6 كتاب الجهاد بكسر الجيم أصله المشقة يقال جهدت جهادا بلغت المشقة وشرعا بذل الجهد في قتال الكفار
ويطلق على مجاهدة النفس بتعلم أمور الدين ثم العمل بها ثم على تعليمها وعلى مجاهدة الشيطان بدفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات وعلى مجاهدة الفساق باليد ثم اللسان ثم القلب
وأما مجاهدة الكفار فباليد والمال واللسان والقلب وشرع بعد الهجرة اتفاقا
وللعلماء قولان مشهوران هل كان فرض عين أو كفاية وقال الماوردي كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح على كل من أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام
وقال السهيلي كان عينا على الأنصار دون غيرهم ويؤيده مبايعتهم النبي ليلة العقبة على أن يؤوه وينصروه فتخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر وقد كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي وعلى من عينه ولو لم يخرج
وأما بعده ففرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو وبتعيين الإمام وتتأدى الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور لأن الجزية بدل عنه وإنما يجب في السنة مرة اتفاقا فبدلها كذلك وقيل يجب كلما أمكن وهو قوي قال بعضهم والتحقيق أن جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه
51 الترغيب في الجهاد ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال مثل المجاهد في سبيل الله ) زاد البخاري عن ابن المسيب
____________________
(3/3)
عن أبي هريرة مرفوعا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا
( كمثل الصائم ) نهاره ( القائم ) ليله للصلاة ( الدائم الذي لا يفتر ) بضم التاء لا يضعف ولا ينكسر ( من صلاة ولا صيام ) تطوعا ومن كان كذلك فأجره مستمر فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حتى يرجع ) من جهاده
قال تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب } التوبة 120 الآيتين ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو حابس لها على من يقاتله
قال البوني يحتمل أنه ضرب ذلك مثلا وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائما مصليا لا يفتر ليلا ولا نهارا ويحتمل أنه أراد التكثير
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله
زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد
قال الباجي أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرر الشرع من كثرته وعرف من عظمه
قال عياض هذا تفخيم عظيم للجهاد لأن الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المار ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد باعتبار أحوال المخاطبين كما مر مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة
وقال ابن دقيق العيد القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى
وأما حديث ابن عباس مرفوعا ما العمل في أيام الفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال تكفل الله ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة تضمن الله وللبخاري انتدب الله
وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 وذلك التحقق عن وجه الفضل منه سبحانه وتعالى
وعبر عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ
____________________
(3/4)
الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لمن جاهد في سبيله ) الكفار عند الإطلاق شرعا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي فيما يحكى عن ربه قال أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث أخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول إلا المجاهد في سبيلي هو علي ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث
( وتصديق كلماته ) قال النووي أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الأخبار للمجاهدين من عظيم الثواب قال والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى ( أن يدخله ) إن استشهد ( الجنة ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة
وقال تعالى { أحياء عند ربهم يرزقون } آل عمران 169 قاله الباجي وتبعه عياض وغيره دفعا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص
( أو يرده ) بالنصب عطفا على يدخله وفي رواية الأويسي أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر ) خالص إن لم يغنم شيئا ( أو غنيمة ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل عن التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع
وقال الكرماني معناه أن المجاهد إما أن يتشهد أو لا والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلو لا مانعة جمع
وأجيب أيضا بأن أو بمعنى الواو وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواية في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو وقال الحافظ فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا انتهى
وهذا الإشكال لابن دقيق العيد وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة الخ
وأما إن سكت عنه فلا
____________________
(3/5)
يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالما مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال أيضا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه انتهى
وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي مرفوعا ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدح النبي بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدح بها وأيضا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا مع أن أهل بدر أفضل باتفاق ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانىء وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف فيه تجريح لأحد ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غيرها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن رده إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد الخ
وقال عياض الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر
وقال ابن دقيق العيد لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلا في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أول ما شرع كان عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة ولا يلزم من كونهم مغفورا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون
____________________
(3/6)
وراءهم مرتبة أخرى وأما الإعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا البتة
قلت والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده مثال ذلك لو فرض أن أجر البدري بلا غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أول غزوة شهدها النبي في قتال الكفار وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل
واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عد ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأيل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخرية فالدنيويتان السلامة والغنيمة والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالا وتفصيلا انتهى
وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم
988 ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال الخيل ) زاد القعنبي لثلاثة ( لرجل أجر ) أي ثواب ( ولرجل ستر ) بكسر فسكون أي ساتر لفقره ولحاله ( وعلى رجل وزر ) أي إثم ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية
____________________
(3/7)
وهو الأخير أولا ولا وهو الثاني
( فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ) أي أعدها للجهاد ( فأطال لها ) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح الرعي ( في مرج ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم موضع كلإ وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أو روضة ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فما أصابت ) أي أكلت وشربت ومشت ( في طيلها ) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام حبلها الذي تربط به ويطول لها لترعى ويقال له طول بالواو المفتوحة أيضا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفا عند البخاري أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذلك من المرج ) الأرض الواسعة ذات كلإ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت
( أو الروضة ) بالشك من الراوي كسابقه ( كان ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرا لمعنى ما ( له حسنات ) يوم القيامة يجدها موفورة ( ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شرفا أو شرفين ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما شوطا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كانت آثارها ) بالمد والمثلثة في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وأرواثها ) بمثلثة جمع روث أي ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حسنات له ) أي لصاحبها يوم القيامة ( ولو أنها مرت بنهر ) بفتح الهاء وسكونها ( فشربت منه ) بغير قصد صاحبها ( و ) الحال أنه ( لم يرد أن يسقي ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( به ) أي من ذلك النهر ( كان ذلك ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( له حسنات ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها
وقال ابن المنير قيل إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل أن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فهي له أجر ) في الوجهين
( و ) القسم الثاني الذي هي له ستر ( رجل ربطها تغنيا ) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال تغنيت بما رزقني الله تغنيا وتغانيت تغانيا واستغنيت استغناء كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيا عن سؤال الناس ( وتعففا ) عن مسألتهم
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم أما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا ( ولم ينس حق الله في رقابها ) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { فتحرير رقبة }
____________________
(3/8)
( النساء 92 ) ( ولا ) في ( ظهورها ) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فهي لذلك ستر ) ساتر من المسكنة ( و ) الثالث الذي هي له وزر ( رجل ربطها فخرا ) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظما ( ورياء ) أي إظهارا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرا وبطرا ورياء للناس ( ونواء ) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لأهل الإسلام ) قال الخليل ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدا
وقال البوني يروى نوى بفتح النون وكسرها ويروى نواء بالمد مصدر انتهى
والظاهر أن الواو فيه فيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فهي على ذلك وزر ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبا أو مباحا أو ممنوعا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه غالبا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب
( وسئل رسول الله عن الحمر ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ لم أقف على تسمية السائل صريحا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله قدمت على النبي فسمعته يقول { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 8 إلى آخر السورة فقلت ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الإحتمال ( فقال لم ينزل ) بالبناء للمفعول ( علي فيها شيء ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله علي فيها ( إلا هذه الآية الجامعة ) لكل الخيرات والمسرات ( الفاذة ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها
قال أبو عبد الملك يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى
وقال ابن التين المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها
وقال ابن عبد البر يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه وأما الشر فتحت المشيئة
قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل علي فيها شيء إلا الخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } النجم 3 4
____________________
(3/9)
واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قال في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول إلا حقا ( فمن يعمل مثقال ذرة ) أي نملة صغيرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء ( خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) قال ابن بطال فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرة من خير أو شر وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو { من عمل صالحا فلنفسه } فصلت 46 وقد اتفق العلماء على عموم آية { فمن يعمل } القائلون بالعموم ومن لم يقل به
قال ابن مسعود هذه أحكم آية في القرآن وأصدق
وقال كعب الأحبار لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } الزلزلة 7 8 الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولا من طرق عن زيد بن أسلم
( مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ) بن حزم ( الأنصاري ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك
( عن عطاء بن يسار أنه قال ) مرسل وصله الترمذي من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال ( قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألا أخبركم بخير الناس منزلا ) قال الباجي أي أكثرهم ثوابا وأرفعهم درجة قال عياض وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاء به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رجل آخذ ) اسم فاعل ( بعنان ) بكسر العين لجام ( فرسه يجاهد في سبيل الله ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه
____________________
(3/10)
آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبا من ذلك راكبا أو قائدا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذا بعنانه في كثير منها
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قيل يا رسول الله أي الناس أفضل فقال مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قال الحافظ كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي
( ألا أخبركم بخير الناس منزلا ) وفي رواية منزلة ( بعده رجل معتزل في غنيمته ) بضم المعجمة مصغرا إشارة إلى قلتها ( يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئا ) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما لكن قال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله يأتي الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير رواه مسلم وغيره
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلا مر بشعب فيه عين عذبة أعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي فقال لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عاما قال ابن عبد البر إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( قال أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عن أبيه ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عن جده ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء قال سعيد بن عفير كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية ( قال بايعنا رسول الله ) ليلة العقبة وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( على السمع ) له بإجابة أقواله ( والطاعة ) له بفعل ما يقول قال الباجي السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( في اليسر والعسر ) أي
____________________
(3/11)
يسر المال وعسره ( والمنشط ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( والمكره ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره وقت الكراهية كذلك وقال ابن التين الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل وقال الطيبي أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا ( وأن لا ننازع الأمر ) أي الملك والإمارة ( أهله ) قال الباجي يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي الثاني هو الصحيح ويؤيده في أن مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقا وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك وفي البخاري زيادة إلا أن تروا كفرا بواحا أي ظاهرا باديا انتهى
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } البقرة 124 وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج أما أهل السنة فقالوا الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك
( وأن نقول ) باللام ( أو نقوم ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله ) أي في نصرة دينه ( لومة لائم ) من الناس واللومة المرة من اللوم قال الزمخشري وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { وجاهدوا في الله حق جهاده } الحج 78 كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه
قال ابن عبد البر هكذا روى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطا أضربت عنه لأن
____________________
(3/12)
الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به
( مالك عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة ) عامر ( ابن الجراح ) أحد العشرة ( إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( منهم فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين ) للحاكم في المستدرك عن الحسن قال خرج النبي يوما مسرورا فرحا يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } الشرح 5 6 إسناده صحيح مرسلا
وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعا
قال الباجي قيل إن وجه ذلك أنه لما عرف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولما نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني
قال وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { وصابروا } الكفار فلا يكونوا أشد صبرا منكم { ورابطوا } أقيموا على الجهاد
{ واتقوا الله } في جميع أحوالكم { لعلكم تفلحون } آل عمران 200 تفوزون بالجنة وتنجون من النار
1 النهي عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو 99( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن ) بالمصحف أي وبهذا اللفظ رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ( إلى أرض العدو ) الكفار فالنهي إنما هو عن السفر بالمصحف لا السفر بالقرآن نفسه لأن القرآن المنزل نفسه لا يمكن السفر به وهذا مراد البخاري
____________________
(3/13)
بقوله قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يعلمون القرآن
واعترضه الإسماعيلي بأنه لم يقل أحد أن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم قال الحافظ هذا اعتراض من لم يفهم مراد البخاري وادعى المهلب أن مراده تقوية القول بالتفرقة بين الجيش الكثير فيجوز والطائفة القليلة فيمنع
( قال مالك وإنما ذلك ) أي النهي ( مخافة أن يناله العدو ) فيؤدي إلى استهانته قال ابن عبد البر كذا قال يحيى الأندلسي وابن بكير وأكثر الرواة عن مالك ورواه ابن وهب عنه فقال خشية أن يناله العدو فجعله من المرفوع وكذا قال عبيد الله بن عمر وأيوب عن نافع نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو قال الحافظ أشار إلى تفرد ابن وهب برفعها عن مالك وليس كذلك فقد تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عند ابن ماجه بلفظ مخافة أن يناله العدو ولم يجعله قول مالك
وقد رفعها ابن إسحاق أيضا عند أحمد والليث وأيوب عند مسلم فصح أن التعليل مرفوع وليس بمدرج ولعل مالكا كان يجزم برفعه ثم صار يشك فيه فجعله من تفسير نفسه
قال ابن عبد البر أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر لصغير المخوف عليه وفي التكبير المأمون خلاف فمنع مالك أيضا مطلقا
وفصل أبو حنيفة وأدار الشافعي الكراهة مع الخوف وجودا وعدما واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر للعلة المذكورة فيه وهو التمكن من استهانته ولا خلاف في تحريم ذلك إنما اختلف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا واستدل به على منع تعليم الكافر القرآن وبه قال مالك مطلقا وأجازه أبو حنيفة مطلقا
وعن الشافعي القولان
وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه وبين الكثير فمنعه ويؤيده كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بعض آيات
ونقل النووي الاتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثله زاد بعضهم منع بيع كتب فقه فيها آثار قال السبكي بل الأحسن أن يقال كتب علم وإن لم يكن فيها آثار تعظيما للعلم الشرعي قال ولده التاج وينبغي منع ما يتعلق بالشرعي ككتب النحو والفقه وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي ومسلم عن يحيى كليهما عن مالك به غير أن البخاري ومسلما لم يذكرا التعليل للاختلاف في رفعه وذكره أبو داود بلفظ أراه مخافة الخ
2 النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو ( مالك عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك ) الأنصاري ( قال ) مالك ( حسبت أنه ) أي ابن شهاب ( قال ) عن ( عبد الرحمن بن كعب ) الأنصاري أبي الخطاب المدني ثقة من كبار التابعين
____________________
(3/14)
ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات في خلافة سليمان قال ابن عبد البر كذا ليحيى وابن القاسم وابن بكير وبشر بن عمر وغيرهم
وقال القعنبي حسبت أنه قال عبد الله بن كعب أو عبد الرحمن بالشك
وقال ابن وهب عن ابن لكعب ولم يقل عبد الله ولا عبد الرحمن ولا حسب شيئا من ذلك واتفق رواة الموطأ على إرساله ولا أعلم أحدا أسنده عن مالك إلا الوليد بن مسلم فقال عن أبيه ( أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الخمسة ( الذين قتلوا ابن أبي الحقيق ) بضم الحاء المهملة وقافين مصغر وهو أبو رافع اليهودي قال البخاري اسمه عبد الله ويقال سلام وبالثاني جزم ابن إسحاق وأفاد الحافظ أنه اسمه الأصلي وأن الذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس كما أخرجه الحاكم في الإكليل من حديثه مطولا قال البخاري كان أبو رافع بخيبر ويقال في حصن له بأرض الحجاز ويحتمل أن حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز وعند موسى بن عقبة فطرقوا باب أبي رافع بخيبر فقتلوه في بيته
وأخرج البخاري عن البراء بن عازب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه وذكر ابن عائذ عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على النبي صلى الله عليه وسلم
وعند ابن إسحاق كان فيمن حزب الأحزاب يوم الخندق فبعث إليه عبد الله بن عتيك ومعه أربعة عبد الله بن أنيس وأبا قتادة ومسعود بن سنان والأسود بن خزاعي ويقال فيه خزاعي بن الأسود ونهاهم ( عن قتل النساء والولدان ) فذهبوا إلى خيبر فكمنوا فلما هدأت الأصوات جاؤوا حتى قاموا على بابه وقدموا ابن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية فاستفتح فقالت له امرأة أبي رافع من أنت قال جئت أبا رافع بهدية وفي رواية فقالت من أنتم قالوا أناس نلتمس الميرة قالت ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه فلما دخلنا أغلقنا عليها وعليه الحجرة تخوفا أن يحال بيننا وبينه ( قال ) ابن كعب ( فكان رجل منهم ) أي الخمسة الذين ذهبوا لقتله ( يقول برحت ) بفتح الموحدة والراء الثقيلة والمهملة أي أظهرت ( بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح ) وعند ابن سعد فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشار إليها ابن عتيك بالسيف فسكتت
وعند ابن إسحاق فصاحت امرأته فنوهت بنا فيمكن أنهم لما دخلوا صاحت صياحا لم يسمع ثم أرادت رفع صوتها ومداومة الصياح لتسمع الجيران فرفعوا عليها السلاح فسكتت ( فأرفع السيف عليها ) لأقتلها ( ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكف ) عن قتلها ( ولولا ذلك ) أي نهيه ( استرحنا منها )
وفي رواية ابن إسحاق ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهيه صلى الله عليه وسلم فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل فعلوه بأسيافهم والذي باشر قتله عبد الله بن عتيك كما في البخاري والقصة مبسوطة في السير
____________________
(3/15)
( مالك عن نافع ) قال ابن عبد البر أرسله أكثر رواة الموطأ ووصله جماعة كعبد الرحمن بن مهدي وابن بكير وأبي مصعب وعبد الله بن يوسف ومعن بن عيسى فقالوا مالك عن نافع ( عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه ) أي غزوة فتح مكة كما في أوسط الطبراني عن ابن عمر ( امرأة ) لم تسم ( مقتولة فأنكر ذلك ) في رواية الطبراني فقال ما كانت هذه تقاتل ( ونهى عن قتل النساء ) لضعفهن عن القتال ( والصبيان ) لقصورهم عن فعل الكفر ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به وقد اتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والصبيان وحكى الحازمي قولا بجواز قتلهما على ظاهر حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب وقد أشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث النهي روى الأئمة الستة عن الصعب بن جثامة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال هم منهم وفي ابن حبان عن الصعب أنه السائل والأولى الجمع بين الحديثين بأن معنى قوله هم منهم أي في الحكم في تلك الحالة المسؤول عنها وهي ما إذا لم يمكن الوصول إلى قتل الرجال إلا بذلك وقد خيف على المسلمين فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم لم يمتنع ذلك وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم مع القدرة على تركه جمعا بينهما بدون دعوى نسخ هذا وقد تابع مالكا الليث بن سعد وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر به في الصحيحين وغيرهما وهو يؤيد رواية من وصله عن مالك وكأنه حدث به بالوجهين
( مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج ) الصديق ( يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ) صخر بن حرب الأموي صحابي مشهور أمره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون ( وكان ) يزيد ( أمير ربع من تلك الأرباع ) التي أمرها الصديق إلى الشام وأمراء الباقي أبو عبيدة ربع وعمرو بن العاصي ربع وشرحبيل بن حسنة ربع ( فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر إما أن تركب وإما أن أنزل ) حتى نتساوى في السير ( فقال أبو بكر ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ) لكونها مشيا في طاعة وقد اقتدى الصديق في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فخرج يمشي في ظل راحلة معاذ وهو راكب لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك فمشى معه ميلا كما عند أحمد وأبي يعلى وابن عساكر ( ثم قال له إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا )
____________________
(3/16)
وقفوا ( أنفسهم لله ) وهم الرهبان ( فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ) لكونهم لا يقاتلون ولا يخالطون الناس لا تعظيما لفعلهم بل هم أبعد عن الله لأنهم يحسبون أنهم على شيء وما هم ( وستجد قوما فحصوا ) بفتح الفاء والمهملة وضم الصاد مهملة ( عن أوساط رؤوسهم من الشعر ) قال ابن حبيب يعني الشمامسة وهم رؤساء النصارى جمع شماس ( فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف ) أي اقتلهم ( وإني موصيك بعشر لا تقتلن امرأة ولا صبيا ) للنهي عن قتلهما ( ولا كبيرا هرما ) لا قتال عنده ( ولا تقطعن شجرا مثمرا ) رجى للمسلمين ( ولا تخربن عامرا ) كذلك ( ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ) بفتح الكاف وضمها أي أكل ( ولا تحرقن نحلا ) بالحاء المهملة حيوان العسل ( ولا تغرقنه ) قال الأبهري رجاء أن يطير فيلحق بأرض المسلمين فينتفعون بها ( ولا تغلل ) للنهي عنه في القرآن ( ولا تجبن ) بضم الموحدة تضعف عند اللقاء
( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز ) خامس أو سادس الخلفاء الراشدين ( كتب إلى عامل من عماله أنه بلغنا ) وصله أحمد ومسلم وأصحاب السنن من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة ( عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية ) فعيلة بمعنى فاعلة قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه سميت بذلك لأنها تكون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء النفيس وقيل لأنها تخفي ذهابها فتسرى في خفية وهذا يقتضي أنها أخذت من السر ولا يصح لاختلاف المادة لأن لام السر راء وهذه ياء قاله ابن الأثير وأجيب بأن اختلافها إنما يمنع الاشتقاق الصغير وهو رد فرع إلى أصل لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية ويجوز أنه أريد بالأخذ مجرد الرد للمناسبة والاشتراك في أكثر الحروف قال ابن السكيت السرية من خمسة إلى ثلثمائة وقال الخليل نحو أربعمائة وفي النهاية يبلغ أقصاها أربعمائة وفي رواية كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم ( يقول لهم اغزوا باسم الله ) أي ابدؤوا بذكر الله ( في سبيل الله ) أي أخلصوا نياتكم ( تقاتلون من كفر بالله ) كأنه بيان لسبيل الله جواب عن سؤال اقتضاه كأنه قيل ما هو فلذا ترك العاطف ( لا تغلوا ) أي لا تخونوا في المغنم قال ابن قتيبة سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه أي يخفيه ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر ( ولا تغدروا )
____________________
(3/17)
بكسر الدال ثلاثي أي لا تتركوا الوفاء ( ولا تمثلوا ) بالتشديد للمبالغة والتكثير أي لا تقطعوا القتلى ( ولا تقتلوا وليدا ) أي صبيا ويقول صلى الله عليه وسلم لمن يؤمره ( وقل ذلك لجيوشك وسراياك ) وقوله ( إن شاء الله ) للتبرك ( والسلام عليك ) وفيه فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر والغلول وقتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بالتقوى والرفق وتعريف ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب قاله النووي
3 ما جاء في الوفاء بالأمان ( مالك عن رجل من أهل الكوفة ) يقال هو سفيان الثوري ولا يبعد ذلك فقد روى مالك عن يحيى بن مضر الأندلسي عن الثوري قال الطلح المنضود الموز قاله ابن عبد البر ( أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل ) أي أمير ( جيش ) لم يسم ( كان بعثه أنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج ) الرجل الضخم من كبار العجم وبعض العرب يطلقه على الكافر مطلقا والجمع علوج وإعلاج مثل حمل وحمول وأحمال ( حتى إذا أسند ) صعد ( في الجبل وامتنع قال رجل مطرس ) هي كلمة فارسية ( يقول ) أي معناها ( لا تخف ) كذا ليحيى مطرس بالطاء المهملة ولغيره مترس قال الحافظ بفتح الميم وتشديد الفوقية وإسكان الراء فمهملة وقد تخفف التاء وبه جزم بعض من لقيناه من العجم وقيل بإسكان التاء وفتح الراء ووقع في الموطأ رواية يحيى الأندلسي مطرس بالطاء بدل التاء قال ابن قرقول هي كلمة أعجمية والظاهر أن الراوي فخم المثناة فصارت تشبه الطاء كما يقع من كثير من الأندلسيين وفي البخاري قال عمر إذا قال مترس فقد آمنه أن الله يعلم الألسنة كلها أي اللغات ويقال أنها ثنتان وسبعون لغة ست عشرة في ولد سام ومثلها في ولد حام والبقية في ولد يافث
( فإذا أدركه قتله وإني والذي نفسي بيده ) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها ( لا أعلم مكان واحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه قال يحيى سمعت مالكا يقول ليس هذا الحديث ) أي حديث عمر الموقوف عليه ( بالمجتمع عليه وليس عليه العمل ) أي قوله إلا ضربت عنقه لأنه لا يقتل من فعل ذلك وإن كان حراما
____________________
(3/18)
قال أبو عبد الملك يحتمل أن قسم عمر تغليظ لئلا يفعل ذلك أحد وكذلك تفعل الأئمة تخوف بأغلظ شيء يكون ويحتمل أن رأى إن قاتله لأخذ سلبه بعد إن آمنه يكون محاربا فيجب عليه القتل بالحرابة لا أنه يقتل المسلم بالكافر لحديث لا يقتل مسلم بكافر ( وسئل مالك عن الإشارة بالأمان أهي بمنزلة الكلام فقال نعم ) فيحرم نقضه كما يحرم بالصريح ( وإني أرى أن يتقدم ) بالبناء للمفعول ( إلى الجيوش أن لا تقتلوا أحدا أشاروا إليه بالأمان لأن الإشارة عندي بمنزلة الكلام ولأنه بلغني أن عبد الله بن عباس قال ما ختر ) بفتح الخاء المعجمة والمثناة الفوقية وراء قال الأزهري الختر أقبح الغدر ( قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ) جزاء لما اجترحوه من نقض العهد المأمور بالوفاء به وهذا ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر رواه ابن ماجه والطبراني وله شاهد عن ابن عمر مرفوعا نحوه عند ابن إسحاق
4 العمل في من أعطى شيئا في سبيل الله ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أعطى شيئا في سبيل الله يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى ) بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة لأنه رأس المغزاة فمنه يدخل إلى أول الشام ( فشأنك به ) يعني أنه ملكه له وإنما قال ذلك خيفة أن يرجع المعطي فتتلف العطية ولم يبلغ صاحبه مراده فيها فإذا بلغ الوادي كان أغلب أحواله أن لا يرجع حتى يغزو
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن سعيد بن المسيب كان يقول إذا أعطي ) بالبناء للمفعول ( الرجل الشيء في الغزو فيبلغ به رأس مغزاته فهو له ) ملكا وفيه حل ذلك للغازي وإن غنيا فليس كالصدقة
( سئل مالك عن رجل أوجب على نفسه الغزو فتجهز حتى إذا أراد أن يخرج منعه أبواه أو أحدهما فقال لا
____________________
(3/19)
يكابرهما ) أي لا يغالبهما ويعاندهما ولابن وضاح لا أرى أن يكابرهما ( ولكن يؤخر ذلك إلى عام آخر ) وفي الصحيح جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد أي خصهما بجهاد النفس في رضاهما وبرهما فعبر عن الشيء بضده لفهم المعنى لأن ظاهره إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما وليس بمراد قطعا وإنما المراد القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن والمال
وفي مسلم قال ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما وفي أبي داود ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما وعنده أيضا ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما قال الجمهور يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فإذا تعين الجهاد فلا إذن
ففي ابن حبان جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن أفضل الأعمال قال الصلاة قال ثم مه قال الجهاد قال فإن لي والدين فقال آمرك بوالديك خيرا فقال والذي بعثك بالحق لأجاهدن ولأتركنهما قال فأنت أعلم فهذا محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الأحاديث
( فأما الجهاز فإني أرى أن يرفعه حتى يخرج به فإن خشي أن يفسد باعه وأمسك ثمنه حتى يشتري به ما يصلحه للغزو ) في العام الآخر ( فإن كان موسرا يجد مثل جهازه ) بفتح الجيم وكسرها ( إذا خرج فليصنع بجهازه ما شاء ) لقدرته على تحصيله
5 جامع النفل في الغزو النفل بفتحتين على المشهور وقد تسكن الفاء واحد الأنفال زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة ومنه نفل الصلاة وهو ما عدا الفريضة
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ) في شعبان سنة ثمان قبل فتح مكة قاله ابن سعد وذكر غيره أنها كانت في جمادي وقيل في رمضان من السنة وكان أميرها أبو قتادة وكانوا خمسة عشر رجلا ( فيها عبد الله بن عمر قبل ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة ( نجد ) لأجل محارب بها وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار فهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط بهم وقاتل منهم رجال فقتل من أشرف منهم ( فغنموا إبلا كثيرة ) وفي رواية لمسلم فأصبنا إبلا وغنما وذكر أهل السير أنها مائة بعير وألفا شاة ( فكان سهمانهم ) بضم السين وسكون الهاء
____________________
(3/20)
جمع سهم أي نصيب كل واحد ( اثني عشر بعيرا ) وتوهم بعضهم أن ذلك جميع الأنسباء قال النووي وهو غلط ( أو أحد عشر بعيرا ) قال ابن عبد البر اتفق رواة الموطأ على روايته بالشك إلا الوليد بن مسلم فرواه عن شعيب ومالك جميعا فقال اثني عشر فلم يشك وكأنه حمل رواية مالك على رواية شعيب وهو منه غلط وكذا أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك والليث بغير شك فكأنه أيضا حمل رواية مالك على رواية الليث والقعنبي إنما رواه في الموطأ على الشك فلا أدري أمن القعنبي جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك أم من أبي داود وقال سائر أصحاب نافع اثني عشر بعيرا بلا شك لم يقع الشك فيه إلا من قبل مالك
( ونفلوا ) بضم النون مبني للمفعول أي أعطي كل واحد منهم زيادة على السهم المستحق له ( بعيرا بعيرا ) واختلف الرواة في القسم والتنفيل هل كانا معا من أمير ذلك الجيش أو من النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدهما من أحدهما فلأبي داود عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا وأعطانا أميرنا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا بعد الخمس وأخرجه أبو داود أيضا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد وانبعثت سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا وأخرجه ابن عبد البر من هذا الوجه وقال في روايته إن ذلك الجيش كان أربعة آلاف أي الذي خرجت منه السرية الخمسة عشر كما عند ابن سعد وغيره قال وظاهر رواية الليث عن نافع عند مسلم أن ذلك صدر من أمير الجيش وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وأجازه لأنه قال فيه ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم
وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عنده أيضا ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا يحمل على التقرير فتجتمع الروايتان قال النووي معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فجازت نسبته لكل منهما
قال في الاستذكار في رواية مالك أن النفل من الخمس لا من رأس الغنيمة وكذلك رواية عبيد الله وأيوب عن نافع وفي رواية ابن إسحاق عنه أنه من رأس الغنيمة لكنه ليس كهؤلاء في نافع وفي الحديث أن الجيش إذا انفردت منه قطعة فغنمت شيئا كانت الغنيمة للجميع قال ابن عبد البر لا تختلف الفقهاء في ذلك إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى
وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الإسلام فإنه لا يشارك الخارج إلى بلاد العدو بل قال ابن دقيق العيد في الحديث دلالة على أن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بما يغنمه وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبا منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا وهذا القيد في مذهب مالك وفيه مشروعية التنفيل ومعناه تخصيص من له أثر في الحرب بشيء من المال وكره مالك أن يكون من أمير الجيش كأن يحرض على القتال ويعد بأن ينفل الربع إلى الثلث قبل القسم لأن القتال حينئذ يكون
____________________
(3/21)
للدنيا فلا يجوز مثل هذا وخصه عمرو بن شعيب بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من بعده ففيه رد على مدعي الإجماع على مشروعيته واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس أو مما عدا الخمس قال الخطابي والذي يقرب من حديث الباب أنه من الخمس لأنه أضاف الإثني عشر إلى سهمانهم فكأنه أشار إلى أنه ثبت لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم فيبقى النفل من الخمس
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلهم عن مالك به وتابعه جماعة عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول كان الناس ) يعني الصحابة ( في الغزو إذا اقتسموا غنائمهم ) وكان فيها إبل وغنم ( يعدلون ) بكسر الدال من باب ضرب ( البعير بعشر شياه ) أي يجعلونها معادلة أي مماثلة له وقائمة مقامه وأصل ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن رافع بن خديج كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة بتهامة فأصبنا إبلا وغنما فعدل عشرا من الغنم ببعير ( قال مالك في الأجير في الغزو ) لنحو حراسة ( إنه كان شهد ) حضر ( القتال وكان مع الناس عند القتال وكان حرا فله سهمه وإن لم يفعل ذلك ) أي لم يشهد القتال وكان رقيقا ( فلا سهم له وأرى ) أعتقد ( أن لا يقسم إلا لمن شهد القتال من الأحرار ) لا لغائب ولا رقيق
6 ما لا يجب فيه الخمس ( قال مالك فيمن وجد ) بضم فكسر ( من العدو على ساحل ) أي شاطىء ( البحر بأرض المسلمين فزعموا ) أي العدو الذين وجدوا ( أنهم تجار وأن البحر لفظهم ) بفاء وظاء معجمة ألقاهم في الساحل ( ولا يعرف المسلمون تصديق ذلك ولا أن مراكبهم تكسرت أو عطشوا فنزلوا بغير إذن المسلمين أرى أن ذلك للإمام يرى فيهم رأيه ولا أرى لمن أخذهم فيهم خمسا ) لأنهم لم يوجفوا
____________________
(3/22)
عليهم بخيل ولا ركاب
7 ما يجوز للمسلمين أكله قبل الخمس رح 1003 قال مالك ( لا أرى بذلك بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع المقاسم ) لما في الصحيح عن ابن عمر كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب
زاد أبو نعيم والفواكه
والإسماعيلي والسمن فنأكله ولا نرفعه وإلى هذا ذهب الجمهور وإلى أنه يجوز أكل القوت وما يصلح به وكل طعام يعتاد أكله عموما
والمعنى فيه أن الطعام يعز في دار الحرب فأبيح للضرورة وإن لم تكن الضرورة ناجزة
وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه
زاد مسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما
زاد الطيالسي فقال هو لك وروى ابن وهب أن صاحب المغانم كعب بن عمرو أخذ منه الجراب فقال صلى الله عليه وسلم خل بينه وبين جرابه وكأنه عرف شدة حاجته إليه فسوغ له الاستئثار به
( قال مالك وأنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام ) بجامع أن كلا مأكول فيجوز ذبحه للأكل بشرط الحاجة كما يأتي
( ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش ) وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار ( فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف ) دون سرف ( والحاجة إليه ) فلا يجوز بلا حاجة ( ولا أرى أن يدخر أحد من ذلك شيئا يرجع به إلى أهله ) لأن المباح لضرورة لا يتعداها
وقال الزهري لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الإمام
وقال سليمان بن موسى يأخذ ما لم ينه الإمام
وقال ابن المنذر وردت الأحاديث الصحيحة بالتشديد في الغلول واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام وجاء الحديث بذلك فليقتصر عليه وفي معناه لعلف واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب ورده بعد انقضائها وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يرده كلما فرغت حاجته ولا يستعمله في غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاءها لئلا يعرضه للهلاك وحجته حديث أبي داود بإسناد حسن عن رويفع بن ثابت مرفوعا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم يركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم وذكر في الثوب كذلك
____________________
(3/23)
( وسئل مالك عن الرجل يصيب الطعام في أرض العدو فيأكل منه ويتزود فيفضل منه شيء أيصلح ) أي يجوز ( له أن يحبسه ) يمنعه ( فيأكله في أهله أو ) أن ( يبيعه قبل أن يقدم بلاده فينتفع بثمنه قال مالك إن باعه وهو في الغزو فإني أرى أن يجعل ثمنه في غنائم المسلمين ) لأنه إنما يباح له الأكل للحاجة والبيع زائد عليها فيمنع ( وإن بلغ به بلده فلا أرى بأسا أن يأكله وينتفع به إذا كان يسيرا تافها ) لا يلتفت إليه لا إن كان كثيرا
8 ما يرد قبل أن يقع القسم مما أصاب العدو ( مالك أنه بلغه ) وصله البخاري من طريق يحيى القطان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ( أن عبدا لعبد الله بن عمر أبق ) أي هرب فلحق بالروم يوم اليرموك كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عنه ( وأن فرسا له عار ) بعين وراء مخففة مهملتين بينهما ألف أي انطلق هاربا على وجهه قال البخاري مشتق من العير وهو حمار الوحش أي هرب قال ابن التين أراد أنه فعل فعله في النفار وقال الخليل يقال عار الفرس والكلب عيارا أي أفلت وذهب وقال الطبري يقال ذلك للفرس إذا فعله مرة بعد مرة ومنه قيل للبطال من الرجال الذي لا يثبت على طريقة عيار ومنه سهم عائر إذا لم يدر من أين أتى ( فأصابهما المشركون ثم غنمهما المسلمون فردا على عبد الله بن عمر وذلك قبل أن تصيبهما المقاسم ) وفي البخاري عن عبيد الله عن نافع وأن فرسا له عار فلحق بالروم فظهر عليه خالد فرده
وله وللإسماعيلي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان على فرس يوم لقي المسلمون ظبيا وأسدا واقتحم الفرس بابن عمر جرفا فصرعه وسقط عبد الله فعار الفرس فأخذه العدو وأمير المسلمين يومئذ خالد بن الوليد بعثه أبو بكر فلما هزم العدو رد خالد فرسه عليه فصرح بأن قصة الفرس كانت في زمن أبي بكر
وفي البخاري وأبي داود من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد
____________________
(3/24)
له فلحق بالروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فصرح بأن قصة الفرس في الزمن النبوي وقصة العبد بعده ووافق ابن نمير إسماعيل بن زكريا عن عبيد الله عند الإسماعيلي وصححه الداودي وأنه كان في غزوة مؤتة وكذا صوبه ابن عبد البر
( قال مالك فيما يصيب العدو من أموال المسلمين أنه إن أدرك قبل أن يقع فيه المقاسم فهو رد على أهله ) لوقوع رد فرس ابن عمر وعبده له قبل القسم في زمن أبي بكر والصحابة متوافرون من غير نكير منهم
( وأما ما وقعت فيه المقاسم فلا يرد على أحد ) وبه قال عمر وسلمان والليث وأحمد وآخرون ونقل عن الفقهاء السبعة وبه جاء حديث مرفوع عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له أصابه المشركون فقال صلى الله عليه وسلم إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالغنيمة رواه الدارقطني بإسناد ضعيف لكنه تقوى بأثر ابن عمرو عن أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق فقال هو والثوري صاحبه أحق به مطلقا
( وسئل مالك عن رجل حاز المشركون غلامه ثم غنمه المسلمون قال مالك صاحبه أولى ) أحق به ( بغير ثمن ولا قيمة ولا غرم ما لم تصبه المقاسم فإن وقعت فيه ) المقاسم ( فإني أرى أن يكون الغلام لسيده بالثمن إن شاء ) لأن دار الحرب لها شبهة الملك
وقال الشافعي وجماعة لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من مال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها
وعن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن لا يرد أصلا ويختص به الغانمون
( قال مالك في أم ولد رجل من المسلمين حازها المشركون ثم غنمها المسلمون فقسمت في المقاسم ثم عرفها سيدها بعد القسم أنها لا تسترق ) بعد جريان الحرية فيها بأمومة الولد ( وأرى أن يفتديها الإمام لسيدها ) من الفيء ( فإن لم يفعل فعلى سيدها ) وجوبا كما دل عليه لفظ على ( أن يفتديها ولا يدعها ) بالرفع والنصب ( ولا أرى للذي صارت له أن يسترقها ولا يستحل فرجها ) لجريان الحرية فيها ( وإنما هي بمنزلة الحرة ) إذا حازها الحربيون ثم ظهر عليهم لا تسترق ولا يحل فرجها وعلل كونها
____________________
(3/25)
بمنزلتها بقوله ( لأن سيدها يكلف أن يفتديها إذا جرحت ) إنسانا ( فهذا بمنزلة ذلك ) وحينئذ ( فليس له أن يسلم أم ولده تسترق ويستحل فرجها ) فالفاء للتفريع على ما قبله
( وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى العدو في المفاداة ) لما أسروه من المسلمين ( أو التجارة يشتري الحر أو العبد أو يوهبان له ) ما الحكم ( فقال أما الحر فإن اشتراءه به ) بأمره أو بغير أمره ( دين ) خبر إن وفي نسخة بالنصب بتقدير يكون دينا ( عليه ولا يسترق ) لوجوب فدائه على نفسه وحرمة مقامه مع قدرته على الفداء فوجب رجوعه عليه لأنه اشتراه بما كان يلزمه وهو مقدم على جماعة المسلمين في فداء نفسه إذا قدر عليه قاله أبو عمر
( وإن كان وهب له فهو حر وليس عليه شيء إلا أن يكون الرجل أعطى فيه شيئا مكافأة ) بالهمز على الهبة ( فهو دين على الحر بمنزلة ما اشتري به ) لأن هبة الثواب كالبيع ( وأما العبد فإن سيده الأول مخير فيه إن شاء أن يأخذه ويدفع إلى الذي اشتراه ثمنه فذلك له وإن أحب أن يسلمه أسلمه ) لمن اشتراه ( وإن كان وهب له فسيده الأول أحق به ولا شيء عليه إلا أن يكون الرجل أعطى فيه شيئا مكافأة فيكون ما أعطى فيه غرما ) بضم فسكون مصدر غرم أي مؤدى ( على سيده إن أحب أن يفتديه ) وإن أحب تركه له وسواء اشتراه بإذن سيده أم بغير إذنه فيلزمه ما اشتراه به إلا أن يكون أكثر من قيمته مما لا يتغابن بمثله فيخير
9 ما جاء في السلب في النفل ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عمر ) بضم العين كما رواه الأكثر ليحيى وقوم عمرو بفتح العين وللشافعي عن ابن كثير ولم يسمه وهما أخوان وعمر بالضم أجل وأشهر وهو الذي في الموطأ وليس لعمرو بالفتح إلا عند من صحفه قاله ابن عبد البر ( ابن كثير ) بمثلثة ( ابن أفلح ) بالفاء
____________________
(3/26)
والحاء المهملة المدني مولى أبي أيوب الأنصاري وثقه النسائي وغيره وهو تابعي صغير وذكره ابن حبان في أتباع التابعين ( عن أبي محمد ) نافع بن عباس بموحدة ومهملة أو تحتانية ومعجمة معروف باسمه وكنيته المدني الأقرع الثقة ( مولى أبي قتادة ) حقيقة كما جزم النسائي والعجلي وغيرهما وجزم ابن حبان وغيره بأنه قيل له ذلك للزومه وكان مولى عقيلة الغفارية ( عن أبي قتادة ) الحارث أو النعمان أو عمرو ( بن ربعي ) بكسر الراء وسكون الموحدة فمهملة الأنصاري السلمي بفتحتين المدني شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا ومات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر ( أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين ) بمهلمة ونون واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال في سنة ثمان عقب فتح مكة ( فلما التقينا ) مع المشركين ( كانت للمسلمين جولة ) بفتح الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاط وتقدم وتأخر وعبر بذلك احترازا عن لفظ هزيمة ولم تكن هذه الجولة في الجيش كله بل ثبت النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة معه أكثر ما قيل فيهم مائة وقد نقلوا الإجماع على أنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم الانهزام ولم يرو قط أنه انهزم في موطن بل الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته في جميع المواطن لا سيما يوم حنين فإنه جعل يركض بغلته نحو الكفار ويقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
ثم نزل عن البغلة واستنصر ثم قبض قبضة من تراب ثم استقبل به وجوههم فقال شامت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا منهزمين ثم تراجع إليه من ولى من المسلمين
( قال ) أبو قتادة ( فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ) أي ظهر عليه وأشرف على قتله وصرعه وجلس عليه ليقتله قال الحافظ لم أقف على اسمهما ( قال فاستدرت له ) من الاستدارة ويروى فاستدبرت من الاستدبار ( حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف ) وفي رواية الليث عن يحيى بن سعيد عند البخاري نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين وآخر يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني قال الحافظ يختله بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وكسر الفوقية أي يريد أخذه على غرة وعرف منه أن ضمير ضربته لهذا الثاني الذي يريد أن يختل المسلم ( على حبل عاتقه ) بفتح المهملة وسكون الموحدة عرق أو عصب عند موضع الرداء من العنق بين العنق والمنكب وعرف أن قوله في رواية الليث فأضرب يده فقطعتها أن المراد باليد الذراع والعضد إلى الكتف زاد التنيسي
____________________
(3/27)
فقطعت الدرع أي التي كان لابسها وخلصت الضربة إلى يده فقطعتها ( فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ) أي شدة كشدته ويحتمل قاربت الموت وفيه إشعار بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا ( ثم أدركه الموت فأرسلني ) أي أطلقني ( قال فلقيت عمر ) فيه حذف بينه رواية الليث فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر ( بن الخطاب فقلت ما بال الناس ) قد ولوا ( فقال أمر الله ) أي حكم الله وما قضى به أو أراد ما حال الناس بعد التولي فقال أمر الله غالب والعاقبة للمتقين
( ثم إن الناس رجعوا ) تراجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للعباس ناد يا معشر الأنصار يا أصحاب سورة البقرة فلما سمعوا نداءه أقبلوا كأنهم الإبل
وفي رواية البقر إذا حنت على أولادها يقولون يا لبيك يا لبيك فتراجعوا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدقوا الحملة فاقتتلوا مع الكفار فقال الآن حمي الوطيس وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا وقتل كثير من المسلمين وانهزموا من كل ناحية وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا ) أوقع القتيل على المقتول باعتبار ما آل إليه كقوله تعالى { إني أراني أعصر خمرا } يوسف 36 ( له عليه بينة فله سلبه ) بفتح المهملة واللام وموحدة ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور
وعن أحمد لا تدخل الدابة
وعن الشافعي يختص بأداة الحرب
واتفق الجمهور على أنه لا يقبل قول مدعيه بلا بينة تشهد له أنه قتله لمفهوم قوله له عليه بينة
وعن الأوزاعي يقبل بلا بينة لأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه لأبي قتادة بلا بينة وفيه نظر ففي مغازي الواقدي أن أوس بن خولي شهد له وعلى تقدير أن لا يصح فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به
( قال ) أبو قتادة ( فقمت ثم قلت من يشهد لي ) بقتل ذلك الرجل ( ثم جلست ثم قال ) النبي صلى الله عليه وسلم ( من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال ) النبي صلى الله عليه وسلم ( ذلك ) القول المرة ( الثالثة فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا قتادة ) تقوم وتقعد ( قال فاقتصصت عليه القصة ) وفي حديث أنس عند أحمد قال أبو قتادة إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه ( فقال رجل من القوم ) وفي رواية الليث من جلسائه قال الحافظ لم أقف على اسمه وذكر الواقدي أن اسمه أسود بن خزاعي وفيه نظر لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي ( صدق يا رسول الله ) أبو قتادة ( وسلب ذلك القتيل عندي
____________________
(3/28)
فأرضه ) بهمزة قطع وكسر الهاء ( منه يا رسول الله فقال أبو بكر الصديق لا هاء الله ) بالألفين بهمزة قطع على المشهور في الرواية وروي أيضا بلام بعد الهاء من غير إظهار شيء من الألفين ويجوز إظهار ألف واحدة بلا همزة نحو التقت حلقتا البطان وحذف الألف وثبوت همزة القطع وفيه الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه ولم يسمع إلا مع الله فلا يقال لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن
وقال أبو حاتم السجستاني العرب تقول لاهاء الله بالهمز القياس تركه
وقال الداودي روي يرفع الله أي يأتي الله وقال غيره إن ثبت الرفع رواية فها للتنبيه والله مبتدأ ولا يعمد خبره ولا يخفى تكلفه وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت إلى غيره وهو قسم أي لا والله ( إذا ) بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة كما في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما وقال الخطابي هكذا يرويه المحدثون وإنما هو في كلام العرب لاها الله ذا والهاء بمنزلة الواو والمعنى لا والله يكون ذا
ونقل عياض في المشارق عن إسماعيل القاضي عن المازني قول الرواة لاها الله إذا خطأ والصواب لاها الله ذا أي ذا يميني وقسمي
وقال أبو زيد ليس في كلامهم إذا وإنما هو ذا وهي صلة في الكلام لا والله هذا ما أقسم به وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث أن لفظ إذا خطأ وإنما هو ذا
وقال أبو البقاء يمكن توجيه الرواية بأن التقدير لا والله لا يعطي إذا ويكون لا يعمد الخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه
وقال الطيبي الرواية صحيحة والمعنى صحيح كقولك لمن قال لك افعل كذا والله إذا لا أفعل فالتقدير والله إذ لا يعمد الخ
ويحتمل أن تكون إذا زائدة كما قال أبو البقاء في قول الحماسي إذا لقام بنصري معشر خشن
في جواب قوله لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا وقال القوطبي في المفهم الرواية صواب فالهاء عوض عن واو القسم لأن العرب تقول في القسم آلله لأفعلن بمد الهمزة وقصرها فكأنهم عوضوا من الهمزة هاء فقالوا ها الله لتقارب مخرجيهما ولذا قالوا بالمد والقصر وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما تقول أألله والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما تقول ألله
وأما إذا فهي بلا شك حرف جزاء وتعليل مثل قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا فلو قال فلا والله إذا لساوى ما هنا من كل وجه لكنه لم يحتج للقسم فتركه
____________________
(3/29)
فقد وضح تقدير الكلام ومناسبته من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة ولا سيما من جعل الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالمقسم به وليس هذا قياسا فيطرد ولا فصيحا فيحمل عليه كلام الفصيح ولا مرويا برواية ثابتة وما وجد للعذري والعبدري في مسلم أنه لاها الله ذا فإصلاح ممن اغتر بكلام النحاة والحق أحق أن يتبع وقال أبو جعفر الغرناطي ممن أدركناه استرسل جماعة من القدماء إلى أن اتهموا الأثبات بالتصحيف فقالوا الصواب ذا باسم الإشارة ويا عجبا من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلات وجوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الإشارة كما قال ابن مالك وأما جعل لا يعمد جواب فأرضه فهو سبب الغلط ولا يصح وإنما هو جواب شرط مقدور دل عليه قوله صدق فأرضه فكأن أبا بكر قال إذا صدق في أنه صاحب السلب إذا لا يعمد فيعطيك حقه فالجزاء صحيح لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك وهذا واضح لا تكلف فيه انتهى
وهو توجيه حسن والذي قبله أقعد ويؤيده كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث كحديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت فقلت لا والله إذا وفي قصة جيبيب بالجيم وموحدتين مصغر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال حتى أستأمر أمها قال فنعم إذا فذهب إلى امرأته فقالت لا هاء الله إذا وقد منعناها فلانا صححه ابن حبان عن أنس
وأخرج أحمد في الزهد عن مالك بن دينار أنه قال للحسن يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه قال لا هاء الله إذا لا ألبس مثل عباءتك هذه
وفي تهذيب الكمال في ترجمة ابن أبي عتيق أنه دخل على عائشة في مرضها فقال كيف أصبحت جعلني الله فداك قالت أصبحت ذاهبة قال فلا إذا وكان فيه دعابة
ووقع أيضا في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم وبغير قسم كحديث عائشة في قصة صفية لما قال صلى الله عليه وسلم أحابستنا هي فقيل إنها طافت فقال فلا إذا
وحديث عمرو بن العاصي في سؤاله عن أحب الناس فقال عائشة قال لم أعن النساء قال فأبوها إذا
وحديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الحمى فقال بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور قال فنعم إذا
وروى الفاكهي عن سفيان لقيت لبطة بن الفرزدق فقلت أسمعت هذا الحديث من أبيك قال إي ها الله إذا سمعت أبي يقول
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت لو أني فرغت من صلاتي فلم أرض كمالها أفلا أعود لها قال بلى ها الله إذا
انتهى ما اقتطفته من فتح الباري فقد أطال النفس في ذلك جزاه الله خيرا
ثم أراد بيان السبب في ذلك ( لا يعمد ) بالتحتية وكسر الميم أي لا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ( إلى أسد ) بفتحتين أي إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة ( من أسد الله ) بضم الهمزة والسين ( يقاتل عن الله ورسوله ) أي صدور قتاله عن رضا الله ورسوله أي بسببهما كقوله تعالى { وما فعلته عن أمري } الكهف 82 أو المعنى يقاتل ذبا عن دين الله إعلاء لكلمة الله ناصرا لأولياء الله أو يقاتل لنصر دين الله وشريعة رسوله لتكون كلمة الله هي
____________________
(3/30)
العليا
( فيعطيك سلبه ) أي سلب قتيله الذي قتله بغير طيب نفسه وإضافة إليه باعتبار أنه ملكه قال الحافظ ضبط للأكثر بالتحتية في يعمد ويعطي وضبطه النووي بالنون فيهما انتهى
وعبارة النووي ضبطوهما بالياء والنون وكلاهما ظاهر
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق ) أبو بكر ( فأعطه ) بهمزة قطع أمر للذي اعترف بأن السلب عنده ( إياه ) أي السلب وفي هذه منقبة جليلة لأبي قتادة حيث سماه الصديق من أسد الله وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ( فأعطانيه فبعت الدرع ) بكسر الدال وراء وعين مهملتين ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة بسبع أواق فضة ( فاشتريت به مخرفا ) بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا سمي به لأنه يخترف منه الثمر أي يجتني وإما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها قاله الحافظ وظاهر قوله ويجوز أن الرواية بالأول فقط ولا كذلك قال النووي مخرف بفتح الميم والراء على المشهور وقال عياض رويناه بفتح الميم والراء على المشهور وقال عياض رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد أي البستان وقيل السكة من النخل يكون صفين يخترف من أيها شاء أن يجتني وقال ابن وهب هي الجنينة الصغيرة وقال غيره هي تخلات يسيرة انتهى
وفي رواية الليث خرافا بكسر أوله وهو الثمر الذي يخترف أي يجتنى وأطلقه على البستان مجازا فكأنه قال بستان خراف
وذكر الواقدي أن البستان المذكور كان يقال له الوديين ( في بني سلمة ) بكسر اللام بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة ( فإنه لأول مال تأثلته ) بفوقية فألف فمثلثة أي اقتنيته وأصلته وأثلة كل شيء أصله ( في الإسلام ) وفي رواية ابن إسحاق أول مال اعتقدته أي جعلته عقدة والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه قال الحافظ أبو عبد الله الحميدي الأندلسي سمعت بعض أهل العلم يقول عند ذكر هذا الحديث لو لم يكن من فضيلة الصديق إلا هذا فإنه لثاقب علمه وشدة صرامته وقوة إنصافه وصحة تحقيقه بادر إلى القول الحق فزجر وأفتى وأمضى وأخبر في الشريعة عنه صلى الله عليه وسلم بحضرته وبين يديه بما صدقه فيه وأجراه على قوله وهذا من خصائصه الكبرى إلى ما لا يحصى من فضائله الأخرى انتهى
ووقع في حديث أنس أن الذي قال ذلك عمر أخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وقال أبو قتادة إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه فقام رجل فقال أخذتها فأرضه منها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت فسكت فقال عمر والله لا يفيئها الله على أسد من أسده ويعطيكها فقال صلى الله عليه وسلم صدق عمر قال الحافظ وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم وأبو داود بعض هذا الحديث ولكن الراجح أن قائل ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة وهو صاحب القصة فهو أتقن لما وقع فيها من غيره ويحتمل الجمع بأن يكون عمر أيضا قال ذلك تقوية لقول أبي بكر واستدل به على أن السلب يستحقه القاتل
____________________
(3/31)
من كل مقتول بشرط أن يكون من المقاتلة عند الجمهور
وقال أبو ثور وابن المنذر ولو كان امرأة وهذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي البيع عن القعنبي وفي المغازي عن التنيسي ومسلم من طريق ابن وهب ثلاثتهم عن مالك به وتابعه الليث بن سعد في الصحيحين وهشيم عند مسلم كلاهما عن يحيى بن سعيد
( مالك عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( أنه قال سمعت رجلا ) لم يسم ( يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال فقال ابن عباس الفرس من النفل والسلب من النفل قال ) القاسم ( ثم عاد ) الرجل ( لمسألته ) كأنه لم يرض الجواب ( فقال ابن عباس ذلك أيضا ثم قال الرجل الأنفال الذي قال الله في كتابه ) يسألونك عن الأنفال ( ما هي ) لأن جوابك مجمل
وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس أن المشيخة يوم بدر ثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { يسألونك عن الأنفال } الأنفال 1 الآية فقسم صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم على السواء ولابن جرير عن مجاهد
أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت الآية
فهذا ابن عباس نفسه روى أن المراد بالأنفال في الآية الغنائم ولكنه لم يفصح للرجل بذلك لأنه رآه متعنتا
( قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد ) قارب ( أن يحرجه ) بضم الياء وإسكان المهملة وكسر الراء وفتح الجيم أي يضيق عليه وسقطت أن في رواية وهو أفصح ( ثم قال ابن عباس أتدرون ما مثل هذا ) أي صفته ( مثل صبيغ ) بصاد مهملة فموحدة فتحتية فغين معجمة بوزن عظيم ابن عسل بكسر العين وإسكان السين المهملتين ويقال بالتصغير ويقال ابن سهل التميمي الحنظلي له إدراك ومثله به لأنه رآه متعنتا غير مصغ للعلم فأشار إلى أنه حقيق أن يصنع به مثل صبيغ ( الذي ضربه عمر بن الخطاب ) أخرج إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا ابن أبي أويس ثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه سأل رجلا قدم من الشام عن الناس فقال إن فيها رجلا يسأل عن متشابه القرآن يقال له صبيغ يريد قدوم المدينة فقال عمر لئن لم تأتني به لأفعلن بك فجعل الرجل يختلف إلى الثنية يسأل عن صبيغ حتى طلع بعير وقد لهج بأن يقول من يلبس الفقه
____________________
(3/32)
بفقهه إليه فانتزع الرجل خطاما من يده حتى أتى به عمر فضربه ضربا شديدا ثم حبسه ثم ضربه أيضا فقال صبيغ إن كنت تريد قتلي فأجهز علي وإن كنت تريد شفاي فقد شفيتني شفاك الله فأرسله عمر
وروى الدارمي عن سليمان بن يسار ونافع قالا قدم المدينة رجل فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل فقال من أنت قال أنا عبد الله صبيغ قال وأنا عبد الله عمر فضربه حتى دمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي ثم نفاه إلى البصرة ورواه الخطيب وابن عساكر عن أنس والسائب بن يزيد وأبي عثمان النهدي وزادوا عن الثالث وكتب إلينا عمر لا تجالسوه فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا
وروى إسماعيل القاضي عن محمد بن سيرين قال كتب عمر إلى أبي موسى لا تجالس صبيغا وأحرمه عطاءه
وأخرج ابن الأنباري وغيره بسند صحيح عن السائب بن يزيد قال جاء صبيغ التميمي إلى عمر فسأله عن الذاريات الحديث وفيه فأمر عمر فضرب مائة سوط فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى حرم على الناس مجالسته فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له أنه لا يجد في نفسه شيئا فكتب إلى عمر أنه صلح حاله فكتب إليه خل بينه وبين الناس فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم
قال العسكري اتهمه عمر برأي الخوارج
وذكر ابن دريد أنه كان أحمق وأنه وفد على معاوية
قال أبو عمر كان صبيغ من الخوارج في مذاهبهم قال وإنما أتى مالك بحديث ابن عباس بعد حديث أبي قتادة تفسيرا للسلب لأن سلب قتيله كان درعا وزاد ابن عباس من قوله الفرس وفي رواية غير مالك والرمح وذلك كله آلات المقاتل لا ذهب وفضة لأنهما ليسا من آلاته
( سئل مالك عمن قتل قتيلا من العدو أيكون له سلبه بغير إذن الإمام فقال لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام ) أي أمير الجيش ( ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد ) منه بما يراه مصلحة ووافقه على ذلك أبو حنيفة وطائفة
وعن مالك أيضا يخير الإمام بين أن يعطيه السلب أو يخمسه واختاره إسماعيل القاضي
وعن مكحول والثوري والشافعي يخمس مطلقا لعموم قوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الأنفال 41 ولم يستثن شيئا
وذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش من قتل قتيلا فله سلبه أو لا
وأجابوا عن عموم الآية بأنه مخصوص بحديث من قتل قتيلا الخ وتعقب بقوله ( ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين ) وهي آخر مغازيه التي وقع فيها قتال وغنيمة
وأجيب بأن ذلك حفظ عنه
____________________
(3/33)
صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما في الصحيحين أنه قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح
وعند البيهقي أن حاطب بن أبي بلتعة قتل رجلا يوم أحد فسلم له النبي صلى الله عليه وسلم سلبه
وحديث جابر أن عقيل بن أبي طالب قتل يوم مؤتة رجلا فنفله النبي صلى الله عليه وسلم سلبه
ثم كان ذلك مقررا عند الصحابة كما في مسلم عن عوف بن مالك وإنكاره على خالد بن الوليد أخذ السلب من القاتل
وروى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد تعال بنا ندعو فقال سعد اللهم ارزقني رجلا شديدا بأسه فأقاتله ويقاتلني ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه الحديث
وفي مغازي ابن إسحاق أن عمر قال لعلي لما قتل عمرو بن عبد ود هلا استلبت درعه فإنه ليس للعرب خير منها فقال إنه اتقاني بسوأته ولأحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال كانت صفية في حصن حسان يوم الخندق فذكر الحديث في قصة قتلها اليهودي وقولها لحسان انزل فاسلبه من حاجة كذا في فتح الباري وليس في هذا كله أنه قال من قتل قتيلا فله سلبه قبل يوم حنين وإعطاؤه السلب في هذه المواطن لأنه للإمام يجتهد فيه بما شاء وإنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعد انقضاء القتال كما هو صريح حديث أبي قتادة ولذا قال مالك في المدونة يكره أن يقول الإمام ذلك قبل انقضاء القتال لئلا تضعف نيات المجاهدين
واختلف في أن الكراهة على بابها أو على التحريم وإذا قاله قبله أو في أثنائه استحقه القاتل وعن الحنفية لا كراهة في ذلك
10 ما جاء في إعطاء النفل من الخمس ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن سعيد بن المسيب أنه قال كان الناس يعطون النفل من الخمس ) قال الحافظ ظاهره اتفاق الصحابة على ذلك
قال ابن عبد البر إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمته دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث انتهى
وهذا الشرط قال به الجمهور
وقال الشافعي لا يتحدد بل هو راجع إلى رأي الإمام من المصلحة ويدل عليه قوله تعالى { قل الأنفال لله والرسول } الأنفال 1 ففوض إليه أمرها اه
( قال مالك وذلك أحسن ما سمعت إلي في ذلك ) من الخلاف
( سئل مالك عن النفل هل يكون في أول مغنم قال ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام وليس عندنا ) بالمدينة ( في ذلك أمر معروف موثوق ) بيان لمعروف ( إلا اجتهاد السلطان ) من له سلطنة الإمام أو أمير الجيش ( ولم يبلغني أن
____________________
(3/34)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كلها وقد بلغني أنه نفل في بعضها يوم حنين ) وذلك يقتضي أنه لا فرق بين أول مغنم وغيره ( وإنما ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام في أول مغنم وفيما بعده ) وقال الأوزاعي لا ينفل من أول الغنيمة ولا ينفل ذهبا ولا فضة وخالفه الجمهور
11 القسم للخيل في الغزو ( مالك قال بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يقول للفرس سهمان وللرجل سهم قال مالك ولم أزل أسمع ذلك ) وقد رواه نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم للفرس سهمين ولصاحبه سهما فسره نافع فقال إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم أخرجه البخاري وغيره
ولأبي داود من وجه آخر عن ابن عمر أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة وفقهاء الأمصار
وقال أبو حنيفة للفرس سهم واحد ولصاحبه سهم فللفارس سهمان فقط
واحتجوا له بما في بعض طرق حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ أسهم للفارس سهمين وتعقب بأنه وهم من راويه كما قال أبو بكر النيسابوري لأنه جاء من وجوه عديدة عند أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما بلفظ أسهم للفرس أولا وهم ومعناه أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سهمه المختص به فلا حجة فيه واحتج له أيضا بما أخرجه أبو داود عن مجمع بن جارية بجيم وتحتية في حديث طويل في قصة خيبر قال فأعطى للفرس سهمين وللرجل سهما وفي إسناد ضعيف ولو ثبت حمل على ما تقدم لأنه يحتمل الأمرين والجمع بين الروايتين أولى ولا سيما والأسانيد الأول أثبت ومع راويها زيادة علم وأصرح من ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبي عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهما فكان للفارس ثلاثة أسهم وللنسائي عن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم صرف له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته قال محمد بن سمنون انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار وقال أكره أن أفضل بهيمة على مسلم وهي شبهة ضعيفة لأن السهام كلها للرجل قال الحافظ لو لم يثبت الحديث لكانت الشبهة قوية لأن المفاضلة بين الراجل والفارس فلولا الفرس ما ازداد الفارس سهمين عن الراجل فمن جعل للفارس سهمين فقد سوى بين الفرس وبين الراجل وتعقب هذا أيضا بأن الأصل عدم المساواة بين البهيمة والإنسان فلما خرج عن هذا الأصل بالمساواة فلتكن المفاضلة كذلك وقد فضل الحنفية
____________________
(3/35)
الدابة على الإنسان في بعض الأحكام فقالوا إذا قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها فإن قتل عبدا مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم والحق أن الاعتماد في ذلك على الخبر ولم ينفرد أبو حنيفة بما قال فقد جاء عن عمر وعلي وأبي موسى لكن الثابت عن عمر وعلي كالجمهور واستدل لهم من حيث المعنى بأن الفرس يحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها وبأنه يحصل بها من الغناء في الحرب ما لا يخفى
( سئل مالك عن رجل يحضر بأفراس كثيرة فهل يقسم لها كلها فقال لم أسمع بذلك ولا أرى أن يقسم إلا لفرس واحد الذي يقاتل عليه ) وبهذا قال الجمهور وقال الليث وأبو يوسف وأحمد وإسحاق يسهم لفرسين لا أكثر لحديث أبي عمرة قال أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة أسهم ولي سهما فأخذت خمسة أسهم رواه الدارقطني بإسناد ضعيف قال القرطبي ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا ما روي عن سليمان بن موسى بسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت
( قال مالك لا أرى البراذين ) جمع برذون بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة والمراد الجفاة الخلقة من الخيل وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية
( والهجن ) بضم الهاء والجيم جمع هجين كبرد وبريد وهو ما أحد أبويه عربي وقيل الهجين الذي أبوه عربي وأما الذي أمه عربية فيسمى المقرف وعن أحمد الهجين البرذون ويحتمل أنه أراد في الحكم ( إلا من الخيل لأن الله تعالى قال في كتابه و ) خلق ( الخيل والبغال والحمير لتركبوها ) وجه الاحتجاج أن الله تعالى من بركوب الخيل وقد أسهم لها النبي صلى الله عليه وسلم واسم الخيل يقع على البرذون والهجين بخلاف البغال والحمير فكأن الآية استوعبت ما ركب من هذا الجنس لما يقتضيه الامتنان فلما لم ينص على البرذون والهجين فيها دل على دخولهما في الخيل قاله ابن بطال
( وقال عز وجل وأعدوا لهم ) لقتالهم ( ما استطعتم من قوة ) قال صلى الله عليه وسلم هي الرمي ( ومن رباط الخيل ) مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله ( ترهبون ) تخوفون ( به عدو الله وعدوكم ) الكفار فعموم الخيل شامل للبراذين والهجين ( فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي ) على الجيش ( وقد قال سعيد بن المسيب وسئل ) والسائل له عبد الله بن دينار كما
____________________
(3/36)
مر في الزكاة ( عن البراذين هل فيها صدقة ) وفي نسخة من صدقة بزيادة من ( فقال وهل في الخيل من صدقة ) أي زكاة فجعلها من الخيل وإلى هذا ذهب الجمهور
ولأبي داود في المراسيل وسعيد بن منصور عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر وعرب العراب فجعل للعربي سهمين وللهجين سهما وهذا منقطع
وروى الشافعي في الأم وسعيد بن منصور عن علي بن الأقمر قال أغارت الخيل فأدركت العراب وتأخرت البراذين فقام المنذر الوادعي فقال لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك فبلغ ذلك عمر فقال هبلت الوداعي أمه لقد أذكرت به امضوها على ما قال فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العرب وفي ذلك يقول شاعرهم ومنا الذي قد سن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها وهذا منقطع أيضا وقد أخذ به أحمد في المشهور عنه وعنه كالجماعة وعنه إن بلغت البراذين مبالغ العربية سوى بينهما وإلا فضلت العربية واختارها بعضهم وعن الليث يسهم للبرذون والهجين دون سهم الفرس
12 ما جاء في الغلول بضم المعجمة واللام أي الخيانة في المغنم سمي بذلك لأن آخذه يغله أي يخفيه في متاعه وأجمعوا على أنه من الكبائر وفي قوله تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } آل عمران 161 وعيد عظيم
( مالك عن عبد الرحمن بن سعيد ) بن قيس الأنصاري الثقة المأمون أخو يحيى بن سعيد روى عنه جماعة من الأئمة ومات سنة تسع وثلاثين وقيل سنة إحدى وأربعين ومائة له في الموطأ مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي صدوق مات سنة ثماني عشرة ومائة قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرساله ووصله النسائي قال الحافظ بإسناد حسن من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه النسائي أيضا بإسناد حسن من حديث عبادة بن الصامت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر ) رجع ( من حنين وهو يريد الجعرانة ) بكسر الجيم وسكون العين وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء والأولى أفصح ( سأله الناس ) وزاد في الطريق الموصولة فقالوا اقسم علينا فيئنا ( حتى دنت به ناقته من شجرة ) أي سمرة بفتح المهملة وضم الميم من شجر البادية ذات شوك ففي الصحيح عن جبير بن مطعم أنه بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفلة من حنين فعلقت الناس الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة ( فتشبكت بردائه ) أي علق شوكها به ( حتى نزعته
____________________
(3/37)
عن ظهره ) وفي حديث جبير فخطفت رداءه وهو مجازا والمراد خطفته الأعراب ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد النسائي يا أيها الناس ( ردوا علي ردائي ) وفي حديث جبير فوقف وقال أعطوني ردائي يعني خلصوه من الشجرة وأعطوه لي وإن كانوا خطفوه فالرد بلا تخليص ( أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء ) رد ( الله عليكم ) من الغنيمة وأصل الفيء الرد والرجوع ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طار عليه
( والذي نفسي بيده ) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها وهو قسم كان يقسم به كثيرا ( لو أفاء ) بالهمز ولا يجوز الإبدال ( الله عليكم مثل سمر ) بفتح المهملة وضم الميم شجر ( تهامة ) جمع سمرة بالتاء شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب قاله ابن التين وقال الداودي هي العضاه بكسر المهملة وفتح المعجمة الخفيفة آخره هاء وصلا ووقفا شجر الشوك كطلح وعوسج وسدر وقال الخطابي ورق السمرة أثبت وظلها أكثف ويقال هي شجرة الطلح وللنسائي لو أن لكم بعدد شجر تهامة وفي حديث جبير لو كان لي عدد هذه العضاه ( نعما ) بفتحتين والنصب على التمييز ( لقسمته عليكم ) وفي رواية بينكم ( ثم لا تجدوني ) بنون واحدة وفي رواية تجدونني بنونين ( بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ) أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا جبن ولا ذا كذب فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة التي دل عليها الثلاثة لأن كذابا من صيغ المبالغة وجبانا صفة مشبهة وبخيلا محتمل الأمرين قال ابن المنير وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات لطيفة لأنها متلازمة وكذا أضداها الصدق والكرم والشجاعة وأصل المعنى هنا الشجاعة فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا يبخل وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد لأن الخلف إنما ينشأ من البخل وقوله لو كان لي عدد هذه العضاه تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى واستعمال ثم هنا ليس مخالفا لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء وليس المراد بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف كأنه قال وأعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل ونحو ذلك انتهى
وفيه ذم الخصال المذكورة وأن الإمام لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ولا يكون من الفخر المذموم ورضى السائل بالحق
____________________
(3/38)
للوعد إذا تحقق من الواعد التنجيز وأن الخيار للإمام في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب وإن شاء بعد ذلك
( فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عن ناقته ( قام في الناس فقال أدوا الخياط ) بكسر المعجمة وتحتية بزنة لحاف أي الخيط بدليل رواية الخائط وأعد الخيوط المعروفة وإن احتمل الخياط الإبرة لكن يدفعه قوله ( والمخيط ) بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الياء فإنه الإبرة بلا خلاف وهذا خرج على التقليل ليكون ما فوقه أولى بالدخول في معناه ( فإن الغلول عار ) شيء يلزم منه شين أو سبة في الدنيا ( ونار ) يوم القيامة ( وشنار ) بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فألف فراء أقبح العيب والعار ( على أهله يوم القيامة ) قال ابن عبد البر الشنار لفظة جامعة لمعنى النار والعار ومعناها الشين والنار يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب ونار في الآخرة
( قال ثم تناول من الأرض وبرة ) بفتح الموحدة والراء شعرة ( من بعير أو شيئا ) شك الراوي وللنسائي ثم مال إلى راحلته فأخذ منها وبرة فوضعها بين إصبعيه ( ثم قال والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه ) الوبرة ( إلا الخمس ) فإنه لي أعمل فيه برأيي ( والخمس مردود عليكم ) باجتهادي لأن الأربعة الأخماس مقسومة على المقاتلين الشريف والمشروف والرفيع والوضيع والغني والفقير والسواء لا مدخل فيها للاجتهاد بالاتفاق المتلقى عن المصطفى لكن اختلف في سهم الفارس كما تقدم
زاد النسائي فقام رجل ومعه كبة شعر فقال يا رسول الله أخذت هذه لأصلح بها بردعة فقال أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ونبذها وروى عبد الرزاق أن عقيل بن أبي طالب دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين وسيفه ملطخ دما فقال دونكي هذه الإبرة تخيطين بها ثيابكي فدفعها إليها فسمع المنادي يقول من أخذ شيئا فليرده حتى الخيط والمخيط فرجع عقيل فأخذها فألقاها في الغنائم
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ( أن زيد بن خالد ) قال ابن عبد البر كذا ليحيى وهو غلط سقط عنه شيخ محمد وهو في رواية غيره إلا أنهم اختلفوا فقال القعنبي وابن القاسم وأبو مصعب ومعن بن عيسى وسعيد بن عفير عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي عمرة وقال ابن وهب ومصعب الزبيري عن ابن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن وفي التقريب أبو عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد صوابه عن ابن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن الأنصاري البخاري يقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم ثم ليست له صحبة
____________________
(3/39)
انتهى
وأبوه أبو عمرة صحابي شهيد بدري اسمه بشير وقيل أسامة وقيل ثعلبة مات في خلافة علي فعلم أن الصواب رواية ابن وهب ومصعب عن محمد بن يحيى عن ابن أبي عمرة أن زيد بن خالد ( الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء المدني الصحابي المشهور مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة
( قال توفي رجل ) لم يسم ( يوم خيبر ) بخاء معجمة وآخره راء عند جميع الرواة إلا يحيى فقال يوم حنين وهو وهم منه والصحيح خيبر ويدل عليه قوله من خرز يهود ولم يكن بحنين يهود قاله ابن عبد البر وكذا قال الباجي يدل عليه قوله من خرز يهود ولم يكن يوم حنين يهود يؤخذ خرزهم وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي ( فزعم زيد ) أي قال حقا كقوله صلى الله عليه وسلم زعم جبريل ويطلق أيضا على الكذب ومنه { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } التغابن 7 وعلى قول لم يوثق به كقوله كذا زعموا خير أهل اليمن وما هنا من الأول ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا على صاحبكم ) لأن الإمام لا يصلي على ذي كبيرة ( فتغيرت وجوه الناس لذلك ) أي عدم صلاته عليه ولم يعلموا ذنبه ( فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله ) خان في الغنيمة ( قال ) زيد ( ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز ) جمع خرزة برنة قصب وقصبة ما ينظم ( يهود ما يساوين ) وفي رواية ما تساوي ( درهمين ) ففي هذا تعظيم أمر الغلول وأنه لا فرق بين كثيره وقليله وهذا الحديث رواه الترمذي والنسائي من طريق مالك وغيره
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني ) قال في الإكمال سئل أبو زرعة الرازي عن اسم أبي بردة فقال لا أعرفه ( أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الناس في قبائلهم ) جمع قبيلة الجماعة المجتمعون من قوم شتى ( يدعو لهم وأنه ترك قبيلة من القبائل ) بغير دعاء ( قال وإن القبيلة وجدوا في بردعة ) بدال مهملة ومعجمة حلس يجعل تحت الرحل هذا أصله لغة وفي عرف زماننا هي للحمار بمنزلة السراج للفرس كما في المصباح وقال الباجي هي الفراش المبطن ( رجل منهم عقد ) بكسر العين وإسكان الثاني قلادة ( جزع ) بفتح الجيم وسكون الزاي خرز فيه بياض
____________________
(3/40)
وسواد الواحدة جزعة مثل تمر وتمرة ( غلولا ) خيانة ( فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليهم كما يكبر على الميت ) قال الباجي يحتمل أن ذلك زجر لهم إشارة إلى أن حكمهم حكم الموتى الذين لا يسمعون المواعظ ولا يمتثلون الأوامر ولا يجتنبون النواهي ويحتمل أنه إشارة إلى أنهم بمنزلة الموتى الذين انقطع عملهم وأنهم لا يقضى لهم بتوبة انتهى والأول أظهر وبه جزم أبو عمر وقال أعلم هذا الحديث روي مسندا بوجه من الوجوه
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر المهملة وإسكان التحتية المدني ( عن أبي الغيث ) بمعجمة فتحتية فمثلثة ( سالم ) المدني وهو بكنيته أشهر من اسمه وقد سمي هنا فلا التفات لمن قال لا يوقف على اسمه صحيحا نعم لا يعرف اسم أبيه ( مولى ) عبد الله ( بن مطيع ) بن الأسود القرشي العدوي المدني له رؤية وأمره ابن الزبير على الكوفة ثم قتل معه سنة ثلاث وسبعين ( عن أبي هريرة أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر ) بمعجمة آخره راء كما رواه ابن وضاح عن يحيى وهو الصواب الذي لجماعة رواة الموطأ وغلط عبيد الله بن يحيى فقال حنين نبه عليه ابن عبد البر
وحكى الدارقطني عن موسى بن هارون أن ثور بن زيد وهم في قوله خرجنا لأن أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإنما قدم بعد خروجهم وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت يعني كما رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة الحديث وفيه فزودنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم وقد رواه محمد بن إسحاق عن ثور بن زيد بلفظ انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى فلعل ثورا وهم لما حدث به غير ابن إسحاق وزعم أن روايته أرجح لا تسمع فأين يقع سماعه من سماع مالك حتى يقدم عليه وقد تابع مالكا عبد العزيز الدراوردي في مسلم والبيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى فلعل هذا أصل الحديث ولا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم ( فلم نغنم ذهبا ولا ورقا ) وفي رواية ولا فضة ( إلا الأموال الثياب والمتاع ) كذا ليحي وحده وللشافعي وابن وهب وابن القاسم وغيرهم إلا الأموال والثياب والمتاع بحرف العطف قال الحافظ وهو المحفوظ
وقال القعنبي إلا الثياب والمتاع والأموال وروى هذا الحديث أبو إسحاق الفزاري عن مالك قال حدثني ثور بن زيد الديلي قال حدثني سالم مولى ابن مطيع أنه سمع أبا هريرة يقول افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا
____________________
(3/41)
الإبل والبقر والمتاع والحوائط أخرجه البخاري في المغازي وهي سالمة من الاعتراض بحمل قوله افتتحنا أي المسلمون وله نظائر قال ابن عبد البر فجوز أبو إسحاق مع جلالته إسناده بسماع بعضهم من بعض وقضى بأنها خيبر لا حنين ورفع الإشكال قال وفي الحديث أن بعض العرب وهي دوس لا تسمي العين مالا وإنما الأموال عندهم الثياب والمتاع والعروض وعند غيرهم المال الصامت من الذهب والورق
وقال الحافظ مقتضاه أن الثياب والمتاع لا يسمى مالا
وقد نقل ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل الضبي قال المال عند العرب الصامت والناطق فالصامت الذهب والفضة والجوهر والناطق البعير والبقر والشاة فإذا قلت عن حضري كثر ماله فالمراد الصامت وإن قلت عن بدوي فالمراد الناطق انتهى
وقد أطلق أبو قتادة على البستان مالا كما مر من قوله فابتعت به مخرفا فإنه لأول مال تأثلته فالذي يظهر أن المال ما له قيمة لكن قد يغلب على قوم تخصيصه بشيء كما حكاه المفضل فتحمل الأموال على المواشي والحوائط التي ذكرت في الحديث ولا يراد بها النقود لأنه نفاها أولا ثم لا تخالف بين قولي أبي هريرة فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم وبين قول أبي موسى الأشعري ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا يعني الأشعريين لأن مراده من غير استرضاء أحد من الغانمين
وأما أبو هريرة وأصحابه فلم يعطهم إلا عن طيب خواطر المسلمين
( قال فأهدى رفاعة بن زيد ) أحد بني الضباب كذا في رواية أبي إسحاق عن مالك بكسر الضاد المعجمة وموحدتين الأولى خفيفة بينهما ألف بلفظ جمع الضب وعند مسلم وهب له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب بضم المعجمة بصيغة التصغير
وفي رواية محمد بن إسحاق رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبني بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون وقيل بفتح المعجمة وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام قال الواقدي كان رفاعة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه ( غلاما ) عبدا ( أسود يقال له مدعم ) بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين صحابي رضي الله عنه ( فوجه ) بفتح الواو وقال الكرماني بالبناء للمجهول ( رسول الله ) وفي رواية الفزاري ثم انصرفنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ) بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة ( حتى إذا كنا بوادي القرى بينما ) بالميم بلا فاء ( مدعم يحط رحل رسوله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية البيهقي وقد استقبلتنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبية ( إذ جاءه ) أي مدعما ( سهم عائر ) بعين مهملة فألف فهمزة فراء بزنة الفاعل أي لا يدري من رمى به وقيل هو الحائد عن قصده ( فأصابه فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة ) وفي رواية الفزاري الشهادة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا ) ردع لهم عن هذا القول ( والذي نفسي بيده إن الشملة )
____________________
(3/42)
كساء يشتمل به ويلتف فيه وقيل إنما تسمى شملة إذا كان لها هدب ( التي أخذ ) ها وفي رواية أصابها ( يوم خيبر ) بمعجمة أوله وراء بلا نقط آخره على الصواب ( من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل ) بزنة تفتعل عند ابن وضاح ولابن يحيى لتشعل بالبناء للمجهول ( عليه نارا ) قال الحافظ يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها ويحتمل أن المراد أنها سبب لعذاب النار وكذا يقال في الشراك الآتي
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فقال صلى الله عليه وسلم هو في النار في عباءة غلها وكلام عياض يشعر باتحاد قصته مع قصة مدعم والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما فإن قصة مدعم كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة والذي أهداه رفاعة بخلاف كركرة فأهداه هوزة بن علي وكان نوبيا أسود يمسك دابته صلى الله عليه وسلم في القتال فأعتقه أي وغل عباءة ولم يمت بسهم بل ذكر البلاذري أنه مات في قتال أهل الردة بعده صلى الله عليه وسلم فافترقا
نعم روى مسلم عن عمر لما كان يوم خيبر قالوا فلان شهيد فقال صلى الله عليه وسلم كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة فهذا يمكن تفسيره بكركرة بفتح الكافين وبكسرهما قاله عياض
وقال النووي إنما اختلف في كافه الأولى
أما الثانية فمكسورة اتفاقا
وقوله هو في النار أي يعذب على معصيته إن لم يعف الله تعالى عنه
( قال فلما سمع الناس ذلك جاء رجل ) قال الحافظ لم أقف على اسمه ( بشراك ) بكسر الشين المعجمة وخفة الراء سير النعل على ظهر القدم ( أو شراكين ) شك الراوي ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية الفزاري ( فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار ) تعذب بها أو سبب لعذاب النار والشك من الراوي وفيه تعظيم الغلول وإن قل
وأخرجه البخاري في الأيمان والنذور عن إسماعيل ومسلم من طريق ابن وهب عن مالك به وتابعه عبد العزيز الدراوردي عن ثور به عند مسلم ورواه البخاري في المغازي نازلا عن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري عن مالك بنحوه بينه وبين مالك ثلاثة
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه ) وقد رواه أبو عمر متصلا ( عن عبد الله بن عباس أنه قال ) موقوفا وحكمه الرفع لأنه لا يقال رأيا وقد رواه ابن ماجه وغيره بنحوه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بدون الجملة الأولى وهي ( ما ظهر الغلول ) الخيانة في الغنيمة ( في قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب ) بالضم الخوف معاملة بالنقيض فإن المال يقوي القلب فلما أخذوه بغير حل خافوا قال أبو
____________________
(3/43)
عمر من عدوهم فجبنوا عن لقائهم فظهر العدو عليهم ثم لا يحتمل أن ذلك فيمن غل دون من لم يغل ولم يرض به والأظهر أنه عام مع القدرة على التغيير ولم يفعلوا ولم تنكره قلوبهم قال تعالى { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } هود 116 وقال تعالى { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } الأعراف 165 ولا فشا ظهر وانتشر ( الزنى في قوم قط ) ولم ينكر على فاعله ( إلا كثر فيهم الموت ) كما وقع في قصة بني إسرائيل ( ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ) أي البركة فيه أو ضيق عليهم لا أصل الرزق فلا تنافي بين هذا ونحوه كحديث إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وبين أحاديث إن الرزق لا تزيده الطاعة ولا تنقصه المعصية
( ولا حكم قوم بغير الحق ) عن عمد أو جهل ( إلا فشا فيهم الدم ) ولابن ماجه مرفوعا
ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا منافاة بينهما
( ولاختر ) بفتح الخاء المعجمة والمثناة الفوقية وراء بلا نقط غدر ( قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو ) جزاء لما اجترحوا من نقض العهد المأمور بالوفاء به
13 الشهداء في سبيل الله ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) بملكه وقدرته قاله عياض ( لوددت ) بلام مفتوحة في جواب القسم وفي رواية بغير لام وكسر الدال الأولى وسكون الثانية ( أني أقاتل ) بصيغة المفاعلة ( في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ) بضم الهمزة مبني للمفعول فيهما ( فأقتل ثم أحيا فأقتل ) وفي رواية ثم أقتل في المواضع الثلاثة بدل الفاء قال الطيبي ثم وإن دلت على تراخي الزمان لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه لأن التمني حصول درجات بعد القتل والإحياء لم يحصل قبل ومن ثم كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى
( فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد الله ) أنه قال ذلك وفائدة التأكيد لتطمئن نفس سامعه إليه ولا يشك فيما حدثه به وهذا من كلام الراوي ويأتي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة زيادة في أول الحديث واستشكل هذا التمني منه مع علمه بأنه لا يقتل وأجاب ابن التين باحتمال أنه قبل نزول قوله تعالى { والله يعصمك من الناس } المائدة 67 ورد بأن نزولها كان في أوائل ما قدم إلى
____________________
(3/44)
المدينة وهذا الحديث صرح أبو هريرة في الصحيحين من رواية ابن المسيب عنه بسماعه النبي وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع والذي يظهر في الجواب أن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع فقد قال وددت لو أن موسى صبر وله نظائر فكأنه أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه قال ابن التين وهذا أشبه وفي الحديث استحباب طلب القتل في سبيل الله وجواز قوله وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل لأن فيه إظهار محبة الخير والرغبة فيه والأجر يقع على قدر النية وتمني ما يمتنع عادة وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قال الحافظ وفيه نظر لأن الخطاب إنما يتوجه على القادر أما العاجز فمعذور وقد قال تعالى { غير أولي الضرر } النساء 95 وأدلة كونه فرض كفاية يؤخذ من غير هذا الحديث
وأخرجه البخاري في التمني عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
وأخرجه مسلم وغيره وطرقه كثيرة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال يضحك الله إلى رجلين ) قال الباجي هو كناية عن التلقي بالثواب والإنعام والإكرام أو المراد تضحك ملائكته وخزنة جنته أو حملة عرشه وذلك أن مثل هذا غير معهود انتهى
والنسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد إن الله ليعجب من رجلين قال الخطابي الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ومعناه الإخبار عن رضى الله بفعل أحدهما وقبوله للأجر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما وتأول البخاري الضحك على معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى أقرب فإن الضحك يدل على الرضى والقبول والكرام يوصفون عند ما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء فيكون معنى يضحك الله يجزل العطاء وقد يكون معناه يعجب ملائكته ويضحكهم من صنيعهما وهذا مجاز يكثر مثله
وقال ابن الجوزي كان أكثر السلف يمتنعون من تأويله ويروونه كما جاء
وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أن لا تشبه صفات الله صفات الخلق ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه قال الحافظ ويدل على أن المراد الإقبال بالرضى تعديته بإلى تقول ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه مظهرا للرضى عنه
( يقتل ) بفتح أوله ( أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة قالوا كيف يا رسول الله قال ( يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ) بضم الياء بالبناء للمجهول أي فيقتل الكافر
____________________
(3/45)
المسلم ( ثم يتوب الله على القاتل ) بأن يهديه إلى الإسلام ( فيقاتل ) الكفار ( فيستشهد ) قال ابن عبد البر يستفاد من الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة قال ومعناه عند أهل العلم أن القاتل الأول كان كافرا قال الحافظ وهو ما استنبطه البخاري ويؤيده أن في رواية همام عند مسلم ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد وأصرح منه ما أخرجه أحمد من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قيل كيف يا رسول الله قال يكون أحدهما كافرا فيقتل الآخر ثم يسلم فيغزو فيقتل ولكن لا مانع من أن يكون مسلما أيضا لعموم قوله ثم يتوب الله على القاتل كما لو قتل مسلم مسلما عمدا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله وإنما يمنع دخول مثل هذا من ذهب إلى أن قاتل المسلم عمدا لا تقبل توبته كابن عباس أخذا بظاهر قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } النساء 93 روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أن الآية نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء حتى قبض ولأحمد والنسائي عن معاوية مرفوعا كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا لكن ورد عن ابن عباس خلاف ذلك فالظاهر أنه أراد بقوله الأول التشديد والتغليظ وعليه جمهور السلف وجميع أهل السنة وصححوا توبة القاتل كغيره وقالوا المراد بالجلود المكث الطويل لتظاهر الأدلة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) بقدرته أو في ملكه ( لا يكلم ) بضم الياء وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح ( أحد ) مسلم كما قيد به في الصحيحين من رواية همام عن أبي هريرة ( في سبيل الله عز وجل ) أي الجهاد ( والله أعلم بمن يكلم في سبيله ) جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى مؤكدة مقررة لمعنى المعترض فيه وتفخيم شأن من يكلم في سبيل الله ونظيره قوله تعالى { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } النساء 93 أي بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ويجوز أن يكون تتميما للصيانة عن الرياء والسمعة وتنبيها على الإخلاص في الغزو وأن الثواب المذكور إنما هو لمن أخلص لتكون كلمة الله هي العليا
( إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب ) بفتح الياء وإسكان المثلثة وفتح المهملة
____________________
(3/46)
فموحدة ( دما ) أي يجري متفجرا أي كثيرا ( اللون لون الدم والريح ريح المسك ) أي كريحه إذ ليس هو مسكا حقيقة بخلاف لون الدم فلا تقدير فيه لأنه دم حقيقة فليس له من أحكام الدماء وصفاتها إلا اللون فقط
قال العلماء الحكمة في بعثه كذلك ليكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى وعلى من ظلمه وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته
قال الحافظ ويحتمل أن المراد ما مات صاحبه به قبل اندماله لا ما اندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول ولا ينفي ذلك أن له فضلا في الجملة لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دما من فارق الدنيا كذلك
ويؤيده ما لابن حبان عن معاذ عليه طابع الشهداء ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن معاذ مرفوعا من جرح في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك قال وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل تحصل لكل من جرح انتهى
وقال النووي قالوا وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطاع الطريق وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك
وكذا قال ابن عبد البر واستشهد بقوله من قتل دون ماله فهو شهيد لكن توقف الولي العراقي في دخول من قاتل دون ماله في هذا الفضل لإشارة النبي إلى اعتبار الإخلاص بقوله والله أعلم بمن يكلم في سبيله والمقاتل دون ماله لا يقصد وجه الله بذلك وإنما يقصد صون ماله وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع ولا يلزم من كونه شهيدا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك رأى بذل بذل نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد به عند مسلم وغيره
( مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب كان يقول اللهم لا تجعل قتلي بيد رجل صلى لك سجدة واحدة يحاجني ) يجادلني ( بها عندك يوم القيامة ) قال ابن عبد البر أراد أن يكون قاتله مخلدا في النار ولا يكون كذلك إلا من لم يسجد لله سجدة ولم يعمل من الخير والإيمان مثقال ذرة وقد استجاب الله له فجعل قتله بالمدينة بيد فيروز النصراني أو المجوسي أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة الصحابي
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد ) بكسر العين ( ابن أبي سعيد المقبري ) بفتح الباء وضمها نسبة إلى المقبرة قال ابن عبد البر كذا رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم ومطرف وابن بكير وأبو مصعب والجمهوري ورواه معن بن عيسى والقعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد لم
____________________
(3/47)
يذكرا يحيى بن سعيد فيمكن أن مالكا سمعه من يحيى عن سعيد ثم سمعه من سعيد وقد رواه الليث وابن أبي ذئب عن سعيد المقبري انتهى
أي بلا واسطة يحيى بن سعيد ومن طريق الليث رواه مسلم ورواه أيضا من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد المقبري فأثبت الواسطة وهذا يؤيد أن مالكا حدث به بالوجهين ( عن عبد الله بن أبي قتادة ) الأنصاري المدني مات سنة خمس وتسعين ( عن أبيه ) الصحابي فارس المصطفى ( أنه قال جاء رجل إلى رسول الله ) وفي رواية الليث عند مسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل ( فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله ) الجهاد حال كوني ( صابرا محتسبا ) أي مخلصا ( مقبلا ) على القتال وزاد ( غير مدبر ) لبيان كون الإقبال في جميع الأحوال إذ قد يقبل مرة ويدبر أخرى فيصدق عليه أنه مقبل ( أيكفر الله عني خطاياي فقال رسول الله نعم ) يكفر ( فلما أدبر الرجل ناداه ) دعاه ( رسول الله ) بنفسه ( أو أمر به فنودي له ) شك الراوي ( فقال له رسول الله ) أخبرني ( كيف قلت فأعاد عليه قوله ) المذكور ( فقال رسول الله نعم إلا الدين ) بفتح الدال فلا يكفره إلا عفو صاحبه أو استيفاؤه
قال ابن عبد البر فيه أن الخطايا تكفر بالأعمال الصالحة مع الاحتساب والنية في العمل وأن أعمال البر المقبولة لا تكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه فأما التبعات فلا بد فيها من القصاص
قال وهذا في دين ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يؤد أو أنه في غير حق أو سرف ومات ولم يوفه أما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فلا يحبس عن الجنة لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه من الصدقات أو سهم الغانمين أو الفيء
وقد قيل إن تشديده في الدين كان قبل الفتوح انتهى
وقال القرطبي والنووي فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وإن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى
وقال الحافظ ويستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات وهي لا تمنع درجة الشهادة وليس للشهادة معنى إلا أن يثبت من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة وقد بين الحديث أنه يكفر عنه ما عدا التبعات فإن كان له عمل صالح كفرت الشهادة سيئاته غير التبعات ونفعه عمله الصالح في موازنة ما عليه من التبعات ويبقى له درجة الشهادة خالصة فإن لم يكن له عمل صالح فهو تحت المشيئة انتهى
وقال ابن الزملكاني فيه
____________________
(3/48)
تنبيه على أن حقوق الآدميين لا تكفر لكونها مبنية على المشاحة والتضييق ويمكن أن يقال هذا محمول على الدين الذي هو خطيئة وهو ما استدانه صاحبه على وجه لا يجوز له فعله بأن أخذه بحيلة أو غصبه فثبت في ذمته البدل أو أدان غير عازم على الوفاء لأنه استثنى ذلك من الخطايا والأصل في الاستثناء أن يكون من الجنس ويكون الدين المأذون فيه مسكوتا عنه في هذا الاستثناء فلا يلزم المؤاخذة به لما يلطف الله بعبده من استيهابه له وتعويض صاحبه من فضل الله
فإن قيل ما تقول فيمن مات وهو عاجز عن الوفاء ولو وجد وفاء وفى قلت إن كان المال الذي لزم ذمته إنما لزمها بطريق لا يجوز تعاطي مثله كغصب أو إتلاف مقصود فلا تبرأ الذمة من ذلك إلا بوصوله إلى من وجب له أو بإبرائه منه ولا تسقطه التوبة وإنما تنفع التوبة في إسقاط العقوبة الأخروية فيما يختص بحق الله تعالى لمخالفته إلى ما نهى الله عنه وإن كان المال لزمه بطريق سائغ وهو عازم على الوفاء ولم يقدر فهذا ليس بصاحب ذنب حتى يتوب عنه ويرجى له الخير في العقبى ما دام على هذا الحال انتهى وهو نفيس وقد سبقه إلى معناه أبو عمر كما رأيته
( كذلك قال لي جبريل ) وفي رواية عند أبي عمر إلا الدين فإنه مأخوذ كما زعم جبريل أي قال من إطلاق الزعم على القول الحق
قال ابن عبد البر فيه دليل على أن من الوحي ما يتلى وما لا يتلى وما هو قرآن وما ليس بقرآن وقد قيل في قوله تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } الأحزاب 34 أن القرآن الآيات والحكمة السنة وكل من الله إلا ما قام عليه الدليل فإنه لا ينطق عن الهوى انتهى
وفي الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع وهذا يعارضه حديث الباب الظاهر في أنه يكفر جميع حقوق الله ومنها الصلاة والصوم إلا أنه يحمل على أنه مطلق استشهاد
وحديث أبي قتادة مقيد بأنه صابر محتسب مقبل غير مدبر
( مالك عن أبي النضر ) سالم بن أبي أمية ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العينين القرشي التيمي ( أنه بلغه ) قال ابن عبد البر مرسل عند جميع الرواة لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة ( أن رسول الله لشهداء أحد ) أي لأجلهم وفي شأنهم لما أشرف عليهم مقتولين كما رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن ثعلبة وهم سبعون كما صرح به البراء بن عازب وأنس في الصحيح وأبي بن كعب وقال في حديثه أربعة وستون من الأنصار وستة من المهاجرين رواه الحاكم وابن حبان وصححاه وهو المؤيد بقوله تعالى { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } آل عمران 165 اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد وأن إصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين وأسر سبعين وبهذا جزم ابن إسحاق وغيره والزيادة عليهم إن ثبتت فإنما نشأت من الخلاف في تفصيلهم وليست زيادة حقيقة
( هؤلاء أشهد عليهم ) بما فعلوه من بذل أجسامهم وأرواحهم وترك من له الأولاد أولاده كأبي
____________________
(3/49)
جابر ترك تسع بنات طيبة بذلك قلوبهم فرحين مستبشرين بوعد خالقهم حتى أن منهم من قال إني لأجد ريح الجنة دون أحد كأنس بن النضر وسعد بن الربيع ومنهم من ألقى تمرات كن في يده وقاتل حتى قتل ومنهم من قال حين خرج اللهم لا تردني إلى أهلي كعمرو بن الجموح ومنهم من خلفه النبي لكبر سنه فخرج رجاء الشهادة وهو اليمان وثابت بن وقش فحذف المشهود به للعلم به
وقال ابن عبد البر أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح والسلامة من الذنوب الموبقات ومن التبديل والتغيير والمنافسة في الدنيا ونحو ذلك انتهى
فجعل على بمعنى اللام
وقال السهيلي أشهد من الشهادة وهي ولاية وقيادة فوصلت بحرف على لأنه مشهود له وعليه
وقال البيضاوي هذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان كالرقيب المؤتمن على أمته عدى بعلى ( فقال أبو بكر الصديق ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا ) فلم خص هؤلاء بشهادتك عليهم ( فقال رسول الله بلى ) أنتم إخوانهم الخ ( ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ) فلذا خصصتهم بالشهادة المستفادة من حصر المبتدأ في الخبر بقوله هو لا أشهد عليهم ( فبكى أبو بكر ثم بكى ) كرره لمزيد أسفه على فراق المصطفى ( ثم قال أئنا لكائنون ) أي موجودون ( بعدك ) استفهام تأسف لا حقيقي لاستحالته من أبي بكر بعد أن أخبره النبي
قال ابن عبد البر فيه أن شهداء أحد ومن مات قبله أفضل ممن خلفهم بعده وهذا في الجملة لأن منهم من أصاب الدنيا بعده وأصابت منه أما الخصوص والتعيين فلا سبيل إليه
( مالك عن يحيى بن سعيد قال كان رسول الله جالسا وقبر يحفر ) جملة حالية لميت ( بالمدينة ) ولابن وضاح في المدينة ( فاطلع ) نظر ( رجل في القبر فقال بئس مضجع المؤمن ) بفتح الميم والجيم موضع الضجوع جمعه مضاجع ( فقال رسول الله بئس ما قلت ) لأن القبر للمؤمن روضة من رياض الجنة ( فقال الرجل لم أرد هذا ) أي ذم القبر ( يا رسول الله إنما أردت القتل في سبيل الله ) الجهاد ( فقال رسول الله لا مثل للقتل في سبيل الله ) في الثواب والفضل ولكن الدفن بالمدينة مزيد الفضل ( ما على الأرض بقعة ) بضم الباء في الأكثر فيجمع على بقع كغرفة وتفتح فتجمع على بقاع مثل كلبة وكلاب أي قطعة ( من الأرض هي أحب إلي أن يكون قبري بها منها ) أي المدينة
____________________
(3/50)
قال ذلك ( ثلاث مرات ) للتأكيد قال الباجي هذا أحد الأدلة على تفضيل المدينة على مكة وكذا أثر عمر الذي يليه
وقال ابن عبد البر هذا الحديث لا أحفظه مسندا ولكن معناه موجود من رواية مالك وغيره اه
وفيه حضوره الجنائز وحفر القبر والدفن للموعظة والاعتبار ورقة القلب ليتأسى به فيه ويكون سنة بعده وأن الكلام يحمل على ظاهره فيحمد على حسنه ويلام على ضده حتى يعلم مراد قائله فيحمل عليه دون ظاهره
14 ما تكون فيه الشهادة ( مالك عن زيد بن أسلم ) فيه انقطاع وقد رواه البخاري من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه ( أن عمر بن الخطاب قال اللهم إني أسألك ) وفي البخاري ارزقني ( شهادة في سبيلك ) فاستجيب له فقتله أبو لؤلؤة فيروز النصراني عبد المغيرة بن شعبة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فحصل له ثواب الشهادة لأنه قتل ظلما
( ووفاة ببلد رسولك ) فتوفي بها من ضربة أبي لؤلؤة في خاصرته ودفن عند أبي بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وهي أشرف البقاع على الإطلاق بالإجماع وفي طلبه الموت بها إظهار لمحبته إياها أعلى من مكة وعمر من القائلين بفضلها على مكة
وروى الإسماعيلي من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم عن أمه عن حفصة بنت عمر قالت سمعت عمر يقول اللهم قتلا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك قالت فقلت وأنى يكون هذا قال يأتي الله به إذا شاء ورواه ابن سعد عن هشام بن سعد عن زيد عن أبيه عن حفصة فذكر مثله وقال في آخره إن الله يأتي بأمره إن شاء
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب ) منقطع وقد رواه البيهقي في السنن من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر أنه ( قال كرم المؤمن تقواه ) أي فضله إنما هو بالتقوى قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الحجرات 13 وفي المرفوع كرم المرء دينه أي به يشرف ويكرم ظاهرا وباطنا قولا وفعلا والكرم كثرة الخير والمنفعة لا ما في العرف من الإنفاق والبذل سرفا وفخرا
( ودينه حسبه ) أي شرفه انتسابه إلى الدين لا إلى الآباء وفي المرفوع وحسبه خلقه بالضم أي ليس شرفه بشرف آبائه بل بمحاسن أخلاقه
وقال الأزهري أراد أن الحسب يحصل للرجل بكرم
____________________
(3/51)
أخلاقه وإن لم يكن له نسب وإذا كان حسيب الآباء فهو أكرم له
( ومروءته ) بضم الميم والراء وبالهمز ( خلقه ) بضمتين أي إن المروءة التي يحمد الناس عليها ويوصفون بأنهم من ذوي المروءات إنما هي معان مختصة بالأخلاق من الصبر والحلم والجود والإيثار
قال العلائي حاصل المروءة راجعة إلى مكارم الأخلاق لكنها إذا كانت غريزة تسمى مروءة وقيل المروءة إنصاف من دونك والسمو إلى من فوقك والجزاء عما أوتي إليك من خير أو شر
وفي المرفوع ومروءته عقله أي لأن به يتميز عن الحيوانات ويعقل نفسه عن كل خلق دنيء ويكفها عن شهواتها الردية وطباعها الدنية ويؤدي إلى كل ذي حق حقه من الحق والخلق
( والجرأة ) بضم الجيم وإسكان الراء وبالهمز والقصر بوزن الجرعة الهجوم والإسراع بغير توقف
( والجبن ) بضم الجيم وإسكان الموحدة ضعف للقلب ( غرائز ) بغين معجمة فراء آخره زاي منقوطة جمع غريزة أي طبائع لا تكتسب وجمع إما لأن الجمع ما فوق الواحد أو باعتبار الأفراد ( يضعها الله حيث شاء ) من خلقه
وقد روى أبو يعلى عن معدي بن سليمان عن محمد بن عجلان عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ الموطأ من أوله إلى هنا ومعدي ضعفه جماعة وقال الشاذكوني كان من أفضل الناس وكان يعد من الأبدال وصحح له الترمذي حديثا وعند الدارقطني من حديثه بهذا السند الحسب المال والكرم التقوى
وروى بعضه أحمد والبيهقي وضعفه والحاكم وصححه على شرط مسلم وتعقب عن أبي هريرة رفعه كرم المؤمن دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه ( فالجبان يفر عن أبيه وأمه ) لأنه لجبنه لا يستطيع الدفع عنهما فضلا عن غيرهما ( والجريء يقاتل عما لا يؤوب ) يرجع ( به إلى رحله ) لأن قتاله بمحض الهجوم والسرعة من غير نظر لنفع يعود عليه
( والقتل حتف من الحتوف ) أي نوع من أنواع الموت كالموت بمرض أو نحوه فلأن يموت به في سبيل الله خير من موته على فراشه فيجب أن لا يرتاع منه ولا يهاب هيبة تورث الجبن
قال الشاعر في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة والمرء بالجبن لا ينجو من القدر ( والشهيد من احتسب نفسه على الله ) أي رضي بالقتل في طاعة الله رجاء ثوابه تعالى
15 العمل في غسل الشهداء ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب غسل وكفن وصلي عليه ) بالبناء
____________________
(3/52)
للمفعول والمصلي عليه إماما صهيب رضي الله عنهما
( وكان شهيدا يرحمه الله ) بيد أبي لؤلؤة لعنه الله
( مالك أنه بلغه عن أهل العلم أنهم كانوا يقولون الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ولا يصلى على أحد منهم وأنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها ) لما في الصحيح عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لشهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وأما حديث صلاته عليهم صلاته على الميت فالمراد دعاؤه لهم كدعائه للميت جمعا بين الأدلة
قال ابن عبد البر اختلف في صلاته عليهم ولم يختلف في أنه أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم ولم يغسلوا
( قال مالك وتلك السنة فيمن قتل في المعترك فلم يدرك حتى مات قال وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك فإنه يغسل ويصلى عليه كما عمل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ) جمعا بين الأحاديث وفعل الصحابة فإن عمر عاش بعد الجراحة وتكلم وصلى وأوصى وجعل الخلافة شورى وقبض بعد ثلاثة أيام
16 ما يكره من الشيء يجعل في سبيل الله ( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير يحمل الرجل ) الواحد ( إلى الشام على بعير ) لكثرة العدو بها وأنها أكثر الجهات جهادا ورباطا ( ويحمل الرجلين إلى العراق على بعير ) لقلة العدو ( فجاءه رجل من أهل العراق فقال احملني وسحيما ) بضم السين وفتح الحاء المهملتين ( فقال له عمر أنشدك ) ولابن وضاح نشدتك ( الله أسحيم زق قال نعم ) قال الباجي أراد الرجل التحيل على عمر ليوهمه أن له رفيقا يسمى سحيما فيدفع
____________________
(3/53)
إليه ما يحمل رجلين فينفرد هو به وكان عمر يصيب المعنى بظنه فلا يكاد يخطئه فسبق إلى ظنه أن سحيما الذي ذكر هو الزق قال أبو عمر زق كان في رحله وذلك معروف من ذكائه وفطنته
وفي الحديث سيكون في أمتي محدثون فإن يكن فعمر انتهى
وفي الصحاح غيره من جملة معاني السحيم زق الخمر قال ابن عبد البر كذا ترجم يحيى ولم يذكر سوى هذا الأثر وترجم القعنبي وابن بكير ما يكره من الرجعة في الشيء يجعل في سبيل الله وذكرا حديث عمر في الفرس الذي حمل عليه بطريقيه السابقين في كتاب الزكاة ثم ذكرا أثر عمر هذا
17 الترغيب في الجهاد يعني زيادة على ما سبق فإن هذه الترجمة مرت بلفظها أول كتاب الجهاد لكن أحاديثهما متغايرة فلا تكرار وإن كان يمكن جعل جميع الأحاديث ترجمة واحدة
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري ( عن ) عمه ( أنس بن مالك قال كان رسول الله إذا ذهب إلى قبا ) بضم القاف والمد والصرف مذكر وبالقصر والتأنيث ومنع الصرف ( يدخل على أم حرام ) بحاء وراء مهملتين مفتوحتين ( بنت ملحان ) بكسر الميم وإسكان اللام ومهملة فألف فنون واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام بفتح المهملتين الأنصارية خالة أنس قال أبو عمر لم أقف لها على اسم صحيح قال في الإصابة ويقال إنها الرميصا بالراء والغميصا بالغين المعجمة ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأختها أم سليم ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي
( فتطعمه ) مما في بيتها من الطعام ( وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ) أي كانت زوجة له حينئذ في الزمن النبوي هذا ظاهره
وللبخاري من وجه آخر التصريح عن أنس أن عبادة تزوجها بعد وجمع ابن التين بأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك والحافظ يحمل رواية إسحاق على أنها جملة معترضة أراد وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال وظهر من رواية غيره أنه إنما تزوجها بعد وهذا أولى لاتفاق محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة الأنصاري كلاهما عن أنس عند البخاري على أن عبادة تزوجها بعد ذلك قال ثم ظاهر رواية إسحاق أن الحديث من مسند أنس وكذا هو ظاهر قول أبي طوالة عن أنس دخل رسول الله على بنت ملحان وأما محمد بن يحيى فقال عن أنس عن خالته أم حرام وهو ظاهر في أنه من مسند أم حرام وهو المعتمد وكأن أنسا لم يحضر ذلك فحمله عن خالته ( فدخل عليها رسول الله فأطعمته ) لم يوقف على تعيين ما أكل عندها يومئذ ( وجلست تفلي ) بفتح الفوقية
____________________
(3/54)
وإسكان الفاء وكسر اللام من فلى يفلي كضرب يضرب أي تفتش ( في ) شعر ( رأسه ) لإخراج الهوام أو للتنظيف واختلف هل كان فيه قمل ولا يؤذيه أو لم يكن فيه أصلا وإنما تفلي ثوبه للتنظيف من نحو الغبار وإنما كان يدخل عليها ويمكنها من التفلية لأنها ذات محرم منه لأنها خالة أبيه أو جده عبد المطلب لأن أمه من بني النجار وقال ابن وهب كانت إحدى خالاته من الرضاعة
قال ابن عبد البر فأي ذلك كان فهي محرم له على أنه معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه انتهى
وحكى النووي الاتفاق على أنها محرم وصحح الحافظ الدمياطي أن لا محرمية بينهما في جزء أفرده لذلك وقال ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها فلعل ذلك كان مع ولد أو زوج أو خادم أو تابع والعادة تقضي المحافظة بين المخدوم وأهل الخادم لا سيما إذا كن مسنات مع ما ثبت له من العصمة وقيل هو من خصائصه وإليه أومأ ابن عبد البر قال في الفتح والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها لمكان عصمته وإن نازع في ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال قال وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية ( فنام رسول الله يوما ) أي في يوم وفي رواية فقال بالقاف أي نام وقت القائلة ( ثم استيقظ وهو يضحك ) سرورا بكون أمته تبقى بعده مظهرة أمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر والجملة حالية
( قالت ) أم حرام ( فقلت ما يضحكك ) بلفظ المضارع ( قال ناس من أمتي عرضوا علي ) بشد الياء حال كونهم ( غزاة في سبيل الله يركبون ثبج ) بفتح المثلثة والموحدة والجيم ( هذا ) بمعنى ذلك ( البحر ) أي وسطه أو معظمه أو هو له أقوال ولمسلم يركبون ظهر البحر أي السفن التي تجري على ظهره ولما كان غالب جريها إنما يكون في وسطه قيل المراد وسطه وإلا فلا اختصاص له بالركوب زاد في رواية للبخاري الأخضر فقيل المراد الأسود وقال الكرماني الأخضر صفة لازمة للبحر لا مخصصة إذ كل البحار خضر فإن قيل الماء بسيط لا لون له قلت تتوهم الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه ( ملوكا ) نصب بنزع الخافض أي مثل ملوك كذا قيل والظاهر أنه حال ثانية من ناس بالتقدير المذكور ( على الأسرة ) جمع سرير كسرر بضمتين ( أو مثل الملوك على الأسرة يشك ) بالمضارع ( إسحاق ) شيخ مالك في اللفظ الذي قاله أنس قال أبو عمر رأى صفتهم في الجنة كما قال تعالى { على سرر متقابلين } الصافات 44 وقال النووي الأصح أنه صفتهم في الدنيا أي أنهم يركبون مراكب الملوك لسعة مالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم
قال الحافظ والإتيان بالتمثيل في معظم طرق الحديث يدل على أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم لا أنهم نالوا ذلك في تلك الحالة أو موضع التشبيه أنهم فيما هم فيه من النعيم الذي أثيبوا به على جهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم والتشبيه بالمحسوس أبلغ في نفس السامع
____________________
(3/55)
( قالت ) أم حرام ( فقلت ) زاد ابن وضاح له ( يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ) واستشكل الدعاء بالشهادة لأن حاصله أن يدعو الله أن يمكن منه كافرا يعصي الله بقتله فيقل عدد المسلمين وتسر قلوب الكفار ومقتضى قواعد الفقه أن لا يتمنى معصية الله لنفسه ولا لغيره
وأجاب ابن المنير بأن المدعو به قصدا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المعدة للشهداء وأما قتل الكافر للمسلم فليس بمقصود للداعي وإنما هو من ضرورات الوجود لأن الله أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد فاغتفر لحصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم حصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما بذل عليه من وقعت له في إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك
وقول ابن التين ليس في الحديث تمني الشهادة إنما فيه تمني الغزو مردود بأن الشهادة هي الثمرة العظمى المطلوبة في الغزو
( ثم وضع رأسه ) ثانيا ( فنام ثم استيقظ ) حال كونه ( يضحك قالت فقلت ) زاد ابن وضاح له ( يا رسول الله ما يضحكك قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ) يركبون البر ( ملوكا على الأسرة أو ) قال ( مثل الملوك على الأسرة كما قال في الأولى ) من تشبيهم بالملوك وشك إسحاق ( قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين ) الذين يركبون ثبج البحر زاد أبو عوانة من وجه آخر ولست من الآخرين
وللبخاري من وجه آخر أنه قال في الأولى يغزون هذا البحر وفي الثانية يغزون قيصر فيدل على أن الثانية إنما غزت في البر كما في الفتح لكن في رواية أخرجها ابن عبد البر من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام قال اللهم اجعلها منهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك فقال عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر لكن المروي في البخاري من الطريق المذكورة فقال مثل ذلك
( قال ) أنس ( فركبت ) أم حرام ( البحر ) مع زوجها عبادة ( في زمان ) غزو ( معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب في خلافة عثمان سنة ثمان وعشرين وكان معاوية أميرالجيش من جهة عثمان على غزاة قبرس وهي أول غزوة كانت إلى الروم هذا قول أكثر العلماء وأهل السير
وقال البخاري ومسلم في خلافة معاوية
قال الباجي وعياض وهو الأظهر
( فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت ) أي ماتت لما رجعوا من الغزو بغير مباشرة قتال
ففي رواية للبخاري فخرجت مع زوجها عبادة غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين نزلوا الشام
____________________
(3/56)
فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت
وله أيضا فلما رجعت قربت لها دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها
ولمسلم مرفوعا من مات في سبيل الله فهو شهيد وروى ابن وهب مرفوعا من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد أخرجه الطبراني بإسناد حسن ففي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب
وفي الصحيح عن أم حرام أيضا مرفوعا أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قلت أنا منهم قال أنت منهم ثم قال أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا منهم قال لا قال المهلب فيه منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر ولابنه يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر وهي القسطنطينية
وتعقبه ابن المنير وابن التين بما حاصله أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا خلاف أن قوله مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد بعد ذلك لم يدخل في العموم اتفاقا فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم واحتمال أن يزيد لم يحضر مع الجيش مردود إلا أن يراد لم يباشر القتال فيمكن لأنه كان أميرا على ذلك الجيش اتفاقا من قبل أبيه وكان فيه أبو أيوب فمات فدفن عند باب مدينة قيصر سنة اثنين وخمسين وفيه جواز ركوب البحر الملح وذكر مالك أن عمر بن الخطاب منع منه فلما مات استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فلم يزل يركب إلى أيام عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه ثم ركب بعده إلى الآن
قال ابن عبد البر وإنما منع العمران ركوبه في التجارة وطلب الدنيا أما في الجهاد والحج فلا وقد أباحت السنة ركوبه للجهاد فالحج المفترض أولى
قال وأكثر العلماء يجيزون ركوبه في طلب الحلال إذا تعذر البر ولا خلاف بينهم في حرمة ركوبه عند ارتجاجه وكره مالك ركوب النساء البحر لما يخشى من اطلاعهن على عورات الرجال وعكسه إذ يعسر الاحتراز من ذلك وخصه أصحابه بالسفن الصغار أما الكبار التي يمكن فيها الاستتار بأماكن تخصهن فلا حرج وفيه مشروعية القائلة لما فيها من الإعانة على قيام الليل وعلم من أعلام النبوة وهو الإخبار بما سيقع فوقع كما قال وفضل شهيد البحر
وقد اختلف هل هو أفضل لحديث من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر فإن غزاة في البحر أفضل من غزوتين في البر الحديث وهو ضعيف وشهيد البر أفضل لقوله أفضل الشهداء من عقر جواده وأهريق دمه وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي الاستئذان عن إسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
غ ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله قال لولا أن أشق على أمتي ) بعدم طيب نفوسهم بالتخلف عني ولا قدرة لهم على آلة السفر ولا لي ما أحملهم عليه فالاستدراك الآتي مفسر للمراد بالمشقة كرواية
____________________
(3/57)
الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ( لأحببت أن لا أتخلف عن سرية ) قطعة من الجيش تبعث إلى العدو ( تخرج في سبيل الله ) الجهاد ( ولكني لا أجد ما أحملهم عليه ) وفي رواية للبخاري ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه والحمولة بالفتح الإبل الكبار التي يحمل عليها ( ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون ) معي لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره
وفي مسلم عن همام عن أبي هريرة لكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ( ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي ) وفي رواية للبخاري ويشق علي أن يتخلفوا عني وللطبراني ويشق علي وعليهم ( فوددت ) بكسر الدال الأولى وسكون الثانية تمنيت وسبق من رواية الأعرج والذي نفسي بيده لوددت ( أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ) بالبناء للمفعول في الجميع وتمنى ذلك حرصا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين بذلا لنفسه في مرضات ربه وإعلاء كلمته ورغبة في الازدياد من الثواب ولتتأسى به أمته
قال الحافظ حكمه إيراد هذه عقب تلك إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم فكأنه قال الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد فراعى خواطر الجميع
وقد خرج في بعض المغازي وخلف عنه المشار إليهم وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم وفيه بيان شدة شفقته على أمته ورأفته بهم والحض على حسن النية وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة والسعي في إزالة المكروه عن المسلميين
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( قال لما كان ) وجد ( يوم أحد ) بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين مذكر مصروف وقيل يجوز تأنيثه على توقع البقعة فيمنع وليس بقوي جبل بالمدينة على أقل من فرسخ منها لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلان وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرا ( قال رسول الله من يأتيني بخبر سعد بن الربيع ) بن عمرو النجاري أحد نقباء الأنصار شهد بدرا وآخى النبي بينه وبين عبد الرحمن بن عوف فقال إني أكثر الأنصار مالا فأمسك مالي ولي زوجتان فأيتهما أحببت أطلقها ثم تتزوجها قال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك ( الأنصاري ) أفي الأحياء هو أم في الأموات فإني رأيت اثني عشر رمحا شرعى إليه كما عند ابن
____________________
(3/58)
إسحاق
( فقال رجل أنا يا رسول الله ) آتيك بخبره ( فذهب الرجل ) هو أبي بن كعب قاله ابن عبد البر وابن الأثير واليعمري وقال الواقدي هو محمد بن مسلمة
وروى الحاكم عن زيد بن ثابت قال بعثني النبي يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي إن رأيته فأقره مني السلام وقل له يقول لك رسول الله كيف تجدك فلعله بعث الثلاثة متعاقبين أو دفعة واحدة ( يطوف ) يمشي ( بين القتلى ) زاد الواقدي فنادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال إن رسول الله أرسلني إليك فأجابه بصوت ضعيف ( فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال الرجل بعثني إليك رسول الله لآتيه بخبرك ) وعند ابن إسحاق أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ( قال ) أنا في الأموات ( فاذهب إليه فاقرئه مني السلام ) وزاد الواقدي وقل جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وقل له إني لأجد ريح الجنة ( وأخبره أني قد طعنت اثنتي ) ولابن وضاح ثنتي ( عشرة طعنة ) بعدد الرماح التي رآها شرعى إليه
وفي حديث زيد بن ثابت فوجده جريحا في القتلى وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم ولا تنافي كما هو ظاهر ( و ) أخبره ( أني قد أنفذت مقاتلي ) فأنا في الأموات ( وأخبر قومك ) وعند الواقدي وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم ( إنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله وواحد منهم حي ) زاد ابن إسحاق ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله فأخبرته خبره قال ابن عبد البر هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندا وهو محفوظ عند أهل السير وقد ذكره ابن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة المازني قال الحافظ وفي الصحيح من حديث أنس ما يشهد لبعضه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله الشيخان من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ومسلم من حديث أنس ( أن رسول الله رغب في الجهاد ) يوم بدر فقال والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة كما عند ابن إسحاق ( وذكر الجنة ) روى مسلم عن أنس أن رسول الله قال يوم بدر قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض فقال عمير بن الحمام يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال نعم قال بخ بخ فقال ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة
____________________
(3/59)
طويلة فرمى بالتمرة ثم قاتل حتى قتل ( ورجل من الأنصار ) هو عمير بضم العين ابن الحمام بضم المهملة وخفة الميم الخزرجي ( يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ) أي من أكل التمرات ( فرمى ما في يده ) من التمر وقال فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ( فحمل بسيفه فقاتل ) القوم ( حتى قتل ) زاد ابن إسحاق وهو يقول ركضنا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد 77 غير التقى والبر والرشاد وقتله خالد بن الأعلم العقبلي
قال موسى بن عقبة وهو أول قتيل قتل يومئذ
وقال ابن إسحاق أولهم مهجع
وقال ابن سعد أولهم حارثة بن سراقة وعدة شهداء بدر أربعة عشر رجلا ستة مهاجرين وثمانية أنصار بينتهم في شرح المواهب
( مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال ) موقوفا وقد رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم وحسنه ابن عبد البر من طريق خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ عن النبي قال ( الغزو غزوان ) غزو على ما ينبغي وغزو على ما لا ينبغي فاختصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة وعد أصنافها وشرح حالهم وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين وشرح حال كل واحد منهم مفصلا قاله البيضاوي
( فغزو تنفق فيه الكريمة ) قال الباجي أي كرائم المال وخياره وقال غيره أي الناقة العزيزة عليه المختارة عنده وقال البوني أي الذهب والفضة سميت كريمة لأنها كرم عن السؤال وغيره وقال ابن عبد البر أي ما يكرم عليك من المال مما يقيك به الله شح نفسك ولقد أحسن القائل وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين ( ويياشر ) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ) أي يؤخذ باليسر والسهولة مع الرفيق نفعا بالمعونة وكفاية للمؤنة وقال الباجي يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ومتابعته عليه وقلة مشاحته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل ( ويطاع فيه ذو الأمر ) بأن يفعل ما أمر به إذا لم يكن معصية إذ لا طاعة فيها إنما الطاعة في المعروف
( ويجتنب فيه الفساد ) بأن لا يتجاوز المشروع في نحو نهب وقتل وتخريب ( فذلك الغزو خير كله ) أي ذو خير وثواب والمراد أن من هذا شأنه فجميع حالاته من حركة وسكون ونوم ويقظة جالبة للخير والثواب أي أن كلا من ذلك له أجر ولفظ المرفوع المشار إليه فأما من غزا ابتغاء
____________________
(3/60)
وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه أجر كله
( وغزو لا ينفق فيه الكريمة ولا يياسر ) بضم الياء الأولى ( فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر ) الإمام أو نائبه ( ولا يجتنب ) بالبناء للمفعول في الأربعة ( فيه الفساد فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا ) من كفاف الشيء وهو خياره أو من الرزق أي لا يرجع بخير أو بثواب يغنيه أو لا يعود رأسا برأس بحيث لا أجر ولا وزر بل عليه الوزر العظيم ولفظ المرفوع وأما من غزا فخرا ورياء وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف
18 ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو رح 103( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال الخيل في نواصيها ) جمع ناصية الشعر المسترسل على الجبهة ويحتمل أنه كنى بالنواصي عن جميع الفرس كما يقال فلان مبارك الناصية قاله الخطابي وغيره واستبعده الحافظ بحديث الصحيحين عن أنس مرفوعا البركة في نواصي الخيل وللإسماعيلي البركة تنزل في نواصي الخيل قال ويحتمل أنه خص الناصية لكونها المقدم منها إشارة إلى الفضل في الإقدام بها على العدو دون المؤخر لأن فيه إشارة إلى الإدبار
وقد روى مسلم عن جرير رأيت رسول الله يلوي ناصية فرسه بأصبعه ويقول الخيل معقود في نواصيها
( الخير إلى يوم القيامة ) أي إلى قربه أعلم به أن الجهاد قائم إلى ذلك الوقت زاد الشيخان عن عروة البارقي مرفوعا الأجر والمغنم برفعهما بدل من الخير أو بتقدير هو الأجر
وفي رواية لمسلم قالوا بم ذاك يا رسول الله قال الأجر والمغنم وبه يعلم أنه عام أريد به الخصوص أي الخيل المتخذة للغزو بأن يقاتل عليها أو تربط للغزو ويدل له أيضا الخيل لثلاثة الحديث السابق
ويحتمل أن المراد جنس الخيل أي أنها بصدد أن يكون فيها الخير فأما من ارتبطها لعمل غير صالح فالوزر لطريان ذلك الأمر العارض
ووقع عند الإسماعيلي من رواية عبد الله بن نافع عن مالك بلفظ الخير معقود وليس في الموطأ ولا في الصحيحين من طريقه نعم لفظ معقود فيهما من حديث عروة البارقي وجرير في مسلم وأحمد وأبي هريرة في الطبراني وأبي يعلى وجابر عن أحمد ومعناه ملازم لها كأنه معقود فيها
قال الطيبي
____________________
(3/61)
ويجوز أن الخير المفسر بالأجر والمغنم استعارة مكنية لأن الخير ليس بشيء محسوس حتى يعقد على الناصية لكن شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود يجعل على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به وذكر الناصية تجريد للاستعارة
والحاصل أنهم يدخلون المعقول في جنس المحسوس ويحكمون عليه بما يحكم على المحسوس مبالغة في اللزوم
وقال عياض في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير
قال الخطابي وفيه إشارة إلى أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها والعرب تسمي المال خيرا
وقال ابن عبد البر فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب لأنه لم يأت عنه في شيء غيرها مثل هذا القول
وفي النسائي عن أنس لم يكن شيء أحب إلى رسول الله بعد النساء من الخيل
وقال عياض إذا كان في نواصيها الخير فيبعد أن يكون فيها شؤم فيحتمل أن حديث إنما الشؤم في ثلاث الفرس والمرأة والدار في غير خيل الجهاد وأن المعدة له هي المخصوصة بالخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولا يمنع ذلك أن يكون تلك الفرس يتشاءم بها ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد بسط لذلك في كتاب الجامع حيث ذكر الإمام الحديث الثاني ثمة وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله سابق ) أجرى بنفسه أو أمر أو أباح ( بين الخيل التي قد أضمرت ) بضم الهمزة مبنيا للمفعول بأن علفت حتى سمنت وقويت ثم قلل علفها بقدر القوت وأدخلت بيتا وغشيت بالجلال حتى حميت وعرقت فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجري ( من الحفياء ) بفتح المهملة وسكون الفاء فتحتية ومد مكان خارج المدينة ويجوز القصر وحكى الحازمي تقديم التحتية على الفاء وحكى ضم أوله وخطأه عياض وغيره
( وكان أمدها ) بفتح الهمزة والميم أي غايتها ( ثنية الوداع ) بالمثلثة وفتح الواو سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها قال سفيان بين الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة وقال موسى بن عقبة بينهما ستة أميال أو سبعة رواهما البخاري قال الحافظ وهو اختلاف قريب وسفيان هو الثوري
( وسابق بين الخيل التي لم تضمر ) بضم التاء وفتح الضاد المعجمة والميم الثقيلة وفي رواية بسكون الضاد وخفة الميم ( من الثنية ) المذكورة ( إلى مسجد بني زريق ) بضم الزاي ثم راء مفتوحة وسكون التحتية فقاف ابن عامر قبيلة من الأنصار وإضافة مسجد إليهم إضافة
____________________
(3/62)
تمييز لا ملك قال سفيان وبينهما ميل وقال ابن عقبة ميل أو نحوه
( وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها ) أي بالخيل أو بهذه المسابقة وهذا من قول ابن عمر عن نفسه كما تقول عن نفسك العبد فعل كذا
وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع قال ابن عمر وكنت فيمن أجري
وعند الإسماعيلي قال ابن عمر وكنت فيمن أجري فوثب بي فرس جدارا
ولمسلم من رواية أيوب عن نافع فسبقت الناس فطفف بي الفرس مسجد بني زريق أي جاوز بي المسجد الذي هو الغاية وأصل التطفيف مجاوزة الحد وفيه مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك
قال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب مجانا وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب وفيه جواز إضمار الخيل ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المعدة للغزو ومشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة ونسبة الفعل إلى الآمر به لأن قوله سابق أي أمر أو أباح أي شامل لذلك وجواز إضافة المسجد إلى مخصوصين وعليه الجمهور خلافا للنخعي لقوله تعالى { وأن المساجد لله } الجن 18 ويرد عليه حديث الباب وجواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيبا لها في غير الحاجة كالإجاعة والإجراء وتنزيل الخلق منازلهم لأنه غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر ولو خلطهما لأتعب ما لم تضمر
وأخرجه البخاري في الصلاة عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى التميمي كلاهما عن مالك به وتابعه عبيد الله والليث وموسى بن عقبة وأيوب كلهم عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول ليس برهان الخيل بأس ) وإن لم يقع في حديث ابن عمر المذكور عند مالك والأئمة الستة لأنه جاء في بعض طرقه عند أحمد من رواية عبد الله بفتح العين عن نافع عن ابن عمر أن النبي سابق بين الخيل وراهن وقد اتفقوا على جواز المسابقة بعوض بشرط كونه من غير المتسابقين كما قال ( إذا دخل فيها محلل فإن سبق ) بالبناء للفاعل ( أخذ السبق ) بفتحتين أي الرهن الذي يوضع لذلك ( وإن سبق لم يكن عليه شيء ) بشرط أن لا يخرج المحلل من عنده شيئا ليخرج العقد من صورة القمار وهو أن يخرج كل منهما سبقا فمن غلب أخذه فهذا ممنوع اتفاقا وأجمعوا على جواز المسابقة بلا عوض لكن قصرها مالك والشافعي على
____________________
(3/63)
الخف والحافر والنصل لحديث لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر رواه الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه عن أبي هريرة وخصه بعض العلماء بالخيل وأجازه عطاء في كل شيء
( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله ابن عبد البر من طريق عبيد الله بن عمرو الفهري عن مالك عن يحيى عن أنس ( أن رسول الله ريء ) بكسر الراء وهمز مبني للمجهول ( يمسح وجه فرسه بردائه فسئل عن ذلك فقال إني عوتبت الليلة في الخيل ) ووصله أبو عبيدة في كتاب الخيل له من طريق يحيى بن سعيد عن شيخ من الأنصار وقال في إذالة الخيل
وله من مرسل عبد الله بن دينار وقال إن جبريل بات الليلة يعاتبني في إذالة الخيل أي امتهانها
قال البوني يحتمل أن ذلك وحي في المنام ويحتمل في اليقظة انتهى والظاهر الثاني
( مالك عن حميد الطويل ) الخزاعي البصري ( عن أنس بن مالك ) وللبخاري عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد قال سمعت أنسا يقول ( أن رسول الله حين خرج إلى خيبر ) بوزن جعفر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام قال أبو عبيد البكري سميت باسم رجل من العماليق نزلها قال ابن إسحاق خرج إليها النبي في بقية المحرم سنة سبع فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها في صفر ( أتاها ليلا ) لا تخالفه رواية الصحيح عن محمد ابن سيرين عن أنس صبحنا خيبر بكرة لحمله على أنهم قدموها ليلا وباتوا دونها ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال والإغارة ويشير إلى هذا قوله ( وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر ) بضم الياء وكسر الغين المعجمة من أغار وفي لفظ لا يغير عليهم وفي رواية التنيسي لم يغر بهم بكسر الغين أيضا من الإغارة ولبعض الرواة لم يقربهم بفتح الياء وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة وصحح الأول ( حتى يصبح ) أي يطلع الفجر
وللبخاري عن إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس كان إذا غزا قوما لم يغر بنا حتى يصبح وينظر فإذا سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب ( فخرجت يهود ) وفي رواية القعنبي وللتنيسي فلما أصبح خرجت يهود زاد أحمد عن قتادة عن أنس إلى زروعهم
وذكر الواقدي أنهم سمعوا بقصد النبي لهم وكانوا يخرجون كل يوم مسلحين مستعدين فلا يرون أحدا حتى إذا كانت الليلة التي قدم فيها المسلمون ناموا فلم تتحرك لهم دابة ولم يصح لهم ديك فخرجوا ( بمساحيهم ) بمهملتين مخففا جمع مسحاة كالمجارف إلا أنها من حديد طالبين زروعهم ( ومكاتلهم ) بفوقية جمع
____________________
(3/64)
مكتل بكسر الميم القفة الكبيرة يحول فيها التراب وغيره ( فلما رأوه قالوا ) هذا ( محمد ) أو جاء محمد ( والله ) قسم ( محمد والخميس ) أي الجيش كما فسر به البخاري سمي خميسا لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة وقلب وجناحان وضبطه عياض وغيره بالرفع عطف على محمد والنصب مفعول معه ( فقال رسول الله الله أكبر ) كبر حين أنجز له وعده زاد في رواية للبخاري ثلاثا وفي أخرى فرفع يديه وقال الله أكبر ( خربت خيبر ) أي صارت خرابا قال القاضي عياض قيل تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب من المساحي وغيرها وقيل أخذه من اسمها والأصح أنه أعلمه الله بذلك
وقال السهيلي يؤخذ منه التفاؤل لأنه لما رأى آلة الهدم مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت أخذ منه أن مدينتهم ستخرب قال الحافظ ويحتمل أنه قاله بطريق الوحي ويؤيده قوله ( إنا إذا نزلنا بساحة قوم ) بفنائهم وقريتهم وحصونهم وأصل الساحة الفضاء بين المنازل ( فساء صباح المنذرين ) أي بئس الصباح صباح من أنذر بالعذاب وفيه جواز التمثيل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس قاله ابن عبد البر وابن رشيق والنووي ولا أعلم خلافا في جوازه في النثر في غير المجوز والخلاعة وهزل الفساق له شربه الخمر واللاطة وألف في جواز ذلك قديما أبو عبيد القاسم بن سلام كتابا جمع فيه ما وقع للصحابة والتابعين من ذلك بالأسانيد المتصلة إليهم ومن المتأخرين الشيخ داود الشاذلي الباجلي كراسة قال فيها لا خلاف بين الشافعية والمالكية في جوازه ونقله عن عياض والباقلاني وقال كفى بهما حجة غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة
وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله وهذه أكبر حجة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه والعمدة في نفي الخلاف على الشيخ داود فهو أعرف بمذهبه وأما مذهب الشافعي فأئمته مجمعون على الجواز والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم فمن نسب تحريمه لمذهب الشافعي فقد فشر وأبان عن أنه أجهل الجاهلين قاله السيوطي ملخصا وهو يقضي عليه بالوهم في قوله في عقود الجمان قلت وأما حكمه في الشرع فمالك مشدد في المنع وليس فيه عندنا صراحة لكن يحيى النووي أباحه في الوعظ نثرا دون نظم مطلقا والشرف المقري فيه حققا جوازه في الزهد والوعظ وفي مدح النبي ولو ينظم فاقتفى وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه وقد قال تعالى { إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } الأنفال 45
____________________
(3/65)
وأخرجه البخاري هنا عن القعنبي وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر وأبو إسحاق الفزاري في البخاري وغيره وله طرق في الصحيحين وغيرهما بزيادات
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال من أنفق زوجين ) أي شيئين من نوع واحد من أنواع المال وقد جاء مفسرا مرفوعا بعيرين شاتين حمارين درهمين وزاد إسماعيل القاضي عن أبي مصعب عن مالك من ماله ( في سبيل الله ) أي في طلب ثواب الله وهو أعم من الجهاد وغيره من العبادات وقال التوربشتي يحتمل أن يريد به تكرير الإنفاق مرة بعد أخرى قال الطيبي وهذا هو الوجه إذا حملت التثنية على التكرير لأن القصد من الإنفاق التثبت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال والمواظبة على ذلك كما قال تعالى { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم } الأنفال 45 أي ليثبتوا ببذل المال الذي هو شقيق الروح وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقة ( نودي في ) أي عند دخول ( الجنة ) وفي رواية معن نودي من أبواب الجنة ( يا عبد الله هذا خير ) أي فاضل لا بمعنى أفضل وإن أوهمه اللفظ ففائدته رغبة السامع في طلب الدخول من ذلك الباب
وبين البخاري من وجه آخر عن أبي هريرة بيان الداعي ولفظه دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي خزنة كل باب أي قل هلم بضم اللام لغة في فلان وبه ثبتت الرواية وقيل ترخيمه فاللام مفتوحة قاله الحافظ وقال الباجي يحتمل أن يريد هذا خير أعده الله لك فأقبل إليه من هذا الباب أو هذا خير أبواب الجنة لأن فيه الخير والثواب الذي أعد لك ( فمن كان من أهل الصلاة ) أي من كانت أغلب أعماله وأكثرها ( دعي من باب الصلاة ) قال الحافظ ومعنى الحديث أن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل وقد جاء ذلك صريحا من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح
( ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ) محل الشاهد من الحديث ( ومن كان من أهل الصدقة ) المكثرين منها ( دعي من باب الصدقة ) وليس هذا بتكرار مع قوله في صدر الحديث من أنفق زوجين لأن الإنفاق ولو قل خير من الخيرات العظيمة وذلك حاصل من كل أبواب الجنة وهذا استدعاء خاص
( ومن كان من أهل الصيام ) المكثرين منه ( دعي من باب الريان )
____________________
(3/66)
مشتق من الري فخص بذلك لما في الصوم من الصبر على ألم العطش والطمأنينة في الهواجر قاله الباجي وقال الحربي إن كان الريان علما للباب فلا كلام وإن كان صفة فهو من الرواة الذي يروي والمعنى أن الصائم لتعطيشه نفسه في الدنيا يدخل من باب الريان ليأمن من العطش ثوابا له على ذلك وفي التعبير بالريان إيماء إلى زيادة أمر الصوم ومبادرة القبول له واحتمال أنه يدعى إليه كل من روي من حوضه رده عياض بأنه لا يختص الحوض بالصائمين والباب مختص بهم قال وعلى أنه اسم للباب فسمي بذلك لاختصاص الداخلين فيه بالري قال الحافظ فذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة وهي ثمانية وبقي الحج فله باب بلا شك والثلاثة باب الكاظمين الغيظ العافين عن الناس رواه أحمد عن الحسن مرسلا إن لله بابا في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب والثامن لعله باب الذكر ففي الترمذي ما يومي إليه ويحتمل أنه باب العلم ويحتمل أن المراد بالأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الأصلية لأن الأعمال الصالحة أكثر عددا من ثمانية انتهى
ولا يرد عليه أن الذين لا حساب عليهم يتسورون كما ورد لاحتمال أن هذا الباب من أسفل الجنة التي يتسورون منها فأطلق عليه أنهم دخلوا منها مجازا أو أنه معد لهم تكريما وإن لم يدخلوا منه وتبع في عد الباب الأيمن عياضا وقد تعقبه أبو عبد الله الأبي بأن المراد بالأيمن ما عن يمين الداخل وذلك يختلف بحسب الداخلين وإنما يكون بابا إذا كان اسما وعلما على باب معين
( فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله ) زاد معن بأبي أنت وأمي ( ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة ) قال المظهري ما نافية ومن زائدة أي ليس ضرورة على من دعي منها إذ لو دعي من واحد لحصل مراده وهو دخول الجنة مع أنه لا ضرورة عليه أن يدعى من جميعها بل هو تكريم وإعزاز
وقال ابن المنير وغيره يريد من أحد تلك الأبواب خاصة دون غيره من الأبواب فأطلق الجميع وأراد الواحد
وقال ابن بطال يريد أن من لم يكن إلا من أهل خصلة واحدة من هذه الخصال ودعي من بابها لا ضرر عليه لأن الغاية المطلوبة دخول الجنة
وقال الطيبي لما خص كل باب بمن أكثر نوعا من العبادة وسمع ذلك الصديق رغب في أن يدعى من كل باب وقال ليس على من دعي منها ضرر بل شرف وإكرام فسأل فقال ( فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ) ويختص بهذه الكرامة ( قال نعم ) يقال له عند كل باب إن لك هنا خير أعده الله لك لعبادتك المختصة بالدخول من هذا الباب قاله الباجي
وقال الحافظ وغيره يدعى منها كلها على سبيل التخيير في الدخول من أيها شاء إكراما له لاستحالة الدخول من الكل معا فإنما يدخل من واحد ولعله العمل الذي يكون أغلب عليه ولا ينافيه ما في مسلم عن عمر مرفوعا من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث وفيه فتحت
____________________
(3/67)
له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء لأنها تفتح له تكريما وإنما يدخل من باب العمل الغالب عليه
( وأرجو أن تكون منهم ) قال العلماء الرجاء من الله ومن نبيه واقع وبه صرح في حديث ابن عباس عند ابن حبان ولفظه فقال أجل وأنت هو يا أبا بكر وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وإشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواعها ثم الإنفاق في الصدقة والجهاد والعلم والحج ظاهر أما في غيرها فمشكل فيمكن أن المراد بالإنفاق في الصلاة فيما يتعلق بوسائلها من تحصيل آلاتها من طهارة وتطهير ثوب وبدن ومكان
وفي الصيام بما يقويه على فعله وخلوص القصد فيه والإنفاق في العفو عن الناس بترك ما يجب له من حق وفي التوكل ما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المصيبة أو ينفق على من أصابه مثل ذلك طلبا للثواب والإنفاق في الذكر على نحو ذلك
وقيل المراد بالإنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس والبدن فيهما فالعرب تسمي ما يبذله المرء من نفسه صدقة كما يقال أنفقت في طلب العلم عمري وبذلت فيه نفسي وهذا معنى حسن وأبعد من قال المراد بالزوجين النفس والمال لأن المال في الصلاة والصيام ونحوهما ليس بظاهر إلا بالتأويل المتقدم وكذا من قال النفقة في الصيام تقع بتفطير الصائم والإنفاق عليه لأن ذلك يرجع إلى باب الصدقة
وفي الحديث أن من أكثر من شيء عرف به وأن أعمال البر قل أن تجتمع كلها لشخص واحد على السواء وأن الملائكة تحب صالحي بني آدم وتفرح بهم وأن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل وأن تمني الخير في الدنيا والآخرة مطلوب
وأخرجه البخاري في الصيام من طريق معن عن مالك به وتابعه شعيب في البخاري ويونس وصالح بن كيسان ومعمر في مسلم الأربعة عن ابن شهاب
19 إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه مصدر أحرز كذا ما جعله في المكان الذي يحفظ فيه استعير هنا لملكه الأرض بالإسلام كان إسلامه مكان حرزها وحفظها له
( سئل مالك عن إمام قبل الجزية من قوم فكانوا يعطونها ) أي الجزية ( أرأيت ) أي أخبرني ( من أسلم منهم أتكون له أرضه أو تكون للمسلمين ويكون لهم ماله فقال مالك ذلك يختلف أما أهل الصلح فإن من أسلم منهم فهو أحق بأرضه وماله ) دون المسلمين
( وأما أهل
____________________
(3/68)
العنوة الذين أخذوا عنوة ) أي بالقهر والغلبة ( من أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين لأن أهل العنوة قد غلبوا ) بضم الغين مبني للمجهول ( وصارت فيئا للمسلمين ) قال تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } الأحزاب 27 وأما أهل الصلح فإنهم قد منعوا أموالهم وأنفسهم من القتال واستمر ( حتى صالحوا عليها فليس عليهم إلا ما صالحوا عليه ) فلهم أرضهم إذا أسلموا ومالهم وأعاد هذا لأجل تعليله للحكم الذي قدمه
20 الدفن في قبر واحد من ضرورة وإنفاذ أبي بكر رضي الله عنه عدة بكسر العين وفتح الدال مصدر وعد وعدا وعدة في الخير ( النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )
( مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) بصادين مفتوحتين بعد كل عين مهملات الأنصاري المازني ( أنه بلغه ) قال أبو عمر لم تختلف الرواة في قطعه ويتصل معناه من وجوه صحاح ( أن عمرو ) بفتح العين ( ابن الجموح ) بفتح الجيم وخفة الميم وإسكان الواو ومهملة ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري من سادات الأنصارى وبني سلمة وأشرافهم
روى البخاري في الأدب المفرد والسراج وأبو الشيخ وأبو نعيم عن جابر قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدكم يا بني سلمة قالوا الجد بن قيس على أن نبخله فقال بيده هكذا ومد يده وأي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح قال وكان عمرو يولم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج
( وعبد الله بن عمرو ) بفتح العين ابن حرام بن ثعلبة الخزرجي العقبي البدري والد جابر الصحابي المشهور
أخرج أبو يعلى
وابن السكن عن جابر رفعه جزى الله الأنصار عنا خيرا لا سيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة ورواه النسائي بلفظ لا سيما آل ابن حرام وعمرو ( الأنصاريين المسلميين ) بفتح السين واللام نسبة إلى بني سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار الخزرج ( كانا قد حفر السيل قبرهما ) ولابن وضاح عن قبرهما على تضمين حفر معنى كشف وإلا فحفر يتعدى بنفسه ( وكان
____________________
(3/69)
قبرهما مما يلي السيل وكانا في قبر واحد ) روى ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من بني سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عبد الله ابن عمرو وعمرو بن الجموح اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين في الدنيا وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال أتى عمرو بن الجموح النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل تراني أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة قال نعم وكانت عرجاء فقتل يوم أحد هو وابن أخيه فمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقال إني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة وأمر صلى الله عليه وسلم بهما ومولاهما فجعلوا في قبر واحد وأخرجه أحمد بإسناد حسن
قال ابن عبد البر ليس هو ابن أخيه وإنما هو ابن عمه قال الحافظ وهو كما قال فلعله كان أسن منه قال وابن الجموح كان صديق عبد الله وزوج أخته هند بنت عمرو ( وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما ) أي لينقلا منه لمكان غيره لأجل السيل ( فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس ) لأن الأرض لا تأكل جسم الشهيد ( وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت ) نحيت ( يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت ) { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } سورة البقرة الآية 154 وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة وفي الصحيح عن جابر كان أبي أول قتيل قتل ودفن معه آخر في قبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته فجعلته في قبر على حدة وهذا يخالف في الظاهر حديث الموطأ وجمع ابن عبد البر بتعدد القصة ونظر فيه الحافظ بأن الذي فيه حديث جابر أنه دفن أباه في قبر وحده بعد ستة أشهر وحديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة فأما أن المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة أو أن السيل جرف أحد القبرين حتى صارا واحدا
وقد ذكر ابن إسحاق القصة في المغازي فقال حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قالوا لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما يعني عمرا وعبد الله وعليهما بردتان قد غطى بهما وجوههما وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض فأخرجناهما كأنهما دفنا بالأمس وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد عن جابر
( قال مالك لا بأس بأن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد من ضرورة ) لا لغيرها لما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن هشام بن عامر الأنصاري قال جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قالوا أصابنا قرح وجهد قال احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في
____________________
(3/70)
القبر ( ويجعل الأكبر ) في الفضل وإن كان أصغر سنا ( مما يلي القبلة ) لما في الصحيح عن جابر كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) المدني أحد الأعلام يعرف بربيعة الرأي ( أنه قال ) منقطع قال أبو عمرو باتفاق رواة الموطأ يتصل من وجوه صحاح عن جابر قال ( قدم على أبي بكر الصديق ) في خلافته ( مال من البحرين ) بلفظ تثنية نحو بلد معروف من مال الجزية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم عليها وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وبعث أبا عبيدة يأتي بجزيتها كما في البخاري من حديث عمرو بن عوف فأغنى ذلك عن قول ابن بطال يحتمل أن يكون المال من الخمس أو من الفيء
( فقال ) على لسان المنادى ( من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ) بفتح الواو وإسكان الهمزة مصدر وأي بزنة وعي وعد وضمان ( أو عدة ) بكسر العين وخفة الدال المهملتين أي وعد وكأن الراوي شك في اللفظ وإن اتحد المعنى وفي البخاري دين أو عدة ( فليأتني ) أف له به ( فجاءه جابر بن عبد الله فحفن له ثلاث حفنات ) جمع حفنة وهي ما يملأ الكفين والمراد أنه حفن له حفنة وقال عدها فوجدها خمسمائة فقال له خذ مثليها
ففي البخاري عن جابر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا أي ثلاثا فلما قبض صلى الله عليه وسلم وجاء مال البحرين أمر أبو بكر مناديا فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دين أو عدة فليأتنا فأتيته فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا فحثى لي ثلاثا وفي رواية له فحثى حثية وقال عدها فوجدتها خمسمائة قال فخذ مثلها مرتين
وفي أخرى له أيضا فقال احث فحثوت حثية فقال لي عدها فعددتها فإذا هي خمسمائة فأعطاني ألفا وخمسمائة والمراد بالحثية الحفنة على ما قال الهروي أنهما بمعنى وإن المعروف لغة أن الحثية ملء كف واحد قال الإسماعيلي لما كان وعده صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخلف نزلوا وعده منزلة الضمان في الصحة فرقا بينه وبين غيره ممن يجوز أن يفي وأن لا يفي وأشار غير واحد إلى أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقال ابن بطال وابن عبد البر لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأل جابر البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئا في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ادعى شيئا في بيت المال الموكول أمره إلى اجتهاد الإمام فوفاه له أبو بكر
هذا وفي رواية للبخاري أيضا عن جابر فأتيت أبا بكر فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فقلت سألتك فلم تعطني فإما أن
____________________
(3/71)
تعطني وإما أن تبخل علي قال قلت تبخل علي وأي داء أدوأ من البخل ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك وإنما أخر أبو بكر إعطاء جابر حتى قال له ذلك إما لأمر أهم منه أو خشية أن يحمله ذلك على الحرص على الطلب أو لئلا يكثر الطالبون لمثل ذلك ولم يرد به المنع على الإطلاق ولذا قال له ما منعتك من مرة الخ
وهذا المال الآتي في زمن الصديق غير المال الآتي من البحرين زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ففي الصحيح عن عمرو بن عوف الأنصاري البدري أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة من البحرين بمال فسمعت الأنصار بقدومه فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما صلى بهم انصرف فتعرضوا له فتبسم حين رآهم وقال أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء قالوا
____________________
(3/72)