْإِنْسَان قد يقف على مَال غَيره وَيخْفى عَلَيْهِ مَال نَفسه، فَلَا عِبْرَة بهَا. والْحَدِيث مَحْمُول على الْجَوَاز تَوْفِيقًا بَين الْأَخْبَار، لِأَن الْأَمر قد يُرَاد بِهِ الْإِبَاحَة، وَبِه نقُول، وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِذا وصفهَا، فَهَل يجب إعطاؤها بِالْوَصْفِ أم لَا؟ ذهب مَالك إِلَى وُجُوبه، وَاخْتلف أَصْحَابه: هَل يحلف؟ قَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يحلف. وَقَالَ أَشهب وَسَحْنُون: يحلف، وألحقوا بِهِ السَّارِق إِذا سرق مَالا وَنسي الْمَسْرُوق مِنْهُ، ثمَّ أَتَى من وَصفه فَإِنَّهُ يعْطى. وَأما الْوَدِيعَة إِذا نسي من أودعها إِيَّاه فَمن أَصْحَابه من أجراها مجْرى اللّقطَة وَالسَّرِقَة، وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا، بِأَن كل مَوضِع يتَعَذَّر فِيهِ على الْمَالِك إِقَامَة الْبَيِّنَة اكْتفى فِيهِ بِالصّفةِ. وَفِي(2/110)
المثالين الْأَوَّلين يتَعَذَّر إِقَامَة الْبَيِّنَة بِخِلَاف الْوَدِيعَة، ثمَّ فِي الْإِعْطَاء بِالْوَصْفِ مِنْهُم من شَرط الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة، وَمِنْهُم من اقْتصر على الْبَعْض. وَعند مَالك خلاف. قيل عِنْده: لَا بُد من معرفَة الْجَمِيع. وَقيل: يَكْفِي وصفان. وَقيل: لَا بُد من العفاص والوكاء. وَفِي (شرح السّنة) : اخْتلفُوا فِي أَنه لَو ادّعى رجل اللّقطَة وَعرف عفاصها ووكاءها فَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَنه: يدْفع إِلَيْهِ من غير بَيِّنَة أَقَامَهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود من معرفَة العفاص والوكاء. وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْحَنَفِيَّة: إِذا وَقع فِي النَّفس صدق الْمُدَّعِي فَلهُ أَن يُعْطِيهِ وإلاَّ فبينه.
الثَّانِي: هَل يجب على اللاقط الْتِقَاط اللّقطَة؟ فَروِيَ عَن مَالك الْكَرَاهَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَن أَخذهَا أفضل فِيمَا لَهُ بَال، وَللشَّافِعِيّ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: يسْتَحبّ الْأَخْذ وَلَا يجب. وَالثَّانِي: يجب. وَالثَّالِث: إِن خَافَ عَلَيْهَا وَجب، وَإِن أَمن عَلَيْهَا اسْتحبَّ. وَعَن أَحْمد: ينْدب تَركهَا. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : إِذا وجد لقطَة، فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يرفعها إِذا كَانَ يَأْمَن على نَفسه، وَإِذا كَانَ لم يَأْمَن لَا يرفعها، وَفِي (شرح الأقطع) : يسْتَحبّ أَخذ اللّقطَة وَلَا يجب، وَفِي (النَّوَازِل) قَالَ أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سَلام: ترك اللّقطَة أفضل فِي قَول أَصْحَابنَا من رَفعه وَرفع اللَّقِيط أفضل من تَركه، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) : إِن خَافَ ضياعها يفترض الرّفْع، وَإِن لم يخف يُبَاح رَفعهَا، أجمع الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَالْأَفْضَل الرّفْع فِي ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (فتاوي الولواجي) : اخْتلف الْعلمَاء فِي رَفعهَا، قَالَ بَعضهم رَفعهَا أفضل من تَركهَا، وَقَالَ بَعضهم: يحل رَفعهَا، وَتركهَا أفضل. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ) : وَلَو رَفعهَا ووضعها فِي مَكَانَهُ ذَلِك فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة. وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا: هَذَا إِذا لم يبرح من ذَلِك الْمَكَان حَتَّى وضع هُنَاكَ، فَأَما إِذا ذهب عَن مَكَانَهُ ذَلِك ثمَّ أَعَادَهَا ووضعها فِيهِ فَإِنَّهُ يضمن. وَقَالَ بَعضهم: يضمن مُطلقًا، وَهَذَا خلاف ظَاهر الرِّوَايَة.
الثَّالِث: احْتج بِهِ من يمْنَع الْتِقَاط الْإِبِل إِذا استغنت بقوتها عَن حفظهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَيُقَال عِنْد الشَّافِعِي: لَا يَصح فِي الْكِبَار وَيصِح فِي الصغار، وَعند مَالك: لَا يَصح فِي الْإِبِل وَالْخَيْل والبغل وَالْحمار فَقَط، وَعند أَحْمد: لَا يَصح فِي الْكل حَتَّى الْغنم، وَعنهُ: يَصح فِي الْغنم. وَفِي بعض شُرُوح البُخَارِيّ: وَعند الشَّافِعِيَّة يجوز للْحِفْظ فَقَط، إلاَّ أَن يُوجد بقرية أَو بلد فَيجوز على الْأَصَح. وَعند الْمَالِكِيَّة ثَلَاثَة أَقْوَال فِي الْتِقَاط الْإِبِل. ثَالِثهَا: يجوز فِي الْقرى دون الصَّحرَاء. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: فِي معنى الْإِبِل كل مَا امْتنع بقوته عَن صغَار السبَاع كالفرس والأرنب والظبي. وَعند الْمَالِكِيَّة خلاف فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يلْحق الْبَقر بِالْإِبِلِ دون غَيرهَا إِذا كَانَت بمَكَان لَا يخَاف عَلَيْهَا فِيهِ من السبَاع. وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف عِنْد مَالك فِي الدَّوَابّ وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير، هَل حكمهَا حكم الْإِبِل أَو سَائِر اللقطات؟ وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: يَصح الْتِقَاط الْبَهِيمَة مُطلقًا من أَي جنس كَانَ، لِأَنَّهَا مَال يتَوَهَّم ضيَاعه، والْحَدِيث مَحْمُول على مَا كَانَ فِي دِيَارهمْ، إِذْ كَانَ لَا يخَاف عَلَيْهَا من شَيْء، وَنحن نقُول فِي مثله بِتَرْكِهَا، وَهَذَا لِأَن فِي بعض الْبِلَاد الدَّوَابّ يسيبها أَهلهَا فِي البراري حَتَّى يحتاجوا إِلَيْهَا فيمسكوها وَقت حَاجتهم، وَلَا حَاجَة فِي التقاطها فِي مثل هَذِه الْحَالة، وَالَّذِي يدل على هَذَا مَا رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن شهَاب قَالَ: كَانَ ضوال الْإِبِل فِي زمن عمر، رَضِي الله عَنهُ، إبِلا مؤبلة، تتناتج لَا يمْسِكهَا أحد، حَتَّى إِذا كَانَ زمن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَمر بمعرفتها ثمَّ تبَاع، فَإِذا جَاءَ صَاحبهَا أعطي ثمنهَا. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا كَانَت الْإِبِل للْقنية فَهِيَ إبل مؤبلة.
الرَّابِع: التَّعْرِيف باللقطة. قَالَ أَصْحَابنَا: يعرفهَا إِلَى أَن يغلب على ظَنّه أَن رَبهَا لَا يطْلبهَا، وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن ذَلِك يخْتَلف بقلة المَال وكثرته، وروى مُحَمَّد بن أبي حنيفَة: إِن كَانَت أقل عَن عشرَة دَرَاهِم عرفهَا أَيَّامًا، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا حولا، وَقدره مُحَمَّد فِي الأَصْل بالحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك. وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا إِن كَانَت مِائَتي دِرْهَم فَصَاعِدا يعرفهَا حولا، وَفِيمَا فَوق الْعشْرَة إِلَى مِائَتَيْنِ شهرا، وَفِي الْعشْرَة جُمُعَة، وَفِي ثَلَاثَة دَرَاهِم ثَلَاثَة أَيَّام، وَفِي دِرْهَم يَوْمًا، وَإِن كَانَت تَمْرَة وَنَحْوهَا تصدق بهَا مَكَانهَا، وَإِن كَانَ مُحْتَاجا أكلهَا مَكَانهَا. وَفِي (الْهِدَايَة) : إِذا كَانَت اللّقطَة شَيْئا يعلم أَن صَاحبهَا لَا يطْلبهَا كالنواة وقشر الرُّمَّان يكون القاؤه مُبَاحا، وَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير تَعْرِيف، لكنه مبقي على ملك مَالِكه لِأَن التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح. وَفِي (الْوَاقِعَات) : الْمُخْتَار فِي القشور والنواة تَملكهَا، وَفِي الصَّيْد لَا يملكهُ، وَإِن جمع سنبلاً بعد الْحَصاد فَهُوَ لَهُ لإِجْمَاع النَّاس على ذَلِك، وَإِن سلخ شَاة ميتَة فَهُوَ لَهُ، ولصاحبها أَن يَأْخُذهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الحكم فِي صوفها. وَقَالَ القَاضِي: وجوب التَّعْرِيف سنة إِجْمَاع، وَلم يشْتَرط أحد تَعْرِيف ثَلَاث سِنِين إلاَّ مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَلَعَلَّه لم يثبت عَنهُ. قلت: وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. وَعَن أَحْمد: يعرفهَا شهرا، حَكَاهُ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه(2/111)
عَنهُ، وَحكى عَن آخَرين أَنه يعرفهَا ثَلَاثَة أَيَّام، حَكَاهُ عَن الشَّاشِي وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هَذَا إِذا أَرَادَ تَملكهَا، فَإِن أَرَادَ حفظهَا على صَاحبهَا فَقَط فالأكثرون من أَصْحَابنَا على أَنه لَا يجب التَّعْرِيف وَالْحَالة هَذِه، والأقوى الْوُجُوب، وَظَاهر الحَدِيث أَنه لَا فرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي وجوب التَّعْرِيف، وَفِي مدَّته، وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه لَا يجب التَّعْرِيف فِي الْقَلِيل مِنْهُ، بل يعرفهُ زَمنا يظنّ أَن فاقده يتْركهُ غَالِبا. وَقَالَ اللَّيْث: إِن وجدهَا فِي الْقرى عرفهَا، وَإِن وجدهَا فِي الصَّحرَاء لَا يعرفهَا. وَقَالَ الْمَازرِيّ: لم يجر مَالك الْيَسِير مجْرى الْكثير، وَاسْتحبَّ فِيهِ التَّعْرِيف وَلم يبلغ بِهِ سنة، وَقد جَاءَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام: (مر بتمرة، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها) . فنبه على أَن الْيَسِير الَّذِي لَا يرجع إِلَيْهِ أَهله يُؤْكَل. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن جَابر، رَضِي الله عَنهُ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه، يلتقطه الرجل وَينْتَفع بِهِ. وَقد حد بعض الْعلمَاء الْيَسِير بِنَحْوِ الدِّينَار تعلقاً بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فِي الْتِقَاط الدِّينَار. وَكَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر لَهُ تعريفاً، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي (سنَنه) ، وَيُمكن أَن يكون اختصرها الرَّاوِي، هَكَذَا كَلَام الْمَازرِيّ. وَقَالَ القَاضِي: حَدِيث أبي، رَضِي الله عَنهُ، يدل على عدم الْفرق بَين الْيَسِير وَغَيره لاحتجاجه فِي السَّوْط بِعُمُوم الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَعرفهُ عَليّ وَلم يجد من يعرفهُ. قلت: أَرَادَ بِحَدِيث أبي، هُوَ قَوْله: (وجدت صرة، مائَة دِينَار، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ اتيته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد، ثمَّ أَتَيْته ثَلَاثًا فَقَالَ: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع) . قَالَ الرَّاوِي: فَلَقِيت، يَعْنِي أبي بن كَعْب، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَو حولا وَاحِدًا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِن السَّوْط والعصا وَالْحَبل وَنَحْوه لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيف، وَإنَّهُ مِمَّا يُعْفَى عَن طلبه، وتطيب النَّفس بِتَرْكِهِ كالتمرة وَقَلِيل الطَّعَام. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْيَسِير التافه الَّذِي لَا يتمول كالحبة من الْحِنْطَة وَالزَّبِيب وَشبههَا لَا يعرف، وَإِن كَانَ قَلِيلا متمولاً يجب تَعْرِيفه، وَاخْتلفُوا فِي الْقَلِيل، فَقيل: مَا دون نِصَاب السّرقَة، وَقيل: الدِّينَار فَمَا فَوْقه، وَقيل: وزن الدِّرْهَم. وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي تَعْرِيفه. فَقيل: سنة كالكثير، وَقيل: مُدَّة يظنّ فِي مثلهَا طلب الفاقد لَهَا،، وَإِذا غلب على ظَنّه إعراضه عَنْهَا سقط الطّلب، فعلى هَذَا يخْتَلف بِكَثْرَة المَال وقلته، فدانق الْفضة يعرف فِي الْحَال، ودانق الذَّهَب يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ.
الْخَامِس: الِاسْتِمْتَاع بهَا إِن كَانَ فَقِيرا، وَلَا يتَصَدَّق بهَا على فَقير أَجْنَبِي أَو قريب مِنْهُ، وأباح الشَّافِعِي للغني الْوَاجِد لحَدِيث أبي بن كَعْب فِيمَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد: (عرفهَا، فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعدتها ووعائها ووكاءها فاعطها إِيَّاه وإلاَّ فاستمتع بهَا) . وبظاهر مَا فِي هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث الْبَاب: (ثمَّ استمتع بهَا) . قَالَ الْخطابِيّ: فِي لفظ: ثمَّ استمتع، بَيَان أَنَّهَا لَهُ بعد التَّعْرِيف، يفعل بهَا مَا شَاءَ بِشَرْط أَن يردهَا إِذا جَاءَ صَاحبهَا إِن كَانَت بَاقِيَة، أَو قيمتهَا إِن كَانَت تالفة، فَإِذا ضَاعَت اللّقطَة نظر، فَإِن كَانَ فِي مُدَّة السّنة لم يكن عَلَيْهِ شَيْء، لِأَن يَده يَد أَمَانَة، وَإِن ضَاعَت بعد السّنة فَعَلَيهِ الغرامة لِأَنَّهَا صَارَت دينا عَلَيْهِ. وَأغْرب الْكَرَابِيسِي من الشَّافِعِيَّة، فَقَالَ: لَا يلْزمه ردهَا بعد التَّعْرِيف، وَلَا رد بدلهَا، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَقَول مَالك فِي الشَّاة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالثَّوْري: يتَصَدَّق بهَا وَلَا يأكلها، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس. وَقَالَ مَالك: يسْتَحبّ لَهُ أَن يتَصَدَّق بهَا مَعَ الضَّمَان. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: المَال الْكثير يَجْعَل فِي بَيت المَال بعد السّنة. وَحجَّة الْحَنَفِيَّة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فليتصدق بِهِ) ، وَمحل الصَّدَقَة الْفُقَرَاء وَأَجَابُوا عَن حَدِيث أبي، رَضِي الله عَنهُ، وَأَمْثَاله بِأَنَّهُ حِكَايَة حَال، فَيجوز أَنه، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، عرف فقره، إِمَّا لديون عَلَيْهِ، أَو قلَّة مَاله أَو يكون إِذْنا مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَذَلِكَ جَائِز عندنَا من الإِمَام على سَبِيل الْقَرْض، وَيحْتَمل أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف أَنه فِي مَال كَافِر حَرْبِيّ.
السَّادِس: اسْتدلَّ الْمَازرِيّ لعدم الغرامة بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (هِيَ لَك) ، وَظَاهره التَّمْلِيك، وَالْمَالِك لَا يغرم. وَنبهَ بقوله: (للذئب) أَنَّهَا كالتالفة على كل حَال، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا ينْتَفع صَاحبهَا ببقائها. واجيب: لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، رحمهمَا الله تَعَالَى، بِأَن اللَّام للاختصاص، أَي: إِنَّك تخْتَص بهَا، وَيجوز لَك أكلهَا وَأَخذهَا، وَلَيْسَ فِيهِ تعرض للغرم وَلَا لعدمه، بل بِدَلِيل آخر، وَهُوَ قَوْله: (فَإِن جَاءَ رَبهَا يَوْمًا فأدها إِلَيْهِ) .
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الحكم والفتيا فِي حَال الْغَضَب، وَأَنه نَافِذ. لَكِن يكره فِي حَقنا بِخِلَاف النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ يُؤمن عَلَيْهِ فِي الْغَضَب مَا يخَاف علينا. وَقد حكم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، للزبير، رَضِي الله عَنهُ، فِي شراج الْحرَّة فِي حَال غَضَبه.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز قَول الْإِنْسَان: رب المَال وَرب الْمَتَاع. وَمِنْهُم من كره إِضَافَته إِلَى مَا لَهُ روح.
التَّاسِع: فِي قَوْله: (إعرف عفاصها(2/112)
ووكاءها) دَلِيل بَين على إبِْطَال قَول من ادّعى علم الْغَيْب فِي الْأَشْيَاء كلهَا من الكهنة والمنجمين وَغَيرهم، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَو علم أَنه يُوصل إِلَى علم ذَلِك من هَذِه الْوُجُوه لم يكن فِي قَوْله فِي معرفَة علاماتها وَجه.
الْعَاشِر: إِن صَاحب اللّقطَة إِذا جَاءَ فَهُوَ أَحَق بهَا من ملتقطها إِذا ثَبت أَنه صَاحبهَا، فَإِن وجدهَا قد أكلهَا الْمُلْتَقط بعد الْحول، وَأَرَادَ أَن يضمنهُ كَانَ لَهُ ذَلِك، وَإِن كَانَ قد تصدق بهَا فصاحبها مُخَيّر بَين التَّضْمِين وَبَين أَن يتْرك على أجرهَا، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ قَول طَاوس وَعِكْرِمَة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ رَحِمهم الله.
الْحَادِي عشر: احتجت الشَّافِعِيَّة بقوله: (استمتع بهَا) ، وَبِمَا جَاءَ فِي بعض طرق الحَدِيث: (فَإِن جَاءَ من يعرفهَا وإلاَّ فاخلطها بِمَالك) . وَفِي بَعْضهَا: (عرفهَا سنة ثمَّ أعرف وكاءها وعفاصها، ثمَّ استنفق بهَا، فَإِن جَاءَ رَبهَا فأدها إِلَيْهِ) . وَبِمَا جَاءَ فِي مُسلم: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَعرف عفاصها وعددها وكاءها فاعطها إِيَّاه، وإلاَّ فَهِيَ لَك) . وَفِي بعض طرقه: (ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك. فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ) ، على أَن من عرفهَا سنة وَلم يظْهر صَاحبهَا كَانَ لَهُ تَملكهَا، سَوَاء كَانَ غَنِيا أَو فَقِيرا، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل تدخل فِي ملكه بِاخْتِيَارِهِ أَو بِغَيْر اخْتِيَاره؟ فَعِنْدَ الْأَكْثَرين تدخل بِغَيْر الِاخْتِيَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مُسْتَوفى.
92 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ قَالَ: حدّثنا أبُو أُسامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أشياءَ كَرهَها، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ للِنَّاسِ: (سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ) قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أبي؟ قَالَ: (أبُوك حُذَافَةُ) فَقامُ آخرُ فَقَالَ: مَنْ أبي يَا رسولَ الله {فَقَالَ: (أبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ) . فَلمَّا رأَى عُمَرُ مَا فِي وجْهِهِ قَالَ: رسولَ الله} إنَّا نَتُوبُ إلَى الله عَزَّ وجَلَّ.
(الحَدِيث 92 طرْقَة فِي: 7291) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ غضب) .
بَيَان رِجَاله: هم خَمْسَة قد ذكرُوا أعيانهم بِهَذِهِ السلسلة فِي: بَاب فضل من علم وَعلم، وَكلهمْ كوفيون، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد اللَّه، وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، عَامر بن أبي مُوسَى، وَأَبُو مُوسَى عبد اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا عَن أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء، وَفِي كتاب الِاعْتِصَام فِي: بَاب مَا يكره من كَثْرَة السُّؤَال، عَن يُوسُف بن مُوسَى، وَفِي الْفَضَائِل عَن أبي كريب وَعبد اللَّه بن براد، ثَلَاثَتهمْ عَن أُسَامَة عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (عَن أَشْيَاء) : هُوَ غير منصرف، قَالَ الْخَلِيل: إِنَّمَا ترك صرفه لِأَن أَصله: فعلاء كالشعراء جمع على غير الْوَاحِد، فنقلوا الْهمزَة الأولى إِلَى أول الْكَلِمَة، فَقَالُوا: اشياء، فوزنه: أفعاء. وَقَالَ الْأَخْفَش وَالْفراء: هُوَ أفعلاء كالأنبياء، فحذفت الْهمزَة الَّتِي بَين الْيَاء وَالْألف للتَّخْفِيف، فوزنه أفعاء. وَقَالَ الْكسَائي: هُوَ أَفعَال كأفراخ، وَإِنَّمَا تركُوا صرفهَا لِكَثْرَة استعمالهم لَهَا، وَلِأَنَّهَا شبهت بفعلاء. وَقَالَ فِي (الْعباب) : الشَّيْء تصغيره شَيْء، وشييء بِكَسْر الشين، وَلَا تقل: شوىء، وَالْجمع: اشياء، غير مصروفة. وَالدَّلِيل على قَول الْخَلِيل أَنَّهَا لَا تصرف أَنَّهَا تصغر على اشياء وَأَنَّهَا تجمع على أشاوي، وَأَصلهَا: أشائي، قلبت الْهمزَة يَاء فاجتمعت ثَلَاث ياآت فحذفت الْوُسْطَى، وقلبت الْأَخِيرَة ألفا فابدلت من الأول وَاو. وَحكى الْأَصْمَعِي أَنه سمع رجلا من فصحاء الْعَرَب يَقُول لخلف الْأَحْمَر: إِن عنْدك لأشاوي مِثَال الصحارى، وَيجمع أَيْضا على: أشايا وأشياوات، وَيدخل على قَول الْكسَائي أَن لَا تصرف: أَبنَاء وَأَسْمَاء، وعَلى قَول الْأَخْفَش أَن لَا تجمع على: أشاوى. قَوْله: (كرهها) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة الْأَشْيَاء، وَإِنَّمَا كره لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ سَببا لتَحْرِيم شَيْء على الْمُسلمين فتلحقهم بِهِ الْمَشَقَّة، أَو رُبمَا كَانَ فِي الْجَواب مَا يكره السَّائِل ويسوؤه، أَو رُبمَا أحفوه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحقوه الْمَشَقَّة والأذى، فَيكون ذَلِك سَببا لهلاكهم، وَهَذَا فِي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا ضَرُورَة وَلَا حَاجَة إِلَيْهَا أَو لَا يتَعَلَّق بهَا تَكْلِيف وَنَحْوه. وَفِي غير ذَلِك لَا تتَصَوَّر الْكَرَاهَة لِأَن السُّؤَال حينئذٍ إِمَّا وَاجِب أَو مَنْدُوب لقَوْله تَعَالَى: {فاسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} (النَّحْل: 43، والأنبياء: 7) . قَوْله: (فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: فَلَمَّا أَكثر السُّؤَال على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غضب. وَهُوَ جَوَاب: لما. وَسبب غَضَبه تعنتهم فِي السُّؤَال وتكلفهم فِيمَا لَا حَاجَة لَهُم فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِن أعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شي فَحرم من أجل مَسْأَلته) . أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث سعد. قَوْله: (سلوني) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. قَالَ بعض الْعلمَاء: هَذَا القَوْل(2/113)