مهمات شرح أحاديث الإمامة في الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
القرآن لم يُوكَل حفظه إلى أحد من البشر بل تكفل الله بحفظه, وأما الكتب السماوية الأخرى فقد استُحفِظ أهلها عليها فلم يحفظوها بل ضيعوها وحرفوها.
على المسلم أن يلبس لباس المسلمين ولا يجوز له تقليد الكفرة, وأهل العلم يقررون أن اللباس عرفي باستثناء ما جاءت النصوص بمنعه, فإذا تعارف الناس في بلد من البلدان على لباس معين فللمسلم أن يلبسه, والكفار في بلادهم يلبسون غالباً البنطال, لكن لو كان البنطال لا يلبسه إلا الكفار فإنه يكون حينئذٍ من لباس الكفار, لكن مع الأسف الشديد أن المسلمين قلدوا الكفار في كثير من أقطار المسلمين فصار هذا هو لباسهم, فالذي يلبس البنطال مثلاً في مصر أو في الشام أو في الهند أو في غيرها من البلدان التي يكثر فيها المسلمون لا يقال إنه يقلد الكفار في هذا - لكن أول ما لُبِسَ البنطال في ديار المسلمين كان تقليداً للكفار وتشبهاً محرماً - ثم يبقى بعد ذلك النظر في البنطال فإذا كان يبين العورة أو ينحسر عنها أو ينزل عن حد الكعب أو غير ذلك من الأمور الممنوعة فإنه حينئذٍ يُمنَع من أجلها, وعلى كل حال اللباس عرفي, وإن اعتز المسلم بدينه في بلاد الكفار وقال (إنني من المسلمين) ولبس لباس المسلمين - ولو عد نشازاً بين الكفار - فهذه عزيمة يثاب عليها إن شاء الله تعالى, لكن إذا كان يواجه مضايقات وكان نظره وتقليده للمسلمين - لأن هذه الألبسة يلبسها المسلمون في ديار الإسلام - فلا شيء عليه إن شاء الله تعالى.
يمنع الصغير من الصلاة بالسروال القصير المرتفع عن حد الركبة, لأن تمرين الصغير بالصلاة ينبغي أن يشمل التمرين على شروطها وأركانها.
حديث أبي هريرة (إنما جعل الإمام ليؤتم به – الحديث - ): أصله في الصحيحين.(1/1)
مقتضى عموم قوله (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) أن يقتدى بالإمام في جميع أفعال الصلاة وأقوالها وحتى في النية, لكن جاء ما يخرج بعض الصور من هذا العموم, فحديث معاذ أخرج النية في صلاة المفترض خلف المتنفل, وأيضاً صلاته عليه الصلاة والسلام وهو مسافر يقصر الصلاة والناس خلفه يتمون أخرج صورة من صور النية وصورة من صور تطابق الأفعال, وتجب موافقة المأموم للإمام فيما عدا هذه الصور.
ما طلبه الشارع من المصلي يأتي به المأموم ولو خالف الإمام سواءً كان ترك الإمام لما طلبه الشارع عن اجتهادٍ منه أو تفريط. فلا يتابع الإمام في ترك السنن: لو كان الإمام لا يرفع يديه في المواضع التي ثبت فيها مشروعية الرفع فإن الرفع أمر مشروع لا يترك من أجل مخالفة الإمام, بل هو أمر مشروع ثابت في حق الإمام والمأموم, إن أحسن الإمام وأتى به فله وإن أساء فعليه. ومثل هذا في الجلسة التي يسميها الفقهاء جلسة الاستراحة: إن كان الإمام يرى أنها لا تشرع إلا عند الحاجة فتركها لأنها ليست مطلوبة من كل مصل وكان المأموم يرى مشروعيتها لكل مصل, فللمأموم أن يجلس وليس في ذلك مخالفة للإمام.
قوله (إذا كبر فكبروا): يعني إذا فرغ من التكبير كبروا, ومفهومه أكده منطوق قوله (ولا تكبروا حتى يكبر).
قوله (إذا ركع فاركعوا): يعني إذا شرع في الركوع اركعوا, ومفهومه أكده منطوق قوله (ولا تركعوا حتى يركع).(1/2)
قوله (إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد): العطف بالفاء يقتضي أنه لا فاصل بين فراغ الإمام من قوله (سمع الله لمن حمده) وبين قول المأموم (اللهم ربنا لك الحمد), فالذي يقول (سمع الله لمن حمده) في الحديث هو الإمام والذي يقول (اللهم ربنا لك الحمد) هو المأموم, وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام يجمع بينهما, ولذا يرى الشافعية أنه يجمع بينهما كل مصل الإمام والمأموم والمنفرد, والحنفية يقولون إن الإمام يقول (سمع الله لمن حمده) ولا يقول (اللهم ربنا لك الحمد) والمأموم يقول (ربنا ولك الحمد) ولا يقول (سمع الله لمن حمده), والحنابلة يقولون إن الإمام يجمع بينهما لأنه ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام والمأموم يقتصر على قوله (ربنا ولك الحمد) لأن العطف بالفاء يقتضي أنه لا فاصل بين فراغ الإمام من قول (سمع الله لمن حمده) وبين قول المأموم (ربنا ولك الحمد).
فالجمع بين الجملتين خاص بالإمام وإن كان ثابتاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو الأسوة والقدوة, لكن النبي عليه الصلاة والسلام غالب أحواله الإمامة فعمله محمول على الإمامة.
أفعال النبي عليه الصلاة والسلام منها ما يحمل على عموم الأحوال فيشمل جميع المسلمين وهذا هو الأصل في الاقتداء, ومنها ما لا يمكن حمله على جميع الأحوال لمعارضٍ راجح, ومثال ذلك: النبي عليه الصلاة والسلام يأتي إلى صلاة الجمعة عند الخطبة ويرقى المنبر, فلا يقال إن كل مصلٍّ يقتدي به في ذلك بحيث لا يأتي إلا مع دخول الخطيب, لأن المصلين من عدا الأئمة جاء فيهم ما يخصهم من النصوص في الحث على التبكير إلى صلاة الجمعة, بل عمله هنا عليه الصلاة والسلام محمول على الأئمة, لأنه بوصفه إمام عليه الصلاة والسلام له مثل هذا الفعل فيقتدي به الأئمة في ذلك, ولذا لا يشرع للإمام أن يبكر لصلاة الجمعة اقتداءً به عليه الصلاة والسلام في هذا الوصف الذي هو الإمامة.(1/3)
قوله (وإذا سجد فاسجدوا): يعني إذا شرع في السجود اسجدوا, ومفهومه أكده منطوق قوله (ولا تسجدوا حتى يسجد).
قوله (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً): هذه الجملة ليست في الصحيح, لأنه قد يقول قائل إنه لا حاجة إلى ذكرها لأن الصلاة من قيام هي الأصل, لأنه لا يتصور أن يصلي المأمومون جلوساً والإمام قائماً مع معرفة ما جاء في حديث عمران بن حصين وغيره من الأحاديث الدالة على أن القيام ركن من أركان الصلاة, فهذا لا يحتاج إلى ذكر ولذا لا يوجد في الصحيحين.
قوله (وإذا صلى قاعداً – أي لعذر – فصلوا قعوداً أجمعين) وفي كثير من الروايات (أجمعون): القيام مع القدرة في الفريضة ركن من أركانها, وفي النافلة إن صلى قاعداً فالصلاة صحيحة وله نصف الأجر.(1/4)
الحديث يدل على أنه إن صلى الإمام في الفريضة قاعداً لعذر - لأنه في الفريضة لا بد من عذر لأن القيام ركن – فإن على المأمومين متابعته في ذلك, وقد قال الحنابلة بموجب هذا الحديث لكن قيدوا ذلك بالقيود الآتية (إذا ابتدأ إمام الحي الصلاة من قعود لعلة يرجى برؤها فإن المأمومين يلزمهم أن يصلوا قاعدين), فقيدوا الحكم بهذه القيود لئلا يتعارض هذا الحديث مع حديث إمامة أبي بكر في أول الصلاة ثم مجيء النبي عليه الصلاة والسلام بعد ابتداء الصلاة وصلاته قاعداً. والمالكية يقولون بعدم صحة إمامة القاعد لحديث (ولا تتابعوه في القعود) ولحديث (لا يؤمن أحد بعدي قاعداً قوماً قياماً) لكنها أحاديث ضعيفة لا تقاوم مثل هذا الحديث, فعندهم لا تصح إمامة القاعد لا من قيام ولا من قعود. والحنفية والشافعية يقولون بصحة إمامة القاعد لكنه لا يتابع على القعود استدلالاً بما جاء في قصة مرض النبي عليه الصلاة والسلام وافتتاح أبي بكر الصلاة بالناس من قيام ثم مجيء النبي عليه الصلاة والسلام وجلوسه عن يساره والمأمومون قيام, لكن مثل هذه الصورة تخرج بالقيد الأول عند الحنابلة, فالحنفية والشافعية يرون أن هذا الحديث منسوخ بما فعله عليه الصلاة والسلام في آخر أمره في مرض موته.
جاء في الحديث (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف) فلا يجوز أن يسلم المأموم قبل سلام إمامه.(1/5)
حديث أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم): هذا التأخر يحتمل كونه تأخرهم في بيوتهم وفي أعمالهم, ويحتمل كونه تأخرهم وهم موجودون في المسجد, لأنه يوجد من يتأخر عن القيام إلى الصلاة بحيث تقام الصلاة ويُشرَع فيها وهو جالس في آخر المسجد, وهناك نوع ثالث من التأخر وهو أن بعض الناس يبادر إلى المسجد بحيث يأتي مع الأذان لكنه بمجرد ما يسمع الإقامة يقوم ويكبر في أقرب مكان عنده وهذا ملاحظ في المساجد الكبيرة كالحرمين, لأنه يحتج بخشية فوات ركعة إن ذهب إلى الصف الأول لأن المسافة طويلة جداً, وبهذا الفعل تجد الناس متفرقين في المسجد كل مجموعة مستقلة بصف بعيد عن الصفوف المتصلة, ومن فعل هذا فإنه يفوته أجر الصف الأول أو الذي يليه, ويفوته أيضاً أجر وصل الصفوف, والأصل أن من يحضر إلى المسجد مبكراً فإنه يتقدم إلى الصف الأول.(1/6)
قد يكون هناك معارض لما حُثَّ عليه في الصف الأول: إن كانت هناك حلقة علم في آخر المسجد, وإن جلس في هذه الحلقة فاتته الصفوف الأولى, وإن تقدم إلى الصف الأول لم يتمكن من سماع الدرس, أو إن تقدم إلى الصف الأول وهو في آخر المسجد فاتته تكبيرة الإحرام, أو إن تقدم إلى الصف الأول وهو في آخر المسجد فاتته ركعة أو ركعات - ومعلوم أن من يقضي الصلاة لا سيما في الأماكن المزدحمة يحصل له ما يحصل من مرور الناس بين يديه وتشويشهم عليه – أو إن تقدم إلى الصف الأول وهو في آخر المسجد ترتب على تقدمه فوات صلاة الجنازة بسبب قضائه الركعات التي فاتته, كل هذا من باب تعارض النوافل فماذا يقدم؟ هل الأولى تقديم التقدم إلى الصفوف المتقدمة بغض النظر عما يفوت من السنن وبغض النظر عما يحصل من تشويش أثناء قضاء الصلاة أو الأولى تقديم إدراك تكبيرة الإحرام والصلاة كاملة والبعد عن التشويش بغض النظر عن التقدم إلى الصفوف المتقدمة؟ أهل العلم يقررون قاعدة (المحافظة على الأجر المرتب على العبادة نفسها أولى من المحافظة على الأجر المرتب على مكانها أو زمانها ما لم يكن المكان أو الزمان شرطاً).(1/7)
الصلاة في الصف الأول في الأماكن المزدحمة يترتب عليها إضاعة أشياء كثيرة, فأحياناً الإنسان لا يكمل صلاته من شدة الزحام وقد لا يتيسر له ركوع ولا سجود, فهل مثل هذا نقول له: زاحم في الصفوف الأولى ولو ترتب على هذا ما يترتب عليه من خلل في الصلاة؟!!! أو نقول له: احرص على الصلاة من أولها إلى آخرها وأدها في مكان وأنت مرتاح ولو صار بينك وبين الإمام مفاوز كما في الحرمين مثلاً على ألا تصلي منفرداً بل تصلي ومعك مجموعة داخل سور المسجد وصلاتك صحيحة بالإجماع لكن فاتك أجور؟ على كل حال المسألة مسألة فضائل, ولا بد أن نوازن بين هذه الفضائل, نعم هناك سنن رُغب فيها لكن علينا أن نفقه كيف نطبق هذه السنن بما لا يتعارض مع ما هو أقوى منها, فلو افترضنا أن يمين الصف الأول لم يُفرَش وفيه بقايا إسمنت لا يرتاح الإنسان إذا جلس عليها, فأيهما أفضل: يمين الصف الأول أو الصف الثاني؟ الصف الثاني أفضل على القاعدة, لأن فيه محافظة على لب الصلاة الذي هو الخشوع, وأما يمين الصف الأول ففيه محافظة على مكانها.
على المسلم أن يحرص على تطبيق جميع السنن وعلى الفقه في كيفية تطبيق هذه السنن, ولا بد من الموازنة, فهناك سنن تتعارض في مثل هذه الصور, والمفاضلة لا بد منها على ألا نعرض جوهر الصلاة للخلل.
ذكر الشيخ في معرض كلامه على القاعدة السابقة مسألة التعارض بين الطواف بجوار الكعبة مع الزحام وعدم حضور القلب وبين الطواف من وراء الناس مع حضور القلب وذكر أن الطواف من بعيد أولى.
من كان في محيط المسجد داخل سور المسجد فإن صلاته صحيحة إذا لم يكن فذاً, لكن إن صلى في أدنى مكان مع مجموعة فاته الأجر والفضل بسبب هذا التأخر.
تمام الحديث (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل) وفي بعض الروايات (في النار): من كان ديدنه التأخر عن الصلاة من غير عذر فإن فيه وصف راسخ من أوصاف المنافقين.(1/8)
بعض الناس يتذرع في التأخر عن الصلاة وعدم التقدم إليها بأنه بصدد تحصيل مصالح - كتأليف أو تعليم أو قراءة قرآن في البيت - ولا يخرج إلا إذا سمع الإقامة, من فعل هذا لا يقال إنه أفضل ممن يتقدم إلى الصلاة ويبكر إليها.
ينبغي على من يقتدي به الناس ألا يتأخر, ولذا شرعت الصلاة في المساجد من أجل أن يقتدي الجاهل بالعالم, وشرعت النوافل في البيوت من أجل أن يقتدي بالرجال أهل البيت من نساء وأطفال.
(وليأتم بكم من بعدكم): اللفظ يحتمل من بعدكم في الزمان, ويحتمل من بعدكم في المكان.
من كان في صف بحيث لا يرى الإمام فإنه يأتم بمن أمامه, والإمام يأتم به من يراه من المصلين, لكن من لا يراه من المصلين يقتدي بمن يرى, وإلا لو قلنا إنه لا يقتدي بالإمام إلا من يراه ويسمع صوته - والمسألة مفترضة بدون مكبرات – فإن الاقتداء ينقطع في المساجد الكبيرة, لكن في هذا الحديث ما يدل على أن المأمومين بعضهم يصلح أن يكون قدوةً لبعض, وعلى هذا يرى بعضهم أنه إذا كبر للركوع وركع قبل أن يرفع الصف الذي أمامه فإنه يدرك الركعة ولو كان الإمام قد رفع, لكن الجمهور عندهم الاقتداء مرتبط بالإمام فإذا رفع الإمام فاتت الركعة, ولا شك أنه إذا استحال الاقتداء بالإمام فالاقتداء بمن وراءه سائغ بهذا الحديث.(1/9)
مثل هذا في المسبوقين: إن دخل اثنان بعد أن فاتهما شيء من الصلاة فإن لأحدهما أن يقتدي بالآخر بعد سلام الإمام, لأن كل واحد منهما في حكم المنفرد, والإمامة سائغة في مثل هذه الصورة, لكن إذا شك أحدهما ولم يدر كم فاته من الصلاة, وكان الذي دخل معه في نفس الوقت قد صلى ركعة وسلم بناء على أن الذي فاته ركعة فهل يقتدي الشاك بزميله الذي صلى ركعة فيصلي ركعة ثم يسلم؟ أو يبني على الأقل ولا يرجح بفعل زميله؟ الشك هو استواء الطرفين, ومقدار الفائت واحد بين الاثنين لدخولهما في نفس الوقت, وبفعل زميله الذي صلى ركعة ترجح لديه وغلب على ظنه أن الذي فاته ركعة, فهل يعمل بغلبة الظن أو يعمل بالأقل لأنه المتيقن؟ وهل يفرَّق بين المبتلى وغير المبتلى الذي لا يحصل له هذا الشك إلا قليلاً؟ الجواب: المبتلى يقتدي بمن بجواره لأنه مبتلى وصلاة من بجواره ترجح عنده غلبة الظن, والعمل بغلبة الظن معروف عند أهل العلم, وأما غير المبتلى فإنه يبني على اليقين الذي هو الأقل ويخرج من عهدة الواجب بيقين, فينبغي أن يُفرَّق بين المبتلى وغيره.
حديث زيد بن ثابت (احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة بخصفة فصلى فيها – الحديث - ): اتخذ عليه الصلاة والسلام حجرة من الحصير من سعف النخل فصلى فيها, وفي بعض الروايات (أحتجز) يعني اتخذ حاجزاً يحجز بينه وبين الناس في مسجده عليه الصلاة والسلام.
قوله (فتتبع إليه رجال): من التتبع وهو طلب الاقتداء به في صلاته عليه الصلاة والسلام.(1/10)
قوله (وجاءوا يصلون بصلاته): وهذه نافلة, ومعلوم أنه في رمضان صلى بهم ليلة ثم في الثانية كثر العدد ثم في الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم خشية أن تفرض عليهم, وفي هذا دليل على مشروعية صلاة النافلة جماعة, على ألا تشبه بالفريضة, يعني لو اعتاد بعض الناس أنه لا يصلي الرواتب إلا جماعة فإنه مبتدع, لكن لو صلاها جماعة مرة أو مرتين فلا بأس, وقد اقتدى ابن عباس بالنبي عليه الصلاة والسلام في النافلة والنبي عليه الصلاة والسلام صلى النافلة جماعةً في المسجد, فينبغي أن تفعل جماعة أحياناً, ولذا وجههم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأفضل, فصلاة النافلة جماعة لا بأس بها لكن هناك ما هو أفضل (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة), والمعنى (بدل أن تصلوا معي في هذه الحجرة صلوا في بيوتكم ولا تشبهوا بيوتكم بالقبور لا تجعلوا بيوتكم قبورا), فينبغي أن يجعل المسلم ولا سيما طالب العلم في بيته مكاناً يتعاهده بالتطييب والتنظيف يؤدي فيه نوافله الراتبة وغير الراتبة ولا يشبه بيته بالمقبرة التي لا يصلى فيها.
قوله (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة): وهذا النص قيل في المدينة, فلا يقال إن النافلة في المسجد النبوي أفضل, لأن التضعيف خاص بالمسجد لقوله عليه الصلاة والسلام (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة صلاة فيما سواه), فصلاة النافلة في البيت أفضل منها في المسجد النبوي, أما بالنسبة للحرم المكي فإن المسجد الحرام يشمل كل الحرم عند جمهور أهل العلم, وأما بالنسبة للحرم المدني فما أحاطه السور هو الحرم.(1/11)
مثل هذا الحديث حمل بعض أهل العلم على تخصيص التضعيف بالفريضة دون النافلة لئلا يتعارض مع حديث الباب, لأنه لو قيل إن التضعيف شامل للفريضة والنافلة وقيل إن البيوت في المدينة لا تضعيف فيها بل التضعيف خاص بالمسجد حصل التعارض, فقد يقول قائل (أنا أريد ألف صلاة وأترك التفضيل بين النافلة في البيت وبين النافلة في المسجد, لأنه قد تكون النافلة في البيت أفضل بشيء يسير, لكن بصلاتي النافلة في المسجد الفضل محقق وهو ألف ضعف, فلماذا لا أصلي النافلة في المسجد؟), نقول: هذا النص قيل في المدينة, وأفضل صلاة المرء في بيته في المدينة أفضل من المسجد إلا المكتوبة, وهذا ما جعل بعض العلماء يرون أن التضعيف خاص بالفرائض دون النوافل.
حديث معاذ (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً؟!! – الحديث -): هذا من أقوى الأدلة على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل, ومذهب الحنابلة عدم صحة صلاة المفترض خلف المتنفل.
قوله (فطول عليهم): في رواية (قرأ البقرة) وفي بعض الروايات (قرأ النساء).
قوله (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً): يعني أتريد أن تصرف الناس عن صلاتهم وعن حضور الجماعة بسبب التطويل؟!!.
جاء الأمر بالتخفيف في قوله (من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة) وهؤلاء تجب مراعاتهم, وإذا صلى الإنسان لنفسه فليطول ما شاء, فالأصل إذا أم الناس أن يخفف, لكن يبقى أن المسألة مرتبطة بالجماعة, فإذا علم الإمام وجزم أو غلب على ظنه أن الجماعة لا يكرهون التطويل بل يرغبون فيه وليس فيهم أحد من هذه الأنواع فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بالأعراف وصلى بالطور وصلى بالمرسلات وصلى بـ(ق) وصلى بالسجدة, والمقصود أنه صلى بسورٍ طوال, ولا تعارض بين الأحاديث.(1/12)
حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو في مرض موته (جاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) والذي في اليسار هو الإمام (فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً): اختلف العلماء في صلاته عليه الصلاة والسلام هذه هل كان إماماً أو مأموماً لكن أكثر الروايات على أنه جلس عن يسار أبي بكر وهو في الصحيح واليسار هو موضع الإمام.
من الطرائف أنه جاء سؤال (اثنان يصليان إمام ومأموم فدخل ثالث فدفع الأيمن فتقدم الأيمن وأتم بهم الصلاة) فهل الصلاة صحيحة؟ الجواب: الصلاة وقعت وانتهت, وكل الثلاثة جهال, وكون المأموم ينقلب إلى إمام هناك ما يدل له في صورة الاستخلاف, وكون الإمام يصير مأموماً يدل له هذا الحديث, فيمكن أن تُصحح هذه الصورة لا سيما مع الجهل.
قولها (فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً, يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم, ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر): هذا هو دليل الحنفية والشافعية على أن المأموم يلزمه أن يصلي قائماً خلف إمامه القاعد, ويقولون إن هذا الحديث متأخر عن الحديث الأول فهو ناسخ, وتأخره أمر محقق مؤكد. لكن الحنابلة يجمعون بين النصوص بقولهم (إذا ابتدأ إمام الحي الصلاة من قعود لعلة يرجى برؤها فإن المأمومين يلزمهم أن يصلوا قاعدين) وهنا ابتُدِأت الصلاة من قيام وهم يشترطون لصلاة المأموم قاعداً خلف القاعد أن تفتتح الصلاة من قعود وهنا افتتحت الصلاة من قيام, والذي افتتح الصلاة غير إمام الحي, والمقصود أن القيود التي وضعها الحنابلة منضبطة. وعلى كل حال من قال بالنسخ وأن العمل على آخر الأمرين منه عليه الصلاة والسلام فله وجه, ومن قال بصلاة المأموم بالقيود التي ذكرها الحنابلة للتوفيق بين هذه النصوص فله أيضاً وجه. وأما ما يستدل به المالكية من أحاديث على عدم صحة إمامة القاعد فهي ضعيفة.(1/13)
من يثبت أنه جلس عن يسار أبي بكر فهو إمام بلا شك, والمالكية يقولون هو ليس بإمام عليه الصلاة والسلام وإنما هو مأموم, ولذا يضطرون إلى تأويل (جلس عن يساره) أو ينفونها لأنهم لا يرون إمامة الجالس أصلاً, فخلافهم من هذه الحيثية.
أبو بكر كان عن يمين النبي عليه الصلاة والسلام: قد يقول قائل (هل يسوغ لشخص أن يأتي ويصلي عن يمين الإمام؟) والجواب أن يقال: أبو بكر كان في مكانه الذي افتتحت الصلاة وهو فيه وأراد أن يتأخر فأشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام أن يثبت, ومن أتى ووقف بجانب الإمام محتجاً بقصة أبي بكر لا يحصل له فضل الصف الأول, لأن الصف الأول هو الذي يلي الإمام, ولو قدر أنه ضاق المسجد وتقدم ناس وصاروا بجوار الإمام فإن هذا صف حاجة وليس بصف طبيعي تترتب عليه الأحكام وفضله بعد آخر صف, فآخر صف أفضل من هذا الصف, ومثل هذا في الدور الثاني أو في القبو أو خارج المسجد كل هذه صفوف حاجة ولو كانت أقرب إلى الإمام.
حديث أبي هريرة (إذا أم أحدكم الناس فليخفف - الحديث - ): هذا في الفريضة دون النافلة.
قوله (وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء): إطلاق الحديث يشمل ما لو شرع في صلاته في الوقت ثم طول حتى خرج الوقت مع إدراكه لركعة في الوقت, لأن من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فقد أدرك الصلاة, فمن فعل مثل هذا لا شيء عليه في ذلك إن شاء الله تعالى, فله أن يطول كيف شاء.
حديث (ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام) حسن, لكن وقته لم يأت بعد, ولا شك أن الأمر والنهي ينفع, والتأثير موجود ولله الحمد.(1/14)
إمام أثناء صلاة العصر شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فلما قام إلى الركعة سبح المأمومون فعرف أنه أخطأ ومع ذلك أكمل الركعة؟ الجواب: إذا كان عنده شك وتسبيحهم يرجح أحد طرفي التردد ويغلب على ظنه أنه صلى أربعاً فإنه يلزمه الرجوع لا سيما إذا سبح به اثنان فأكثر, وأما إذا سبح به واحد مع معارضة فعله فإنه لا يلزمه الرجوع حينئذ. وإذا كانت الصلاة قد انتهت وهو يجهل الحكم والمسألة زيادة وليست نقص فالصلاة صحيحة إن شاء الله تعالى, لكن لو كانت المسألة نقص فإن المأمومين يؤمرون بالإتمام.
هل المرأة تقطع صلاة المرأة أم أنها تقطع صلاة الرجل فقط؟ الجواب: المرأة تقطع صلاة الرجل, وعليه أن يعيد الصلاة إذا مرت بين يديه, وإذا شق عليه الدفع في أماكن الزحام كالحرمين فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى غير جدار في الحرم والناس يطوفون بين يديه فيهم الرجال وفيهم النساء, فالمشقة تجلب التيسير.
شخص عقد على فتاة وهو لا يصلي وهو يعتقد أن تارك الصلاة كافر ثم بعد ذلك تاب إلى الله وأصبح يصلي فهل عقده الأول صحيح؟ إذا ثبت أنه لا يصلي بالكلية فعقده غير صحيح, ولا بد من تجديد العقد, ونظراً للخلاف في المسألة فالعقد الأول عقد شبهة تثبت به أحكام الزواج, لكن لا بد من تجديده.
حديث عمرو بن سلمة (فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين): هو أبو يزيد أو أبو بُرَيد - على خلافٍ في ذلك – الجرمي, اختلف في رؤيته وهل قدم مع أبيه أو لم يقدم, أدرك النبي عليه الصلاة والسلام وأم قومه في عهده والقرآن ينزل.
قوله (قال أبي: جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً): بعد أن وفد على النبي عليه الصلاة والسلام, وأبوه هو سلمة بن نُفَيع.(1/15)
قال لهم بعد أن علمهم مواقيت الصلاة (فإذا حضرت الصلاة) أي دخل وقتها (فليؤذن أحدكم) يعني من غير اشتراط في المؤذن (وليؤمكم أكثركم قرآناً): بهذا يفضل جمع من أهل العلم الإمامة على الأذان لأن الإمامة لها شروط وفيها أولويات وفيها مقدم وغيره وأما الأذان فقد جاء فيه (فليؤذن أحدكم) بإطلاق, وإن كان أهل العلم يشترطون في المؤذن أن يكون ثقة أميناً صيتاً, وعليه فقوله (أحدكم) يعني ممن يصلح للأذان, لأن (أحدكم) مفرد مضاف يعم جميعهم, لكن إن شئت فقل إنه من العام الذي أريد به الخصوص, لو قدر أن فيهم الأبكم فإنه لا يشمله هذا العموم, وإذا وجد فيهم من يتكلم لكنه لا يستطيع رفع الصوت فإنه لا يشمله هذا العموم, فالأذان وظيفة شرعية الهدف منها إخبار الناس بدخول وقت الصلاة, فالذي لا يتحقق به الهدف الشرعي لا يصلح للأذان, ولا بد مع كونه صيتاً أن يكون أميناً عارفاً بالأوقات, لأن غير الثقة في هذا الباب لا يأمنه الناس على عباداتهم, فالأذان وظيفة شرعية تترتب عليها أحكام.(1/16)
قوله (وليؤمكم أكثركم قرآناً): القصة تدل على أن المراد بالأكثر قرآناً وبالأقرأ - كما في حديث أبي مسعود – الأحفظ, لأنهم بحثوا ونظروا فلم يكن أحدهم أكثر قرآناً من هذا الصبي ولذا قدم على غيره مع وجود من هو أكبر منه, والسن له دور في التقديم كما سيأتي, فدل على أن الأهم في الإمامة أن يكون أكثر قرآناً يعني أحفظ للقرآن, لكن القرآن له متعلقات, فمن الناس من يحفظ حروفه لا على الوجه الشرعي, يحفظ لكن عنده أخطاء كثيرة في الأداء, ومن الناس من يحفظ أكثر لكن لا يفهم معانيه, ومن الناس من هو أكثر قرآناً ولا يعمل بما تضمنه من أوامر ونواهي, فهل معنى هذا الحديث والحديث الذي يليه (أقرؤهم لكتاب الله) أن الأقرأ هو الأحفظ بغض النظر عن الوجوه الأخرى؟ أو لا بد من توافر الجميع فيكون المقدم هو الأكثر قرآناً كما هو منطوق هذا الحديث والأعرف بكيفية أدائه ومعانيه وفهمه والأجود صوتاً؟ لا شك أن هذه النصوص تحتمل كل ما يتعلق بالقرآن, وإن كان هذا الحديث صريح في أن المراد بالأقرأ الأكثر جمعاً للقرآن.
السبب في كون هذا الصبي أكثرهم جمعاً للقرآن أنه يتلقى الركبان الذين يمرون بقبيلتهم ممن وفد على النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ عنه شيئاً من القرآن ورجع إلى قومه.
قوله (فقدموني بين أيديهم): في الفرائض والنوافل, لأن الحديث سياقه سياق الفرائض بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام علمهم الأوقات والأوقات إنما هي للفرائض, ثم قال (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً), فالسياق سياق فرائض, وبهذا يرد على من قال إنه يؤمهم في النوافل ولا يصحح صلاة المكلف خلف الصبي المميز.
من أهل العلم من يرى أن الصلاة لا تصح خلف الصبي لأن صلاة الصبي نافلة والمكلف مفترض ولا تصح صلاة المفترض خلف المتنفل, والحديث حجة عليهم, لأن سياق الحديث في الفرائض.(1/17)
قوله (وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين): لا شك أن هذا الصبي مميز, لكن متى يكون تمييز الصبي؟ النبي عليه الصلاة والسلام قال (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) ولم يعلق الأمر بالتمييز, وإذا فهم الخطاب ورد الجواب المطابق يكون مميزاً, لكنه مع ذلك لا يؤمر بالصلاة قبل تمام سبع سنين.
الواقع يشهد بأن بعض من بلغ الخمس سنين يميز, ومحمود بن الربيع عقل المجة التي مجها النبي عليه الصلاة والسلام في وجهه وهو ابن خمس سنين وهذا في الصحيح, فهل إذا صف في الصف طفل عمره خمس سنين يحسن الصلاة يقال (لا بأس) لأنه مميز؟ أو يقال وجوده مثل عدمه في الصف فهو كالفرجة لأنه لم يؤمر بالصلاة؟ هل هناك حد فاصل لمن يتاح له أن يصاف الكبار أو ليس هناك حد فاصل؟ منهم من يجعل الحد الفاصل تمام السبع لأنه مأمور بالصلاة وما قبل ذلك غير مأمور بالصلاة فوجوده كالفرجة في الصف, لكن هذا عمرو بن سلمة ابن ست أو سبع أم الناس وليس مصافاً لهم. فهل الأمر معلق بالتمييز أو معلق ببلوغ السبع؟ الجواب: الشرع يضبط الأحكام العامة بضابط يحكم غالب الناس ولا يتغير ولا يتفاوت ولا يصير فيه مجال للأخذ والرد. من الأطفال من يميز وعمره أربع سنين ومنهم من لا يميز ولو بلغ التسع سنين, ومثل هذا الاضطراب لا تعلق به أحكام شرعية, لأنه قد يأتي الرجل بولده ذو الثلاث سنين إلى المسجد ويقول إنه مميز فلا يمنع من الصلاة فيؤدي ذلك إلى إشغال الناس وإيذاءهم والعبث في المسجد, ويوجد من الأطفال من هو ابن ثمان أوتسع سنين ومع ذلك لا يأمره ولي أمره بالصلاة بدعوى أنه ليس بمميز. فالشارع في مثل هذه الأحوال يضبط بضابط يحكم غالب الناس, ولذا قال (مروا أولادكم بالصلاة لسبع), وأكثر الناس يميزون في السبع ويندر أن يميز أحدٌ قبل السبع والنادر لا حكم له, ولذلك لا تترك مثل هذه الأمور للناس.(1/18)
التمييز قد يكون قبل سبع, لكن لا يؤمر بالصلاة ولو كان مميزاً لكي نسد الباب على من يريد أن يعبث ولده الصغير في المسجد بدعوى أنه مميز.
مثل هذه الأحكام العامة يضبطها الشارع بضابط ثابت لا يتغير, ولذلك لما كان أمر التكليف خفياً رُبِطَ بأمور يتفاوت فيها الناس وجُعِل أقصاه حد يتفق فيه كل الناس, فالإنبات يتفاوت فيه الناس, والإنزال يتفاوت فيه الناس, وهذه أمور خفية, لكن بعد ذلك يأتي الحد الذي لا يمكن أن يتجاوزه أحد من الناس ولم يكلف, وهو تمام خمس عشرة سنة.
في هذا الحديث إذا قلنا إن عمرو بن سلمة ابن سبع سنين اتفقت النصوص, واطرحنا الأقل الذي هو الست باعتباره مشكوك فيه.
إمامة الصبي المميز الذي بلغ سبع سنين اختلف فيها أهل العلم: منهم من لا يرى صحتها في الفرائض لأنه متنفل فلا يؤم المفترضين, ومنهم من يقول إذا كان يضبط الصلاة ويحفظ القرآن ويعرف أحكام الصلاة فإمامته صحيحة, والحديث نص في صحتها, فالقول بصحة إمامة المميز ابن سبع سنين لا إشكال فيها لهذا الحديث.
حديث أبي مسعود (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله): يشهد لمعنى حديث عمرو بن سلمة, وهو أن أولى الناس بالإمامة الأكثر حفظاً للقرآن.
الأقرأ في الحديث هو الأحفظ لكتاب الله, أي الأكثر حفظاً لكتاب الله.(1/19)
يرى أكثر الأئمة أن الأولى في الإمامة الأفقه, وهذا مذهب المالكية والحنفية والشافعية, وقالوا عن قوله (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) أنه خرج مخرج الغالب, وبالنظر إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم فإن الأقرأ فيهم هو الأفقه وليس غيرهم مثلهم, ويعللون قولهم بأن ما يحتاج إليه من القرآن في الصلاة مضبوط, بمعنى أنا لو وجدنا فقيهاً يحفظ المفصل وعامياً يحفظ القرآن كاملاً فإنا نقول إن الذي يُحتاج إليه من القرآن مضبوط, فالذي يحفظ المفصل يكفيه في الإمامة, لكن المحتاج إليه في الفقه غير مضبوط, فقد يعرض للإمام ما يفسد صلاته وهو لا يشعر إذا كان غير فقيه, فلا يصلح أن يكون إماماً في هذه الصورة.
لو قلنا بقول هؤلاء الأئمة فماذا سيكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) والأعلم بالسنة هو الفقيه؟ لأنه إن كان المراد بالأقرأ الأفقه فإنا نكون قد ألغينا الجملة الثانية.
يبقى أن الأقرأ والأحفظ لكتاب الله هو الأولى بالإمامة وإن كان غيره أفقه منه, وهذا من الوجوه التي يُرفَع بها حافظ القرآن والمعتني بالقرآن (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين), فالأكثر حفظاً يتقدم ولو كان خلفه إمام من أئمة المسلمين لكن لا يحفظ القرآن كاملاً, فالراجح في هذه المسألة أنه يقدم الأكثر قرآناً على من هو أقل منه في حفظ القرآن ولو كان أعلم منه بكثير, ويكون هذا من رفعته وإن كان غيره أفقه منه, وإذا أخطأ في صلاته فإنه يُنَبَّه, والمفترض أن حامل القرآن له عناية بغيره مما يعينه على فهم القرآن من سنة النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال أهل العلم الموثوقين بحيث تكون المسألة متكاملة, لكن إذا وجدنا حافظاً لا يعرف شيئاً من الفقه وفقيهاً يدرك في الفقه إدراكاً تاماً لكنه لا يحفظ إلا شيئاً يسيراً من القرآن فإنا نقول إنه يقدم الأقرأ لهذا النص.(1/20)
قوله (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة): هناك قال (أقرؤهم) فالمسألة مرتبطة بالحروف, وهنا قال (أعلمهم), فلو أن افترضنا شخصين كلاهما حافظ للقرآن ومتقن ومجود وضابط, وأحد الاثنين يحفظ مائة ألف حديث والثاني لا يحفظ إلا ألف حديث, لكن الأول الحافظ لا يفهم من معانيها شيء ولا يستطيع أن يستنبط منها شيء, وحافظ الألف مستفيد من هذه الأحاديث فائدة تامة يستنبط منها ويتفقه ويفقِّه من هذه الألف, فأيهما يقدم؟ يقدم الثاني, لأنه لم يقل (أحفظهم لللسنة) بل قال (أعلمهم بالسنة), وهذا مما ينبغي أن يفرق فيه بين الكتاب والسنة, فالكتاب لا بد أن تتقن حروفه ويتقن حفظه لأنه لا بد أن يؤدى كما هو بحروفه وبمدوده وبحركاته وبشداته, وأما السنة فالرواية بالمعنى يجيزها جمهور أهل العلم, لكن أعظم من الحفظ الفهم الذي هو الثمرة العظمى من التفقه في السنة, ولا يعني هذا أن الإنسان يقلل من شأن حفظ السنة.
قوله (فإن كانوا في السنة سواء) أي في الحفظ والفهم على حد سواء (فأقدمهم هجرة) يعني أقدمهم انتقالاً من بلد الكفر والشرك إلى بلد الإسلام.
الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة وباقية إلى قيام الساعة, وأما حديث (لا هجرة بعد الفتح) فالمراد به لا هجرة من مكة بعد فتحها لأنها صارت دار إسلام, وبعض أهل العلم يقول (لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح) ولا شك أن الفضل اختلف بعد الفتح (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل – الآية- ) ولا شك أن أوقات الحاجة والشدة تجعل بعض الأعمال المفوقة فائقة لشدة الاحتياج إليها, وأما في أوقات السعة فإن الأمر يخف.
من تقدمت هجرته أفضل ممن تأخرت هجرته, وهذا بعد الاستواء في القرآن والسنة.(1/21)
النووي في شرح مسلم يقول (أولاد المهاجرين لهم حكم آبائهم في التقديم), نعم إن كانوا هاجروا معهم فالكلام وجيه, لكن من ولد بعد هجرة المسبوق بالهجرة من أولاد المهاجر الأول لا يقدم على المسبوق بالهجرة في الإمامة, لأن الوظائف الشرعية لا تورث وراثة بل العبرة فيها بالكفاءة, ولذا يقول الشوكاني (ليس في الحديث ما يدل عليه).
قوله (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً): يعني أقدمهم إسلاماً.
قُدِّم الأقدم الهجرة على الأقدم إسلاماً للتنفير من الإقامة بين أظهر المشركين لأنها خطر على المسلم نفسه وفيها تكثير لسواد الكفار.
جاء في رواية (سناً) بدل (سلماً): يعني الأكبر يقدم على الأصغر سناً, والكبير له نصيب من التقدير في نصوص كثيرة, فقد جاء تقديم الأكبر والكبير واحترامه, وتقديمه في الإمامة من احترامه.
قوله (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه): يعني في ملكه إذا كان إمام أعظم, أو في ولايته إذا كان أميراً, أو في بيته إذا كان صاحب البيت, وكذا كل من له سلطة في مكانٍ ما.
قوله (إلا بإذنه): لأن هذا حقه وهو صاحب الشأن, لكن التقدم بين يديه من غير إذنه افتيات عليه.
قوله (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه): ما يوضع له من فراش وتُكَأة لا يجلس فيها أحد إلا بإذنه, لأن الجلوس بغير إذنه افتيات عليه, وهو سلطان في هذه البقعة.(1/22)
قد يقول قائل إن النبي عليه الصلاة والسلام قدم أبا بكر في الإمامة مع أن في الصحابة من هو أقرأ منه, قال عليه الصلاة والسلام (مروا أبا بكر فليصل بالناس) مع أن في الصحابة بالنص من هو أقرأ منه كأبي بن كعب وابن مسعود, فهل في ذلك مخالفة لحديث (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؟ الرجل في في سلطانه مستثنى من قوله (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فهو أحق باختيار الإمام, لكن هل له أن يتجاوز ما جاء في النصوص من أسباب التقديم؟ لا ليس له ذلك, لكن النبي عليه الصلاة والسلام قدم أبا بكر مع أن غيره أقرأ منه لأن تقديم أبي بكر مشتمل على مصلحة عظمى وهي الإشارة إلى تقديمه في الإمامة والخلافة بعده, فقد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً, وهذا لا شك عارض له حظه من التقديم, ولذا استدل الصحابة على تقديم أبي بكر في الخلافة بتقديمه في الإمامة فقالوا (رضيه النبي عليه الصلاة والسلام لديننا أفلا نرضاه لدنينانا), لكن لو قدم أبياً صار هناك إشكال عظيم في اختيار الخليفة, وعليه فليس في تقديم أبي بكر في الإمامة دليل على صرف الحديث عن ظاهره.
حديث جابر (ولا تؤمن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً): الحديث منكر وضعيف جداً, لأن فيه عبد الله بن محمد العدوي وهو متهم, وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف عند الجمهور.
الأئمة الأربعة كلهم على أن المرأة لا تصح إمامتها للرجال, وإن أجاز أبو ثور إمامة المرأة مطلقاً, وأجاز الطبري إمامتها في التراويح إذا لم يوجد أحفظ منها, وسيأتي ما في حديث أم ورقة من فقه, وعلى كل حال المرأة لا تؤم الرجال في قول عامة أهل العلم.
قوله (ولا أعرابي مهاجراً): تقدم من وجوه التقديم تقدم الهجرة, فإذا وجد اثنان كلاهما مهاجر فإنه يقدم الأقدم هجرة, فمن باب أولى يقدم المهجر على غير المهاجر, بالإضافة إلى ما يتصف به الأعرابي غالباً من جهل وما يتصف به المهاجر من علم.(1/23)
قوله (ولا فاجر مؤمناً): إمامة الفاسق جمع من أهل العلم يرون أنها لا تصح, فالحنابلة يقولون (ولا تصح خلف فاسق ككافر), لكن الأكثر على أن من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته, وصلاة الفاسق صحيحة مجزئة مسقطة للطلب وإن كانت غير مقبولة, لأن الله جل وعلا إنما يتقبل من المتقين, وهذا في الفاسق المحقق الفسق.
معنى كون صلاة الفاسق غير مقبولة أن الآثار المترتبة عليها من الثواب لا يستحقها هذا العاصي, ولذا يشدد الحنابلة في أمر الفاسق, وهذا في الفاسق محقق الفسق لا مظنون الفسق.
جاء في كتب الفقهاء (تصح إمامة الجندي وولد الزنا إذا سلم دينهما): لأن ولد الزنا مظنة للفسق بسبب أنه خلق من نطفة غير شرعية, ولذا هذه المظنة ليس لها حكم, والجنود عندهم تجاوزات من قديم الزمان في القرون المفضلة, ولذا يصححون إمامة من هذه حاله لأن فسقه أمر مظنون لا يعلق به حكم شرعي, لكن هذا الذي هو مظنون الفسق لا تصح إمامته إلا بشرط سلامة الدين, لكن إذا صححنا إمامة الفاسق لا نحتاج إلى أن اشتراط سلامة الدين هنا.
حديث أنس (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق): وفي رواية (بالمناكب) وفي بعض الروايات (ولا تدعوا فرجات للشيطان) وفي رواية (فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف ، كأنها الحذف – أي صغار الغنم - ).
التراص في الصف - وهو أمر نسبي - لا يعني أن الإنسان يرص غيره حتى يُذهِب عنه خشوعه.
جاء عن الصحابة رضي الله عنهم – في البخاري - أن أحدهم يلزق كعبه بكعب الآخر وعقبه بعقب الآخر, فهم يحرصون على تطبيق السنة, والحرص مطلوب لا سيما من طالب العلم, لكن لا بد من الفقه في هذا التطبيق, فلا ينبغي أن يؤدي الحرص على تطبيق هذه السنة إلى تنفير من يصف بجوارك, لأن بعض الناس حساس لا يطيق أن تُمَس قدمه, ومثل هذا إذا رأيت منه النفرة فدع بينك وبينه شيئاً يسيراً بحيث لا يكون فرجة في الصف.(1/24)
الأصل أن يتراص المصلون, ففي حديث جابر بن سمرة عند أبي داود (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المقدَّمة ويتراصون في الصف), فالتراص مطلوب لكن ليس معناه الالتصاق بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتنفس ويذهب لب الصلاة الذي هو الخشوع, وليس معناه أننا نتراص في الأقدام ونهمل بقية الجسم, لأن المحاذاة كما تكون بالأقدام تكون أيضاً بالمناكب والأعناق, بمعنى أن الإنسان يأخذ حيزاً من الصف بقدره, لأن بعض الناس إذا كان هناك فرجة عن يمينه وعن يساره مد رجليه, وهذا ليس بمحاذاة ولا تراص, بل النصوص مجتمعة تدل على أن الإنسان يأخذ من الصف حيزاً يكفي بدنه كاملاً.
المطلوب هو ألا يُترَك فرج وخلل في الصفوف للشياطين, وألا يتراص ويتضاغط الناس بحيث لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة على الوجه المشروع.
قوله (رصوا صفوفكم وقاربوا بينها): ينبغي ألا تترك مسافة بين الصفوف إلا بقدر الحاجة, أي بقدر ما يكفي لموضع سجود المصلي, ولا يزاد على مقدار الحاجة.
قوله (وحاذوا بالأعناق): أي أن الأعناق تكون على خط مستقيم, وهذا من المبالغة في تقويم الصفوف, وإلا فالمحاذاة بالأقدام تكفي, لأنه إذا كانت الأقدام على خط واحد صارت الأعناق على خط واحد.(1/25)
مسألة الكرسي في الصف: هنا لا بد من الإخلال بشيء من المحاذاة, لأنه إن حاذى بالأقدام ما حاذى بالمنكب, وإن حاذى بالمنكب تقدمت الأقدام, فما هو المعتبر في ذلك؟ إذا قلنا إنه يحاذيهم بمنكبه فإنه إذا سجد تقدم, وإذا تقدم في السجود وهو في الصف الثاني فقد آذى الصف الأول, وإن تأخر وحاذى بالأقدام فقد آذى الصف المؤخر, فلا بد من معالجة وضعه بما لا يترتب عليه أذىً لأحد, لأن الأذى المتعدي يختلف عن القاصر, ثم بعد ذلك ننظر في أمره, فإن كان يريد أن يسجد على الأرض فإنه يحاذي بالأقدام, وإن كان يستطيع أن يقف في حال الوقوف ولا يستطيع السجود على الأرض فإنه يحاذي بالمناكب.
من وظائف الإمام تفقد الصفوف وتقويمها كما تُقَوَّم القداح اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام, لكن ما حكم الخطوط الموجودة الآن على الفرش والبلاط؟ لا شك أنها تسهم مساهمة قوية في تعديل الصفوف, فهل يقال إنها مشروعة لأنها تحقق مصلحة ولا يترتب عليها أدنى مفسدة؟ أو يقال إنها محدثة والمسألة مسألة عبادة وقام سببها في عهده عليه الصلاة والسلام ولم يفعلها؟ لا شك في ظهور مصلحة هذه الصفوف ولا أحد ينازع في هذا, وهي مثل مكبر الصوت والإضاءة, فليس فيها بأس إن شاء الله تعالى.
أهل العلم يقررون قاعدة (ما قام سببه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله داخل في حيز البدعة) لكن هل السبب الذي قام في عهده عليه الصلاة والسلام في مسجده مساوٍ للسبب القائم في عهدنا من كل وجه؟ وهل إمكان الفعل في عهده عليه الصلاة والسلام مثل إمكان الفعل في عهدنا؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن كبيراً وتعديل الصفوف فيه متيسر, والسبب قائم في عهده لكن قوته ليست كقوته في عصرنا, وإمكان الفعل في عهده عليه الصلاة والسلام ليس كإمكان الفعل في عهدنا لأن مسجده عليه الصلاة والسلام غير مفروش, فالخطوط في مسجده تزول بوطء الأقدام على الرمل ولا تحقق المصلحة المرجوة منها.(1/26)
لكن كيف تتم تسوية الصفوف في المساجد الكبرى, وتسوية الصفوف من تمام الصلاة,, فهل من المصلحة أن تزال هذه الخطوط أو من المصلحة أن تبقى؟ مصلحة إبقاء هذه الخطوط ظاهرة بلا شك - لكن هذا الكلام قد يجر إلى أمور لا يوافَق عليها القائل – ولا يختلف أحد في أن هذه الخطوط تضبط الصفوف, وفي هذا العصر لا يمكن ضبط الصفوف إلا بهذه الطريقة, بالإضافة إلى تساهل الناس في هذه العصور والناس بحاجة إلى ما يعينهم على إتمام صلاتهم.
المسألة اجتهادية, فمن قال بإزالة هذه الخطوط له وجه, ومن قال بإبقائها لأنها تحقق مصلحة عظمى وهي من تمام الصلاة ولا يترتب عليها مفسدة فله وجه.
لكن الذي ينبغي أن يوصى به ألا نسترسل في هذه المحدثات, بل نأخذ منها بقدر الحاجة, لأن بعض الناس يأتي بأمور لا حاجة لها ولا داعي, فنحن بحاجة مثلاً إلى إنارة في المحراب ليقرأ الإمام وينفع المصلين لكن ما الداعي إلى أن توضع ثريا بمائة ألف؟!!! وما الداعي إلى أن وضع محسنات صوت تردد الكلام؟!! كل هذا لا داعي له وهو قدر زائد على الحاجة. فالاسترسال في مثل هذه الأمور ينبغي أن يكون بقدر الحاجة, لأنه بصدد عبادة محضة الأصل فيها الاقتداء, وأي خلل فيها يخالف ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو ابتداع, لكن يبقى أن من هذه الأمور المخالفة ما مصلحته أعظم من مفسدته فينظر إليها بقدرها
لما احتاج الناس إلى من يبلغ صوت الإمام اتُّخِذَ المبلِّغ واختلفوا في جواز الاقتداء بهذا المبلغ, ثم جاءت مكبرات الصوت فاستغني عن المبلِّغ, مع أنه يوجد في بعض الجهات المكبرات والمبلِّغ معاًً.
حديث أبي هريرة (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها – الحديث - ): أفضل الصفوف الصف الأول, وجاء في فضله نصوص ومنها (لو يعلمون ما في النداء والصف الأول لأتوهما ولو حبواً) وفي رواية (لاستهموا).(1/27)
قوله (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها): خيرها أي أكثرها أجراً وأعظمها فضلاً, وشرها أي أقلها أجراً وإن كان فيها خير, لأن أفعل التفضيل في جملة (خير صفوف الرجال أولها) على وجهه, حيث اشترك الأول والذي يليه والذي يليه في الخير لكن الأول زاد في وصف الخيرية, ومقتضى أفعل التفضيل في جملة (وشرها آخرها) أن تكون هذه الصفوف اشتركت في الوصف الذي هو الشر لكن زاد الآخر على الذي قبله, لكن المراد بالشر هنا الشر النسبي, ولا شك أن الخير في الأكمل, والذي دونه فيه خير بلا شك, لكن هذا النقص من الكمال شر نسبي, ولذا قالوا في قوله (وشرها آخرها) يعني أقلها أجراً, وليس معنى الشر هننا المعنى العرفي المتبادر. الخير والشر أمور نسبية, فالأكثر خير, والأقل شر بالنسبة لما هو أكثر منه, والأقل خير بالنسبة لما هو أقل منه. ومن تأخر في الصفوف يحصل له الأجر بإذن الله بوعد الصادق, لكنه بالنسبة لمن تقدم لا شك أن الذي فوَّت عليه هذه المصلحة شر.
قوله تعالى (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً...): أي خير من أصحاب النار, ومقتضى أفعل التفضيل أن يكون أصحاب النار في خير لكن أهل الجنة أكثر منهم خيراً, لكن أفعل التفضيل في الآية ليست على بابها, فأهل النار في شر.
قوله (وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها): الرجال مطالبون بالجماعة وبالتقدم إليها, والنساء بيوتهن خير لهن, لكن إذا جاءت المرأة وبادرت مع أول الأذان وصارت في الصف الأول نقول حينئذٍ (شرها أولها), يعني إن قُدِّرَ أنها تأتي فلتأتِ آخر الناس, لأن الأصل القرار في البيوت, ولذا جاء في الحديث (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).(1/28)
منهم من ينظر إلى السبب وهو أن الأول من صفوف النساء قريب من الآخر من صفوف الرجال, فلكون الصف الآخر من الرجال قريب من صفوف النساء صار شراً, ولكون الصف الأول من النساء قريب من صفوف الرجال صار شراً, ولبعد صف الرجال الأول عن صفوف النساء صار خيراً, ولبعد صف النساء الأخير عن صفوف الرجال صار خيراً, وهذا إذا كان المسجد يصلي فيه رجال ونساء, لكن لو افترضنا أن النساء في مكان مستقل تماماً عن الرجال هل نقول إن العلة انتفت فيشملها ما في الحديث الأول فيبقى خير الصفوف أولها حتى بالنسبة للنساء؟ إذا قلنا إن العلة معقولة وهي أن سبب التفضيل هو بعد الرجال عن النساء إذا كان هناك نساء ورجال, وافترضنا أن هذه العلة ارتفعت ولا وجود لها بصلاة النساء في مكان مستقل, فهل نقول إن المرأة التي تصلي في مكان غير مستقل عن الرجال أفضل من المرأة التي تصلي في مكان مستقل أو العكس؟ أهل العلم يقولون إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, لكن العلة المنصوصة هي المؤثرة, وأما العلل المستنبطة فهي علل اجتهادية لا تؤثر ولا يدور معها الحكم وجوداً وعدماً, فيبقى أن صفوف الرجال خيرها أولها وشرها آخرها مطلقاً سواء كان معهم نساء أو ليس معهم نساء, وصفوف النساء شرها أولها وخيرها آخرها مطلقاً مع الرجال أو بدون الرجال.
معلوم أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من المسجد, والحديث واضح ولا اجتهاد مع النص, فالمرأة ينبغي أن تحرص على الصف المؤخر لأنه جاء في النص في الصحيح (شرها أولها), وليس لنا أن نجتهد إلا إذا كانت العلة منصوصة, ولا شك أن في الحديث تأييد للأصل وهو أن قرار المرأة في بيتها وصلاتها في بيتها أفضل لها وأنها مطلوب منها الستر والبعد عن رؤية الرجال.(1/29)
جاء في الحديث (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى): يعني الكبار العقلاء, فلا يترك المجال للسفهاء وللصغار, ومعنى هذا الحديث حث الكبار على التقدم إلى الصلاة والصفوف الأولى, وليس معناه طرد الصغار من الصفوف الأولى, لأن القاعدة أن من سبق إلى مباح فهو أحق به, ولا يجوز للأب أن يقيم ولده ليجلس مكانه. والأمر في هذا الحديث للاستحباب, فالتقدم إلى الصلاة والصف الأول سنة.
حديث ابن عباس (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة – الحديث - ): كان هذا في الليلة التي بات فيها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالته ميمونة بنت الحارث.
موقف الواحد مع الإمام عن يمين الإمام, ولو وقف عن يساره لم تصح صلاته, ولو وقف وراءه لم تصح لأنه منفرد.
إذا كان هناك اثنان فإنهما يصليان خلفه, وإن كان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فهذا فعله ابن مسعود ولعله لضيق المكان, وإلا فالأصل أن يتقدم الإمام في هذه الصورة.
في الحديث دليل على صحة صلاة المتنفل بالمتنفل, ولما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرة من الحصير ثابوا إليه وتتبعوه وصلوا وراءه, وفي رمضان انقطع في الليلة الثالثة أو الرابعة بعد أن صلى بهم في الليالي الأُوَل, وهذا يدل على أن الجماعة في النافلة لا بأس بها ما لم تتخذ عادة, فلا بأس بالصلاة جماعةً أحياناً.
قوله (فجعلني عن يمينه): الأكثر على أنه لا بد أن يكون مساوياً له يحاذيه بالأقدام والمناكب ويصافه مثل ما يصف المأموم مع المأموم في الصف, ويرى الشافعية أن الإمام يتقدم على المأموم شيئاً يسيراً لكي يتميز الإمام عن المأموم, وفي بعض ألفاظ حديث ابن عباس (فقمت إلى جنبه) ومقتضى هذا أنه يكون محاذياً له.
حديث أنس (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت ويتيم خلفه - الحديث - ): العطف على ضمير الرفع المتصل من غير فاصل يجوز عند الكوفيين وعليه جاء هذا الحديث, والأصل (فقمت أنا ويتيم) فلا بد من الفاصل, قال ابن مالك:(1/30)
وإن على ضمير رفع متصل عطفت فافصل بالضمير المنفصل أو فاصلٍ ما – بأي فاصل – وبلا فصلٍ يَرِد في النظم فاشياً وضعفه اعتقد.
هل يصلح أن يكون هذا الحديث دليلاً للكوفيين في تجويزهم مثل هذا؟ هل يحتج بالحديث على قواعد العربية أو بقول الصحابة العرب الأقحاح أو بقول التابعين لأنه في عصر الاحتجاج؟ الاحتجاج بالحديث في العربية مسألة مختلف فيها, لأن الحديث تجوز روايته بالمعنى ولا يمنع أن يكون هذا التغيير من بعض المتأخرين ممن لا يحتج بقوله, فالمسألة خلافية بين أهل العلم, ومن أراد بحث هذه المسألة فليطالع مقدمة خزانة الأدب للبغدادي, وهو مطبوع محققاً في ثلاثة عشر جزءاً وطبعته القديمة في أربعة مجلدات وهو كتاب نفيس.
كتاب خزانة الأدب لابن حِجة الحموي من الأدب المتأخر الذي فيه شيء من الركة, وهناك كتاب صغير في العربية اسمه خزانة الأدب لأحد المعاصرين, وهناك رسالة لامرأة عراقية في مسألة الاحتجاج بالحديث في العربية.
اليتيم اسمه ضَمُرَة أو ضُمَيرة بن سعد, وأم سليم هي أم أنس واسمها مليكة, وقوله (وأم سليم خلفنا) وفي رواية (صففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا) دل على أن المرأة لا تصاف الرجال بل تقف خلفهم, وأن الاثنين مقامهما خلف الإمام.
بعض أهل العلم يبطل الصلاة إذا تقدمت المرأة صفوف الرجال أو صفت مع الرجال في صفهم, وهذا هو المعروف عند الحنفية, ولا شك أن هذا في حال الاختيار لا يجوز, لكن في حال الاضطرار في أوقات المواسم والأماكن المزدحمة يجوز له أن يصف مع صف طويل فيه امرأة بعيدة عنه لأن هذه حاجة, كما أن يصف في الشارع إذا ضاق المسجد, لكن لا يجوز بحال أن يصف الرجل بجانب امرأة.
هل يستوي في المرأة أن تكون محرماً أو أجنبية؟ العجوز أم أنس, وعليه فالمرأة مقامها خلف الرجال ولو كانت من المحارم.(1/31)
مصافة الصبي: اليتيم الذي في الحديث غير مكلف, لأنه لا يتم بعد احتلام, فإذا كان مكلفاً فإنه لا يسمى يتيماً, فدل ذلك على أنه صبي, فتصح مصافة الصبي.
حديث أبي بكرة (أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم – الحديث - ): أبو بكرة هو نُفيع بن الحارث, خشي أن تفوته الركعة فركع دون الصف ثم مشى وهو راكع إلى الصف, وهذا لا شك يدل على حرصه, ولذا قال له (زادك الله حرصاً ولا تعد) ولو زاده الله حرصاً على ذلك لجاء قبل الإقامة, فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام بهذا وأثنى عليه بحرصه لأن الحرص على الخير ممدوح.
قوله (ولا تعد): أي إلى صنيعك هذا , فلا تحضر إلى الصلاة وأنت منبهر, لأنه مع هذا الحرص والإسراع يصاب بالبَهَر الذي هو تردد النفس بسرعة, وهذا لا شك أنه مخل بالخشوع, ولذا أُمر من يأتي إلى الصلاة بعد الإقامة أن يمشي وعليه السكينة والوقار, فالمعنى لا تعد إلى مثل هذا الفعل بأن تأتي متأخراً مسرعاً وتركع دون الصف, لكن عملك صحيح وصلاتك صحيحة لأنه لم يأمره بالإعادة.
في بعض الروايات (ولا تُعِد): أي صلاتك صحيحة ومجزئة فلا تعدها وإن كان جزء منها وقع خلف الصف.
في بعض الروايات (ولا تَعْدُ): من العدو وهو الإسراع, وعلى كل حال هذا العمل صحيح وإن كان خلاف الأولى, فالأولى أن يأتي الإنسان إلى الصلاة بسكينة ووقار, فإذا حصل مع هذا أن الإمام ركع وهو في سكينة ووقار وركع دون الصف ثم لحق بالصف فعمله صحيح.
الحديث يدل على أن بعض الركعة خلف الصف لا تخل بصحة الصلاة ما لم تكن ركعة كاملة, ويدل أيضاً على سقوط الفاتحة عن المسبوق الذي لم يدرك إلا الركوع, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الركعة لأن الفاتحة فاتته, فالفاتحة تجب على كل مصل إلا المسبوق.(1/32)
المسبحة إنما هي لعد التسبيح وضبط العدد, وتقوم الأصابع مقامها وهي الأصل في هذا وهي مستنطقة وتدفن مع الإنسان وتبعث معه وتستنطق يوم القيامة وتشهد للمسبح بها, وأما المسبحة فلا تصحبه, ولذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التسبيح بالأصابع, والمسبحة في حكم الحصى, ولا يُشَدَّد في أمر المسبحة لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على أم المؤمنين وإنما وجهها إلى الأكمل والأفضل, وهذا إذا سلمت المسبحة من مشابهة الكفار أو غلاة المبتدعة أو ما أشبه ذلك, فأقل أحوالها أنها خلاف الأولى.
الشرع جاء بتحريم البقاء بين أظهر الكفار وجعل للهجرة شأناً لأن البقاء بين أظهرهم فيه تكثير لسوادهم, وفي الحديث قدم الأقدم هجرة على الأقدم إسلاماً من باب الحث على تقدم الهجرة وعدم البقاء بين أظهر الكفار.
إذا كان المصلي ضيف في بيت فاسق فلمن تكون الإمامة؟ الأصل أن صاحب البيت هو صاحب السلطان فلا يجوز له أن يفتات عليه في سلطانه, وإن كان ممن لا يرى صحة إمامة الفاسق فعليه أن يخرج من هذا البيت ويبحث عن مكان يصلي فيه, وإن كان يرى الصحة وصلى وراءه أو استأذنه بأدب وأسلوب في أن يصلي وأذن له فالأمر لا يعدوه.
جاء في بعض الكتب أن مصليات النساء في المساجد بدعة لأنها لم توجد في عهد رسول الله صلى لله عليه وسلم؟ الجواب: اختلاط الرجال بالنساء لا سيما في أوقات الفتن محرم, وعزل الرجال عن النساء في هذه الأوقات التي تعظم فيها الفتنة واجب, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذا لم يضع المصلي سترة أمامه فكم المسافة التي يسمح فيها بالمرور من أمامه؟ أهل العلم يقدرون ثلاثة أذرع, فيكفيه ثلاثة أذرع, على أنه إذا لم يستتر فليس له أن يدفع, لأن الأمر بالدفع والمنع من المرور بين يديه مقرون بالاستتار (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه).(1/33)
إذا صلى المأموم عن يسار الإمام فصلاته ليست صحيحة, لكن قد يعذر بالجهل, والصلاة في الأصل ليست صحيحة, فيؤمر بإعادتها ولو احتياطاً. وإذا صلى أكثر من واحد عن يمينه, والأصل أن موقف هؤلاء يكون خلف الإمام.
حديث وابصة بن مِعبد الجهني (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة): وابصة بن معبد – بالكسر كمنبر – بن مالك أبو قِرصافة, صحابي سكن الكوفة ومات بالرقة.
الحديث صحيح ويشهد له الحديث الذي يليه (لا صلاة لمنفرد خلف الصف), ونسبه الحافظ لابن حبان برواية طلق بن علي, وصوابه علي بن الجعد بن شيبان, هكذا في صحيح ابن حبان.
الأمر بالإعادة يجعل التقدير المتعين لقوله (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) لا صلاة صحيحة, فهذا دليل على أن الصلاة خلف الصف باطلة.
زيادة الطبراني في حديث وابصة (ألا دخلت معهم أو اجتررت رجلاً) زيادة منكرة, في إسنادها السري بن إسماعيل وهو متروك بل صرح بعضهم بأنه كذاب, فالاجترار - وفي بعض ألفاظ الحديث الاختلاج والمراد به الاجترار - من حيث الرواية لا يثبت, ومن حيث المعنى له آثار من الاعتداء على الآخرين, فالذي أدرك فضل الصف الأول ثم جاء شخص متأخر واجتره ليصف بجواره قد اعتدى عليه, وأيضاً ترك في الصف فرجة وهذه مخالفة للأمر بسد الفرج, فالمخالفات من حيث المعنى كثيرة, وقد يتعرض الجار لبطلان صلاة المجرور لأن بعض الناس لا يتحمل مثل هذه الحركات فيصدر من الأفعال ما تبطل معه صلاته.(1/34)
على هذا فإن المسبوق أو الذي لا يجد مكاناً في الصف ولا يجد مساغاً إلى أن يصاف الإمام ينتظر حتى يأتي من يصلي بجواره ولو أدى ذلك إلى فوات الصلاة كلها, ولا يسوغ له بحال أن يعتدي على أحد, ولا يسوغ له أن يصف منفرداً خلف الصف لأنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف, وإذا صلاها منفرداً خلف الصف فإنه يعيدها لو صلاها, لكن لو كبر خلف الصف ثم صف بجانبه أحد الداخلين قبل أن تتم له ركعة فصلاته صحيحة لحديث أبي بكرة المتقدم حيث ركع خلف الصف ثم دخل في الصف, فجزء من صلاته كان خلف الصف ولم يتمم ركعة كاملة التي هي أقل ما يطلق عليه صلاة.
لو أن شخصاً من الصف الكامل الذي لا فرجة فيه سمع بوجود شخص لا يجد مكاناً في الصف فتبرع وتأخر بنفسه فما الحكم؟ هذا تصدق على صاحبه بطوعه واختياره وآثره بفضيلة الصف المقدم, والإيثار في القرب يطلقون الكراهة فيه لا سيما في النوافل, لكن إذا ترتب على هذا الإيثار مصلحة عظمى من إدراك شخص لصلاة الجماعة فهل يحمد أن يتأخر الشخص ليحسن على هذا المتأخر فيصحح صلاته؟ أو يقال له (الرجل قصد الجماعة فله مثل أجرهم سواء أدرك الجماعة أو لم يدرك ولا داعي لمثل هذا الإيثار)؟ قد يستدل للإحسان والإيثار في مثل هذا الموقف بحديث (من يتصدق على هذا).
لكن ماذا عن ما لو كان المتصدَّق عليه لئيماً بحيث لما تأخر الذي في الصف المقدم صف هذا المتصدَّق عليه بمكان صاحبه الذي أحسن إليه وتأخر من أجله بحجة أنه تأخر بطوعه واخيتاره؟ ما حكم صلاة المتأخر وصلاة اللئيم؟ المتأخر المحسن إذا أكمل ركعة خلف الصف صار منفرداً خلف الصف, فإن تمت له ركعة كاملة خلف الصف فصلاته باطلة, وأما اللئيم الذي دخل في الصف صلاته صحيحة على ما عنده من لؤم, لأن الحظر الذي ارتكبه كان لأمرٍ خارج عن الصلاة ولا يتعلق بذات الصلاة فصلاته صحيحة بلا إشكال وإن كان مذموماً شرعاً وعرفاً.(1/35)
المتأخر المحسن صار عنده تعارض بين صدقته على أخيه وبين تركه للصف الأول, فصار عنده مفاضلة بين أمور مستحبة, وإن كانت الفرجة في الصف أمرها أشد.
المخرج بالنسبة للمتأخر المحسن حتى لا تبطل صلاته لما صار منفرداً خلف الصف: ينوي الانفراد, لأنه إذا نوى الانفراد وهو خلف الصف فإن صلاته وهو منفرد صحيحة, ولا يمنع أن يتابع الإمام في الصورة لكن النية أنه منفرد, إنما الممنوع أن يصلي خلف الصف وهو يأتم بهذا الإمام, وحديث معاذ يدل على أن الشخص له أن ينوي الانفراد لعذر وتصح صلاته. فإن جاء معه أحد نوى الائتمام, لأنه كما أنه يجوز له أن ينوي الانفراد ويترك الجماعة فإنه يجوز له أن يدخل مع الجماعة بعد أن كان منفرداً.
قد يقال إن البقعة التي صلى عليها اللئيم مغصوبة فيكون حكم صلاته كحكم الصلاة في الدار المغصوبة, والذين يصححون الصلاة في الدار المغصوبة إنما يصححونها لأن النهي عاد على أمر خارج عن الصلاة ولا يعود إلى الصلاة نفسها لا إلى ذاتها ولا إلى ركنها ولا إلى شرطها فصلاته صحيحة مع التحريم.
من يصلي المغرب خلف من يصلي العشاء ينتظر في الركعة الرابعة ويسلم مع الإمام, وإن كان مسبوقاً بركعة فإنه يأتي بالركعتين مع الإمام التي هي الثانية والثالثة ثم يجلس لأن الركعة الرابعة بالنسبة للإمام زائدة في حق المأموم فينتظر فإذا سلم يأتي بما فاته.
اثنان خلف الصف دخلا جميعاً ثم تذكر أحدهما أنه ليس على طهارة أو أحدث ثم انصرف: هذه الصورة تدخل في عموم حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة.
الشافعي كأنه يشكك في ثبوت حديث الباب, وجرياً على عادته قال (لو ثبت هذا الحديث لقلت به), والبيهقي من كبار أتباعه يقول (الاختيار أن يتوقى ذلك لثبوت الخبر المذكور).
هناك أكثر من مؤلَّف في قول الشافعي (إن صح الحديث فهو مذهبي).(1/36)
من خالف في بطلان صلاة المنفرد خلف الصف يستدل بحديث أبي بكرة وأنه أوقع جزءاً من الصلاة خلف الصف وإذا صح الجزء صح الكل, وعرفنا أن دون الركعة لا يسمى صلاة فلا يدخل في النفي هنا.
الحافظ ابن حجر ليس بمجتهد في أبواب الاعتقاد بل هو مقلد, وأخطاؤه في بحار الحسنات يرجى زوال أثرها إن شاء الله تعالى, فالأخطاء موجودة عند ابن حجر وعند النووي وعند العيني وعند الكرماني, وجل الشراح وغالب المفسرين على هذا, وإذا كان الغالب هو الصواب والراجح من الكفتين كفة الحسنات فالمآل إلى خير إن شاء الله تعالى.
حديث أبي هريرة (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار – الحديث - ): الإسراع هو السعي إلى الصلاة, وفي صلاة الجمعة قال تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله), والسعي في الأصل هو الإسراع في المشي, لكن المعنى في الآية المسارعة في الحضور لا الإسراع في كيفية الحضور, والمسارعة جاء الأمر العام بها بقوله تعالى (سارعوا) وقوله (سابقوا), وليس معنى هذا الجري والركض لتحصيل الخير, وإنما المقصود به المبادرة إلى أفعال الخير, فالجمعة ليست مستثناة من هذا الحديث, وقوله (إذا سمعتم الإقامة) يشمل الإقامة للجمعة وغيرها.
ينبغي أن يكون ديدن المسلم التأني والوقار والسكينة, حتى في الأمور التي تظن في بادئ الرأي أنها تحتاج إلى شيء من العجلة, ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام علياً إلى خيبر قال له (انفذ على رسلك), ومعلوم أن العجلة من الشيطان والرفق لا يكون في شيء إلا زانه.(1/37)
لا نسرع إذا لم نسمع الإقامة من باب أولى, والعادة أن الإنسان إذا سمع الإقامة قد يوجد لنفسه مبرر للسرعة من أجل أن يدرك, بعضهم يسرع ليدرك تكبيرة الإحرام, وبعضهم يسرع ليدرك الركعة, وبعضهم يسرع ليدرك قراءة الفاتحة, وبعضهم يسرع ليدرك مكاناً في المسجد لأن بعض المساجد مع الإقامة تمتلئ لا سيما المساجد التي في الأسواق, وبعض الناس يسرع لأي غرض من الأغراض, فمثل هذا لا يجوز له أن يسرع.
قوله (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار): لأنه في صلاة, إذا خرج من بيته لا ينهزه ولا يدفعه إلى الخروج إلا الصلاة فإنه في صلاة, ولا يرفع رجله إلا بحسنة ولا يحطها إلا وتحط عنه خطيئة, والإسراع يفوِّت عليه كثير من هذه الحسنات لأنه يستلزم مد الرجل فيقل عدد الخطى. وقوله (وعليكم السكينة ..) أي تظهر وتبدو عليكم السكينة والوقار (ولا تسرعوا) هذا النهي تأكيد لمفهوم الأمر السابق.
قوله (فما أدركتم فصلوا): أي ما أدركتم مع الإمام قل أو كثر فصلوا, وفي هذا دليل لمن يقول إن الجماعة تدرك بإدراك أي جزء من الصلاة قبل سلام الإمام وهذا قول الأكثر, وفي كتب الحنابلة يقولون (من كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى أدرك الجماعة ولو لم يجلس).
القول الآخر أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة لقوله (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك) وهذا في الجمعة وغير الجمعة, ولقوله (من أدرك من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) ومثله في العصر, وأقل من ركعة لا يطلق عليه اسم الصلاة, فالذي لم يدرك ركعة كاملة لم يدرك الصلاة لأن ما دون الركعة لا يسمى صلاة, لكن حديث الباب دليل للأكثر على أن إدراك أقل من ركعة يسمى إدراك, لأن (ما) في قوله (فما أدركتم) من صيغ العموم, فيشمل أكثر من الركعة كما يشمل الركعة وما دون الركعة.(1/38)
جاء في رواية صحيحة (وما فاتكم فاقضوا): رواية (فأتموا) يستدل بها الشافعية والمالكية على أن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته, والقول الثاني وهو قول الحنابلة والحنفية على العكس من ذلك, فما يدركه المسبوق هو آخر صلاته وما يقضيه هو أول صلاته لرواية (وما فاتكم فاقضوا) والقضاء يحكي الأداء, فيكبر ويستفتح ويأتي بالفاتحة وسورة معها إذا شرع في القضاء, لكن إذا أمكن تصور مثل هذا في الأقوال فلا يمكن تصوره في الأفعال.
الراجح هو القول الأول, وتحمل رواية (فاقضوا) على رواية (فأتموا), وجاء القضاء والمراد به الأداء كما في قوله تعالى (فقضاهن سبع سموات) ولا يقال إنها فعلت في غير وقتها, فيكون حينئذ معنى الحديث (فما أدركتموه مع الإمام فصلوه معه - ولو لم تعتدوا به إذا كان مما لا يعتد به كأقل من ركعة - وما فاتكم فأتموا – أي أضيفوا إليه - ), كما جاء في حديث (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس - وفي بعض الروايات - وأضاف إليها أخرى - يعني ولو بعد طلوع الشمس - فقد أدرك الصبح). فكون معنى القضاء الوارد في بعض الروايات هو معنى الأداء والإتمام يشهد له نصوص الكتاب والسنة ولغة العرب.
يرد على القول الثاني أن تكبيرة الإحرام إنما هي في الركعة الأولى والسلام إنما يعقب آخر الصلاة ولا يعقب أول الصلاة, وأيضاً صورة الصلاة وكيفيتها تختلف إذا قلنا بهذا القول.
مقتضى قوله (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) أنه لو أدرك سجدتين مع التشهد من الركعة الأخيرة فإنه يقضي الركعات كلها فإذا لم يبق عليه سوى السجدتين والتشهد له أن يسلم مباشرة, لكن هذا لم يقل به أحد من أهل العلم ألبتة, بل إذا فاتته ركعة أتى بالركعة بجميع لوازمها, والتشهد لا بد من الإتيان به لأنه وقع في غير موقعه من صلاته.(1/39)
جاء في صلاة الجمعة على وجه الخصوص (من لم يدرك ركعة كاملة فإنه يأتي بها ظهراً) يعني لا يقضي ما فاته فقط ولا يتم ما فاته فقط بل عليه أن يصليها ظهراً.
حديث أبي بن كعب (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده – الحديث - ): لا شك أن ما يؤديه المسلم على الوجه المطلوب المجزئ المسقط للطلب أجره واحد إلا أن هذا الأجر قد يزيد بما يحتف به من أمور كصلاة الجماعة, فقد تقدم أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة, وصلاة الرجل مع رجلين أفضل من صلاته مع رجل واحد, وصلاته مع ثلاثة أفضل من صلاته مع اثنين وهكذا, (وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل).
على هذا ينبغي أن يحرص الإنسان على المساجد التي تكثر فيها الجموع, لأن ما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل, ويفضلون أيضاً بقدم المسجد, ويفضلون أيضاً بفضل الإمام, فإذا كان الإمام من أهل الفضل فالصلاة وراءه أفضل, ولذا معاذ رضي الله عنه كان يصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام ثم يصلي بقومه إدراكاً لفضل الصلاة خلفه عليه الصلاة والسلام.
حديث أبي بن كعب حسن, وصححه ابن حبان لكنه لا يصل إلى درجة الصحة.
قوله (صلاة الرجل مع الرجل) أي الواحد مع الواحد (أزكى من صلاته وحده) لأنها جماعة, فإثنان فما فوقهما جماعة, وجاء في هذا حديث في سنن ابن ماجه وهو ضعيف, لكن البخاري رحمه الله بوب (باب: اثنان فما فوقهما جماعة) واستدل بحديث مالك بن الحويرث (وليؤمكما أكبركما), ففيه دليل على أنها جماعة تكونت من اثنين, فالاثنان فما فوقهما جماعة, لكن كلما كان العدد أكثر فهو أفضل لقوله (وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل).(1/40)
أيهما أفضل: أن يصلي خلف شخص يتأثر بالصلاة خلفه ويقبل على صلاته لكن هذا الإمام لا يصلي خلفه إلا عدد يسير عرفوا بالصلاح والتقى والإقبال, أو أن يصلي في مسجد سوق الجماعة فيه كثيرة لكن إقباله على صلاته في هذه الحالة أقل؟ يقال: الفضل المرتب على العبادة نفسها أولى من الفضل المرتب على ما يحتف بها, وهنا كثرة الجماعة مما يحتف بالصلاة.
مثل ذلك ما يُسأل عنه كثيراً في الأوقات الفاضلة في العشر الأخيرة من رمضان: إمام المسجد في بلدي الجماعة فيه قليلة لكن قراءته مؤثرة وإذا صليت وراءه أقبلت على صلاتي بكليتي, وإذا صليت في أحد الحرمين مع كثرة الجموع قد لا يتسنى لي الخشوع, فأيهما أفضل؟ يقال: لا ينبغي أن يقال لكل الناس لا تذهبوا إلى الحرم بحجة تجنب الزحام, بل يحثون على الذهاب مع الحرص على تحصيل الخشوع, وعلى الإنسان أن يتطلب أماكن التضعيف, لأن الأحاديث في التضعيف لم تأتِ عبثاً, إنما جاءت لأمر محقق مرتب على هذه البقع المقدسة, لكن إذا كان الشخص لا يستطيع أن يقبل على صلاته في هذه الأماكن فإنه يقال له (صلِّ في أي مكان يجتمع فيه قلبك).
بل يزداد الأمر سوءاً إذا كان الشخص إذا ذهب إلى تلك الأماكن لا يستطيع أن يحفظ بصره, فهل يقال إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فينهى عن الذهاب؟ أو يقال (اذهب واحرص على غض البصر)؟ الجواب: إذا عجز عن كف بصره لأنه يتذرع بكثرة مواجهة هؤلاء النساء فلا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, فإذا كان لا يستطيع أن يؤدي العبادة التي هو بصددها إلا مع ارتكاب محظور فينبغي ألا يقدم على ذلك.(1/41)
مسألة تعارض الأمر مع النهي, أيهما المقدم؟ مثال: إذا كان الذهاب إلى المسجد لآداء الصلاة يترتب عليه اختلاط بنساء في الطريق فإن كانت الصلاة التي يقصد الصلاة من أجلها سنة يقال له (ترك المأمور مع اجتناب المحظور أفضل, فصل في بيتك) وإن كانت فريضة يقال له (اذهب إلى المسجد ولو اعترضك في طريقك محظور), لأن كل شيء بحسبه, فالأوامر فيها العظائم وفيها ما دون ذلك, والنواهي كذلك, والقول بأن ارتكاب المحظور أخف من ترك المأمور أو العكس ليس على إطلاقه.
مثال آخر: إذا كان في الطريق إلى المسجد شباب يلعبون وقت الصلاة ولا يستطيع أن ينكر عليهم فإنه يلزمه الذهاب مع أن إقرار هذا المنكر منكر, بخلاف ما لو كان في الطريق إلى المسجد بغي وعندها ظالم يلزم كل من مر بها بالوقوع عليها فإنه يترك صلاة الجماعة لئلا يقع في هذا المنكر العظيم, لأن هذه الأمور تقدر بقدرها, فالنواهي متفاوتة والأوامر متفاوتة, فلا ينبغي إطلاق القول بأن ارتكاب المحظور أسهل من ترك المأمور - كما يقول شيخ الإسلام - أو العكس كما يقوله غيره.
حديث أم ورقة (أمرها أن تؤم أهل دارها): أم ورقة بنت نوفل الأنصارية, كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها ويسميها الشهيدة, وهذه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام وعلم من أعلام نبوته, فقد كان لها غلام وجارية أعتقتهما عن دبر, فاجتمعا عليها في ليلة فغماها بقطيفة فماتت في عهد عمر, فبحث عنهما فصلبهما, كذا جاء في السير.
في الحديث دليل على صحة إمامة المرأة, أما إمامتها بالنساء لا إشكال فيها, لكن النص يحتمل أن يكون من أهل دارها من هو من الذكور, فهي تؤم أهل دارها وأهل دارها فيهم الذكور وفيهم الإناث, اللهم إلا إذا أمكن أن نخرج من هذا الإشكال بأن الذكور إنما يصلون في المساجد, يعني تؤم من له أن يصلي في البيت وهم النساء والصبيان.(1/42)
أجاز المزني وأبو ثور صلاة المرأة بالرجال, وأجاز الطبري أن تصلي بالرجال صلاة التراويح, لكن الجماهير على أن المرأة لا تؤم الرجال بحال من الأحوال, فتبقى إمامة أم ورقة في دارها بمن له أن يصلي في الدار.
حديث أنس (استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى): استخلفه على المدينة مراراً إذا خرج لغزو, أوصل بعضهم مرات استخلافه إلى ثلاث عشرة مرة.
لا خلاف في جواز إمامة الأعمى بالمبصرين, والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من غير كراهة لأن هذا فعله عليه الصلاة والسلام.
لكن الخلاف في أيهما أفضل: إمامة الأعمى أو إمامة المبصر؟ من أهل العلم من يفضل الأعمى لأن ذهنه لا يتشوش بسبب ما يراه, ولذا يستحب بعضهم أنه إذا كان تغميضه لعينيه أجمع لقلبه فإنه يغمض عينيه ويصلي, وإن كان القول المحقق أنه لا يغمض عينيه لأن هذا من فعل اليهود, وعلى كل حال إذا كان أعمى فإنه لا يحتاج إلى أن يغمض عينيه, فإذا كان يطلب من المبصر أن يغمض عينيه لئلا يتشوش ذهنه وليجتمع قلبه فالأعمى متوفر فيه ذلك من غير مشابهة اليهود. ومنهم من يفضل المبصر لأنه يخرج من عهدة النجاسات بيقين ويسبغ أعضاء الوضوء بيقين, والأعمى قد يتلبس بنجاسة وهو لا يشعر بخلاف المبصر.
وعلى كل حال أصل المسألة أنه لا مفاضلة ولا ممايزة, لكن كل إنسان بحسبه, لأن بعض العميان أحرص من المبصرين, بحيث يخرج من عهدة الواجبات بيقين ويتوقى النجاسات بيقين, وهذا يرجع إلى حرصه, وبعض الناس لا يكترث ولو كان مبصراً, فكل إنسان بحسبه ولا يرجح بوجود البصر أو بفقده, والنبي عليه الصلاة والسلام هو الإمام وهو مبصر واستخلف ابن أم مكتوم وهو أعمى فدل على جواز الأمرين من غير مفاضلة.(1/43)
قال الحافظ (ونحوه لابن حبان عن عائشة رضي الله عنها): وهو أيضاً في الأوسط للطبراني أن النبي عليه الصلاة والسلام استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يؤم الناس, وعلى كل حال هو شاهد للحديث السابق, والحديث صحيح بشواهده.
حديث ابن عمر (صلوا على من قال لا إله إلا الله, صلوا خلف من قال لا إله إلا الله): الحديث رواه الدارقطني, يقول الحافظ (بإسناد ضعيف) لكن لا يكفي أن يقال ذلك لأنه شديد الضعف, وطرقه كلها لا تثبت, فهو ضعيف جداً.
قوله (صلوا على من قال لا إله إلا الله): يعني على المسلم الذي يقول لا إله إلا الله, وفي الحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله – الحديث - ), فمن قال لا إله إلا الله دخل في الإسلام, فإذا أتى بناقض من نواقض هذه الكلمة فإنه لا يصلى عليه.
قوله (وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله): يعني خلف المسلم براً كان أو فاجراً, ومسألة الصلاة خلف الفاسق خلافية.
يوجد من يقول لا إله إلا الله ولا يأتي بناقض بل قد يرتكب ما يحرمه من صلاة الإمام عليه, فالمدين لما قُدِّم إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال (صلوا على صاحبكم), وكذلك الغال يعزر بترك صلاة الإمام عليه ويصلي عليه الناس, وكذا قاطع الطريق وقاتل نفسه.
الشهيد لا يغسَّل ولا يصلى عليه, والمسألة خلافية بين أهل العلم, لكن هذا هو المعتمد.
حديث علي (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام): رواه الترمذي بإسناد ضعيف, لأن فيه الحجاج بن أرطاة وهو مضعف عند أهل العلم, لكن له شواهد عند الترمذي - من حديث معاذ - وعند غيره, والمقصود أنه بشاهده حسن.
مقتضى الحديث أنه إذا كان الإمام على حال فإنه يتابعه مباشرة بلا تكبير, لكن المجمع عليه أن تكبيرة الإحرام تكون في أول الصلاة, فيكبر ثم بعد التكبير يتابع الإمام.(1/44)
بعض الناس إذا جاء والإمام راكع كبر ولأنه يعرف من حال الإمام أنه يطيل الركوع فإنه يستفتح ويتعوذ ويقرأ الفاتحة ثم يركع ويدرك الإمام - وهذا قد يُفعل في التهجد أو في صلاة الكسوف – لكن هذا مخالف للحديث (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام), لكن تكبيرة الإحرام لا بد منها, فيكبر للإحرام ثم يتابع الإمام.
إذا أدرك الإمام في أقل من ركعة عليه أن يتابع الإمام لقوله (فما أدركتم فصلوا), لكنه لا يعتد بما أدركه, فعليه أن يقضي جميع ما فاته.
النرد والشطرنج جاء فيه بعض الأخبار المرفوعة والموقوفة, وأما بالنسبة للعب الورق ففيه شبه منه, وإذا تجرد عن جميع الآثار السيئة من ألفاظ بذيئة أو تضييع لواجبات فأقل أحواله الكراهة.
هل هناك حديث أو أثر يحذر من الزواج من القريبات؟ يذكر عن عمر رضي الله عنه أن نكاح المرأة البعيدة أنجب, ونكاح القريبة مذموم عند العرب لأن الولد يخرج نِضْوَ الخلقة, لكن لم يطرد هذا ولم ينعكس, وجد النجباء من القريبات ووجد غيرهم من البعيدات, فالمدار على الدين, والفقهاء يستحبون أمور لم يدل عليها دليل لكن يعللون لها, فعندهم الأجنبية أفضل من القريبة والتي ليس لها أم أفضل من التي لها أم, فعندهم أمور كن الواقع يشهد بخلاف ذلك.
إذا تمت لك ركعة وأنت منفرد خلف الصف فإن صلاتك لا تصح وعليك أن تعيدها.
مصافة الصبي صحيحة إذا كان مميزاً يحسن الصلاة لحديث أنس مع اليتيم, كما أن إمامته صحيحة, فإذا كانت الجماعة تتكون من بالغين وصبي فإن الصبي والبالغ الآخر يصفان خلف الإمام, ولا يقال إن الصبي والبالغ يصفان عن يمين الإمام.
جاء في حديث الرجل الذي وقصته ناقته في عرفة (ولا تخمروا رأسه) وفي بعض الروايات (ولا تخمروا وجهه) وإن قال بعضهم إن هذه الزيادة غير محفوظة, لكن ما دامت في صحيح مسلم الذي تلقته الأمة بالقبول فإنه ينبغي أن يجتنب المحرم تغطية وجهه حتى أثناء النوم.(1/45)
المأموم الذي يصلي خلف إمام قراءته سريعة ولا يتمكن من قراءة الفاتحة تسقط عنه قراءتها كالمسبوق.
الصلاة بين السواري مكروهة وجاء النهي عنها, ومن دخل المسجد ولم يجد إلا الصف الذي بين السواري – وابتداء هذا الصف بين السواري لم يكن لحاجة لوجود مكانٍ متسع في المسجد - فإنه يصف معهم بلا كراهة لأن الكراهة تزول بأدنى حاجة.
من تابع الإمام على ركعة زائدة وهو يعلم أنها باطلة تبطل صلاته, ومثله المسبوق لو علم أن هذه الركعة زائدة وتابع الإمام عليها بطلت صلاته ولو علم بعد سلام الإمام أنها زائدة فإنه يأتي ببدلها لأنها باطلة لا يُدرك بها شيء من الصلاة, لأنها زائدة والزائد باطل.
من حجز مكاناً للدرس وكان الفاصل بين ذهابه وبين إتيانه إلى الدرس يسيراً فلا بأس, وأما إن كان الفاصل طويلاً فلا يجوز له حجز المكان لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به.
قوله (ولا تعد) - أي لا ترجع - يدل على النهي, لكن لا يدل على أنه لو فعل فالصلاة غير صحيحة, بل الصلاة صحيحة لو فعل كفعل أبي بكرة ويدرك بها الركعة.
إمامة الأعمى للنساء: إذا أمنت الفتنة والنساء لا يجدن من يصلي بهن ويشق عليهن الخروج إلى المسجد وارتفعت الخلوة وتحققت المصلحة فمن أهل العلم من يرى أنه لا بأس بذلك, مع أنه غير مرغوب فيه بالجملة.
إذا لم يستطع مصافة أحد في الصلاة ولم يجد مكاناً إلا خلف الصف فله أن يصلي منفرداً لأن الواجب يسقط مع العجز.(1/46)
حكم زواج المسيار: هو عبارة عن زواج خالٍ عن الإعلان وقد تتنازل فيه المرأة عن بعض حقوقها فترضى باليسير من الصداق والنفقة وقد تتنازل عن السكن وتتنازل عن القسم, فإذا اكتملت الشروط والأركان وانتفت الموانع من الطرفين وخرج عن كونه نكاحاً خفياً بالشهود فإنه نكاحٌ صحيح, وما زاد على ذلك من إعلان النكاح فهو سنة, فلا بأس بهذا النكاح إن شاء الله. لكن ينبغي ألا ننظر إلى بعض الصور التي يحصل فيها بعض التجاوزات فندخلها في الحكم, بل كل صورة لها حكمها.
ذكر الشيخ أنه لا يقرأ من كتب المتأخرين إلا نادراً وعمدته كتب المتقدمين.
الهبة للزوجة إذا لم يكن لها ضرة: العدل بين الأولاد في الهبة هو الواجب, وأما الزوجة فلا يجب التعديل بينها وبين بقية الورثة إلا بين الزوجات, فإذا لم يوجد لها ضرة ولم يقصد بإعطائها هذه الهبة حرمان بعض الورثة من الإرث ولم يكن ذلك في المرض المخوف فلا بأس به إن شاء الله تعالى.
مكافأة أحد الأبناء وإعطائه مالاً لتخرجه من الجامعة مثلاً: إذا كان الهدف من هذه الهبة حث البقية على مضاعفة الجهد وتحصيل العلم فالأمور بمقاصدها ولا بأس به إن شاء الله تعالى, على أن يعطي الآخرين إذا وصلوا إلى مثل هذه المرحلة.
الأصل أن الإقامة في بلاد الكفار حرام والهجرة واجبة, لكن إذا كان لا يستطيع الهجرة ولا بالحيلة للوصول إلى بلاد المسلمين فهو معذور, لكن عليه أن يحتاط لدينه, ولا يجوز بحال أن يختلط بالنساء لتحصيل مندوب كتعلم العلم ولو كان العلم الشرعي, لأن المندوب الذي لا يتوصل إليه إلا مع ارتكاب محظور ينقلب إلى محظور.
فضل صلاة الجماعة خاص بالرجال لأن أفضل صلاة المرأة في بيتها وبيتها خير لها وفضل الله جل وعلا واسع, ولو قيل إنه يحصل للنساء في بيوتهن ما يحصل للرجال في المساجد جماعةً لما بَعُد.
المأذون في اقتنائه من الكلاب: كلب الصيد وكلب الزرع وكلب الماشية.(1/47)
أمره للرجلين (فصليا) صرفه قوله (فإنها لكما نافلة) من الوجوب إلى الاستحباب, لكن ينبغي أن نفرق بين أمره عليه الصلاة والسلام وأمر غيره, فمواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة الأمر معصية, لكن يبقى أن الأصل في هذا الأمر الاستحباب.
من أتاها دم يسير ثم تركت الصلاة لأجله وتبين لها بعد ذلك أنها حامل فعليها أن تقضي ما تركته من الصلوات لأن الحامل لا تحيض.
التضعيف في المدينة خاص بالمسجد ولا يشمل المدينة كلها, وأما بالنسبة للمسجد الحرام فمكة كلها حرم عند الجمهور والتضعيف شامل للبيوت.
حكم لمس الكلب: اليابس عند أهل العلم لا ينجِّس اليابس, لكن إذا ابتل الكلب أو ابتلت اليد فالجمهور على أنه نجس لا بد من غسل ما لامسه, وإن قال الإمام مالك رحمه الله بطهارته.
أليس قوله (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله) كافٍ في ترك قيام الليل؟ هذا الحديث لا يقتضي ترك قيام الليل, كما أن قوله (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر( لا يقتضي ترك الصلوات الخمس بين كل رمضانين ولا يقتضي ترك الواجبات الأخرى التي بين الصلوات, فالنصوص لا يضرب بعضها ببعض, وإنما هذا من مزيد فضله جل وعلا على عباده ومما تضاعف به الأجور, وتشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي اتفاق المشبه بالمشبه به من كل وجه, فقراءة القرآن كاملاً تشتمل على أجر ثلاثة ملايين حسنة, وليس معناه أن من قرأ قل هو الله أحد يحصل له أجر مليون حسنة, لأن تشبيه الشيء بالشيء في النصوص لا يقتضي التشبيه من كل وجه, وقد جاء تشبيه المحمود بالمذموم من الوجه المحمود, لأن المذموم يشتمل على أكثر من وجه, فجاء تشبيه الوحي بصلصلة الجرس والجرس مذموم, فالجرس له أكثر من وجه, وجه محمود ووجه مذموم, فشُبِّه الوحي بالوجه المحمود دون الوجه المذموم, وعلى كل حال التشبيه لا يقتضي المطابقة من كل وجه.(1/48)
مشاهدة مباريات الكرة في التلفاز أقل ما فيها تضييع الأوقات ومشاهدة العورات, وهذا على القول بأن الكرة غير محرمة, وأما على القول بتحريمها وقد قال به بعض العلماء فمشاهدة الحرام حرام.
في الحرم عليه أن يجتهد في البحث عن صف تام مستقيم متراص لا يتخلله أعمدة ولا سوراي, فإن لم يجد فالمشقة تجلب التيسير.
توسعة المسجد النبوي لها حكم الأصل, فيشملها التضعيف, وإن كان بعض أهل العلم يستدل بقوله (مسجدي هذا) وبالإشارة إلى المسجد القائم في ذلك الوقت على أن التوسعة ليست داخلة في التضعيف, لكن فضل الله واسع مادام أن هذا مسجد وزيد فيه ما زيد ويطلق عليه أنه مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
إذا لم يأت الإمام فأولى الناس بالإمامة هو الأقرأ, فيستوي الجميع, ولا يقال إن المؤذن هو الأولى بالإمامة, لأن الحق معلق بالإمام نفسه, والمؤذن أملك بأذانه وإقامته, والإمامة يمكلها الإمام, لكن إذا كان هناك إنابة من الإمام للمؤذن فإن المؤذن حيئنذ يكتسب الحق من إنابة الإمام, وأما إذا لم يُنِبْهُ الإمام فشأنه شأن غيره.
له أن يذهب إلى غير مسجد حيه بقصد البحث عما هو أنفع لقلبه, لكن إن أدى فعله هذا إلى إثارة الشحناء بين جماعة المسجد فالجماعة إنما شرعت لإزالة الشحناء من النفوس, فعليه أن يصلي في مسجد حيه.
إن كان الفراغ الذي في جوانب الصفوف إنما اتخذ طريقاً للحاجة إليه فإنه لا يعد فرجة, وإن كان لا يُحتَاج إليه فهو فرجة.
أيهما يقدم الأكبر سناً أم الأقدم إسلاماً وأي الروايتين (سلماً) أو (سناً) أرجح؟ لكل منهما وجه في التقديم, وهما روايتان في موضع واحد, فهذه بدل هذه, ورواية (سلماً) أرجح من رواية (سناً), على أن رواية السن لها ما يؤيدها من النصوص الأخرى في تقديم الكبير في الصلاة وغيرها.
إن لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة بتمامها في سكتات الإمام فليكملها على أي حال.(1/49)
مقيم صلى العشاء خلف مسافر يصلي المغرب ما حكم التشهد في الركعة الثالثة بالنسبة للمقيم؟ هذا التشهد الزائد الذي في الركعة الثالثة بالنسبة للمقيم لا أثر له لأنه إنما ثبت تبعاً للائتمام بهذا الإمام المسافر ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً. وإن انتظر حتى يصلي خلف مقيم على الوجه المشروع ولم يدخل مع هذا المسافر فلا بأس.
ألا يقال إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى (فأجب) بعد سؤاله إياه (أتسمع النداء) محمول على إجابة المؤذن؟ السؤال كان عن الترخيص في عدم حضور الجماعة, ولا يمكن أن يتصور هذا من النبي عليه الصلاة والسلام, لا يمكن أن يتصور أنه يُسأل عن شيء في غاية الأهمية ثم يجيب بما هو دونه, لكن قد يُسأل عن الدون فيجيب بما هو أهم.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ربيعٍ الثاني عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ظهر السبت التاسع من شهر جمادى الأولى من العام نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(1/50)
مهمات شرح أحاديث سجودي التلاوة والشكر من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
حديث أبي هريرة في سجودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورتي الانشقاق والعلق: مقتضى إدخال أحاديث سجود التلاوة وسجود الشكر في أبواب الصلاة أنه يُسجَد للتلاوة داخل الصلاة وكذلك يُسجَد للشكر عند تجدد النعم داخل الصلاة (سجدة ص سجدة شكر فتُسجد داخل الصلاة) وهذا يذهب إليه كثير من أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم إن سجود الشكر لا يُسجَد في الصلاة, لأن وقته واسع, فعند تجدد النعم يسجد خارج الصلاة, وأمره أوسع من سجود التلاوة, لأن التلاوة قد تكون في الصلاة وهي سنة تفوت ولأن النبي عليه الصلاة والسلام سجد للتلاوة داخل الصلاة وخارج الصلاة.
سجود التلاوة سنة عند الجمهور, وأوجبه أبو حنيفة, ويميل شيخ الإسلام إلى الوجوب.
في القرآن سجدات اختلف في عددها أهل العلم ومجموعها خمس عشرة سجدة.
قال جمع من أهل العلم بأن كل الخمس عشرة سجدة في القرآن عزائم فتُسجَد. وأخرج بعضهم سجدة ص وقال إنها سجدة شكر وليست من عزائم السجود. وأخرج بعضهم السجدة الأولى من سورة الحج. وأخرج مالك سجدات المفصل الثلاث. وحديث الباب يرد على من يخرج سجدات المفصل كالمالكية.
حزب المفصل يبدأ من ق, وبعضهم يقول إنه يبدأ من الحجرات, لكن الأكثر على أنه يبدأ من ق.
من أهل العلم من يرى أن سجود التلاوة صلاة فيشترط له ما يشترط للصلاة, فيدخل في حديث (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ويشترط له ستر العورة والاستقبال والافتتاح بالتكبير والختم بالتسليم وهو قول معتبر. لكن من أهل العلم - وهم الأكثر - من يرى أن السجدة المفردة ليست بصلاة, فلا يشترط لها ما يشترط للصلاة, وقد نقل البخاري عن ابن عمر أنه ينزل من راحلته فيقضي حاجته ثم يركب فيقرأ القرآن ويسجد على غير طهارة.(2/1)
من يرى أن سجود التلاوة ليس بصلاة يقول بجوازه حتى في أوقات النهي لأنه ليس بصلاة, لكن هاهنا دقيقة وهي أن الصلاة إنما منعت في أوقات النهي لأن الكفار يسجدون عند طلوع الشمس وعند غروبها, فمنعنا من الصلاة لئلا نسجد في هذا الوقت, فلماذا لا يُمنَع السجود في وقت النهي؟ الجواب: أجزاء الصلاة ليست بصلاة, فالركعة المفردة ليست بصلاة, وكذا السجدة المفردة والقيام المفرد والتلاوة المفردة والتسبيح المفرد والتكبير المفرد, كل ذلك على انفراده ليس بصلاة.
الذين قرروا أن سجود التلاوة ليس بصلاة يرون جوازه في أوقات النهي, كقراءة القرآن في أوقات النهي, وكما يقف الإنسان في أوقات النهي, مع أن التلاوة والوقوف من أجزاء الصلاة لكنه لا يقصد الصلاة بذلك.
هذه الدقيقة نظير منع المرأة من السعي الشديد بين العلمين في المسعى والسعي إنما شرع بسبب سعي امرأة, وبالنسبة لنا فإنا نفعله اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم, لكن العلة في المشروعية هي كون امرأة سعت في هذا الموضع.
وهنا مُنِعنا من الصلاة في أوقات النهي لئلا نسترسل فنصلي إلى أن نصادف الوقت الذي يسجد فيه المشركون للشمس أو للشيطان الذي يتمثل مع طلوع الشمس ليصور أنهم يسجدون له, فهل نسجد للتلاوة وقت النهي لأن السجود بمفرده ليس بصلاة أو لا نسجد باعتبار أن علة النهي عن الصلاة في وقت النهي هي لئلا نشابه المشركين الذين يسجدون للشمس؟
الأصل أن يمسك الإنسان في الأوقات المضيقة عن جميع ما يشمله مسمى الصلاة.
ثبت عن ابن عمر أنه يسجد للتلاوة على غير طهارة, ولا يقال إنه سجد إلى غير جهة الشمس, لأن القارئ إذا سجد للتلاوة في وقت النهي فإنه لا يطرأ في باله أنه يسجد للشمس.
المجوس الكفار يعبدون النار, ولذا كره جمع من أهل العلم الصلاة إلى النار, والنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف مُثِّلت له النار في قبلته.(2/2)
الذي يستشعر أنه يسجد للنار أو للعصا المنصوبة أو للسارية – وقد جاء النهي عن الصمود للسارية لئلا يتصور أنه يسجد لها - فهو ممنوع من السجود ولو كانت هذه الأمور خلفه, ولو في أي وقت, ولا يلزم أن يكون في وقت معين, لأن المسلم يسجد لله بلا شك, لكنه مُنِعَ من الصلاة في أوقات النهي لئلا يشابه المشركين.
الخلاصة: الذي يرى أن سجود التلاوة صلاة فإنه يمنع منه في وقت النهي لأنا ممنوعون من الصلاة في هذا الوقت, والذي يرى أنه ليس بصلاة فإنه يرى أن الإنسان يسجد كيفما شاء ولو إلى غير القبلة ولو بلا طهارة ولو بلا سترة, مثل القراءة والقيام, فالقراءة جزء من الصلاة لكنها ليست بصلاة وكذا القيام, فله أن يقرأ في وقت النهي وله أن يقف في وقت النهي.
حديث ابن عباس (ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها): المراد بالركوع في قوله تعالى (وخر راكعاً) السجود, لأن الركوع يأتي ويراد به السجود كما هنا, ويأتي السجود ويراد به الركوع كما في قوله (من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) وقال الراوي (والسجدة إنما هي الركعة).
فالسجدة التي في سورة ص ليست من عزائم السجود, وإنما هي سجدة شكر. وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام بسند لا بأس به أنه قال (سجدها داود توبة وسجدناها شكراً).
قوله (وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها): أي شكراً لله عز وجل, لأننا مأمورون بالاقتداء بالأنبياء فيما لم يرد شرعنا بخلافه (فبهداهم اقتده), وقد سجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/3)
سجدة ص سجدة شكر, لكن هل تُسجَد في الصلاة؟ الحنابلة يبطلون الصلاة إذا سجد سجدة ص داخل الصلاة لأن أمر الشكر عند تجدد النعم واسع وغير مرتبط بصلاة ولا قراءة. لكنها في مثل هذه الصورة مرتبطة بقراءة فأشبهت سجود التلاوة, ولذا يرى جمع من أهل العلم أنها تسجد حتى في الصلاة وإن لم تكن من عزائم السجود. نعم ترك السجود فيها أسهل من ترك السجود في غيرها وإن كان الجميع سنة, فعزائم السجود آكد من مثل هذه السجدة التي هي سجدة شكر وليست من العزائم.
عزائم السجود أي السجدات المؤكدة التي هي للتلاوة.
حديث ابن عباس في سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجم: سجدة النجم من سجدات المفصل وهي من عزائم السجود عند الجمهور خلافاً للمالكية.
سجد بالنجم وسجد معه من حضر حتى من المشركين, فهي من العزائم, لكن السجود فيها ليس بواجب بدليل حديث زيد بن ثابت (قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها).
المستمع حكمه حكم القارئ عند أهل العلم, فإذا سجد القارئ سجد المستمع. ومنهم من يشترط أن تصح إمامة القارئ للمستمع, لأنه حينئذ إذا سجد لقراءته فكأنه إمام له, فيشترط له ما يشترط للإمام.
النبي عليه الصلاة والسلام سجد في سورة النجم واستمعوا لقراءته فسجدوا معه,
قال زيد بن ثابت (قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها): إذا كان القارئ يقرأ بنية التعليم والتلقين أو الحفظ ولم يقصد التلاوة, وكان يكرر آياتٍ فيها آية سجدة, هل يسجد مرة واحدة وتكفيه ويحصِّل ثواب سجدة التلاوة أو لا يسجد أصلاً لأن التلاوة غير مقصودة له أو يسجد في كل مرة؟ الجواب: القراءة بنية التعليم أو الحفظ تختلف عن القراءة بنية التلاوة, لكن لو سجد مرة واحدة وحصَّل الأجر المرتب على هذه السجدة وخرج من خلاف من يقول بوجوب السجود لكان أولى, والسجدة الواحدة تكفي لأن المسبَّب لا يتكرر بتكرر سببه, ولا يُلزَم بأن يسجد بعدد التلاوات,(2/4)
الكلام كله في السنية, فلو لم يسجد لم يأثم عند الجمهور, خلافاً لأبي حنيفة فعنده يأثم.
التلاوة في حال تلقين القرآن وتعليمه لغيره وفي حال التكرار من أجل الحفظ غير مقصودة وإنما المقصود التعلم والتعليم.
حديث خالد بن معدان أنه قال (فضِّلت سورة الحج بسجدتين): رواه أبو داود في المراسيل وهو موجود أيضاً في سنن أبي داود, والعدول عن السنن إلى المراسيل نقص وخلل في المنهجية في التخريج. والمرسل من أقسام الضعيف.
الحديث نفسه موصول عند أحمد والترمذي من حديث عقبة بن عامر وزاد (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) وسنده ضعيف: مدار حديث عقبة بن عامر على ابن لهيعة.
ضعف الموصول ليس بشديد لأن ابن لهيعة ليس بشديد الضعف, وهل يتقوى بالمرسل لأن ضعفه غير شديد؟ الجواب: المرسل يتقوى وينجبر الإرسال لأن الساقط يغلب على الظن أنه صحابي, وإن كان الساقط تابعياً فمن الكبار, وخالد بن معدان لقي سبعين رجلاً من الصحابة, فالإرسال في مثل هذه الصورة ضعفه أيضاً ليس بشديد, فإذا كان التابعي من كبار التابعين ووُجِد ما يسنده من مرفوع متصل أو مرسل آخر يرويه غير رجال المرسل الأول أو يفتي به عوام أهل العلم أو يشهد له قول صحابي وكان المرسِل ثقة ولا يرسِل إلا عن الثقات فإن الشافعي يقبله وكذا غيره, ومعلوم أن الشافعي هو أول من رد المراسيل. والمقصود أن هذا يتقوى بذاك فيصل إلى ردجة القبول.
وعلى كل حال سورة الحج فضلت بالسجدتين عند جمع من أهل العلم.
حديث عمر (يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه) وفيه (إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشاء): فيه دليل على أن عمر رضي الله عنه لا يرى وجوب سجود التلاوة, ومادام موكولاً إلى مشيئة الشخص فإن شاء سجد وإن لم يشأ لم يسجد فليس بواجب.(2/5)
حديث ابن عمر (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه): يكبر للسجود ويكبر للرفع منه, فالتكبيرة الأولى للإحرام والثانية للرفع, وفي الحديث (كان يكبر مع كل خفض ورفع).
لكن رواية التكبير في الحديث مدارها على عبد الله بن عمر العُمَري المكبَّر وهو ضعيف عند أهل العلم, ولذا لفظ التكبير مضعف, وأما الحديث بدون تكبير فهو مروي في الصحيحين من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. فالمضعف لفظ (كبر) وقد تمسك بهذا جمع من أهل العلم كالحنابلة, فيكبر عندهم للسجود ويكبر للرفع منه ويسلم لأنها صلاة يشترط لها ما يشترط للصلاة, تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم وهذا هو حد الصلاة.
قوله (رواه أبو داود بإسناد فيه لين) يكون في إسناده لين إذا كان فيه ضعف يسير, واللين ضعف منجبر, لكن لم يوجد ما يشهد للفظة (كبر), والحديث بدون هذا اللفظ مروي من طريق عبيد الله المصغَّر, وهو ثقة عند أهل العلم.
دل الحديث على أن المستمع حكمه حكم القارئ بخلاف السامع الذي يسمع من غير قصد, فالمستمع هو الذي يقصد الاستماع والانتفاع, والسامع هو الذي يصل الكلام إلى سمعه من غير قصد.
يقال في سجود التلاوة ما يقال في سجود الصلاة لعموم (اجعلوها في سجودكم) ويقول أيضاً ما ورد في السنن (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين اللهم اكتب لي بها أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا).
حديث أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره خر ساجداً لله): الحديث صحيح لغيره.
دل على مشروعية السجود عند تجدد النعم.
يخر للسجود من قيام إن كان واقفاً, ويسجد إن كان جالساً.
سجود الشكر مثل سجود التلاوة فيه خلاف هل هو صلاة أو ليس بصلاة, فالخلاف واحد.(2/6)
حديث عبد الرحمن بن عوف (سجد النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود ثم رفع رأسه وقال إن جبريل أتاني فبشرني فسجدت لله شكراً): صحيح وهو شاهد لما قبله.
يؤخذ من الحديث أن من فعل فعلاً يُظَنُّ بأنه عبادة أن يبين السبب لئلا يظن بعض الحاضرين أن هناك عبادة وسجود مستقل لا لشكر ولا لتلاوة ولا لصلاة, لأن السجود له سبب.
جاء تفسير البشرى بأنه تعالى قال (من صلى عليك صلاة صلى الله عليه بها عشراً) وهذه نعمة بالنسبة له عليه الصلاة والسلام.
المصنفات في باب الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة, ومن أنفسها وأعظمها (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) لابن القيم و (الصلات والبُشَر في الصلاة على خير البشر) للفيروز آبادي و (القول البديع في الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع) للسخاوي.
حديث البراء بن عازب (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً إلى اليمن - فذكر الحديث – قال: فكتب علي رضي الله عنه بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجداً): النعم تشمل نعم الدين ونعم الدنيا, والنعم المتعلقة بالدين أعظم من نعم الدنيا, فإذا بلغ الإنسان ما يسره في دينه من انتصار للمسلمين أو هزيمة للكفار أو دخول أقوام في الإسلام أو استقامة بعض الأشرار أو صدور قرار ينفع الإسلام والمسلمين فمثل هذه النعم يُسجد لله شكراً عند حصولها.
الحديث أصله في البخاري وهذا اللفظ عند البيهقي.
سجد كعب بن مالك لما أنزل الله توبته وأقره النبي عليه الصلاة والسلام.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك صبيحة يوم السبت الرابع من شهر ربيعٍ الثاني عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده بعد زوال شمس اليوم نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(2/7)
مهمات شرح أحاديث صلاة الجماعة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
حديث عبد الله بن عمر (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة): الجماعة اثنان فأكثر.
أكثر الرواة على رواية الخمس والعشرين وابن عمر يروي السبع والعشرين, مع أنه يروى عنه الخمس والعشرون أيضاً, ورواية السبع والعشرين ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
مقتضى أفعل التفضيل (أفضل) أن تكون صلاة الجماعة فاضلة وصلاة الفذ فاضلة, فاشترك المفضَّل والمفضَّل عليه في الوصف الذي هو الفضل, وفاق أحدهما الآخر, ففاقت صلاة الجماعة صلاة الفذ في هذه الصفة وهي الفضل.
المراد بالفضل ثبوت الأجر, ولا يثبت الأجر إلا إذا سقط الطلب وصحت الصلاة وصارت مقبولة, بمعنى أنها يترتب عليها ثوابها وتسقط الطلب, فكلٌّ من صلاة الجماعة وصلاة الفذ فيه فضل, وكلاهما فيه أجر, وكلاهما مسقط للطلب, لكن صلاة الجماعة فاقت صلاة الفذ في هذا الفضل وفي هذا الأجر.
من يقول بسنية صلاة الجماعة – وعمدتهم هذا الحديث – يقول: لو كانت صلاة الجماعة شرطاً لصحة الصلاة أو واجبة لما جاء الخبر بمثل هذه الصيغة.
هذا الحديث وما جاء في معناه عمدة من يقول إن صلاة الجماعة سنة وهو المعروف عند الحنفية والمالكية, والشافعية يقولون إنها فرض كفاية, والحنابلة يقولون إنها واجبة وجوباً عينياً بمعنى أنه يأثم كل من وجبت عليه صلاة الجماعة ثم تخلف عنها من الذكور المكلفين الذين لا عذر لهم.
جواب من يرى وجوب صلاة الجماعة - الحنابلة – على استدلال الحنفية والمالكية بهذا الحديث على أن صلاة الجماعة سنة: نعم صلاة الفذ فيها أجر وفيها ثواب, ولا مانع من أن يجتمع الأجر والثواب مع الإثم لانفكاك الجهة, فالصلاة إذا أديت بشروطها وأركانها وواجباتها ترتبت آثارها عليها, لكن إذا ترك الجماة من تجب عليه الجماعة أثم.(3/1)
ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة, ولو قيل بذلك لاتجه قول من يستدل بهذا الحديث على أنها سنة, وإنما الجماعة واجبة وجوباً عينياً على كل ذكر مكلف قادر لا يمنعه من الحضور إليها عذر.
من يقول بأنها فرض كفاية كالشافعية يقولون إن الأحاديث كحديث أبي هريرة وما في معناه تدل على تأكد الجماعة بل تعينها, وهي عندهم شعار يسقط بقيام البعض به, وسيأتي الرد عليهم.
في حديث أبي هريرة (جزءاً) فالجزء هو الدرجة, وجاء تفسير الجزء بالصلاة, وعلى هذا صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين صلاة, أي بسبع وعشرين مرة كما جاء في بعض الروايات.
الأجوبة عن اختلاف الرواة في العدد, هنا سبع وعشرون درجة وفي حديثي أبي هريرة وأبي سعيد خمس وعشرون درجة:
منهم من يقول إن العدد لا مفهوم له, فيستوي في ذلك السبع والعشرون والخمس والعشرون وما هو أكثر وما هو أقل, بل المراد من هذه الأحاديث بيان مزية صلاة الجماعة من غير تحديد بعدد معين, وإنما ذكرت هذه الأعداد للتمثيل, ولا مفهوم لها.
فائدة: الأصل أن الكلام له مفهوم, لكن إذا تعارض المفهوم مع منطوق أقوى منه فإن المفهوم يلغى, كما في قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فإنه لا مفهوم له لأنه معارض بمنطوق أقوى منه (إن الله لا يغفر أن يشرك به).(3/2)
منهم من يثبت أن العدد له مفهوم, ويحمل حديث ابن عمر على صور, ويحمل أحاديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما على صور أخرى, طلباً للجمع بين هذه النصوص, فبعضهم يقول (السبع والعشرون لمن صلى جماعة في المسجد والخمس والعشرون لمن صلى جماعة خارج المسجد), ومنهم من يقول (السبع والعشرون للأعلم الأخشع والخمس والعشرون لمن كان حاله ضد ذلك), ومنهم من يقول (السبع والعشرون لمدرك الصلاة كلها والخمس والعشرون لمدرك بعضها), ومنهم من يقول (السبع والعشرون للبعيد من المسجد والخمس والعشرون للقريب منه), وهذه الأقوال لا دليل عليها, ولا شك أن حضور القلب في الصلاة له دور كبير في ترتب الأثر والأجر عليها, ولذا من الناس من ينصرف بالصلاة كاملة ومنهم من ينصرف بنصفها ومنهم من ينصرف بربعها ومنهم من ينصرف بعشرها ومنهم من ينصرف بلا أجر لكن يكفيه أن صلاته تسقط عنه الطلب وتبرأ ذمته بها. وهذه الأقوال وهذه المسالك يسلكها أهل العلم للجمع والتوفيق بين النصوص, وقد يُسلَك ما هو أقل من ذلك لرفع التعارض. ومنهم من يقول إن الله جل وعلا أخبر نبيه بالخمس والعشرين أولاً ثم زاد تفضلاً منه جل وعلا على عباده المحافظين على الجماعة بالدرجتين.
جاء في من اقتنى كلباً لغير ما استثني أنه ينقص من أجره كل يوم قيراط وفي رواية قيراطان: هل يقال إنه أُخبِر أولاً بالقيراط, ثم أُخبِر بالقيراطين, زيادة في التشديد؟ هذا محتمل, وقد قيل بذلك, وإن قال بعضهم إن نقص القيراط لمن اقتناه في البادية ونقص القيراطين لمن اقتناه في الحاضرة تبعاً للأثر المترتب على هذا الاقتناء والضرر المترتب عليه.(3/3)
المراد من الحديث واضح وهو بيان مزية صلاة الجماعة على صلاة الفذ, وصلاة الفذ وإن كانت صحيحة مسقطة للطب مجزئة وفاضلة بنص هذا الحديث, إلا إنه لا يمنع من إثم من ترك الجماعة لوجوبها, فلا يمنع أن يجتمع في العمل الإثم والأجر لانفكاك الجهة, كمن صلى وبيده خاتم ذهب صلاته صحيحة والأثر المترتب عليها ثابت وهو آثم بلبسه خاتم الذهب أو عمامة الحرير وما أشبه ذلك.
من أقوى ما يستدل به من يقول بوجوب صلاة الجماعة عيناً حديث أبي هريرة (والذي نفسي بيده ..): في هذا الحديث القسم على الأمور المهمة ولو من غير استحلاف, ولا يتعارض هذا مع قول الله جل وعلا (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم), لأن هذا من الأمور المهمة يحتاج في تأكيده وتثبيته إلى مثل هذا القسم, وقد أمر الله جل وعلا نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من كتابه, في يونس وفي سبأ و في التغابن.
قوله (لقد هممت): الهم مرتبة من مراتب القصد وهي الخاطر ثم الهاجس ثم حديث النفس ثم الهم ثم العزم. قد يقول قائل.
حديث النفس معفو عنه, والخاطر معفو عنه, والهاجس معفو عنه, وماذا عن الهم؟ إذا هم بخير أجر عليه, وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يفعلها.
المخالف يقول إن هذا ليس فيه دليل لأنه مجرد هم, والهم لا أثر له, ولذا يقول الناظم في مراتب القصد: مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا يليه همٌّ فعزمٌ كلها رفعت إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا).
يجاب عن هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله, فهذا الفعل الذي هو التحريق بالنار للمتخلف عن صلاة الجماعة يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام فعله, مع أنه أكده بالقسم, فدل على أن ترك الجماعة حرام, إذ لا يتوعد بمثل هذا الوعيد إلا على شيء محرم.(3/4)
قوله (ثم آمر رجلاً فيؤم الناس): قد يقول قائل - وقد قيل - كيف يهم بالتحريق بسبب التخلف عن صلاة الجماعة ثم يتخلف عنها عليه الصلاة والسلام؟ نقول: النبي عليه الصلاة والسلام سوف ينطلق إلى هؤلاء ومعه رجال وحينئذ تقوم بهم صلاة الجماعة.
هذا الحديث من أقوى ما يرد به على الذين يقولون بأن صلاة الجماعة ليست واجبة على الأعيان, لأن صلاة الجماعة إذا كان واجبة على الكفاية فقد سقط الوجوب بفعل النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة في مسجده, فكيف يبحث عن مثل هؤلاء وقد سقط عنهم الواجب بقيام من يكفي به؟!!.
قوله (ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار): يقول بعضهم إنه لو كانت صلاة الجماعة واجبة وهذا التهديد على حقيقته ما تركه عليه الصلاة والسلام, فلما تركه عرفنا أنه عدل عن هذا التهديد, فدل على عدم وجوب صلاة الجماعة.
نقول: إنما ترك التحريق معللاًَ ذلك بقوله (لولا ما في البيوت من النساء والذرية), ثم إنه يكفي في وجوب الجماعة أقل من مثل هذا التهديد, بل قال المخالفون في مسائل كثيرة جداً بالوجوب العيني ولم يرد فيها مثل هذا التهديد.
قوله (لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً): قد يقول قائل إن مثل هذا الكلام لا يقال في حق مسلم صحيح الإسلام, وإنما المنافق هو الذي يبعثه إلى حضور الجماعة مثل هذه الأشياء اليسيرة, فالحديث جاء في حق المنافقين لا في حق صادقي الإيمان والإسلام.
نقول: التخلف عن صلاة الجماعة من سمة المنافقين, ولا يكاد ينفك التخلف عن صلاة الجماعة عن صفة النفاق.
قوله (عَرْقاً سميناً): العَرْق هو العظم إذا كان عليه لحم.(3/5)
قوله (أو مرماتين حسنتين): يقولون (هي ما بين ظلفي الشاة من اللحم). لكن هل بين أظلاف الشاة لحم؟!! وهل يمكن أن يوصف هذان الظلفان بالحسن؟!! ولذا يتجه القول الآخر بأن (ظلفي) مصحفة من (ضلعي), فالمراد ما بين ضلعي الشاة من اللحم, فبينهما لحم وهو حسنٌ أيضاً. وأكثر كتب الغريب والمعاجم تقول (ما بين ظلفي), وكتب الشروح تواطأت على هذا.
حديث أبي هريرة (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر): الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين, قال تعالى (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى), وأثقل الثقيل عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر, لأن الذي يبعث على العمل هو الطمع إما في أجر أخروي أو في أجر دنيوي, وهم لا يطمعون في أجر الآخرة وإنما يصلون رياءً, ولما كانت صلاة العشاء وصلاة الفجر في الظلام وهم إنما يصلون رياءً الناس والناس لا يرونهم فُقِدَ الباعث الديني والباعث الدنيوي, ولا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا من يشك في ثبوت الوعد الأخروي أو لا يصدق به أصلاً كالمنافقين والكفار.
حديث أبي هريرة (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى ..): جاء تعيين هذا الأعمى في بعض الروايات بأنه ابن أم مكتوم المؤذن.
جاء في بعض الروايات أن لهذا الأعمى قائد لكن لا يلائمه, يعني لا يلازمه.
جاء في الحديث (فلما ولى دعاه فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم, قال فأجب) وجاء في بعض الروايات (لا أجد لك رخصة).
يدل هذا الحديث على أن كل من سمع النداء عليه أن يجيب إلا إذا كان له عذر.
المراد بقوله (أتسمع النداء) أي بالصوت العادي دون مكبرات ودون موانع من السماع.(3/6)
المسألة تحتاج إلى ضابط لنعرف الرخصة الشرعية, لأن من كان بجانب المسجد وحوله موانع من السماع من سيارات ومكيفات وغيرها قد لا يسمع النداء بالصوت العادي, ومن كان في برية وليس حوله سيارات قد يسمع صوت المؤذن بالمكبر وبينه وبين المسجد مسافة بعيدة لا يستطيع قطعها بالمشي. وقبل وجود هذه الموانع كانوا يسمعون صوت المؤذن العادي بلا مكبر من بعيد مع الهدوء, وقبل هذه المكبرات وهذه الموانع كانوا يسمعون أذان الجامع في وسط البلد وهم في ضاحية تبعد عن البلد ثلاثة كيلومترات لكن في صلاة الصبح فقط, فالذي يبدو والله أعلم أن النداء يسمع بدون مكبر وبدون موانع من على بعد مسافة ثلاثة كيلومترات, وعلى هذا من كان بينه وبين المسجد ثلاثة كيلومترات يجب عليه إجابة النداء.
عتبان بن مالك - وقصته في الصحيح - لما كُفَّ بصره طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوره ليصلي له في مكان ليتخذه مسجداً, وفعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام واتخذ عتبان ذلك المكان مسجداً, فهل هناك تعارض بين حديث ابن أم مكتوم حيث لم يعذر وبين حديث عتبان؟ وعذر عتبان مثل عذر ابن أم مكتوم, هذا أعمى وذاك كُفَّ بصره فاحتاج أن يصلي في بيته؟!!
الجواب: أولاً ليس هناك دليل على أن عتبان يسمع النداء, ثانياً عتبان أراد أن يقيم الجماعة في بيته, فإذا لم يسمع النداء له أن يقيم الجماعة في بيته أو في حيه, فهو محمول على أن عتبان لا يسمع النداء, فليس هناك تعارض. فالفارق بأنه هنا صُرِّح بسماع النداء وهناك لم يصرَّح به لا وجوداً ولا عدماً.(3/7)
منهم من يقول إن حديث ابن أم مكتوم محمول على الندب, وإلا فعذره يبيح له التخلف عن الجماعة. لكن يقال: الحديث فيه قوة حيث قال له (هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب), فالأمر ثابت والحكم معلل بسماع النداء ولا يمكن صرفه إلا بصارف قوي. نعم العميان يتفاوتون, فبعضهم يضل إذا لم يكن له قائد, ولعل النبي صلى الله عليه وسلم رأى في ابن أم مكتوم من الفطنة والفراسة ما يستطيع معها أن يصل إلى المسجد بسهولة, والأصل أن الحرج مرفوع في الشريعة, لكن ليس معنى هذا أننا نتنصل من الواجبات بحجة أن الدين يسر, لأن الدين كما أنه دين يسر فهو دين تكاليف وابتلاء وامتحان, والجنة حفت بالمكاره.
يجيب من يقول بعد وجوب صلاة الجماعة عن حديث الأعمى بأن الأمر فيه للاستحباب بدليل أنه معذور في ترك الجماعة, فقوله (أجب) أمر استحباب, لكن الصحيح أنه أمر وجوب, وإذا كان هذا الأعمى لم يعذر مع ما عنده من عذر العمى والمشقة وما يحول بينه وبين المسجد فكيف بمن لا عذر له؟!!.
حديث ابن عباس (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر): جاء تفسير العذر بالخوف والمرض, وهذا الحديث من حيث الإسناد على شرط مسلم لكن الخلاف في رفعه ووقفه, والخلاف بين أهل العلم في تعارض الوقف مع الرفع معروف, وليس عند المتقدمين قاعدة مطردة يحكمون بها في مثل هذا التعارض بل الحكم عندهم للقرائن.
قوله (فلا صلاة له): ظاهره أن الجماعة شرط لصحة الصلاة إن صح الخبر, وإن قال بعضهم (لا صلاة له كاملة) وعلى هذا المعنى يحمله من يقول بعدم اشتراط الجماعة, وعلى كل حال الحديث مختلف فيه, والمرجح وقفه على ابن عباس.
اشتراط الجماعة لصحة الصلاة هو قول الظاهرية, ورواية عن أحمد ينصرها بعض الأصحاب, وشيخ الإسلام كأنه يميل إلى هذا.
حديث يزيد بن الأسود في الرجلين الذين لم يصليا مع الجماعة في المسجد: الحديث صحيح.(3/8)
قوله (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا, قال: فلا تفعلا): الرحل هو المنزل, والمعنى لا تجلسا والناس يصلون, بل إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما قبل إقامة الجماعة فادخلوا معهم ولا تجلسوا, وهذا سداً للذريعة, لئلا يوجد في المسجد في آنٍ واحد ناس يصلون وناس لا يصلون, فيصير في ذلك وسيلة لمن أراد أن يترك الصلاة.
قوله (فإنها لكم نافلة): النافلة هي الثانية, والأولى هي الفريضة التي سقط بها الطلب, وقال بعضهم (من جاء والإمام يصلي وقد صلى منفرداً فله أن يرفض الصلاة الأولى ويصلي مع الإمام الفريضة, لأن الفريضة كونها في جماعة أكمل مما لو صلاها منفرداً) لكن الحديث فيه نص على أن الثانية هي الفريضة.
إذا صلى الإنسان الفريضة منفرداً ثم أحس أن هناك جماعة هل يقال إن هذه هي الفريضة ولا يجوز له تحويل النية ويستوي في ذلك ما إذا كان في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها؟ أو يقال إنه له أن يقلب النية نفلاً ويصلي الفريضة مع الجماعة؟ الفقهاء يقولون (وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز).
أحاديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر عامة, وهذا الحديث خاص بإعادة الصلاة مع الإمام, لأن الواقعة حصلت في صلاة الصبح, فتعاد صلاة الصبح مع الإمام ولو في وقت نهي, ومثل هذا في صلاة العصر, ومن باب أولى صلاة الظهر. وتعاد أيضاً صلاة العشاء, مع أنه جاء في الحديث (صلاة الليل مثنى مثنى) وهو يصليها رباعية نافلة.
النهي عن أكثر من وتر في ليلة (لا وتران في ليلة) ألا يتعارض مع إعادة صلاة المغرب مع الإمام؟ مقتضى حديث الباب أن يصلي الصلاة على صورتها, لكن لا يمنع من أن يصلي صلاة المغرب مع الجماعة ويشفعها بركعة زائدة, لئلا يقع في مخالفة (لا وتران في ليلة), وكأن هذا هو المتجه إن شاء الله تعالى.(3/9)
حديث الباب نص فيمن صلى في رحله, وظاهره (قد صلينا في رحالنا) أنهما صليا فرادى, لأنهما لم يقولا (في رحلنا), وعليه فمن صلى منفرداً وجاء والجماعة قد أقيمت فإنه يعيد الصلاة, لكن ماذا عن إعادة الجماعة؟ ماذا من صلى مع جماعة في مسجد ثم وجد جماعة تقام, هل يصلي معهم أو لا يصلي معهم؟ وماذا عن من صلى مع جماعة ثم جاء شخص فصلى معه اعتماداً على حديث (من يتصدق على هذا)؟ الحديث (من يتصدق على هذا) نص في إعادة الجماعة لأن المتصدق صلى مع جماعة, وهذا كان في صلاة الصبح وبعدها وقت نهي وفي مسجده عليه الصلاة والسلام, وبعض أهل العلم يمنع من إعادة الجماعة في الحرمين وهذا الحديث يرد عليهم.
لا مانع من دخول من فاتته الجماعة مع من المسبوق الذي يقضي الصلاة, لأن المسبوق بعد سلام الإمام في حكم المنفرد, ويجوز أن يأتم بالمنفرد.
كيف يُرَدُّ على من يقول إن وجوب الجماعة كان في أول الإسلام بدليل عدم ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم بمساجد أخرى في أول الإسلام ثم ترخيصه بعد ذلك, وأن المتخلفين عن الصلاة معه منافقون وأما غيرهم فلا؟ الجواب: عدم الترخيص بعدم إقامة جماعة أخرى كان لعدم الحاجة إليها, مع أنه كان يوجد مساجد أخرى في بني عوف وفي قباء وفي أطراف المدينة, لكن لنعلم أن الأصل والهدف الشرعي من شرعية صلاة الجماعة أن يتحد المسلمون, فإذا كان يكفيهم مسجد واحد فلا داعي لإقامة مسجد آخر, ولأهل العلم كلام شديد في إقامة جمعة ثانية, فهم يبطلون الثانية إذا لم تكن هناك حاجة, والمسلمون في أول الأمر عددهم قليل يستوعبهم المسجد النبوي وما أُذِن بإقامته فلا داعي لإقامة مساجد أخرى, لكن لما كثر العدد احتاجوا إلى جماعات أخرى.(3/10)
هل صلاة الجماعة في غير المسجد (في البيت مثلاً) تكون أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؟ الجواب: من كان في بيته يريد أن يصلي جماعة أو يصلي منفرداً, صلاته مع غيره أفضل من صلاته منفرداً بسبع وعشرين درجة لكنها من جنس الصلاة التي في البيت, فالمفاضلة نسبية, فالصلاة جماعة في المسجد أفضل من صلاة الفرد في المسجد بسبع وعشرين درجة, وصلاة الجماعة في البيت أفضل من صلاة الفرد في البيت وفي السوق وفي الفلاة وما أشبه ذلك بسبع وعشرين درجة, فالمفاضلة نسبية, كل نوع مع جنسه.
الصلاة في المساجد واجبة ولا يكفي أن يصلي الإنسان في بيته جماعة ولا يعذر في ترك الجماعة في المسجد إلا بالعذر المعروف من الخوف أو المطر أو أكل الثوم والبصل, وإلا فالأصل أن الصلاة حيث ينادى بها, ففي الحديث (أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: أجب لا أجد لك رخصة), وكثير من أهل العلم يلزم المسافر إذا كان يسمع النداء أن يصلي في المسجد لهذا الحديث.
إذا أذن المؤذن ولم يأت أحد إلى وقت الإقامة ولم يشق عليه الانتظار ورجا أن يحضر أحد فالأفضل أن ينتظر, وإذا لم يأته أحد فصلى منفرداً في وقت الصلاة المعتاد فأجره كامل إن شاء الله تعالى.
حديث (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) مضعف عند أهل العلم فلا تقوم به حجة, وصلاة الفذ صحيحة وفضلها ثابت ومسقطة للطلب, لكن المصلي منفرداً مع إمكان الجماعة آثم تارك للواجب.(3/11)
ما حكم القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي يسمع ويجيب؟ الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام ثبت بالقرآن والسنة أنه قد مات, كما قال جل وعلا (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وقال (إنك ميت وإنهم ميتون), فالنبي عليه الصلاة والسلام ميت, وهو عليه الصلاة والسلام منعم في قبره في حياة برزخية, وهذه الحياة البرزخية لا تشبه حياة الأحياء الذين أرواحهم في أجسادهم, وهي أكمل من حياة الشهداء, وليست مثل وفاة سائر الناس الذين هم أجساد هامدة لا يعون ولا يحسون ولا يشعرون بشيء, فهي حياة برزخية الله أعلم بها, وإلا فالموت الذي هو مفارقة الروح للجسد مقطوع به, ومن ينكره منكر للنصوص القطعية, فإذا سلم عليه أحد سواء كان قريباً منه أو بعيداً عنه رد الله جل وعلا روحه فرد عليه السلام, وقد حرم الله جل وعلا على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
ما حكم قول (اللهم برسول الله)؟ الجواب: إن كان المراد به القسم فهو شرك, وإن كان المراد به التبرك بذاته فهو بدعة, وإن كان المراد به التبرك باتباعه عليه الصلاة والسلام كأنه يقول (اللهم باتباعي رسولك عليه الصلاة والسلام) فاتباعه من القرب والتوسل بالقرب مشروع, وأما التوسل بذاته عليه الصلاة والسلام فهو ممنوع, لأنه بدعة لم يفعله خيار هذه الأمة.
ذكرتم أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله فهل الهم بالتحريق يتنافى مع قوله (لا يعذب بالنار إلا رب النار) ؟الجواب: حديث الباب مخصص للحديث العام, ولم يترك ما هم به إلا لما في البيوت من النساء والذراري.(3/12)
توجد طرق كثيرة لتعزير المتخلف عن الجماعة غير التحريق فلماذا لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذه مبالغة في شأن الجماعة, فالصلاة أعظم أركان الإسلام وشرعت جماعةً لهدف ومقصد شرعي, فهذا همه عليه الصلاة والسلام, وهو معصوم عليه الصلاة والسلام, وليس لأحد أن يقول مثل هذا الكلام مستدركاً بذلك على النبي عليه الصلاة والسلام, اللهم إلا إن كان مستفهماً, فله أن يستفهم, لكن إن عرف الحكمة والسبب فبها ونعمت, وإن لم يعرف فالحكم هو النص.
أهل العلم يذكرون الحرية شرطاً من شروط وجوب صلاة الجماعة لأن وقت الرقيق مستغرق لسيده, وهذا قول الجمهور, وبعضهم يقول إن وقت الصلاة مستثنى شرعاً, ومثل هذا في الموظف, فيجب عليه أن يخرج للصلاة مع الجماعة وإن كان العقد في الوظيفة يشمل وقت الصلاة, لكن هذا الوقت مستثنى شرعاً, فلا يجوز له أن يتخلف بمجرد أنه تعاقد على هذا الوقت.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من شهر ربيعٍ الثاني عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده بعيد غروب شمس اليوم نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(3/13)
مهمات شرح باب الأذان والإقامة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
أذَّن تأذيناً وأذاناً ككلَّم تكليماً وكلاماً وهو في اللغة الإعلام كقوله تعالى (وأذانٌ من الله ورسوله) أي إعلام وهو هنا الإعلام بدخول الوقت وهذا هو الأصل فيه أنه لدخول الوقت وسيأتي ما يدل على أنه للصلاة أيضاً وإن كان بعد دخول الوقت بوقت وهذا هو الأذان الأكبر. وألفاظ الأذان دل عليها حديثا عبد الله وبن زيد وأبي محذورة.
الأذان الأصغر هو الإقامة فالإقامة يطلق عليها أذان لأنها إعلام كما في الحديث الصحيح (بين كل أذانين صلاة) والمراد بذلك الأذان والإقامة.
كان فرض الأذان بالمدينة وأول ما شرع في قصة عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو غير عبد الله بن زيد بن عاصم راوي حديث الوضوء وإن وهم بعض العلماء فجعلهما واحداً. وفي باب ما جُعِلَ من الاثنين واحداً والعكس كتاب نفيس جداً للخطيب البغدادي في غاية الأهمية لطالب العلم اسمه (موضح أوهام الجمع والتفريق) وليعتني طالب العلم بقراءة مقدمته ليرى الأدب الجم الذي يتحلى به الكبار كالخطيب لأن موضوع كتابه هذا نقد لأئمة هم أكبر من الخطيب كالبخاري وأبي حاتم.
قبل هذه الرؤيا لما كثر الناس تداولوا مع رسول الله كيفية إعلام الناس بدخول وقت الصلاة فأشار بعضهم بالناقوس لكن قال إنه للنصارى وأشار بعضهم بالبوق لكن قال إنه لليهود وأشار بعضهم بجعل نار للتنبيه لكن قال إنها للمجوس فاهتم عبد الله بن زيد بهذا الأمر فرأى رؤيا وهي رؤيا حق أُقِرَّت من قبل الشارع (إنها لرؤيا حق) وإلا فالأصل أن الرؤى لا يثبت بها تشريع ولا أحكام ولا تناقض بها الشريعة مهما كان صدق قائلها لأن الدين كامل فليس لأحد أن يتعبد بأمر رآه في الرؤيا ولو تكرر لكن لو جاءت بتأكيد أمر مهم جاء الشرع بتأكيده فإنها تكون رؤيا صادقة وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.(4/1)
في حديث عبد الله بن زيد جاء التكبير في أول الأذان مربعاً إضافةً إلى أنه ليس فيه ترجيع يعني بغير تكرير للشهادتين (أشهد ألا إله إلا الله مرتين بصوت منخفض ثم يعيدهما بصوت مرتفع وكذا أشهد أن محمداً رسول الله مرتين بصوت منخفض ثم يعيدهما بصوت مرتفع) وفي الإقامة لفظ مفرد لكل جملة إلا (قد قامت الصلاة) فإنها تثنى لأنها اللفظ الأهم في الإقامة لأن المطلوب في الإقامة طلب قيام الحاضرين إلى الصلاة وسيأتي ما في تثنية التكبير في أول الإقامة وفي آخرها وما في جعل كلمة الإخلاص آخر الأذان مرة واحدة. فيكون قوله (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) كلام أغلبي. وحديث عبد الله بن زيد صحيح.
كثير من الكلام في لغة العرب يطوى ولا يذكر للعلم به.
حكم الأذان: جاء الأمر به وجاء تعظيم شأنه والحث عليه للجماعة والفرد فجاء ترغيب الأفراد بالأذان وأن المؤذنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وجاء أيضاً تعليق الإغارة على البلد وعدمها بالأذان فدل على أنه من شعائر الإسلام العظيمة ويختلفون في وجوبه والأدلة محتملة لكن القول المقرر عند أهل العلم أنه واجب على الكفاية يعني إذا وجد في البلد من يبلغ جميع أهل البلد دخول وقت الصلاة بالأذان المشروع لا أذان الآلات كفاهم ذلك فهو فرض كفاية. لو فرضنا أن في البلد مائة مسجد فالأصل أن يؤذن الجميع لكن إذا أذن من تقوم به الكفاية كما لو أذن ستون مسجداً فإن الوجوب يسقط ويبقى سنة في حق الباقين ولعل هذا مراد من قال بأنه سنة لأنه لا يتصور أنه سنة بالمعنى الاصطلاحي بحيث لو تركه الناس كلهم كان كترك سنة من السنن.
ليس في حديث عبد الله بن زيد زيادة التثويب في أذان الفجر وإنما ساق أحمد قصة عبد الله بن زيد ثم وصل بها رواية بلال وفيها التثويب فلينتبه لإيهام عبارة الحافظ ابن حجر.(4/2)
إذا قال الصحابي (من السنة) فالمراد السنة المرفوعة وهو قول الأكثر كما في قصة ابن عمر مع الحجاج في الصحيح (إن كنت تريد السنة فهجِّر بالصلاة) ولا يريدون بذلك إلا سنة النبي عليه الصلاة والسلام لأنه إذا استدل بها على حكم شرعي فلا يريد إلا السنة الملزمة.
جاء في السنن ما يدل على أن التثويب في الأذان الأول كما في السنن الكبرى للنسائي من حديث أبي محذورة قال (كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقول في أذان الفجر الأول: الصلاة خير من النوم) وجاء ما يدل على أنه في الأذان الثاني لصلاة الفجر وتواتر العمل والتوارث يدل على أنه في الأذان الثاني وتوجيه قول أبي محذورة أن يقال إن أذان الفجر الثاني أذان أول بالنسبة للإقامة.(4/3)
جاء ترجيع الشهادتين في حديث أبي محذورة إضافةً إلى أن التكبير جاء مرتين في أوله كما في مسلم ولكنه جاء مربعاً عند الخمسة وفي المنتقى للمجد عزا تربيع التكبير لمسلم أيضاً ومن المعلوم أن الكتب الأصلية لها روايات فمسلم روى عنه كتابه خلائق والروايات المدونة المضبوطة معروفة عند أهل العلم (أكثر ما تظهر الفروق في روايات صحيح البخاري). ومسلم له روايات معتمدة عند المشارقة وروايات معتمدة عند المغاربة وقد يوجد في بعض هذه الروايات ما لا يوجد في الروايات الأخرى فتربيع التكبير لا يوجد في صحيح مسلم برواية المشارقة وأشار القاضي عياض إلى أنه موجود في بعض الروايات عن الجلودي. فينبغي ألا نسارع إلى تخطئة الأئمة كالمجد ابن تيمية رحمه الله ولا نحكم إلا بعد الاطلاع ونقول (لعل هذا في رواية لم نطلع عليها) وقد نفى بعض أهل العلم وجود أحاديث في الصحيح مع أنها فيه كمن نفى وجود حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي عليه الصلاة والسلام في البخاري لأنه لم يجده في باب الإحصار من كتاب الحج مع أنه موجود في باب الأكفاء في الدين من كتاب النكاح بسبب لفظة (وكانت تحت المقداد) لأنه كان مولى فأراد أن يبين أن الكفاءة إنما ينظر إليها من حيث الدين فقط فلا تزوج المسلمة بالكافر ولا تزوج العفيفة بالفاجر.
على كل حال سواء ثبت التربيع في حديث أبي محذورة أو لم يثبت وسواء ثبت الترجيع في حديث عبد الله بن زيد أو لم يثبت فهذا لا يؤثر لأنهما ليسا حديثاً واحداً حتى يؤثر ونقول إن هذا من اختلاف الرواة بل هما حديثان مستقلان ونقول إن للأذان صيغ ويكون هذا من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد كما في التشهد والاستفتاح وقول (ربنا ولك الحمد) وعليه فمن أذن بأذان عبد الله بن زيد فله ذلك ومن أذن بحديث أبي محذورة فله ذلك.(4/4)
أبو محذورة علمه رسول الله الأذان ومكث أكثر من نصف قرن يؤذن في المسجد الحرام في مكة وأذان عبد الله بن زيد أمره رسول الله أن يلقيه على بلال لأنه أندى منه صوتاً فأذن مدة طويلة بين يدي رسول الله بأذان عبد الله بن زيد.
الترجيع مشروع لثبوته في حديث أبي محذورة ولم يكن في أذان بلال ولا يقال أنه ليس بمشروع بل للمسلم أن يختار لأن الكل ثابت كما أنه له أن يتشهد بتشهد بابن مسعود وله أن يتشهد بالتشهدات الأخرى وكون أحمد يرجح تشهد ابن مسعود لا يعني إلغاء التشهدات الأخرى التي عمل بها الأئمة.
لو قيل باستعمال هذا مرة وهذا مرة كان أولى كأدعية الاستفتاح.
الجمهور على أن قول الصحابي (أمرنا) أو (نهينا) له حكم الرفع ولو قاله بعد العهد بالنبوي بمدة لأن الرسول هو الآمر والناهي الحقيقي في القضايا الشرعية خلافاً لأبي بكر الإسماعيلي الذي حكم بالوقف حتى نتأكد من الآمر أو الناهي.
مقتضى حديث أنس أن تكون جميع جمل الأذان حتى كلمة الإخلاص في آخر الأذان كلها تكون شفعاً وتُكَرَّر لكنه خبر مجمل بُيِّنَ في الأحاديث الأخرى وأن كلمة الإخلاص مرة واحدة فيكون هذا الحديث أغلبياً يعني أن غالب جمل الأذان تكون شفعاً.
ومقتضاه أيضاً أن جميع جمل الإقامة وتر حتى التكبير في أولها وفي آخرها إلا (قد قامت الصلاة) والجواب: إما أن نقول إن الحديث جاء بحكم أغلبي أو نقول إن تثنية التكبير تكون وتراً بالنسبة لتربيعه في الأذان لأن المرجح عند جمع من أهل العلم أن يقرن المؤذن في الأذان بين كل تكبيرتين في أوله (الله أكبر الله أكبر ثم الله أكبر الله أكبر) فهذا شفع أي مرتين بينما في الإقامة يقول (الله أكبر الله أكبر) مرة واحدة فتكون وتراً فلا نحتاج إلى استثناء ويكون الحديث على بابه فاستثنيت الإقامة ولا يوجد غيرها وأما التكبير فهو في حكم الوتر بالنسبة لتربيع التكبير في الأذان.(4/5)
كون المؤذن يقرن بين التكبيرتين هو ما يفيده حديث إجابة المؤذن وفيه (فإذا قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر).
قد يقول قائل: إذا ساغ مثل هذا الكلام في التكبير في أول الإقامة فكيف يسوغ بالنسبة للتكبير في آخرها إذا قارناه بالتكبير في آخر الأذان؟ كيف نجري الحديث الذي معنا على عمومه ولا يستثنى منه إلا الإقامة؟ ماذا عن تثنية التكبير في آخر الأذان وتثنية التكبير في آخر الإقامة؟ إذا قرنا التكبير في آخر الأذان صار وتراً واحتجنا إلى أن نستثني من عموم الخبر غير كلمة الإخلاص في آخر الأذان؟ أو نقول: على المؤذن أن يفصل بين التكبيرتين في آخر الأذان ويقرن بين التكبيرتين في آخر الإقامة حتى تكون تكبيرات الإقامة وتراً وتكون في حكم التكبيرة الواحدة وتكبيرات الأذان شفعاً؟.
من أهل العلم من يقول إن الإقامة جملها بعدد جمل الأذان لكن أحاديث الباب ترد عليهم ومنهم من يقول بأن كل جمل الإقامة مفردة ووتر على مقتضى حديث أنس لكن ماذا عن الاستثناء (إلا الإقامة)؟.(4/6)
رواية النسائي (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً) صحيحة لكن هل هذه الصيغة في القوة وإفادة الوجوب مثل ما لو قال (أوتر الإقامة يا بلال واشفع الأذان)؟ الأمر له صيغ منها فعل الأمر والفعل المضارع المقترن بلام الأمر وأيضاً لفظ الأمر كما هنا. جماهير أهل العلم على أن الصحابي إذا عبر عن الأمر بلفظه (أمر) أنه بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم (افعلوا كذا) وكذا في النهي (نهى) مثل (لا تفعلوا). خالف في ذلك داود الظاهري وبعض المتكلمين فقالوا إنه لا يدل لا على الأمر ولا على النهي حتى ينقل الصحابي اللفظ النبوي لاحتمال أن يسمع الصحابي كلاماً يظنه أمراً أو نهياً وهو في الحقيقة ليس أمراً ولا نهياً وهذا ليس بمتصور فلا يمكن أن يسمع الصحابي العربي الذي لم تختلط عربيته بغيرها من اللغات كلاماً يظنه أمراً أو نهياً وهو ليس بأمر ولا نهي. إذا سمع الصحابة الأخبار وفهموا منها أنها تدل على الأمر أو على النهي (والمطلقات يتربصن) (والوالدات يرضعن) من خلال السياق والنظر في النصوص الأخرى وتلقت الأمة فهمهم بالقبول فكيف يظن بهم أنهم يسمعون كلاماً لا يدل على الأمر أو النهي فيعبرون عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أو نهى؟ إذا لم يعرف الصحابة مدلولات الألفاظ الشرعية فمن يعرفها؟ نعم جاء في الحديث الصحيح (رب مبلغ أوعى من سامع) لكن (رب) للتقليل والأصل أن الصحابة أعرف الناس بمدلولات الألفاظ الشرعية لأنهم عايشوا النبي عليه الصلاة والسلام وعاشروه وفهموا مقاصده ومرامي كلامه فقول داود وبعض المتكلمين لا قيمة له فإذا قال الصحابي (أمر النبي صلى الله عليه وسلم) فكأنه قال (افعلوا كذا).(4/7)
إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) و (نهيت عن قتل المصلين) فالآمر والناهي هو الله عز وجل قولاً واحداً ولا يرد فيه من الخلاف ما يرد في قول الصحابي (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنه يؤدي إلى اتهام النبي عليه الصلاة والسلام في فهمه عن الله عز وجل وهذا لا يقوله مسلم.
الرواية من وراء حجاب جائزة عند أهل العلم كما كان الصحابة والتابعون يتلقون الحديث عن النساء وعن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يتخرج تلقي العلم عن العلماء عن طريق الآلات فهذا شبيه بالتلقي من وراء حجاب سواء بعدت المسافة أو قصرت ففي كلتا الحالتين التلقي يكون من وراء حجاب وعلى هذا يصير من فعل ذلك من تلاميذ أولائك العلماء لكن لا ينبغي التدليس والإيهام بالرحلة إليهم.
النسائي ذهب ليأخذ عن الحارث بن مسكين وهو من الثقات فلما رأى النسائي يهتم بمظهره كأنه اتهمه بالثراء والحارث رحمه الله يأخذ أجرة على التحديث (وأخذ الأجرة على التحديث مسألة خلافية لكن هذا رأيه) فحصل بينه وبين النسائي سوء تفاهم فطرده من الدرس فجلس النسائي خلف أسطوانة وصار يسمع فروى عن الحارث بن مسكين ولم يقل (حدثنا الحارث بن مسكين أو أخبرنا) لورعه فجاء بالإخبار دون صيغة (وإن كان السنن المطبوع فيه الصيغة لكن القصة تدل على أنه بدون صيغة) فكان يقول (الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع).
الأجر على قدر المشقة إذا كانت المشقة من مقتضيات العبادة ومتطلباتها وإلا فالمشقة لذاتها ليست مطلباً شرعياً.
الالتفات في الحيعلتين (عند الدعاء إلى الصلاة) يميناً وشمالاً من السنة ليكون أقوى للصوت في تبليغ الجهات كلها وكذلك جعل الأصابع (أطراف الأنامل) في الأذنين من السنة لأنه أقوى للصوت بالإضافة إلى معرفة كون هذا مؤذن لأنه ليس كل الناس يسمعون الصوت.
(ولم يستدر) يعني ولم يستدر ببدنه وإنما لوى عنقه يميناً وشمالاً.(4/8)
العلة ظاهرة والفائدة محسوسة حينما كان الأذان في المنارة بحيث يرى المؤذن ويختلف صوته يميناً وشمالاً عن كونه صامداً أمامه لكن في مثلنا ظروفنا الآن المؤذن لا يرى وإذا التفت يميناً وشمالاً ضعف الصوت. إذا قيل إن العلة قد زالت بل انتقضت وانعكست فبدل أن يلتفت يميناً وشمالاً ليقوى صوته إلى جهة اليمين والشمال فإن صوته يضعف إذا فعل ذلك أمام المكبرات فهل نقول بأن الاستحباب قد التغى؟ عندنا من الأحكام ما شرع لعلة فارتفعت العلة وبقي الحكم فالأصل في مشروعية القصر للصلاة الخوف (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) والأصل في مشروعية الرمل في الطواف قول المشركين (يأتي محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب) ولما انقرض المشركون ولا يوجد من يقول هذا الكلام هل نقول إن الرمل غير مشروع؟ لا بل ارتفعت العلة وبقي الحكم فهل نقول هنا إن العلة ارتفعت وبقي الحكم فنلتفت؟ أو نقول انعكست العلة فبدلاً من حكمة التشريع التبليغ لمن كان في جهة اليمين أو في جهة الشمال انعكست فصار الصوت يضعف فيلتغي الحكم؟ أو نقول الحكم باق؟ أما إن أمكن الجمع بين الالتفات والتبليغ فهو المتعين يعني لو صار المكبر يدوياً يلتفت به يميناً وشمالاً أو يستطيع أن يحرك هذا المكبر أو يتقدم يسيراً ويتحرك يميناً وشمالاً لكي يطبق هذه السنة مع ما شرعت هذه السنة من أجله فهو المتعين لكن إذا التفت وانقطع الصوت فماذا نقول؟ يؤثر عن الإمام أحمد أنه لا يدور إلا إذا كان على منارة قصداً لإسماع أهل الجهتين. وعلى كل حال إن أمكن الجمع بين تطبيق السنة مع حصول المصلحة والفائدة وتحقيق العلة فهذا هو المتعين لكن إذا لم يتمكن فالمقصود الأصلي من الأذان إعلام الناس بدخول وقت الصلاة وليحافظ على هذا الأصل وإن كان لا بد من بذل شيء من الجهد لتحقيق السنة إلا إذا تعذر فالشرع جاء بجلب المصالح وأحكامه معقولة غالباً فإذا كان تطبيق السنة يصادم ما(4/9)
شرعت السنة من أجله فعندنا سنة وعندنا حرص على تطبيق السنة وعندنا فقه في كيفية تطبيق السنة. بعض الناس يعرف السنة لكن لا يحرص على تطبيقها فهذا مفرط وبعضهم يعرف السنة ويحرص على تطبيقها لكن لا يفقه كيف يطبق هذه السنة فيقع في المحظورات أكثر مما حصله من أجر في تطبيق هذه السنة. فعلى المؤذن أن يتحرى في تطبيق السنة وأن يتحرى أيضاً تحقيق الهدف من هذه السنة وهو إسماع أهل الجهتين.
ينبغي أن يكون المؤذن حسن الصوت وندي الصوت لقوله لعبد الله بن زيد (ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً) وفرق بين نداوة الصوت وجمال الصوت وبين التغني به وتمطيطه الذي يخرج الكلام عن معانيه المطلوبة فالتطريب مذموم والمدود التي يترتب عليها زيادة بعض الحروف في الكلمات والجمل مرفوضة لكن يبقى أنه ينبغي أن يكون المؤذن صيتاً ويشترط أهل العلم أن يكون عارفاً بالأوقات ندي الصوت لأن الصوت مهما كان له أثر فكما أننا أمرنا بأن نزين القرآن بأصواتنا (كما في الحديث الصحيح) فإنه مطلوب أيضاً تزيين الأذان بالصوت. هل معنى هذا أننا نتأثر ونؤثر بالأصوات؟ بدليل أننا لو سمعنا هذا القدر من القرآن من فلان حسن الصوت تأثرنا وإذا سمعنا نفس المقطع من شخص آخر أقل منه صوتاً فإننا لا نتأثر. هل هذا التأثير بالصوت أو بالقرآن المؤدى بهذا الصوت؟ يجب ألا نغفل عن الأمر بتحسين الصوت فتحسين الصوت مقصد شرعي مأمور به. فالمسلم مطلوب منه أن يحسن الصوت لا لذات الصوت بل لكي يؤثر بالقرآن المؤدى بهذا الصوت. قد يقول: لو كان التأثير بالقرآن ما اختلف تأثيره من شخص لآخر؟ نقول: يختلف بدليل أن صاحب الصوت الندي الجميل المؤثر بالقرآن لو قرأ بهذا الصوت غير القرآن ما أثر فالتأثير للقرآن المؤدى بهذا الصوت وليس للصوت ذاته.(4/10)
الأذان عبادة والصلاة عبادة ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله ألا يعبد الله إلا بما شرع فهذه العبادات لا بد أن يكون لها أصل شرعي فالصواب أن صلاة العيد لا ينادى لها بل بمجرد ما يصل الإمام إلى المصلى يشرع في الصلاة وإن استحسن بعض أهل العلم النداء لصلاة العيد وقال إن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول في صلاة الجمعة فلماذا لا نزيد الأذان لصلاة العيد؟ نقول: القياس مع الفارق فعثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بالأخذ بسنتهم. فالدين كمل واستقر فليس لأحد أن يزيد. استحسن هؤلاء النداء لصلاة العيد وبعضهم قال بالأذان المعروف لأنها صلاة تقاس على سائر الصلوات ومنهم من قال أنها صلاة طارئة تأخذ حكم صلاة الكسوف فينادى لها (الصلاة جامعة) ولا هذا ولا ذاك لأن القاعدة عند أهل العلم أن ما وجد سببه في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله ففعله بعده بدعة لكن ينبغي أن نلاحظ مقدار قيام السبب في عصره عليه الصلاة والسلام يعني هل السبب قام في عصره عليه الصلاة والسلام بنفس مستوى السبب الذي وجد بعده؟ على سبيل المثال: الخطوط التي في الصفوف بعض الناس يقول إنها بدعة لقيام السبب في عصره عليه الصلاة والسلام لتعديل الصفوف ولم يفعل ذلك فهي بدعة لكن هل قيام السبب وقيام الحاجة الداعية إلى هذه الخطوط في عصره عليه الصلاة والسلام بنفس مستوى الحاجة الداعية إلى ذلك في العصور المتأخرة؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في عهده كان صغيراً وغير مفروش بل يصلون على الرمل فكيف يتمكن من إيجاد خطوط في مسجده والحاجة غير داعية وأيضاً الخط غير ممكن لأنه رمل؟ والذي يقول إنها بدعة يقول على الإمام أن يسوي الصفوف بنفسه ويتأكد لكن في المساجد الكبيرة مترامية الأطراف لا يمكن تحقيق التسوية وهذا ظاهر في مصليات العيد تجد الصفوف كالأقواس قبل الفرش لبعد أطراف الصفوف عن بعضها البعض. لا شك أن هذه الخطوط تحقق مصالح(4/11)
فتحقق تسوية الصفوف التي هي من تمام الصلاة ولا يترتب عليها مفسدة بأي وجه من الوجوه وهذه وجهة نظر من يقول بأن وجود مثل هذه الخطوط لا مانع منه ولا يدخل في حيز البدعة لقيام الحاجة والمصلحة داعية والمفسدة مغتفرة في مثل هذا وقل مثل هذا في الخط الموازي للركن في المطاف والخلاف في هذا كبير فقد وجد بفتوى ويمكن أن يزال بفتوى نظراً لاختلاف وجهات النظر في مثل هذه المسائل. على كل حال ما وجد سببه وتساوى قيام السبب في عصر النبي عليه الصلاة والسلام مع قيامه في العصور المتأخرة فلم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام فوجوده بعد عصره بدعة كما قرر ذلك الشاطبي وغيره. فالأذان عبادة والصلاة عبادة والزيادة في هذه العبادات بدعة وقد يقول قائل: وهذه المكبرات كيف نصلي بها والنبي عليه الصلاة والسلام ما صلى بها؟ نقول: من أهل العلم من قال بهذا فيصلي بدون مكبر لأن الصلاة عبادة محضة فكيف يدخل فيها مثل هذه الآلات؟ لكن جل أهل العلم رأوا أن هذا يحقق مصلحة سماع المأمومين ولا يترتب عليه أدنى مفسدة ولا علاقة له بهيكل الصلاة وداخل الصلاة وإنما هو أمر يبلغ الصوت كالمكبر وراء الإمام أو المبلغ لقول المحدث وهو المستملي فهذه الآلات حكمها حكم ذلك.
كون النبي عليه الصلاة والسلام نام عن صلاة الصبح فيه تشريع وفيه أيضاً تسلية للمسلم الذي تفوته بعض الصلوات من غير قصد ولا اختيار بعد أن فعل جميع الاحتياطات وارتفعت جميع الأسباب التي تقتضي فوات الصلاة فهذا له أن يقول إن النبي عليه الصلاة والسلام حصل له ذلك. لو أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحصل له ذلك أبداً لشق ذلك على أهل الحرص والصلة إن حصل لهم شيء من ذلك.(4/12)
في حديث أبي قتادة ذكر أذان بلال وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بالإقامة ولم يذكر الأذان فإما أن يقال إن أبا هريرة لم يسمع الأذان فيكون المثبت معه زيادة علم خفيت على من لم يذكر أو نقول إن بلالاً أذن من غير أمر إنما أمر بالإقامة وأذن على المعتاد فيكون أمر الأذان أخف لأن الأصل في شرعية الأذان الإعلام بدخول الوقت والوقت قد خرج وعلى هذا نقول إن لم يؤذن للفائتة فالأمر فيه سعة ليست كمثل المؤداة بدليل أنه في صحيح مسلم أمر بلالاً بالإقامة لكنه من حديث أبي هريرة وقلنا إنه قد يكون خفي على أبي هريرة أن بلالاً قد أذن ولم يسمعه لبعده عن مكان التأذين أو نقول إن بلالاً أذن لكنه بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام وبإقراره وعدم إنكاره فالشرعية موجودة على كل حال لكن لا يكون حكمه كحكم الأذان في أول الوقت لأن الأمر إنما جاء بالإقامة.(4/13)
جابر رضي الله عنه ضبط حجة النبي عليه الصلاة والسلام وأتقنها من خروجه عليه الصلاة والسلام من بيته إلى رجوعه إليه ولذا يعتمد كثير من أهل العلم على ما يرويه جابر ويقدمه على ما يرويه غيره ولذا حديث جابر من أفراد مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين وحديث ابن مسعود وهو في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالمزدلفة المغرب بأذان وإقامة والعشاء بأذان وإقامة يعني بأذانين وإقامتين والأصل أن ما يرويه البخاري أرجح مما يرويه مسلم عند الجماهير فهذه قاعدة مطردة (أول من صنف في الصحيحِ محمدٌ وخُصَّ بالترجيحِ ومسلمٌ بعدُ وأهل الغرب مع أبي علي فضلوا ذا لو نفع) لكن قد يعرض للمفوق مما يرويه مسلم ما يجعله فائقاً على ما يرويه البخاري ومنه ما عندنا فجابر رضي الله عنه اعتنى بضبط الحجة عناية فائقة ولذا يرجح خبره على خبر ابن مسعود وإن كان في البخاري لكن يقول بعضهم أنه قد يكون أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالأذان للصلاتين وخفي الأذان الثاني على جابر فيؤذن لكل صلاة أذان وكذا لكل الصلوات المجموعة فكل صلاة لها أذان وإقامة.(4/14)
رواية ابن عمر المجملة تقتضي أنه إنما أقام لصلاة المغرب ولم يقم لصلاة العشاء أو العكس لأنه قال (بإقامة واحدة) لكن بينت رواية أبي داود هذا الإجمال حيث قال الحافظ (زاد أبو داود: لكل صلاة) وفي رواية (ولم يناد في واحدة منهما) وهنا نقول خفي الأذان على ابن عمر بأن يكون وقت الأذان قد ذهب ليقضي حاجته أو ليجدد الوضوء أو لغير ذلك لأن عدم الذكر لا يعني عدم الوجود بينما الذكر هو الذي يحتاج إلى الإجابة عنه يعني نحتاج إلى أن نجمع بين حديث ابن مسعود وحديث جابر ولا نحتاج إلى أن نجمع بين حديث ابن عمر وحديث جابر أو ابن مسعود لأن كون ابن عمر لم يذكر فلأنه قد خفي عليه لبعده أو لكونه نسي والعبرة بمن حفظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي. فالمعتمد أنه في الصلوات المجموعة يؤذن أذان واحد ويقام لكل صلاة.
قرب الإمام من المكبر عند إرادة التكبير في الصلاة, وإطالة عنقه ليصل إليه عند تكبيره للسجود, كل ذلك من الحركات التي تخل بالخشوع, وهذه الآلات تلتقط ولو من بعد فلا حاجة إلى التكلف.
المدود التي تحيل معاني كلمات الأذان تبطل الأذان.
قال أبو جحيفة (رأيت بلالاً ..) كيف يكون حديثاً ولم يذكر فيه رسول الله؟ إذا فُعِل الشيء في عهده عليه الصلاة والسلام لا يخلو أن يكون مما يغلب على الظن خفاؤه عنه أو يكون مما يغلب على الظن علمه به واطلاعه عليه أو يكون مستوي الطرفين فإذا قال الصحابي (كنا نفعل على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كذا وكذا) يحتمل أنه اطلع عليه وأقره ويحتمل أنه لم يطلع عليه لكن الجمهور على أن مثل هذا له حكم الرفع لأنه في عصر التنزيل ففعل بلال لهذه العبادة التي علمه إياها النبي عليه الصلاة والسلام لا يظن ببلال أنه يزيد من عنده أو يتصرف من عنده في عصر التنزيل لأنه لو فعل لفضحه القرآن فمثل هذا لا شك في أن له حكم الرفع. والحديث هو ما أضيف إلى رسول الله حقيقةً بالتصريح به أو حكماً كما هنا.(4/15)
جاء في بعض نسخ البلوغ (أمر بلال أن يشفع الأذان شفعاً).
حديث جبير بن مطعم (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) يقتضي عدم المنع, وعدم المنع لا يعني الأمر بالفعل, فكوننا لا نمنع من يصلي لا يعني هذا أننا نصلي أو نأمر من يصلي, وعمر رضي الله عنه عمل بقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس), فلا تثريب عليه في ذلك لأنه عمل بالنصوص الصحيحة, ولا تثريب على من اقتدى بجمهور العلماء فلا يصلي في أوقات النهي أي نفل من النوافل مهما كان سببه وينتظر حتى يخرج وقت النهي.
سؤال من أحد الطلبة: روي عن علي أنه كان يتنفل بعد العصر في خباءه, وصحح الألباني هذا الأثر في السلسلة وقال إنها من السنن التي لا ينبغي أن تفعل أمام العامة؟ الجواب: فعل الصلاة في الوقتين الموسعين أخف من فعلها في الأوقات المضيقة, ووجد من السلف من يتنفل بعد صلاة العصر, وهذا ما جعل ابن عبد البر وابن رجب يقولون إن ما بعد صلاة العصر وما بعد صلاة الصبح ليس بوقت للنهي, والنهي عن الصلاة في هذين الوقتين إنما هو لئلا يسترسل المصلي, فإذا ضُمِن أنه لا يسترسل فيصلي في الأوقات المضيقة فإنه لا تثريب عليه, ويبقى أن هذا فعل علي رضي الله عنه, وهو من الخلفاء الراشدين, لكن لا يُعَارض به المرفوع.
الأحاديث المرفوعة في استثناء يوم الجمعة من النهي عن الصلاة قبيل الزوال ضعيفة, لكن ثبت عن جمع من الصحابة أنهم يصلون في منتصف النهار يوم الجمعة, وجاء في الحديث في فضل يوم الجمعة (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي), ومن يرجح أن هذه الساعة هي وقت دخول الإمام يقول إنها وقت صلاة وليس الوقت وقت نهي, واستثناء يوم الجمعة مع ضعف الحديثين اللذين وردا فيه يتقوى بالأخبار الموقوفة.(4/16)
في حديث عقبة (وأن نقبر فيهن موتانا) النص جاء في الدفن, وجمع من أهل العلم يرون أن المنع لصلاة الجنازة, والإشارة بالدفن إشارة إلى ما قبل الدفن من الصلاة, لكن لا شك أن هذا التوجيه فيه ضعف. والمنهي عنه أصالةً هو الصلاة, وجاء في حديث عقبة بالنسبة للأوقات المضيقة ذكر الدفن, وهذا مما يزيد في شدة النهي والضيق فيها. والذي يقول بفعل ذوات الأسباب في هذه الأوقات لا إشكال عنده في صلاة الجنازة, فتكون من ذوات الأسباب, لا سيما وأن صلاة الجنازة من الواجبات, ومن أهل العلم من يرى تعارض مثل هذا النهي الشديد مع الأمر بالإسراع بالجنازة فتؤخر الجنازة قليلاً حتى يخرج وقت النهي.
أهل العلم قرروا أن المسافر لا يترخص حتى يتلبس بالسبب الذي هو السفر, ولذا لا يجيزون له أن يترخص حتى يفارق عامر البلد, وخبر أنس رضي الله عنه حينما أراد السفر وأفطر في رمضان قبل أن يخرج من بيته معروف, وكلام أهل العلم فيه قبولاً ورداً معروف, فمن فعل اقتداءً بأنس وصح عنده الخبر له ذلك, لكن من فعل الأحوط وترك الترخص حتى يخرج من البلد لا شك أنه أبرأ للذمة.
الأصل أن الإمام ينبه قبل الصلاة على ما فيه تكميل الصلاة من تسوية الصفوف والاعتدال فيها والتراص, ومن تكميل الصلاة أيضاً إزالة ما يشوش على المصلين, فلو نبه المصلين أحياناً إلى إغلاق أجهزة الاتصال بحيث لا يكون ديدنه ذلك فلا حرج إن شاء الله تعالى.
للسخاوي كتاب اسمه (الأصل الأصيل في ذكر الإجماع على تحريم النقل من التوراة والإنجيل) لكن نرى أهل العلم ينقلون منهما للرد على ما فيهما.(4/17)
في حديث أبي هريرة عن رسول الله (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) والمشاهد أن البعير إذا برك يقدم يديه قبل رجليه بغض النظر عن كون الركبتين في اليدين أو في الرجلين ومقتضى النظر الظاهر في الحديث أن أوله يعارضه آخره ولذا قال ابن القيم إنه انقلب على الراوي لكن الصحيح أنه لم ينقلب على الراوي بل آخره يشهد لأوله. المنهي عنه البروك وهو النزول على الأرض بقوة فيقال برك البعير وحصحص البعير إذا أثار الغبار وفرق الحصى فمن يبرك بقوة على يديه يكون قد أشبه البعير ومثله من يبرك بقوة على ركبتيه فهذا منهي عنه أيضاً وإنما المقصود أن يضع يديه مجرد وضع على الأرض ولا يبرك بقوة فآخر الحديث يشهد لأوله وهو أرجح من حديث وائل (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) وقال في حديث وائل (وضع) فالملاحظ الوضع في الحالين ولذا شيخ الإسلام لم يرجح بين الحديثين بل يرى أن المصلي إن قدم يديه بمجرد الوضع أو قدم ركبتيه بمجرد الوضع فالأمر لا يختلف لأن هذا جاء من فعله وذاك جاء من أمره لكن من يريد الترجيح بين الأمرين فحديث أبي هريرة وفيه تقديم اليدين أرجح من حديث وائل فإن له شاهداً من حديث ابن عمر.
الأذان إذا أطلق فإنه ينصرف إلى الأذان المعروف لا الإقامة وأما الإقامة وإن كان فيها إعلام بقرب القيام إلى الصلاة إلا أن الكلمة عند الإطلاق لا تنصرف إليها.
جاء في الخبر (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان) والغيلان نوع من الجن فإذا تراءت للناس فالمشروع المبادرة بالأذان حتى يكفيهم الله شرها.
(وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا) الترضي يعود على عمر وابنه وعائشة والقول يعود على ابن عمر وعائشة.(4/18)
(إن بلالاً يؤذن بليل) يعني قبل طلوع الصبح لقوله (فكلوا واشربوا) وابن أم مكتوم يؤذن على طلوع الصبح (وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت) يعني دخلت في الصباح. وقوله (لا ينادي ..) مدرج في الحديث إما من ابن عمر وإما من الزهري ودليل الإدراج أنه جاء في بعض الروايات في البخاري (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم قال وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت).
(أصبحت) قد تطلق هذه الكلمة ويراد بها حقيقتها وهي الدخول الفعلي في الصباح وهو الأصل في معناها وقد يراد بها أخذ الحيطة والحذر فقد يتأخر الإنسان في الأكل فيقرب من طلوع الصبح فيقال (أصبحت) وقد يزاد في المبالغة فيقال (أضحيت) خشية أن يأكل في غير وقت الأكل.
المقصود أن الأذان المتقدم على طلوع الصبح لا يمنع من الأكل كما أنه لا يبيح الصلاة والحديث يدل على جواز اتخاذ مؤذِّنَيْن.
ليس هناك فاصل كبير بين الأذانين وإنما غاية ما هنالك أن ينزل هذا ويصعد هذا كما في بعض الروايات.
فيه دليل على جواز قبول خبر المؤذن وإن كان واحداً فالأذان إخبار بدخول الوقت والمفترض في المؤذن أن يكون ثقة فإذا أذن قبلنا خبره بلا نظر في تقويم أو غياب شمس ونحو ذلك بل يقبل خبره إذا كان ثقة ولو كان أعمى.
جواز ذكر الإنسان بعاهته إذا كان القصد من ذلك مجرد التعريف ولم يقصد بذلك شينه ولا عيبه (عبس وتولى ...) فلم يقصد عيبه ولكن للحاجة الداعية إلى ذكر هذه العاهة لتعريف السامع بالسبب فإذا كانت العاهة لها أثر في الخبر كما هنا فإنها تذكر وكذا إذا كان الشخص لا يعرف إلا بها كالأعمش والأعرج ولا يقصد بذلك شينه ولا عيبه وهذا مستفيض عند أهل العلم.(4/19)
جواز نسبة الرجل إلى أمه إذا كان لا يكره ذلك أو كانت الأم أشهر من الأب ولم يكن القصد من ذلك الحط من قيمته ولا ازدراء أبيه وإنما هو لمجرد التعريف والأصل (ادعوهم لآبائهم) فإذا كان يكره النسبة إلى أمه أو كان أبوه أشهر من أمه فلا يجوز أن يدعى بأمه.
(يوم ندعواْ كل أناس بإمامهم) يوم القيامة يدعى الإنسان بأحب الأسماء إليه لكن ما معنى (بإمامهم)؟ هل المراد به جمع أم أو المراد به الإمام المتبوع؟ المراد به الإمام المتبوع لكن من أهل العلم من شذ وقال إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم لأن (بإمامهم) جمع أم ولا عُهِدَ أن الأم تجمع على (إمام) وإنما تجمع على (أمات) و (أمهات) لكن هؤلاء يعللون لهذا القول بأن فيه تشريفاً لعيسى حيث يدعى لأمه وستراً على أولاد الزنا لأن ولد الزنا ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه (للعاهر الحجر).
إذا وثق بالصوت فإن الخبر يقبل من وراء حجاب فيجوز أن تروي عمن لا ترى شخصه إذا وثقت بصوته كما أنه يجوز لك أن تروي عنه وجادةً إذا جزمت بأن هذا خطه وإن لم تسمعه من كلامه وشعبة بن الحجاج يمنع من الرواية إذا لم ير الشخص لئلا يتلبس الشيطان ببعض الناس ويحدثهم فينقلون عنه والراجح في هذا قول الجمهور.
الإدراج إذا كان لمجرد تفسير كلمة غريبة أو لتوضيح كلام موجود في أصل المتن لا إشكال فيه وهو كثير في النصوص لكن إذا وجد الإدراج بحيث أن هذا الراوي المدرِج لا ينبه على هذا الكلام المدرَج في بعض المجالس بحيث يروى عنه من بعض الطرق أنه من كلامه أي لم يفصل بين كلامه وبين كلام النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المجالس وأوهم الناس أن هذا من كلامه عليه الصلاة والسلام فمثل هذا حرام.
يعرف المدرَج بجمع الطرق فالمدرِج يأتي في بعض الطرق ما يدل على أنه هو الذي زاد هذا الكلام.(4/20)
اتخاذ مؤذنين في آنٍ واحد منع منه قوم لأنه يحصل به التشويش ويشوش بعضهم على بعض وعلى هذا إذا أمن التشويش وصار في اجتماع الصوتين قوة في الصوت فإنه لا يمنع منه وإذا وجد في المسجد أكثر من منارة وهي متباعدة لكبر المسجد بحيث يضعف صوت من عن يسار المسجد عن يمين المسجد فلا يسمعه من عن يمين المسجد وكذلك العكس فمن منع لأجل التشويش فمثل هذا يحقق مصلحة ولا يوجد تشويش على أنه لو أذن من على جهة اليمين أولاً فلما فرغ أذن من على جهة الشمال فلا بأس وأما أذانهما في آنٍ واحد فهو غير مأثور. هذا كان موجوداً في المسجد النبوي في آنٍ واحد يؤذنون ثم منع منه.
الذي يقابل المحفوظ الشاذ وهو مخالفة الثقة من هو أوثق منه.
قيل عن حديث (ألا إن العبد نام) أنه غير محفوظ وعليه فهو شاذ للمخالفة بينه وبين حديث (إن بلالاً يؤذن بليل) لأنه في هذا الحديث أمره بالرجوع فينادي (ألا إن العبد نام) وفي ذاك لم يأمره بالرجوع فحصلت المخالفة بين الحديثين لأنه لا يتصور أن يأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يقول ناد في الناس (ألا إن العبد نام) مع أنه يؤذن بليل كما في الحديث المتفق عليه وعليه فالحديث شاذ مخالف لما هو أقوى منه.
(إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) تتحقق المماثلة في متابعة المؤذن جملة جملة وجاء التفصيل في حديث عمر (فإذا قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر) وبهذا يستدل من يقول باستحباب جمع الجملتين في التكبير.(4/21)
لو كان المؤذن يستغرق أذانه خمس دقائق كما في بعض الجهات والإنسان بيده عمل أو كتاب أو مصحف يقرأ فيه ويقول (إذا قرب من الفراغ أسرد الأذان) فهل تتم المتابعة بمثل هذا؟ قوله (مثل ما يقول) يقتضي أن تكون الجملة بعد قول المؤذن هذه الجملة لأنه إذا قال (حي على الفلاح) فقلت (الله أكبر) فهل قلت مثل ما يقول؟ لا تتم المماثلة وإن كان هناك مماثلة من وجه لكن المماثلة لا تتم إلا إذا كانت جمل المجيب بعد جمل المؤذن.
مقتضى العموم في قوله (فقولوا مثل ما يقول) أنه يقول مثل ما يقول في جميع جمل الأذان بما في ذلك الحيعلتين ومقتضى رواية مسلم من حديث عمر في فضل القول كما يقول المؤذن أنه يقول في الحيعلتين (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الرواية كالصريحة في أن المجيب يقول ذلك ولا يقول (حي على الصلاة حي على الفلاح) وهذا نظير (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد) ومقتضى الأمر بمتابعة الإمام وعدم الاختلاف عليه أن يقول مثل ما يقول وهو أيضاً مقتضى الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا التوجيه يشمل الإمام والمأموم والمنفرد فمقتضى ذلك أن يقول المأموم (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) وبهذا قال الشافعية والجمهور على أن الإمام يقول (سمع الله لمن حمده) والمأموم يقول (ربنا ولك الحمد) ولا يقول (سمع الله لمن حمده) لأن قول المأموم عُقِّب على قول الإمام بالفاء التي تقتضي التعقيب المباشر بغير فاصل وكأن هذا هو المرجح. في حديث عمر (سوى الحيعلتين) ولولا هذا لقلنا إن الجمع ممكن ولا تنافي بين أن يعمل بالعام ويأتي باللفظ الخاص لأنه لا منافاة بين العموم والخصوص وبهذا قال جمع من أهل العلم أن المجيب يجمع فيأتي بالحيعلتين ثم بعد ذلك يحوقل لكن المرجح عند أكثر أهل العلم أنه لا يأتي الحيعلتين لأنه لا فائدة من ذلك فالمؤذن حينما يقول الحيعلتين فلأنه يدعو الناس إلى الصلاة ففيه فائدة بالنسبة له(4/22)
لكن المجيب وهو يجيب بينه وبين نفسه بكلام سري ما الفائدة من الحيعلتين بالنسبة له؟ وهذا وجه كونه لا يجيب بقوله (حي على الصلاة حي على الفلاح) وإنما يحوقل. إذا قال المؤذن (الله أكبر الله أكبر) ثم قال المجيب (الله أكبر الله أكبر) فإنه يثاب عليه المجيب والشهادتان كذلك إلى آخر الأذان.
إذا ثوب المؤذن لصلاة الصبح فقال (الصلاة خير من النوم) فإن عموم (إذا سمعتم المؤذن ...) يقتضي أن المجيب يقول (الصلاة خير من النوم) وبعض المتأخرين من الفقهاء يقول إن (الصلاة خير من النوم) خبر فلا فائدة في ذكره سراً مثل الحيعلتين وإنما يقول بدل ذلك (صدقت وبررت) وهذا مجرد استحسان لا دليل عليه ولذا لا يشرع مثل هذا الكلام وإنما يقول مثل ما يقول المؤذن.
هل طلب الإمامة (اجعلني إمام قومي) مثل طلب الإمامة المنهي عنه في قوله (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة) وفي الخبر (لا نولي هذا الأمر من طلبه أو حرص عليه)؟ لا شك أن الطلب يتفاوت بحسب القصد فمن طلب الإمامة بقصد ألا تفوته الصلاة وأن يراجع حفظه فلا بأس بذلك لأن هذا قصد صحيح ومن طلبها من أجل المكافأة فلا يجوز ذلك. طلب الإمارة المنهي عنه إنما هو في أمور الدنيا.
هل الأفضل الإمام الذي يضبط صلاته لأنه إمام وخلفه من يهابهم فيلاحظهم لئلا يقال إنه كثير السهو أو الإمام الذي ينتبه إلى المعاني وينظر إلى حقيقة الصلاة ويتدبر ما يقوله ويترتب على ذلك وجود السهو في صلاته؟ نص بعض المالكية على أن الإمام الذي يسهو في صلاته أفضل من الإمام الذي لا يسهو في صلاته لأن سهوه دليل على أنه لم يلاحظ المخلوق وإنما يتأمل ويتدبر في صلاته والذي لا يسهو إلا نادراً هذا دليل على أنه ملاحظ للمخلوق مع أنه قد يلاحظ الخالق ولا يسهو لأنه إذا فرغ قلبه وقالبه من مشاغل الدنيا وأقبل على صلاته فإنه يضبط صلاته ولا يلزم أن يكون هذا من ملاحظة المخلوق.(4/23)
إذا طلب الإمامة سواء كانت في الدين أو في الدنيا بقصد حسن أجر على هذا القصد وإذا طلبها من أجل الدنيا فإنه لا يؤجر والنبي عليه الصلاة والسلام أجاب عثمان إلى هذا الطلب. إذا كان الإنسان قد تعين عليه القضاء أو الإفتاء وكان أمثل القوم وغيره لا تبرأ الذمة به فأهل العلم يقولون إنه لا مانع من أن يتعرض لمثل هذ وإن لم يصرح لأن هدفه صحيح ومقصده شرعي يؤجر عليه وقد صرح يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض) وإن كان قد يقول قائل إن هذا في شرع من قبلنا وأما في شرعنا فجاء النهي (لا تسأل الإمارة) وعلى كل حال إذا كان مقصده شرعياً فإنه يؤجر عليه. وأما إذا كان قصده الوجاهة في الدنيا وحب الشرف أو المال فإنه حينئذ يحرم عليه.
(واقتد بأضعفهم) اجعل الأضعف نصب عينيك فلا تشق عليه واجعل الحد الأدنى من التحمل تحمل هذا الأضعف. فإذا كان خلفك من لا يتحمل الوقوف أكثر من خمس دقائق وآخر يستطيع الوقوف إلى عشرين دقيقة فاقتد بالذي لا يتحمل أكثر من خمس دقائق فلا تتجاوزها.
أخذ الأجرة على العبادات المحضة لا يجوز. مثاله: لا أصير لكم إماماً إلا بمبلغ وقدره كذا ولا أصلي ولا حتى مأموماً إلا بمبلغ وقدره كذا ولا أصوم إلا إذا أعطيتموني عن كل يوم مائة ريال فهذا حرام ولا يجوز.
لكن إذا قال (أنا مستعد للإمامة ولا أريد أجراً على الإمامة وإنما أريد أجراً على ارتباطي حول المسجد) فلا مانع من أن يفرض له جُعْل من بيت المال وأما أن يشارط ويقول (لا أصلي بكم إلا بكذا) فهذا يقول الإمام أحمد فيه (من يصلي خلف هذا؟!!).
فالأجر والمشارطة في العبادات لا تجوز ولا مانع من أخذ الجُعْل من بيت المال.(4/24)
أما بالنسبة للتعليم وقصر النفس عليه والتفرغ له والانقطاع عن المصالح والكسب له ولولده فجمهور أهل العلم على جواز أخذ الأجرة عليه وعمدتهم في ذلك الحديث الصحيح (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) فإذا جاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن فمن باب أولى أن يجوز أخذ الأجرة على الحديث على أن الإمام أحمد والحميدي وجمع من أهل التحري يمنعون من أخذ الأجرة على الحديث لكن الجمهور على جواز أخذ الأجرة على التحديث لا سيما إذا أفضى إلى انقطاع المعلم عن الكسب له ولأولاده ومن تحت يده. بعضهم يفرق بين العلوم الشرعية التي هي عبادات وبين علوم الدنيا أو علوم الوسائل كالعربية مثلاً فإنهم يجيزون أخذ الأجرة على ذلك وقد عرف من أهل العلم من يأخذ أجرة على التحديث وعرف من يأخذ أجرة على تعليم العربية حتى ذكر عن بعضهم أنه لا يعلم ألفية ابن مالك إلا بكل بيت درهم. على كل حال الورع شيء والحكم بالمنع والتحريم شيء آخر وأما بالنسبة للعبادات المحضة كالإمامة والأذان فالمشارطة عليها حكمه معروف لكن لا بأس من أخذ جعل من بيت المال على أن لا يكون الهدف هو هذا الجعل وكونه يستعين به ليتفرغ فهذا لا بأس به.
حديث عثمان بن أبي العاص أقل أحواله الحُسْن.
(إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) حضور الصلاة هو حضور وقتها كما هو الأصل في شرعية الأذان أو حضور فعل الصلاة. واللام هنا لام الأمر وهذا أحد أدلة القائلين بوجوب الأذان ووجوبه ظاهر من هذا الحديث وغيره.
لا يشترط في المؤذن مزيد على شرط الإسلام لقوله (أحدكم) مع أنه من يلاحظ المعاني ويلاحظ عمومات ما جاء من النصوص في الأذان فإنه يعلم أن الأندى صوتاً والأعرف بالأوقات أولى من غيره وأنه لا بد أن يكون ثقة يعتمد على خبره وهذا الحديث (أحدكم) مجمل بينته النصوص الأخرى.(4/25)
(إذا أنت فترسل) أي تأن ورتل (وإذا أقمت فاحدر) أي أسرع لأن الأذان شرع لنداء الغائبين إلى الصلاة ويناسب الغائب عدم العجلة وعدم السرعة بينما الإقامة هي إعلام الحاضرين فالحاضر يعلم بالإقامة وإن كانت مع السرعة والحدر على أن الخبر ضعيف لأن في إسناده جهالة وله شواهد لكنها كلها واهية. لكن معناه صحيح.
(واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله) والشارب من شربه وصاحب الحاجة من حاجته إذا دخل الخلاء لكن الخبر ضعيف. لكن يجعل بينهما وقتاً يكفي لتحصيل شرط الصلاة.
الأوقات المحددة بين الأذان والإقامة من قبل الجهة المعنية أمور تنظيمية لا مانع من الإلزام بها إذا رأى ولي الأمر ذلك وإلا فالأصل إذا لم يشق على الناس أن الإمام يراعي حال المأمومين فإذا اجتمعوا بادر وإذا تأخروا تأخر لكن في مثل هذه الأوقات لا يمكن ضبط الناس بهذه الطريقة ولو وجد مجموعة تكون ظروفهم متماثلة فإنه يطبق فيهم السنة.
البخاري ترجم في صحيحه (باب كم بين الأذان والإقامة) ولم يذكر حداً محدداً لأنه لم يثبت عنده في ذلك شيء.
الزهري لا تصح له رواية عن أبي هريرة وعليه فحديث (لا يؤذن إلا متوضئ) منقطع وعليه فهو ضعيف ويصح الأذان من المحدث سواء كان حدثه أصغر أو أكبر على ألا يدخل المسجد من كان حدثه أكبر.
وإن لم تشترط الطهارة للأذان إلا أن المنع يأتي من جهة أخرى وهي الخروج من المسجد بعد الأذان وجاء في الحديث الصحيح (أما هذا فقد عصى أبا القاسم). نعم هذه حاجة لكن ما الداعي إلى مثل هذه الحاجة؟ لو قدر أن المؤذن جاء متأخراً فأذن ثم خرج بسرعة ورجع فهو معذور لكن أن يكون ديدنه أن يأتي ليؤذن ويسقط هذا الواجب عنه ثم يرجع إلى بيته فيكمل أعماله ويتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ليقيم فمثل هذا لا يأتي الصلاة إلا عن دبر.(4/26)
(من أذن فهو يقيم) ضعيف لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي والجمهور على أن عبد الرحمن هذا ضعيف. وإن كان ضعف الخبر ليس بشديد لكن هذا حكم من الأحكام لا يثبت بمثل هذا الإسناد. وإن كان الحكم المشتمل عليه هذا الحديث أن من أذن فهو يقيم هو قول أكثر أهل العلم فقد قال الترمذي (العمل على هذا عند عامة أهل العلم).
حديث عبد الله بن زيد (أنا رأيته) في المنام كما تقدم (وأنا كنت أريده) والنبي عليه الصلاة والسلام قال (ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً) وقال (فأقم أنت). وهذا الحديث ضعيف وهو يخالف الحديث السابق لأن مفاده أنه ألقى الأذان على بلال فأذن بلال وقوله (فأقم أنت) يدل على أن الذي أقام غير الذي أذن وعلى هذا فلا يشهد هذا الحديث للسابق.
أهل العلم يكرهون أن تقرأ السورة التي فيها سجدة في الصلاة السرية لأنها تشوش على الناس لأنه لو سجد لسبحوا به لأنهم لا يدرون أنه سجد للتلاوة وأما كونه ينبههم قبل الصلاة بأنه سيقرأ سورة فيها سجدة فهذا ليس بمأثور وعليه فلا ينبغي أن يقرأ سورة فيها سجدة في السرية لتضمنها التشويش على الناس.
(المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة) ضعيف لتفرد شريك القاضي به وهو معروف بسوء الحفظ فالمرفوع ضعيف لكن الموقوف على علي صحيح ومعناه صحيح.
بمجرد ما يتفرد ابن عدي برواية الخبر نعرف أنه ضعيف لأنه لا يروي في كتابه (الكامل) إلا أحاديث تفرد بها الراوي المترجم له وأُنكِرت تلك الأحاديث عليه يعني من منكرات ذلك الراوي ولذا يقول الناظم صاحب طبعة الأنوار (وما نُمِي (يعني من مظان الضعيف) لِعَق (أي العقيلي) وعَد (أي ابن عدي) وخَط (أي الخطيب) وكِر (أي ابن عساكر) ومسند الفردوس ضعفه شُهِرْ) والمقصود أن الكامل لابن عدي من مظان الضعيف فلا يحتاج الحافظ إلى أن يقول (وهو ضعيف) لكنه تصريح بما هو مجرد توضيح.(4/27)
المفترض في المؤذن أنه ثقة عارف بالأوقات فليس من صلاحيات الإمام أن يتدخل في الأذان كما أن الإقامة مربوطة بالإمام فليس للمؤذن أن يفتات على الإمام فيقيم قبل حضوره إلا إذا كان بينهما علامة كما لو كان بينهما اتفاق أنه بمجرد ما يدخل الإمام فإن المؤذن يقيم فله أن يقيم بمجرد دخول الإمام لكن لو كان الإمام أحياناً إذا دخل يأمر بالإقامة مباشرة وأحياناً يتنفل قبل ذلك فليس للمؤذن أن يقيم بمجرد ما يدخل الإمام المسجد.
في الحديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) وبلال إذا حان وقت الإقامة ذهب وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام ثم جاء فأقام وأحياناً يقوم المأموم قبل أن يحضر الإمام وقد يتأخر الإمام بعد الإقامة والنبي عليه الصلاة والسلام دخل في يوم من الأيام فأقام بلال فتذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن عليه غسلاً فرجع واغتسل وهم قيام ولم تُعَد الإقامة وجاء عند البيهقي وغيره أن قيام المأموم عند قول المقيم (قد قامت الصلاة) وهو المنصوص عليه عند الحنابلة لكن الخبر ضعيف لأن في سنده الحجاج بن أرطاة والمقصود أن قيام المأموم مربوط برؤية الإمام لقوله (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني).
(لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) فهو من المواطن التي ترجى فيها إجابة الدعاء يعني بعد متابعة المؤذن وقول (اللهم رب هذه الدعوة التامة ..).
ذكر البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند كلمة الإقامة (أقامها الله وأدامها) وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف ففي مقدمة صحيح مسلم (ألا إن شهراً نزكوه) يعني رموه بالنيزك أي ضعفوه.(4/28)
(من قال حين يسمع النداء اللهم رب ..) قوله (حين يسمع النداء) هل يقول ذلك في أثناء الأذان ووقت سماعه له أو بعد الفراغ منه؟ ما هي دلالة اللفظ؟ الحين هو الوقت فهل معناه (من قال وقت سماع النداء) أو بعد الفراغ من النداء؟ وهل في وقت سماع النداء تقول مثل ما يقول بحيث يكون وقت سماع النداء مستغرق بإجابة المؤذن؟ بعد سماع المؤذن وإجابة النداء والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام تُسأل له الوسيلة والمراد ما جاء في هذا الحديث. الفعل المضارع قد يطلق ويراد به ما يرادف الماضي كما أن الماضي يطلق ويراد به المستقبل فهما متقارضان. في الفعل الماضي السياق قد يدل على أن الفعل يكون بعد تمام ما رتب عليه وأحياناً يكون عند إرادة ما رتب عليه وأحياناً يكون عند الشروع فيما رتب عليه: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) يعني إذا أردتم القيام لا بعد الفراغ من القيام للصلاة وكذا (إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) فأحياناً يطلق ويراد به إرادة الفعل وأحياناً يطلق ويراد به الفراغ من الفعل وهذا هو الأصل كما في قوله (إذا كبر فكبروا) فليس معناه إذا أراد التكبير فكبروا ولا إذا شرع في التكبير فكبروا بل إذا فرغ من التكبير فكبروا وأما قوله (إذا ركع فاركعوا) فالمراد به إذا شرع في الركوع اركعوا وليس إذا أراد الركوع ولا إذا فرغ من الركوع لأنك إذا انتظرت حتى يفرغ منه فاتتك الركعة. فـ(حين يسمع) أي إذا سمع بدليل رواية مسلم أنه بعد الصلاة والسلام على رسول الله يقول (اللهم رب هذه الدعوة ..).
حديث (من قال حين يسمع ..) مخرج في البخاري.
الدعوة التامة هي دعوة التوحيد في أول الأذان (أشهد ألا إله إلا الله) وفي آخره (لا إله إلا الله).
(والصلاة القائمة) التي أقيم لها أو ستقام (والوسيلة) هي ما يتقرب به إلى الله عز وجل (والفضيلة) المرتبة الزائدة على سائر الخلق.(4/29)
(مقاماً محموداً) بحيث يُحمد قيامه فيه ومعنى (ابعثه) أي أعطه أو ابعثه من قبره متصفاً بهذا الوصف. والتنكير هنا للتعظيم والتفخيم وقد روي بالتعريف (المقام المحمود) عند النسائي وابن حبان والتنكير أولى لما يشتمل عليه من تعظيم وتفخيم ولأنه هو الموافق لما جاء في القرآن (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) وهو المروي في الصحيح.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الأربعاء السابع والعشرين من محرم عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الثلاثاء الرابع من شهر صفر, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(4/30)
مهمات شرح باب الحث على الخشوع في الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الحث والحض بمعنى واحد والحث أعم من أن يكون الأمر المحضوض والمحثوث عليه واجباً أو غير واجب فيحث ويحض على فعل الواجبات كما يحث ويحض على فعل المندوبات. فهذه الترجمة تجعل الخشوع أعم من أن يكون واجباً أو مندوباً وعليه يكون الحكم بناءً على الأدلة التي تحت هذه الترجمة ولا يؤخذ حكم الخشوع في الصلاة من الترجمة.
الخشوع قالوا هو الخضوع أو قريبٌ منه ويكون بالقلب والجوارح وهو أمر مطلوب بل هو لب الصلاة وبقدره ينال المصلي النسبة من صلاته وبنقصه ينقص ثواب الصلاة ولذا جاء في الحديث (قد ينصرف الرجل من صلاته وليس له إلا ربعها أو عشرها) لأنه لم يعقل من صلاته إلا هذه النسبة.
كان عمر يجهز الجيوش وهو في الصلاة فكان رضي الله عنه مشغولاً بأمور الدين وهذا تشريك عبادة بعبادة ومثله من يصلي خلف إمام يبكي والمصلون يبكون متأثرين بالقراءة لكنه يبكي متأثراً بأوضاع المسلمين ومثله من يصلي في الدور الثاني في الحرم ويبكي حينما يرى الطائفين متصوراً يوم العرض والناس يموج بعضهم في بعض ولا يبكي متأثراً بقراءة الإمام وهذا لا شك أنه يؤثر في صلاته ولا شك أنه غفلة عما هو بصدده لكن ليس تأثير هذه الغفلة في الصلاة مثل تأثير غفلة من قلبه معلق بأمور دنياه وهذا أسهل بكثير ممن قلبه منشغل بالتخطيط لفعل المعاصي وهو في الصلاة.
جماهير أهل العلم على أن الخشوع في الصلاة مندوب بل ادعى النووي الإجماع على عدم وجوب الخشوع في الصلاة مع أنه قد قال بوجوبه جمع من أهل العلم فالغزالي في الإحياء أطال في تقرير الوجوب وابن رجب يرى وجوب الخشوع في الصلاة لكن الجمهور على عدم وجوبه بمعنى أن الصلاة تصح إذا أديت مكتملة الشروط والأركان والواجبات ولو لم يعقل منها شيء لكن يفوته الثواب المرتب عليها.(5/1)
معنى صحة الصلاة عدم المطالبة بها بمعنى أنه لا يطالب بإعادتها إذا جاء بها مكتملة الشروط والأركان والواجبات.
مدح الله تعالى المؤمنين بكونهم في صلاتهم خاشعين وجاء في الحديث (أول ما تفقدون من صلاتكم الخشوع).
يوجد خلط في الفهم الصحيح للصلاة وغيرها من أمور الدين فتجد الإنسان يشرع في أمر مستحب ويعيقه ذلك عن صلاته فانشغل بأمر مستحب ليس من أعمال الصلاة ولم يعقل من صلاته شيئاً ومعلومً أن الواجب أهم من المستحب فلا بد على من كانت هذه حاله أن يتدارك نفسه ويعيد حسابه ويسعى جاهداً في تصفية قلبه ولا أنفع للقلب من قراءة القرآن على الوجه المأمور به وملازمة الذكر وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى والانكسار بين يديه لا سيما في أوقات فراغ البال لكن هذا يتصور في من همه الآخرة وأما من كانت همه الدنيا والآخرة مجرد إسقاط واجب فهذا لا يفلح في الغالب وليس معناه أنه يعذب.
يقرر بعضهم عند قوله جل وعلا (الذين هم عن صلاتهم ساهون) أن الذي لا يخطئ في صلاته ولا يسهو ليس بأكمل ممن يخطئ في صلاته ويسهو لأن هذا منشغل بإكمال ظاهرها وذاك منشغل بتكميل حقيقتها وباطنها وهذا التقرير ذكره المفسرون في تفسير سورة الماعون وقالوا إن الذي يسهو في صلاته أكمل من الذي لا يسهو لكن المسألة تعود على السبب الباعث على هذا السهو فإن كان السبب الباعث على هذا السهو تدبر ما يقرأ فلا شك أنه أكمل ممن يقرأ بغير تدبر وإن كان السبب الباعث على هذا السهو الانشغال بأمور خارج الصلاة فلا شك أنه أقل فيكون السهو لذاته جبلي لا يُذم ولا يُمدح وإنما السبب الذي نشأ عنه هذا السهو هو الذي يُمدح ويذم فالسبب الذي نشأ عنه السهو يمكن أن يمدح ويمكن أن يذم.
حديث أبي هريرة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً) وفي حكم الرجل المرأة وهو مرفوعٌ قطعاً.(5/2)
معنى الاختصار أن يضع يديه أو إحدى يديه على خاصرته وجاء التعليل بأنه من فعل اليهود وهل النهي عنه لأنه تشبه باليهود أو لأنه مخل بالخشوع؟ إدخال المصنف الحديث في الباب يدل على أن للاختصار أثر في تقليل الخشوع ولا يناسب حال الصلاة إطلاقاً بل لا يناسب المسلم مطلقاً بل هو من فعل اليهود ومن يتشبه بهم من فنانين ومغنين ففعله مصادمة تامة للخشوع ولا يليق بالصلاة. اللائق بالصلاة والدليل على خشوع الجوارح هو أن يضع يديه على صدره ويرمي ببصره إلى موضع سجوده ويطأطئ رأسه وأما خشوع القلب فأمرٌ آخر لكن الظواهر عنوان البواطن والناس إنما يحكمون عليك بظاهرك ولا يمكن أن يخشع القلب مع الاختصار.
جاء في حديث (المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور – أي المصلون بالليل – فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم) لكنه حديثٌ لا أصل له فلا يعارض به حديث الباب.
فسر بعضهم الاختصار في الحديث بالاختصار في القراءة يعني يقتصر على الشيء اليسير من المقروء ومن الدعاء ومن الذكر وهذا وإن كان مجزئاً وجاء بالقدر الواجب إلا أنه خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام وأولى ما يفسر به الحديث ما جاء من أن الاختصار هو وضع اليدين على الخاصرة أو الخاصرتين والعلة في ذلك كما في البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم وقد نهينا عن التشبه بهم خارج العبادات فالتشبه بهم داخل العبادات أشد بلا شك ولذا مما ينقل عن اليهود أنهم يغمضون أعينهم فيكره إغماض العينين تشبهاً باليهود وإن كان ابن القيم يرى أنه لا بأس به إذا كان أجمع للقلب وما كان فيه تشبه فهو ممنوع.
العشاء طعام العشي يعني طعام آخر النهار والغداء طعام الغداة أول النهار.
حديث أنس (إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب) لأن البداءة بالصلاة مع تقديم العشاء لا سيما مع الحاجة إليه والتعلق به مما يشوش الخاطر ولذا أدخله المصنف في باب الخشوع.(5/3)
مثل العشاء ما يقاس عليه مما يشوش الذهن لكن إذا كان ديدن الإنسان أن كل شيء يشغل باله فإنه لا يقال له (لا تصلِّ حتى تنهي نهمتك مما اشتغلت به) ولو افترضنا شخصاً مفتوناً بالكتب اشترى صفقة كتب وقضى الليل كله في تقليب هذه الكتب فإنه لا يقال له (إذا أُذِّن للفجر فانتظر حتى تنهي نهمتك من هذه الكتب) بل يقال له (صلِّ ولو انشغل بالك) ومثل هذه القلوب التي تنشغل بأدنى شيء لا بد من علاجها فهذه القلوب فيها خلل لأن أعظم ما عند المسلم من عمل هو الصلاة فإذا كان يقتني هذه الكتب من أجل أن تعينه على العبادة وقدم هذه الوسيلة على الغاية صار عنده خلل ولا بد أن يعالج قلبه.
الذي يكون عنده الشيء ليس بعادة ولا ديدن فإنه يعالَج بفعل هذا الشيء لكن من كان هذا الشيء ديدناً وعادةً له فإنه لا يعالَج بفعل هذا الشيء فمن كان نهوماً وينشغل كلما رأى طعاماً لا يقال له (قدم الأكل على الصلاة) بل مثل هذا يحتاج إلى علاج قبل ذلك.
لا بد أن تكون النفس مرتبطة بمطالب الشرع. نعم هناك أمور فطرية جبلية كالأكل والشرب والحر والبرد ولا بد من تهيئة الظروف المناسبة لأداء هذه العبادة العظيمة لكن إذا كان الشخص كل حياته على هذه الطريقة بحيث كلما انتهى من شغل دخل في شغل آخر فإنه يقال له (صلِّ وليس لك من صلاتك إلا ما عقلت واحرص على أن يحضر قلبك في صلاتك).(5/4)
في الحديث (إذا وُضِع العشاء وأحدكم صائم): هذا مقيد بالصيام, والحديث هنا مطلق, والأولى أن تُستنبَط العلة من النصوص كلها فتُربَط بالحاجة إلى الطعام, وهذه الحاجة تحول بين المصلي وبين صلاته, فالعلة من تقديم العشاء على الصلاة هي لئلا ينشغل المصلي بطعامه عن صلاته, بشرط أن يكون ذلك طارئاً لا ملازماً له. والتنصيص على الصائم للاهتمام بشأنه والعناية به, لأنه أحوج الناس إلى الطعام, وذكره من بين سائر أفراد من يقدم لهم الطعام لا شك أنه ذكر للخاص بحكم موافق لحكم العام فلا يقتضي التخصيص بالصائم, بل كل من وُجِدت عنده الحاجة الملحة الطارئة فإنه يقدم قضاءها على العبادة ليتفرغ للعبادة, لا اهتماماً بالطعام وإنما اهتماماً بالعبادة.
إذا لم يبق من الوقت إلا الشيء اليسير ثم قُدِّم الطعام فإنه يصلي الصلاة في وقتها ولو تشوش ذهنه, لأن المحافظة على الوقت شرط لصحة الصلاة, والخشوع الذي يذهبه تعلق القلب بالطعام على القول بوجوبه لا يقاوم ما اشترط للصلاة.(5/5)
حديث (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى) والعلة في ذلك (فإن الرحمة تواجهه) قال الحافظ (رواه الخمسة بإسناد صحيح) ومعلوم أنه إذا صحح الإسناد فإن معناه أن الرواة اجتمع فيهم الضبط والعدالة واتصل الإسناد بمعنى أن كل واحد من الرواة قد تلقاه ممن فوقه بطريق معتبر لكن في إسناد الحديث أبو الأحوص وهو مشهورٌ بكنيته ولا يعرف اسمه واطردت العادة أن من اشتهر بكنيته يضيع اسمه. وأبو الأحوص هذا قال فيه الحافظ ابن حجر نفسه في التقريب (مقبول) وحديث المقبول ضعيف إلا إذا توبع - والمقبول من ليس له من الحديث إلا الشيء القليل ولم يثبت في حقه ما يترك حديثه من أجله فإن توبع فمقبول وإلا فليِّن - وأبو الأحوص لم يتابع على رواية هذا الحديث فهو لين وعليه فالحديث الذي حكم عليه الحافظ بأن إسناده صحيح ضعيف ولو حكم على المتن بأنه صحيح فلا إشكال فلو قال (الحديث صحيح) والمقصود به المتن لكان الحكم صحيحاً لأن له شاهداً من حديث معيقيب وهو في الصحيح لكن الإسناد ليس بصحيح, على أنه قد يصح الإسناد ولا يصح المتن لوجود شذوذ أو علة, فقول الحافظ (بإسناد صحيح) فيه ما فيه.
الحافظ حكم على الراوي بأنه مقبول مع أنه لم يتابع على حديثه هذا فالأصل أن يُحكم عليه بأنه لين واللين حديثه من قبيل الضعيف. نعم ضعفه غير شديد فينجبر برواية غيره ويرتقي إلى المقبول.
أما متن الحديث فصحيح لأن له شاهداً من حديث معيقيب وهو مخرج في الصحيحين وغيرهما.
الفعل الماضي يطلق ويراد به الفراغ من العمل ويطلق ويراد به إرادة العمل ويطلق ويراد به الشروع في العمل.(5/6)
في قوله (إذا قام أحدكم في الصلاة) لا بد أن نضمن (قام) فعل يتعدى بـ(في) التي للظرفية. المراد أنه إذا شرع في الصلاة فلا يمسح فنضمِّن (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح) معنى (إذا شرع في الصلاة فلا يمسح) فضُمِّن الفعل (قام) معنى الشروع وتضمين الفعل أولى من تضمين الحرف كما قرر ذلك شيخ الإسلام وغيره وليس المراد (إذا أراد القيام فلا يمسح) لأنه قبل الشروع في الصلاة لا يحتاج إلى إذن لأن مسح الحصى مباح لا إشكال فيه فالممنوع مسح الحصى بعد الشروع في الصلاة.
قوله (فإن الرحمة تواجهه) هذه علة منصوصة في الخبر إلا أنها منصوصة في هذا الخبر الذي فيه مقال وخلا منها خبر معيقيب الصحيح وإذا كانت هذه هي العلة فلِمَ أدخل الحافظ الحديث في باب الخشوع؟ لأن مسح الحصى يتضمن حركة والحركة عبث والعبث ضد الخشوع ولا يمنع أن يشتمل الخبر على أكثر من علة فيُمنع من مسح الحصى لأنه حركة ويُمنع منه أيضاً لأن الرحمة تواجهه.
الحديث (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) يُروى مرفوعاً وموقوفاً والموقوف أقوى لأن المرفوع شديد الضعف بل حكم بعضهم ببطلانه. والقلب لا شك أنه يتبع الجوارح من جهة أو الجوارح عنوان على القلب.
النهي يشمل مسح ما على الجبهة ويشمل مسح ما على الأرض لأن اللفظ عام (فلا يمسح الحصى) وهذه الحركة منافية للخشوع. قد يقول قائل (من مقتضى الخشوع في الصلاة أن يمسح الحصى الذي على الأرض ليتم خشوعه)؟ الجواب: قال الحافظ (وزاد أحمد: واحدة أو دع) يعني إن كان ولا بد فامسح واحدة أو دع أي عند الحاجة أذن له بواحدة.
الإذن بالواحدة يدل على أن النهي للكراهة.
معيقيب هو ابن أبي فاطمة الدوسي شهد بدراً ومات في خلافة عثمان رضي الله عنه.
في حديث معيقيب (لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلاً فواحدة) وليس فيه التعليل.(5/7)
مقتضى اتفاق نسخ البلوغ على قوله (وللترمذي وصححه) بعد حديث عائشة الذي في البخاري أن الحديثين مرويين من طريق صحابي واحد أي كلاهما عن عائشة هنا والصواب أنه للترمذي عن أنس والشارح كأنه شرح على أساس أن هذه الرواية عن عائشة يعني هي من حديث عائشة السابق لأنه ضبط (إياك) بكسر الكاف وقال: لأنه خطاب المؤنث.
لا بد من طبع الكتاب كما هو ولا يتعرض له بتصحيح وإنما يُعلَّق عليه لأن أهل العلم في رواية الحديث وضبطه يقررون أنه يروى كما وُجِد وينبَّه على الصواب إذا كان فيه مخالفة للصواب لأنه لو فُتِح المجال للتصحيح في أصل الكتاب لأمكن ألا يبقى كتاب سليم فكل من عنَّ له أن يصحح هجم على الكتاب وصحح. لا يستثنى من ذلك إلا الآيات فالقرآن هو الذي يصحح فلا يروى على الخطأ وأما الحديث فيروى على ما وُجِد وينبه على الصواب. فإذا أخطأ مؤلف من المؤلفين وكان خطؤه واضحاً واتفقت جميع النسخ على هذا الخطأ بما في ذلك نسخة المؤلف والنسخ المقابلة على نسخة المؤلف فإنه يبقى كما هو على الخطأ ويكون دور المحقق التنبيه على هذا الخطأ.(5/8)
الحديث الذي صححه الترمذي (إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة فإن كان لا بد ففي التطوع) في إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو مضعف عند الأكثر. الترمذي يصحح بالشواهد ولذا قل أن يذكر حديثاً ولا يذكر له شواهد فإذا روى الحديث قال (وفي الباب عن فلان وعن فلان ...) والأكثر على أنه متساهل وتصحيحه لهذا الخبر مع أن فيه من ذُكِر تساهل كما نص على ذلك الحافظ الذهبي وغيره وإن كان الشيخ أحمد شاكر ينازع في هذا ويقول إن تصحيح الترمذي معتبر وتصحيحه للخبر توثيق لرجاله وكلام الشيخ أحمد شاكر فيه تساهل أشد من تساهل الترمذي لأن الترمذي نفسه لم يزعم ذلك لأن الترمذي قد يصحح الخبر لطرقه وشواهده ولا يلزم أن يصحح الطريق نفسه فلا يلزم من تصحيحه توثيقه للرواة. وقد وثق الشيخ أحمد شاكر جمعاً من الرواة جماهير أهل العلم على تضعيفهم.
أفضل طبعات سنن الترمذي: الشيخ أحمد شاكر حقق جزئين منه وأما الجزء الثالث فقد حققه فؤاد عبد الباقي وهو تحقيق متوسط وأما الجزئين الرابع والخامس فقد حققهما إبراهيم عطوة عوض وتحقيقه لا شيء وعليه فليعتنى بالجزئين اللذين حققهما الشيخ أحمد شاكر مع طبعة بشار على ما فيها من نقص يسير لكنها نافعة.
نسخ الترمذي من القدم بينها تفاوت كبير في الأحكام على الأحاديث ولذا جامع الترمذي كما قال أهل العلم أولى ما يعتنى بنسخه الأصلية لمقابلة بعضها على بعض وتصحيح ما جاء في بعضها من تصحيف.
بعضهم حكم بانقطاع التصحيح والتضعيف بعد الستمائة وقال إنه لم يبق إلا تقليد الأئمة والصواب أن باب التصحيح والتضعيف فرع عن باب الاجتهاد الذي رتب عليه الأجر والثواب وضُمن استمراره إلى قيام الساعة عند وجود الأهلية.(5/9)
الاختلاس هو الأخذ بخفية وبخلسة فالشيطان يسرق من صلاة العبد خفية وهذا دليل على أن الالتفات منقص للثواب المرتب على هذه العبادة ولذا المقرر عند أهل العلم أن الالتفات مكروه ما لم ينحرف بصدره عن جهة القبلة فإذا كان مجرد لي العنق إلى اليمين أو إلى الشمال فهذا أطلقوا فيه الكراهة.
أهل العلم يتفقون على اشتراط استقبال القبلة بالبدن وكله ويخففون من أمر الوجه فيقررون أن الالتفات بالوجه مكروه مع أن المنصوص عليه في الاستقبال من بين سائر البدن هو الوجه (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ودخول المنصوص عليه من بين أفراد العام في النص في الاشتراط قطعي فبالنظر إلى الآية أولى ما يستقبل به شطر المسجد الحرام المنصوص عليه وهو الوجه فإذا قلنا إن الالتفات بالوجه ليس فيه إلا الكراهة فالالتفات ببقية البدن مكروه من باب أولى!!!. هم يقررون أن الالتفات بالوجه يميناً وشمالاً مكروه والصلاة صحيحة لكن لو لوى صدره يميناً وشمالاً بطلت صلاته!!!.
الصحابة رضوان الله عليهم التفتوا لما خرج النبي عليه الصلاة والسلام من حجرته في مرضه التفتوا إلى جهة حجرته لما خرج منها فرأوه ورأوا إشارته ولو لم يلتفتوا لم يروه, فاعتماد أهل العلم على إطلاق مجرد الكراهة على الالتفات إنما هو على فعل الصحابة رضي الله عنهم وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام فإنه دل على أن الالتفات بالوجه لا يبطل الصلاة لأنه لم يأمرهم بإعادتها وإن كان خلاف الأولى. والصحابة لم يلتفتوا من جهة أصلية إلى جهة فرعية بل إلى جهة أصلية أخرى وهي الجنوب باتجاه الحجرة.
قوله جل وعلا (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ليس هو العمدة في اشتراط استقبال القبلة بل الدليل على اشتراط ذلك غير هذه الآية فيكون الأمر هنا فيما يتعلق بالوجه على جهة الاستحباب لأن الالتفات مكروه. وإلا لو قلنا إن الاشتراط مستفاد من هذه الآية لدخل الوجه دخولاً قطعياً في الاشتراط.(5/10)
القول بأن المراد بالوجه في الآية (فول وجهك شطر المسجد الحرام) هو الذات يفتح باباً لأهل لمن يؤول الوجه في آيات الصفات بالذات فإذا كان المقصود بالوجه هنا الذات فإنه يلزمنا أن نؤول الوجه بالذات في النصوص الأخرى.
لا شك أن أشرف ما في الإنسان وجهه والتنصيص عليه لأهميته فإذا كان التنصيص عليه لأهميته يكون هو أولى ما يدخل في النص ولولا إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لصنيع الصحابة والتفاتهم إلى جهته ونظرهم إليه وإلى إشارته لما تردد في اشتراط استقبال القبلة بالوجه ولما كان عن إبطال الصلاة مندوحة لأنه منصوص عليه والمنصوص عليه دخوله في النص قطعي.
لا شك أن الالتفات انصراف عن الجهة التي أمر بالاتجاه إليها ومثل هذا الانصراف بالبدن مؤدي إلى انصراف القلب الذي هو ضد الخشوع.
كان الالتفات في الصلاة هلكة لأنه مخل بهذه العبادة العظيمة والأصل أن الإنسان إذا دخل في الصلاة فإنه مستغرق فيها لأنه يناجي ربه فإذا انصرف عن مولاه فلا شك أن هذا خلل في الاتجاه إلى ربه عز وجل.
صلاة التطوع أمرها أخف من صلاة الفريضة وبناءً على هذا الحديث يكون الالتفات من الفروق بين صلاة التطوع وصلاة الفريضة إن صح الخبر. ومما صح من الفروق صلاة النافلة على الدابة دون الفريضة وصحة صلاة النافلة من قعود مع الاستطاعة دون الفريضة وغير ذلك من الفروق وما عدا ما صح من الفروق فما ثبت في الفرض ثبت في النفل لأن الكل يجمعه لفظ الصلاة.
في الحديث (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبصقن بين يديه ولا عن يمينه) إذا كان المصلي يناجي ربه فمقتضى ذلك أن يكون خاشعاً وألا يبصق بين يديه وجاء في الحديث بيان العلة أن عن يمينه ملكاً في رواية عند البخاري (فإن ربه بينه وبين القبلة).(5/11)
في الحديث (ولكن عن شماله تحت قدمه) لا شك أن جهة اليمين أشرف من جهة الشمال والمراد تحت القدم اليسرى ليتحقق الوصفان كونه عن الشمال وكونه تحت القدم لكن جاء في رواية وهي عند البخاري (عن شماله أو تحت قدمه).
هذا يشمل ما إذا كان داخل المسجد وما إذا كان خارج المسجد لأنه علق بالصلاة بغض النظر عن مكانها وجاء ما يدل على المنع من البصاق والنخاع في المسجد فهل نقيد ما جاء في حديث الباب بما إذا كان في المسجد؟ أو نقول إن حديث الباب باقٍ على عمومه فينهى عن البصاق جهة القبلة واليمين إذا كان في الصلاة سواء داخل المسجد أو خارجه ويكون البصاق في المسجد ممنوع مطلقاً؟ ولذا جزم النووي بالمنع من أن يبصق تلقاء وجهه جهة القبلة أو جهة اليمين في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أو غيره. وجاءت أحاديث كثيرة في المنع من البصاق إلى جهة القبلة وفي المسجد وأنها خطيئة وجاء أن كفارتها دفنها.
لا يبعد الاستنباط من هذه الأحاديث على أنه بعد استعمال المناديل فإنها توضع في الجيب الأيسر تشريفاً لجهة اليمين لأنه يفهم من هذه الأحاديث تشريف جهة اليمين لأنك إذا أعدته إلى الجيب الأيسر تكون كأنك بصقت عن يسارك.
لا شك أن جهة اليسار تكون للأمور المكروهة لكن إذا كانت العلة (فإن عن يمينه ملكاً) فلقائل أن يقول (وأيضاً عن يساره ملك)؟ قال بعضهم (لعل الملك الذي عن يساره الذي يكتب السيئات لا يقارنه في الصلاة لأنها أشرف أحوال المصلي) لكن على كل حال علينا امتثال أوامر الشرع ونواهيه.
القرام سِتر يوضع في البيوت للحاجة لحجب النور والشمس وما أشبه ذلك.
جاء ذم سَتر الجدران وعني بذلك السلف عناية فائقة وشددوا في ذلك.(5/12)
في الحديث (أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) القرام هو الستار الرقيق, ومنهم من يقول الصفيق, وفيه ألوان, والتصاوير هي النقوش والمعنى أنها تشوش عليه في صلاته عليه الصلاة والسلام, ففي الحديث دليل على إزالة ما يشوش على المصلي صلاته, والناس بعد أن انفتحت عليهم الدنيا ابتلوا بهذه الأمور التي تشوش على الإنسان في الصلاة وغيرها, وحتى أماكن العبادات لم تسلم من ذلك.
كل ما كان الإنسان أقرب إلى البساطة كان قلبه أقرب إلى الإخلاص.
قوله (فلا تزال تصاويره تعرض لي في صلاته): التصاوير هي النقوش, ولا يلزم من ذلك أن تكون ذوات أرواح. والحديث يدل على أن الصلاة في مثل هذه الحالة وفي مثل هذا المكان صحيحة, لكن ينقص الثواب المرتب على هذه الصلاة بقدر ما انصرف فيه القلب من الإقبال على الله عز وجل.
أبو جهم أهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام خميصة - كساء مخطط له أعلام - فلبسها النبي عليه الصلاة والسلام وصلى فيها, وألهته عن صلاته وشغلته, وقال عليه الصلاة والسلام (إنها كادت أن تفتني في صلاتي), فأمر بإعادة الخميصة إلى أبي جهم, ولما كانت إعادتها لأمر يتعلق بهذه العبادة لا استخفافاً بالمهدي ولا استنكافاً عن هديته طلب منه الأنبجانية, ومستواها أقل من الخميصة, فالأنبجانية كأنها كساء لا خطوط فيه ولا نقوش فلا يشغل عن الصلاة.
قوله (فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي): فيه دليل على كراهة استصحاب كل ما يشغل ويلهي في الصلاة.
قوله (إنها كادت أن تفتني في صلاتي): المراد بالفتنة هنا الشغل, ومثلها فتنة الرجل في ماله وأهله وولده وجاره, يعني انشغاله بهذه الأمور.
إذا قلنا إن المقصود بالوجه في قوله تعالى (ويبقى وجه ربك) صفة الوجه ألا يلزم من ذلك أن غير الوجه يفنى؟ الجواب: لا يلزم منه ذلك والتنصيص على بعض الأفراد لا ينفي بقية الأفراد فالحكم واحد والكلام في الصفات إنما هو فرع عن الكلام في الذات.(5/13)
لو وجد من الكفار من يستعمل ساعة اليد في جهة فمخالفتهم مطلوبة على أن لبس الساعة باليد لا يسلم من مشابهة لحلي من أذن له بالتحلي لا سيما إذا كانت الساعة ذات منظر جميل أو لون جذاب ومع أني لا أقول بالمنع إلا أني أقول ينبغي لطالب العلم أو من تقدم سنه في العلم وصار قدوة عند الناس أن يترفع عن مثل هذا.
الذي قرره شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم أن الآية (فأينما تولوا فثم وجه الله) ليست من آيات الصفات. قد يحتاج إلى مثل هذا التأويل وأن المراد بالوجه غير الوجه الحقيقي للتوفيق بين النصوص وإلا فالأصل في الوجه أنه القدر المعروف من البدن وعليه فلا يقال إن المراد بالوجه غير الوجه الاصطلاحي في غير هذه الآية وهذا التأويل إنما يسلك للتوفيق بين النصوص وليس هو الأصل. فالمراد بالوجه في قوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) الوجه الحقيقي لا القُبَالة والجهة.
حديث جابر بن سمرة (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة): لما منع المصلي من الالتفات والانصراف إلى جهة اليمين وجهة الشمال بقي من الجهات جهة العلو والسفل والاستقبال.
أكثر أهل العلم على أن السنة للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده والمالكية يرون أنه ينظر إلى جهة القبلة لقوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) فالأمر المشروع متردد بين استقبال القبلة بالوجه وبين النظر إلى موضع السجود.(5/14)
رفع البصر إلى السماء في الصلاة لا خارجها جاء فيه التحذير الشديد لأنه حيدٌ وميل عما أمر به الإنسان في قوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) فيكره كراهة شديدة أن يلتفت يمنة ويسرة وأما رفع البصر إلى السماء فترتيب العقوبة عليه يدل على أنه محرم وليس في الحديث ما يدل على إبطال الصلاة برفع البصر إلى السماء لأنه ليس فيه (لا صلاة له) أو (صلاته باطلة) وإن قال الظاهرية إنه تبطل به الصلاة لأن عندهم كل نهي يقارن عبادة ولو عاد إلى أمر خارج عنها فإنه يبطلها فالنهي عندهم يقتضي البطلان مطلقاً سواء عاد إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه أو إلى وصفه الملازم له أو إلى أمر خارج عنه.
النظر إلى السماء خارج الصلاة للتفكر والاعتبار عبادة جاء الحث عليها في نصوص كثيرة كما في قوله تعالى (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) وقوله (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت) وترجم البخاري (باب النظر إلى السماء) واقتصر على إيراد قوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) فإما أنه أراد هذه الآية وما بعدها وإما لأن من نظر إلى الإبل لا سيما إذا كانت قائمة فإنه لا بد أن ينظر إلى السماء.
أولو الألباب هم أهل الذكر المفرِّدون لقوله تعالى بعد آية آل عمران السابقة (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم).(5/15)
حديث عائشة (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان): (لا) هنا نافية والمنفي هنا الصلاة الشرعية فقد توجد صورتها لكن حقيقتها الشرعية المسقطة للطلب التي تبرأ بها الذمة منفية كما في حديث المسيء (صل فإنك لم تصل). وهل نقول هنا كما نقول في حديث المسيء أن الصلاة باعتبارها باطلة غير مجزئة ساغ نفيها؟ هل نقول إن الصلاة بحضرة طعام ومع مدافعة الأخبثين باطلة فيتجه النفي إلى الحقيقة الشرعية وإن كانت الصورة موجودة؟ أهل العلم في مثل هذه الصورة يطلقون الكراهة فلو صلى بحضرة طعام أو مع مدافعة الأخبثين فصلاته صحيحة لكنها ناقصة الأجر والثواب بقدر ما شغله الانشغال بالطعام أو بالمدافعة من إقبال على ربه وما نقصه من خشوع في صلاته.
هذا فيما يمكن رفعه مما يشغل عن الخشوع لكن ماذا عما لا يمكن دفعه كحر شديد أو برد شديد أو جوع مع عدم وجود طعام فالانشغال موجود؟ تقدم حديث الإبراد وهو في المقدور عليه وفي حدود الوقت لكن قد يوجد مما يشغل الإنسان مما لا يستطيع دفعه والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً فبعض الناس لا يطيق الحر ولو بعد غروب الشمس فمن كانت هذه حاله نقول له صل على حالك واحرص على الخشوع وما لا تستطيعه لا تكلف به.
العلة في الخبر ظاهرة وهي إذهاب الخشوع بالكلية أو تقليله فيكون في حكم المذكورات ما يشاركها في العلة فإذا كان الألم يعتصر الإنسان ويشغل باله مع استطاعته أن يصلي فإن له أن ينتظر حتى يخف الألم ولا يعني هذا أنه يؤخر الصلاة بهذا العذر إلا إذا بلغ به الألم مبلغاً بحيث لا يستطيع معه أن يصلي فهذا معذور.
المراد بالنفي في الخبر النهي. والنهي إذا جاء على صيغة النفي أبلغ من مجرد النهي.
إذا صلى بحضرة هذه الأمور فصلاته باطلة عند الظاهرية لأن كل نهي عندهم يقتضي البطلان.(5/16)
حديث أبي هريرة (التثاؤب من الشيطان): كان التثاؤب من الشيطان لأنه دليل على الخمول والكسل والإخلاد إلى الراحة وغير ذلك مما يعوق عن العبادة أو يثبط عنها والتثبيط عن العبادة عادة الشيطان وديدنه فكأن التثاؤب نشأ من الشيطان لأنه يحبه. وينشأ هذا التثاؤب إما من الإفراط في الأكل أو الإفراط في ترك النوم وقد ينشأ عن الإفراط في كثرة النوم والمطلوب من المسلم الاعتدال في الأكل والشرب والنوم والكلام وجميع تصرفاته.
من سنته عليه الصلاة والسلام أنه كان ينام ويصلي وما حفظ عنه أنه أحيا ليلة إلى الصباح وإن كان في العشر الأواخر من رمضان يشد المئزر ويعتزل الأهل لكن إن قلنا إنه في العشر الأواخر لا ينام – كما قال بذلك جمع من أهل العلم – فلا يعني هذا أن هذا ديدنه عليه الصلاة والسلام.
من أسباب سرعة الشيخوخة والخرف تقليل النوم عن الحد الأدنى.
ما يبتلى الإنسان بمرض القلب وبموت القلب إلا بسبب فضول الطعام والشراب والنوم والنظر وغير ذلك.
في الحديث (فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) أي فليضع يده أو شيئاً على فمه لئلا يرى منه ما يستقذر أو يخرج منه ما يستقبح والمقصود أن هذا من الأدب النبوي. ويستفاد من قوله (ما استطاع) أن الذي لا يستطيعه لا يكلفه.
من تصدر منه أصوات مزعجة عند التثاؤب إن كانت في الصلاة فالصلاة في خطر من الإبطال وإن كانت خارج الصلاة فهي مكروهة كراهة شديدة.
من أدب قارئ القرآن أن يمسك عن القراءة عند التثاؤب لأن هذه القراءة يتقرب بها إلى الله عز وجل والتثاؤب من الشيطان فلا يجتمع هذا وهذا.
عند الترمذي (التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع) فزاد قوله (في الصلاة) على ما عند مسلم ولا شك أن التنصيص على الصلاة لا يعني أن الأمر بالكظم خاص بالصلاة وأنه لا يكظم خارج الصلاة بل يكظم مطلقاً ويعتني بصلاته أكثر من غيرها.(5/17)
التثاؤب المصحوب بالكسل والخمول لا يمكن أن يتحقق معه الخشوع لأنه لو كان يستحضر الحال التي هو فيها فلا شك أن سيكون مشدوداً وسينشغل عن هذا التثاؤب.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم السبت الحادي والعشرين من صفر عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الخميس السادس والعشرين من صفر, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(5/18)
مهمات شرح باب اللباس من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
حديث أبي عامر الأشعري (ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الخز والحرير): في الصحيح (عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري) وفيه (ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ والحرير) بمهملتين, وضُبِط بالمعجمتين (الخز), لكن كونه بالمهملتين أرجح, وهو ما رجحه شراح البخاري ومنهم ابن حجر, وإن قال الصنعاني إن إدخال الحديث في باب اللباس يرجح المعجمتين, لأن الخز من اللباس, لكن نقول إنه وإن أدخله في باب اللباس فالراجح أنه بالمهملتين, وإدخاله في باب اللباس إنما هو من أجل ما عُطِف عليه وهو الحرير, وابن حجر نفسه رجح كونه بالمهملتين في فتح الباري.
المراد بالحِر الفرج, والمعنى أنهم يستحلون الزنا. ويكفرون باستحلالهم الزنا, لأن من يستحل أمراً مجمعاً عليه معلوماً من الدين بالضرورة يكفر, فقوله (من أمتي) باعتبار ما كان قبل كفرهم.
المراد بالأمة في الحديث أمة الإجابة, لأن أمة الدعوة يستحلون كل شيء.
الأصل في القوم أنه يشمل الرجال والنساء, وإذا عُطِف عليه النساء اختص بالرجال.
الحرير محرم بالنص على الرجال, كما جاء في الحديث (أُحِلَّ الذهب والحرير لإناث أمتي وحُرِّم على ذكورهم), ورخص عليه الصلاة والسلام في الحرير للحاجة.
في الحديث كما في الصحيح (والخمر والمعازف), وفيه أنه يُخسَف بهم, ومنهم من يُمسَخ نسأل الله العافية, والمسخ والخسف يكثر في هذه الأمة في آخر الزمان, ومن أسباب ذلك استحلال المحرمات.(6/1)
قوله (رواه أبو داود): الحديث صحيح لا إشكال فيه. وقوله (وأصله في البخاري): الحديث في البخاري بلفظه, لكن بدلاً من أن يقول (حدثنا هشام بن عمار) قال (وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد .. إلى آخره), وهشام بن عمار من شيوخه الذين لقيهم وروى عنهم, وقوله (وقال فلان) بدلاً من قوله (حدثنا فلان) أوجد خلافاً بين أهل العلم في مثل هذا الخبر, هل هو متصل أو معلق؟ منهم من قال إنه معلق, وكأن ابن حجر يميل إلى مثل هذا, والحافظ المزي عَلَّم عليه علامة التعليق, وأما ابن الصلاح والنووي والعراقي وجمع من أهل العلم فإنهم يرونه متصلاً, لأن قوله (قال فلان) وهو من شيوخه الذين لقيهم وأخذ عنهم وحدَّث عنهم بصيغة التحديث لا يمنع أن يكون قد أخذ عنه هذا الحديث, وللتفنن في العبارة مرة يقول (حدثنا) ومرة يقول (قال), وغاية ما في (قال) أنها مثل (عن), فهي محمولة على الاتصال بالشرطين المعروفين عند أهل العلم, والشرطان هما: أن يثبت اللقاء كما هو مقتضى شرط البخاري وما استفاض عنه أو أن تثبت المعاصرة كما هو مقتضى اكتفاء مسلم, وأن يسلم الراوي من وصمة التدليس. ومنهم من يقول إنه لو كان تلقاه عنه بدون واسطة لقال (حدثنا) كبقية الأحاديث. وقد ثبت لقاء البخاري لشيخه هشام بن عمار, ويقول ابن القيم إن البخاري أبعد خلق الله عن التدليس, فتوافر بذلك الشرطان, ولو قال ابن القيم إنه من أبعد خلق الله عن التدليس لكان أحوط.
كون بعض هذه الأمور يقرن ببعض لا يدل على أن حكمها واحد, هي كلها محرمة, لكنها متفاوتة في التحريم.
الذي يستحل الخمر والذي يستحل الزنا كافر, لأن تحريم ذلك ثابت بالنصوص القطعية, لكن الذي يستحل الحرير والذي يستحل المعازف لا يصل إلى حد الكفر لأن ثبوت تحريمها ليس قطعياً وإن كان على خطر.(6/2)
الخز - على الرواية الثانية - نوع من الحرير, وإن كان أخشن منه, لأنه يكون مخلوطاً بشيء من الصوف, فعطف الحرير عليه من باب عطف العام على الخاص, والمرجح في ضبط الرواية الإهمال.
حديث حذيفة (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها, ونهى عن لبس الحرير والديباج, وأن نجلس عليه): في باب الآنية قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وهنا قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة), فدل على أن تعبير الصحابي عن الأمر والنهي بقوله (أمر) و (نهى) بمثابة (افعلوا) و (لا تفعلوا).
لبس الحرير والديباج حرام بالنسبة للرجال دون النساء, وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم, وحُكِي عن ابن عُليَّة أنه أباحه للرجال, لكنه قول شاذ, وانعقد الإجماع بعده على التحريم بالنسبة للرجال, ونُقِل عن ابن الزبير تحريمه بالنسبة للنساء, ثم انعقد الإجماع بعده على الحل بالنسبة للنساء. فهو حرام على الرجال بالاتفاق, وحلال للنساء بالاتفاق.
الديباج نوع من الحرير, وهو من أنعم أنواعه.
قوله (وأن نجلس عليه): الجلوس لا شك أنه لبس, ولبس كل شيء بحسبه, وهنا جاء التنصيص على الجلوس للحاجة إلى ذلك, لأنه قد يُفرَش الحرير والديباج ويُجلَس عليه ولولا التنصيص عليه لما أدرك كثير من الناس أن لبس كل شيء بحسبه, وقد جاء في حديث أنس (فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس).(6/3)
ما يحرم على الكبار يحرم على الصغار, والمخاطب بمثل هذا النص ولي الصبي, وأجازه بعضهم مطلقاً كمحمد بن الحسن لأنهم غير مكلفين, ويجوز في وجه عند الشافعية إلباسهم الحرير والذهب في أيام العيد فقط, لكن الذكور من الصبيان يُلزَمون بما يُلزَم به الرجال, كما أن البنات الصغار يلزمن بما يلزم به النساء, وهذا على سبيل التعويد, وإلا فالأصل أنهم غير مكلفين, والأمر أمر لأوليائهم ولا يتجه الأمر إليهم, لأن القلم مرفوع عنهم, وإنما المطالب بهذا هو الولي, كما في قوله عليه الصلاة والسلام (مروا أولادكم بالصلاة لسبع), فهذا أمر للولي أن يأمر صبيه بالصلاة, وعلى الولي أن يأمره بما ينفعه ويحذره ويكفه عما يضره.
إذا نهي عن اللبس مع أن الحاجة قد تكون داعية إليه فلأن ينهى عنه مع عدم الحاجة من باب أولى. والمشي مثل الجلوس.
الحرير الصناعي إذا أخذ جميع خصائص الحرير الطبيعي فإنه يأخذ حكمه لأن العبرة بالمعاني والحقائق بغض النظر عن مصدره.
حديث عمر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع): (أو) هنا للتنويع أو للتخيير, وكأنه يوحي بأن العدم أفضل, لأنه بدأ بالأصبعين, يعني إن كان ولا بد فموضع أصبعين, فإن كان ولا بد فموضع ثلاثة أصابع, فإن كان ولا بد فموضع أربعة أصابع, على أن لا يزيد على ذلك.
الترخيص في القدر المذكور في الحديث هو مذهب الجمهور, لأنه قد يُحتاج للشيء اليسير, وروي عن مالك منعه مطلقاً قل أو كثر.
حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في سفرٍ من حكةٍ كانت بهما): العزيمة هي تحريم الحرير بالنسبة للرجال, يقابلها الترخيص للمضطر, فإذا احتيج إلى هذا الحرير بسبب حكةٍ لا تزول إلا به فلا بأس لهذا الحديث.(6/4)
منهم من قال إن السفر وصف مؤثر, فلا يُرَخَّص في الحضر ولو كان به حكة, لأنه في الحضر قد يجد البدائل والعلاج بخلاف ما لو كان في حال السفر.
الحكة تكون بسبب القمل, كما جاء في بعض الروايات, وأيضاً الجروح والقروح إذا كانت تتأثر باللباس الخشن فإنه يُرَخَّص في الحرير, والمقصود أن الحاجة تبيح ذلك.
منهم من قال إن الترخيص خاص بعبد الرحمن بن عوف والزبير, فلا يجوز لغيرهما أن يلبس الحرير بحال, وهو قول مالك وأبي حنيفة, أنه لا يجوز مطلقاً, لا من حكة ولا من غيرها, لكن التخصيص يحتاج إلى دليل, ولذا يجوز للضرورة عند الحنابلة والشافعية أن يلبس ما يدفع به الضرر بقدر الحاجة.
حديث علي (كساني النبي صلى الله عليه وسلم حُلةً سِيَرَاء, فخرجت فيها, فرأيت الغضب في وجهه, فشققتها بين نسائي): قال الحافظ (وهذا لفظ مسلم), لكنه لفظ البخاري لا لفظ مسلم.
الحُلَّة لا تكون إلا من ثوبين, إزار ورداء, وقوله (سِيَرَاء) على وزن (فِعَلاء), يقول الخليل: ليس في الكلام فِعَلاء بكسر أوله مع المد سوى سِيَراء وحِوَلاء وعِنَباء.
قوله (حُلَّةً سِيَرَاء): جاء بالإضافة من غير تنوين (حُلَّةَ سُيَرَاء), وذكر النووي في شرحه أن هذا أجود.
هذه الحُلَّة التي خرج بها علي حريرٌ خالص, أو برود مقطعة مخلوطة من حرير وخز, والمقصود أن الحرير فيها ظاهر.
قوله (فشققتها بين نسائي): هو يعرف أن الحرير جائز للنساء, وفي أول الأمر تصور أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما كساه إياها ليلبسها. وفي رواية (بين الفواطم): يعني زوجته فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام, وأمه فاطمة بنت أسد, وفاطمة بنت حمزة, وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب.
تقطيع علي رضي الله عنه هذه الحلة بين النساء ألا يعد إتلافاً لها؟ الجواب: بإمكان المرأة أن تستعمل القطعة منها ولو لم تكن كاسية للبدن, بل تستعملها كغطاء للرأس مثلاً.(6/5)
استدل بعضهم بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب, لأنه لما دفع الحلة إليه لم يخبره بتحريم لبسها, وإنما أخر هذا البيان إلى وقت الحاجة, ووقت الحاجة كان عند رؤيته للمنكر.
حديث أبي موسى (أُحِل الذهب والحرير لإناث أمتي, وحُرِّم على ذكورهم): هذا الحديث فيه كلام لأهل العلم, فقد أُعِل بالانقطاع, وأُعِل بغيره, وفي رواته بعض الضعف, لكن له طرق كثيرة يصل بها إلى درجة الصحيح لغيره.
حديث عمران بن حصين (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمةً أن يرى أثر نعمته عليه): هذا الحديث حسن.
حديث علي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسِّي والمعصفر): القَسِّي بفتح القاف وتشديد السين المهملة بعدها ياء النسب, وياء النسب مشددة, ويُذكَر عن أهل الحديث أنهم يكسرون القاف (القِسِّي), وأهل مصر يفتحونها, وهي نسبة إلى بلدٍ في مصر يقال لها (القَس), تُجلَب منها هذه الثياب.
القاموس الجغرافي للبلاد المصرية الحالية والمندرسة طُبِع في بولاق قبل مائة سنة, وطُبِع بعد ذلك في ستة مجلدات في دار الكتب المصرية.
البلدان التي ترد في النصوص لا بد من معرفتها, لأنها تعين على فهم النص.
جاء في البخاري في وصف هذه الثياب: فيها حرير أمثال الأترج. يعني بقع كبيرة من الحرير تزيد على الأربعة أصابع, قد تكون بقدر الكفين معاً.
المعصفر هو المصبوغ بالعصفر, أي الأصفر الخالص.
جواز لبس المعصفر وحمل النهي على الكراهة قال به الجمهور, وإن كان الأصل في النهي التحريم, وجاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام لبس الحلة الحمراء, وابن القيم يجزم بأنها ليست حمراء خالصة, وإنما فيها خطوط حمر وبقع غير حمراء, وإن كان الغالب الحمرة. لكن الأحمر الخالص جاء النهي عنه وجاء إنكاره على ابن عمر وغيره من قِبَل النبي عليه الصلاة والسلام, ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن المياثر الحمر.(6/6)
كونه صلى الله عليه وسلم لبس الحلة الحمراء, فهي ليست بحمراء خالصة, والمنهي عنه الأحمر الخالص, كما يقال للشماغ أحمر ولا يقال له أبيض, وإن كان البياض فيه بقدر الحمرة, لكن باعتبار أن الأحمر يجذب أكثر من الأبيض فالنظر يتجه إليه والوصف ينصرف إليه, فهو أحمر وإن كان الأبيض فيه بقدر الأحمر.
حديث عبد الله بن عمرو (رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟): قال له (أمك أمرتك بهذا؟) لأنه لباس النساء.
أقل أحوال لبس المعصفر الكراهة الشديدة, وذهب بعض العلماء إلى تحريمه. وأما الأحمر الخالص فهو أشد من الأصفر, فلا يجوز لبس الأحمر الخالص بالنسبة للرجال, وقد ثبت النهي الشديد عنه, وأما المعصفر فهو لباس النساء ومعروف أن التشبه بالنساء لا يجوز, لكن الأمر فيه أخف عند أكثر العلماء حيث حملوا النهي فيه على الكراهة.
في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى عليه ريطة مضرجة بالعصفر فقال: ما هذه؟ فعرفت ما كره, فأتيت أهلي وهم يسجِّرون تنورهم, فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بذلك للنساء. وهذا حديث حسن.
تمام الحديث الأول: لما قال له (أمك أمرتك بهذا؟) قال عبد الله بن عمرو: أغسلهما يا رسول الله؟ قال: بل أحرقهما. وفي الحديث الذي في السنن لما أحرقهما قال: ألا كسوتها بعض أهلك. فدل على أن الأمر بالإحراق مبالغة في الإنكار ومن باب التغليظ في الأمر والتشديد فيه, لكن لو قُسِّم للنساء فإنه يجوز لهن لبسه, لأنه من لباسهن.(6/7)
حديث أسماء (أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج) وأصله في مسلم وزاد (كانت عند عائشة حتى قُبِضت فقبضتها, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها, فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها) وزاد البخاري في الأدب المفرد (وكان يلبسها للوفد والجمعة): أسماء بنت أبي بكر, أكبر من عائشة, وعُمِّرَت بعدها, وماتت عن مائة سنة ولم يسقط لها سن ولم يتغير لها عقل, ماتت بعد ابنها عبد الله بشيء يسير, قيل بعشر ليال.
أخرجت الجبة لتستدل بها على ابن عمر, لأنه بلغها أنه كان يحرِّم العلم في الثوب, يعني الشيء اليسير, لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له).
الجيب هو الذي يُخرَج منه الرأس.
الكف هو ثني الطرف, وهذه يقال لها كُفَّة, لأنهم يقولون كل مستديرٍ كِفة وكل مستطيلٍ كُفة.
النبي عليه الصلاة والسلام فيه من البركة بحيث يُستَشفى بما باشر جسده الطاهر.
يشرع للمسلم أن يستقبل الناس باللباس الطيب والأكمل. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يلبس أحسن ثيابه للعيدين والجمعة.
الكم ينبغي أن يكون إلى الرسغ كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام, وتطويل الأكمام خلاف السنة وأقل أحواله الكراهة, وهو إسبال لكنه ليس مثل إسبال أسفل الثوب.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم الجمعة العشرين من رجب عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده قبيل صلاة فجر يوم السبت الحادي والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(6/8)
مهمات شرح باب المساجد من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
المساجد جمع مسجِد ومسجَد.
لا يعمر المسجد العمارة الحقيقية - سواء كانت عمارة معنوية أو حسية - إلا من آمن بالله لقوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) الآية. فالذي يعمر المسجد عمارة معنوية بالتردد إليه لأداء الصلوات هو المؤمن بالله عز وجل والذي يعمر المسجد عمارة حسية من مال طيب يبتغي بذلك وجه الله هو المؤمن بالله عز وجل.
من مسائل الجاهلية التمدح بعمارة المسجد الحرام وهذا مذموم إذا كان مع مقارفة الشرك وفي مقابلة الإيمان لقوله تعالى (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ..) الآية. وأما إذا كانت عمارة المسجد الحرام وغيره من بيوت الله مقرونة بالإيمان فقد جاء مدحها كما في الحديث المتواتر (من بنى لله مسجداً ولو كمَفحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة).
جاء في مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) وجاء في الخبر (المسجد بيت كل تقي) والمؤمن التقي نزهته وسياحته في بيوت الله وجاء أن من كان قلبه معلق بالمساجد فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
المسجد في عهد النبوة هو الإمارة والشرطة والهيئة ومنه تبعث الجيوش وفيه تقام الدروس وكل ما يصدر من الحكومة النبوية منبعه المسجد.
يأتي أحياناً تعليمات تنص على إغلاق المساجد ولا شك أن هذه التعليمات والتوجيهات لها أسباب ولها وجه لكن يبقى أن الأصل أن المسجد متاح للمسلمين يزاولون فيه ما فيه شرع من عبادات وحتى النوم يجوز في المسجد (النبي عليه الصلاة والسلام أيقظ علياً وهو نائم في المسجد) فإذا وجد من يوثق به ويركن إليه ويتكفل بحفظ المسجد فإن مثله ينبغي أن يمكن من البقاء في المسجد لأن علة المنع معقولة يزول الحكم بزوالها.(7/1)
حديث عائشة (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب): صحح الترمذي إرساله لكن المرجح عند أهل العلم أنه موصول وصححه جمع من أهل العلم فهو صحيح.
صيغة (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) مرفوعة بالاتفاق ودلالتها على اللزوم كدلالة (افعلوا) عند الجمهور.
يحتمل أن يكون المراد بالدور البيوت ويحتمل أن يكون المراد الأحياء المشتملة على الدور ويحتمل أن يكون المراد القبائل كما جاء في الحديث الصحيح (خير دور الأنصار بنو النجار) يعني خير قبائل الأنصار بنو النجار فيكون أمر أن تبني كل قبيلة مسجداً ولا يمنع أن يتناول الحديث بعمومه أن يتخذ الإنسان في بيته الخاص مسجداً ينظفه ويتعاهده ويصلي فيه لا سيما أهل الأعذار والنساء ولا يعني هذا أنه لا يصلى إلا في هذه البقعة.
كان نعيم المجمر يبخر مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في عهد عمر رضي الله عنه.
السُّبحة أمر حادث وغير معروفة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإن أصِّلت وجعل لها أصل من الحصى الذي كانت أم المؤمنين تسبح به فوجهها النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تسبح بأناملها لأنها مستنطقة. والسُّبحة كثير من الناس يستعملها لمجرد العبث ولا يسبح بها فهذا العبث اليسير إذا كان سالماً من السرف والخيلاء لا يتعلق به حكم شرعي والأمر فيه سعة إذا لم يقصد به التعبد. لا إشكال في أن التسبيح بالأصابع والأنامل أفضل لأنها مستنطقة وبعضهم يطلق البدعة على من يعد التسبيح وغيره من الأذكار بالسبحة ولا شك أنها حادثة ومن قال بأنها لا بأس بها قال لأن أصلها من التسبيح بالحصى.
التسبيح باليد اليمنى أفضل من التسبيح باليدين كلتيهما لأنه جاء في حديث عند أبي داود ولا يسلم من كلام لبعض أهل العلم لكنه في مثل هذا الباب صالح للاحتجاج.(7/2)
ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه يمكث في مصلاه حتى ترتفع الشمس وأما في الترغيب في المكث إلى طلوع الشمس وصلاة الركعتين من قوله عليه الصلاة والسلام فهذا فيه أنه يعدل حجة وهو مضعف عند جمع من أهل العلم وحسنه آخرون, ومن يعمل به رجاء ما رُتِّب عليه من ثواب لن يُحرَم إن شاء الله تعالى, وإن اقتدى بفعل النبي عليه الصلاة والسلام وأنه يمكث حتى ترتفع الشمس فهذا لا إشكال فيه, فالمكث سنة, لكن الثواب المرتب عليه وأنه يعدل حجة هو محل الأخذ والرد.
أحاديث السفياني كلها لا تسلم من مقال, ولو قيل بضعف مفرداتها وبضعفها مجتمعة لما بُعُد, وكذلك أحاديث الرايات السود مثلها في الضعف.
ترتيب العقوبة على الفعل ولو كانت دنيوية يدل على التحريم, إذ لا يعاقب من لم يفعل المحرم.
حديث أبي هريرة (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد): قوله (قاتل الله اليهود) يعني لعنهم وهذا دعاء عليهم بالجملة وعلى هذا يجوز الدعاء على طائفة بالجملة إذا استحقت هذا الدعاء كما أنه يجوز الدعاء على قبيلة إذا استحقت هذا الدعاء فقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام على بعض القبائل والله سبحانه وتعالى في كتابه لعن بعض الفرق.
بعضهم يقول إن معنى (قاتل الله اليهود) قتلهم وأهلكهم.
الدعاء على فئة أو على قبيلة أو على طائفة بالجملة إذا استحقت هذا الدعاء لا يعارض الأمر القدري لأن من اليهود من أسلم ومن القبائل التي دعا عليها النبي عليه الصلاة والسلام من أسلم.
المتفق عليه ذكر اليهود فقط وعند مسلم (قاتل الله اليهود والنصارى).(7/3)
اليهود لهم أنبياء ماتوا وقبروا في الأرض لكن النصارى ليس لهم إلا نبي واحد وهو عيسى عليه السلام وقد رفع ولم يقبر وهذا – أي زيادة النصارى عند مسلم – أشكل على الشراح فمنهم من قال إن أنبياء اليهود أنبياء للنصارى لأنهم مأمورون بالإيمان بهم ومنهم من قال إن في النصارى أنبياء غير عيسى وليسوا بمرسلين كالحواريين ومريم (وابن حزم يرى أن من الأنبياء ست من النسوة) ومريم ماتت وقبرت وكذلك الحواريون فلا إشكال.
الرواية اللاحقة وهي في الصحيحين (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً أولائك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) وفي رواية أيضاً (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) فيكون الأنبياء بالنسبة لليهود والصالحين بالنسبة للنصارى.
أشبه اليهود والنصارى مع الأسف الشديد كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فالمساجد شيدت على القبور في كثير من أقطار العالم الإسلامي وليست المسألة مسألة بدعة بل المسألة مسألة شرك.
جاء في حديث أبي مرثد الغنوي في مسلم (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) فالصلاة إلى القبور ممنوعة وبعضهم يعلل ذلك بنجاسة تربتها فيفرق بين المقبرة المنبوشة - التي اختلطت تربتها بدماء الموتى وصديدهم فتنجست - والمقبرة غير المنبوشة فينظرون إلى النجاسة الحسية ولذا يقول بعضهم إنه لو فرش على أرض المقبرة فراش صحت الصلاة فيها ولكن الأمر فوق ذلك بل المنظور إليه نجاسة الشرك المعنوية فالصلاة في المقابر وسيلة إلى الشرك بهؤلاء المقبورين والأدلة على ذلك من شواهد الأحوال كثيرة.(7/4)
وصلت الفتنة في هذا الباب إلى أن وجد ضريح من أكبر الأضرحة يسمونه ضريح الشعرة فقد شيد بناء كبير على شعرة من شعرات عبد القادر الجيلاني فيما يزعمون ويباع تراب هذا الضريح وغباره كما تباع الأدوية في الصيدليات بل أشد ويباع الماء الذي يدخل تحت الضريح ويخرج من الطرف الآخر يباع كما يباع دهن العود والمسك ولا شك أن هذه فتنة عظيمة.
الصلاة في المقبرة باطلة والصلاة في المسجد الذي فيه قبر قرر أهل العلم أنها باطلة.
المقبرة خرجت بالدليل الخاص من عموم حديث الخصائص (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وإن قال ابن عبد البر وابن حجر وبعض أهل العلم أن الخصائص لا تقبل التخصيص ومعناه جواز الصلاة في المقبرة عندهم لأن حديث الخصائص لا يقبل التخصيص لأن الخصائص تشريف والتخصيص تقليل لهذا التشريف لكن إذا تعارض حقه عليه الصلاة والسلام مع حق الله عز وجل فحق الله عز وجل أولى بالتقديم والصلاة إنما هي لله عز وجل وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك من حق الله عز وجل.
مزاولة أي عبادة في المقبرة كقراءة القرآن والأذكار بدعة لكن لو فرض أنه بقي عليه شيء من ورده أو أذكار الصباح والمساء وأراد أن يأتي بذلك وكان في المقبرة في تشييع جنازة فلا شك أن هذا بعيد عن وسائل الشرك لأنه مربوط بسبب كصلاة الجنازة لكن الاحتياط أولى فلا يقرأ الورد المشتمل على قرآن أو دعاء في المقبرة حمايةً لجناب التوحيد لئلا يسمعه أحد فيظن أن لهذا الورد مزية في المقبرة. أصل الدعاء للميت في المقبرة لا إشكال فيه.
ينبغي أن يمنع من يمشي حول المقابر بقصد الرياضة لئلا يقال فيما بعد إن الناس كانوا يطوفون على المقابر في وقت الشيخ فلان ولم ينكر. فمثل هذا ينبغي أن يبالَغ في منعه لئلا ينفتح باب ولو من بُعْد.
المنع من اتخاذ القبور مساجد إنما هو من باب سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان.(7/5)
البيضاوي له كلام حول الحديث وتوجيه غير وجيه ولا مقبول حيث يقول (لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها اتخذوها أوثاناً لما كان أمرهم كذلك لعنهم ومنع المسلمين من ذلك) ثم قال (وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا لتعظيم له ولا لتوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد) لكن الحديث عام يشمل هذا وهذا. نعم عبادة الشخص المباشرة وسؤاله الحاجات من دون الله عز وجل وهو في قبره شرك أكبر لكن من لبس عليه الشيطان بأن هذا المكان فيه هذا العبد الصالح ودعا الله جل وعلا عند هذا القبر أو قرأ القرآن عند هذا القبر والمدعو والمتوجه إليه هو الله عز وجل فهذا أخف لكن يبقى أن أمره عظيم لأنه ذريعة إلى الشرك.
بعض المؤرخين ممن عرفوا بسلامة المعتقد كابن رجب في ذيل الطبقات وابن كثير في البداية والنهاية والذهبي إذا ترجموا لأحد من العلماء قالوا إن قبره في مكان كذا ومشهده يزار حتى قال بعضهم عمن ترجم له إن قبره ترياق أي علاج يستشفى به وهذا إقرار لهذا العمل الخبيث وكأنهم يرون الفصل بين هذه العلوم لكن نقول إن المؤرخين لا يبرؤون من العهدة إذا فصلوا بين التاريخ والعلم فإذا مروا بذكر منكرات القبور لا بد أن يبينوا وإذا فات هذا على صاحب الكتاب فلن تبرأ عهدة المحقق للكتاب.
المؤرخ وإن كان يكتب في التاريخ والأديب وإن كان يكتب في الأدب واللغوي وإن كان يكتب في اللغة فالكل محكوم بأوامر ونواهي إلاهية ولا فصل بين العلوم والكاتب مكلف لا يرتفع عنه قلم التكليف بل يجري عليه في كل وقت وفي كل ظرف سواء كتب في الأدب أو اللغة أو التاريخ أو الفقه أو التفسير أو غير ذلك.
كتاب (زهر الآداب) من أفضل كتب الأدب وأصفاها.
حديث أبي هريرة (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد): هذا الرجل هو ثمامة بن أثال وقصته في الصحيحين.(7/6)
وهذا من فعل الصحابة لكنه بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمر به ثلاثة أيام وفي ذلك دليل على جواز ربط الأسير ولا يقال إن مثل هذا يخالف القوانين والأعراف الدولية.
فيه دليل على جواز دخول الكافر المسجد لكنه للحاجة وليست لحاجته هو وعليه فإذا احتيج إلى ربطه في المسجد لعدم وجود مكان آخر ملائم فإنه يربط في المسجد على أنه لا يجوز له أن يدخل المسجد الحرام بحال لقوله تعالى (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).
إذا كان الكافر محتاجاً لدخول المسجد وليس في دخوله حاجة ومصلحة للإسلام فإنه لا يمكن من دخوله. السائقون الكفار أثناء انتظارهم عند باب المدرسة التي بجانبها مسجد هل يجوز تمكينهم من دخوله للجلوس؟ الجواب: قال تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ودخول المسجد الحرام في النص قطعي لأنه منصوص عليه لكن مع اتصاف الكافر بوصف النجاسة هل يمكن من دخول مواطن العبادات؟ الوصف يمنعه من دخول المساجد لكن إذا وجد مثل الحاجة التي في حديث ثمامة بن أثال لمصلحة الدين وأهله فلا بأس. لكن ماذا لو كان دخوله لمصلحته الخاصة؟ وهل الكلام موجه إليه أو إلى المسلمين من أجل منعه؟ لو فرض أنه يريد إشهار إسلامه على يد شيخٍ وهذا الشيخ في المسجد فلا مانع أن يدخل لأن هذه مصلحة راجحة ويقاس على هذا ما في معناه.
لا بأس من دخول الكافر للمسجد بغرض الترميم والصيانة لأن هذا فيه مصلحة لكن بشرط عدم وجود مسلم يقوم مقام هذا الكافر.
حديث أبي هريرة (أن عمر مر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد في المسجد وفيه من هو خير منك): قوله (فلحظ إليه) أي نظر إليه نظر إنكار.(7/7)
الشعر المباح - فضلاً عن أن يكون نافعاً متضمناً لعلم من العلوم - يجوز إنشاده في المسجد لإقرار النبي عليه الصلاة والسلام حسان على ذلك وجاء النهي عن تناشد الأشعار في المسجد عند أبي داود والنسائي وغيرهما وهو حديث مقبول يصل إلى درجة الحسن لكنه محمول على الأشعار التي في ألفاظها ما يقتضي المنع وأما الأشعار النافعة أو المباحة الألفاظ لا بأس بها ومن ذلك تدريس المنظومات العلمية في المسجد كنونية ابن القيم وإن كان في النونية بعض التشبيب في مقدمتها إلا أن هذا مغمور.
المعلقات وفيها الفخر وفيها وصف الخمر وغير ذلك مما هو ممنوع لا يجوز إنشادها في المسجد لحديث النهي عن تناشد الأشعار في المسجد وإن كانت هذه المعلقات فيها شيء من الفائدة من الناحية اللغوية لكن الفائدة التي فيها مغمورة بالنسبة لما تشتمل عليه وعليه تحصيل فائدتها إنما يكون خارج المسجد.
الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح فما كان من نوع الحسن جاز إنشاده في المسجد وإلا فلا.
بعض أهل العلم يبطل خطبة الجمعة إذا اشتملت على شيء من الشعر والجمهور على جواز ذلك إذا كان فيه مصلحة لأن الشعر كلام ولم يرد فيه نص بعينه لكن الخطبة لا تتأدى بالشعر كما لو كانت كلها منظومة مشتملة على مواعظ ومضمنة للأحاديث فلا تجزئ الخطبة لأن الخطابة فن يختلف عن فن الشعر.
حديث أبي هريرة (من سمع رجلاً يُنشِد ضالةً في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا): قوله (يُنشِد) يعني يرفع صوته بالسؤال عما فقده وضل عنه وسواء كان هذا المفقود في المسجد أو خارج المسجد.(7/8)
أصل مادة الإنشاد مصحوبة برفع صوت فالإنشاد طلب مع رفع الصوت. مثال: أحد الطلاب وضع كتابه في الحلقة قبل بداية الدرس ثم ذهب ليصلي فلما رجع مع بداية الدرس لم يجد كتابه فهل له أن يسأل من بجواره بصوت منخفض ويقول (أين كتابي)؟ الجواب: إذا خلا ذلك عن رفع الصوت وكان المنظور إليه قيمة الكتاب العلمية لوجود تعليقات على الكتاب سيفقدها إذا ضاع الكتاب أو كان الكتاب لا نظير له في السوق فالأمر أخف مما لو كان المنظور إليه ثمن الكتاب كما لو لم يكن فيه تعليقات ويمكن شراؤه من المكتبة لأن هذا طلب لأمر من أمور الدنيا بخلاف الأول فإنه طلب لأمر من أمور الآخرة والمسؤول عنه العلم وليس الكتاب.
ماذا عن الشواهد الشعرية التي تذكر في كتب التفسير وغيرها والتي تحتوي على غزل وهجاء كالبيت الذي يذكر عند تعريف الكتاب في هجاء بني فزارة؟ هل يكرم المسجد عن مثل هذه الأبيات؟ أو يقال هذا لبيان العلم وما كان لبيان العلم فهو علم ويتجاوز فيه؟ إن أمكنت الدلالة عليه من غير تصريح فقيل (يدل على ذلك البيت في هجاء بني فزارة) والطالب يبحث عنه بطريقته أو يسأل عنه في مكان آخر فهو أكمل وإلا فكتب أهل العلم مشحونة بمثل هذه الأبيات فالشعر ديوان العرب يفسرون به كتاب الله ويشرحون به الأحاديث فلا بد من مرور مثل هذه الأبيات في العلوم كلها.
مصلى العيد إذا عرفت حدوده وسمي بهذا المسجد فإنه مسجد وقد جاء في الصحيحين وغيرهما في أمر النساء بالخروج إلى صلاة العيد وفيه (وليعتزل الحُيَّض المصلى) فدل على أنه مسجد وكونه لا يصلى فيه إلا مرتين في العام لا يخرجه عن كونه مسجداً فمسجد نمرة يصلى فيه في العام مرة واحد وهو بالإجماع مسجد فلا عبرة بإقامة جميع الصلوات وإنما إذا كان يصلى فيه عند الحاجة وحدوده معروفة ومعالمه ظاهرة فهو مسجد لكن إذا كان المصلى في صحراء وليس له حدود المسجد ولا معالمه كمصلى الجنائز مثلاً فليس بمسجد.(7/9)
في الحديث دليل على تحريم السؤال عن الضالة في المسجد سواء كانت من الحيوان أو غيره من المتاع من النقود وغيرها إذا كان الملحوظ فيه أمر الدنيا.
حجز المكان في المسجد ممنوع لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به وأمر الحجز في المساجد ليس بالسهل لا سيما في الأماكن التي يستوي فيها الحاضر والباد (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) أي الملازم للمكان والباد الذي يأتي ليصلي الفرض ثم ينصرف فليس أحد بأولى من أحد بل هو لمن سبق.
إذا كان الشخص داخل المسجد وقد تقدم فهو يستحق المكان المتقدم لتقدمه في الحضور وكونه ينتقل إلى مكان يريحه داخل المسجد فله الأحقية في المكان المتقدم لأنه قريب من مكانه وأما إذا حجز المكان ثم خرج فإنه قد تعدى لأن من يحضر قبله أولى منه بهذا المكان.
لو فرض أن شخصاً حجز مكاناً في المسجد بوضع عصا مثلاً – في ظرف يجوز له فيه الحجز - ثم فقد هذه العصا فهل له أن يسأل عنها؟ الأمور بمقاصدها فإذا كان يسأل عن العصا لذات العصا فهذا شيء وإذا كان يسأل عنها باعتبارها تمكنه من الصلاة في الصف الأول فهذا شيء آخر وهو من أمور الآخرة على أنه إذا همس في أذن جاره فلا يسمى إنشاداً لأن الإنشاد إنما يكون مع رفع الصوت.
بعضهم نظر إلى معنى الإنشاد وهو رفع الصوت فمنع تعليم الصبيان القرآن في المسجد لأنهم يرفعون أصواتهم في المسجد وأيضاً المعلم يحتاج إلى رفع صوته لكن المنع لا وجه له لأن حديث (جنبوا صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم المساجد) ضعيف جداً.
إذا كان في طريقه إلى المسجد عليه أن يمشي بالسكينة والوقار فإذا دخل في المسجد فمن باب أولى أن يلتزم السكينة والوقار لكن إذا احتيج إلى الصوت في تعليم علم أو تحفيظ قرآن أو خطبة جمعة فلا بأس به. ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام يرفع صوته في الخطبة ويحمر وجهه حتى كأنه منذر جيش يقول (صبحكم ومساكم).(7/10)
حديث أبي هريرة (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المساجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك): صححه جمع من أهل العلم وهو يدل على منع البيع والشراء في المسجد لأن المساجد لم تبن لهذا والدعاء عليه وعلى من نشد الضالة في المسجد إنما هو من باب التعزير لأنه ارتكب أمراً محرماً فيستحق هذا الدعاء.
الحديث دليل على تحريم البيع والشراء في المسجد.
المفاوضة في المسجد وإبرام العقد خارجه: البيع إنما يطلق ويراد به الإيجاب والقبول لا مقدماته لكن إذا استغرقت المقدمات وقتاً طويلاً وكان إبرام العقد بعد الخروج مباشرة فهل نقول إن هذه وسائل والوسائل لها أحكام المقاصد فيمنع حتى هذا أو نقول إن هذه مفاوضة وليست بيعاً ولا شراءً والنهي إنما هو عن البيع والشراء؟ على كل الحال المسجد لم يبن لهذا.
لو حصل البيع فقد ارتكب الطرفان أمراً محرماً واستحقا الدعاء عليهما لكن هل ينعقد البيع أو لا ينعقد؟ النهي هنا عاد إلى أمر خارج عن ذات المنهي عنه وعن شرطه فلا يقتضي الفساد وعليه فالبيع ينعقد حتى قال الماوردي (اتفاقاً) لكن مع حصول الإثم للطرفين ومثله البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة والبيع على البيع والشراء على الشراء والخِطبة على الخِطبة فالنهي عن كل هذه الأمور إنما هو عن أمر خارج عن ذات المنهي عنه.
الظاهرية عندهم أن كل نهي يقتضي الفساد, ولو كان لا يعود إلى ذات المنهي عنه ولا إلى شرطه, ولو مع انفكاك الجهة, فمن صلى وبيده خاتم ذهب أو على رأسه عمامة حرير فصلاته صحيحة عند الجمهور باطلة عند الظاهرية لأن صلاته اشتملت على قربة ومعصية في آنٍ واحد. ومثله البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة, والبيع على البيع, والشراء على الشراء, والخِطبة على الخِطبة, النهي كله لأمر خارج عن ذات المنهي عنه.(7/11)
إذا حُدِّد درس في طلب العلم بمبلغ من المال فهل يُعَد ذلك من التجارة والاستئجار والبيع في المسجد؟ الجواب: نعم إذا كان التحديد في المسجد, إذا جئت إلى شخص في المسجد وقلت له (سأقرأ عليك هذا الكتاب, بكم؟) فقال (بألف ريال) مثلاً, فإن هذا له حكم البيع, لكن إذا عرفت من حال هذا الرجل أنه يأخذ الأجر على التعليم وعلى التحديث وقبلت وأقدمت وأعطيته الأجرة فهذا ليس بعقد, ولو كان السداد والوفاء في المسجد.
إذا مُنِع الإنسان من طلب ماله الذي فقده فلأن يمنع من طلب ما ليس له من باب أولى, فالذي يقوم بعد الصلاة يسأل الناس يُمنَع من ذلك, لكن نحن بين أمور, منها أن هذا الشخص يطلب دنيا, وإن كان السؤال مباحاً بالنسبة له لحاجته, ومنها أنه يقاطع المصلين وينازعهم في أذكارهم إذا قام بعد الصلاة مباشرة ويشوش عليهم, ومنها ما جاء في نهر السائل (وأما السائل فلا تنهر), فعلى من يسمعه لا سيما إمام المسجد أن يسدد ويقارب, بمعنى أنه يرعى لهذا الشخص حقه لأنا نهينا عن نهره, ويوجهه التوجيه الحسن المقبول, وعلى السائل أيضاً أن لا يقاطع الناس أذكارهم, بل يجلس في مكان يُعرَف فيه أنه محتاج. لهذا السائل حرمة, وعلى الجميع احترامه ورفع ما به من ضر وحاجة, فهو مأذون له في أن يسأل لحاجته, ومفروض على الغني الزكاة, لكن بما لا يعارض مصالح الآخرين, ولا شك أن تمام الأذكار المتعلقة بالصلاة من مصلحة المصلي.
البحث عن الضالة في المسجد بكتابة إعلان داخل في الحكم الذي أفاده الحديث, وإن كان الأصل في نشدان الضالة رفع الصوت.
هل المنع عن إنشاد الضالة إنما هو لصاحب الضالة الذي يبحث عنها في المسجد؟ أو هو شامل لمن وجد الضالة الذي يسأل عن صاحبها؟ الجواب: الثاني محسن, لكن الإعلان خارج المسجد أحوط وأفضل.(7/12)
النسائي بكسر النون نسبة إلى النساء وبفتحها نسبة إلى بلده نسا والمعتمد الفتح فالنسبة إلى البلد. والنسائي رحمه الله عرف بكثرة علاقته بالنساء كما في ترجمته.
أعداء الإسلام إذا أرادوا انتقاد الدين وهدمه بأسلوب غير مباشر فإنهم يطعنون في أبي هريرة لأنه يحمل نصف الدين وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام وبسط رداءه فما نسي فهو أحفظ الصحابة على الإطلاق.
حديث حكيم بن حزام (لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها): حكيم بن حزام من أشراف قريش ومن مسلِمة الفتح.
قال المصنف هنا (رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف) لكنه في التلخيص قال (إسناده لا بأس به) ولذا حسنه جمع من أهل العلم وممن حسنه الألباني في إرواء الغليل وهو قابل للتحسين فيصير صالحاً للاحتجاج.
لا تقام الحدود في المساجد فلا يجلد الشارب ولا يقطع السارق ولا يرجم الزاني في المسجد لأن هذه الحدود في أثناء إقامتها لا بد من مزاولة ما يخل بما ينبغي للمسجد من حق الاحترام.
لا يستقاد في المساجد من الجناة فلا يقتل القاتل ولا يقتص من الجاني ولا يقام القَوَد في المسجد لأن هذه الأعمال تتطلب أثناء تنفيذها أموراً تخل بأدب المسجد وما ينبغي له من تعظيم.
حديث عائشة (أصيب سعد يوم الخندق فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد ليعوده من قريب): لأنه أصيب في سبيل الله والذي أصيب هو سعد بن معاذ سيد الأنصار وكان ذلك يوم الخندق بسهم في أكحَله في السنة الخامسة من الهجرة فمات بعد شهر من إصابته.
إذا كانت عيادة المريض مشروعة من جهة واحدة بل قيل بوجوبها فعيادة من كانت شكواه بسبب الدين ونصر الدين مشروعة من جهات.
دل الحديث على جواز ضرب الخيمة للمريض وللمعتكف عند الحاجة إذا لم يكن هذا العمل عائقاً دون تحقيق الهدف الأصلي من إقامة المسجد لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ولأن المباح يمنع منه إذا اشتمل على مفسدة.(7/13)
قد يكون العمل مشروعاً أو على أقل الأحوال في الشرع ما يدل على جوازه وإباحته لكن يمنع منه إذا اشتمل على مفسدة. مثاله: إذا وجد أذى للمصلين من الأطفال فإنهم يمنعون من دخول المسجد وإن كان الدليل على جواز دخولهم للمسجد قائم لأن الأطفال كانوا يحضرون إلى المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمع رسول الله بكاء الصبي.
وإلا فالأصل أنه يجوز أن يضرب الخباء في المسجد. يجوز ذلك للمريض الذي يخرج منه ما يلوث المسجد مع إزالته فوراً.
يجوز النوم في المسجد للذكر والأنثى على ما سيأتي مع أمن الفتنة.
حديث عائشة (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد): صار سترة لها بينها وبين هؤلاء الحبشة وكان لعبهم بالحِراب والدَّرَق للتمرن على الجهاد فإذا وجد من يتعلم ويتمرن على الجهاد في المسجد فله أصل وأما العبث في المسجد فممنوع لأن المساجد لم تبن لهذا.
في رواية عند البخاري (وكان يوم عيد) والعيد لا شك أنه يوم فرح وسرور ويتجاوز فيه ما لا يُتجاوز في غيره وأذن النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من هذا ليعلم العدو أن في الدين فسحة وليس في هذا دليل على أن يتنازل عن شيء مما يطلبه الدين مراعاةً لحال العدو بل يكون هذا في حدود المباح فلا يجوز لنا ارتكاب المحرم والتنازل عن الواجب لنظهر للعدو أن عندنا قبول لشيء مما يمليه علينا أو عندنا شيء من التسامح والتساهل في أمر ديننا والتنازل من أجل إرضاء العدو.
الدين يسر وبعث النبي عليه الصلاة والسلام بالحنيفية السمحة ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه وإذا كانت هذه سمة الدين لكنه أيضاً دين تكاليف ودين حلال وحرام ومنع وإلزام ومع ذلك فهو في كل ذلك دين يسر وسهولة فلم يكلف الناس ما لا يطيقون.
إذا كان العيد يوم فرح وسرور فهو أيضاً شكر لله جل وعلا على إتمام عبادة قبله.(7/14)
لعب هؤلاء الحبشة بالحراب والدرق في المسجد في يوم العيد هو إظهار للفرح والسرور وإظهار لقوة الإسلام وأنه دين جد وعمل فيجوز مثل هذا العمل في المسجد ولا يستدل به على تجاوز المشروع في المسجد.
نظر عائشة إلى الحبشة نظر إجمالي فليس معناه أنها تنظر إليهم واحداً واحداً وإلا فالمرأة مأمورة بغض البصر كالرجل لكنها ليست مأمورة بتغميض العينين كالرجل فلها أن تنظر إلى الرجال من حيث الجملة كما في المساجد والأسواق ولا تحدد في شخص بعينه من بينهم أو تحدد فيهم واحداً واحداً لأنها مأمورة بغض البصر وليس في هذا ما يدل على جواز نظر المرأة إلى الرجال واحداً واحداً والنظر إلى المجموع يختلف عن النظر إلى الأفراد.
حديث عائشة (أن وليدةً سوداء كان لها خباء في المسجد فكانت تأتيني فتحدَّث عندي): الوليدة هي الأمة.
أبو ذر لما قال لمن اختلف معه (يا ابن السوداء) وعيره بأمه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) لكن قول عائشة (وليدة سوداء) مجرد وصف ليس القصد من الشين ولا العيب ولذا جاء النهي عن التنابز بالألقاب لكن أهل العلم يزاولون ذكر الألقاب إذا كانت لمجرد التعريف لا للتنقص.
الخباء هو الخيمة إذا كانت من شعر.
سعد ضرب له خباء في المسجد وهو رجل فيبيت وينام في المسجد وهذه امرأة لها خباء في المسجد تبيت فيه وعليه فالمبيت في المسجد لا بأس به.
إذا خشي من الفتنة منعت المرأة من البيتوتة في المسجد ولو كان لمبيتها أصل شرعي وكذلك لو خشي على المسجد من مبيت الرجل فإنه يخرج منه.(7/15)
هذه الوليدة قصتها كما في البخاري كانت لحي من أحياء العرب فكانت معهم فلما أعتقوها جلست عندهم فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور أي من جلد فوضعت الوشاح أو وقع منها فجاءت الحُدَيَّات فظنته لحماً فاختطفته وطارت به فلما افتقدوا هذا الوشاح اتهموا هذه الوليدة وفتشوها حتى قُبُلَها وبينما هم كذلك مرت الحُدَيَّات فألقت الوشاح فقالت الوليدة (هذا الذي اتهمتموني به وأنا بريئة منه وهاهو ذا) وبعد هذا الاتهام والتفتيش لم تطق البقاء معهم فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت. قالت عائشة (فكان لها خباء في المسجد أو حِفْش فكانت تأتيني فتحدث عندي فلا تجلس إلا قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من دالة الكفر نجاني) فصارت هذه المحنة خير عظيم لها في الدنيا والآخرة.
حديث أنس (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها): البصاق محرم في المسجد مطلقاً لا أمامه ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا تحت قدمه فضلاً عن جهة القبلة حملاً للحديث على عمومه على ما تقدم فيما قال النووي ومن احتاج إلى ذلك في الصلاة خارج المسجد فإنه يبصق عن شماله تحت قدمه.
كانت المساجد أرضها من تراب ورمل يفيد فيها الدفن وأما في المساجد المفروشة فلا يجوز له أن يبصق أصلاً بل إما أن يصطحب المناديل وإما أن يستعمل ثوبه ويفرك طرفه بالآخر.
منهم من يقول إن المراد بدفنها نقلها عن المسجد والجامع بين النقل والدفن إخفاؤها عن النظر لأن منظرها مؤذي فإذا نقلت عن المسجد فهذه كفارتها لكنه قول يرده صريح الحديث فإذا دفنت ولو في المسجد كُفِّرت هذه الخطيئة وعلى الإنسان ألا يرتكب الخطيئة أصلاً.(7/16)
جاء عن أبي عبيدة بن الجراح أحد العشرة المشهود لهم بالجنة كما في سنن سعيد بن منصور ومصنفي ابن أبي شيبة وعبد الرزاق أنه تنخم في المسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله فأخذ شعلةً من نار ثم جاء فطلبها وبحث عنها - والبحث عن مثل هذه في الظلام يصعب – حتى وجدها بعد أن تعب في طلبها ثم دفنها وقال (الحمد لله حيث لم تُكتَب علي خطيئة الليلة) يعني هي كتبت خطيئة لكنها محيت بالكفارة وهي الدفن.
حديث أنس (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد): المعنى (حتى يتفاخر الناس بالمساجد) وقد وقع كما أخبر فكثير من التباهي وقع بلسان الحال ووقع منه ما وقع بلسان المقال وكل هذا من علامات الساعة وهو من أعلام النبوة لوقوعه كما أخبر.
السرف والبذخ في بناء المساجد من القرائن على أن النيات مدخولة وأهل العلم يقررون أن من بنى مسجداً وكتب عليه (مسجد فلان بن فلان) أن هذا هو حظه من الأجر وليس له إلا ما قد قيل من أن فلاناً بنى هذا المسجد وهذا يكون إذا قصد من البناء التباهي نسأل الله العافية.
الأصل أن من يبني المسجد يبنيه لله وأن يخفي عمله والأمور بمقاصدها فلو قصد من إظهار ذلك أن يقتدي به الناس فهذا له حكم آخر لأن الناس مجبولون على تقليد بعضهم بعضاً والغيرة من بعضهم على بعض وقد يدخل هذا في المسابقة المأمور بها والمسارعة التي جاء الحث عليها والمنافسة التي جاء فيها (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
التباهي معناه هنا تفاعل بأن يحصل بين طرفين أو أكثر وقد يحصل التفاعل من طرف واحد.
هذا الذم يتجه إلى من عمر المسجد أو صارت له يد في المسجد أو يرجو ثواب هذا المسجد فلو حصل التباهي من جماعة المسجد الذين ليست لهم يد في بناءه فلا علاقة له بالإخلاص لأن للطرف الآخر أن يبطل هذا التباهي بحجة أنهم ليست لهم يد في المسجد بل بناه لهم أحد المحسنين.(7/17)
حديث ابن عباس (ما أمرت بتشييد المساجد): علقه البخاري بصيغة الجزم موقوفاً على ابن عباس والحديث صحيح.
المعنى العرفي للتشييد هو رفع البناء لكن المقصود به هنا هو تزيين المساجد بالشِّيد وهو الجِص وفي حكمه الألوان.
كان مسجده عليه الصلاة والسلام مبني باللَّبِن والطين وسقفه من الجريد وأعمدته من جذوع النخل وارتفاعه تمسه اليد فهذا هو المسجد يُكِنُّ من الحر والقر. أبو بكر لم يزد فيه شيئاً وزاد فيه عمر وبناه بنفس المواد التي بني بها المسجد في البناء الأول وعثمان وسع المسجد لكنه أدخل عليه بعض التحسينات التي يقول أهل العلم أنها لا تدخل في حيز المنهي عنه.
الحديث ظاهر في المنع من التشييد والرفع والزخرفة. ابن عباس يقول (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى) وله حكم الرفع وقد حصل.
السبب في المنع من ذلك أن هذه الأمور تشغل المصلي عن صلاته.
حديث أنس (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد): لما كان التلويث بالبصاق خطيئة كان التنظيف حسنة وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب فتنظيف المساجد أمر مطلوب لكن حديث الباب ضعيف فالقذاة تطلق على أدنى شيء يلوث المسجد حتى قال أهل العلم إن المعتكف إذا أراد أن يقلم أظفاره فليخرج من المسجد لئلا يقع شيء من أظفاره في المسجد وهو لا يشعر به.
جاء في الخبر أن تنظيف المساجد مهور الحور العين وإن كان في الحديث ما فيه.
حديث أبي قتادة (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين): هذه هي تحية المسجد والجمهور على أنها سنة وقال أهل الظاهر بوجوبها وقد ذكر أهل العلم من الصوارف حديث الثلاثة الذين دخلوا والنبي عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه وحديث من دخل والإمام يخطب.
تحية المسجد مربوطة بسبب وهو دخول المسجد.(7/18)
الرجل الذي دخل وتخطى الرقاب يوم الجمعة قال له النبي عليه الصلاة والسلام (اجلس فقد آذيت) ولم يأمره بأن يصلي الركعتين والاحتمال قائم في أنه صلاهما في آخر المسجد ورآه النبي عليه الصلاة والسلام يصليهما ثم قام وتخطى رقاب الناس ولذا لما دخل أبو ذر المسجد قال له النبي عليه الصلاة والسلام (ركعت ركعتين؟) قال (لا) قال (قم فاركعهما) والمقصود أن هذه الصلاة من آكد الصلوات.
سئل الشيخ محمد رضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية هل هو أعلم من الأئمة الأربعة أم هم أعلم منه؟ فأجاب بجواب موفق فيما أحسب فقال: باعتبار أن شيخ الإسلام تخرج على كتب الأئمة الأربعة وكتب أتباعهم فلهم الفضل عليه من هذه الحيثية وباعتباره جمع بين ما قالوه وأحاط بما كتبوه فهو من هذه الحيثية أشمل منهم علماً.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه النفيس فضل علم السلف على الخلف: من فضل عالماً على آخر بكثرة الكلام فقد فضل الخلف على السلف لأن من طريقة السلف الإيجاز في القول.
في المسائل التي لا تحتاج إلى بسط لا شك أن الوضوح مع الاختصار أفضل من البسط وهذه هي طريقة السلف لكن المسائل الشائكة تحتاج إلى بسط وإيضاح. شيخ الإسلام سئل سؤالاً فأجاب في أكثر من مئتي صفحة فلا يقال إنه على طريقة الخلف لأن كل كلامه مفيد يحتوي على الآيات والأحاديث ومدعوم بفهم السلف للنصوص.
جميع من ينتسب إلى العلم لا سيما علم الحديث في الأزمان المتأخرة عيالٌ على الألباني رحمه الله وعلى كتبه ولا يعني هذا أنه معصوم لكن يُحفَظ له حقه وتُحفَظ له مكانته.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة السبت الثامن والعشرين من صفر عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده بعد زوال شمس يوم الأحد التاسع والعشرين من صفر, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(7/19)
مهمات شرح باب مواقيت الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الجمهور على أن تارك الصلاة يقتل على خلاف بينهم هل يقتل ردةً أو حداً؟ وأقل ما قيل في تاركها أنه يحبس حتى يصلي أو يموت.
المفتى به والمعتمد أن جميع أحكام الردة تلحق تارك الصلاة.
سمي وقت الزوال دلوكاً لأن الناظر إلى الشمس في هذا الوقت تؤلمه عينه فيحتاج إلى دلكها قاله الزمخشري.
(ما لم يحضر وقت العصر) دليل الجمهور على أنه لا اشتراك بين صلاتي الظهر والعصر في قدر يتسع لأربع ركعات بل بمجرد ما ينتهي وقت صلاة الظهر يبدأ وقت صلاة العصر فلا اشتراك بين الصلاتين في هذا المقدار خلافاً لمالك الذي يرى أن هناك وقت مشترك بينهما يتسع لأربع ركعات بدليل حديث جبريل لأن مفهومه أنه أمه في الوقت نفسه لصلاة العصر في اليوم الأول ولصلاة الظهر في اليوم الثاني مما يدل على أنه في آخر وقت الظهر قدر مشترك من الوقت صالح لآداء صلاة الظهر وصالح لآداء صلاة العصر وهو الوقت المشترك بين الصلاتين.
حديث الباب أقوى لأنه في مسلم وحديث جبريل في السنن وذكر الترمذي عن البخاري أن أصح حديث في المواقيت حديث جبريل فهل هذا القول من البخاري يعطي حديث جبريل قوة بحيث نرجحه على ما أخرجه مسلم في صحيحه؟ مقتضى أفعل التفضيل (أصح) أنه أصح عند البخاري من حديث مسلم والبخاري لم يخرج هذا ولا ذاك. لكن حديث مسلم مخرج في كتاب تلقته الأمة بالقبول. وهل يعني كون صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله أن أحكام البخاري على الأحاديث أرجح من أحكام غيره؟ هل هي أرجح مما يخرجه مسلم في صحيحه؟ لا ليست بأرجح وعلى هذا فالمرجح أنه لا اشتراك بين صلاتي الظهر والعصر في القدر المذكور المتسع لأربع ركعات.
من خلال حديث مسلم يبدأ وقت صلاة العصر إذا صار ظل الشيء كطوله.(8/1)
الجواب على حديث جبريل: فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء كطوله وشرع في صلاة العصر في اليوم الأول حين صار ظل الشيء كطوله وفرقٌ بين الفراغ والشروع وإذاً لا اشتراك حتى على حديث جبريل.
وقت العصر يبتدئ عند الجمهور إذا صار ظل الشيء كطوله وعند الحنفية إذا صار ظل الشيء مثليه ويستدلون بأدلة لا تقاوم حديث مسلم من حيث صراحة الدلالة. قال محمد بن الحسن في موطئه: إنما سميت العصر بذلك لأنها تُعتَصر ويُضَيَّق عليها وقتها. ما بين مصير ظل الرجل كطوله ومصير ظل الرجل مثليه وقت للظهر عند بعضهم وليس وقتاً للصلاتين عند بعضهم.(8/2)
من أقوى أدلة الحنفية على أن وقت صلاة العصر يبتدئ بمصير ظل الشيء مثليه: ما جاء من التمثيل بالأجير بالنسبة لهذه الأمة مع اليهود والنصارى (مثلكم ومثل من قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً من أول النهار إلى الزوال على دينار ثم استأجر أجيراً من منتصف النهار إلى وقت العصر على دينار ثم استأجر أجيراً من وقت العصر إلى الغروب على دينارين فالذين عملوا إلى منتصف النهار هم اليهود والذين عملوا من منتصف النهار إلى العصر هم النصارى والذين عملوا من وقت العصر إلى غروب الشمس هم هذه الأمة فاحتج أهل الكتاب فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل أجراً؟!!) استدلال اليهود ظاهر لأنهم عملوا من أول النهار إلى منتصفه إلى زوال الشمس فهو أكثر من وقت العصر بلا إشكال لكن كيف يحتج النصارى بأن عملهم أكثر وهم عملوا من زوال الشمس إلى مصير ظل الشيء مثله وهذه الأمة من مصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس؟ يقولون إن هذا الحديث يقتضي أن وقت العصر أضيق من وقت الظهر وعلى هذا يصير من مصير ظل الشيء مثليه ليكون الفرق واضحاً وكبيراً فهم يقولون إنه لو صار وقت العصر يبدأ من مصير ظل الشيء مثله ما صار وقت النصارى أطول من وقت المسلمين لأنهم يقولون (نحن أكثر عملاً) وأجيب عن هذا بأن الاحتجاج من اليهود والنصارى معاً ولا شك أن العمل من أول النهار إلى مصير ظل الشيء كطوله أطول بلا إشكال وأجيب عن ذلك أيضاً بأن وقت الظهر من زوال الشمس إلى مصير ظل الرجل كطوله أطول في كل زمان وفي كل مكان من مصير ظل الرجل كطوله إلى غروب الشمس ومن نظر في التقويم تبين له هذا والفارق ليس بالكبير فأحياناً ربع ساعة لكنه أطول فلا نحتاج إلى مثل هذا الكلام فلا نرد النصوص الصحيحة الصريحة بمثل هذه الفهوم البعيدة.(8/3)
بعض الشراح أخذاً من هذا الحديث يقول إن عمر هذه الأمة ألف وأربعمائة سنة لأن اليهود مكثوا نصف النهار وهو ما يعادل ألفي سنة والنصارى مكثوا وقت الظهر وهو ستمائة سنة فيبقى لهذه الأمة ألف وأربعمائة سنة وهذا ليس بصحيح وهو نظير القول بأن الساعة ستقوم في عام 1407 هـ بدليل مجيء كلمة (بغتة) في قوله تعالى (لا تأتيكم إلا بغتة) فهذه الكلمة في حساب الجُمَّل تساوي 1407 وهذا يرده الواقع وترده النصوص القطعية التي تدل على أن علم الساعة لا يعلمه إلا الله. وكل ما ذكر إنما هو من التخرصات.
حديث عبد الله بن عمرو في مسلم هو أصح حديث في المواقيت.
تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس جاء فيه الوعيد وإن كان فعلها فيه أداء وليس بقضاء.
الجمهور على أن الشفق هو الحمرة وهذا ثابت عن ابن عمر وهو من العرب الأقحاح والمرفوع فيه ضعف ويرى بعضهم أن المراد بالشفق الشفق الأبيض.
وقت صلاة المغرب فيه سعة على ضوء حديث مسلم فيمتد من الغروب إلى مغيب الشفق الأحمر بمقدار ساعة ونصف وحديث جبريل يدل على أن صلاة المغرب ليس لها إلا وقت واحد حيث صلى برسول الله في اليوم الأول وفي اليوم الثاني بعد أن وجبت الشمس أي صلى في نفس الوقت في اليومين وبهذا قال الشافعية وأن وقت صلاة المغرب مضيق بحيث لا يزيد على ما يتسع للوضوء والصلاة يعني مقدار ربع ساعة تقريباً ولا شك أن حديث مسلم أرجح من حيث الصناعة وهو أيضاً متأخر.
وقت العشاء يبتدئ من مغيب الشفق ويمتد إلى نصف الليل الأوسط ويقال أوسط إذا كان مركباً من ثلاثة أطراف أو خمسة أو سبعة فإذا كان من ثلاثة أطراف فالثاني أوسط والمقصود به نهاية النصف الأول وقيل له أوسط لوقوع نهايته في وسط الليل.
حديث مسلم يدل على أن وقت صلاة العشاء ينتهي بانتصاف الليل وحديث جبريل يدل على أن نهايته ثلث الليل لكن حديث مسلم أرجح من حيث الصناعة وهو أيضاً متأخر.(8/4)
الأقوال ثلاثة في نهاية وقت صلاة العشاء: نهاية ثلث الليل لحديث جبريل – منتصف الليل لحديث مسلم وهو الأرجح لصحة الحديث وصراحته – ينتهي بطلوع الفجر لقوله (ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى) لكن عمومه مخصوص بصلاة الصبح إجماعاً فلا يمتد وقتها إلى أن يدخل وقت صلاة الظهر وليكن أيضاً مخصوص بصلاة العشاء لحديث مسلم.
الفجر الصادق هو الذي ينتشر في الأفق وأما الكاذب فهو المستطيل كذنب السرحان.
(والشمس بيضاء نقية) يؤيد (ما لم تصفر الشمس) وقوله (والشمس مرتفعة) يعني لم تتضيف للغروب.
(والشمس حية) يعني تُدرَك حرارتها وما زالت حرارتها باقية.
(ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية) دليل على أن وقت العصر يبدأ بمصير ظل الشيء كطوله.
كان يسمر مع أبي بكر في أمر المسلمين وقال البخاري في كتاب العلم (باب السمر في العلم) فالسمر للمصلحة مشروع.
كان يشرع في صلاة الصبح بغلس فإذا انتهى منها يعرف الرجل جليسه لطولها فإذا خفف قرأ 60 وإذا أطال قرأ 100.
المراد الآيات المتوسطة وكل شيء أطلق في النصوص ينظر فيه إلى المتوسط.
قالت عائشة في المسند (أول ما شرعت الصلاة ركعتين فزيد في الحضر وأقرت صلاة السفر إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الفجر فإنها تطول فيها القراءة).
اصطلاح الحافظ في قوله (متفق عليه) ما رواه الشيخان من طريق صحابي واحد وأما المجد ابن تيمية في المنتقى فيريد بقوله (متفق عليه) أي بين الشيخين وأحمد ومنهم من لا يشترط اتحاد الصحابي كالبغوي في شرح السنة فيطلق ذلك على الحديث الذي رواه صحابيان لكن على الاصطلاح المعروف فليس بمتفق عليه ولو اتحد اللفظ فهما حديثان لأن العبرة بمخرج الحديث فإذا اتحد الصحابي فهو حديث واحد وإن اختلف اللفظ.
في صلاة العشاء ينظر في أحوال المأمومين ويفعل الأرفق بهم.(8/5)
(إذا رآهم اجتمعوا عجل) رفقاً بهم لأنهم أصحاب عمل في النهار لتحصيل المعيشة فإذا وجدت المشقة فالسنة التعجيل.
الغلس هو اختلاط ظلمة آخر الليل بضوء الصبح فهو أول وقت الصلاة لكنه ينصرف منها والرجل يعرف جليسه.
(فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً) فصلاة الصبح تصلى في أول وقتها بعد التأكد من طلوع الصبح.
يشاع أن التقويم متقدم على وقت صلاة الفجر بزمن أوصله بعضهم إلى ثلث ساعة وهذا يؤكده كثير من الثقات من طلاب العلم ممن سبروا الأمر بأنفسهم لكن قررت اللجنة التي كلفها الشيخ ابن باز بأن التقويم مطابق للوقت وكتب الشيخ في الصحف وما زال بعض أهل المعرفة من طلاب العلم يؤكدون على أن التقويم متقدم ويقولون لعل هذه اللجنة خرجت مثلاً في وقت الشتاء حيث يكون الفرق يسير جداً بين التقويم وبين وقت طلوع الفجر الفعلي وأما في الصيف فهو متقدم كثيراً وعلى كل حال الذي بالإمكان فعله أن تؤخر الإقامة فإذا صارت المدة بين الأذان والإقامة نصف ساعة خرجنا من كل خلاف وحتى تنحل هذه المسألة لأنها من أهم المسائل وتنبغي العناية بها لأن بعض المعذورين عن حضور الجماعة ربما صلوا بمجرد الأذان فينبغي أن ينظر إلى هذه المسألة بعناية. فينبغي سبر ذلك في فصول مختلفة في السنة والتقويم ليس بمعصوم وإن كان معمولاً به من أكثر من نصف قرن لكن مع ذلك فهو من عمل البشر.
الجمهور على أن السنة أن تصلى الفجر في أول وقتها والحنفية على أن الأفضل الإسفار.
صلى مع جبريل صلاة المغرب في اليومين في أول الوقت فدل على أن السنة التبكير في صلاة المغرب.
حديث رافع يدل على المبادرة بصلاة المغرب في أول وقت المغرب بحيث ينصرف المصلي منها والضوء باقٍ يعني قبل أن يشتد الظلام بحيث لا يبصر ما دق وخفي لأن مواقع النبل وهي السهام دقيقة وخفية.
(أعتم) دخل في العتمة كـ (أسفر) دخل في الإسفار والعتمة وهي الظلام حددت بثلث الليل بعد غيبوبة الشفق.(8/6)
قول عائشة (حتى ذهب عامة الليل) الشراح يقولون (حتى ذهب كثير من الليل لا أكثره) لكي يتفق مع الأحاديث الدالة على أن الوقت ينتهي بثلث الليل والأحاديث الدالة على أنه ينتهي بنصف الليل.
قولهم (عامة العلماء) المقصود أكثرهم وجمهورهم يعني إن لم تفد هذه الكلمة الكل فلا أقل من أن تفيد الأكثر.
(إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) فدل على أن تأخير صلاة العشاء هو السنة فإذا انتفت المشقة فالسنة التأخير وإذا وجدت المشقة فالسنة التعجيل لأن (لولا) حرف امتناع لوجود فامتنع التأخير لوجود المشقة.
العلة في الإبراد منصوصة (فإن شدة الحر من فيح جهنم) لأن النار اشتكت فأُذِن لها بنَفَسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء فأشد ما نحس به من الحر هو من ذلك النَّفَس وأشد ما نحس به من البرد هو من زمهرير جهنم نسأل الله العافية.
(أبردوا) ادخلوا في البرد وفي الصيف لا تذهب الحرارة من الأرض إلا بعد المغرب وصلاة العصر تصلى والشمس حية ولا زال الحر موجوداً فما معنى الإبراد في الحديث؟ إذا كان للجدران فيء يستظل به الناس من حر الشمس ومنهم من يرى أنها تصلى في آخر وقتها ويكمن الحل هنا في خروج الناس مرة واحدة في هذا الوقت شديد الحر لصلاتين فيجمعون جمعاً صورياً لكن لا شك أنه إذا كان للجدران فيء يستظل به المشاة فإنه يحل إشكال هذا الحر الناتج من شدة حر الشمس وليس معنى هذا أن ننتظر حتى يبرد الوقت ونصلي الظهر ولو في آخر وقت العصر لأن وقت العصر حار وهذا ليس بصحيح.
عند بعض أهل العلم أن الصلاة إذا أخرت حتى خرج وقتها بلا عذر أنها لا تقضى لأن فعلها بعد خروج الوقت كفعلها قبل دخوله.
الإمام مالك يقدم شرط الوقت على شرط الطهارة ولذا افتتح موطئه بكتاب وقوت الصلاة وقدمه على الطهارة.(8/7)
(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسول يلقون غياً) ومعنى التضييع تأخيرها عن أوقاتها لا أنهم لا يصلون ومثل ذلك (ويل للمصلين الذين ..) فهؤلاء مصلون لا يتركونها بل يؤخرونها وغي وويل واديان في جهنم.
من لطف الله بخلقه أنه لم يقل (الذين هم في صلاتهم ساهون) لأن السهو في الصلاة كثير.
جاء في حديث خباب عند مسلم (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا) يعني فلم يزل شكوانا والإبراد عرفنا أنه ليس معناه أن تؤخر الصلاة عن وقتها إلى أن يزول الحر من الأرض بل المقصود التأخير إلى أن يصير للتلول والحيطان فيء يستظل به الذاهب إلى المسجد وإلا فالشمس ما زالت حية وحرارتها شديدة والأرض أيضاً حرارتها شديدة لأنهم شكوا حر الرمضاء فلم يشكهم وهذا يدل على أن الإبراد لا يعني زوال وانتهاء الحر لا من الجو ولا من الأرض.
(أصبحوا بالصبح) وفي رواية (أسفروا) فالمقصود بالإصباح الإسفار وهذا الحديث صحيح بطرقه وشواهده والمقصود بقوله (أصبحوا) تحققوا من طلوع الصبح لأن معنى (أصبح) دخل في الصبح والصلاة صلاة الصبح فإذا تحققنا من طلوع الصبح فإن صلاة الصبح تصلى بمجرد دخول وقتها.
بعض العلماء يقول أن المعنى أطيلوا صلاة الصبح حتى تنتهوا وتفرغوا منها بعد أن تسفروا وهذا المعنى له ما يشهد له من قراءة النبي عليه الصلاة والسلام بالستين إلى المائة ومنهم من يخص هذا الحديث بالليالي المقمرة وهذا كلام ابن حبان لأنه لا يتضح أول الفجر في الليالي المقمرة فمن باب الاحتياط تؤخر الصلاة قليلاً لنتأكد من طلوع الصبح.
(من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس وركعة بعد أن تطلع فقد أدرك الصبح) عند البيهقي وغيره فلا يكتفي بالركعة التي أدركها في الوقت بل لا بد من إضافة ركعة أخرى إليها.
(فقد أدرك الصبح) يعني أدرك الصلاة في الوقت فتكون صلاته كلها أداء.(8/8)
على رواية (من أدرك ركعة من الصبح) في الصحيح لا بد من إدراك ركعة كاملة وبهذا يدرك الوقت وفي الرواية الأخرى عند مسلم (من أدرك سجدة) وبهذا يستدل من يقول بأن الوقت يدرك بإدراك أي جزء من الصلاة ولو تكبيرة الإحرام لأن اللفظ غير مقصود بدليل الرواية الأخرى (سجدة) لكن الرواية الأخرى بينت في الصحيح نفسه (والسجدة إنما هي الركعة) وعلى هذا لا يكون مدركاً للوقت حتى يدرك ركعة كاملة وهي أقل ما يطلق عليه صلاة.
إطلاق الركعة والركوع على السجود والعكس جاء في النصوص: (خر راكعاً وأناب) المراد (سجد) وقوله (ادخلوا الباب سجداً) أي وأنتم راكعون.
هذا التفسير يحتمل أنه مرفوع وحينئذ فلا كلام ويحتمل أنه من قبل الراوي وهو أدرى بما روى.
عند بعض أهل العلم أن ما أدركه في الوقت أداء وما أدركه بعده قضاء وبعضهم يرى أن الحكم للأكثر وحديث الباب يرد عليهم.
هذا بالنسبة لإدراك الوقت فماذا عن إدراك الجماعة وإدراك الجمعة وإدراك تكبيرة الإحرام وإدراك الركوع؟ الوقت يدرك بإدراك ركعة وتدرك الركعة بإدراك الركوع ومقتضى حديث الباب أن أقل ما يطلق عليه صلاة ركعة كاملة فلا يكون مدركاً للجماعة إلا إذا أدرك ركعة كاملة لكن المذهب عند الحنابلة والمشهور عند كثير من أهل العلم أن من كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى فإنه يكون حينئذ مدركاً للجماعة ولذا في متون الحنابلة (من كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى فقد أدرك الجماعة ولو لم يجلس) لأنه أدرك جزءاً من الصلاة لكن هل أدرك مع الإمام ما يسمى صلاة؟ هذا الجزء لا يمكن أن يسمى صلاة بل أقل ما يسمى صلاة الركعة ولذا يرى شيخ الإسلام أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة والمعروف في المذهب أنها تدرك بإدراك أي جزء من الصلاة والنووي نقله عن الجمهور سواء في الوقت أو في الجماعة.(8/9)
تطبيق: لو دخل المسبوق والإمام في التشهد الأخير فهل الأولى أن يدخل مع الجماعة أو يبحث عن غيرهم أو ينتظر لعل الله أن يأتي بمن يصلي معه أو يطلب من أحد أن يتصدق عليه؟ إذا غلب على ظنه أنه يدرك جماعة أخرى فلا يدخل مع هذا الإمام ليدرك الجماعة بيقين وإذا غلب على ظنه أنه لن يدرك جماعة أخرى ولن يأتي بعده من يصافه ويصلي معه فإنه يدخل مع الإمام لا سيما وقد جاء في الحديث (إذا جاء أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) يعني يدخل مع الإمام على أي حال.
إدراك الركعة يكون بإدراك الركوع مع الإمام.
متى تفوت تكبيرة الإحرام؟ إذا انتقل الإمام إلى الركن الذي يليها وهو قراءة الفاتحة ومنهم من يقول بأن تكبيرة الإحرام لا تفوت إلا بالفراغ من الركن الثاني بالتأمين ولذا جاء عن بلال أنه كان يقول (لا تسبقني بآمين).
من حضر في مكان فيه تصوير بالفيديو وهو يعتقد التحريم لا يجوز له المقام لأنه يعمل بما يعتقد وبما يدين الله به وكان صاحب الحفل مثلاً من عامة الناس الذين فرضهم التقليد واقتدى بإمام تبرأ الذمة بتقليده يجيز ذلك فهذا شأنه ولا أحد يلزمه بقول آخر لكن المتجه أن التصوير بجميع صوره وأشكاله لذوات الأرواح حرام.
القراءة أثناء الركوع والسجود حرام.
إذا لم يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة في الثالثة والرابعة خلف إمامه فإنه في حكم المسبوق فيركع مع الإمام قبل أن يكمل الفاتحة ولا يجوز أن يكملها أثناء الركوع لكن إذا عرف من قاعدة هذا الإمام المطردة أنه لا يمكن المأموم من قراءة الفاتحة فليبحث عن غيره ولا ينبغي أن يبقى مسبوقاً في عمره كله وهذا الإمام ينبغي أن ينصح فإن امتثل وإلا فيزجر.
إذا دخل وقت الصلاة وهو في الحضر ثم سافر فإنه يصليها تامة ولا يقصرها.(8/10)
الأصل أن الأذان للوقت لكن إذا لم يوجد من يغتر بالأذان بعد خروج الوقت لمن فاتته الصلاة كحال سفر أو رحلة فإنه يؤذن للصلاة عند قرب فعلها ولذا يؤذن لصلاة المغرب والعشاء بمزدلفة فور الوصول إليها ولو كان الوصول بعد دخول الوقت بساعة أو ساعتين أو ثلاث فللأذان ارتباط وثيق بأداء الصلاة وإن كان الأصل أنه للوقت.
الظاهر أن قوله (بالستين إلى المائة) أي في الركعتين كلتيهما.
السؤال في المسجد قيل بكراهته لأنه إذا كان ليس له أن يسأل ما فقد منه مما يملكه فليس له أن يسأل ما ليس له أصلاً من باب أولى وأما إعطاؤه في المسجد من غير سؤال فلا بأس به وقد حصل في عهد رسول الله وبحضوره. لكن لو تعرض للمسألة بحيث جلس في موضع بحيث يراه الناس فيعطونه من غير مسألة فلا بأس.
شيخ الإسلام له رسالتان أولاهما تثبت أن الخضر ما زال حياً والأخرى تنفي حياته وأنه داخل في حديث (ما من نفس منفوسة على ظهر الأرض الآن يأتي عليها مائة عام) الحديث. والقول بأنه ما زال موجوداً قول الأكثر بل يزعم بعضهم أنه التقى به ورآه في عصور مختلفة في الأمة أنه التقى بالخضر وسأله والمقصود أن القول المحقق وهو القول الأخير لشيخ الإسلام أنه مات وفي نبوته خلاف ولا شك في أنه ولي ومن يقول بنبوته يستدل بقوله تعالى على لسانه (وما فعلته عن أمري) فدل على أنه فعل ذلك بوحي.(8/11)
المطار في حكم البلد ولو كان منفصلاً عنه ولذا إذا وصلت الرحلة يقولون (وصلنا إلى الرياض) وإذا كان بين أمرين بين تأخير الرحلة ويترتب عليه في ذلك حرج ومشقة وبين الصلاة في الطائرة بالإيماء فإنه يصلي الصلاة حسب استطاعته ويتقي الله ما استطاع وإعادة الصلاة أحوط. وإذا أمكن أن يؤدي الصلاة على وجهها فلا يجوز أن يخل بشيء من أركانها, وإن لم يتمكن من أدائها على وجهها فإنه يصليها كيفما اتفق في وقتها, وأما إذا كان يغلب على ظنه أنه يصل إلى المطار الثاني قبل خروج الوقت ولو في آخر الوقت فإن الأفضل أن يصليها في آخر الوقت, فهو أفضل من فعلها مع الخلل في أول الوقت.
الجمهور على أن مدة السفر محددة بأربعة أيام, وهذا مأثور عن ابن عباس وغيره, ومنهم من يحددها بأكثر, إلى تسعة عشر يوماً.
مقدار الوقت بالساعات من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق في التقويم ساعة ونصف, ويتفاوت تبعاً لطول الليل وقصره, من ساعة ونصف إلى ساعة وثلث إذا قصر الليل.
علاج مشكلة السهو في الصلاة: التفرغ التام لهذه العبادة من المشاغل كلها, والتدبر لما يُقرَأ في الصلاة, واستحضار النية الخالصة لله عز وجل, واستشعار عظمة من تقف بين يديه, واستشعار أهمية هذه العبادة التي تؤديها.
إخراج التصوير بالفيديو من النصوص يحتاج إلى شيء قوي يُعتَمد عليه في الإخراج, والخلاف في المسألة قوي.
كتاب الملاحم والفتن لنُعَيم بن حماد فيه الصحيح وفيه الضعيف وفيه شديد الضعف, والضعيف فيه كثير.(8/12)
ماحكم الحيوانات التي هي ألعاب للأطفال؟ وإذا كانت حراماً كيف نوفق بين ذلك وبين الفرس ذو الجناحين الذي كان عند عائشة؟ وإذا كان جائزاً كيف نوفق بين ذلك وبين تمزيق عائشة للسترة ذات التصاوير؟ الجواب: الفرس الذي كان عند عائشة لو كان من حيث الدقة بالمستوى الموجود في الصور المجسمة الآن لا يمكن أن يُسأل عن فيقال (ما هذا يا عائشة؟), بل كان هذا الفرس عبارة عن خشبة ممدودة على خشبات, وهذا نظير لعب البنات, جاء في النصوص أن البنات يتخذن اللعب من العهن من الصوف, ويستدل بهذا من يقول إن الصور المجسمة الموجودة الآن في الأسواق حلال لأن البنات كن يلعبن بمثل هذا, لكن اللعب في ذلك الوقت بينها الشراح, قالوا إنها عبارة عن وساد كبير في رأسه وساد صغير وحشوها صوف من العهن, وليس في هذا مضاهاة لخلق الله, فلا يصح الاستدلال بذلك على جواز الصور المجسمة الموجودة في الأسواق, التي إن أُضجِعت أغمضت العينين, وإن أُقعِدَت بكت, وإن صُفِّق لها غنَّت ودارت, واللعب القديمة لم تكن بهذا المستوى من المضاهاة, وعندي أن هذه مثل الصور الموجودة الآن هي الصور المجسمة المجمع على تحريمها.
إذا نسي الإمام الجهر بأول الفاتحة ثم لما تذكر أعاد قراءة الفاتحة بالجهر فإن صلاته صحيحة, لكن الأولى أن يبدأ الجهر من الموضع الذي وقف عليه, لأن الجهر بالقراءة سنة عند الجمهور, ما لم يكن تركه ديدناً وعادة, وأهل العلم يقولون بكراهة تكرار الفاتحة, فتكرار بعضها في حكم تكرار كلها.
الأصل أن الصلاة على الميت تكون قبل دفنه, لكن من فاتته الصلاة قبل الدفن فيُشرَع له أن يصلي على القبر, كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
إقامة أكثر من جمعة في مكان واحد المقرر عند أهل العلم أن هذا لا يجوز إلا لحاجة والحاجة تقدر بقدرها حتى قال أهل العلم إنه إذا أقيمت الجمعة الثانية من غير حاجة فالثانية باطلة.(8/13)
وقت صلاة الجمعة عند الجمهور هو وقت صلاة الظهر وعند الحنابلة أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة العيد وآخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر.
ما دام الوقت فيه سعة والحاجة قائمة للجمعة الثانية والمبرر للتأخير قائم والتأخير في حدود الوقت فلا أرى ما يمنع من ذلك.
بعض الأئمة يجمع في أوقات المطر من غير حاجة ولكن تحت إلحاح الجماعة؟ لا يجوز الجمع والسبب غير قائم وهو نزول المطر وهم يشترطون أن يكون السبب قائماً عند إقامة الثانية لكن إذا وجد السبب ووجد المطر بحيث يشق على الناس وصحبه برد جاز الجمع فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وفي رواية من غير خوف ولا سفر والحرج منفي في الشرع ولذا لما سئل ابن عباس عن السبب قال (أراد ألا يحرج أمته) فما دام الحرج موجوداً فالسبب قائم ويسوغ حينئذ الجمع وبعض الأئمة ممن ليس من طلبة العلم يرى أن الجمع مقرون بالقصر حتى في حال المطر وهذا جهل لأن الجمع أسبابه أكثر من أسباب القصر فالقصر مربوط بالسفر وأما الجمع فالمسافر يجمع والمريض يجمع وصاحب المشقة الشديدة كمن يشق عليه كثرة الوضوء كمن به حدث دائم أو استحاضة رخص لهم أن يجمعوا.
الحرج منفي في الشريعة لكن التساهل يعرض الصلاة للبطلان.
بعضهم يجمع صلاتي المغرب والعشاء والسبب غير قائم ثم يذهب إلى متجره أو إلى عمله بعد الصلاة وهذا دليل على أن الحرج ليس موجوداً في العودة إلى المسجد.
الصلاة مع الخلل في الأركان يقتصر فيها على موارد النص كما في صلاة الخوف وصلاة النفل في السفر على الراحلة وعليه فلا يصلي الضحى في الفصل مثلاً على الكرسي لأنه سيخل بالأركان.
حديث علي في سؤال اليهود النبي عليه الصلاة والسلام لماذا حدد الله الصلوات الخمس في مواقيتها لا يصح ولا يثبت وأمارات الوضع عليه ظاهرة.(8/14)
الرواية المتفق عليها (لا صلاة بعد الصبح) فيها تقييد وقت النهي بطلوع الصبح ورواية مسلم (لا صلاة بعد صلاة الفجر) فيها تقييد وقت النهي بصلاة الصبح وجاء في الصحيحين وغيرهما تقييد الوقت الثاني بصلاة العصر فهل وقت النهي يبدأ من طلوع الصبح إلى طلوع الشمس أو يبدأ من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس؟ الرواية الأولى تدل على الأول والثانية تدل على الثاني وهذا الاختلاف جعل بعض أهل العلم يجعل أوقات النهي ستة لأنه جاء في حديث صحيح (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتا الصبح) فالاستثناء يدل على خفة النهي فعلى هذا يكون النهي من طلوع الصبح إلى الصلاة نهي مخفف بدليل أنه تجوز فيه النافلة ابتداءً وعلى هذا إذا دخل أحدكم المسجد وصلى ركعتي الفجر فإنه حينئذ لا يصلي غير هاتين الركعتين وتكفيه هاتين الركعتين عن تحية المسجد لأن المقصود بتحية المسجد شغل البقعة بالصلاة وتتأدى تحية المسجد بأي صلاة على أن تكون من ركعتين فأكثر حتى يصلي ركعتين. إذا كان الوقت الأول من طلوع الصبح إلى طلوع الشمس واستثنى النبي عليه الصلاة والسلام ركعتي الصبح قبلها وأقر من صلى ركعتي الصبح بعدها (لأنه رأى رجلاً يصلي بعد الصبح فقال له: الصبح أربعاً؟ فذكر له أنه لم يصل الركعتين فأقره على ذلك) وعلى كل حال هو وقت فيه سعة. الوقت الذي يليه من صلاة العصر إلى أن تتضيف الشمس للغروب وهو أيضاً وقت موسع ولذا قضى النبي عليه الصلاة والسلام فيه راتبة الظهر لما فاتته وجاء في بعض الأحاديث ما يدل على اختصاصه بهذا فهو وقت نهي فراتبة الظهر إذا دخل وقت صلاة العصر نقول إنها سنة فات وقتها وقضاؤها بعد صلاة العصر في وقت النهي من خواصه عليه الصلاة والسلام لأنه إذا عمل عملاً أثبته.
هذان الوقتان الموسعان هما ما اشتمل عليه حديث أبي سعيد واشتمل حديث عقبة بن عامر على الأوقات الثلاثة المضيقة التي النهي فيها أشد.(8/15)
قد يقول قائل: لماذا لا نجعل الأوقات ثلاثة بدل أن تكون خمسة أو ستة فالأول من طلوع الصبح إلى ارتفاع الشمس وقت واحد والثاني حين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس والثالث من صلاة العصر إلى غروب الشمس وندخل الاثنين اللذين في حديث أبي سعيد في هذه الثلاثة؟ الجواب: هل قال أهل العلم أنها خمسة أو ستة للبسط بذاته بمعنى أنه تصريح بما هو مجرد توضيح أو لأن الأحكام تختلف في الوقتين الموسعين عن الأحكام في الأوقات الثلاثة المضيقة؟!! نعم الأحكام تختلف ففي الوقتين الموسعين النهي عن الصلاة فقط وفي الأوقات الثلاثة المضيقة النهي عن الصلاة وعن دفن الموتى فدل على أن الأمر أشد في الأوقات المضيقة. في الوقتين الموسعين يرى جمع من أهل العلم أن النهي عن الصلاة فيهما إنما هو من باب النهي عن الوسائل يعني سد للذرائع لئلا يسترسل الإنسان في الصلاة بعد الصبح ثم يصلي وقت طلوع الشمس الذي هو وقت النهي المضيق ولئلا يسترسل المصلي المتنفل بعد صلاة العصر ثم يستمر في الصلاة حتى يأتي الوقت المضيق حين تتضيف الشمس للغروب إلى أن تغرب. فالوقتان الموسعان فيهما خفة في النهي والأوقات الثلاثة المضيقة فيها شدة في النهي.
قضاء الفوائت وأداء الفرائض لا يدخلان في النهي فالنهي إنما هو عن النوافل فقط.(8/16)
الحنفية والأمر عندهم أشد في هذه الأوقات عندهم أن من صلى ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت عليه الشمس تبطل صلاته بينما من صلى ركعة قبل غروب الشمس ثم غربت عليه الشمس فلا تبطل صلاته فما هو وجه التفريق؟ وجه الفرق بينهما أنه دخل عليه وقت النهي في صلاة الصبح وفي صلاة العصر خرج وقت النهي والحديث (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) صريح في الرد عليهم لكنهم يقولون إن الفريضة لا تصح في وقت النهي لا سيما حين طلوع الشمس ويستدلون بأن النبي عليه الصلاة والسلام لما نام عن صلاة الصبح أخر قضاء الصلاة وانتقل من المكان الذي نام فيه وهم يعللون بأنه إنما أخرها لينتهي وقت النهي والعلة منصوصة في سبب التأخير وانتقالهم من مكان إلى آخر لأن هذا الوادي الذي ناموا فيه حضر فيه الشيطان فانتقلوا منه إلى غيره لا لكي يخرج وقت النهي وأيضاً وقت النهي قد انتهى لأن الذي أيقظهم هو حر الشمس والشمس إذا صارت لها حرارة يرتفع وقت النهي قطعاً.
إذا نام الإنسان عن الصلاة وهو في مكان هل نقول له إن السنة أن تنتقل من هذا المكان وتصلي في مكان آخر لأن النبي عليه الصلاة والسلام انتقل من هذا الوادي إلى مكان آخر وقال إنه مكان حضر فيه الشيطان؟ فالسبب أن الشيطان حضر في هذا المكان الذي فاتت فيه الصلاة فهل يحضر الشيطان في كل مكان تفوت فيه الصلاة؟ لا يلزم والرسول عليه الصلاة والسلام أُطلِع على ذلك وإلا ما بقي أحد فيه بيته وفي غرفته.(8/17)
المتبادر إلى الذهن عند قوله (والحكم الثاني) أي في حديث عقبة أن المراد به دفن الموتى لكن حديث أبي هريرة في مسند الشافعي يدل على أن مراده بالحكم الثاني (حين يقوم قائم الظهيرة) يعني الوقت الثاني مما اشتمل عليه حديث عقبة واستثنى من هذا الوقت يوم الجمعة وهذا الاستثناء جاء عند أبي داود عن أبي قتادة والعلة أن النار لا تسجر في يوم الجمعة لكنهما حديثان ضعيفان. ثبت عن جمع من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة فدل على أن للاستثناء يوم الجمعة أصل لكن ترك الصلاة في هذه المدة الضيقة (ربع ساعة) لا شك أنه أحوط لأن الحديثين ضعيفان وضعفهما شديد و النهي عن الصلاة حين يقوم قائم الظهيرة شامل ليوم الجمعة وغيره.
في حديث ابن عمر مرفوعاً (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) يعني ركعتي الفجر وفي رواية عبد الرزاق (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر) وشغل عليه الصلاة والسلام عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر قضاءً.
يتلخص مما سبق النهي عن الصلاة في أوقات النهي الخمسة والنهي عن الدفن في الأوقات الثلاثة المضيقة والفرائض لا تدخل في النهي والنوافل المطلقة متفق على كراهتها في هذه الأوقات وقولنا المطلقة أي في مقابل ذوات الأسباب لا مقابل الرواتب لأن النوافل المطلقة تطلق ويراد بها أحد هذين المعنيين. والنهي عن النوافل المطلقة في هذه الأوقات صحيح صريح وجمع من أهل العلم يرون التحريم وهو مقتضى النهي لكن الجمهور على الكراهة.
ذوات الأسباب منها تحية المسجد ومنها سنة الوضوء ومنها ركعتا الإحرام عند من يقول بسنيتها ومنها ركعتا الطواف فهل تفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي؟ أبو حنيفة ومالك وأحمد (الجمهور) على أنه لا يفعل شيء من النوافل ولو كانت ذوات أسباب والشافعية يقولون بجواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي.(8/18)
لما كانت هذه المسألة من عضل المسائل قال بعض أهل العلم بأن الأولى عدم دخول المسجد في وقت النهي لأنك إذا صليت خالفت أحاديث النهي وإن جلست ولم تصل خالفت أحاديث الأمر (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ومنهم من يقل (لا تجلس إن دخلت بل استمر واقفاً حتى يخرج وقت النهي) وعمر رضي الله عنه كما في البخاري معلقاً عنه طاف بعد صلاة الصبح وصلى ركعتي الطواف بذي طوى (الزاهر حالياً) من أجل أن يخرج وقت النهي وترجم البخاري (باب الطواف بعد الصبح وبعد العصر) وذكر الشارح ابن حجر أحاديث تدل على أنهم لا يطوفون بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر خشية من الصلاة وإلا فالطواف ليس فيه إشكال حتى ذكر عن أبي الزبير أن المطاف يخلو تماماً بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر وذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي ما لم تطلع الشمس يعني يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ومعنى هذا أنه يصليها في الوقت الموسع دون المضيق وعمر رضي الله عنه انتظر حتى خرج وقت النهي وفي المسند عن جابر بإسناد حسن أنه قال (ما كنا نطوف بعد الصبح وبعد العصر).
شيخ الإسلام رجح مذهب الشافعية.
(إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فيه نهي عن الجلوس مفاده الأمر بالصلاة لأنا نهينا عن الجلوس حتى نصلي.
حجة الشافعية التي درج عليها الناس أن أحاديث النهي عامة في جميع الصلوات وأحاديث ذوات الأسباب خاصة بهذه الصلوات التي ربطت بسبب والخاص مقدم على العام ومثل هذا الكلام لا يخفى على مثل الأئمة الثلاثة وهم يقولون إن أحاديث ذوات الأسباب عامة في جميع الأوقات وأحاديث النهي خاصة بهذه الأوقات والخاص مقدم على العام فعندنا الآن تكافؤ في الحجة لأن العموم والخصوص وجهي وليس بمطلق فأحاديث النهي عامة من وجه خاصة من وجه وأحاديث ذوات الأسباب عامة من وجه خاصة من وجه.(8/19)
الخاص مقدم على العام يقال بإطلاق إذا كان العموم والخصوص مطلقاً وأما إذا كان العموم والخصوص وجهياً كما هنا فلا نستطيع أن نقول بمثل هذا الكلام.
مثال: ثبت النهي عن قتل النساء فهو خاص بالنساء لكنه شامل للمرتدات والكوافر الأصليات وعام في كل ما يوجب القتل. وثبت الأمر بقتل المرتد (من بدل دينه فاقتلوه) و(من) من صيغ العموم فيشمل الرجال والنساء فهو عام من هذا الوجه وخاص بالمرتدين فهذا عموم وخصوص وجهي فلو قال قائل (تقتل المرتدة) لعموم (من بدل دينه فاقتلوه) قال القائل (نهينا عن قتل النساء) وإذا قال القائل (لا تقتل المرأة للنهي عن قتل النساء) جاء الطرف الآخر ليقول (من بدل دينه فاقتلوه) تدخل فيه المرأة فالحجج متكافئة فنطلب مرجحاً خارجياً. عموم (من بدل دينه فاقتلوه) لم يدخله تخصيص فلا يوجد مرتد لا يقتل فالعموم هنا محفوظ لكن النهي عن قتل النساء عمومه غير محفوظ لأنه دخله مخصصات كثيرة فإذا قتلت المرأة فإنها تقتل وإذا زنت وهي محصنة تقتل فلما كان هذا العموم غير محفوظ وعموم (من بدل دينه فاقتلوه) محفوظ فإن المرتدة تقتل. عموم (من بدل دينه فاقتلوه) محفوظ لأنه لم تدل النصوص على أن هناك مرتد لا يقتل.(8/20)
لما تكافأت الحجج في مسألتنا فإنه يلزمنا البحث عن مرجح خارجي: المرجح الخارجي عند الجمهور هو أن الحظر مقدم على الإباحة بدليل (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) والاستطاعة والقدرة قد يكون المانع منها حقيقياً وقد يكون حكمياً فإذا منعت من الصلاة في هذا الوقت فلست بمستطيع حكماً ولو كنت مأموراً (أمرتنا بأن نصلي إذا دخلنا المسجد لكن نهيتنا عن الصلاة في بعض الأوقات فلا نستطيع أن نصلي لأنك قلت (فأتوا منه ما استطعتم)) وقال (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) لا مثنوية فيه ولا تساهل وعلى هذا نمتنع عن الصلوات في هذه الأوقات وهذه حجة قوية وعند شيخ الإسلام ارتكاب النواهي أسهل من ترك المأمورات بدليل أن معصية آدم ارتكاب محظور ومعصية إبليس ترك مأمور ومعصية إبليس أعظم لكن هذا الكلام وإن كان شيخ الإسلام يقرره فإنه لا ينازع في أن المأمورات تتفاوت والمحظورات تتفاوت. أنت مأمور بحضور الجماعة فيلزمك الذهاب إلى المسجد ولو قدر أن في طريقك إلى المسجد شباب يلعبون ولا تستطيع أن تغير هذا المنكر فلا يسوغ لك ترك الواجب وهو حضور الجماعة في المسجد لوجود المنكر الذي لا تستطيع تغييره في طريقك لكن لو كان في طريقك إلى المسجد بغي وعندها ظالم يجبرك على مواقعتها فلا يسوغ لك ارتكاب المحظور لأنك مأمور بالحضور مع الجماعة ولا يمكن أن يقول شيخ الإسلام مثل هذا الكلام فالمأمورات تتفاوت والمحظورات تتفاوت وإذا أطلق مثل هذا الكلام فلا بد من تقييده.
وجهة نظر الشافعية وفيها قوة: العموم المحفوظ أقوى من العموم المخصوص فعموم ذوات الأسباب لم يدخله من المخصصات إلا أحاديث النهي فقط لكن عموم أحاديث النهي مخصوص بالفرائض وبركعتي الطواف على ما سيأتي وبجميع ذوات الأسباب فدخله من المخصصات أكثر مما دخل عموم ذوات الأسباب من المخصصات وكلما كثرت المخصصات ضعف العموم.(8/21)
لو أن شخصاً قال لأولاده (لا يخرج أحد من صلاة العصر إلى صلاة العشاء) وبالفعل طبق وبحزم فهل عموم هذا النهي بهذه القوة يساوي ما لو قال (لا يخرج أحد) ثم جاء أحد أولاده يطلب منه الذهاب إلى البقالة لشراء شيء يسير ثم يرجع وقال له (اذهب وارجع بسرعة) وجاء آخر وقال له كذلك فسمح له والبقية منعهم؟ لا شك أن عموم الأول أقوى لأنه لا يدخله خصوص أصلاً ولذا كثرة الاستثناءات في الأنظمة تضعفها وهذا معروف عند الإداريين وغيرهم.
بعد هذا ماذا نقول لمن دخل المسجد في وقت نهي؟ أولاً لا ننكر على من صلى مع قوة وجهة نظر الشافعية ولا ننكر على من جلس مع قوة وجهة نظر الجمهور. يبقى ماذا يفعل الإنسان إذا دخل المسجد في وقت نهي؟ الجواب: إذا دخل في الوقتين الموسعين فالأمر أخف لأن من أهل العلم (ابن عبد البر وابن رجب وغيرهما) من قال إن النهي عن الصلاة في الوقتين الموسعين إنما هو من باب منع الوسائل والنهي ليس لذات الوقت بل لئلا يسترسل المصلي فيصلي في الوقت المضيق ولذا ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي ركعتي الطواف بعد الصبح ما لم تطلع الشمس فدل على أنه لا يصلي في الوقت المضيق ويصلي في الوقت الموسع وعلى هذا نقول: الأوقات المضيقة مدتها محدودة والنهي فيها شديد والنهي فيها لذاتها لا لغيرها فالأولى ألا يصلي الإنسان في الأوقات الثلاثة المضيقة بل ينتظر حتى يخرج وقت النهي وعرفنا أن من أهل العلم من يقول بأن الأولى ألا تدخل المسجد في هذا الوقت ومنهم من يقول بالدخول لكن مع عدم الجلوس بل الاستمرار واقفاً حتى يخرج وقت النهي لكن لو صلى فلا يثرب عليه مع قوة حجة الشافعية وأما في الوقتين الموسعين فالأمر فيه سعة ولا بأس أن يصلي (ما دامت الشمس بيضاء نقية بعد صلاة العصر لك أن تصلي) وقد دخل النهي استثناءات كقوله (إلا ركعتي الفجر) وأقر من صلى بعد الصبح راتبة الصبح وقضى راتبة الظهر بعد صلاة العصر فيضعف عموم النهي.(8/22)
إذا كان الخلاف قائماً في تحية المسجد على آكديتها فكيف بركعتي الوضوء وركعتي الاستخارة؟.
الجمهور يرون أن تحية المسجد مستحبة لا واجبة وقيل بالوجوب كما أنهم يرون أن النهي للكراهة لا للتحريم وقيل بالتحريم.
الأوقات الثلاثة المضيقة مربوطة بالشمس طلوعاً وزوالاً (كونها في كبد السماء) وغروباً.
نهي عن الدفن في الأوقات الثلاثة المضيقة فضلاً عن الصلاة مما يدل على أن الأمر فيها أشد وإن كان جمع غفير من أهل العلم يرون أن النهي (وأن نقبر فيهن موتانا) إنما هو عن صلاة الجنازة لا عن الدفن.
مذهب الظاهرية أنك إذا دخلت المسجد في وقت النهي فإنك تضطجع وعليه فإنك بهذا الفعل لا تخالف أحاديث الأمر ولا أحاديث النهي.
(يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف وصلى بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) فالأمر يخف في المسجد الحرام.
قضاء الرواتب في الوقتين الموسعين الأمر فيه سعة لأنه قضى راتبة الظهر في وقت النهي وسيأتي قول من يقول بأن هذا من خصائصه لأنه إذا عمل عملاً أثبته وأقر من صلى بعد صلاة الصبح واستثنى ركعتي الصبح من النهي قبل صلاة الصبح وإلا ما قبل صلاة الصبح بعد طلوع الصبح وقت نهي.
أداء الفرائض وقضاء الفوائت لا يدخل في النهي أصلاً لقوله (فليصلها إذا ذكرها) فهي مربوطة بوقتها.
من الصوارف للأمر في قوله (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) حديث الثلاثة الذين دخلوا فالذي أوى إلى الحلقة وآواه الله ما حفظ عنه أنه صلى.
الأوقات المضيقة لا تزيد على ربع ساعة وتزيد قليلاً في الصيف إذا طال النهار.
الأوقات الموسعة: من طلوع الصبح إلى طلوع الشمس ومن صلاة العصر إلى أن تتضيف الشمس للغروب والأوقات المضيقة هي المذكورة في حديث عقبة بن عامر من طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس وحين تتضيف الشمس للغروب إلى أن تغرب. فأوقات النهي خمسة.(8/23)
لو كبر تكبيرة الإحرام قبل دخول الوقت فإن صلاته لا تصح لأن العبرة بالحال وليست بالمآل وهذا على القول بأنها ركن وأما على القول بأنها شرط فلو افترضنا وهذا بعيد أن شخصاً قال (الله أكبر) قبل دخول الوقت ثم دخل الوقت مع نهاية التكبير فصلاته صحيحة على القول بأنها شرط وقريب من هذا لو أن شخصاً أحرم بالعمرة في آخر لحظة من شعبان ثم أدى العمرة كاملة في رمضان بعد إعلان دخول الشهر فعمرته في شعبان وليست في رمضان لأن العبرة بالحال ولو أحرم بالعمرة في آخر لحظة من رمضان وأخر أداء العمرة إلى منتصف شوال ثم جلس وحج في نفس العام فلا يكون متمتعاً لأنه لم يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
إذا شرع الإمام في قراءة الفاتحة فاتت تكبيرة الإحرام.
لا ينبغي لإمام الجمعة أن يدخل إلا بعد الزوال وهو قول الجمهور لكن لو خطب قبل الزوال وأدى الصلاة بعد الزوال فلا بأس.
مراعاة أحوال المأمومين لها أصل وأحياناً تكون مراعاة ذلك أفضل من مراعاة إيقاع الصلاة في أوقاتها الفاضلة لأنه حينئذ يكون قد طرأ ما يجعل المفضول فاضلاً. لكن إذا كان بعضهم يشق عليه التعجيل وبعضهم يشق عليه التأخير فاعتمد السنة فالصلوات التي يستحب تعجيلها تعجل وأما إذا كانت المشقة تلحق الجميع في التعجيل وأخروا في أثناء الوقت فالنبي عليه الصلاة والسلام يلاحظ أحوال المأمومين.
إذا كان أداء صلاة العشاء في أول وقتها للمرأة أنشط لها فينبغي أن تصليها في أول وقتها لأن تأخيرها وهو سنة قد يترتب عليه حصول الفتور كما يلاحظ. والأفضل لها المبادرة بالصلاة إذا خشيت أنها إن تأخرت أتتها العادة حتى لا تبقى الصلاة ديناً في ذمتها.
من فاتته راتبة الفجر فهو مخير بين صلاتها بعد صلاة الفجر وبين صلاتها بعد خروج وقت النهي قبل صلاة الضحى.(8/24)
من يقول بأن صلاة المغرب هي الوسطى على اعتبار أن الظهر هي الأولى يقول لأنها متوسطة بالنسبة للعدد وهي أيضاً متوسطة من حيث عدد الركعات فهي ثلاثية بين رباعية وثنائية والأقوال في هذه المسألة تقرب من عشرين قولاً كما أن الأقوال في تحديد ليلة القدر ما يقرب من خمسين قولاً مع أن الشهر لا يزيد عن ثلاثين يوماً.
وقت النهي يبدأ من دخول وقت صلاة الفجر من طلوع الصبح لأنه جاء ما يدل على ذلك من الأحاديث الصحيحة وكونه جاء ما يدل على أنه من صلاة الصبح لا ينفي أن يكون ما قبله أيضاً وقت نهي.
حديث عقبة صريح في النهي عن الدفن وإن حمله كثير من أهل العلم على صلاة الجنازة وأشار إليه الترمذي في جامعه.
الإبراد علته معقولة فالنهي عن الصلاة في شدة الحر لأنه يذهب الخشوع والخشوع عند الجمهور سنة وقال بعضهم بوجوبه فإذا تصور أنه في مكان مهيأ وبارد والخشوع لا يذهب بالصلاة أول الوقت فالكراهة متجهة لمخالفة الأمر (أبردوا) ولا يصل إلى حد التحريم لكن لو صلى في وقت شديد الحرارة بحيث لا يتمكن من أداء الصلاة على الوجه المطلوب لا يبعد أن يقال إن الأمر للوجوب.
(فأشد ما تجدون من الحر) الأشد لا يلزم أن يكون في يوم واحد في السنة.
جاء ما يدل على أن الوقت الذي يدخل فيه الإمام فيه ساعة الاستجابة وجاء ما يدل على فضل الصلاة في هذه الساعة (لا يوافيها عبد قائم يصلي) وأجيب عن هذا بأن من ينتظر الصلاة فهو في صلاة وغير ذلك من الأجوبة وثبت عن الصحابة أنهم كانوا يصلون في وقت النهي يوم الجمعة وأن النهي فيه مخصوص لكن ما دام أن الدليل على النهي صحيح وصريح والمدة التي نهي عن الصلاة فيها محققة الأول والآخر فينبغي للمسلم ألا يصلي.(8/25)
حديث (يا بني عبد مناف لا تمنعوا ...) من المخصصات لعموم أحاديث النهي وعرفنا أن المخصصات لأحاديث النهي أكثر من المخصصات لأحاديث ذوات الأسباب وعلى هذا فعموم أحاديث النهي أضعف من عموم أحاديث ذوات الأسباب وعرفنا أن عمر كان يطوف بعد الصبح ولا يصلي إلا بذي طوى وعرفنا كلام ابن عمر.
ليس معنى هذا الحديث الحث على الصلاة في أوقات النهي في المسجد الحرام لأن بعض الناس يكثر الخروج من المسجد الحرام عصر الجمعة لكي يصلي كلما دخل فيكون الدخول مبرر للصلاة وقت النهي وهذا ليس بصحيح فكون الإنسان لا يمنع ليس معناه أنه يؤمر بالصلاة أو بالطواف فإذا طاف فإنه لا يمنع من الصلاة وإذا دخل لا يمنع من الصلاة.
(ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) فهم منه بعض رواة هذا الحديث أن فيه منعاً للصغار من التقدم وطبق ذلك لكن هذا فهمه فالحديث ليس فيه طرد للصغار بل فيه حث للكبار على التقدم وأهل العلم يقولون إنه ليس للرجل أن يقيم ابنه ولا عبده من مكانه فيجلس فيه في المسجد لأن القاعدة المطردة في الشريعة أن من سبق إلى مباح فهو أحق به.
(لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى) هل النهي عن المنع هو عن الطواف فقط أو عن الصلاة فقط أو عنهما معاً؟ عندنا طواف وصلاة يتصور اجتماعهما ويتصور انفراد كل واحد عن الثاني. بمعنى أنه لو صلى شخص صلاة العصر وبعد أن فرغ من الأذكار قام ليصلي نفلاً فهل يدخل في هذا الحديث؟ هل الواو في قوله (وصلى) هل هي واو المعية أو هي استئنافية؟ أو أن النهي هنا معلق بالطواف فلا تمنعوا الطائفين لكن إذا طاف له أن يصلي الصلاة المرتبطة بالطواف؟ أو عنهما معاً؟ هل نقول (لا تمنعوا الطائفين) أو (لا تمنعوا المصلين) أو (لا تمنعوا من صلى بعد الطواف)؟ الجواب: (لا تمنعوا من صلى بعد الطواف) لأن الواو هنا واو المعية وليست استئنافية.(8/26)
الشفق عند الجمهور الذي ينتهي وقت صلاة المغرب بمغيبه هو الحمرة وعند الحنفية هو البياض الذي يعقب الحمرة وحديث (الشفق الحمرة) يستدل به الجمهور لكنه ضعيف مرفوعاً صحيح موقوفاً على ابن عمر فهل يستدل بقول ابن عمر في تفسير مثل هذه الكلمة؟ هل يقال إن هذا رأي ابن عمر ولا حجة فيه؟ للطرف الآخر أن يقول إن المسألة لغوية فمعنى الشفق في لغة العرب الحمرة وابن عمر من العرب الأقحاح فإذا فسر هذه الكلمة اللغوية فتفسيره أولى من تفسير غيره ولذا جاء في القاموس (الشفق الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء) وابن عمر حجة في هذا الباب.
إذا تعارض الوقف مع الرفع منهم من يرجح الرفع لأنه زيادة من ثقة ومنهم من يرجح الوقف لأنه المتيقن والرفع مشكوك فيه لكن الأئمة الكبار لا يحكمون في مثل هذه المسألة بأحكام مطردة فتجد أن الإمام أحمد يحكم على الخبر أحياناً بأنه موقوف ويحكم على خبر آخر بأنه مرفوع والبخاري بالعكس فحديث ابن عمر في البخاري في رفع اليدين بعد القيام من الركعتين مرفوع فالبخاري رجح الرفع وأحمد رجح الوقف فالأئمة في هذا الباب يتركون الحكم للقرائن.
الفجر الصادق هو المستطير الذي ينتشر في الأفق يمنةً ويسرة وفيه تحل صلاة الفجر والفجر الكاذب هو المستطيل كذنب السرحان وفيه تحرم صلاة الفجر.
حديث (الفجر فجران فجر يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة ..) صحيح وكذلك الحديث الذي بعده.
(أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها) قوله (الصلاة) هل هو من العموم الباقي على عمومه أو من العموم المخصوص أو من العموم الذي دخله الخصوص؟ هو عموم مخصوص لأن من الصلوات ما الأفضل فيه التأخير.(8/27)
أجوبة (ما أفضل الأعمال) متفاوتة (إيمان بالله) (الجهاد في سبيل الله) (الحج) وغير ذلك؟!!! إما أن يقدر (من) فيقال (من أفضل الأعمال كذا وكذا) ومنهم من يقول إن اختلاف الأجوبة لاختلاف الظروف والأماكن والأزمان والأحوال الخاصة والعامة فلو قدر أن الناس نزل بهم فاقة فسئل أحد أهل العلم عن أفضل الأعمال فإنه سيقول إنه الإنفاق في سبيل الله لأن الحاجة إلى الإنفاق أشد ولو صار أهل العلم قلة واحتاج الناس إلى متعلمين ليفوا بحاجة الناس وسئل عالم عن أفضل الأعمال فإنه سيقول إنه طلب العلم وهذا بالنسبة للظروف العامة وهناك ظروف خاصة فلو سأل غني عن أفضل الأعمال لقلنا إنه الإنفاق في سبيل الله لأن الإنفاق من هذا الشخص له أثر ولو أن شخصاً ضعيف البنية لكنه ذو نباهة فإن الأفضل في حقه طلب العلم لا الجهاد وكذلك لو جاءنا من هو عكسه نقول إن الأفضل في حقه الجهاد لا طلب العلم.
الذي في الصحيحين (الصلاة لوقتها) وليس فيه (أول) ووقتها هو ما شرح سواء كان المستحب أوله أو أثناءه فعلى هذا لا يرد التخصيص إذا كانت الصلاة في وقتها تكون أفضل الأعمال ثم بعد ذلك أفضل هذا الأفضل تقديم ما جاءت السنة بتقديمه وتأخير ما جاءت السنة بتأخيره وكلها في إطار الوقت.
حديث أبي محذورة (أول الوقت رضوان الله, وأوسطه رحمة الله, وآخره عفو الله): لا يكفي أن يقال في هذا الحديث (ضعيف جداً), لأن فيه وضاع كذاب, من الكذابين الكبار, وهو يعقوب بن الوليد المدني, قال فيه أحمد وغيره (كذاب). نعم لو كان متهماً بالكذب لقلنا إنه ضعيف جداً, لكن لما كان كذاباً فإن الحديث موضوع.
إذا كان الراوي متهماً بالكذب أو ممن فحش غلطه فإنا نقول إن الحديث ضعيف جداً.
قوله (وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه دون الأوسط): ليس فيه إلا (أول الوقت رضوان الله, وآخره عفو الله), ولا يكفي أن يقال فيه إنه ضعيف, بل هو كسابقه موضوع, لأن آفته هي الآفة السابقة, يعقوب بن الوليد.(8/28)
إذا كان الضعف شديداً فإنه لا ينجبر, لأن الطريق واحد, الآفة في الطريق الأول وفي الطريق الثاني واحدة, فمداره على هذا الكذاب, فليس فيه انجبار أصلاً, ولو قُدِّر أنه من طريق كذاب آخر, فإنه لا يستفيد قوة, بل يزداد ضعفاً, لأن تداول الخبر بين الكذابين يدل على أنه موضوع.
حديث ابن عمر (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) وفي رواية عبد الرزاق (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر): السجدة تطلق ويراد بها الركعة, والمعنى (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا هاتين الركعتين) وهما راتبة الصبح, فهذا دليل على أن الوقت ما بين طلوع الفجر وصلاة الفجر وقت نهي, لأنه لم يستثن فيه إلا هاتين الركعتين, ولو لم يكن وقت نهي لم نحتج إلى الاستثناء.
رواية عبد الرزاق فيها نص على أن ما بين طلوع الفجر وصلاة الفجر وقت نهي, وكونه يرد في الصحيح (لا صلاة بعد صلاة الصبح) لا يعني أن ما قبل صلاة الصبح ليس بوقت نهي, لأن التنصيص على شيء لا يعني ارتفاع الحكم عن غيره, فما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس ثبتت به النصوص, كما أن ما بعد طلوع الصبح إلى صلاة الصبح ثبتت به النصوص.
حديث أم سلمة (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين, فسألته فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن, فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا): سألته عن ذلك لأنه لم تكن من عادته أن يصلي بعد العصر, وقد عرفت أن هذا الوقت وقت نهي.
قوله (شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن): يعني قضاء لراتبة الظهر.
في هذا الحديث دليل على أن قضاء الرواتب في أوقات النهي خاص به عليه الصلاة والسلام.(8/29)
الحديث مختلف فيه, حسنه بعض أهل العلم, وحكم بعضهم بضعفه, وعلى كل حال هو مندرج تحت الأصل العام وهو النهي عن الصلاة في هذا الوقت, فيدل هذا على أنه خاص به, وحينئذ لا يكون هناك إشكال, فلا يخالف هذا الحديث أحاديث النهي, لأنه لو كان كل من فاته نفل له أن يقضيه لم يكن للنهي معنى, فيشهد له مفهوم أحاديث النهي.
حديث عائشة عند أبي داود ضعيف, لكن هذا يجبر ذاك. بعض أهل العلم حكم على الحديث الأول بأنه حسن, فدل على أن ضعفه ليس بشديد, حتى عند من يقول بضعفه, فهو منجبر, وحينئذ يصل إلى درجة الحسن لغيره.
تكبيرة الإحرام تدرك بالانتقال إلى الركن الثاني الذي هو قراءة الفاتحة وهذا في الجهرية وفي السرية بقدرها يعني بقدر دعاء الاستفتاح فإذا فات من الوقت بقدر دعاء الاستفتاح فإن تكبيرة الإحرام تكون قد فاتت.
إذا كان الخطيب ممن يبدأ الخطبة قبل الزوال فعلى المعذورين أن يحتاطوا لوقت صلاة الظهر وألا يصلوا إلا بعد الزوال.
كون الصحابة يصلون منتصف النهار يوم الجمعة وهم أهل التحري والتثبت والاقتداء يقوي ما ورد من أن يوم الجمعة ليس في منتصفه وقت نهي وإن كان ضعيفاً فالعمل يسنده ومما يتقوى به الضعيف كما نص على ذلك الإمام الشافعي في رسالته أن يفتي به عوام أهل العلم وأن يعمل به أحد الصحابة.
يقوم قائم الظهيرة إذا كانت الشمس في كبد السماء والشيء ليس له ظل لا يمينه ولا شماله ولا أمامه ولا خلفه إنما ظله تحته.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الأحد الرابع والعشرين من محرم عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده عشية يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(8/30)
مهمات شرح باب سترة المصلي من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
أبو جهيم هو عبد الله بن الحارث بن الصِّمَّة وهو راوي حديث البول المعلق في صحيح مسلم الموصول في صحيح البخاري وقيل راوي حديث البول غير راوي حديث المرور بين يدي المصلي فليُراجَع كتاب الخطيب (موضح أوهام الجمع والتفريق) وهو كتابٌ نافع في بابه يعتمد فيه على أقوال من تقدمه ويرجح بينها من خلال التتبع والاستقراء للمرويات.
الذي يدفع المار إلى المرور بين يدي المصلي (بينه وبين سترته) هي العجلة ولو علم ما في ذلك من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له فالأمر عظيم ومع العلم والعمد الأمر جِدُّ خطير.
الحافظ انتقد الحافظ عبد الغني صاحب العمدة حينما نسب لفظة (من الإثم) إلى الصحيحين وقال إنها لا توجد فيهما ووقع فيما انتقده فيه هنا حيث قال في الحديث (متفق عليه) مع إيراده لهذه اللفظة.
هذه اللفظة لا توجد في جميع روايات صحيح البخاري إلا عند الكُشمِيهني والحافظ في مواضع من فتح الباري وصفه بأنه ليس من أهل العلم بل هو مجرد راوي وهو أيضاً موصوفٌ بالإتقان لكن لا يلزم أن يكون مع إتقانه معصوماً.
في الحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي والمالكية لهم تفصيل يتعلق بالمار وبالمصلي فعندهم المار إذا لم يكن له مندوحة والمصلي لم يستتر فالإثم على المصلي وإذا كان للمار مندوحة وقد استتر المصلي فالإثم على المار وإذا استتر المصلي وليس للمار مندوحة فلا إثم عليهما وإذا كانت هناك مندوحة للمار ولم يستتر المصلي فالإثم عليهما معاً وهذا تفصيل يرده حديث أبي سعيد على ما سيأتي.(9/1)
جاء الأمر باتخاذ السترة فعلى الإنسان أن يستتر على خلاف في حكمها فإذا استتر ليس لأحد أن يمر بين يديه هما كانت ظروفه ويستوي في ذلك المساجد التي تزدحم بالمصلين كالحرمين والجوامع وغيرها إلا أن المشقة تجلب التيسير كما يحصل في أوقات المواسم وعليه فللإنسان أن يصلي في هذه الأماكن دون سترة ويمر الناس بين يديه وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى غير جدار وقال ابن عباس (يعني إلى غير سترة) وهذا للمشقة الحاصلة في المكان حيث صلى والناس يمرون بين يديه.
رواية البزار (أربعين خريفاً) وإن كان رجالها رجال الصحيح إلا أنها محكوم عليها بالشذوذ من قِبَل الأئمة ولو صحت لكان فيها بيان لما أُبهِم في الحديث ولعل ترك التمييز لتسرح فيه النفس كل مسرح وليتعاظم أمره لأنه إذا أُبهِم ذلك قد يقول قائل (قد يكون ذلك أعظم من الوقوف أربعين خريفاً فقد يكون المراد أن ذلك أعظم من الوقوف أربعين قرناً) فإذا لم يُذكَر التمييز صار الأمر أشد في التحذير والتخويف.
في غزوة تبوك سُئِل عن ارتفاع السترة وطولها فقال (مثل مؤخرة الرحل) يعني بقدر ثلثي ذراع.
الحكمة من السترة هي منع من أراد أن يجتاز دونها وكف البصر عما وراءها لكي ينظر إلى موضع سجوده.
في حديث سبرة بن معبد الجهني بيان مقدار عرض السترة (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) يعني في دقته وهذا الحديث حسن والخطاب فيه لكل مصلٍّ وهو شاملٌ بعمومه للإمام والمأموم والمنفرد فأما الإمام والمنفرد فلا إشكال في دخولهما في الأمر وأما المأموم فدلت النصوص على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه أو أن الإمام سترة لمن خلفه وابن عباس جاء على حمار فمر بين يدي الصف بمنى ولم يُنكَر عليه فدل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وأن الإنسان إذا كان مأموماً لا يرد المار ولا مانع من المرور بين يديه وإن كان فيه تشويش والتشويش مكروه لكن الكراهة تزول بالحاجة.(9/2)
اللام في قوله (ليستتر) لام الأمر والأصل في الأمر الوجوب وقد قال بالوجوب جمع من أهل العلم وحمله الجماهير على الندب لوجود الصوارف ومنها كونه صلى إلى غير جدار.
القطع في حديث أبي ذر (يقطع صلاة الرجل المسلم) معناه إبطال الصلاة وقال بعضهم بأن المراد بالقطع إنقاص ثواب الصلاة لكنه قولٌ مرجوح. وعموم الحديث يشمل الفريضة والنافلة والصلوات المعتادة والصلوات النادرة.
مفهوم حديث أبي ذر (يقطع صلاة الرجل) أن المرأة لا يقطع صلاتها مرور هذه الأشياء لكن هذا المفهوم وإن كان خاصاً فهو معارَضٌ بمنطوق حديث أبي سعيد (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس) وهذا المنطوق يدل على عموم الحكم وشموله للرجال والنساء فهنا تعارض منطوق عام مع مفهوم خاص.
فائدة أصولية: الأصل أن المفهوم معتبر لكنه يلغى إذا عورض بما هو أقوى منه كالمنطوق وحينئذٍ لا يخصص المنطوق العام بالمفهوم الخاص.
تطبيق: مفهوم قوله تعالى (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة لن يغفر الله لهم) أنه لو استغفر لهم إحدى وسبعين مرة فإن الله يغفر لهم لكن هذا المفهوم وإن كان خاصاً معارض بعموم قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فقُدِّم العموم على المفهوم وإن كان خاصاً وعليه فلا يخصَّص العموم بالمفهوم الخاص.
لفظ (المسلم) وصف كاشف وتصريح بما هو مجرد توضيح وحينئذ يكون لا مفهوم له لأن غير المسلم لا يصلي ولو صلى لم تصح صلاته.
الاحتمالات في لفظ (الرجل): قيد – قيد أغلبي ومعلوم أن القيد الأغلبي لا مفهوم له.
قد يقال إن النساء يدخلن في خطاب الرجال كما هو معروف من النصوص وكانت مريم عليها السلام من القانتين والأصل أن التكاليف الشرعية يستوي فيها الذكور والإناث لأن النساء شقائق الرجال لكن من هذه التكاليف ما يختص بالرجال ومنها ما يختص بالنساء.(9/3)
مفهوم هذا الحديث مخصص لعموم حديث (النساء شقائق الرجال) لأن عموم الأخير دخله من المخصصات ما أضعفه فليكن مفهوم هذا الحديث واحداً منها.
التنصيص على مؤخرة الرحل في قوله (إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل) إنما هو من باب التمثيل فيأخذ حكم مؤخرة الرحل ما سواها مما يصح أن يستتر به ويكون المعنى حينئذٍ إذا لم يكن بين يديه سترة معتبرة ولو كانت أقصر من مؤخرة الرحل وكذلك لو كانت خطاً عند من يقول بالخط.
جاء في حديث أبي ذر عند مسلم (فما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ قال: الكلب الأسود شيطان) فهذا هو السبب في تخصيص الكلب الأسود وهو كونه شيطان فدل على أن ما عداه من الكلاب لا يقطع الصلاة.
الحمار باقٍ على إطلاقه في الحديث وبعضهم يقول إن الحمار لا يقطع الصلاة استدلالاً بحديث ابن عباس وأنه مر بين يدي الصف على حمار أتان بمنى ولم يُنكَر ونقول إجابةً على هذا أن سترة الإمام سترة لمن خلفه فالمرور بين يدي المأموم لا أثر له والمقصود في حديث أبي ذر الإمام والمنفرد.(9/4)
المرأة جاء تقييدها بالحائض والحديث فيه نص صريح على أن المرأة تقطع صلاة الرجل ومعنى القطع الإبطال وكانت عائشة تنكر على من يقرن المرأة بالحمار والكلب ويسوي بين هذه الأشياء وتقول (ساويتمونا بالكلاب والحمر) وتستدل بأن النبي عليه الصلاة والسلام يصلي من الليل وهي معترضة بين يديه فإذا سجد غمز رجليها فكفتهما فإذا قام بسطتهما فتستدل بذلك على رد الخبر الذي لم يبلغها عن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه لا يُظَنُّ بها وهي الصديقة بنت الصديق أن يبلغها هذا الخبر الصحيح الصريح ثم ترده. والحديثان ثابتان وعلى ذلك هل تقطع المرأة صلاة الرجل مع ما كانت عائشة تصنعه بين يديه عليه الصلاة والسلام؟ كيف نجمع بين حديث أبي ذر وحديث عائشة؟ الجمع يكون بالتفريق بين المار والقار فكونها بين يديه وهو يصلي لا يعني أنها مرت بين يديه فالقول المرجح أن مرور المرأة بين يدي المصلي يقطع الصلاة.
المعتمد أن هذه الأشياء الثلاثة كلها تقطع صلاة الرجل إذا مرت بينه وبين سترته.
كثير من أهل العلم يرون أنه ليس المراد بالقطع هنا إبطال الصلاة وإنما المراد قطع تسلسل الصلاة بمعنى أنها تشغل بال المصلي فتقطع عليه ذكره لصلاته فتشوش عليه فتشغل قلبه هذه الأشياء.
المشهور عند الحنابلة أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم وأخرجوا المرأة بحديث عائشة وأخرجوا الحمار بحديث ابن عباس وسبق الجواب عن هذين الحديثين فيسلم حديث أبي ذر بجميع جمله.
نص الحافظ على أنه ليس في حديث أبي هريرة عند مسلم ذكر الكلب فليس فيه إلا ذكر قطع الصلاة بالمرأة والحمار والصواب أن الكلب مذكورٌ أيضاً في هذا الحديث (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل) فحديث أبي هريرة مطابق لحديث أبي ذر.(9/5)
الضمير في قول الحافظ (ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس نحوه دون آخره) ظاهره يعود إلى حديث أبي ذر لأنه أرجع إليه ضميراً في الأول (وله عن أبي هريرة نحوه أي نحو حديث أبي ذر السابق) والأصل أن تكون الضمائر متسقة تعود إلى شيء واحد لكن المراد الاستثناء من حديث أبي هريرة.
جاء تقييد المرأة بالحائض في حديث ابن عباس وقد جاء موقوفاً مرفوعاً والمراد بالحائض المكلفة البالغة لا المتلبسة بالحيض فلا يقال إنه لا يقطع الصلاة إلا مرور الحائض لاشتمالها على هذه النجاسة بل المراد المكلفة التي بلغت سن المحيض.
الأحاديث جاءت بإطلاق لفظ (المرأة) لكن جاء في بعض حديث ابن عباس تقييد المرأة بالحائض فهل هذا القيد مقصود أو ذكره للاهتمام به فلا تقيد به الأحاديث المطلقة؟ وهل هذا من باب التقييد أو من باب التخصيص؟
إذا قلنا إن ذكر الحائض في الحديث من باب التقييد لا التخصيص فالحيض وصف تتصف به النساء وحينئذ لا بد من حمل المطلق على المقيد للاتحاد في الحكم والسبب فعلى هذا من لم تبلغ سن المحيض لا تقطع الصلاة لكن لا يمكن معرفة كون المرأة المارة هل هي ممن بلغت سن المحيض أو لم تبلغه لأن من ناهزت البلوغ تشغل البال ولو لم تبلغ سن المحيض والأمر الشرعي لا يُرجَع على أمر يخفى على الناس. قد يقول قائل الأصل أن الصلاة صحيحة وكون المرأة التي عمرها إحدى عشرة سنة أو اثنا عشرة سنة بلغت سن المحيض أمرٌ مشكوكٌ فيه فنبقى على الأصل وهو أن الصلاة صحيحة ولا بد لإبطالها من اليقين ولا يمكن هنا البناء على غلبة الظن لوجود التفاوت الكبير بين أجسام البنات فذات الثمان سنوات تظنها مكلفة وذات العشرين سنة تظنها غير مكلفة. ولا يناط الحكم بتعلق القلب لأن بعض القلوب المفتونة يتعلق بالخيال ولو لم يمر شيء. لكن ومع ذلك يبقى في المسألة إشكال.(9/6)
وإذا قلنا إن النساء المتلبسات بالحيض أفراد من أفراد العام والعام هو لفظ (المرأة) الذي من أفراده الحُيَّض فحينئذ يكون ذكر الحائض في الحديث من باب التخصيص لا التقييد لكن لما جاء في الحديث التنصيص على بعض أفراد العام بحكم موافق لحكم العام فإنه لا يخصص عموم الأحاديث العامة فيكون ذكر الحيض هنا للاهتمام بشأن الحائض وأن أمرها أشد وأن الكبيرة تُدفَع أكثر مما تُدفَع الصغيرة ولأن العلة تتحقق فيها أكثر من الصغيرة وعلى هذا يبقى لفظ (المرأة) على عمومه فتدخل كل امرأة في الحديث سواء بلغت سن المحيض أو لم تبلغه (كأن الشيخ يميل إلى هذا لأنه به يزول الإشكال).
من لم تحض تسمى امرأة لأن عائشة تقول (إذا بلغت البنت تسعاً فهي امرأة) وليُعلَم أنه بمجرد ما تفتن البنت الرجال وجب عليها الحجاب وإن لم تكن مكلفة.
جاء في حديث أبي سعيد قوله (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره) ولفظة (شيء) تدل على أن الحكم شامل لكل ما يمكن أن يوضع بين يدي المصلي فيشمل مؤخرة الرحل والسهم والجدار والسارية والعصا إذا وضعتها بين يديك ويشمل الخط أيضاً والمقصود أنه يشمل كل ما يقال له شيء.
وجاء في الحديث قوله (فأراد أحد أن يجتاز بين يديه) ولفظة (أحد) تشمل الذكر والأنثى والكبير والصغير.
اللام في قوله (فليدفعه) وفي قوله (فليقاتله) لام الأمر والأصل في الأمر الوجوب فما حكم المدافعة والمقاتلة لمن مر بين المصلي وبين سترته؟ هنا ثلاثة احتمالات:
أن الأمر للوجوب لأنه الأصل فتجب المدافعة والمقاتلة مطلقاً لقوله في الحديث (فأراد أحد أن يجتاز بين يديه) و لفظ (أحد) يشمل كل مار بين يدي المصلي فيجب مدافعته أو مقاتلته ولو كان لا يتسبب في بطلان الصلاة وهذا هو الظاهر من اللفظ (كأن الشيخ يميل إليه).
أن الأمر للاستحباب مطلقاً فإن دفع أثيب عليه وإن لم يدفع يأتي التفصيل فإن كان المار مما يقطع الصلاة بطلت وإن كان مما لا يقطعها لم تبطل ومثل ذلك يقال في المقاتلة.(9/7)
فيه تفصيل فإن كان المار مما يقطع الصلاة فالأمر للوجوب صيانةً للصلاة من البطلان وإن كان المار مما لا يقطعها فالأمر للاستحباب صيانةً لتمام أجر الصلاة وبهذا نكون قد استعملنا اللفظ الواحد في معنييه وهما الوجوب والاستحباب واستعمال اللفظ الواحد في معنييه في آنٍ واحد يمنع منه الجمهور ويجيزه الشافعية فيقولون بوجوب الدفع فيما يبطل وباستحبابه فيما لا يبطل.
الدفع هو الرد فيرد باليد بالأسهل فالأسهل والمقاتلة هي الرد بالأشد إذا لم يندفع بالأسهل وليس معنى المقاتلة السب والشتم لأن بعضهم قال إن المراد بالمقاتلة هنا السب والشتم لأنه يأتي القتل والقتال والمقاتلة بمعناه كما في قوله عليه الصلاة والسلام (قاتل الله اليهود) أي لعنهم الله لكن ليس المراد بالمقاتلة ذلك لأنه ينافي المقصود من الصلاة ومبطلٌ لها.
مسألة: كيف تدفع المرأة لأنها تدخل في الحديث بقوله (فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه) لأن لفظ (أحد) يشمل المرأة؟ الجواب: عليه أن يتقدم إلى السترة كيلا تمر بين يديه كما تقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجدار لكن ماذا لو تقدم إلى السترة ومع ذلك مرت كما لو كانت عمياء أو غافلة أو تتبع ولي أمرها في أيام المواسم؟ إما أن يقال عليه أن يدفعها وإن ترتب على ذلك مس بدن المرأة وإما أن يقال عليه أن يدعها تمر ويستأنف صلاته ارتكاباً لأخف الضررين لكنهم يقررون في مثل هذه الحالة أن المشقة تجلب التيسير فيدعها تمر ولا يستأنف صلاته. في أوقات المواسم لك مندوحة أن لا تستتر, وإذا استترت خف الأمر.
قوله (فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان): الذي يعرف أن المصلي يصلي - وعلى فرض أنه كان غافلاً فإنه سينتبه بالدفع الخفيف - ومع ذلك يصر على المرور فهذا لا شك أن الذي يدفعه إلى هذا الفعل شيطان لقوله (فإن معه القرين).(9/8)
رواية (فإن معه القرين) في مسلم من حديث ابن عمر, وكان على الحافظ أن ينبه على هذا, لأن ظاهر قوله (وفي رواية (فإن معه القرين)) أن هذه الرواية من حديث أبي سعيد وأنها عند الشيخين, وليس الأمر كذلك.
القرين هو الشيطان المقرون بالإنسان بحيث لا يفارقه, وما من إنسان إلا معه قرين.
سبب إيراد أبي سعيد للحديث: في البخاري عن أبي صالح قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفعه أبو سعيد في صدره, فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد دفعاً أشد من الأول. وهذا يرد على تقسيم المالكية القائلين إنه إذا لم يكن للمار مندوحة فلا إثم عليه, وهذا الشاب لم يجد مساغاً ومع ذلك رده أبو سعيد رضي الله عنه.
النووي كعادته في نفي العلم بالخلاف ونقل الاتفاق والإجماع مع وجود المخالف - وهو متساهل في هذا الباب - يقول: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب الدفع. مع أن الأصل في الأمر الوجوب.
كون الحافظ ينقل عن أهل الظاهر قولهم بوجوب الدفع لا يُستَدرك بذلك على النووي لأنه لا يعتد بقول الظاهرية, بل صرح في شرح مسلم في الجزء الرابع عشر (صفحة 129) أنه لا يُعتَد بقول داود لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد. لكن من أهل العلم من قال بوجوبه من غير الظاهرية ممن يعتد بهم النووي, والنووي في هذا الباب يتساهل رحمه الله.
نقل النووي الإجماع على أن عيادة المريض سنة وليست بواجبة مع تصريح البخاري بقوله (باب وجوب عيادة المريض), والأمثلة على ذلك كثيرة.(9/9)
جاء في حديث الخط عن أبي هريرة قوله (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً) وإطلاق الشيء يدل على أن الاستتار يحصل بأدنى شيء لأنه نكرة في سياق الشرط فتعم أي شيء يمكن أن يطلق عليه شيء صَغُرَ أو كَبُر طال أو قَصُر عَرُضَ أو دق لكنه قال في الجملة التي تليها (فإن لم يجد فلينصب عصا) ومعلوم أن العصا شيء من الأشياء والأصل أن تكون الجملة الأولى أكمل من التي تليها المخفف فيها لكن يقال إنه نص على العصا لأنه يغلب وجودها.
دل الحديث على أنه إن لم يجد العصا فإنه يخط خطاً إذا كانت الأرض تراباً وإن لم تكن تراباً وكان معه شيء له لون فإنه يخط به فإذا فعل ذلك لم يضره شيء مر بين يديه.
حديث الخط قال فيه الحافظ (ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حديث حسن) والذي زعم أنه مضطرب بل ذكره مثالاً للمضطرب هو ابن الصلاح في علوم الحديث.
الحديث المضطرب هو الحديث الذي يروى على أوجه مختلفة متساوية في الثبوت لأنه إذا أمكن ترجيح بعضها على بعض انتفى الاضطراب.
إذا روي الحديث من وجه واحد فلا اضطراب وكذلك إذا روي من أوجه مختلفة لكنها متحدة ومتفقة في الدلالة فلا اضطراب.
لا شك أن حديث الخط مروي على أوجه وهذه الأوجه بينها اختلاف وتفاوت كبير لم تتحد رواتها وهي أيضاً من وجهة نظر ابن الصلاح متساوية بمعنى أنه لم يستطع أن يرجح بعض هذه الأوجه على بعض والحافظ ابن حجر رجح بعض الطرق على بعض فانتفى عنده الاضطراب لكن نفي الاضطراب بإمكان الترجيح لا ينفي ضعف بعض الرواة فالحديث ضعيف وإن أمكن ترجيح بعض طرقه على بعض ولذا قال سفيان بن عيينة (لم نجد شيئاً نشد به هذا الحديث) وكان اسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول (هل عندكم شيء تشدونه به) وأشار الإمام الشافعي وغيره إلى ضعفه على أن الضعف ليس بشديد ولذا يقول بعضهم لا بأس به في مثل هذا الحكم لأن ضعفه ليس بشديد.(9/10)
على فرض ثبوت حديث الخط: منهم من يقول إن الخط يوضع بين المصلي وبين من يمر بين يديه ممتد من اليمين إلى الشمال كالجنازة ومنهم من يقول إنه يوضع طولاً لأن الخط في الحديث قائم مقام العصا ومنهم من يقول إنه يوضع بما يشبه الهلال نصف دائرة كالمحراب.
بعض المعاصرين ممن يحقق الكتب يقول في الحكم على بعض الأحاديث (ضعيف وإن صححه أحمد وابن المديني) ويقول (صحيح وإن ضعفه الشافعي والبيهقي) وهذا سوء أدب ولا يليق بطالب العلم بل يكفي أن تبين وجهة نظرك مع احترام الأئمة وإجلالهم لأنك ما وصلت إلى ما وصلت إليه من علم إن كان لديك علم إلا من طريقهم.
حديث أبي سعيد (لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم) ضعيف لأن في إسناده مجالد بن سعيد. قال الإمام أحمد (ليس بشيء) وقال ابن معين (لا يحتج به).
من أهل العلم من يرى أن هذا الحديث ناسخ لحديث أبي ذر (يقطع صلاة الرجل المسلم) فيقول إن حديث أبي ذر منسوخ وما جاء في معناه منسوخ بهذا الحديث لكن يقال إن هذا الحديث ضعيف ثم إنه لا بد من معرفة التاريخ لنحكم بالنسخ.
قاعدة: الحديث إذا ضُعِّف ولا يوجد له ما يسنده ويدعمه فإنه لا يُتَكلَّف اعتبارُه لكن قد يفترض ثبوته من باب التمرين على التوفيق بين الأحاديث المتعارضة.
قوله (لا يقطع الصلاة شيء) يحتمل الحدث وقوله (وادرؤوا ما استطعتم) يحتمل أن يكون المراد ادفعوا هذه الأحداث بقدر الاستطاعة فإن خرج شيء بغير استطاعتكم دفعه فإنه لا يقطع الصلاة لكن لما كان الحدث يقطع الصلاة إجماعاً علمنا أن هذا الاحتمال ليس مراداً هنا وعليه فالشيء في هذا الحديث لا بد أن يحمل على ما جاء في الأحاديث الأخرى من الأمور التي جاء التنصيص على أنها تقطع الصلاة.
وليس معنى (لا يقطع الصلاة شيء) لا ينقص ثوابها لأنه يوجد ما ينقص الثواب قطعاً بالنصوص الأخرى.(9/11)
فعلى فرض صحة هذا الخبر يقال إن المراد بالقطع فيه هو البطلان وعليه فمرور هذه الأشياء لا يبطل الصلاة ويقال إن المراد بالقطع في الأحاديث الأخرى هو نقصان الثواب فمعنى قوله (يقطع صلاة الرجل المسلم) ينقص ثوابها لكن على كل حال الحديث ضعيف وإنما جيء بمثل هذا الكلام للتمرين على التوفيق بين الأحاديث المتعارضة في ظاهرها (ليُعلَم أن هذه الفائدة الأخيرة إنما كتبتها بناءً على فهمي لكلام الشيخ وعليه فلا يحل ولا يجوز نسبة هذا القول إلى الشيخ إلا بعد التأكد إما بالرجوع إلى الدرس أو بسؤال الشيخ).
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الثلاثاء السابع عشر من صفر عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الخميس التاسع عشر من صفر, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.
وكنت قد أضفت الآتي في ملتقى أهل الحديث:
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فسأنقل هنا فوائد متعلقة بأحاديث سترة المصلي كنت قد قيدتها أثناء حضوري لدروس الشيخ عبد العزيز الطريفي في شرح المحرر:
معنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي جهيم (خيراً له من أن يمر بين يديه) أي بينه وبين موضع سجوده إن لم يكن ثمة سترة.
زيادة (أربعين خريفاً) ليست محفوظة.
الصواب أنه لا يقطع صلاة المرء شيء وعليه عمل الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وعامة السلف وإنكار عائشة يؤيد ويعضد عدم العمل.
لو قيل بقطع الصلاة فالمراد أنه يعيد ركعة فحسب لا الصلاة كلها.
القول بقطع الصلاة بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود لم يعمل به إلا أهل الظاهر (أرجو التأكد من هذا القول).
المشهور في المذهب أن الذي يقطع الصلاة هو الكلب ولا تقطعها المرأة لحديث عائشة (قال الشيخ: لكن المكث يختلف عن المرور) ولا يقطعها الحمار لحديث ابن عباس.(9/12)
لا حرج أن يصلي المصلي إلى دابة كما فعله أنس وابن عمر وكذا إلى رجل كما ثبت عن ابن عمر.
كره بعض السلف الاستتار بالأحجار التي تشبه الأصنام والأحجار السود وكذا الأشجار.
قوله (كان لا يصوب إلى السترة بل ينحرف) جاء في حديث مرفوع لكنه معلول.
لا حرج أن يصوب إلا إذا خشي مفسدة فالأولى ترك السترة أصلاً لئلا يظن المشرك أنك تعبد السترة من حجر ونحوه والانحراف قليلاً لهذه المصلحة أولى من التصويب.
لما أمر بمقاتلة المار بين يدي المصلي دل على تحريم المرور وهو الظاهر لظاهر الأدلة.
قوله (ماذا عليه من الإثم) غير محفوظ ولم يأت في الروايات المشهورة الثابتة الصحيحة.
يخفف في الاستتار في الحرم للمشقة الكبيرة.
السترة للإمام والمنفرد فحسب.
المأموم لا سترة له باتفاق السلف واختلفوا فيما إذا كان يقضي الصلاة ولم يذكر عن الصحابة والتابعين شيء في هذا وكذلك لم يذكر فيه شيء مرفوع فالصواب أنه لا يشرع الاستتار له لأنه يتضمن عدم حضور القلب والشارع إنما حث على الاستتار قبل التكبير لا بعده.
لكن يشرع للمأموم الذي يقضي الصلاة دفع من يمر بين يديه أثناء قضائه الصلاة.
إن نسي السترة وكبر فلا يدنو منها بعد التكبير لأنها مشروعة قبله لا بعده فلا تشرع السترة أثناء الصلاة لكن لا حرج أن يتقدم إليها ليمر المار من خلفه.
التقدم للسترة ورد عن بعض السلف ولم يثبت موقوفاً ولا مرفوعاً.
قدر السترة كمؤخرة الرحل وهذا هو الحد الذي اختلف فيما دونه والصواب أن ما دون مؤخرة الرحل يجزئ لأنه إنما حدد بمثل مؤخرة الرحل في غزوة تبوك ومعلوم أن مشروعية السترة متقدمة على غزوة تبوك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام.
أقل الكمال طولاً مؤخرة الرحل وقدره ذراع.
لا حد في الشرع لعرض السترة.
لا فرق في السترة بين مكة وغيرها وما جاء في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنكر.(9/13)
صارف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب ما جاء عند البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى لله عليه وسلم صلى بمنى إلى غير جدار.
مشروعية السترة للمصلي على التأكيد.
ورد عن السلف الترخيص في ترك السترة وثبت عن بعض السلف أنه لم يستتر.
الحنابلة وأهل الظاهر على أن السترة واجبة والحنفية والمالكية والشافعية على أنها مستحبة وهو الصواب.
لو لم يتخذ سترة له أن يدافع.
المدافعة واجبة فإن لم يدافع فإنه يأثم.
الصواب أن حديث الخط موقوف على أبي هريرة ولا يعلم مخالف لأبي هريرة من الصحابة.
أحمد قال بالخط استئناساً به لا تصحيحاً له فلا يثبت عنه تصحيح حديث الخط بل الثابت عنه أنه أعله وما نسب إليه من تصحيحه فليس بصريح (قلت: نقل محققو كتاب المحرر عن ابن رجب قوله (وأحمد لم يعرف عنه التصريح بصحته – أي حديث الخط – إنما مذهبه العمل بالخط وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة لا على الحديث المرفوع) كما في فتح الباري لابن رجب).
حديث الخط المرفوع في سنده مجهولون فهو ضعيف بل منكر وقد أعله سائر الحفاظ.
الجمهور على عدم مشروعية الخط والحنابلة على مشروعيته واحتجوا بالمرفوع وبالموقوف.
تحريم المرور إنما هو خاص بالمرور بين يدي الإمام والمنفرد وأما المأموم فقد أخرجه حديث ابن عباس.
حديث (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها) صحيح وقد روي موصولاً وروي مرسلاً والموصول أصح.
فيه مشروعية الدنو من السترة لكن مع الإتيان بالسجود على هيئته الشرعية.
تم نقل الفوائد من هوامش كتاب المحرر في الحديث وترتيبها في ملفٍّ مستقل مغرب الخميس التاسع عشر من صفر عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألفٍ من الهجرة النبوية المباركة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.(9/14)
مهمات شرح باب صفة الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الباب فيه أحاديث ثلاثة تشرح الصلاة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام وما عداها روافد لها وهذه الأحاديث الثلاثة هي حديث المسيء وحديث أبي حُميد وحديث عائشة.
المسيء اسمه خلاَّد بن رافع.
قوله عليه الصلاة والسلام (إذا قمت إلى الصلاة) يعني إذا أردت القيام (فأسبغ الوضوء) كقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) الآية.
الجمهور يرون أن تكبيرة الإحرام ركن ويرى الحنفية أنها شرط والفريقان لا يختلفان في أن تكبيرة الإحرام لا يفصل بينها وبين الصلاة فلا بد أن تكون تكبيرة الإحرام مقارنة للصلاة حتى على القول بأنها شرط وأنها خارج الماهية لكنها عند أصحاب هذا القول خارج ملاصق.
من فوائد الخلاف أنه إذا كبر وهو حاملٌ نجاسة ووضعها مع نهاية التكبير فصلاته صحيحة عند الحنفية لأنه حمل النجاسة خارج الصلاة وعند الجمهور صلاته باطلة لأنه حمل النجاسة داخل الصلاة ومن فوائد الخلاف أنه إذا غير النية مع نهاية التكبير فصلاته صحيحة عند الحنفية وباطلة عند الجمهور.
أمره للمسيء بقوله (فكبر) بينه بفعله فجميع من وصف صلاة النبي عليه الصلاة والسلام نقل عنه أنه كان يقول في بدايتها (الله أكبر) وبيان الواجب واجب.(10/1)
عند الشافعية يجزئ قول (الله الأكبر) وعند المالكية والحنابلة لا يجزئ. إذا قلنا (الله أكبر) فالمعنى أن الله أكبر من غيره فهي أفعل تفضيل وإن وجد شيء يقال له (أكبر) لكن الله سبحانه وتعالى أكبر منه فيوجد كبير وأكبر والله سبحانه وتعالى أكبر من هؤلاء كلهم وإذا قلنا (الله الأكبر) صار التركيب تركيب حصر بمعنى أنه لا يوجد أكبر غير الله سبحانه وتعالى. في التركيب الأول لا يوجد شيء أكبر إلا والله سبحانه وتعالى أكبر منه فيوجد أكبر لكن الله أكبر منه وفي التركيب الثاني لا يوجد أكبر لأن تعريف جزئي الجملة يدل على الحصر فلا يسوغ أن يقال لغيره أكبر على التركيب الثاني.
الحنفية يتوسعون في هذا فكل ما دل على التعظيم يجزئ (الله أعظم - الله أجل - الله أعز) لكن هذه ألفاظ توقيفية متلقاة من الشارع لا يدخلها الاجتهاد. قال للمسيء (فكبر) وجوباً بل ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا به باللفظ الذي تظافر النقل عن النبي عليه الصلاة والسلام به وهو (الله أكبر).
أهل العلم اعتمدوا على حديث المسيء في أن كل ما ذكر فيه فهو واجب (لأن كل ما جاء فيه فهو بلفظ الأمر ولأنه في حال التعليم) وكل ما لم يذكر فيه فليس بواجب (لأنه لو وجب غير ما ذكر لزم عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لكن لا يمنع أن يكون في وقته هذا الكلام وزاد من الأركان وزاد من الواجبات في الصلاة ما قُرِّرَ بعد ذلك).
قوله (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) دل على وجوب قراءة القرآن في الصلاة وهذا مجمل بينته الأحاديث الدالة على وجوب قراءة الفاتحة.
تكرار الطمأنينة في الحديث يدل على أنها ركن من أركان الصلاة وجاء النهي عن النقر في الصلاة كنقر الغراب مقياس الطمأنينة هو أن يعود كل فقارٍ إلى مكانه وإذا أتيت بالقدر الواجب من الأذكار في هذه الأركان فقد اطمأننت في صلاتك.(10/2)
قال في الرفع من الركوع (حتى تعتدل قائماً) وجاء عند ابن ماجه بإسناد مسلم وعند غيره على شرط البخاري فالزيادة على شرط الشيخين (حتى تطمئن قائماً) وهي زيادة صحيحة لأنها مروية على شرط الشيخين. ولفظ (حتى تطمئن قائماً) موجود عند أحمد وابن حبان في حديث رفاعة بن رافع.
مفهوم قوله (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) أن تأتي بتكبيرة الإحرام في بقية الركعات لكن هذا المفهوم غير مراد اتفاقاً بل المطلوب أن تأتي بتكبيرة انتقال.
في لفظ لأحمد (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) وفي حديث أبي حميد (حتى يعود كل فقارٍ إلى مكانه): ما هو وضع اليدين بعد الرفع من الركوع؟ هذه الألفاظ تحتمل أن يكون المراد حتى ترجع العظام إلى ماكانت عليه قبل الصلاة وتحتمل أن يكون المراد حتى ترجع العظام إلى ما كانت عليه قبل الركوع فعلى الاحتمال الأول يكون وضع اليدين بعد الرفع من الركوع هو السدل وهذا هو الذي يرجحه الشيخ الألباني رحمه الله ويرى أن قبض اليدين بعد الرفع من الركوع بدعة وعلى الاحتمال الثاني يكون وضع اليدين بعد الرفع من الركوع هو القبض وبهذا يقول الأكثر وهو الظاهر لأن ما قبل الركوع هو أقرب مكان إلى ما بعد الرفع من الركوع.
الإسباغ المذكور في حديث رفاعة بن رافع عند النسائي وأبي داود (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) هو الإسباغ المشترط للصلاة لأن الإتيان بالقدر المجزئ والوضوء مرة مرة يسمى إسباغاً وإتماماً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة.(10/3)
حديث رفاعة عند النسائي وأبي داود (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ثم يكبر الله تعالى) فيه اشتراط الوضوء وتكبيرة الإحرام ولم يذكر الاستقبال اكتفاءً بما ثبت في غير هذا الحديث (ويحمده ويثني عليه) يحتمل في دعاء الاستفتاح ويحتمل في قراءة الفاتحة. في هذه الرواية (فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله) وهذا هو البديل لمن عجز عن تعلم الفاتحة فيقول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله) ويكرر ذلك حتى يأتي بقدر الفاتحة
عند أبي داود - وكل الروايات المذكورة هنا صحيحة - (ثم أقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله): ما زاد على الفاتحة محل خلاف بين أهل العلم والجماهير على أنه مستحب.
أبو حميد مشهور بكنيته وهو ابن عبد الرحمن بن سعد الساعدي أنصاري خزرجي توفي في آخر ولاية معاوية رضي الله عنه.
الأصل هو النظر إلى موضع السجود لكنه ليس على سبيل الإلزام فالصحابة الذين وصفوا صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكنهم وصف صلاته مع النظر إلى موضع السجود لأن امتثال الأمر في قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) لا يتم إلا برؤيته عليه الصلاة والسلام ولا يمكن الاقتداء به إلا برؤيته وهو يصلي وعليه فهم مأمورون برؤيته وهو يصلي ليمتثلوا الأمر. قد يقال إنهم وصفوا صلاته وهو يصلي نفلاً لكن صلاته التي وصفها أبو حميد فريضة بدليل وصفه لصلاته المشتملة على التشهد الأخير والصحابة لا يصلون الفريضة إلا معه عليه الصلاة والسلام.
يجعل اليدين مع تكبيرة الإحرام حذو المنكبين أي مقابلهما والمنكب هو مجتمع رأس العضد مع الكتف.(10/4)
الرفع يقارن التكبير لقوله (إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه) والأصل أنه علامة عليه يستدل بها من لا يسمع التكبير لكن إذا رفع قبل أو بعد أو انتهى من التكبير قبل نهاية الرفع أو العكس فالأمر فيه سعة لأنه ورد (يرفع يديه حين يكبر) وورد (رفع يديه ثم كبر) وورد (كبر ثم رفع يديه) لكن يبقى أن مقارنة القول للفعل هو الأصل.
قوله (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه): إذا تمكن من وضع اليدين على الركبتين وهو إنسان متوسط الخلقة أجزأه ركوعه إجماعاً لكن لو كان في يديه طول بحيث يضع يديه على ركبتيه وهو شبه قائم فإنه لا يجزئه الركوع وكذلك لو كان في يديه قِصَر شديد بحيث لا يتمكن من وضع يديه على ركبتيه إلا بجعل رأسه قريباً من رجليه فإنه لا يجزئه الركوع لأنه ليس بركوع.
قوله (ثم هصر ظهره) يعني ثناه وحناه وجاء في صفة ركوعه عليه الصلاة والسلام أنه لا يشخص رأسه ولا يصوبه بمعنى لا يرفعه ولا يخفضه بل يستوي ظهره مع رأسه وجاء في صفة ركوعه أنه يركع بحيث لو صب الماء على ظهره لاستقر.
قوله (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) معناه حتى تعود المفاصل والعظام إلى مكانها وسبق أن المكان يحتمل أنه مكان ما قبل الصلاة ويحتمل أنه مكان ما قبل الركوع والمتجه أنه ما كان قبل الركوع لأنه أقرب مذكور وسيأتي ما يدل عليه.
قوله (وإذا سجد وضع يديه غير مفترش) جاء النهي عن الافتراش كافتراش السبع (ولا قابضهما) يعني ولا ضامهما بل يجافي عضديه عن جنبيه حسب الإمكان (تقدم مصلحة التراص في الصف على مجافاة العضدين عن الجنبين للأمر بالتراص في الصف).
يفترش إذا جلس في التشهد الأول أو بين السجدتين لأن الحكم واحد وصفة ذلك أن يفرش الرجل اليسرى فيصير ظهرها إلى الأرض وبطنها إليه ويجعل مقعدته عليها وينصب اليمنى.(10/5)
صفة التورك أن يقدم رجله اليسرى ويدخلها تحت ساقه الأيمن وينصب اليمنى ويقعد بمقعدته على الأرض وإن أدخل رجله اليسرى بين ساقه اليمنى وفخذه الأيمن فقد جاءت بذلك السنة كما في سنن أبي داود.
الحنفية يرون الافتراش في كل جلوس والمالكية يرون التورك في كل تشهد والشافعية يرون التورك في كل تشهد يعقبه سلام (يوافقون المالكية في تشهد الثنائية إذا لم يكن بعده سجود سهو فإذا كان بعده سجود سهو فإنه لا يعقبه سلام وحينئذ لا تورك ولو كان التشهد أخيراً) والحنابلة يرون الافتراش في التشهد الأول والتورك في الثاني ولو كان بعده سجود سهو.
حديث علي في الاستفتاح مخرَّجٌ في صحيح مسلم وفيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة): فهم بعضهم أن هذا القيام من النوم وأنه في صلاة الليل, لكن ليس في الأدلة ما يدل عليه, بل جاء ما يدل على أنه في المكتوبة كما في سنن أبي داود. ولذا تعقب الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى الحافظ في قوله (وفي رواية له أن ذلك في صلاة الليل) ونبه على أن هذا وهم من الحافظ, وذلك في تعليقه على فتح الباري. فليس في الحديث ما يدل على أنها صلاة ليل, بل نص أبو داود في روايته على أنه في المكتوبة, وهي أيضاً في صحيح ابن حبان نص على أنه في المكتوبة. فلا يمنع أن يقال في صلاة الليل لأن ما يقال في الفريضة يقال في النافلة.
قوله (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) يعني قصدي واتجاهي لله عز وجل.
المتجه أن الاختلاف بين أدعية الاستفتاح الواردة إنما هو اختلاف تنوع, فيستفتح مرة بهذا ومرة بذاك, وينوع حتى يأتي بجميع الوارد, لأنه ما دام ثبت كل ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام فعلى المسلم أن يقتدي به عليه الصلاة والسلام. فليس هذا الاختلاف من اختلاف التضاد حتى يُطلب الترجيح.(10/6)
حديث أبي هريرة (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب): معناه اللهم اجعل لي من تقواك وخشيتك ما يحول بيني وبين الخطايا ويبعدني عنها ويبعدها عني كما بعُد المشرق والمغرب, فكما أنه يستحيل التقاء المشرق والمغرب فاجعل مباشرتي للذنوب والخطايا مستحيلاً.
هذا الدعاء صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم, فهو من باب التعليم لأمته الذين يباشرون الخطايا والذنوب, وكونه عليه الصلاة والسلام يطلب هذا من ربه فهو ليُقتدَى به في ذلك. وقد يقال إن الخطايا بالنسبة له عليه الصلاة والسلام فعل خلاف الأولى ومن باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
التنقية تخلية والغسيل تحلية, والتخلية قبل التحلية.
في الدعاء للميت (اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد, ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) وهنا (اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد) والأولى التنقية ثم الغسيل, وقد يكون الغسيل قبل التخلية أولى بالنسبة للميت, والتنقية قبل الغسيل أولى بالنسبة للحي, وهذا إذا جزمنا بأن هذا هو الترتيب النبوي في الحديثين, وإلا إذا أوردنا احتمال أن هذا من تصرف الرواة - تجوز الرواية بالمعنى والتقديم والتأخير بما لا يخل بالمعنى عند الجمهور - فإننا نقول: لعل هذا من تصرف الرواة.(10/7)
في حديث أبي هريرة هنا خص النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالدعاء فقال (اللهم باعد بيني ...) الحديث, وجاء في حديث حَسَن ذم الإمام الذي يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين: ابن خزيمة وهو الإمام في التوفيق والتأليف بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض لم يستطع التوفيق بين هذين الحديثين فحكم على الحديث الثاني بأنه موضوع لأنه معارض بحديث أبي هريرة الصحيح. لكن قال شيخ الإسلام إن النهي عن تخصيص الإمام نفسه بالدعاء دون المأمومين خاص بالدعاء الذي يؤمَّن عليه كدعاء القنوت. وذكر السخاوي أن منهم من يقول إن المنهي عنه هو الدعاء الذي ينفرد به الإمام دون ما يُشرَع للجميع, فللإمام أن يخص نفسه بالدعاء في دعاء الاستفتاح لأنه مشروع له ولمن خلفه من المأمومين وكذلك دعاء بين السجدتين, لكن ليس له أن يخص نفسه بدعاء مطلق في السجود أو بعد التشهد.
الماء الحار أنسب لإزالة الأوساخ, لكن لما كان للذنوب حرارة في القلب, فإن هذه الأمور الباردة (الماء والثلج والبرد) تناسب هذه الحرارة.
حديث (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) صحيح إلى عمر رضي الله عنه من قوله, وكونه عند مسلم بسند منقطع لأنه من رواية عبدة بن أبي لبابة عن عمر, ولم يسمع من عمر, والنووي يعتذر عن مسلم بأنه أورده عرضاً لا قصداً, وهذا ليس بوجيه لأن مسلماً أورده في صحيحه.
معنى (سبحانك الله وبحمدك) أسبحك حال كوني متلبساً بحمدك. ومعنى الجَد في قوله (وتعالى جدك) أي ارتفع حظك, والجد هو الحظ والنصيب, وبعض المفسرين يقول عن قول الجن (وأنه تعالى جد ربنا) أنه من قول الجن وأنه من جهلهم حيث توهموا أن له جداً, لكن هذا لا حظ له من النظر لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في دعاء الاستفتاح. ومعنى (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) لا ينفع صاحب الحظ منك حظه.(10/8)
عمر خطب بهذا الاستفتاح على المنبر على جمع من الصحابة ولم ينكره أحد, ولذا يرجحه جمع من أهل العلم, فالإمام أحمد يرى أن هذا الدعاء هو أرجح أدعية الاستفتاح.
نحو حديث عمر عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً عند الخمسة, والإمام أحمد يقول (لا يصح حديث أبي سعيد) يعني لا يصح مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وإن صح عن عمر, والألباني رحمه الله تعالى صحح حديث أبي سعيد في الإرواء وغيره من مؤلفاته لأنه يرى أن حديث أبي سعيد المرفوع ينجبر بحديث عمر الموقوف, والشيخ الألباني رحمه الله جارٍ على قواعد المتأخرين. من يرى أن المرفوع يعل بالموقوف ضعف حديث أبي سعيد, كما هو صنيع الإمام أحمد وهو جارٍ على طريقة المتقدمين في بيان العلل والحكم بالقرائن.
حديث أبي سعيد ضعيف, لكن الزيادة التي فيه (وكان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) لها شواهد وطرق تبلغ بمجموعها درجة الصحيح لغيره. وهل هذه الاستعاذة تابعة للاستفتاح (بمعنى أنه يستفتح ثم يتبع الاستفتاح بقوله (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) ثم يستعيذ للقراءة ويبسمل) أو هي من أجل ابتداء القراءة امتثالاً لقول الله جل وعلا (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)؟ الصواب أن التعوذ للقراءة وليس تابعاً للاستفتاح, وإذا قيل إن الاستعاذة بهذه الصيغة إنما هو من أجل ابتداء القراءة في الصلاة ففي خارج الصلاة يستعيذ بهذه الصيغة من باب أولى, لأن الأمر خارج الصلاة أوسع.(10/9)
إذا استعاذ القارئ خارج الصلاة للقراءة ثم احتاج في أثناء القراءة إلى التوقف لشرب الماء مثلاً فإنه إذا أراد العودة إلى القراءة يستعيذ, فهل نقول إن مثل هذا التصرف يشبهه قراءة الركعة الثانية بالنسبة لمن يقرأ داخل الصلاة, بجامع أن كلاً منهما ترك القراءة ثم رجع إليها؟ أو نقول إن قراءة الصلاة قراءة واحدة فتكفي استعاذة واحدة؟ بمعنى هل القراءة في الصلاة واحدة مع وجود هذه الفواصل المشروعة؟ منهم من يرى أن قراءة الصلاة بمجموعها قراءة واحدة فتكفي لها استعاذة واحدة, ومنهم من يرى أن لكل ركعة قراءة مستقلة فيستعيذ لقراءة كل ركعة لوجود الفاصل الطويل, وكأن الاستئناف وجيه. وهذا نظير ما قيل في صيام رمضان هل هو عبادة واحدة أو عبادات متعددة وهل تكفي فيه نية واحدة أو يحتاج إلى نيات كل يوم بيومه.
لو مر عليه وهو يقرأ خارج الصلاة آيات رحمة فأكثر من سؤال الله والتضرع إليه ثم رجع إلى القراءة فهذا لا زال في قراءة لأن هذا الفاصل من لواحق هذه القراءة.
إذا سجد للتلاوة ثم عاد للقراءة فإنه لا يستعيذ لأن السجدة يسيرة, لكن الفاصل في الصلاة بين قراءة كل ركعة والتي تليها طويل, لأنه يُتصَور أن يطيل ما بين القراءتين.
جاءت الاستعاذة في القرآن مقرونة بالاسمين السميع والعليم (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) وجاءت مجردةً عنهما (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) فالآية التي هي أقرب إلى ما معنا ليس فيها ذكر للاسمين. وأنت تستعيذ فإنك تمتثل ما أمرت به (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) فإذا قلت (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فقد امتثلت الأمر, وهل هذا أكمل أو الأكمل أن يأتي بالصيغة التي في حديث أبي سعيد؟ هذا محل نظر عند أهل العلم وكثير منهم يرجح أن الاستعاذة للقراءة تكون بدون هذين الاسمين.(10/10)
همز الشيطان هو الجنون, ونفخه هو الكِبْر, ونفثه منهم من فسره بالشعر المشتمل على الهجاء والفخر والغزل وما أشبه ذلك ومنهم من فسره بالسحر.
حديث عائشة في صفة الصلاة: قولها (يستفتح) أي يفتتح وليست السين والتاء هنا للطلب.
عند من يرى أن سجود التلاوة وسجود الشكر صلاة يقول إنه يُستَفتَح بالتكبير لأنه صلاة, والذي يقول إن ذلك ليس بصلاة يقول إنه لا يلزم التكبير.
المالكية يرون عدم مشروعية الاستفتاح, ويستدلون بقول عائشة (والقراءة - أي يستفتحها - بالحمد لله رب العالمين) والمقصود بالقراءة قراءة القرآن, لكن ليس في الحديث ما يدل على نفي استفتاح الصلاة بغير القراءة من أدعية الاستفتاح وأذكاره.
قد يستدل بالحديث من يرى عدم مشروعية البداءة بالبسملة والاستعاذة كما يقوله المالكية أيضاً, ويستدل به من لا يرى الجهر بالبسملة والمعنى (تستفتح القراءة الجهرية بالحمد لله رب العالمين) وأما ما يُسَر كالاستفتاح والاستعاذة والبسملة فيكون واقعاً بين التكبير والقراءة, وللشافعية أن يقولوا إن المراد بالحمد لله رب العالمين السورة بما في ذلك البسملة فيجهر بالبسملة.
قولها (وكان إذا ركع لم يشخص رأسه) أي لم يرفعه, كما قال تعالى (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) يعني ترتفع الأبصار, والروح إذا خرجت شخُص البصر يعني ارتفع. وقولها (ولم يصوبه) أي لم ينزل رأسه عن مستوى ظهره, فالتصويب هو الإنزال والخفض, ومنه سمي المطر صيِّباً لأنه ينزل. فالسنة أن يستوي رأسه مع ظهره.
نُصَّ على الطمأنينة في حديث المسيء في جميع الأركان لأهميتها, فهي ركن من أركان الصلاة.
قولها (وكان يقول في كل ركعتين التحية) المراد بذلك التشهد المفتتح بالتحيات.
افتراش السبع يحصل بأن يلصق ذارعيه بالأرض.(10/11)
علة حديث عائشة هي أن مسلماً رحمه الله خرَّجه من رواية أبي الجوزاء عن عائشة, وابن عبد البر وغيره على أن أبا الجوزاء لم يسمع من عائشة فهو منقطع, وهذه هي علة الحديث وهي علة ظاهرة. وأُعِلَّ أيضاً بأن مسلماً أخرجه من طريق الأوزاعي عن قتادة مكاتبة, ومعروف أن قتادة وُلِدَ أكمه وكاتبه مجهول. لكنه وإن كان معلاً عند مسلم فهو مروي من طرق عند أحمد وأبي داود وغيرهما, فالحديث صحيح.
الهيثمي غالب أحكامه على الأحاديث مختصرة, وكثيراً ما يكتفي بقوله (رجاله موثقون), وكون الراوي موثق لا يعني أنه ثقة (بمعنى أنه لو صدر عن أي إمام من أئمة الحديث توثيق لهذا الراوي ولو كان الجمهور على خلافه صار موثقاً ولا يلزم أن يكون ثقة). ومما يقوله رحمه الله (ورواته ثقات إلا فلان أو فيه فلان وفيه كلام), ولا يصدِر أحكاماً دقيقة يصدر عنها طالب العلم, وإلا فهو إمام من أئمة هذا الشأن.
الزيلعي لا سيما في نصب الراية يفيض في تخريج الأحاديث وفي الكلام على رواتها وعنده نفائس في كتابه هذا, لكنه لم يبرأ من تأثير المذهب, فإذا تكلم على الأحاديث التي يستدل بها الحنفية يجيد في ذلك, لكن إذا ذكر أحاديث الخصوم فقد يحمله مذهبه من حيث يشعر أو لا يشعر على عدم الدقة في بعض الأحكام على بعض الأحاديث.
على كل حال يستفاد من كتب الهيثمي والزيلعي, ولا يُسلَّم القياد بإطلاق لهؤلاء وإن كانوا من علماء هذا الشأن.
تفسير البيضاوي تفسير متوسط, وهو تفسير بالرأي وفيه بعض المخالفات العقدية, لكن العناية به من قبل أهل العلم ظاهرة, وعليه حواشٍ كثيرة, وهو مفيد ونافع, لا سيما فيما يتعلق بالصناعة اللفظية. الأفضل أن يعتني بصورة من طبعة بولاق بحاشية الشهاب. الحواشي طبعت طبعات جديدة بصفٍّ جديد لكن أخطاؤها كثيرة فتنبغي العناية بصور الطبعات القديمة.(10/12)
الحافظ ابن حجر لا شك أنه تأثر ببيئته الأشعرية, وفي الفتح نقل أقوالهم وأقوال غيرهم, فهو يعتني بأقوال السلف ويذكر أقوال المخالفين في مسائل الاعتقاد, وهو مضطرب لا يُنسَب إلى مذهب معين وإن كانت بيئته أشعرية لأنه أحياناً يرجح أقوال السلف.
الفردوس للديلمي جمع فيه مؤلفه أحاديث لا خطام لها ولا زمام بل ما تفرد به صاحب الفردوس أو مسند الفردوس للولد - وهو أمثل من أصله - فهو ضعيف عند أهل العلم (ومسند الفردوس ضعفه شُهِر).
شرح الخطابي لأبي داود (معالم السنن) شرح نفيس على اختصاره, وإذا قرئ معه عون المعبود أو بذل المجهود أو المنهل العذب المورود للشيخ محمود خطاب كفى إن شاء الله تعالى, مع تهذيب ابن القيم الذي لا يستغني عنه طالب علم.
شروح النسائي في غالبها مختصرات كزهر الرُّبى للسيوطي وحاشية السندي والتعليقات السلفية, وهناك أيضاً شرح معاصر مطول للشيخ محمد علي آدم يبلغ الأربعين مجلداً, ولكنه الآن يسعى لاختصاره ليكون في نصف هذا الحجم.
مسألة إعلان إسلام الكافر في المسجد والسلام عليه ومعانقته والتكبير عند نطقه للشهادتين قد لا يوجد لها أصل بخصوصها, لكن يدل لها عمومات في الشريعة, فكون الإنسان يُشهَر إسلامه له أصل, لأن كثيراً من الصحابة أشهروا إسلامهم وأعلنوه وفي المسجد أيضاً ليعرف الناس أن هذا صار أخاً لهم فله ما لهم وعليه ما عليهم, ولا يوجد مانع من تكبير الناس فرحاً بذلك, وأيضاً مصافحتهم له واحتفاؤهم به ومعانقتهم له كل هذا من باب التشجيع على هذا العمل الطيب والفرح بما يسر المسلم.
الفقهاء ينصون على أن المرأة تجتمع وتلتئم وتنضم في الصلاة لكونه أستر لها, لكن في صحيح البخاري (كانت أم الدرداء تجلس جِلسة الرجل وكانت فقيهة), ولا يُعرَف شيء يخص النساء في هذا الباب, فالأصل أن النساء داخلات في خطاب الرجال.(10/13)
البيع بين الأذان والإقامة لا بأس به, فلا بأس في بيع السواك في هذا الوقت, وإنما الممنوع هو البيع بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة. لكن إذا كان هذا البيع عقد يمتد حتى تفوت الجماعة فإنه يُمنَع لما يفضي إليه.
حديث ابن عمر في مواضع رفع اليدين في الصلاة: في الحديث المتفق عليه ذِكْرُ ثلاثة مواضع.
يرفع يديه إلى أن يوازي ويقابل بيديه منكبيه, وفي حديث (إلى فروع أذنيه), ومنهم من يقول إنه له ألاَّ يرفع إلى الأذنين بل يوازي المنكبين ومنتهى الرفع إذا رفع يكون إلى فروع الأذنين, ومن أهل العلم كالشافعي من جمع بجمع حسن بأن قال (ظهور الكفين حذو المنكبين وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين).
بعض الناس عند الرفع يمسك أذنيه أو يضع إبهاميه في صماخيه, وبعضهم يرفع إلى سرته في وضعٍ أشبه ما يكون بالعبث, وكل هذا خلاف السنة, بل السنة أن يجعل ظهور الكفين حذو المنكبين والأصابع تصل إلى فروع الأذنين وبذلك تجتمع النصوص.
يكون الرفع مقارناً لنطق التكبير لأنه جاء في رواية (يرفع يديه حين يكبر للصلاة) يعني مع التكبير, لكن إن تقدم الرفع على التكبير أو تأخر عنه فلا بأس لأنه ثبت قوله (رفع يديه ثم كبر) كما ثبت أيضاً قوله (كبر ثم رفع يديه).
مواطن الرفع: عند تكبيرة الإحرام - وهذا محل اتفاق بين المذاهب الأربعة - وعند الركوع وعند الرفع منه - الجمهور على أن ذلك سنة خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى - وهناك موضع رابع ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر عند القيام من الركعتين بعد التشهد الأول - الحنابلة لا يثبتون الموضع الرابع لأن الحديث لم يثبت عند الإمام أحمد مرفوعاً والراجح عنده وقفه, وترجح لدى البخاري رفعه وأخرجه في الأصول معتمداً عليه -.
جاء ذكر الرفع عند تكبيرة الإحرام في حديث أبي حميد في صفة الصلاة المخرج في الصحيح, وجاء في رواية أبي داود لحديث أبي حميد - وهي صحيحة - ذكر الرفع في المواضع الثلاثة.(10/14)
في حديث مالك بن الحويرث في صحيح مسلم (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) أي أطراف أذنيه.
إذا اقتصر على محاذاة المنكبين ولم يصل إلى فروع الأذنين تارةً ورفع يديه حتى تصل إلى فروع الأذنين تارةً فكل هذا ثابت.
بعض المذاهب البدعية لا ترى الرفع مطلقاً حتى عند تكبيرة الإحرام, وفي الحديث رد عليهم.
حديث وائل بن حجر في وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر: أخرجه ابن خزيمة وهو صحيح بشواهده, وإن كان في أصل الحديث عند ابن خزيمة مؤمَّل بن إسماعيل وهو سيء الحفظ, لكن الحديث له شواهد يصل بها إلى درجة الصحيح لغيره. إذا نظرنا إلى مفردات الحديث ففيها ضعف لكن بمجموعها ترتقي إلى درجة الاحتجاج, فهذه هي السنة وهذا أقوى ما جاء في موضع اليدين.
بعضهم يبالغ فيضع يديه على عنقه, وقد يستدل لمثل هذا بقوله تعالى (فصل لربك وانحر) أي ضع يديك على النحر وقد قيل بهذا, وهذا فيه بعد شديد, بل المراد بالنحر هنا ذبح النسك, والمعنى صل صلاة العيد وانحر وتقرب إلى ربك بذبح النسك.
المرجح عند الحنابلة وضع اليدين فوق السرة وتحت الصدر, وجاء في ذلك خبر لكنه ضعيف, وأقوى ما جاء في هذا هو أن يضعهما على الصدر كما هنا. والنووي في المنهاج - متن معتمد عند الشافعية وشُرِح بشروح كثيرة, وليس هو شرح صحيح مسلم - يقول (ويجعل يديه تحت صدره) وهذا قريب من قول الحنابلة. والنص الذي عندنا (على صدره) وهو أولى ما يقال في هذا الباب. وبعض الشراح يوجه هذا الكلام ويقول: كأنهم جعلوا التفاوت بين الصدر وما فوق السرة يسيراً لا يؤثر. وعلى كل حال فلنتقيد بما ورد, وأقوى ما ورد في الباب حديث وائل بن حجر.
يُروى عن مالك إرسال اليدين, والذي ذكره في الموطأ والمعروف عنه وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر, وصار إلى رواية الإرسال أكثر المالكية.(10/15)
حديث عبادة بن الصامت في قراءة الفاتحة في الصلاة: عبادة أحد النقباء شهد بيعة العقبة الأولى والثانية وشهد الثالثة كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب.
قوله (لا صلاة): (لا) نافية للجنس والتقدير إما (لا صلاة موجودة) ونفي الذات هو الأصل في النفي وإما (لا صلاة صحيحة مجزئة مسقطة للطلب) وإما (لا صلاة كاملة). التقدير الأول غير ممكن لأنه قد يصلي الإنسان بدون قراءة الفاتحة بحيث توجد صورة الصلاة مع عدم قراءة الفاتحة. وصورة الصلاة الظاهرة هي الحقيقة العرفية للصلاة لكن الحقيقة الشرعية للصلاة هي الصلاة الصحيحة المجزئة المسقطة للطلب. فإذا لم نستطع أن ننفي الحقيقة العرفية ننظر إلى الحقائق الأخرى, لأن الأصل في الكلام المنفي نفي الحقيقة والأصل في الكلام المثبت إثبات الحقيقة. الاحتمال الثالث هو أن يُنفَى الشيء مع وجود حقيقته العرفية ومع وجود حقيقته الشرعية لكن مع نفي الكمال عنه. الأصل نفي الحقيقة العرفية وإذا لم نستطع نفيها فلا بد أن ننفي حقيقة لأن النفي متجه إلى الحقائق, لكن إن لم نستطع نفي الحقيقتين العرفية والشرعية لوجود ما يصحح هذه العبادة بالأدلة الأخرى اتجهنا إلى التقدير الثالث وهو نفي الكمال. نفي الحقيقة العرفية غير ممكن, ونفي الحقيقة الشرعية وهي أقرب إلى الحقيقة العرفية ممكن, ونفي الكمال ممكن لكنه أبعد عن الحقيقة من الاحتمال الثاني.
قوله (لمن لم يقرأ): (من) من صيغ العموم فتشمل كل مصلٍّ, فالحديث دليل على أن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن بالنسبة لكل مصلٍّ, وعندنا من أنواع المصلين الإمام والمأموم والمنفرد والمسبوق.
لولا حديث أبي بكرة لدخل المسبوق في عموم حديث عبادة بن الصامت, حيث جاء أبو بكرة بعد ركوعه عليه الصلاة والسلام فركع دون الصف ولم يقرأ الفاتحة.(10/16)
عند أبي هريرة والبخاري والشوكاني - في النيل وإن كان في فتاويه في الفتح الرباني له قول آخر - أن قراءة الفاتحة ركن لكل مصلٍّ بما في ذلك المسبوق.
الشافعية عندهم أن الفاتحة تلزم كل مصلٍّ إلا المسبوق لعموم الحديث وعمومه مخصوص بحديث أبي بكرة.
عند المذاهب الأخرى أنها تلزم الإمام والمنفرد, وأما المأموم فقراءة الإمام قراءة له مطلقاً ومنهم من يفرق فيقول بلزومها في الصلاة السرية دون الجهرية لقوله تعالى (إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وقوله عليه الصلاة والسلام (وإذا قرأ فأنصتوا), لكن نقول: هذا عموم نخصصه بحديث عبادة بن الصامت.
في حديث أبي هريرة (كل صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) يعني ناقصة, وقال أبو هريرة (اقرأ بها في نفسك يا فارسي).
المرجح أن الفاتحة تلزم كل مصلٍّ ما عدا المسبوق.
أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى لزوم قراءة الفاتحة لأي مصلٍّ وإنما الذي عليه أن يقرأ ما تيسر من القرآن, وجمهور أهل العلم حملوا قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) على الفاتحة لأنها هي المتيسرة غالباً ولا يعارَض حديث المسيء بحديث عبادة بن الصامت.
حديث (من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له) ضعيف, وهو عمدة من يرى عدم لزوم القراءة للمأموم.
حديث (ما لي أنازَع القرآن لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم, قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن يقرأ بها) نص في لزوم الفاتحة للمأموم. حسنه الترمذي وغيره وهو قابل للتصحيح والمقصود أنه يحتج به.
من يقول بقراءة المأموم خلف الإمام - وهو المرجح - يتحيل لكي يجمع بين النصوص بأن يقرأ في سكتات الإمام, والإمام ينبغي له أن يترسل في قراءته ويجعل هناك وقتاً لرد النَّفَس يتمكن فيه المأموم من القراءة, لئلا يقع في حرج ويعارض النصوص التي تأمره بالسكوت إذا قرأ الإمام مع أنه لا يفرط بما جاء في حديث عبادة وغيره من لزوم القراءة.(10/17)
مسألة البسملة في الصلاة هل تُقرأ أو لا تُقرأ وإذا قرئت هل يجهر بها أو يسر بها وهذا في الصلاة الجهرية: لعل المراد بقول أنس (كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) أي (يفتتحون القراءة في الصلاة) لأنه سبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح الصلاة بالتكبير.
كون القراءة تفتتح بالحمد لله رب العالمين لا ينفي مشروعية التكبير ولا دعاء الاستفتاح ولا الاستعاذة ولا البسملة, ونفي جميع ذلك عدا تكبيرة الإحرام هو مذهب مالك عليه رحمة الله.
يستدل بهذا الحديث من يرى أنه لا يجهر بالبسملة, لأن القراءة تفتتح بالحمد لله رب العالمين مباشرة بدون بسملة, وإن قرئ قبلها ما قرئ سراً كالاستفتاح والتعوذ والبسملة, وهذا ما يدل عليه حديث الباب.
مقتضى زيادة مسلم (لا يذكرون بسم الله في أول قراءة ولا في آخرها) أنهم لا يذكرونها لا سراً ولا جهراً, لكن الإنسان لا ينفي إلا ما يعلم, فليس له أن ينفي الإسرار الذي لا يعلم به, ولذلك أعلت هذه الرواية. الراوي لما سمع الصحابي يقول (كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) ظن أنهم لا يذكرونها لا سراً ولا جهراً فصرح بما فهم وزاد مؤكداً (ولا في آخرها) مع أنه ليس في آخر الفاتحة بسملة لكنه محمول على بسملة السورة التي تليها. فسبب الإعلال هو أن الراوي ظن من خلال الرواية الصحيحة (كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) أنهم لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم, ومثَّل الحافظ العراقي بهذا على علة المتن (وعلة المتن كنفي البسملة إذ ظن راوٍ نفيها فنقله) أي كان هذا على حسب طنه فنقل ذلك روايةً وفهم ثم صرح بفهمه على أنه مروي ونسبه إليهم.(10/18)
مفهوم رواية النسائي وأحمد وابن خزيمة (كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) أنهم يسرون. وفي رواية لابن خزيمة صرح بالمفهوم وجعله منطوقاً (كانوا يسرون) ولذا قال الحافظ (وعلى هذا يحمل النفي في رواية مسلم خلافاً لمن أعلها) فقوله (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها) يعني جهراً وحينئذ تجتمع الروايات وينتفي التعليل لرواية مسلم, وإذا أمكن نفي التعليل لرواية في الصحيح فالمطلوب صيانة جناب الصحيح بقدر الإمكان وحماية الصحيح حماية للدين.
فالسنة قراءة البسملة سراً لا جهراً.
الإجماع قائم على أنها بعض آية من سورة النمل, كما أن الإجماع قائم على أنها ليست بآية من سورة براءة, ويبقى الخلاف فيما عدا ذلك, فمن أهل العلم من يرى أنها آية, ومنهم من يرى أنها ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها, ومنهم من يقول هي آية من الفاتحة دون غيرها, ومنهم من يقول هي آية واحدة كررت في مائة وثلاثة عشر موضعاً للفصل بين السور, فهناك فرق بين أن تكون البسملة آية واحدة وبين أن تكون مائة وثلاث عشرة آية. وكأن شيخ الإسلام يميل إلى أنها آية واحدة لا من سورة بعينها وإنما تنزل للفصل بين السور.
يستدل من يقول بأنها آية من كل سورة بإجماع الصحابة على كتابتها في المصحف, إذ كيف يدخلون في القرآن ما ليس منه. ومن نفى كونها آية احتج بوجود الخلاف إذ لو كانت آية لما ساغ الخلاف فيها لأنه لا يسوغ الخلاف في حرف من القرآن فضلاً عن آية أو كلمة.
الشافعية يرون البسملة آية من الفاتحة وهو رواية في المذهب عند الحنابلة, وغيرهم لا يرونها آية.(10/19)
الفاتحة سبع آيات وهي السبع المثاني - القول بأنها ست آيات أو ثمان آيات كل ذلك أقوال شاذة - ونقل الاتفاق على أنها سبع آيات ويدل على ذلك قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) فإذا اعتبرنا البسملة آية جعلنا الآية الأخيرة آية واحدة أو نجعلها آيتين كما عليه المذاهب الأخرى, ويستدل من يرى بأنها ليست بآية من الفاتحة بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين).
سمي نعيم مجمراً لأنه أُمِر بتجمير مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة حين ينتصف النهار في زمن عمر رضي الله عنه.
حديث نعيم المجمر في صلاته وراء أبي هريرة يدل على الجهر بالبسملة, لكن من حيث الدليل الإسرار أقوى, لكن لو جُهِر بها أحياناً فلا بأس.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع في رسالته إلى أهل مكة (ونصلي خلف الشافعي الذي يجهر بالبسملة لكن لا نصلي خلف من لا يطمئن في صلاته) لأن الخلاف في البسملة أمره سهل والنصوص محتملة والأمر فيه سعة, والأقوى عدم الجهر.
التأمين بعد قراءة الفاتحة سنة داخل الصلاة وخارجها لأن الأمر خارج الصلاة أوسع.
تكبيرات الانتقال والتسميع سنة عند الجمهور, لكنها والتسميع من واجبات الصلاة عند الحنابلة لأنه لم يُذكر ولا في حديث واحد من أحاديث صفة الصلاة أنه صلى من غير تكبير وقد قال عليه الصلاة والسلام (صلوا كما رأيتموني أصلي).
قوله (والذي نفسي بيده) فيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته, وكثير من الشراح يقولون (والذي روحي في تصرفه), وهذا فرار من إثبات صفة اليد, لكن إذا قاله من عُرِفَ بإثبات الصفات فإنه يُقبَل كلامه لأنه لم يرد بذلك الفرار من الإثبات, وكون الروح تحت تصرف الله كلام صحيح لا إشكال فيه, لكن من يقول ذلك ليحيد عن إثبات صفة اليد فإنه يرد عليه.(10/20)
حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة له حكم الرفع لقول أبي هريرة (والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو حديث صحيح.
حديث أبي هريرة (إذا قرأتم الفاتحة فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها) نص على أن البسملة آية من آيات الفاتحة وبه وبمثله يستدل الشافعية, لكنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. الدار قطني في السنن رواه مرفوعاً وموقوفاً لكنه في العلل صوَّب وقفه على أبي هريرة, يعني هو من اجتهاد أبي هريرة, فليس فيه دليل على أنها آية من الفاتحة.
حديث أبي هريرة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين): الأكثر وهو الصحيح على أنها (آمين) بالمد بمعنى (يا الله استجب دعائنا) وقاله بعضهم بالقصر (أمين) ويروى التشديد والمد عن جعفر الصادق (آمِّين) أي قاصدين. والحديث يشهد له حديث وائل بن حجر فهو صحيح لغيره.
المؤمِّن على الدعاء يعتبر داعياً لقوله تعالى (قال قد أجيبت دعوتكما) والداعي هو موسى عليه السلام هارون عليه السلام يؤمِّن فسمى التأمين دعوة.
قوله (رفع صوته) فيه رفع الصوت بالتأمين للإمام والمأموم, والأمر بذلك ظاهر في قوله عليه الصلاة والسلام (وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين) وثبت أن المسجد كان يرتج من اجتماع صوتهم بالجهر بالتأمين.
جاء في الحديث في البخاري وغيره (إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) وفي الحديث (وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين) فالتأمين سنة للإمام والمأموم ويسن لهم الجهر به خلافاً للحنفية.
إذا جاء والإمام يقرأ في السورة بعد الفاتحة فإن الفاتحة تلزمه وأما حديث (وإذا قرأ فأنصتوا) فهو مخصوص بحديث عبادة.
الفاتحة لازمة في كل ركعة وإن قال بعضهم تجزئ قراءتها مرة واحدة لكن المتجه والمرجح أنها تجب في كل ركعة.(10/21)
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الجمعة الرابع من شهر ربيعٍ الأول عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ضحى يوم السبت الثاني عشر من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.
مهمات شرح باب صفة الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
حديث عبد الله بن أبي أوفى في حق من لا يستطيع حفظ الفاتحة: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها فيقول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله), والحديث حسن وقابل للاحتجاج.
تمام الحديث كما في سنن أبي داود: قال الرجل: يا رسول الله هذا لله فما لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) فلما قام قال هكذا بيده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما هذا فقد ملأ يده من الخير).
حديث أبي قتادة في مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر: قراءة السورتين بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين على سبيل الاستحباب عند الجمهور.
معرفتهم بقراءته عليه الصلاة والسلام في الصلوات السرية إما بطريق الحزر والتقدير, أو بكونه يسمعهم الآية أحياناً من الفاتحة أو غيرها, وبذلك عرفوا أنه يقرأ سورة أخرى غير الفاتحة في الركعتين الأوليين.
دل الحديث على أن القراءة السرية يجوز أن يجهر بها أحياناً, كما أن الصلاة الجهرية لو أسر بها أحياناً صحت صلاته, ولذا يقولون (إذا جهر في محل الإسرار أو أسر في محل الجهر صح لكنه خلاف السنة). لكن لو كان هذا ديدنه صار مبتدعاً ولا يكفي أن يقال إنه ارتكب مكروهاً, بل بهذا الفعل قد ارتكب محرماً.
قراءة الركعة الأولى أطول من قراءة الركعة الثانية لكي يدرك الناس الركعة الأولى.(10/22)
حديث أبي قتادة دل على أنه يقتصر على الفاتحة في الركعتين الأخريين, لكن يأتي ما يدل على أنه يقرأ أحياناً في الركعتين الأخريين بما زاد على الفاتحة.
القرائن التي يستدل بها الصحابة على قراءته عليه الصلاة والسلام: غلبة الظن كما هنا استدلالاً بتطويله الركعة أو باضطراب لحيته عليه الصلاة والسلام, وكان كث اللحية, ومقتضى هذا أنها تامة طولاً وعرضاً, ولا تعارَض المرفوعات بالموقوفات, وإلى قريب من مائة عام مضت والمسلمون في جميع الأقطار أهل لحى.
حديث أبي سعيد الخدري في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الظهر والعصر: فيه دليل على أنه يطيل القراءة, لأن سورة السجدة بقدر ثلاثين آية, وقدرها لا ينافي التخفيف الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.
قرأ في المغرب بالطور وقرأ بـ(ق) واقتربت, وهو الذي عتب على معاذ بقوله (أفتانٌ أنت يا معاذ؟), وما كان يقرأه عليه الصلاة والسلام ليس بطويل لأن الطول والقصر نسبي. لا شك أن سورة السجدة طويلة بالنسبة لقصار السور لكنها إذا قرنت بالطوال كالبقرة وآل عمران صارت قصيرة.
دل حديث أبي سعيد أنه يقرأ في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر بما زاد على الفاتحة أحياناً وهو من السنة, فيفعل هذا أحياناً ويترك أحياناً.
دل الحديث على أنه يقرأ في الأخريين من العصر بقدر سبع إلى ثمان آيات, وهذا يحتمل أنه زيادة على الفاتحة, ويحتمل أن المقصود بذلك الفاتحة لأنها سبع آيات.
سليمان بن يسار هو مولى ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين, وهو أحد الفقهاء السبعة من التابعين. والفقهاء السبعة يجمعهم بيتٌ واحد (فخذهم عبيد الله عروةُ قاسمٌ سعيدٌ أبو بكرٍ ٍٍسليمانُ خارجة).
فلان المذكور في حديث سليمان بن يسار هو أمير من أمراء المدينة جاء بيانه في شرح السنة للبغوي أنه عمرو بن سلِمة, وليس هو عمر بن عبد العزيز, لأن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة.(10/23)
القراءة في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصاره وفيما عدا ذلك بأوساطه, وهذا يكون في غالب الأحوال, على أن الظهر ينبغي تطويلها على ما جاء في النصوص.
المفصل يبدأ من (ق) إلى سورة الناس, وهو أربعة أجزاء وزيادة, وأكثره طوال ثم الأوساط ثم القصار.
لما جاء جبير بن مطعم في فداء الأسرى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور وهي من طوال المفصل, وفي حديث سليمان بن يسار المرفوع إلى أبي هريرة وإسناده صحيح أنه يقرأ بقصار المفصل: الأصل والغالب أن يقرأ بقصار المفصل لكن لو قرأ بطواله لا بأس, وقد قرأ عليه الصلاة والسلام في المغرب سورة الأعراف.
لما جاء جبير بن مطعم في فداء الأسرى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور وهي من طوال المفصل وفي حديث سليمان بن يسار المرفوع إلى أبي هريرة وإسناده صحيح أنه يقرأ بقصار المفصل: الأصل والغالب أن يقرأ بقصار المفصل لكن لو قرأ بطواله لا بأس.
حديث جبير بن مطعم: تحمل جبير هذا الخبر حال كفره لكنه أداه بعد إسلامه, فإذا تحمل الكافر أو الصبي أو الفاسق حال كفره أو صباه أو فسقه فإنه يصح تحمله, لكن الأداء لا يكون إلا على حالٍ من القبول بأن يكون مسلماً مكلفاً عدلاً, فلا يصح أداء الكافر ولا يقبل خبره ولا يقبل خبر الفاسق ولا يقبل خبر الصبي.
في صحيح البخاري أن جبيراً أضل بعيراً بعرفة فبحث عنه فوجد النبي عليه الصلاة والسلام قد وقف بعرفة مع الناس فاستنكر ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحُمس, ومعروفٌ أنهم لا يخرجون عن حدود الحرم, بل يقفون بالمزدلفة دون حدود الحرم. وكان هذا قبل إسلام جبير لأنه لا يمكن أن يستغرب ذلك بعد إسلامه, وكان إسلامه قبل حجة الوادع, فهذه الحجة كانت قبل حجة الوداع.
ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في المغرب بالأعراف وبالصافات وبالدخان وبالمرسلات, وكلها طوال, فدل على أنه قد يُقرأ في المغرب بالطوال.(10/24)
قد يقرأ بخلاف ما جاء في حديث مسلم بن يسار لبيان الجواز.
حديث أبي هريرة في قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة: صيغة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) تدل على الاستمرار.
في رواية الطبراني (يديم ذلك) بمعنى أنه لا يخل به, لكنها رواية ضعيفة, وهي في المعجم الصغير.
المناسبة بين هاتين السورتين وما كان وما يكون في يوم الجمعة ظاهرة, فهل يقال إنه للإنسان أن ينزِّل القرآن على المناسبات كمن يتكلم في خطبة الجمعة عن موضوعٍ ما ثم يقرأ في الصلاة بآيات مناسبة لهذا الموضوع أو يقال إن الأولى الاقتصار في ذلك على ما ورد به النص؟ الأولى الاقتصار في هذا على ما ورد لأنه لو ترك المجال للناس في أن يجتهدوا في تنزيل الآيات على المناسبات لاستهين بالقرآن واستعمل في غير ما أنزل من أجله.
حديث حذيفة في الدعاء عند آيات الرحمة والتعوذ عند آيات العذاب: الحديث صحيح, والصلاة في الحديث يحتمل أن تكون صلاة ليل ويحتمل أن تكون فريضة, لكن جاءت الروايات عن غيره من الصحابة أن ذلك في صلاة الليل, وجاء أيضاً أحاديث مطلقة كهذا الحديث.
قيل بأن مثل هذا يفعل في الفريضة والنافلة لأن الأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل, وقيل بأنه خاص بالنافلة لأن الأمر فيها أوسع ولأن أكثر الروايات تدل على أن هذا الفعل في قيام الليل بخلاف الفريضة فالأمر فيها أشد وينبغي الاحتياط فيها لأنه قد يقول المسلم فيها كلمة فتبطل صلاته وهو لا يشعر فيقتصر فيها على القراءة والتدبر.(10/25)
وعلى كل حال الأصل أن الفريضة والنافلة سواء, فإذا اقتصر على الألفاظ الواردة عنه عليه الصلاة والسلام في النافلة وقيلت في الفريضة فلا بأس, لكن التوسع في هذا بألفاظ وجمل لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي, لا سيما من بعض العامة الذين لا يدركون فحوى الكلام, لأنه قد يمر بأحدهم آية عذاب فيظن أنها آية رحمة والعكس. فإذا اقتصر على المورد باللفظ النبوي الذي لا يخشى منه إبطال الصلاة فلا بأس, وإلا فالأصل في الصلاة السكوت كما في قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) أي ساكتين.
حديث ابن عباس في النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: لأن للركوع والسجود أذكار مختصةٌ بهما وأما القرآن فهو ذكر القيام والوقوف قبل الركوع.
حكم قراءة القرآن في الركوع والسجود حرام للنهي عن ذلك والأصل في النهي التحريم.
الركوع ينبغي أن يكون ذكره التعظيم لقوله (فأما الركوع فعظموا فيه الرب) والسجود ينبغي أن يجتهد فيه بالدعاء لقوله (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء) بالإضافة إلى التسبيح في الركوع والسجود.
حديث عائشة في قوله في الركوع والسجود (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي): في الحديث السابق دليل على أنه لا يدعى في حال الركوع وإنما يعظم الرب فيه, وهو دليل أيضاً على أنه لا يعظم الرب في السجود وإنما يجتهد في الدعاء, لكن حديث عائشة دل على أن الركوع وإن كان الغالب في ذكره التعظيم إلا أنه لا يمنع فيه من الدعاء اليسير, وأما الدعاء الكثير والاجتهاد فيه فيكون في السجود.
حديث أبي هريرة في تكبيرات الانتقال: التسميع يقوله الإمام دون المأموم لما جاء في الحديث (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد).
ديدنه وعادته عليه الصلاة والسلام في صلاته أن يكبر للانتقال وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) فدل على وجوب تكبيرات الانتقال ووجوب التسميع خلافاً لمن يقول باستحباب ذلك.(10/26)
ظاهر الحديث (يكبر حين ...) أن التكبير مقارن للفعل, لكن إن تقدم يسيراً أو تأخر يسيراً فالأمر فيه سعة.
عند الحنفية والمالكية أن المأموم لا يقول (سمع الله لمن حمده) والإمام لا يقول (ربنا ولك الحمد) بل الأول ذكر الإمام والثاني ذكر المأموم, والشافعية يرون أن التسميع وقول (ربنا ولك الحمد) لكل مصلٍ الإمام والمأموم والمنفرد, والحنابلة يرون أن الإمام يقول (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) وأما المأموم فلا يقول إلا (ربنا ولك الحمد) ولا يقول (سمع الله لمن حمده) والحديث (إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد) ظاهر في هذا لأن الفاء في قوله (فقولوا) للتعقيب, فيقولون (ربنا ولك الحمد) بعد الإمام مباشرة, وعليه فلا يقول المأموم (سمع الله لمن حمده).
الصيغ الواردة في قول (ربنا ولك الحمد) أربع وهي (ربنا ولك الحمد) و (ربنا لك الحمد) و (اللهم ربنا ولك الحمد) و (اللهم ربنا لك الحمد) وإن نفى ابن القيم ورود الصيغة الثالثة مع ورودها في صحيح البخاري.
حديث أبي سعيد الخدري في ذكر القيام بعد الركوع: الحمد معنى من المعاني والأجرام إنما تُملأ بالأجرام والأجسام؟!!! لا يمتنع أن يكون هذا المعنى بحيث لو كان جسماً لملأ ما بين السموات والأرض, ولا يمنع أن يكون له حقيقة ولو لم يدركها البشر.
قوله (وملء ما شئت من شيء بعد) أي مما تعلمه ولا نعلمه, فالمطلوب حمد يملأ الظروف المعلومة وغير المعلومة للبشر.
قوله (أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد): (أهل) منصوب على النداء والمعنى (يا أهل الثناء والمجد) ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (أنت أهل الثناء والمجد). وقوله (أحق) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا أحق).
علل الدار قطني بلغت الغاية في معرفة دقائق هذا الفن, حتى قال الحافظ ابن كثير وغيره إنه لم يُصَنَّف مثله.(10/27)
أول من صنف في شروط الأئمة الحازمي وابن طاهر. والحازمي قسم الرواة إلى طبقات, فالطبقة الأولى من اتصفوا بالحفظ والضبط والإتقان مع ملازمة الشيوخ, والثانية من وافقوا الأولى في الحفظ والضبط والإتقان مع خفة ملازمة الشيوخ, والثالثة من لازموا الشيوخ لكنهم أخف في الحفظ والضبط والإتقان, ثم نزل بعد ذلك, والذي يهمنا الطبقات الثلاث الأولى لأن فيها شرط الشيخين, فالأولى شرط البخاري وقد ينتقي من أحاديث الطبقة الثانية, والثانية شرط مسلم وقد ينتقي من أحاديث الطبقة الثالثة. وابن طاهر يرى أن شرط الشيخين التخريج لمن أُجمِع على ثقته. وكلا القولين لا يسلم من مؤاخذات ومناقشات.
لكن المتأخرين رجحوا - كما هو الواقع ودعموه بالأدلة - أن المراد بشرط الشيخين رجالهما على الصورة المجتمعة, ومعناه أن البخاري إذا خرج حديثاً من طريق فلان عن فلان عن فلان عن فلان فإنه أذا وُجِدَ هذا الإسناد في أي كتاب على هذه الصورة فهو على شرط البخاري, ومثله ما كان على شرط مسلم, وإذا خرج البخاري ومسلم لهذه الصورة المجتمعة فوجدنا حديثاً مخرجاً بهذه السلسلة على الصورة المجتمعة في غيرهما من الكتب قلنا إن هذا الحديث على شرط الشيخين, فشرطهما رواتهما. ويؤيد ذلك أن الحاكم روى حديثاً من طريق أبي عثمان فقال (الحديث من طريق أبي عثمان هذا ولو كان النهدي لقلت على شرطهما) فدل على أنه يقصد بشرطهما رواتهما.(10/28)
لكن يوجد إشكال على هذا الكلام - وإن كان هو الصحيح والمطابق للواقع - وهو قول الحاكم (وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات احتج بمثلها الشيخان) ولو كان مراده بشرط الشيخين نفس الرواة لقال (احتج بها الشيخان) ولم يقل (بمثلها) لأن مثل الشيء ليس هو الشيء نفسه, لكن الحافظ ابن حجر قال (الحاكم استعمل المثلية في أعم من حقيقتها ومجازها) فهو يستعمل المثلية في مجازها إذا خرَّج لنفس الرواة الذين احتج بهم الشيخان, ويستعمل المثلية في حقيقتها إذا خرَّج الحديث من طريق رواة لم يحتج بهم الشيخان لكنهم في مرتبة من احتج بهم الشيخان فهم مثل من احتج بهم الشيخان, ثم استدل بقصة تشهد لما يقول وقال إن شخصاً رأى مع آخر ثوباً وقال له (اشتر لي مثل هذا الثوب) فاشترى له نفس الثوب - استعمل المثلية بمعناها المجازي لا الحقيقي لأن مثل الشيء غير الشيء - ثم اختصما عند شريح فأمضى البيع وقال (لا شيء أشبه بالشيء من الشيء نفسه) لأنه لما اشترى له نفس الثوب جاءه بأكثر مما يطلب فجاءه بالمطابق تماماً, لأن المثل قد لا يكون مطابق تماماً.
قراءة الإمام في الجهرية دون السرية تجزئ عن المأموم عند جمع من أهل العلم ويميل إليه شيخ الإسلام, وبعضهم يرى أن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه مطلقاً في السرية والجهرية.
حديث ابن عباس في السجود على الأعضاء السبعة: إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أو نهيت) فالآمر والناهي هو الله عز وجل, بينما إذا قال الصحابي (أمرنا أو نهينا) فالآمر والناهي هو النبي عليه الصلاة والسلام يعني من له الأمر والنهي في قول الجمهور, وإن قال بعضهم إنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي غير النبي عليه الصلاة والسلام ممن ولِّي على هذا الناقل.(10/29)
الأنف تابعٌ للجبهة فهما عضو واحد, والأصل الجبهة لأنه قال (على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه), فدل على أن الأنف جزء من عضو, وليس عضواً مستقلاً, لئلا تكون الأعضاء ثمانية, والحديث فيه حصر للأعضاء في سبعة أعضاء.
من سجد على الجبهة دون الأنف: على القول بأنهما عضو واحد والأصل الجبهة والأنف تبع لها يكون كما لو رفع إصبع من أصابع رجليه وبقيت بقية الأصابع, فهذا سجد على القدمين وإن كان أحد الأصابع جزء من العضو, فمنهم من يقول يجزئ السجود على الجبهة دون الأنف, ومنهم من يقول هما عضو واحد لا يتجزأ كما لو سجد على الأنف دون الجبهة, والقول الثالث أن السجود على أيهما يجزئ فلو سجد على الجبهة وحدها أجزأه ولو سجد على الأنف وحده أجزأه, لكن هذا القول ضعيف, وأصح الأقوال أنهما عضو واحد لا يجزئ ولا يغني أحدهما عن الآخر, بل لا بد من السجود عليهما, ومن سجد على أحدهما لم يأت بما أمر به لأنه قال (على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه) فكلاهما مأمور بالسجود عليه.
اليد تطلق ويراد بها ما بين أطراف الأنامل إلى المنكب, وتطلق ويراد بها من أطراف الأنامل إلى المرفق, وتطلق ويراد بها الكف إلى الرسغ أي الراحة مع بطون الأصابع.
الإطلاق الثاني أخرجه النهي عن افتراش الذراعين كافتراش السبع, وعليه فالإطلاق الأول يخرج من باب أولى لأنه أشد, ولم يقل أحد بالسجود على اليدين وإلصاقهما بالأرض من الآباط إلى أطراف الأنامل.
كثير من الناس يسجد على بطون الأصابع فقط ويرفع الراحة, وهذا لم يسجد على يديه بل سجد على أصابعه.(10/30)
بعض الناس يصلي وهو يقرأ في المصحف - وهذا يظهر في سجدة التلاوة وفيها خلاف في كونها صلاة - ويركع ويسجد والمصحف في يده, فبعضهم يسجد وهو ممسك بالمصحف ومدخل أصبعه في المصحف ويسجد على ظهر الكف, وبعضهم يدخل أصبعاً واحداً ويسجد على بقية الكف. فأما من سجد على ظهر الكف فهذا لا يصح سجوده, وأما من رفع أصبعاً وسجد على بقية الكف فيرجى أن يصح سجوده وإن كان قد أخل بالمراد ولم يمتثل الامتثال الكامل لكن أمره أخف, إذا لم يباشر الأرض بأصبع واحدة أو أصبعين مثلاً أو رفعهما في أثناء السجود ثم أعادهما فالأمر سهل, كما لو رفع رجلاً واحدة أثناء السجود ثم أعادها.
ظاهر اللفظ أن الأعظم السبعة تباشر المسجود عليه من غير حائل, لكن دل الدليل على الصلاة بالخف, ودل الدليل على ستر العورة ومنها الركبتان في الصلاة - على خلاف في كونهما من العورة وعلى كل حال إن لم يكونا العورة فسترهما مما لا يتم الواجب إلا به - وبقيت اليدان والوجه فالأصل فيهما المباشرة, لكن إذا دعت الحاجة لوجود حائل لحرارة شديدة مثلاً فلا مانع من السجود على حائل.
إذا رفع الرجلين عن الأرض أو إحداهما في جميع السجود لم يصح سجوده لأنه لم يمتثل الأمر, لكن لو رفع إحداهما لحاجة فالحاجة لها حكمها, على أن يكون الغالب من الوقت عدم الرفع. وإذا كانت الأرض حارة أو غير مريحة ويشق عليه السجود على القدمين ولا يوجد ما يحول وراوح بينهما فلا شك أن ما يخل بالخشوع في الصلاة له حظ من النظر على أن يكون السجود على أطراف القدمين في غالب السجود.
السجود على الحائل المستقر كالفرش لا إشكال فيه عند جماهير أهل العلم, لكن السجود على الحائل المتحرك مع المصلي يكره كراهة شديدة إذا كان لغير حاجة.
كان أحدهم يبسط ثوبه من شدة الحر ثم يسجد عليه, لكنه كان للحاجة. وفي حديث خباب (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا) لكنه محمول على شيء يطاق.(10/31)
حديث عبد الله ابن بحينة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه): عبد الله ابن بحينة هو ابن مالك بن القِشْب وبحينة هذه أمه. وعلى هذا إذا قيل (عبد الله ابن بحينة) فـ(ابن) هذه تحتاج إلى ألف ولو قلنا (عبد الله بنُ مالك ابنُ بحينة) احتجنا إلى الألف كما نقول (عبد الله بنُ أُبَي ابنُ سلول) وإعراب (ابن) كالتالي: الأولى تابعة لما قبلها والثانية ليست بتابعة لما قبلها بل تابعة للذي قبل الذي قبلها, فإذا قلت (هلك عبد الله بنُ أُبَي ابنُ سلول) فـ(ابن) الأولى تابعة لعبد الله فهو وصف أو بيان أو بدل وكل هذا جائز, وكذلك (ابن) الثانية تابعة لعبد الله, لكن لو قلت (عبد الله بنُ عمر بنِ الخطاب) فـ(ابن) الأولى تابعة لعبد الله والثانية تابعة لعمر فهي مجرورة تبعاً له.
الحديث دليل على أن مجافاة العضدين عن الجنبين مشروعة في الصلاة.
والحكمة في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز عن غيره ليؤدي ما أنيط به من عبادة استقلالاً, بخلاف ما لو انضم المصلي بعضه إلى بعض فإن هذه الأعضاء تتداخل.
سبب القول بعدم وجوب المجافاة مع قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) و (كان) تدل على الاستمرار ومع قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي): أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن الصحابة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة من طول السجود فقال (استعينوا بالركب), وقد ترجم له أبو داود بقوله (الرخصة في ترك التفريج).
إذا احتاج إلى الانضمام - بسبب تطويل السجود سواء كان الإنسان يصلي منفرداً أو في جماعة, أو كان به مرض أو كان في صف متراص - وكان من عادته تطبيق السنة في المجافاة لكنه لم يستطع ذلك فإنه يكتب له أجرها لأنه قصد فعل السنة ولم يستطع.(10/32)
الأصل السجود على الأرض, لكن الصلاة على ما يحول بين الإنسان وبين الأرض من الحصير والفُرُش جائزة, لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على الحصير, وفي حديث أنس (فعمدت إلى حصيرٍ لنا قد اسود من طول ما لبس).
حديث البراء بن عازب (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك): لأنك إذا لم ترفع مرفقيك افترشت افتراش السبع. يفهم من الحديث النهي عن الافتراش الذي هو منطوق حديث النهي عن الافتراش. وحديث النهي عن الافتراش يفهم منه رفع المرفقين.
جاء في حديث في المراسيل عند أبي داود عن زيد بن أبي حبيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على امرأتين تصليان فقال (إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل).
والبيهقي يقوي من شأن هذا المرسل ويقول (هذا المرسل أحسن من موصولين فيه) يعني من حديثين موصولين خرجهما البيهقي, ولا يعني كونه أحسن أن يكون حسناً لأن أفعل التفضيل عند أهل الحديث ليست على بابها عند أهل اللغة من كون الشيئين اشتركا في وصف فاق أحدهما الآخر فيه, فإذا قالوا (حديث أبي هريرة أصح من حديث ابن عمر) فإنه لا يلزم منه كون حديث أبي هريرة صحيحاً بل قد يكون ضعيفاً لكنه أقوى من حديث ابن عمر, كما أنهم إذا قالوا (فلان أوثق من فلان) فإن هذا القول لا يعني التوثيق بل قد يكون الرجلان ضعيفان لكن أحدهما أقوى من الآخر وأوثق والعكس. فقول البيهقي المتقدم لا يعني أنه يصحح هذا المرسل.
الحديث المرسل ضعيف, والإرسال عندهم أعم من كون الحديث مرفوعاً من قبل التابعي على ما استقر عند المتأخرين, فالمراسيل تضم ما في أسانيدها خلل من انقطاع سواء كان انقطاعها ظاهراً أو خفياً.
في الصحيح عن أم الدرداء أنها كانت تجلس جِلسة الرجل وكانت فقيهة.(10/33)
عموم النصوص يدل على أن المرأة كلما استترت كان أفضل, فإذا انضمت كان أستر لها, وإذا صح هذا الخبر كان نصاً في الباب لكنه ضعيف, فتبقى النصوص الموجهة للرجال تتناول النساء إلا ما دل الدليل على اختصاصهن به.
ليس في حديث (كان إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) أنه كان يلبس القمص التي لا أكمام لها, بل المعنى أنه لو كان عليه قميص ففرج بين يديه فإن إبطاه يبدوان لو كانا مكشوفين, فلا يلزم من هذا أن يعمد الإنسان إلى القمص التي لا أكمام لها ويقول (هي السنة) محتجاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه.
الرسول عليه الصلاة والسلام يلبس القميص الذي له كم ومرةً ضاق الكم على يده فأخرجها من جيبه من الداخل, ويلبس الإزار الرداء وهنا يتسنى أن يرى بياض إبطيه, ويلبس الحلة المكونة من ثوبين, يلبس هذا تارة وذاك تارة أخرى.
حديث وائل بن حجر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه وإذا سجد ضم أصابعه): حسَّن الهيثمي وغيره إسناده وقال الحاكم (صحيح على شرط مسلم).
يضم أصابعه في السجود لتكون الأصابع متجهة جميعها إلى القبلة.
حديث عائشة (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً): يصلي متربعاً إذا صلى جالساً, فبدلاً من القيام يصلي متربعاً وفي مواضع الافتراش يفترش - في الجلسة بين السجدتين وفي التشهد الأول - وفي مواضع التورك يتورك - في التشهد الأخير - لأن ما يمكن الإتيان به مع العجز عن غيره يؤتى به.
التربع هو البديل عن القيام, ولا يتربع في مواضع الافتراش والتورك, اللهم إلا إذا كان لا يستطيع أن يفترش ولا يستطيع أن يتورك فحينئذٍ يأتي بما يستطيع.(10/34)
بعض العلماء يقول إن الجلسة في الصلاة ولو كانت من معذور فإنه يجلس للقراءة بدلاً من القيام على هيئة ما شرع له من الجلوس في الصلاة, فالصلاة جلوسها واحد, فما دام يفترش بين السجدتين فإنه يفترش إذا جلس للقراءة في ركن القراءة, لكن هذا الحديث وهو صحيح فيه نص صريح في الموضوع, ويبقى الافتراش في موضعه والتورك في موضعه والتربع فيما عدا ذلك.
حديث ابن عباس في الدعاء بين السجدتين: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) وهذا الحديث مصحح عند أهل العلم.
ابن عباس سمع النبي عليه الصلاة والسلام يدعو بذلك, فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر به: الأصل في ذكر هذا الموطن الإسرار إلا إذا اقتضت الحاجة الجهر به أو ببعضه للتعليم أو لتنبيه من وراءه فلا بأس.
حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة: الحديث في الصحيح, وقوله (فإذا كان في وتر من صلاته) يعني بعد الفراغ من الركعة الأولى وبعد الفراغ من الركعة الثالثة.
الأكثر على عدم مشروعية جلسة الاستراحة وأنها مقرونة بالحاجة, وقد جاء ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام احتاج إليها في آخر عمره لما بدَّن كما في بعض الروايات, لكن ليس في الصحيح ما يدل على ذلك, وإنما الذي في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً.
ذهب الإمام الشافعي إلى شرعيتها في قول, وذهب الجمهور إلى عدم مشروعيتها, وإن كان الخلال ذكر عن الإمام أحمد أنه رجع إلى القول بها, وهي ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام من فعله, وجاءت في بعض طرق حديث المسيء وهذه الرواية ذكرها الرافعي, وذكرت أيضاً في بعض طرق حديث أبي حميد, والذي يعنينا أن النبي عليه الصلاة والسلام فعلها وقال (صلوا كما رأيتموني أصلي), وعلى هذا فالسنة الإتيان بها.(10/35)
وأما كونها يؤتى بها عند الحاجة, فهي جلسة لا تفيد عند الحاجة, لأن المصلي إذا سجد وقام مباشرة بلا جلوس فإن هذا أسهل له من كونه يجلس قبل القيام, فهذه الجلسة لا تريح المصلي, بل هي زيادة عبء عليه لا سيما عند الكبر, لأنها ليست جلسة طويلة حتى يتحقق فيها معنى الاستراحة بل هي جلسة قصيرة.
الإتيان بهذه الجلسة سنة ولو لم يفعلها الإمام, فالمسلم مطالب بالاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام. نعم هو مأمور بالاقتداء بالإمام, لكن فيما يشرع وما يفعله الإمام من أمور مشروعة, وعلى هذا لو لم يرفع الإمام يديه في مواطن الرفع لا يقال إنه لا يشرع لعدم رفع الإمام احتجاجاً بكون الإمام إنما جعل ليؤتم به, بل يشرع الرفع لأنه إذا أخل ببعض السنن فإننا لا نخل بها, فإذا لم يجلس الإمام هذه الجلسة - وفي تسميتها بجلسة الاستراحة نظر - فلا يتابع على ذلك لأنه خالف السنة, والعبرة بفعل النبي عليه الصلاة والسلام. ثم إن هذه الجلسة يسيرة لا تخل بمتابعة الإمام.
جاء في بعض الألفاظ في بعض الأحاديث أنه كان لا يفعلها عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام (فكان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً) لكن هذا الحديث ضعفه النووي وجاء في معناه بعض الأحاديث, فإذا ثبتت فإنها تحمل على بيان الجواز وأن فعلها مجرد سنة وتركها جائز.
حديث أنس في القنوت بعد الركوع: هذا القنوت يسميه أهل العلم قنوت النوازل.
أحياء العرب التي دعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام في قنوته هم رِعْل وعُصَيَّة وبنو لحيان. قنت عليهم شهراً ثم ترك القنوت.
النبي عليه الصلاة والسلام أرسل زُهَاء أربعين رجلاً يعرفون بالقراء إلى قوم من المشركين فغدروا بهم وقتلوهم فقنت النبي عليه الصلاة والسلام مدة شهر يدعو عليهم.(10/36)
قنوت النوازل مشروع وهو مربوط بالأمور العامة التي تنزل بالأمة لا ما ينزل بشخصٍ معين. لو مرض عالم كبير من علماء المسلمين فإنه لا يقال للمسلمين اقنتوا للنوازل لكي يرفع الله عنه هذا البلاء لأن هذه ليست نازلة وإن كان أثرها في الأمة ظاهراً لكن يدعى له في ظهر الغيب وفي السجود وفي أوقات الإجابة.
الصحابة لم يقنتوا لما مرض النبي عليه الصلاة والسلام فمثل هذا لا يشرع وإن فعله بعض المجتهدين من أهل الحماس والغيرة الذين يقنتون إذا مرض عالم من العلماء. وهذه وإن كانت نازلة إلا أنها خاصة وليست عامة.
في الحديث أنه قنت بعد الركوع, وجاء عن أنس أن القنوت كان قبل الركوع: ابن القيم وفق بين هذا وهذا فقال إن القنوت الذي قبل الركوع هو طول قيام بالقراءة لأن القنوت في الأصل هو طول القيام كما في قوله تعالى (قوموا لله قانتين) والقنوت الذي بعد الركوع هو طول قيام بالدعاء فلا اضطراب.
هل يحدد قنوت النوازل بالمدة التي ذكرت في الحديث وهي الشهر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت شهراً وهو المشرع وهو القدوة فلا نزيد على ما فعل ولا ننقص عنه, أو يقال إن النازلة تقدر بقدرها على حسب ما يقدره أهل الاجتهاد من علماء المسلمين فقد لا تصل إلى حد الشهر وقد تزيد على الشهر ؟ هذا محل نظر, ولا شك أن النوازل متفاوتة, فمنها ما هو مربوط بمدة ووقت, ومنها ما يطلب كشفه فيستمر إلى أن ينكشف, ومنها ما حصل وانتهى كقتل هؤلاء القراء. والمقصود أن المدة محل للاجتهاد.
عند أحمد والدار قطني نحو حديث أنس من وجه آخر عن أنس - وهذا الوجه ضعيف - وفيه زيادة (وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) وفي الحديث الأول (ثم تركه) فإما أن يقال إنه تركه في بقية الفرائض واستمر في الصبح وإما أن يقال إن رواية (فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) ضعيفة ولا تعارض بها الرواية الصحيحة. و لو صحت لقلنا إن معنى القنوت فيها إطالة القراءة.(10/37)
حديث أنس (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يقنت إلا إذا دعاء لقوم أو دعا على قوم): ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو لقوم مستضعفين بمكة (اللهم انج الوليد بن الوليد) إلى آخر الحديث, والقنوت في هذا الحديث هو ما يسمى بقنوت النوازل.
أهل العلم يعممون النوازل فيما هو أعم مما ورد في هذا الحديث وحملوه على النوازل, وجعلوا العلة الجامعة هي النازلة, فلا يقتصر قنوت النوازل على الدعاء لقوم أو الدعاء على قوم, بل إذا نزل بالمسلمين مصيبة تعمهم دعي بكشفها في الفرائض. لو نزلت بالمسلمين نازلة من وباء أو عدو يحل بساحتهم أو سباع تحيط بهم مما لا يستطيعون دفعه أو هوام أو زلازل أو كوارث فإنهم يقنتون لكشفها وذلك في الفرائض.
استثنى أهل العلم الطاعون فلا يقنت له ولو صار جارفاً لأن الطاعون شهادة والشهادة لا يطلب رفعها.
جاء القنوت في صلاة الصبح وهو أكثر ما جاء, وجاء في بقية الأوقات الخمسة كما في الصحيحين والسنن.
حديث سعد بن طارق الأشجعي: في نسخ البلوغ (سعيد) لكن الصواب في اسمه (سعد), وحديثه هذا صحيح.
قال طارق بن أشيم والد سعد (أي بني محدث) أي مبتدَع لما سأله ابنه عن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين في صلاة الفجر, وسبق أن النبي عليه الصلاة والسلام قنت, وأنس يقول (وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا), وحديث سعد بن طارق أقوى من حديث أنس, فحديث أنس في القنوت في الصبح على وجه الخصوص ضعيف, وهو معارض بما هو أقوى منه أي بحديث سعد بن طارق, ولو صح لأمكن حمله على طول القيام في القراءة, ومعلوم أن الصبح تطول فيها القراءة, وفي حديث عائشة (أول ما فرضت الصلاة ركعتين, فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر إلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة وإلا المغرب فإنها وتر النهار), ومن معاني القنوت طول القيام.(10/38)
الشافعية يرون استمرار شرعية القنوت في صلاة الصبح ويستدلون بحديث أنس (وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا), والجمهور على أن القنوت مربوط بالنوازل.
حديث الحسن فيما يقال في قنوت الوتر: حديث حسن. بعض أهل العلم ذكر أن زيادة (في قنوت الوتر) شاذة, لكنها مصححة عند جمع من أهل العلم يعني محكوم عليها بما حكم به على الحديث وأنها محفوظة.
عند الطبراني في الكبير والبيهقي في الكبرى (ولا يعز من عاديت) وهذه الزيادة مقبولة, لكن زيادة النسائي من وجه آخر وفيها الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الدعاء في الصلاة ضعيفة, ولذا قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار (لا تثبت).
حديث ابن عباس عند البيهقي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) وفيه (اللهم اهدني فيمن هديت) إلى آخره, لكنه ضعيف, في إسناده مجهول. فهذا الدعاء ثبت في قنوت الوتر دون قنوت الفجر.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم السبت الثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الجمعة الثامن عشر من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.
مهمات شرح باب صفة الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الحافظ ابن حجر له أمالي كبيرة جداً خرَّج فيها أحاديث بعض الكتب, ومنها ما سماه (نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار) للنووي, والكتاب لم يكمل.(10/39)
الأحاديث في مسألة البروك: المرجِّح لحديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر هو أن لحديث أبي هريرة شاهداً من حديث ابن عمر, وحديث ابن عمر صححه ابن خزيمة وذكره البخاري معلقاً موقوفاً عليه أنه كان إذا سجد قدم يديه قبل ركبتيه. وأيضاً حديث وائل بن حجر له شاهد, لكن المرجَّح من حيث الصناعة الإسنادية حديث أبي هريرة وله أيضاً شاهد من حديث ابن عمر كما تقدم.
في حديث أبي هريرة قال (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير, وليضع يديه قبل ركبتيه) والبعير يقدم يديه قبل ركبتيه: ابن القيم يرى أن الحديث مقلوب, وأن الأصل (وليضع ركبتيه قبل يديه), وذلك ليتفق آخر الحديث مع أوله, وليتفق أيضاً مع فعله عليه الصلاة والسلام كما في حديث وائل بن حجر الذي جاء فيه تقديم الركبتين على اليدين.
القول بأن الحديث مقلوب لم يقل به أحدٌ غير ابن القيم رحمه الله, والعلماء الذين تتابعوا على رواية حديث أبي هريرة وصرح بعضهم بتصحيحه لا يمكن أن يخفى عليهم ما قاله ابن القيم.
ليزول الإشكال في الحديث ننظر في معنى البروك وكيف يبرك البعير, ولا شك أن البعير يقدم يديه قبل ركبتيه: من طبيعة البعير إذا برك أنه يثير الغبار ويفرق الحصى, فيكون بروكه هو نزوله على الأرض بقوة, فإذا نزل البعير على الأرض بقوة وأثار الغبار وفرق الحصى يقال له (برك), وعلى هذا فمن شابه البعير في نزوله على الأرض بهذه القوة بحيث يثير الغبار ويفرق الحصى فقد برك كما يبرك البعير, لكن بالإمكان أن يضع المصلي يديه قبل ركبتيه مجرد وضع ولا يقال إنه برك كما يبرك البعير لأنه قال (وليضع), لأن هناك فرقاً بين الوضع وبين البروك وبين الطرح والإلقاء, ففرق مثلاً بين وضع المصحف على الأرض مجرد وضع وبين رميه وإلقاءه مع أنه في كلتا الحالتين وصل إلى الأرض, لكن فرق بين الكيفية والكيفية, فالكيفية الأولى لا شيء فيها بخلاف الكيفية الثانية.(10/40)
وضع اليدين قبل الركبتين مجرد وضع يشبه بروك البعير من وجه ويختلف معه من وجه, والمشابهة مع الشيء لا يلزم أن تكون من كل وجه, فتشبيه رؤية الباري برؤية القمر ليست مطابقة من كل وجه, وتشبيه الوحي بصلصلة الجرس ليست مطابقة من كل وجه, بل هو تشبيه من وجه دون وجه وإلا فالوحي محمود والجرس مذموم, ومع ذلك شُبِّه به لأنه يشبهه من وجه ولا يشبهه من وجه آخر.
إذا شابه البعير من الوجه المنهي عنه فقد وقع في المنهي عنه, فإذا نزل على يديه قبل ركبتيه على الأرض بقوة قلنا أشبه البعير, وإذا وضع يديه قبل ركبتيه مجرد وضع فقد امتثل الأمر في الحديث (وليضع يديه قبل ركبتيه) ولم يشبه البعير, لأن الوجه المنهي عن مشابهة البعير هو مشابهته في النزول بقوة.
حديث وائل بن حجر (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه): لو وضع ركبتيه قبل يديه على الأرض بقوة فقد أشبه الحمار, وأما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يضع ركبتيه قبل يديه مجرد وضع كما في الحديث وإن كان فيه ضعف. نحن نريد أن نفر من مشابهة الحيوانات, لأنه إذا قيل لنا (من قدم يديه قبل ركبتيه أشبه البعير) قلنا (من قدم ركبتيه قبل يديه بقوة أشبه الحمار) فالمطلوب هو مجرد الوضع.
إذا أردنا أن نرجح بين حديث أبي هريرة وحديث وائل قلنا إن حديث أبي هريرة أرجح, فيكون المطلوب وضع اليدين قبل الركبتين مجرد وضع.
شيخ الإسلام يقول إن المطلوب الوضع وعدم النزول بقوة على الأرض لا على اليدين ولا على الركبتين, فالمطلوب هو الوضع سواء قدم اليدين أو قدم الركبتين.(10/41)
إذا قدمنا اليدين قبل الركبتين بقوة أشبهنا البعير ووقعنا في المنهي عنه, وإذا وضعنا أيدينا قبل الركب مجرد وضع امتثلنا الأمر (وليضع يديه قبل ركبتيه) فالوضع غير البروك, وإذا أردنا أن نرجح فحديث أبي هريرة أرجح, وإذا أردنا أن نعمل بالحديثين - وهو ممكن على رأي شيخ الإسلام - فالمطلوب مجرد الوضع برفق وطمأنينة وسكون يناسب الصلاة, سواء قدمنا الركبتين أو اليدين لا فرق, فالمطلوب الوضع, فهنا (وضع ركبتيه) وهناك (وليضع يديه) فعلى رأي شيخ الإسلام نكون عملنا بالحديثين.
لا نحتاج إلى القول بأن الحديث مقلوب, كما لا نحتاج إلى القول بما قاله بعضهم من أن ركبتي البعير في يديه لأنه لا ينحل به الإشكال, بل إذا فهمنا ألفاظ الحديث انتهى كل إشكال.
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات كالتفات الثعلب, ونهى عن افتراش كافتراش السبع, ونهى عن إقعاء كإقعاء الكلب, ونهى عن عقبة الشيطان, ونهى عن نقرٍ كنقر الغراب, ونهى عن رفع الأيدي عند السلام كأذناب خيلٍ شُمْس - فتحريك الأيدي عند السلام جاء النهي عنه - وهذه كلها مجموعة في قول الناظم (إذا نحن قمنا في الصلاة فإننا نهينا عن الإتيان فيها بستةٍ بروك بعيرٍ والتفاتٍ كثعلبٍ ونقر غرابٍ في سجود الفريضةِ وإقعاء كلبٍ أو كبسط ذراعه وأذناب خيلٍ عند فعل التحيةِ) وزاد الصنعاني (وزدنا كتدبيح الحمار بمده لعُنْقٍ وتصويب رأسٍ بركعةٍ) وتدبيح الحمار هو تخفيض الرأس, لكن حديث التدبيح ضعيف, ويكفي عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه.
من توصل إلى حكمٍ من الأحكام بنفسه من خلال الأدلة وكانت لديه الأهلية فإنه لا تبرأ ذمته بتقليد أحد, بل لا بد أن ينظر في النصوص بنفسه, إلا إذا ضاق عليه وقت أو ما أشبه ذلك.(10/42)
الحنفية لا تورك عندهم بل كل الجلسات افتراش. والشافعية التورك عندهم يكون في كل تشهد يعقبه سلام, سواء كانت الصلاة ثنائية أو رباعية, وإن كان عليه سجود سهو فإنه لا يتورك سواء كانت الصلاة ثنائية أو رباعية. الحنابلة يرون الافتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الثاني سواء في الثلاثية أو الرباعية. والمالكية يرون التورك في كل تشهد سواء الأول أو الثاني.
كون الإنسان إذا عمل عملاً واطُّلِعَ عليه أُثني عليه بسببه فتلك عاجل بشرى المؤمن, لكن كون هذا الثناء يؤثر في العامل ويبعثه على العمل فهذا هو الرياء.
حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثاً وخمسين وأشار بأصبعه السبابة): يقول الحافظ ابن حجر في تصوير الثلاثة والخمسين (أن يجعل الإبهام مفتوحةً تحت المسبِّحة ويقبض أصابعه كلها).
يقولون (السبابة مرتبطة ومتصلة بنياط القلب, فتحريكها تحريكٌ للقلب) وهذا أمر مستنبط لإيجاد علة ولو كانت عليلة, فبعضهم يحرص على استنباط علة مناسبة للحكم ويبعد النجعة. إذا كانت هذه العلة منصوصة من قبل الشارع فلا بد أن يوجد هذا الارتباط شعرنا به أو لم نشعر, وأما إذا كان مجرد استنباط من الشراح أوغيرهم فإنه يحتاج إلى استقراء.
في رواية لمسلم (وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) وهي السبابة: الإشارة تقتضي التحريك, وفي حديث عند البيهقي وابن خزيمة وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها, وجاء النفي للتحريك في بعض الروايات, ولذا يقول بعضهم (النفي منصب على التحريك المستمر والإشارة الدائمة, والإثبات محمول على التحريك حال الدعاء أو حال الشهادة).(10/43)
قوله (يحركها يدعو بها) نص في أن الإصبع حال الدعاء تحرك, والدليل على الإشارة حال ذكر لفظ الشهادة التي سمي بها الذكر كاملاً وهو التشهد ما أخرجه النسائي والترمذي بسند يثبت بشواهده أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يشير بالأصبعين اليمنى واليسرى فقال له (أحِّد أحِّد), فلم يمنعه من الإشارة وإنما منعه من الإشارة بالأصبعين كليهما, فكونه يُنهَى عن الإشارة بالأصبعين ويُؤمَر بالتوحيد دليل على أنه يشير بإحدى أصبعيه, فهذا دليل على الإشارة وقت النطق بالشهادة, وأيضاً وقت النطق بالأدعية لقوله (يحركها يدعو بها), وما عدا ذلك فإنها لا تحرك لما جاء من عدم التحريك, ولا يستثنى من ذلك إلا ما استثني من الدعاء وما اقترن بلفظ الشهادة.
الأحاديث في التحيات: التشهد جاء على ألفاظ وصيغ يجدر بالمسلم أن يحفظ ما صح منها وأن يستعمل جميع ماورد منها, فاختلافها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.
أكثر أهل العلم رجحوا تشهد ابن مسعود, والشافعي رجح تشهد ابن عباس, والأولى أن تقال كلها ما دامت كلها ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
التحيات جمع تحية وهي بالنسبة لله البقاء والدوام, والصلوات هي الخمس أو جميع الصلوات من فرائض ونوافل, والطيبات ما طاب من الكلم وما حسن من الفعل, وقدم السلام على رسول الله لعظم حقه لأنه بسببه وباتباعه تحصل النجاة للعبد وبمخالفته تحصل الهلكة له, والعبد الصالح هو من يقوم بحق الله وحق عباده.
قوله (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو): اختلف أهل العلم في سؤال شيء من أمور الدنيا وهل يدعى بها في الصلاة أو لا يدعى بها في الصلاة, لكن في الحديث ما يدل على عموم أمور الآخرة وأمور الدنيا.(10/44)
عند النسائي (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد): فيه دليل على أن التشهد فرض في الصلاة, وأما التشهد الأول فهو واجب وليس بركن لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما تركه لم يعد إليه بل جبره بسجود السهو, وليس بمندوب فقط لأنه لو كان مندوباً لما احتيج إلى السجود, وأما التشهد الأخير فيبقى على فرضيته فهو ركن من أركان الصلاة.
لأحمد بإسناد ضعيف (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس): بهذا يستدل على وجوب التشهد, لكن يغني عنه ما قبله لأنه ضعيف.
قال البزار: أصح حديث عندي في التشهد حديث ابن مسعود, يروى عنه من نيِّفٍ وعشرين طريقاً, ولم نعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد أثبت منه ولا أصح إسناداً ولا أثبت رجالاً ولا أشد تضافراً بكثرة الأسانيد والطرق. وقال مسلم: إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً وغيره قد اختلف عنه أصحابه. وقال الإمام محمد بن يحيى الذهلي: هو أصح ما روي في التشهد. فهو من حيث الإساد أصح, لكن من رجح تشهد ابن عباس قال لأنه مشتمل على زيادات. وتشهد ابن مسعود متفق عليه, وتشهد ابن عباس عند مسلم.(10/45)
حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته ولم يحمد الله ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال (عجل هذا) ثم دعاه فقال (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء): مقتضى صنيع المؤلف رحمه الله في وضعه هذا الحديث بين أحاديث التشهد أن هذا الدعاء كان بعد التشهد وأنه خاص بالتشهد, يعني بعد الثناء على الله عز وجل والتمجيد والتشهد والشهادة والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الأربع ثم يتخير من المسألة ما شاء, وإلا فالنص ليس فيه ما يدل على أنه في التشهد, ولا في شيء من طرقه ما يدل على ذلك. وبعضهم يرى أن الحديث عام في الدعاء داخل الصلاة وخارج الصلاة, فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام في أي موضع كان من الصلاة. ومنهم من يرى أن هذا خاص بالدعاء خارج الصلاة وأما في الصلاة فيقتصر فيها على ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام لأنه لم يقل أحد من أهل العلم أنه يثني على الله عز وجل ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في السجود أو بين السجدتين. فهذا إما أن يكون في الصلاة في آخرها كما هو مقتضى صنيع المؤلف, أو يكون في الصلاة التي يراد بها الدعاء بمعناها الأعم كما هو الأصل في الصلاة في اللغة, فقوله (سمع رجلاً يدعو في صلاته) أي يدعو في دعائه, فالصلاة هنا بمعناها الأعم الذي هو مطلق الدعاء.(10/46)
قوله (إذا صلى أحدكم): الذي يظهر والله أعلم أن المراد بالصلاة هنا مطلق الدعاء, فقوله (إذا صلى أحدكم) أي إذا دعا أحدكم, لأننا لو قلنا إن المراد به الصلاة الشرعية المعروفة فسوف يبدأ بالتحميد قطعاً بقراءة الفاتحة, وأما في التشهد كما هو مقتضى صنيع المؤلف فليس في التشهد حمد, اللهم إلا إذا كان المعنى (إذا أراد أن يتخير من المسألة ما شاء بعد الاستعاذة بالله من الأربع فإنه يبدأ قبل ذلك بحمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام) لكن هذا فيه بعد, لأن الاستعاذة بالله من الأربع دعاء فلتُبدأ بذلك, والدعاء في السجود دعاء فليُبدأ بذلك, والدعاء بين السجدتين دعاء فليُبدأ بذلك, ولم يقل بهذا أحد من أهل العلم, إذاً تحمل الصلاة هنا على مطلق الدعاء, وحينئذ يبدأ بتحميد ربه والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبهذا يقول بعض أهل العلم في دعاء القنوت, يبدأ بتحميد الله والثناء عليه والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وهو داخل الصلاة لأنه في حكم الدعاء المطلق يُدعَى فيه بما شاء ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم أو اعتداء.
الجمهور على أن الحمد هو الثناء, والصحيح الذي حققه ابن القيم أن الثناء غير الحمد لحديث (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين, فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين, قال الله عز وجل: حمدني عبدي, وإذا قال: الرحمن الرحيم, قال: أثنى علي عبدي) وهنا يقول (فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه) والأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة.
حديث فضالة بن عبيد مصحح عند جمع من أهل العلم, وهو صحيح.
حديث أبي مسعود في الصلاة الإبراهيمية: أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري, نزل بدراً فنسب إليها, ولم يشهد الواقعة في قول الأكثر, وإن عده البخاري ممن شهد بدراً لكن الجمهور على أنه لم يشهد بدراً.(10/47)
قوله (أمرنا الله أن نصلي عليك): يعني في قوله جل وعلا في سورة الأحزاب (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً), ومقتضى الأمر في الآية لا يخص الصلاة بل هو مطلق, غير مقيد بزمان ولا مكان ولا حال, بل كلما ذُكِر فإنه يُصلَّى عليه صلى الله عليه وسلم, ويصلى عليه في مواطن جاءت الأدلة بها منها الصلاة. والحديث خاص بالصلاة, ولذا أردف المؤلف رواية مسلم برواية ابن خزيمة (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا), ولذا جاء تفسير الأمر بما يخص الصلاة, جاء تفسيره بالصلاة الإبراهيمية المعروفة.
لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم (فكيف نصلي عليك) سكت: إما أن يكون ينتظر الوحي لكي يجيب على السؤال, وإما أن يكون في ذلك تربية لمن يتولى إفتاء الناس ألا يستعجل في الجواب.
في الحديث (ثم قال قولوا): هل يقال إن امتثال الأمر في الآية لا يتم إلا بهذه الصيغة المذكورة في الحديث بحيث يجب قولها داخل الصلاة وخارجها أو يقال إن قوله هنا (قولوا) خاص بالصلاة بمعنى أن هذه الصيغة لا تجب إلا في الصلاة؟
مقتضى صنيع المؤلف رحمه الله تعالى في وضعه هذا الحديث في هذا المكان أنه خاص بالصلاة, بمعنى أن الحديث فيه تفسير أو تبيين للنص العام ببعض أفراده, لأن هذه الصيغة فرد من أفراد الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وهو خاص بالصلاة, هل يعني هذا أن النص العام يقصر عليه؟ لا, بل ما جاء في الصلاة الإبراهيمية إنما هو فرد من أفراد الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب, ولذا يتم امتثال الأمر في الآية بإطلاقه – يعني خارج الصلاة في غير هذا الموضع - بقولنا (صلى الله عليه وسلم) وحينئذ نكون قد امتثلنا ما أمرنا به في الآية.(10/48)
لكن في الصلاة لا بد من الإتيان بالصلاة الإبراهيمية ولا بد من الصلاة على آل محمد, والأمر المقيد في الصلاة لا يتم إلا بذكر الآل, وأما خارج الصلاة فلا تلزم الصلاة على الآل لأن امتثال الأمر في الآية خارج الصلاة يتم بقولنا (صلى الله عليه وسلم), لكن إذا زدنا آل محمد لما لهم من حق ولأنهم وصية النبي عليه الصلاة والسلام فهذا طيب, والمقصود أن امتثال الأمر يتم بدون ذلك. وإذا زدنا آل الرسول عليه الصلاة والسلام خارج الصلاة فإننا نزيد صحابته لما لهم علينا من فضل ومنة وعن طريقهم وصلنا الدين. ولما صار الاقتصار على الآل خارج الصلاة شعاراً لبعض المبتدعة ولما صار الاقتصار على الصحب صار شعاراً لمبتدعة آخرين فالذي ينبغي الجمع بينهما أو تركهما.(10/49)
يقول بعضهم أن الصلاة على الآل خارج الصلاة واجبة كالصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام بحجة أنه لا يمكن امتثال بعض الأمر دون بعض, لأن الأمر المطلق جاء في الآية وامتثاله لا يتم إلا بتطبيق ما أمرنا به. لكن ماذا يقولون عن صنيع الأئمة من عصر السلف إلى يومنا هذا, فكتب السنة مملوءة بالصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يأتِ في موضع قول (وآله عليه الصلاة والسلام)؟ يقولون: الأئمة رووا هذا الحديث وصححوه وتركوا الصلاة على الآل وتواطؤوا على ذلك تقية, لأن الخلفاء من بني أمية كان يُخشَى شرهم من قبل من يصلي على الآل. لكن يقال: الأئمة المصنفون كلهم في عصر بني العباس وهم من الآل فلماذا ترك الأئمة الصلاة على الآل مع أن بني العباس من الآل؟ اتهام علماء الإسلام بذلك أمر ليس بالسهل. التآليف كلها كانت في عهد بني العباس, وفي عهد بني أمية لم يؤلف شيء إلا الجمع العام للأحاديث الذي صار على يد الزهري. واتهام علماء الإسلام بذلك لا يمكن أن يقوله شخص منصف, ويمكن أن يقوله شخص تأثر ببيئةٍ ما, فالصنعاني تأثر ببيئة الزيدية ويقول هذا الكلام ويرمي علماء الإسلام كلهم لأجل هذه البيئة التي عاش فيها, وليس هذا من باب تقليل شأن الآل وإنما هو من باب إحقاق الحق وإنصاف جميع الأطراف.(10/50)
ليس المراد تقرير أنه لا يصلى على الآل, بل الآل هم وصية النبي عليه الصلاة والسلام فنصلي عليهم ولهم علينا حق ومن حقه عليه الصلاة والسلام علينا أن نصلي عليهم, لكن أيضاً صحابته الكرام بواسطتهم وصلنا الدين فلنصل عليهم مع الآل, فنقول (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) فنكون قد جمعنا بين جميع من لهم علينا حق وخالفنا طوائف المبتدعة, وهذا خارج الصلاة. وأما داخل الصلاة فلا يجوز أن تزيد (صحبه), وإذا زدنا (وصحبه) تكون قد ابتدعنا, وإذا حذفنا الآل داخل الصلاة لم نمتثل الأمر, لأنه قال في الحديث (قولوا الله صل على آل محمد وعلى آل محمد كما صليت ...).
قوله (والسلام كما عُلِّمتم): أو (كما عَلِمتم) ضبطت بهذا وهذا, وكانوا يقولون قبل ذلك (السلام على الله من عباده) فنهوا عن ذلك وعُلِّموا كيف يسلمون فيقولون (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
زيادة ابن خزيمة (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا): هذه الصيغة خاصة بالصلاة, وهي فرد من أفراد الأمر العام في الآية, ولا يعني أننا نقول إن امتثال الأمر في الآية لا يتم إلا بهذه الصيغة, لم يقل بهذا أحد من أهل العلم, ولذا رواية ابن خزيمة معتبرة في تخصيص هذه الصيغة بالصلاة.
مثال يوضح المقام: النبي عليه الصلاة والسلام قال (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) وفسر رياض الجنة بأنها حلق الذكر, فهل نقول إن حلق الذكر هي رياض الجنة فقط؟ أو أن رياض الجنة هي حلق الذكر فقط؟ أو ما جاءت النصوص بوصفه روضة من رياض الجنة فإننا نرتع فيه وحلق الذكر فرد من أفراده وعلى هذا إذا مررنا بالروضة التي بين البيت والمنبر فهل نقول (ارتعوا) لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) وحلق الذكر فرد من أفراد رياض الجنة وليست بجميع رياض الجنة؟(10/51)
الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام جاء الأمر بها وهي واجبة وإن قال بعضهم بسنيتها, وهي عند الحنابلة بهذه الصيغة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا بها, وغير الحنابلة منهم من يرى أنها واجبة ومنهم من يرى أنها مستحبة, لكن الأمر بها ثابت في قوله (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...) والأصل في الأمر الوجوب.
حديث أبي هريرة في الاستعاذة من الأربع عقب التشهد: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ) يراد بالفعل الماضي هنا المعنى الأصلي للفعل الماضي وهو الفراغ من الفعل, فالاستعاذة تكون بعد الفراغ من التشهد. وفي رواية لمسلم (إذا فرغ أحدكم من التشهد) وحينئذ يكون هذا في نهاية الصلاة.
اللام في قوله (فليستعذ) لام الأمر والأصل في الأمر الوجوب, وقال بوجوب ذلك طائفة من أهل العلم, حتى إن طاووساً رحمه الله أمر ابنه أن يعيد الصلاة لما نسي هذه الأربع وهذا في صحيح مسلم, وبعضهم يقول هي واجبة كغيرها من الواجبات فلا تعاد الصلاة من أجلها بل تجبر, والأكثر على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع سنة, لكن الأصل في الأمر الوجوب.
يقول المؤلف بعد إيراده حديث الأمر بالاستعاذة (متفق عليه) والمتفق عليه إنما هو من فعله عليه الصلاة والسلام (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تشهد قال: أعوذ بالله ...) وأما الأمر بالاستعاذة من هذه الأربع فهو من أفراد مسلم وليس بمتفق عليه.
حديث أبي بكر (يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي, قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) الحديث: في رواية (كبيراً), فيقول هذا أحياناً وذاك أحياناً ولا يجمع بينهما, لأن المقول إما هذا وإما ذاك. وفي هذا الدعاء اعتراف بالخطيئة وهو سبب من أسباب العفو والتجاوز.(10/52)
أهل العلم يقولون إن من آداب الدعاء أن يُعَقَّب الدعاء من الأسماء الحسنى بما يناسب الحال كما في الحديث الذي معنا حيث عقب الدعاء بقوله (إنك أنت الغفور الرحيم) وهو المناسب لطلب المغفرة قبل ذلك.
في آخر سورة المائدة (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم): تعقب هذا التذييل أمرين (إن تعذبهم فإنهم عبادك) و (وإن تغفر لهم) والله سبحانه وتعالى من أسمائه العزيز الحكيم وهو مناسب للشق الأول, لكن الإشكال في مثل قوله تعالى (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا فاغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم)؟ يقال: الأولى أن يؤتى من الأسماء بما يناسب الحال وهذا هو الأصل, وأما ما جاء على خلاف ذلك فهو دليل على الجواز.
حديث وائل بن حجر في التسليم: إسناده صحيح, والذي في السنن أنه يسلم عن يمينه (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وعن شماله (السلام عليكم ورحمة الله) بدون (وبركاته), فزيادة (وبركاته) في التسليمة الثانية ليست في السنن, وجل من روى السلام عن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكروا هذه الزيادة لا في التسليمة الأولى ولا في التسليمة الثانية, لكنها ثبتت من حديث وائل بن حجر, فمقتضى صنيع من يقبل زيادة الثقة مطلقاً يقول (زيادة من ثقة فهي مقبولة), ويطلق ذلك البيهقي والحاكم وابن عبد البر وجمع من أهل العلم وعليه جرى المتأخرون, أنهم يقبلون زيادة الثقة إذا لم تكن معارَضة, وهنا هي زائدة وليست معارَضة, لكن صنيع الأئمة أنهم لا يطردون قبول الزيادة ولا نفي الزيادة, بل قد يقبلون الزيادة ويرون أنها محفوظة, وقد يردونها ويحكمون عليها بالشذوذ تبعاً للقرائن ولو لم تكن مخالِفة, فيردون هذه الزيادة إذا دلت القرائن على أن الراوي لم يحفظ هذه الزيادة وإن كان ثقة.
لا مانع أن يتمرن طالب العلم المبتدئ على القواعد المطردة عند المتأخرين, لكن لا يعمل ولا يفتي بناءً عليها.(10/53)
لو زاد (وبركاته) أحياناً في التسليمة الأولى إحياءً لهذه السنة فحسن لأنها ثابتة بالإسناد الصحيح, والترك هو الغالب لأن أكثر الرواة على عدم ذكرها, وأما زيادتها في التسليمة الثانية فلا.
الجمهور على وجوب السلام, وقال بعضهم إنه ركن لا تتم الصلاة إلا به لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه عن يمينه وعن شماله وقوله (صلوا كما رأيتموني أصلي), وعند الحنفية السلام ليس بواجب ولا ركن بل تتم الصلاة بدونه وهو مجرد علامة على انقضاء الصلاة.
من يوجب السلام يقول أكثرهم - وهو قول الشافعية والمالكية - إن الواجب التسليمة الأولى فقط وأما الثانية فهي سنة. والتسليمتان ركن من أركان الصلاة عند الحنابلة.
الصواب أن السلام ركن من أركان الصلاة لأن النبي عليه الصلاة والسلام داوم عليه وقال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم).
ما يروى من حديث ابن عمر (أنه إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل التسليم فقد تمت صلاته) حديث ضعيف باتفاق الحفاظ.
كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلم المسيء التسليم لا يعني عدم الوجوب, لأنه زيد على ما جاء في حديث المسيء واجبات غير السلام, وبعضهم يستدل على عدم الوجوب بقوله جلا وعلا (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) وليس فيه سلام, لكن نقول: وليس فيه أيضاً قيام ولا قراءة ولا غير ذلك من أركان الصلاة وواجباتها, فلا يعني أنه ليس بواجب.
حديث المغيرة في أذكار دبر الصلاة: دبر الشيء عقبه وآخره, والدبر يحتمل أن يكون جزءٌ من الشيء في آخره, ويحتمل أن يكون عقبه منفصلاً عنه, وجاءت بعض النصوص بهذا وجاءت بعض النصوص بذاك. والمراد بالدبر هنا هو ما بعد الفراغ من الصلاة, فيقول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) بعد الفراغ من الصلاة, وفي بعض روايات البخاري (ثلاثاً) وفي بعضها مرة واحدة.(10/54)
قوله (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) وفي بعض الروايات عند عبد بن حميد وغيره (ولا راد لما قضيت) وهي صحيحة, ويقول بعد ذلك (ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
قوله (ولا راد لما قضيت): ما قضاه الله جل وعلا وكتبه على الإنسان لا بد أن يحصل, وقد يكون المكتوب معلقاً بأسباب وجوداً وعدماً, فيكون وجوده مرتبطاً بسبب إن وجد وإلا فلا, لكن الأصل أنه لا راد لما قضى الله جل وعلا, والسبب مما قضاه الله جل وعلا, قال تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت) وفي الحديث (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) فينسأ له في أثره المكتوب الذي هو بأيدي وعلى علم الملائكة, وأما ما في علم الله جل وعلا فإنه لا يتغير, فالله سبحانه وتعالى كتب له هذا العمر, وكتب له هذا السبب, ويبقى أن الله جل وعلا يمحو ما يشاء ويثبت, يعني مما في علم الملائكة وأما ما في علمه جل وعلا فإنه لا يتغير.
حديث سعد بن أبي وقاص (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر): سعد بن أبي وقاص أحد العشرة وممن اعتزل الفتن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة الاحتجاج بالحديث في قواعد العربية مسألة خلافية, وسبب الخلاف تجويز الجمهور للرواية بالمعنى.
في الحديث (خيركم من طال عمره) لكن بالقيد الآتي (وحسن عمله), ولا يتصور ممن رد إلى أرذل العمر أن يحسن عمله, ولذا جاءت الاستعاذة من ذلك.(10/55)
حديث ثوبان (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر, وجاء تفسير ذلك بأنه يقول (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم), وأما الاستغفار الوارد في هذا الحديث فقد فسره الأوزاعي أحد رواة الحديث بقوله (يقول: استغفر الله استغفر الله استغفر الله) يكررها ثلاث مرات.
قوله (انصرف) يعني (سلَّم), وليس المعنى قام من مكانه وخرج, وإن قال بعضهم إن المراد بالانصراف الانصراف من جهة القبلة لأن الإنسان لا ينصرف حتى ينصرف الإمام عن قبلته, وهو محتمل.
حديث أبي هريرة في التسبيح والتحميد والتكبير دبر الصلاة: هذا يكون بعد الفراغ من الصلاة إجماعاً.
صفة ذلك: سبحان الله سبحان الله سبحان الله ..... ثلاثاً وثلاثين, الحمد لله الحمد لله الحمد لله .... ثلاثاً وثلاثين, الله أكبر الله أكبر الله أكبر .... ثلاثاً وثلاثين, لا إله الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
لو زاد على القدر المحدد في الحديث من باب الاحتياط ولكي يجزم بأنه قال العدد المطلوب فهل يتحقق له الجزاء المذكور في الحديث, وهكذا في بقية الأذكار التي جاءت محددة بعدد: من أهل العلم من يقول إن الزيادة على القدر المشروع تدخل في حيز البدعة, لأن العدد هذا شرع فلا يجوز أن نتعداه, والجزاء يترتب على العدد بالتحديد ولا تجوز الزيادة عليه, ومنهم من يقول لا بأس بالزيادة كما جاء في الحديث (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة, لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال ، أو زاد عليه) فدل على أن الزيادة لا بأس بها, لأنها زيادة تمجيد وزيادة تحميد وزيادة تسبيح.(10/56)
ولا شك أن التقيد بالنص وما جاء فيه من عدد أولى, وإذا أردت أن تزيد فاذكر أذكاراً مطلقة, وكان أبو هريرة يسبح اثنا عشر ألف تسبيحة لأنه ذكر مطلق والله يقول (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) بلا حد, لكن الكلام إنما هو على ما رتب عليه من أجر, هل يحصل إذا زاد أو لا يحصل؟ مسألة خلافية بين أهل العلم, والأكثر على أن الأجر يرتب على من تقيد بهذا العدد ولو لم يستحضر المعاني, وأما استحضار المعاني والتأثر بها ومعرفة هذه المعاني فإن أجورها قدر زائد على ذلك, لأن الأجر مرتب على (من سبح) وهذا سبح ويصدق عليه أنه سبح, كما أن من قرأ القرآن له بكل حرف عشر حسنات ولو لم يتدبر, له أجر الحروف, لكن يبقى أجر التدبر قدر زائد على ذلك, وفضل الله واسع.
النقص لا إشكال في كونه لا يترتب عليه الجزاء, لأنه لا يصدق عليه أنه جاء بالعدد ليثبت له الجزاء المرتب عليه.
الجزاء والوعد على هذا الفعل: (غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والجمهور على أن المراد بالخطايا هنا الصغائر, وأما الكبائر فلا بد لها من توبة, ومثل هذا (الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).
قد يقول قائل إن الصغائر مكفرة بغير هذا, فهي مكفرة باجتناب الكبائر وبالصلاة وبالعمرة إلى العمرة وبرمضان وبالجمعة, لكن يقال: ومع ذلك أنت بحاجة إلى المزيد من المكفرات.
في بعض الروايات (له الملك وله الحمد يحيي ويميت) وفي بعضها (حي لا يموت بيده الخير).
قوله (وإن كانت مثل زبد البحر): يعني في كثرتها.
قوله (وفي رواية أخرى): مقتضى صنيع المؤلف أنها عن أبي هريرة, لأنه إذا اختلف الصحابي فلا بد من التنصيص عليه, وليست هذه من رواية أبي هريرة وإنما هي من رواية كعب بن عجرة (أن التكبير أربع وثلاثون), وهكذا جاء أن التكبير أربع وثلاثون في حديث فاطمة (إذا أويتما إلى فراشكما ..) الحديث.(10/57)
أحياناً يكون التكبير أربع وثلاثون وأحياناً تكمل المائة بـ(لا إله إلا الله ....), وجاء أيضاً أن التسبيح خمس وعشرون والتحميد كذلك والتكبير كذلك و (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير) كذلك, وجاء عشراً عشراً, وهذا من اختلاف التنوع, فالإنسان يقول هذا أحياناً ويقول هذا أحياناً, وإن كان الأكثر ما جاء هنا (التسبيح ثلاث وثلاثون والتحميد كذلك والتكبير كذلك والتهليل يكون تمام المائة).
ويستوي في ذلك أن يفرد كل جملة وبين أن يجمع بين هذه الجمل. سواء قال (سبحان الله سبحان الله ... ثلاثاً وثلاثين ..) أو قال (سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين ..) فالمقصود أن المجموع تحصل مائة.
حديث معاذ بن جبل في قول (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) دبر الصلاة: قال عليه الصلاة والسلام (أوصيك يا معاذ) وفي رواية (إني أحبك) فقال معاذ (وأنا أحبك), وتسلسل الخبر بقول كل راوٍ من رواته (إني أحبك, لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني ...).
قوله (لا تدعن): (لا) ناهية, أي لا تتركن هذا الذكر دبر كل صلاة. وهذا يحتمل أن يكون في آخر الشيء متصلاً به, ويحتمل أن يكون منفصلاً عنه, وإن كان شيخ الإسلام يقرر أن الأذكار تكون بعد الصلاة, والدعاء يكون في آخرها متصلاً بها, لكنه غير مطرد, لأنه جاء في بعض الأدعية أنها تقال بعد الفراغ من الصلاة (إذا انصرف من صلاته قال رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) والصلاة أيضاً مشتملة على أذكار, فليست هذه القاعدة مطردة.
قوله (لا تدعن دبر كل صلاة): (كل) من صيغ العموم, فيشمل الفريضة والنافلة العامة والخاصة, وصلاة الجنازة صلاة فلا يمنع أن تدخل في هذا النص, وصلاة الاستسقاء صلاة, وكذلك صلاة العيد وصلاة الكسوف, وكذا الرواتب والنوافل المطلقة تدخل في هذا الحديث, والفرائض من باب أولى.(10/58)
قوله (وحسن عبادتك) يعني الإتيان بها على وجه حسن على وفق مراد الله جل وعلا, لأن العبادة إذا جيء بها على مراد الله ترتبت عليها آثارها, لكن لو نُقص منها ما نُقص نقص أجرها بقدر ما نُقص منها مما لا يخل بأصلها وصحتها.
الصلاة والسلام على الصحابة على جهة الاستقلال فيها خلاف, ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال (اللهم صل على آل أبي أوفى), لكن العرف عند أهل العلم تخصيص الصلاة بالنبي عليه الصلاة والسلام, والصحابة يترضون عنهم, ويترحمون على من بعدهم, فلا يصلى على غير النبي عليه الصلاة والسلام, ولا يقال للنبي عليه الصلاة والسلام (عز وجل) وإن كان عزيزاً جليلاً, بل العرف خص ذلك بالله جل وعلا.
تخصيص علي رضي الله عنه بالصلاة أو بالسلام كما يوجد في بعض الكتب (عليه السلام) دون غيره من خيار هذه الأمة لا ينبغي, فإذا قلنا بجواز الصلاة على غير النبي عليه الصلاة والسلام فأولى بها قبل علي من هو أفضل من علي رضي الله عن الجميع. فلا ينبغي تخصيص علي رضي الله عنه بشيء إلا بشيء خصه به النبي عليه الصلاة والسلام.
قول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أحد يقول إنه بدعة, وإن كان شعاراً لبعض المبتدعة, بمعنى أنهم لا يصلون على الصحب, كما أن الصلاة على الصحب شعار لمبتدعة آخرين.
جاء الجمع بين إبراهيم وآله, وجاء أيضاً إفراد الآل, وإذا أفردوا دخل فيهم إبراهيم, لأن آل الشخص أول من يدخل فيهم دخولاً أولياً الشخص نفسه, كما قال الله جل وعلا (ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).
الهادوية فرقة من فرق الزيدية وهم في وقت الصنعاني غالب سكان اليمن كما نص على ذلك في سبل السلام, لكن كأن نسبتهم قلت, وزادت نسبة أهل السنة من الشافعية وغيرهم.
ما جاء فيه التعميم دبر كل صلاة يشمل النافلة والفريضة, وإلا فالأصل أن الأذكار المذكورة هنا تكون بعد الفريضة.(10/59)
الأصل أن مناظرة أهل الباطل لدعوتهم طريقة شرعية, ولها أصل شرعي, فقد جاءت في القرآن. لكن إعلان هذه المناظرات وكون هذه المناظرات يطلع عليها من يستوعب ومن لا يستوعب فهذا خطأ, لأن هذه المناظرات لا بد أن يكون فيها شيء من الشبه, وقد تقصر حجة المناظر عن إزالة هذه الشبه, فتقع موقعها من قلوب بعض العامة وحينئذ يصعب اجتثاثها, وقد يستوعب الشبهة لا يستوعب الرد فيحصل بذلك ضرر على عوام المسلمين, فينبغي ألا تلقى هذه المناظرات على عوام المسلمين. لكن من تأهل وكان يستوعب فلا بأس أن يحضر ويناقش.
ابن حزم نقل الإجماع على أن من تعمد تأخير صلاة واحدة عن وقتها أنه لا يقضيها لأنه يكفر, وإن كان طرفٌ آخر نقلوا الإجماع عن أهل العلم لا سيما الأئمة الأربعة على أنه يقضي ولا يكفر بذلك لكن خطره عظيم.
حديث أبي أمامة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة: أبو أمامة هذا هو غير الباهلي, وأبو أمامة الباهلي هو صُدَي بن عجلان وإذا أريد قيل الباهلي, وإذا أطلق فالمراد به الذي هنا وهو أنصاري خزرجي اسمه إياس بن ثعلبة.
الحديث دل على أن قراءة آية الكرسي لا تشرع بعد النوافل لقوله (دبر كل صلاة مكتوبة).
قوله (لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت): فإذا مات يأتيه من مقدمات الدخول في قبره ما يستحق أن يسمى دخولاً, فيفسح له في قبره مد بصره ويكون قبره عليه روضة من رياض الجنة. ولا يقال إنه يدخل الجنة بمجرد أن يموت ولا يمر بالبرزخ, بل هناك حياة برزخية مكانها القبر. فهنا سمى مقدمات الدخول دخولاً, كما أن مقدمات الفتح فتح, فصلح الحديبية باعتباره مقدماً لفتح مكة سمي فتحاً ونزلت فيه سورة الفتح.
المواظبة على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة سبب من أسباب دخول الجنة, والسبب قد تترتب عليه آثاره فيحصل المسبَّب وقد يتخلف الأثر لوجود مانع من دخول الجنة.(10/60)
حديث أبي أمامة صحيح مخرج عند النسائي في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة وعزاه المنذري إلى ابن حبان وغيره من أهل العلم.
زاد الطبراني (وقل هو الله أحد), فعلينا أن نداوم على قراءة آية الكرسي وقل هو الله أحد والمعوذتين وجاء فيها النص الصحيح أيضاً.
حديث مالك بن الحويرث (صلوا كما رأيتموني أصلي): فعله عليه الصلاة والسلام الذي داوم عليه بياناً لما أوجبه الله يدل على الوجوب لأنه بيان للواجب, أخذاً بعموم هذا الحديث, وما تركه أحياناً وفعله أحياناً يدل على الاستحباب وجواز الترك.
جلسة الاستراحة لم يداوم عليها النبي عليه الصلاة والسلام بدليل أن أكثر من نقل صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكرها, ونقلها مالك بن الحويرث فدل على أنه فعلها على جهة الاستحباب, والترك إنما هو لبيان الجواز, وجاءت أيضاً في بعض طرق المسيء وفي بعض طرق حديث أبي حميد, ولا يقال إنها تفعل عند الحاجة, بل هي تترك عند الحاجة لأنها زيادة عبء وليست استراحة, فليست طويلة بحيث يطمئن فيها الإنسان ويرتاح, فكون النبي عليه الصلاة والسلام يفعلها في آخر عمره مع حاجته إلى الراحة وليس فيها راحة يدل على أنها سنة, وكونها تترك لبيان الجواز لا يعني أنها غير مشروعة.
في الوضوء قال (من توضأ نحو وضوئي هذا) وفي الصلاة (صلوا كما رأيتموني أصلي): الظاهر من التشبيه هنا المطابقة بين المشبَّه والمشبَّه به, وهناك التقريب يعني توضأوا قريباً من وضوئي لأنه لا يمكن محاكاة النبي عليه الصلاة والسلام في وضوئه من كل وجه, ويمكن أن يقال هنا في الصلاة إنه لا يمكن أن يصلي المسلم - مهما بلغ من التحري لأفعاله عليه الصلاة والسلام والاقتداء به - كما يصلي مطابقة مائة بالمائة, لكن على المسلم أن يحرص أشد الحرص أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في صلاته وفي وضوئه وفي عباداته كلها.(10/61)
حديث عمران بن حصين (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب): هذا الذي في الصحيح, وفي البلوغ زيادة (وإلا فأوم) فتبقى كما هي ودور المحقق أن يعلق عليها. على أن الحافظ لم ينسب الحديث إلى مصدر ولم يخرج الحديث.
إطلاق الحديث يشمل جميع الصلوات.
قوله (فعلى جنب): على الجنب الأيمن مستقبلاً القبلة بالوجه.
الحديث يدل على عدم صحة الصلاة من قعود لأنه علق الصلاة من قعود على عدم استطاعة القيام فدل على أن القائم لا تصح منه الصلاة قائماً, وحديث (صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم) يدل على أن الصلاة صحيحة من قعود وإن كان مستطيعاً القيام لكن ليس له من الأجر إلا النصف, وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي من قعود كما في الركعتين اللتين بعد الوتر, وإذا أراد إطالة القيام قرأ وهو جالس ثم قام فركع, فدل على صحة صلاة القاعد لكن أجره على النصف, فكيف الجمع؟ يقال: لزوم القيام وكونه ركن من أركان الصلاة إنما هو في الفريضة دون النافلة, وصحة الصلاة من القاعد على النصف محمول على النفل.(10/62)
الحديث الأول بعمومه يشمل النفل والفرض, والحديث الثاني بعمومه يشمل الفرض والنفل, لكن سبب ورود الحديث الثاني - وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد والمدينة محمة فوجدهم يصلون من قعود فقال (صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم) فتجشم الناس الصلاة قياماً - يدل على أنهم كانوا يصلون نافلة لأنهم لا يصلون الفريضة قبل حضوره عليه الصلاة والسلام ويأتمون به, والحديث الثاني محمول على مستطيع القيام لأنهم حينما تجشموا القيام قاموا, فدل على أنهم كانوا مستطيعين القيام, أما الذي لا يستطيع القيام فأجره كامل سواء كان في الفريضة أو في النافلة, فسبب الورود يدل على أن الحديث الثاني في النافلة لمستطيع القيام, فالصارف والمخصص للحديث الثاني هو سبب الورود, والمقرر عند أهل العلم أن العبرة بعموم لا بخصوص السبب, بل نقلوا على ذلك الإجماع وإن خالف نفر يسير من أهل العلم, لكن كيف لجأنا إلى السبب وخصصنا الحديث به؟ الجواب: لدفع التعارض الظاهر بين الحديثين, وأهل العلم يسلكون مثل هذا كثيراً من أجل دفع التعارض بين النصوص.
قوله (فإن لم تستطع فقاعداً): من أركان الصلاة ما يؤدى حال القيام ومنها ما يؤدى حال القعود, وبعض الناس يستطيع القعود ولا يستطيع القيام, وبعض الناس بالعكس يستطيع أن يصلي قائماً ولا يستطيع أن يصلي قاعداً, فهذا في موضع القيام يقوم لأنه مستطيع للقيام, وفي موضع القعود يصلي على جنب لأنه غير مستطيع للقعود, والبديل عن القعود هو الصلاة على الجنب.
كيفية القعود: القعود يشمل جميع الهيئات الافتراش والتورك والتربع, ولذا يجوز عند أهل العلم لمن لا يستطيع القيام أن يفترش وأن يتورك وأن يتربع, لكن يختلفون في الأفضل, والأكثر على أنه يتربع في القعود البديل عن القيام.(10/63)
قوله (فإن لم تستطع فعلى جنب): إذا لم يستطع القيام ولا القعود فإنه يصلي على جنبه الأيمن, وإذا لم يستطع الصلاة على جنبه الأيمن وكان جنبه الأيسر سليماً وظهره سليماً قالوا إنه يصلي مستلقياً ورجلاه إلى القبلة بحيث يرفع الرأس ويستقبل به القبلة.
إن لم يستطع الصلاة لا من قيام ولا من قعود ولا مضطجعاً: من أهل العلم من يقول تسقط عنه الصلاة وما وراء الاضطجاع غير مشروع, ومنهم من يقول يومئ إيماءً, فإن استطاع أن يومئ برأسه أومأ برأسه وإلا فببصره أو ما يمكنه الإيماء به, ومنهم من يقول يُمِرُّ القرآن والأذكار على لسانه وقلبه ويسقط عنه ما عدا ذلك مما لا يستطيعه.
مقتضى عموم قوله عليه الصلاة والسلام (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أن الصلاة لا تسقط ما دام مناط التكليف وهو العقل موجوداً, فيأتي منها بما يستطيع ولو لم يستطع القيام ولا القعود ولا الاستلقاء ولا على جنب ولا الإيماء أيضاً, فيأتي بما يستطيعه من قراءة وذكر ولو كان ذلك بإمرار القراءة على القلب.
الأقوال المرتبطة بأفعال غير مستطاعة (تكبيرات الانتقال وهو مستطيع للتكبير مع أنه لا ينتقل من حال إلى حال): هذه التكبيرات تابعة فتسقط, وهناك قاعدة (من عجز عن بعض العبادة واستطاع القيام ببعض المأمور به وعجز عن بعضه فإنه يأتي بما يستطيع إن كان المستطاع عبادة, أما إذا كان المستطاع إنما جيء به تبعاً لعبادة فإنه لا يؤتى به لأنه لا يراد لذاته, لكنه إذا تطلبته العبادة رتب عليه الأجر).
إمرار الموس على رأس الأصلع في النسك لا يشرع لأنه ليس مقصوداً لذاته بل هو لإزالة الشعر.
شخص لا يستطيع الصلاة مع الجماعة لكنه يستطيع أن يصل إلى باب المسجد ويرجع لا يقال إنه يلزمه الوصول إلى باب المسجد ثم يرجع إلى بيته فيصلي فيه, لأن مجرد المشي إلى المسجد ليس مقصوداً لذاته بل من أجل الصلاة.(10/64)
إذا كان هناك شخص لا يستطيع الحج فتبرع متبرع في أن يوصله إلى الميقات أو إلى مكة ثم يرجع لا يقال إنه يلزمه الوصول إلى الميقات أو إلى مكة ثم يرجع لأنه يستطيع الوصول إلى تلك الأماكن ما دام أنه لا يستطيع الحج, لأن الذهاب إلى تلك الأماكن ليس مقصوداً لذاته.
إذا كان ما يستطيعه مقصوداً لذاته فإنه يأتي به, وإذا كان ما يأتي به إنما وجد تبعاً لغيره فإنه لا يأتي به.
وعلى كل حال كل من القولين له ما يدل عليه, فيأتي بما يستطيع ولو كان من دون الصلاة على جنب, فإنه يصلي بالإيماء للحديث (إذا أمرتكم بأمر ...) والقراءة مقدور عليها والذكر مقدور عليه والإيماء مقدور عليه, وحينئذ تكون تكبيرات الانتقال من باب الفصل بين الأركان وإن لم يكن لها وجود في الظاهر.
حديث جابر (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك): مختلف في رفع ووقفه وله شواهد من حديث ابن عمر وان عباس, صححه بمجموعها بعض أهل العلم مرفوعاً, وصوب أبو حاتم وقفه ولم يصححه مرفوعاً, وأبو حاتم هذه عادته, يغلب عليه الشدة في الأحكام, فإذا تعارض عنده الوصل والإرسال فالغالب أنه يحكم بالإرسال, وإذا تعارض عنده الرفع مع الوقف فالغالب أنه يحكم بالوقف.
المريض الذي لا يستطيع الوصول إلى الأرض للسجود كما في هذا الحديث: يفعل ما يستطيعه مما يقرب من السجود حسب القدرة والاستطاعة, فيخفض رأسه بقدر الإمكان للركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع, ولا يلزمه أن يرفع شيئاً ليسجد عليه, وبعض العوام يسجد على يده وهذا غير مشروع, ولذا جاء في الحديث أنه رمى بالوسادة.
المريض الذي أجرى عملية في عينيه ينصحه الأطباء بعدم الركوع والسجود, وإذا كان يتضرر بهذا أو يتأخر برءه بسببه فالشرع لا يكلفه بما يضره.
ومثل هذا من أُذِنَ له بالصلاة في موضع لا يتمكن فيه من الركوع التام والسجود التام, كمن يصلي على الراحلة وفي السيارة.(10/65)
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الجمعة الثامن عشر من شهر ربيعٍ الأول عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده بعيد غروب شمس يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(10/66)
مهمات شرح باب سجود السهو وغيره من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
النبي عليه الصلاة والسلام إنما نسي وسها من أجل أن يشرع ويسن, ولولا أنه حصل منه ما حصل لما عرفنا كيف نفعل إذا سهونا في صلاتنا, فيوجد مثل هذا منه عليه الصلاة والسلام لا لنقصٍ فيه - نعم هو بشر ينسى كما ننسى - لكن يبقى أنه مقبل على صلاته يحصل ويعرض لها ما يعرض لأمته من أجل أن يشرع ويسن, ونام وتنام عيناه ولا ينام قلبه, وقد نام عن صلاة الصبح للتشريع.
عبد الله بن مالك ابن بحينة, وبحينة اسم أمه, فإذا قلت (عبد الله بن مالك) فإنك تقول (ابن بحينة) وتثبت الألف قبل (ابن بحينة) كما في عبد الله بن أبي ابن سلول فإنك تثبت الألف قبل (ابن سلول), ويكون إعرابها إعراب الاسم الأول وليس إعراب الاسم الثاني, لأنها تابعة للأول لا للثاني, فإذا قلت (حدثنا عبد الله بن مالك ابن بحينة) فإنك ترفع (ابن) الثانية لأنها تابعة لـ(عبد الله) وليست تابعة (لمالك).
في حديث عبد الله بن بحينة صورة ترك واجب من الواجبات وهو التشهد الأول, وهذا الواجب تركه يجبر بالسجود, وكذلك من ترك غير التشهد الأول من الواجبات كالتكبير عند من يقول بوجوبه وقول سمع الله لمن حمده عند من يقول بوجوبه.
في رواية لمسلم (يكبر في كل سجدة وهو جالس ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس): قال (وهو جالس) لأنه قد يتصور بعض الناس - مع أنه بعيد - أن هاتين السجدتين مثل سجدتي الصلاة, أولاهما تكون من قيام إلى سجود.
قوله (مكان ما نسي من الجلوس): يعني إنما جاء بهذا السجود جابراً لما نسي.(11/1)
التشهد الأول اختلف فيه أهل العلم: فمنهم من قال إنه سنة لأنه لو كان واجباً لما صحت الصلاة بدونه وللزم العود إليه, ومنهم من قال بوجوبه لكن الواجب ليس كالركن لأن الركن لا يقوم غيره مقامه بينما الواجب يجبر بالسجود, والحجة في فعله عليه الصلاة والسلام.
السجود لترك واجب يكون قبل السلام لهذا الحديث.
حديث ذي اليدين: العشي ما بعد الزوال إلى غروب الشمس.
هذه الصلاة (إحدى صلاتي العشي) فهي إما الظهر وإما العصر كما في بعض الروايات, وجاء الجزم بأنها العصر في رواية عند مسلم.
حصل هذا منه عليه الصلاة والسلام لأمور: منها أن تُبيَّن الأحكام من خلال هذه القضايا, ومنها التسلية لأهل الحرص.
قوله (ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها): في رواية (فشبك بين أصابعه) فدل على أن التشبيك بعد الصلاة لا بأس به, بينما هو قبل الصلاة مكروه لأنه في صلاة مادامت الصلاة تحبسه.
قوله (وخرج سرعان الناس): ضبطها (سَرَعان) و (سُرَعان) و (سُرْعان).
اللقب لا بأس به إذا لم يتضمن القدح في الملقَّب ولو أشعر اللقب بذم لكن الذم غير مقصود إنما هو لمجرد التعريف, فلُقِّب سفيان بن عيينة بالأعور, وهناك عبد الرحمن بن هرمز الأعرج, وهناك سليمان بن مهران الأعمش, فلا يُقصَد شينه ولا عيبه إنما هو مجرد تعريف.
قوله (لم أنس ولم تقصر): بناءً على غلبة ظنه أو ليتأكد, فقال (بلى قد نسيت) لأنه لما قال (ولم تقصر) ضَمِنَ أن هذا لم يكن تشريعاً, وبقي النسيان.
من جاء بما يبطل العبادة عند غلبة الظن أنها تمت لا يؤثر فيها كما هنا, فالكلام مبطل للصلاة وكذا استدبار القبلة, لكن هذا إنما يكون مبطلاً إذا كان يجزم بأنه لا زال في صلاته.
قوله (مثل سجوده أو أطول): وبعض الناس لا يهتم بسجود السهو بل ينقر السجدتين نقراً.
في بعض الروايات (ثم سلم) بعد الفراغ من سجدتي السهو.(11/2)
جاء في رواية أبي داود (أصدق ذو اليدين؟ فأومأوا - برؤوسهم أو بأيديهم - أي نعم) وفي الصحيحين بلفظ (فقالوا: نعم) والقول كما يكون باللسان وهو الأصل يكون أيضاً بالفعل, وفي حديث التيمم (فقال بيديه هكذا - يعني ضرب بيديه الأرض).
في رواية (ولم يسجد حتى يقنه الله تعالى): يعني جزم بأن الصلاة ناقصة, لكن هذه الزيادة منكرة, ولو ثبتت لما عمل بغلبة الظن, كونهم قالوا له (نعم) هذا يورث عنده عليه الصلاة والسلام غلبة ظن يعارض به ما عنده من شك فيعمل بغلبة الظن, لكن قوله (حتى يقنه الله تعالى) يعني حتى يجزم ويقطع بأنه سلم عن نقص, ولذا حكم أهل العلم على هذه الزيادة بأنها منكرة.
أفرد القاضي عياض لفوائد حديث ذي اليدين مجلداً.
من سلم عن نقص ثم جاء بهذا النقص فإنه يكون سجوده بعد السلام, وهناك في حديث عبد الله بن بحينة ترك واجباً فيكون سجوده قبل السلام.
الاختلاف في موضع سجود السهو:
بعض أهل العلم - المالكية - يرون أن السجود عن نقص يكون قبل السلام, والسجود عن زيادة يكون بعد السلام لأنه في حديث ذي اليدين زاد السلام الأول والكلام والقيام, والسبب في كون السجود قبل السلام إذا نقص من الصلاة هو جبر هذا النقص بأن يزيد في الصلاة من جنس الصلاة ما يجبرها, والسبب في كون السجود بعد السلام إذا زاد في الصلاة هو لئلا تتضمن الصلاة زيادات أكثر غير الزيادة التي حصلت في الصلاة.
وبعضهم يرى أن سجود السهو يكون قبل السلام مطلقاً - وإلى هذا يميل الشافعية - وأن مثل هذا الحديث وما جاء من الأحاديث من كونه عليه الصلاة والسلام سجد بعد السلام كله منسوخ.
ومنهم من يطرد فيرى أن السجود كله بعد السلام لأن الخلل الذي وقع في الصلاة لا يزاد عليه زيادة أخرى, فتؤدى الصلاة بزيادتها أو نقصها ويُفرَغ منها ثم تُجبر بعد السلام بسجودٍ يجبر هذا الخلل.
ومنهم من قال تُنزَّل النصوص منازلها.(11/3)
ومنهم من يرى أنه كله قبل السلام إلا في صورتين وهما (إذا سلم عن نقص وإذا بنى على غالب ظنه) فيكون بعد السلام وما عدا ذلك كله قبل السلام.
ومنهم من يرى أنه بالخيار, لأن النصوص جاءت بهذا وهذا, ولا يمكن ضبطها وتقعيدها.
ومنهم من يرى أنه قبل السلام, وما جاء من الصور بعد السلام يقتصر عليها.
وعلى كل حال الأمر فيه سعة, وهم يتفقون على أن من سجد للسهو قبل السلام في جيمع الصور فصلاته صحيحة, ومن سجد للسهو بعد السلام فصلاته صحيحة, لكن الخلاف في الأفضل.
حديث عمران بن حصين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم): قال الترمذي في بعض النسخ (حسن غريب صحيح), وقوله (والحاكم وصححه) المقصود بذلك أصل الحديث من غير قوله (ثم تشهد).
ذكر التشهد بعد سجود السهو في الحديث شاذ, فهذه اللفظة حكم عليها أهل العلم بالشذوذ لمخالفتها لما جاء في أحاديث السهو كلها, فلا يشرع التشهد بعد سجود السهو لأنه زيادة في الصلاة, والصلاة التي حصل فيها الخلل لا يضاف إليها خلل آخر.
حديث أبي سعيد (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم, فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته, وإن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان): الشك هو الاحتمال المساوي من غير مرجح, لكن إن ترجح أحدهما فالراجح ظن والمرجوح وهم.
قوله (وليبن على ما استيقن): المتيقن هو الأقل, لأن ما زاد على الأقل مشكوك فيه والأصل العدم.(11/4)
في باب الوضوء إذا شك هل غسل العضو مرتين أو ثلاثاً فإنه على مقتضى قول الحنابلة وغيرهم يبني على الأقل, لكن هناك في الوضوء الوضع يختلف عنه في الصلاة, لأنه في الوضوء إذا قلنا إنه يجعلهما اثنتين ويزيد ثالثة فإنه يحصل التردد بين الثلاث والأربع إذا زاد, والأربع بدعة, فيخرج بذلك إلى حيز البدعة, لكن لو جعلها ثلاثاً وهي في الحقيقة اثنتان فالوضوء صحيح, بل سنة أن يتوضأ مرتين مرتين, فإذا بنى على الأقل رجع إلى سنة, وإذا بنى على الأكثر فإنه يحتمل أن يقع في بدعة. بينما في باب الصلاة إذا بنى على الأقل وزاد ثالثة فالحل في الحديث (يسجد سجدتين) فإن طابق الواقع كانتا ترغيماً للشيطان, وإن كان قد زاد على ذلك شفعن له صلاته, لكن لو بنى على الأكثر في الصلاة وصارت في الحقيقة أقل فإنه يكون حينئذ قد نقص من الصلاة فتكون باطلة, فليس هذا مثل الوضوء حيث أنه ببناءه على الأكثر يكون في حيز السنة والمشروع, بل هو هنا في حيز البطلان لو بنى على الأكثر بخلاف الوضوء.
(إذا شك أحدكم في صلاته): الصلاة مفرد مضاف فيعم جميع الصلوات.
(فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته): الصلاة هنا رباعية, فإذا زيد فيها خامسة فالأصل أن تُقطَع على شفع, لكن لو تردد في صلاة المغرب هل صلى اثنتين أو ثلاث وجعلهما اثنتين وهي في الحقيقة ثلاث وزاد رابعة ثم سجد سجدتين فإنه يقال (أوترن له صلاته) لأن صلاة المغرب تقطع على وتر.(11/5)
قاعدة (النسيان ينزِّل الموجود منزلة المعدوم, لكنه لا ينزِّل المعدوم منزلة الموجود): إذا صلى الظهر خمساً ناسياً وهو جازم أنها أربع ولم يسجد للسهو فإننا نقول (النسيان ينزل الموجود - الركعة الخامسة - منزلة المعدوم) لقوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وصلاته صحيحة, وهذه الركعة زائدة معفو عنها. لكن لو تذكر فيما بعد أنه صلى الرباعية ثلاثاً فإنه يؤمر بالإعادة وليس له أن يحتج بقوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) لأن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود, كما لو نسي أن يتوضأ وصلى بدون وضوء فإنه يتوضأ ويعيد الصلاة.
قوله (كانتا ترغيماً للشيطان): لأن الشيطان هو الذي يوقع في مثل هذه الأمور وهو الذي يلبس على الإنسان, لأن الشيطان إذا نودي للصلاة أدبر وله ضراط وفي رواية (حصاص) فإذا فُرِغ من الأذان أقبل وإذا ثُوِّبَ للصلاة -أقيم لها - أدبر فإذا فُرِغ من الإقامة أقبل ليشوش على المسلم صلاته وليذكره بما نسيه فيقول له (اذكر كذا اذكر كذا) ثم يستمر معه إلى آخر الصلاة, حتى لا يدري كم صلى, ففي سجود السهو ترغيم للشيطان.
لا يُظَنُّ بالإمم أبي حنيفة رحمه الله أن يأمر شخصاً أن يصلي لا لقصد الثواب ولا لذات الصلاة وإنما من أجل أن يتذكر ما نسيه من أمور دنياه, وإن كان منقولاً عنه.
على الإمام إذا أراد أن يجلس جلسة الاستراحة ألا يكبر إلا مع القيام, فيجلس من غير تكبير ثم يكبر إذا شرع في القيام إلى الركعة, لكيلا يسبقه المأمومون في القيام إذا جلس للاستراحة.
أهل العلم استدلوا بحديث ذي اليدين على جواز الكلام في الصلاة لمصلحة الصلاة.(11/6)
يُسبَّح في سجود السهو كما يُسبَّح في سجود الصلاة لأنه يشمله ما يشمل سجود الصلاة من نصوص كقوله عليه الصلاة والسلام (اجعلوها في سجودكم) يعني (سبحان ربي الأعلى). وبعضهم يستحسن - وهذا من باب الاستحسان - أن يقول (سبحان من لا يسهو سبحان من لا يغفل), وهذا لا دليل عليه.
إذا دخل الإنسان مع الإمام وهو في الركعة الثانية ثم زاد الإمام ركعة: إذا عرف هذا الداخل أن هذه الركعة زائدة في صلاة الإمام فإنه لا يجوز له أن يتابعه عليها لأنها ركعة باطلة, بل عليه أن يجلس أو ينوي الانفراد ويكمل صلاته بنفسه.
مع الأسف الشديد أن العوام أحرص على الخير من كثير من طلاب العلم.
شخص كان يصلي أحياناً ويترك أحياناً ثم تاب, هل يجب عليه قضاء ما ترك من الصلوات؟ الجواب: إذا كان ما تركه من الصلوات محصور ومعروف وقضاؤه لا يشق فالأولى أن يقضي ما ترك في قول جماهير أهل العلم, وإذا كان كثيراً أو لا يحيط به أو يشق عليه قضاؤه ومن باب ترغيبه في التوبة فالتوبة تجب ما قبلها.
حديث ابن مسعود (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا, قال: فثنى رجليه ثم استقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم): بعد أن سلم السلام الأول سجد سجدتين ثم سلم.(11/7)
قوله (إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به, ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني): جاء في الحديث الصحيح (لا تقل: نسيت آية كذا وكذا, ولكن: نُسِّيت) لكنه خاص بالقرآن, فلا تقل (نسيت آية كذا وكذا) ولكن قل (نُسِّيت أو أُنسِيت) ولا تنسب النسيان إلى نفسك بالنسبة للقرآن, وأما في غير القرآن فانسبه لنفسك لأن النهي صريح بالنسبة للقرآن ولئلا يدخل الإنسان إذا نسب النسيان لنفسه في القرآن في قوله جل وعلا (وكذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى), لكن فيما عدا القرآن قل (نسيت) لأنك محل النسيان ولذا قال (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون).
نسيانه عليه الصلاة والسلام إنما هو من أجل التشريع, وهذا من رحمة الله جل وعلا بالأمة.
(فإذا نسيت فذكروني): ليترتب على هذا النسيان التعليم والبيان بالفعل إضافة إلى البيان بالقول, فإذا تضافر القول مع الفعل ثبت العلم ورسخ, وفيه أيضاً تسلية للأمة, وإلا بالإمكان أن يشرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمور بقوله دون أن يقع منه شيء من النسيان.
بعض أهل العلم - وإن كان الجمهور على خلافه - يقرر أن الذي ينسى ويسهو في صلاته أكمل من الذي لا ينسى ولا يسهو لقوله تعالى (الذين هم عن صلاتهم ساهون) ولم يقل (الذين هم في صلاتهم ساهون) ولأنه أقبل على لب الصلاة وترك ظاهر الصلاة, والذي لا يسهو ضبط ظاهر الصلاة وهذا لا يعني أنه ضبط ما يقرأه وما يجري على لسانه من ذكر واستشعر استشعاراً تاماً أنه بين يدي الله عز وجل, ولأنه لو اهتم للب الصلاة وأقبل على ما يقرأه بقلبه وما يجري على لسانه لا بد وأن يغفل عن ظاهر الصلاة. لكن لا يمنع أن الإنسان يكون قد أكمل هذا كله, فضبط ظاهر الصلاة وباطنها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
كون النبي عليه الصلاة والسلام وقع منه أربع أو خمس قضايا سها فيها في صلاته لا يعني هذا أن هذه هي القاعدة المطردة, بل هذا خلاف الأصل.(11/8)
الأكثر على أن عدم سهو الإنسان في صلاته دليل على أنه أحضر قلبه في صلاته.
من ضبط ظاهر الصلاة مع غفلته عن لب الصلاة نقصه أشد ممن يقبل على صلاته بقلبه وينسى ظاهرها.
الظاهر والباطن متلازمان في الأصل, لكن ما يتعلق بالقلب أولى مما يتعلق بالجوارح, لا سيما إذا لم يكن المتعلق بالجوارح من الأركان.
في الغالب أن الذي ينشغل بظاهر الصلاة بحيث لا يزيد فيها ولا ينقص مع انصرافه عن باطنها أن في إخلاصه شيء, قد يكون إمام ويلاحظ المأمومين أكثر من ملاحظته لمن وقف بين يديه.
إذا أخطأ الإمام في القراءة فإن على المأموم أن يفتح عليه, خلافاً لابن حزم الذي يقول إنه يتركه.
إذا أخطأ الإمام في الفاتحة وأحال المعنى فإن صلاة الإمام باطلة وعلى المأموم أن ينفصل عن الإمام ويصلي منفرداً ولا يستمر في صلاة يرى بطلانها.
حديث (من نابه شيء في صلاته فليسبح) عام ولعل الخنثى يدخل في هذا العموم, وأما المرأة فقد خرجت من العموم بحديث (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء).
قوله (وإذا شك أحدكم في صلاته): يعني على حد سواء (فليتحر الصواب) أي يبني على غالب ظنه إن وجد غالب ظن, وإلا فليرجع إلى الأقل لأنه متيقن.
تحصل غلبة الظن بفعل من بجوار المسبوق الذي فاته مثل ما فات هذا المسبوق لأنه مرجِّح, وحينئذ يسجد للسهو بعد السلام.
قوله (فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين) وفي وراية البخاري (فليتم ثم يسلم ثم يسجد): يعني ليكون سجوده بعد السلام.
ولمسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام): حديث ذي اليدين يشهد لذلك, حيث سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام.
ولأحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم): سنده ضعيف.(11/9)
قوله (من شك في صلاته): هذا العموم يشمل جميع أجزاء الصلاة, ما يُسجَد له وما لا يُسجَد له, فإذا شك في شيء لا سجود له - كما لو شك في الإتيان بسنة - فإنه لا يسجد له, وعموم الحديث فيه ما فيه, لأنه ليس كل أجزاء الصلاة يُسجَد لها, ولذا ضُعِّف الحديث عند أهل العلم.
حديث المغيرة بن شعبة (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فليمض وليسجد سجدتين, فإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه): قوله (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين) إذا ترك التشهد الأول بعد أن صلى ركعتين فإن هذا نقص وليس بشك, ويحتمل أنه في أثناء سجوده شك هل هي الأولى أو الثانية ثم قام تاركاً التشهد الأول بناء على شكه السابق.
الحديث ضعيف جداً لأن مداره على جابر الجعفي وهو ضعيف جداً, والألباني رحمه الله تعالى صححه بالشواهد, لكن لا يصل إلى درجة القبول. أبو داود رحمه الله يقول في سننه (لم يخرِّج لجابر الجعفي في غير هذا الموضع). والحديث ضعيف على كل حال.
مقتضى الحديث أن من ترك التشهد الأول واستتم قائماً ثم شرع في القراءة فإنه يحرم عليه الرجوع, وإن لم يشرع في القراءة بعد أن استتم قائماً فإنه يكره له الرجوع, وإن لم يستتم قائماً فإنه يلزمه الرجوع.
قوله (فإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه): الحركة اليسيرة والانتقال اليسير ثم الجلوس لا يوجب سجود السهو, وإنما السجود يكون لترك التشهد لا للانتقال فقط, هذا مقتضى الحديث وعرفنا ضعفه.
من أهل العلم من يقول إنه إذا كان الحديث ضعيفاً فإنه لا يتكلف اعتباره ولا يبين معناه ووجوده مثل عدمه, لكن لا يمنع أن يبين معناه وما يدل عليه ومع ذلك يُنبه على ضعفه وأنه لا يستنبط منه حكم, لكن يبين معناه على فرض ثبوته وعلى فرض ثبوته بالشواهد.(11/10)
حديث عمر (ليس على من خلف الإمام سهو فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه): عزوه للترمذي وهم لأنه لا يوجد في الترمذي, وهذا العزو كان من قِبَل النساخ لأن شمس الحق في تعليقه على الدارقطني قال (رواه البزار والبيهقي كما في بلوغ المرام) فدل على أن الخطأ في العزو مِن قِبَل النساخ.
إغفال ما يوجد في أكثر النسخ خللٌ في التحقيق, وكون الحديث لا يوجد عند الترمذي لا يعني أن المؤلف لا يهم. وعلى هذا ينبغي أن ينبه المحقق على الخطأ ويذكر الصواب في الحاشية ويترك الكتاب على ما هو عليه.
ليس عدم وجود الحديث في المصدر الذي أحيل إليه مبرراً لأن يُحكم بالخطأ, فقد يوجد في بعض الروايات عند الترمذي دون بعض, وهل المحقق اطلع على جميع الروايات؟!! وليس المقصود أنه يوجد في باب دون باب عند الترمذي, لكن المقصود أن الكتب تروى بروايات متعددة.
على من يتصدى لتحقيق الكتب أن يلتزم الأمانة وأن يترك الكتاب كما هو ويعلق عليه, لأنه قد يتبادر إلى ذهنه شيء يراه صواباً وهو في الحقيقة ليس بصواب, ويزداد الأمر سوءاً إذا لم يشر إلى اللفظ المخالف, وكم من موضع صُحِّح الموضع الذي في الحاشية وصار أصوب وأرجح مما أثبته المحقق, والأمر سهل إذا أثبت الفرق في الحاشية, لكن إذا حذف الفروق وأهملها وألزم الناس بفهمه فهذه مشكلة, لأن هذا يترتب عليه مسخ الكتب والتصرف في كتب الناس, وهذه خيانة, حتى لو رآه وهماً وخطأً, ينبغي ألا يجزم بذلك.
إذا سها الإمام فإنه يسجد ويسجد من خلفه, وإذا سها الإمام وترك واجباً والمأموم لم يترك هذا الواجب فإنه يلزمه أن يتابع الإمام.
إذا ترك المأموم واجباً ولم يترك الإمام هذا الواجب فإنه يتابع الإمام.(11/11)
ليس على المأموم سهو فيما تركه, إن لم يكن مما يبطل الصلاة, كما لو ترك ركناً فلا بد أن يأتي به. لكن إذا ترك واجباً فإن الإمام يتحمله وليس عليه سجود سهو, وإن قالت الهادوية إنه يسجد المأموم إذا سها ولو لم يحصل من الإمام سهو ولا علاقة له بالإمام, لكن جماهير أهل العلم على خلافه.
الحديث ضعيف لأن مداره على خارجة بن مصعب وهو ضعيف عند أهل العلم.
سجود السهو يشرع لزيادة أونقص أوشك.
حديث ثوبان (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم): في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال لأهل العلم لكن روايته عن أهل بلده صحيحة وهذا من روايته عن أهل بلده, فتضعيف الحديث بسببه فيه نظر, لكن الحديث ضُعِّف بسبب غيره, ففي إسناده أيضاً زهير بن سالم العَنْسي وهو منكر الحديث ومع ذلك لم يسمع من ثوبان, فالحديث على كل حال ضعيف.
مقتضى الحديث لو ثبت أن لكل سهو سجدتان, فالظاهر منه أن سجود السهو يتكرر بتكرر السهو, فإذا سها مرة فإنه يسجد سجدتين, وإذا سها مرتين فإنه يسجد أربع سجدات, وإذا سها ثلاث مرات فإنه يسجد ست سجدات, وهكذا. لكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة السبت السادس والعشرين من شهر ربيعٍ الأول عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الأحد السابع والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(11/12)
مهمات شرح باب شروط الصلاة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الشرط لغة العلامة وفي الاصطلاح ما يلزم من عدمه العدم (أي العدم الشرعي ولذا قال للمسيء (ارجع فصل فإنك لم تصل) فبفقد الشرط أو الركن يكون وجود الصلاة وعدمه على حد سواء لعدم الاعتداد بها) ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
الركن جزء الماهية والشرط خارج الماهية وهذا الفرق بينهما له آثار عملية مع اتفاقهما في أن الصلاة لا تصح بدونهما.
تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور وشرط عند الحنفية ومن ثمرات الخلاف بين الفريقين أنه لو كبر قبل دخول الوقت ثم لما فرغ من التكبير دخل الوقت مباشرة فصلاته صحيحة عند الحنفية لأن الشرط لا يشترط إيقاعه في الوقت كما لو تطهر قبل دخول الوقت وأما عند الجمهور فباطلة لأنه أوقع جزءاً من ماهية الصلاة وهو التكبير قبل دخول الوقت وكذلك لو كبر وهو حامل لنجاسة ثم ألقاها بعد التكبير مباشرة صحت صلاته عند الحنفية لأن حمله للنجاسة لم يكن داخل الصلاة بينما صلاته باطلة عند الجمهور لأنه حمل النجاسة في جزء من أجزاء الصلاة.
الشروط تختلف من باب إلى باب وتختلف من شرط إلى آخر فمنها ما هو شرط صحة ومنها ما هو شرط إجزاء ومنها ما هو شرط وجوب وفي المعاملات هناك شروط للعقود وشروط في العقود يشترطها أحد المتعاقدين احتياطاً لنفسه.
شروط الصلاة تسعة وهي الإسلام والعقل والتمييز واستقبال القبلة وستر العورة والنية ودخول الوقت والطهارة واجتناب النجاسة.
حديث (إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة) ضعيف لأن في سنده مسلم بن سلاَّم الحنفي وهو مجهول لا يعرف ومداره عليه. لكن معنى الحديث صحيح.
ممن عرف بالتساهل ابن حبان والحاكم وابن خزيمة وإن كان أمثلهم والترمذي وإن كان أمثل من الجميع فيه شيء من التساهل.(12/1)
الوضوء من مس الذكر جاء في حديث طلق بن علي وهذا الحديث جاء من طريق علي بن طلق وقال ابن عبد البر (أظنه والد طلق بن علي) ومال أحمد والبخاري إلى أن طلق بن علي وعلي بن طلق اسمان لذات واحدة ويوجد نصر بن علي وعلي بن نصر أحدهما والد للثاني.
حديث عائشة (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم) ضعيف وحديث علي بن طلق هنا ضعيف أيضاً, والأقعد إعادة الصلاة لأنه انتقض الشرط.
من صلى محدثاً مع علمه بذلك أثم اتفاقاً والحنفية يرون كفره بهذا.
حديث عائشة (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) صحيح, والمراد بالحائض المكلفة لا المتلبسة بالحيض لأن المتلبسة بالحيض تحرم عليها الصلاة سواء كانت بخمار أو بغير خمار. وفي الحديث اشتراط ستر أعلى البدن بالنسبة للمرأة.
الخمار هو ما يغطي الرأس والعنق.
نفي القبول يرد في النصوص ويراد به نفي الصحة, كما هنا, كما أنه يرد نفي القبول ويراد به نفي الثواب المرتب على العبادة كما في قوله تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين), فليس المراد به أن عبادات غير المتقين من الفساق باطلة, وإنما المراد نفي الثواب المرتب على العبادة, وأما العبادة نفسها فهي صحيحة مجزئة مسقطة للطلب.
النفي في حديث عائشة نفي الصحة, فإذا صلت المكلفة من غير خمار يغطي الرأس والعنق فصلاتها باطلة.
بدن المرأة الحرة كله عورة في الصلاة, ومنهم من يستثني الوجه والكفين, ومنهم من يستثني القدمين, على خلاف بين أهل العلم, والأحوط أن تغطي جميع بدنها سوى الوجه.
القول بأن عورة المرأة عند المرأة من السرة إلى الركبة قول لبعض أهل العلم لكنه مرجوح, بل عورة المرأة عند المرأة كعورة المرأة عند محارمها, لأن النساء عطفن على المحارم في آية النور.(12/2)
أبو عبد الله شريك بن عبد الله القاضي هو شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر, صاحب الأوهام العشرة في حديث الإسراء, نص الإمام مسلم على أنه زاد ونقص وقدم وأخر. والأوهام العشرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري, وقبله ابن القيم في زاد المعاد.
الأصل متابعة المؤذن, سواء سُمِع صوته المباشر أو بآلة أو بآلة تنقله إلى مكان بعيد شريطة أن يكون حياً يعني في وقت الأذان, وأما المسجل فإنه لا يتابع.
كون الدعاء بين الأذان والإقامة لا يلزم أن يكون في المسجد, لكن كونه في المسجد أرجى للإجابة.
الرموز لا تتأدى بها السنن, فلو قال (قال رسول الله ص أو صلعم) فإنه لا يكسب من الأجر شيئاً, إلا إذا صلى في نفسه فإنه يكسب أجر صلاته على النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه. فالأجور المرتبة على الكلام لا تنال بالرموز.
أول من كتب الرمز (صلعم) قُطِعت يده.
ما حكم تأجير الإمام أو المؤذن لمنزله الخاص وأخذه الأجرة على ذلك؟ إذا كان مستغنياً عنه فالأولى أن يدفعه إلى جهة خيرية تستفيد منه, وإن أجره فالأمر لا يعدوه ولا شيء في ذلك لأنه من استحقاقه.
صارف الأمر بإجابة المؤذن من الوجوب إلى الاستحباب (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن): قوله لما سمع مؤذناً يؤذن (على الفطرة), فلم يقل مثل ما قال.
عدم النقل ليس بنقل للعدم, ففي حديث أم هانئ لما جاءت والنبي عليه الصلاة والسلام يغتسل فقالت (السلام عليك يا رسول الله), فقال (من هذه؟) قالوا: أم هانئ, فقال (مرحباً بأم هانئ), ليس معنى هذا أنه لم يرد عليها السلام وأنه اكتفى بقوله (مرحباً), لأن الراوي لم ينقل رد السلام للعلم به.
العرف عند أهل العلم أن الترضي خاص بالصحابة والترحم على من بعدهم كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى والصلاة خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام على سبيل الاستقلال ويدخل معه تبعاً آله وصحابته. كما أنه لا يقال (محمد عز وجل) وإن كان عزيزاً جليلاً.(12/3)
سجود السهو تابع للصلاة فسجود السهو لصلاة العصر بعد سلامها تابع لصلاة العصر فلا يدخل في النهي عن الصلاة في وقت النهي.
القول المحقق ما ذهب إليه ابن عمر وغيره إلى أن السجدة المفردة كسجدة التلاوة وسجدة الشكر ليست بصلاة وعلى هذا يسجد للتلاوة والشكر في أوقات النهي لأن أقل ما يطلق عليه صلاة ركعة كاملة.
إذا صلى أناس خلف إمام وهم في مبنى منفصل مستقل عن المسجد فلا يجوز اقتداؤهم به إلا إذا اتصلت الصفوف فحينئذ لا بأس. وإذا كانوا في داخل المسجد وداخل سوره فلا بأس باقتدائهم به ولو لم يكونوا يروه.
النصوص تحدثت عن أشياء في المستقبل بعضها وقع وبعضها لم يقع لكن لو غلب على ظن الشخص أن هذه الآية مناسبة لهذا الحدث فجاء بهذا الحدث على صيغة الترجي لا على سبيل القطع فلا بأس فله أن يقول (لعل هذا الحدث يدخل في المراد من هذه الآية أو هذا الحديث) ولا يقطع بأن هذا مراد الله عز وجل أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا كتفسير القرآن فتفسير القرآن بالرأي حرام لكن لو قيل (لعل المراد كذا وكذا) فلا بأس على سبيل البحث وعلى سبيل الترجي دون جزم وقطع كما في حديث السبعين الألف حين قالوا (لعلهم ...) فالنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليهم مع أن توقعاتهم كلها لم تصب.
الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام (من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يقربه شيطان حتى يصبح) وبين قوله عليه الصلاة والسلام (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد): الحديث الثاني عام في كل أحد ويخصص بمن قرأ آية الكرسي فإنه لا يقربه الشيطان.(12/4)
يقول أهل العلم إن الصلاة خلف الفاضل أفضل من الصلاة خلف المفضول مع أن عامة أهل العلم على صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل لأن صلاة الفاضل لها أثر في إتقان صلاة من خلفه وحضور قلوبهم وإذا قرأ الفاضل القرآن عرفت أنه يخشى الله عز وجل فتكون قراءته مؤثرة وعليه فخشوع الإمام يؤثر في خشوع من خلفه وأهل العلم يقررون كما هو الواقع المشاهد أن بعض الناس مؤثر في شكله فإذا رؤي ذكر الله عز وجل وابن الجوزي في مشيخته ترجم لشيوخه كلهم فذكر عن واحد منهم بأنه استفاد من بكائه ولم يستفد من علمه.
لا بأس بصلاة النافلة جماعة أحياناً لأنه قام الليل وقام معه ابن عباس وكذا صلى التراويح جماعة.
النافلة الليلية يجهر فيها بجهر متوسط لقوله تعالى (لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها).
المكبر إنما وجد لإفادة الحضور لكي يسمع من حضر الصلاة ويستفيد من القرآن فإذا تحققت مصلحة الحاضرين من غير وجود مفسدة على غيرهم فهذا هو المتعين وأما إذا لم تحقق مصلحتهم إلا بوجود مفسدة كالتشويش على أهل البيوت المعذورين وكذا على المساجد المجاورة فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح والأولى التوسط وعدم رفع الصوت.
الأصل أن العفو مرغب فيه لقوله تعالى (وأن تعفو أقرب للتقوى) لكن إذا ترتب على هذا العفو مفسدة فإنزال العقوبة وعدم العفو أولى.
(إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به) أي اجعله رداءً ترتديه وأرسله على بقية بدنك (وإن كان ضيقاً فاتزر به) أي اجعله إزاراً تستر به الجزء الأهم من البدن. فإذا كان واسعاً فاجعله لحافاً يستر أعلى البدن بطرفه وطرفه الآخر يستر بقية البدن.
فيه أن ستر العورة المغلظة أهم من ستر الجزء العلوي من البدن كالمنكبين مثلاً.(12/5)
(لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) وفي بعض روايات الصحيح في البخاري (ليس على عاتقيه من شيء) فستر المنكب واجب وكشفه محرم مع القدرة لأن الحديث السابق (إن كان ضيقاً فاتزر به) يقتضي أن أعلى البدن مكشوف لأنه لا يكفي لستر المنكب مع ستر العورة وهنا مع الإمكان بحيث يكفي للمنكب والعورة.
من أهل العلم من يرى اشتراط ستر المنكب كالعورة ومنهم من يرى أن النهي للكراهة بدليل الحديث السابق لكن الأصل في النهي التحريم وأما الحديث السابق فهو بالنسبة لغير الواجد لما يستر المنكب فأعدل الأقوال في ستر المنكب أنه واجب فلو صلى ومنكبه مكشوف فصلاته صحيحة لكنه آثم. فرق بين الاشتراط والوجوب فستر المنكب واجب وستر العورة شرط والمنكب ليس بعورة ولذا يشكل على كثير من طلبة العلم أن يذكر في الشروط ستر العورة مع هذا الحديث في الصحيح لماذا لا يذكر في الشروط؟ نقول لا إشكال لأن الشرط شيء والواجب شيء آخر فستر المنكب واجب مع القدرة يأثم تاركه.
هنا (ليس على عاتقه منه شيء) وفي الرواية الأخرى (ليس على عاتقيه منه شيء) فكيف نوجه هذا الاختلاف؟ هل المطلوب ستر عاتق واحد أو العاتقين؟ الجواب إما أن نقول إن المراد بالمفرد هنا الجنس فيشمل العاتقين أو نقول (ليس على عاتقيه منه شيء) نكرة في سياق النهي فيشمل أي شيء ولو خيط رفيع ولو شيء يسير وهذا يمكن أن يكون على العاتق أو على العاتقين. (ليس على عاتقيه منه شيء) يعني لو صلى وعلى أحد العاتقين منه شيء هل نقول إنه لم يمتثل الخبر (ليس على عاتقيه منه شيء)؟ إذا صلى وعلى أحد عاتقيه شيء من الثوب هل يقال إنه ليس على عاتقيه شيء؟ لا بل عليه منه شيء لأن (شيء) نكرة في سياق النهي فتعم فيتم الامتثال بأدنى شيء.(12/6)
حديث أم سلمة (أتصلي المرأة في درع وخمار) ضعيف مرفوعاً وصحح الأئمة وقفه لكن هل هناك تعارض بين المرفوع والموقوف أو يحتمل أن أم سلمة سألت النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الحكم على تقدير ثبوته ثم صارت تفتي به من قولها؟ الأئمة هنا رأوا القرائن مرجحة للوقف وأن مثل هذا الكلام لائق بفقه أم سلمة وإن قال الشارح أن له حكم الرفع فمثل هذا حكم شرعي لا مسرح فيه للاجتهاد ولا يمكن أن تقول أم سلمة هذا الكلام وليس في الباب شيء مرفوع لكنه حكم شرعي ألا يمكن أن يستنبط من أدلة أخرى؟ ما دام رجح الوقف ألا يمكن أن يستنبط هذا الحكم من أدلة أخرى؟ وحينئذ لا يكون حجة.
المرأة كلها عورة في الصلاة سوى الوجه ومنهم من يلحق بالوجه الكفين والحنفية يقولون حتى القدمين وكأن شيخ الإسلام يميل إلى قول الحنفية بناءً على عدم ثبوت حديث أم سلمة وإلا لو ثبت حديث أم سلمة لكان ظاهراً في الإلزام بستر القدمين وعلى كل حال ما دام من أهل العلم من يرى أن المرأة كلها عورة إلا الوجه فعليها أن تستر جميع البدن وتحتاط لدينها لأنها إذا دخلت القدمان والكفان في العورة المشترط سترها في الصلاة فعلى المسلمة ألا تعرض صلاتها للبطلان ولو على قول والأمر ولله الحمد فيه سهولة وليس في الملابس شح في هذه الأيام.
حديث عامر بن ربيعة (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت (فأينما تولوا فثم وجه الله)) ضعيف جداً وعلته أشعث بن سعيد السمان لأنه راوٍ متروك وحديث المتروك شديد الضعف بمعنى أنه لا ينجبر بوروده من طرق أخرى.(12/7)
لا يثبت سبب نزول آية بخبر ضعيف كما أنه لا تثبت قراءة بخبر ضعيف ولا يفسر القرآن بخبر ضعيف وهذا هو القول المرجح وإن كان التفسير يتسامح فيه أهل العلم فهو مثل الفضائل عندهم ولذا يؤثر عن الإمام أحمد أن ثلاثة الأبواب التي هي الفضائل والمغازي والتفسير يقبل فيها أي خبر.
من أشكلت عليه القبلة في بر ولا وجد محاريب إسلامية يعمل بها عليه أن يجتهد ويتقي الله ما استطاع ويصلي صلاة واحدة فإن بانت له القبلة وهو في أثناء صلاته استدار كما هو إلى القبلة التي ترجحت لديه ولو خبر ثقة (إذا قال يا فلان القبلة عن يمينك عليه أن يستدير إذا كان يثق بخبره) كما فعل الصحابة لما حولت القبلة جاءهم المخبر في صلاة الصبح أو العصر على الخلاف المعروف فقال لهم (أشهد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى الكعبة) فاستداروا كما هم وعلى هذا يجوز أن تصلى أول الصلاة إلى جهة وفي أثناءها ينصرف إلى الجهة التي ترجحت له.
محل الاجتهاد غير البلدان وأما البلدان التي يمكن أن يصل فيها إلى قبلتها بيقين وفيها محاريب ويوجد من يخبره من أهل البلد فإنها ليست بمحل للاجتهاد.
إن كان في البراري وخارج البلدان وصلى بعد اجتهاد وتحري واتقى الله ما استطاع ثم بان له أنه صلى إلى غير القبلة فبعض أهل العلم يرى أنه إن كان في الوقت فإنه يعيد وإن كان خارجه فإنه لا يعيد والصواب أنه إذا اتقى الله ما استطاع فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلفه بصلاتين.
من التكلف ما يذكره بعض الفقهاء أنه يقسِّم الجهات ويصلي إلى كل جهة حتى يكون قد صلى إلى القبلة بيقين وهذا من الحرج والعنت المنفي عن هذه الشريعة.(12/8)
بعض الفقهاء يقول إنه يتصور أن يصلي صلاة واحدة إلى أربع جهات بأن يصلي ركعة ثم يأتيه آتٍ فيقول (القبلة عن يمينك) ثم يأتيه آخر أوثق من السابق فيقول (القبلة عن يسارك) ثم يأتيه آخر أوثق من السابقين فيخبره أنها إلى جهة ثالثة وهكذا إذا أتاه رابع وهذا متصور إذا كان كل واحد منهم أوثق من الذي قبله وأما إذا كان أقل ثقة من الذي قبله فإنه لا يعمل بخبره.
حديث أبي هريرة (ما بين المشرق والمغرب قبلة) صحيح قواه البخاري وهذا الخطاب خاص بأهل المدينة ومن كان على سمتها ممن هو عن يمين الكعبة أو يسارها في جهة الشمال أو الجنوب.
هذا الحديث دليل من يقول بأن الجهة كافية (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي جهة المسجد الحرام والحديث صريح في الدلالة على أن الجهة كافية وهو قول الأكثر والشافعية يرون أن الواجب إصابة عين الكعبة قربت أو بعدت. هل يخفى على هؤلاء الحرج الشديد الناشئ عن قولهم هذا أو ينحل الإشكال إذا قالوا إصابة عين الكعبة على حسب غلبة الظن فلا يلزم اليقين والقطع أن هذه عين الكعبة والإنسان مكلف بغلبة الظن. فمعنى إصابة العين عند الشافعية أن تجتهد في إصابة العين لا أن تجتهد في إصابة الجهة كما هو قول الجمهور. فعندهم أنك تجتهد حتى يغلب على ظنك أنك أصبت عين الكعبة فينحل الإشكال بأن الإصابة تثبت بغلبة الظن. هذا بالنسبة لمن لم يستطع معاينة الكعبة.
الذي يستطيع معاينة الكعبة: هم يتفقون على أن من كان داخل المسجد فالواجب عليه إصابة عينها وأما من بعد عن المسجد فيكفي في حقه إصابة الجهة (عند الجمهور).(12/9)
قد يكون في المسجد ويتعذر في حقه مشاهدة عين الكعبة كالذي في السطح أو في الدور الثاني في الصفوف الخلفية أو في الدور الأرضي ويحول بينه وبينها صفوف وعَمَد والمشقة تجلب التيسير وما جعل عليكم في الدين من حرج لكن ليس معنى هذا أننا لا نهتم بهذا الأمر فاستقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة فعلينا أن نحتاط لهذا. ولذا في المسجد الحرام وضعوا خطوطاً زرقاء على البلاط لتوضيح اتجاه القبلة ولا شك أن مصلحة هذه الخطوط ظاهرة ولا يترتب عليها أي مفسدة.
من دخل المسجد الحرام ثم كبر بمجرد دخوله ولم يحتط لإصابة عين الكعبة ثم تبين أنه لم يصب عينها فإنه تجب عليه الإعادة لتفريطه لأنه مع إمكان الرؤية ليس هناك مسوغ للاجتهاد. وعرفنا أنه إذا تعذر ذلك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
تجوز صلاة النافلة على الراحلة حيث توجهت به فيومئ إيماءً برأسه ويكون سجوده أخفض من ركوعه لأنه لا يستطيع أن يقف فيركع ويسجد ولا بد أن تكون الصلاة نافلة وأن يكون ذلك في السفر. ومثل الراحلة السيارة والقطار والطائرة.
جمهور العلماء يخصون ذلك بالسفر على الدابة وإن كان عند جمع من أهل العلم وهو المتجه أنه في هذه الأزمان التي تقضى فيها أوقات في السيارات في الحضر إن تنفل صح ذلك لأن النافلة أمرها أوسع فهي تصح من قعود فإذا أجيزت في السفر أجيزت في الحضر لأن مبناها على أن أمرها أيسر من الفريضة لكن لا يجوز له أن يعرض نفسه ولا من معه للخطر إن كان يريد التنفل في السيارة.بل يومئ إيماءً ولا يصل إلى حد بحيث يخفى عليه الطريق.
الأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض والعكس لكن جاء في النافلة من التسامح ما لم يأت مثله في الفريضة ومنه ما معنا فلا يجوز أن يصلي الفريضة على الراحلة إلا إذا منع من مباشرة الأرض كما لو كان على الأرض طين فحينئذ لا بأس بصلاة الفريضة على الراحلة لكن إذا لم يكن هناك مانع فالفريضة يحتاط لها أكثر مما يحتاط للنافلة.(12/10)
من صور التخفيف في النافلة دون الفريضة هو جواز الصلاة من قعود وإن كان يستطيع القيام ويستحق بذلك نصف الأجر لكن في الفريضة لا يجوز ذلك وجاء في الباب (صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم) وجاء أيضاً حديث عمران (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) لماذا خص النص الأول بالنافلة والثاني بالفريضة؟ ما الذي أخرج النافلة من الحديث الثاني وما الذي أخرج الفريضة من الحديث الأول؟ لا يوجد ما يمنع من دخول النافلة في حديث عمران ولو لم يرد غيره لقلنا إنه شامل للفريضة والنافلة ولو لم يرد حديث عمران لقلنا إن الحديث الأول شامل للفريضة والنافلة وعلى هذا لماذا خصصنا حديث عمران بالفريضة والحديث الأول بالنافلة؟ من القواعد المقررة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعموم حديث عمران يشمل الفريضة والنافلة وعموم حديث (صلاة القاعد ..) يشمل الفريضة والنافلة وبناءً على القاعدة السابقة فهذا التعارض بين الحديثين لا بد من دفعه. حديث (صلاة القاعد ..) له سبب وحديث عمران له سبب فسبب الحديث الأول هو أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد والمدينة محمة فوجدهم يصلون من قعود فقال (صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم) فتجشم الناس الصلاة قياماً فدل على أن هذا الحديث إنما ورد في النافلة بدليل أنهم صلوا قبل حضوره عليه الصلاة والسلام لأنهم لا يصلون الفريضة قبل حضوره لأنه الإمام فتبين من ذلك أنه في النافلة بالإضافة إلى أنه في حق المستطيع بدليل أنهم تجشموا القيام فاستطاعوا وإلا من صلى النافلة وهو قاعد مع عجزه عن القيام فأجره كامل وقصرنا هذا الحديث على سببه وهو أنه خاص بالنافلة لأن عمومه معارض بعموم هو أقوى منه ولذا قولهم (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ليس على إطلاقه فقد نحتاج خصوص السبب لدفع التعارض.(12/11)
في حديث أنس عند أبي داود (وكان إذا سافر) أخذ منه الجمهور على أن التنفل على الراحلة لا يسوغ إلا في السفر وجمع من أهل العلم يقولون إذا كان مبنى التطوع على التسامح فيجوز أيضاً في الحضر لا سيما في هذه الظروف والأحوال التي يطول فيها البقاء في السيارات.
في الحديث (وكان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة) فيكبر تكبيرة الإحرام إلى جهة القبلة ثم بعد ذلك يتجه إلى الوجهة التي يريدها (ثم صلى حيث كان وجه ركابه) وإسناده حسن.
في الطائرة والسفينة يصلي حتى الفريضة على حسب حاله لأنه لا يستطيع إيقافها بخلاف الراحلة لكن إن غلب على ظنه أنه يصل إلى البر قبل خروج الوقت فتأخير الصلاة بحيث تؤدى كاملة بأركانها وواجباتها أولى.
حديث أبي سعيد (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) نقل شيخ الإسلام تصحيحه عن جمع غفير من أهل العلم وصححه الحافظ في التلخيص وعلى كل حال فالمتجه أن الخبر مقبول وإن قال الترمذي إن له علة وهي الاختلاف في وصله وإرساله فالمرجح وصله وكونه روي من طريق مرسل فإنه لا يقدح في الخبر وإن قال الدارقطني والبيهقي إن المحفوظ المرسل. يؤيده حديث (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
خبر المواطن السبعة ضعيف لأن أهل العلم تكلموا في زيد بن جبيرة راويه بكلام قوي.(12/12)
حديث (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) من أحاديث الخصائص والخصائص تشريف له وجاء في الحديث (إلا المقبرة والحمام) وفي حديث أبي مرثد (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) فالصلاة في المقبرة مستثناة من حديث (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ومثلها البقعة النجسة وما يغلب على الطن نجاستها كالحمام وهو موضع الاغتسال لا موضع قضاء الحاجة والمزبلة والمجزرة كلها مظنة للنجاسة وعرفنا أن الخصائص تشريف فهل هذه الخصائص تقبل التخصيص فنستثني من الحديث المقبرة فنقلل هذه الخصائص وعليه نكون قد قللنا التشريف؟ ولذا يقول ابن عبد البر وابن حجر (الخصائص لا تقبل التخصيص) والحجة أن التخصيص تقليل لهذه الخصائص والمفترض أن الخصائص تشريف وعليه نكون قد قللنا هذا التشريف ويترتب على هذا القول جواز الصلاة في المقبرة. الجواب أن نقول إن الذي ذكر هذه الخصائص وهذا التشريف هو الذي استثنى فنحن نستثني من كلامه بكلامه ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عبد البر لكن هو يريد أن يحافظ على حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام. يمكن أن نناقش هذا الإمام بكلام قد يغفل عنه وهو أنه إذا عورضت حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام بحقوق الله (لأن النهي عن الصلاة في المقبرة إنما هو لحق الله عز وجل لأنها ذريعة إلى الشرك) فلا شك أن المحافظة على حق الله عز وجل أولى من المحافظة على حق النبي عليه الصلاة والسلام وعليه فالخصائص تقبل التخصيص إذا جاء ما يخصصها من نصوص صحيحة.(12/13)
المزبلة هي الموضع الذي يلقى فيه الزِّبْل أي القمامة والمجزرة هي مكان الذبح ويقع فيها الدم المسفوح النجس والمقبرة هي موضع الدفن وقارعة الطريق هي ما تقرعها الأقدام بالمرور عليها (من إتيان اسم الفاعل والمراد به اسم المفعول ومنه (في عيشة راضية) يعني مرضية كما أنه يأتي العكس ومنه (حجاباً مستوراً) يعني ساتراً) والحمام هو مكان الاغتسال ومعاطن الإبل هي مباركها ومواضع إقامتها سواء كانت في مراحها أو حول الموارد.
نهي عن الصلاة في الحمام بل جاء النهي عن دخوله في الجملة لما يوجد فيه من تسامح من بعض الناس في كشف العورات.
من المواطن التي جاء النهي عن الصلاة فيها فوق الكعبة وأما الصلاة داخل الكعبة فقد جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة وصلى في جوفها لكنها صلاة نافلة ولذا أكثر أهل العلم لا يصححون الفريضة داخل الكعبة وإنما يصححون النافلة لورود الدليل على ذلك ومنهم من يقول بأن الفريضة تصح كما تصح النافلة لكن قول الأكثر أنه يقتصر بما ورد على المورد يعني يقتصر فيه على النافلة والفريضة يطلب فيها الاستقبال للبيت كاملاً.
الصلاة فوق سطح الكعبة: الهواء له حكم القرار فالنافلة لا شك أنها تصح فوق السطح كما أنها تصح في الجوف وإن قال بعضهم إن النافلة لا تصح فوق الكعبة لأنه لم يستقبل شيئاً منها لكن يرد عليهم أنه من كان في محل مرتفع كمن في سطح المسجد لا يستقبل شيئاً من الكعبة وإنما يستقبل الجهة والهواء له حكم القرار.
علة النهي عن الصلاة في القبور أن الصلاة فيها ذريعة إلى الشرك فالنهي لنجاسة الشرك لا لنجاسة العظم والذي يقول بأن العلة هي النجاسة يفرق بين المقبرة المنبوشة والمقبرة غير المنبوشة ويفرق بينما إذا صلى وباشر تراب المقبرة وبينما إذا فرش عليها لكن من نظر إلى العلة الحقيقية رأى أنه لا فرق بين ذلك كله.(12/14)
(ولا تجلسوا عليها) أي على القبور وجاء عن مالك جواز الجلوس على القبور وحمل هذا الحديث على الجلوس على القبر لقضاء الحاجة لأنه ثبت عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبر وثبت عن علي أنه كان يجلس على القبر ويتوسد لكن ابن عمر وعلي قد يخفى عليهما هذا النهي والعبرة بما صح عن رسول الله وإن عارضه من عارضه كائناً من كان. وقد جاء في الحديث (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) وهذا في الصحيح.
حديث (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذىً أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما) صحيح وإن اختلف في وصله وإرساله فقد رجح أبو حاتم الوصل. والمسح شامل للمسح بالتراب والمنديل وما أشبه ذلك.
(فلينظر) في نعليه ليحتاط لطهارة المسجد ونزاهته وإذا كان تنظيف المسجد من أدنى شيء حتى من القذاة رتب عليه الثواب العظيم فمن يتسبب في تلويثه فلا شك أنه مسيء وإذا كانت النخاعة خطيئة في المسجد فإدخال النجاسات إليه أعظم.
بعد المسح تطهر النعل ولو كانت فيها نجاسة فإذا ذهبت عين النجاسة بالمسح طهر النعل وهذا من المطهرات في هذا الموضع وتطهير كل عين بحسبها.
الأصل أن التطهير لا يكون إلا بالماء لكن جاء تطهير النعل بالمسح وجاء تطهير الموضع الذي بال فيه الغلام الذي لم يأكل الطعام بالنضح والرش وجاء تطهير المذي بالنضح وجاء تطهير السكين بعد الذبح بالمسح كما قرر ذلك جمع من أهل العلم ومثله كل ما هو صقيل يكتفى بمسحه وشيخ الإسلام يرى أن تطهير ما يتلفه الماء كالكتاب يكتفى بمسحه لأن في غسله إضاعة للمال.
حديث (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب) له شواهد من حديث عائشة وغيرها وهو يشهد للحديث السابق. وهو يدل على الاكتفاء بمسح الخفين لإزالة ما علق بهما من نجاسة ثم بعد ذلك يصلي فيهما.(12/15)
حديث معاوية بن الحكم السلمي (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شي من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) له سبب وهو أن رجلاً عطس في الصلاة فشمته معاوية فرماه الناس بأبصارهم إنكاراً عليه فقال له رسول الله الكلام السابق مقراً لهذا الإنكار.
كانوا يتكلمون في أول الأمر يتكلمون في الصلاة بقدر الحاجة فكانوا يردون السلام ويشمتون العاطس حتى نزل قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) وهنا كأن القصة حصلت بعد نزول الآية ولذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام الكلام السابق ولذا يخطئ من يسترسل في الكلام في القنوت مثلاً فبعض الناس إذا شرع في القنوت فكأنه يخطب بل بعضهم يأتي بعبارات صحفية وبعضهم يعتدي في الدعاء وعلى هذا ينبغي أن يحتاط ويقتصر على الأدعية المأثورة سواء في القنوت أو في السجود ليضمن صحة صلاته لأن الأدعية المأثورة ليست من كلام الناس.
مثل القنوت دعاء ختم القرآن الذي يفعل في بعض الجهات فإذا أنهى قراءة القرآن في غير موضع القنوت يشرع في الأدعية المشروعة وغير المشروعة وتذكر فيها أسماء الأشخاص ويدعى فيها على بعض الأشخاص وغير ذلك والمقصود أن مثل هذا لا ينبغي التوسع فيه وإن كان جنسه مشروعاً الذي هو أصل الدعاء لكن يبقى أن الإنسان يحتاط لهذه الصلاة التي لا يصلح فيها شيء من كلام الناس.
القنوت له أكثر من عشرة معاني منها السكوت ومنها الدعاء ومنها طول القيام والمعنى المناسب في حديث زيد بن أرقم هو السكوت فمعنى (وقوموا لله قانتين) يعني ساكتين.
(إن كنا لنتكلم في الصلاة) المراد بذلك ما لا بد منه كرد السلام وتشميت العاطس وما كان بقدر الحاجة وليس معناه أنهم كانوا يتكلمون بما شاؤوا من الكلام.
(وقوموا لله قانتين) أمر بالسكوت وفي قوله (ونهينا عن الكلام) دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده لأن الصحابي فهم ذلك. من لازم الأمر بالسكوت النهي عن الكلام.(12/16)
ولذا يقرر أهل العلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن النهي عن الشيء أمر بضده لا سيما إذا لم يكن له إلا ضد واحد وأما إذا كان له أضداد فالمسألة تختلف.
إذا كان الكلام لمصلحة الصلاة فالمسألة خلافية وحديث ذي اليدين يدل على أنه لا بأس به لكن بقدر الحاجة.
حديث (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) متفق عليه ومعناه أن اللائق بالرجال هو التسبيح لأن أصواتهم لا تفتن وأن اللائق بالنساء هو التصفيق باعتبار أن صوت المرأة مما يثير الفتنة فلا ينبغي أن يظهر في العبادة على خلاف في صوتها هل هو عورة أو ليس بعورة مع اتفاقهم على تحريم الخضوع بالقول.
(التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) في الصلاة وفي الآية (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية) والمكاء هو الصفير والتصدية هي التصفيق وهذا صنيع أهل الجاهلية وهو باقٍ على المنع منه لكن ارتكاب مثل هذا الضرر لتحصيل مصلحة أعظم منه وهو تصويب هذه الصلاة التي حصل فيها الخلل بالتصفيق بالنسبة للنساء هو من باب ارتكاب أخف الضررين لأن الأصل أن التصفيق منهي عنه لا سيما في الصلاة لأن فيه مشابهة للكفار الذين كانت عبادتهم تصدية وتصفيق فهذا التصفيق من النساء يحقق مصلحة هي أرجح من مفسدة مشابهة أولائك وهي أيضاً أرجح من مفسدة ظهور صوت المرأة في الصلاة.
مطرِّف بن عبد الله من سادات التابعين وأبوه صحابي.
الأزيز هو الصوت الناتج من غليان القدر وفوران ما فيه إذا وضع على النار.
أخرج البخاري عن عمر أنه قرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ قوله جل وعلا (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) سُمِع نشيحه رضي الله عنه وأرضاه.
حديث (شيبتني هود وأخواتها) لما سأله أبو بكر فقال له (أراك شبت يا رسول الله) مضطرب وإن كان بعضهم يرجح بعض الروايات على بعض فينتفي الاضطراب.
عدم التأثر بقراءة القرآن يخشى أن يكون من مسخ القلوب ومسخ القلوب أشد من مسخ الأبدان نسأل الله العافية.(12/17)
حديث علي (كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي) ضعيف وإن صححه ابن السكن. وجاء بلفظ (سبح لي) في رواية ضعيفة إلا أنها أمثل من الرواية الأولى ولا يقال إن الروايتين يشهد بعضهما لبعض لأن بينهما اختلاف فالأولى فيها (تنحنح) والثانية فيها (سبح) ولا يقال إنه أحياناً يتنحنح وأحياناً يسبح ليرتفع الخلاف لأن هذا الكلام إنما يقال إذا صح الخبر باللفظين.
قول ابن عمر لبلال (كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي) فيه دليل على أنه يرد عليهم لأن السؤال عن الكيفية دليل على وجود السلام منهم والرد منه. والكيفية هي أنه يبسط يده بدل أن تكون على صدره وكيفية البسط هو أن يجعل ظهرها إلى السماء وباطنها إلى الأرض.
جاء عند أحمد وابن حبان وغيرهما أن المسئول صهيب ولا يمنع أن يكون المسئول مرةً بلال ومرةً صهيب وقد صحح الترمذي الحديثين كليهما.
من سُلِّم عليه في الصلاة فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يرد عليه في الحال بالإشارة وإما أن ينتظر حتى يفرغ من الصلاة فيرد عليه وإما ألا يرد عليه ألبتة لأنه شغل المصلي فلا يستحق الرد لكن الحديث يدل على أنه يرد لكن بالإشارة.
في حديث أبي قتادة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب) وهذا لا يفيد الاستمرار بل المقصود أنه وجد لأن ذلك لم يقع إلا مرة واحدة.
وقع هذا في الفريضة لأنه جاء في بعض الروايات أنهم كانوا ينتظرونه لصلاة الظهر فدخل وهو حامل أمامة بنت زينب ونسبت أمامة لأمها لشرف النسبة لأن أمها بنت النبي عليه الصلاة والسلام.
بفعله هذا يجتث ما كانت عليه الجاهلية من كره للبنات وإيثار للبنين فحمل هذه الطفلة في أشرف مقام بين يدي الله عز وجل.(12/18)
طالت مناقشات عند المالكية حول هذا الحديث فمنهم من يقول هو منسوخ ومنهم من يقول هو للحاجة والضرورة إذ لا يوجد من يكفيه أمر هذه البنت في أقوال كثيرة عندهم لكنه لبيان الجواز وأن مثل هذا الفعل جائز في الصلاة فقد فعله القدوة عليه الصلاة والسلام فلا مانع من حمل المصلي للطفل حال الصلاة إذا تحقق من طهارته لا سيما إذا كان في مقام تعليم واقتداء إذا كان ممن يقتدى به وأما إذا كان لا يترتب على الحمل مصلحة والحاجة ليست داعية فعلى الإنسان أن يقبل على صلاته.
ما في جوف الصبي معفو عنه, والحديث يدل على أن مثل هذه الأفعال لا تبطل الصلاة.
أخذ من هذا الحديث جواز القراءة من المصحف في الصلاة لأن حمل المصحف ووضعه ليس بأشد من حمل هذه البنت ووضعها إضافة إلى أن عائشة اتخذت إماماً يقرأ من المصحف.
الحنفية يمنعون القراءة من المصحف لكن الحديث دليل ظاهر على هذه المسألة فإذا لم يوجد حافظ وأمكنت القراءة من المصحف فلا بأس حينئذ.
منهم من يقول إجابة على هذا الحديث إن هذا البنت كانت تعلق به من غير علمه وكيف ذلك وقد دخل حاملاً لها على عاتقه وهم ينتظرونه للصلاة. الحديث يدل على أنه لم يكن هناك ضرورة ولا حاجة لذلك وإنما فعله لبيان الجواز فلا مانع أن يحمل الإنسان شيئاً طاهراً ولا أثر له في صلاته لا سيما إذا كان بحيث يقتدى به ليبين الجواز للناس لكن لكن يكون ديدناً له في كل صلاة يحمل شيئاً لأن هذا يشغله فعليه أن يقبل على صلاته لكن الصلاة لا تبطل بمثل هذا.
حديث (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) صحيح والوصف بكونهما أسودين هو وصف أغلبي لا أثر له في الحكم فالحكم شامل لجميع الألوان فيقتل في الصلاة كل حية وكل عقرب. وأهل الخبرة يقولون إن العقرب الصفراء أشد شراً من العقرب السوداء.
فالحديث يدل على أن المنصوص عليه يقتل ولو ترتب على القتل حركة من تقدم وتأخر وأخذ آلة وما أشبه ذلك لأن امتثال الأمر لا يتم إلا بهذا.(12/19)
يقاس على ذلك كل مؤذي كالذئب والأسد.
إذا تكلم لإنقاذ غريق أو إنقاذ إنسان من هلكة فمثل هذا لا يؤثر إن شاء الله تعالى.
جاء في الحديث وصول الحج وأنه يقبل النيابة ووصول الصدقة ووصول الدعاء وجاء النهي عن الصلاة (لا يصلي أحد عن أحد) فالعبادات المحضة لا تقبل النيابة. الصيام عبادة لكن جاء في الحديث (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وإن كان المتجه عند شيخ الإسلام وابن القيم وهو المذهب عند الحنابلة أن هذا خاص بصيام النذر فيما أوجبه الإنسان على نفسه والتزمه مما لم يوجب بأصل الشرع. وعلى كل حال الاقتصار على موارد النصوص هو الأصل وإن كان من أهل العلم من يرى أن كل قربة فعلها وأهدى ثوابها لحي أو ميت فإنه يصل لكن الاقتصار على موارد النص في الحج والصدقة والدعاء أولى وفي هذه الأبواب ما يغني عن الاستطراد وفعل ما لم يرد خشية أن يدخل في حيز الابتداع. لكن لو قرأ القرآن وأهدى ثوابه لأبيه أو لأمه فلا شك أن هذا مبني على قول معتبر عند أهل العلم وإن لم يكن راجحاً.
في الحديث (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وفي القرآن النهي عن إبطال العمل فإذا كانت الصلاة مضى منها ما يسمى صلاة فإبطاله فيه نظر فإذا صلى ركعة كاملة فإنه يتم الباقي ويخفف ليلحق بالإمام وأما إذا لم يصل ركعة كاملة فإنه حينئذ يقطعها.
الداخل إلى المسجد له أن يسلم والقارئ يرد والجالس يرد والمصلي يرد بالإشارة لأنه ثبت أنهم يسلمون على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ويرد عليهم السلام بالإشارة.
النساء ليس عليهن جماعة لكن إذا رأى مجموعة من النساء كون صلاتهن مجتمعات أحفظ لصلاتهن وأدعى لعدم استعجال بعضهن وأكمل لصلاتهن ففعلن ذلك فهذا له وجه. مع التنبه إلى وجود العذر عند بعضهن بحيث تحرم عليهن الصلاة فلا يجبرن على الصلاة مع الجماعة.(12/20)
شرب الماء في النافلة ورد عن ابن الزبير وليس فيه خبر مرفوع وورد عن بعض السلف فتح الباب في الصلاة وإطفاء السراج فلو احتاج المصلي إلى شيء من ذلك في النافلة فالنافلة أمرها أخف. لو زاد عليه البرد فالتحف أو زاد عليه الحر فخلع وهو في النافلة فإذا كان القصد صحيحاً لمصلحة الصلاة فلا بأس به إن شاء الله تعالى.
حديث (ذكاة الجنين ذكاة أمه) بالرفع عند الجمهور, وعلى هذا يكتفى بذكاة الأم عن ذكاة الجنين, وتكون ذكاة الجنين هي ذكاة أمه. وعلى النصب يختلف الحكم, لا بد أن يذكى كذكاة أمه, وبهذا يقول الحنفية.
الإقامة يشملها مسمى الأذان بالإطلاق العام, لكنها عند الإطلاق لا تشملها النصوص, فإذا حلف أن لا يؤذن ثم أقام فإنه لا يحنث. الأصل في الأذان أنه الإعلام, وهذا الأصل يشمل الأذان والإقامة, ويؤيده حديث (بين كل أذانين صلاة), لكن بالمعنى الأخص الأذان خاص بالأول والإقامة خاصة بالثاني, وعلى هذا من ردد خلف المقيم له وجه, والذي لا يردد خلفه له وجه وهو أولى.
إذا كثرت الأقوال الشاذة من شخص فإنه ينبغي أن يُحَذَّر منه لئلا يغتر به العامة, من غير استرسال في الطعن بذاته, وإنما يكون بقدر الحاجة.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الجمعة السابع من صفر عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الأربعاء الثاني عشر من صفر, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(12/21)
مهمات شرح باب صلاة التطوع من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الإشراق هو بزوغ الشمس, والذي في التقويم موضوعٌ للدلالة على البزوغ, لا على ارتفاع الشمس.
الوقت الذي بعد ارتفاع الشمس هو الوقت الذي تصلى فيه الركعتان إن صح الخبر فيمن صلى الصبح في جماعة وجلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس, فالصلاة لا تصلى إلا بعد ارتفاع الشمس, وحينئذٍ يدخل وقت الضحى.
ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه كان يمكث في مصلاه بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس, فمن فعل ذلك فقد اقتدى بفعله عليه الصلاة والسلام, وبعد ارتفاع الشمس يصلي ركعتين, وسواء ثبت الخبر أو لم يثبت فإن صلاة الضحى ثابتة ووقتها قد دخل بارتفاع الشمس.
إذا فاتت الإنسان صلاة الفحر فإنه يبدأ بالنافلة ما لم يخش طلوع الشمس, فإن خشي طلوع الشمس فإنه يصلي صلاة الفجر في وقتها أداءً ثم يقضي النافلة.
إذا استمعت إلى قارئٍ في شريط ومر بآية سجدة فلا تسجد.
من دخل المسجد في الوقت المضيق فإنه يجلس ولا يصلي, أو ينتظر حتى ترتفع الشمس ثم يصلي.
إذا كان الموظف جالس في مكتبه بلا عملٍ معظم الوقت فكونه يشغل وقته بالقرآن أو بالذكر أو بشيء ينفعه فهذا مطلوب.
الأصل في القرآن أنه ميسر, لكن قد يرتكب الإنسان من الموانع ما يجعل القرآن صعباً عليه عقوبةً له.
الأحاديث المرفوعة كلها تأمر بإعفاء اللحية وإكرامها وإرخاءها, وكان عليه الصلاة والسلام كث اللحية وتُرَى لحيته من خلفه وتُعرَف قراءته باضطراب لحيته, ولا يمكن أن يكون هذا مع الأخذ مما زاد على القبضة, وما جاء من أخذ ما زاد على القبضة من فعل ابن عمر فهو ثابت عنه وكذلك عن بعض الصحابة وعن بعض السلف, لكن هذه الأفعال لا تُعارَض بها الأحاديث المرفوعة, والتجربة أثبتت أن المقص إذا مس اللحية أفناها شيئاً فشيئاً.(13/1)
قوله (صلاة التطوع): من باب إضافة المصدر إلى مفعوله, وفاعله محذوف, ويراد به المسلم والمسلمة.
حديث ربيعة بن كعب الأسلمي (فأعني على نفسك بكثرة السجود): سبب قول النبي عليه الصلاة والسلام لربيعة (سل) هو مكافأته على لزومه إياه وخدمته له, حيث كان ربيعة يقدم النبي عليه الصلاة والسلام فأحضر له وضوءه في ليلة من الليالي.
قوله (بكثرة السجود): من باب التعبير بالجزء عن الكل وإرادة الصلاة لا السجود بمفرده, فالمعنى (فأعني على نفسك بكثرة الصلاة).
من هذا الحديث يؤخذ أنه لا عدد محدد للنوافل لا في الليل ولا في النهار, والإكثار من الصلاة لا يدخل في حيز البدعة إذا جاء على وجه مشروع امتثالاً لمثل هذا التوجيه, ما لم يكن ذلك عائقاً عن الأعمال التي هي أهم من ذلك من النفع المتعدي والأمور الواجبة , والإكثار من الصلاة عليه عمل سلف هذه الأمة.
الأحاديث الدالة على فضل طول القيام والقراءة والركوع والسجود: الحديث الصحيح (أفضل الصلاة طول القنوت) أي طول القيام, وحُفِظَ عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في ركعة بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران وكانت قراءته بمدٍّ وترتيل ولا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ, وقام عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تفطرت قدماه, وقال تعالى (ليبلوكم أيكن أحسن عملاً) ولم يقل (أكثر عملاً), وهذا كله يقتضي أن هذه الإطالة أفضل.
حديث الباب يدل على أن تكثير العدد وكثرة السجود أفضل.(13/2)
أيهما أفضل للمصلي: إطالة القيام والقراءة والركوع والسجود مع تقليل العدد؟ أو الإكثار من عدد الركعات مع تخفيف الكيفية والإكثار من السجود مع تقصير القيام؟ يعني أيهما أفضل: أن يصلي تسليمة واحدة أو أن يصلي عشر تسليمات, مع اتحاد الوقت؟ هذه مسألة خلافية بين أهل العلم, وبعضهم وجَّه بتوجيهٍ حسن وهو أن التوجيه بكثرة السجود ويقصد به الإكثار من نوافل الصلاة يليق بهذا الشخص ومن كان في حكمه, كما أن الأجوبة المتنوعة في أفضل الأعمال تختلف باختلاف الأشخاص, فإن بعض الناس عنده صبر وجلد بحيث يصبر على قراءة خمسة أجزاء في ركعة, في حين أن بعض الناس لا يصبر على مثل هذا, فالأول يوجه إلى التطويل, والثاني يوجه إلى الكثرة.
مثل ذلك التفاوت في القدر المقروء مع اتحاد الوقت, فأيهما أفضل: قراءة خمسة أجزاء في ساعة؟ أو قراءة جزء واحد في ساعة لكن مع الترتيل والتدبر؟ الجمهور على أن من يقرأ بالترتيل والتدبر ولو قلت قراءته أفضل, وبعضهم يقول إن تحصيل أجر الحروف أولى لأن قد حُدِّد الأجر وهو بكل حرف عشر حسنات. لو قرأ خمسة أجزاء في ساعة فإنه سيحصل على نصف مليون حسنة, لكن لو قرأ في ساعةٍ جزءاً واحداً مع التدبر وعلى الوجه المأمور به فإنه سيحصل على مائة ألف حسنة على الحروف, لكن ليُعلَم أن الأجر المرتب على القراءة على الوجه المأمور به أعظم, ومضاعفة الحسنات لا تقابل الإصابة في العمل, فالذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له أجران, لكن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, فالثاني أفضل من الأول, والذي صلى بالتيمم وأعاد له أجران, والذي لم يعد الصلاة أصاب السنة, وإصابة السنة أفضل من تكرار الأجر, وهنا نقول: من يقرأ على الوجه المأمور به ولو قلت قراءته أفضل ممن يكثر من قراءة الحروف مع الإخلال بما أُمِرَ به من ترتيل وتدبر.(13/3)
يستدل بقوله عليه الصلاة والسلام (فأعني على نفسك بكثر السجود) من يقول بعدم المنع من الزيادة على ما جاء في النصوص من النوافل المحددة.
الذي جاء في النصوص المقيَّدة أربعون ركعة في اليوم والليلة, فالفرائض سبع عشرة والوتر إحدى عشرة والرواتب ثنتا عشرة, وشيخ الإسلام وهو في صدد رده على ابن المطهِّر الذي زعم أن علياً يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة قال – أي شيخ الإسلام - : لو قلنا الزيادة على الأربعين غير مشروعة لما بَعُد.
لكن حديث الباب يدل على أن الزيادة مطلوبة, نعم جاءت الأربعين محددة بالنصوص, لكن ألا يزاد أربعاً قبل العصر؟ وبين كل أذانين صلاة؟ بلى, فهذا يدل على أن الأربعين ليست حاصرة, وفي الحديث (ولا يزال عبدي يتقرب إلي النوافل حتى أحبه), فدل على أن الإكثار من العبادات مطلوب, لكن بشرط ألا يعوقه عما هو أهم منه.
حديث ابن عمر في بيان السنن الرواتب: كأن الحديث يدل على أن النوافل النهارية تكون في المسجد والليلية تكون في البيت, وفي الحديث (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة), فالنوافل كونها في البيت أفضل لأنها أبعد عن رؤية الناس ومراءاتهم, كما أن فيها نفعاً لأهل البيت للاقتداء.
دل حديث أم المؤمنين الآتي أن راتبة الظهر القبلية أربع ركعات, لكن كأن ابن عمر رأى النبي عليه الصلاة والسلام يصلي هاتين الركعتين, وخفي عليه الركعتان الأخريان.
الرواتب ثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر, وركعتين بعدها, وركعتين بعد المغرب, وركعتين بعد العشاء, وركعتين قبل الفجر, والعصر لا راتبة لها.
الركعتان قبل الصبح هما آكد الرواتب, وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يدعهما سفراً ولا حضراً مع الوتر.(13/4)
إذا صلى ركعتي الجمعة في بيته فإنه يقتصر على ركعتين, وإذا صلاها في المسجد فإنه يصلي أربعاً, وبهذا تجتمع النصوص, لأنه حُفِظَ عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي بعد الجمعة أربعاً, كما أنه حُفِظَ عنه أنه كان يصلي ركعتين في بيته, فحُمِلَ هذا على اختلاف المكان, فإذا صلى في المسجد صلى أربعاً, وإذا صلى في البيت صلى ركعتين, وهذا هو تحقيق ابن القيم رحمه الله للمسألة.
من أهل العلم من جمع بين النصوص وقال: السنة البعدية لصلاة الجمعة ست ركعات, لأنه ورد أنه صلى ركعتين, ورود عنه أنه صلى أربع ركعات.
قوله (وكان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين): لأن الوقت وقت نهي, فإذا طلع الفجر بدأ وقت النهي وانقطع التنفل المطلق.
من صفة هاتين الركعتين أنهما خفيفتان, حتى قالت أم المؤمنين (لا أدري أقرأ بفاتحة الكتاب أم لا) بسبب تخفيفه هاتين الركعتين, لأنهما مع تأكدهما جاءتا في وقت نهي وهما نفل فهما على خلاف الأصل الذي تقرر بقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس), وهذا يشمل ما قبل الصلاة وما بعدها, وجاء الاستثناء (إلا ركعتي الصبح).
الجمهور على أن من صفة ركعتي الصبح الخفة, وقال بعضهم إنه لا يزيد على الفاتحة, والصواب أنه يزيد على الفاتحة سورتي الإخلاص.
دلت بعض النصوص على أن الفائدة من هذه الرواتب تكميل الفرائض, وفي الحديث (انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع).
إذا اقتصر على الواجبات ولم يأتِ بالنوافل فمن أين تُكمَّل له الفرائض إذا حصل الخلل؟!! نعم جاء في حديث ضمام بن ثعلبة لما ذكر الصلوات الخمس أنه قال: هل علي غيرها؟ قال عليه الصلاة والسلام (لا إن تطوع), وجاء أنه أقسم على ألا يزيد على ذلك ولا ينقص, لكن من يضمن للإنسان ألا ينقص عما افترض الله عليه؟!! إذا ضمن ذلك, فالنوافل زيادة فضل من الله جل وعلا ورفعة درجات, لكن لا يترتب على تركها عقاب.(13/5)
حديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة): يدخل في الأربع القبلية الركعتان الواردتان في حديث ابن عمر السابق, ولا يقال إن المجموع يكون ستاً, بل الراتبة القبلية أربع والبعدية ركعتين.
إذا فاتت الراتبة القبلية فمتى يقضيها؟ يصلي الراتبة البعدية, ثم بعد ذلك يأتي بالركعات الأربع القبلية قضاءً.
كان لا يدع هذه الصلوات لأنها رواتب, كما أنه لا يدع الرواتب الأخرى, وكان لا يدع ركعتي الصبح ولا الوتر سفراً ولا حضراً لتأكدها.
حديث عائشة (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) ولمسلم (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها): كان النبي عليه الصلاة والسلام يواظب عليها في السفر والحضر, وقد يُشغَل أحياناً عن بعض النوافل فيقضيها, لكن ركعتا الفجر لا يخل بهما, بل يحرص عليهما أشد الحرص.
النوافل البعدية مكملة للفريضة والرواتب القبلية مهيئة للفريضة.
(ركعتا الفجر) في يوم من الأيام (خير من الدنيا وما فيها).
ما يتعرض له الإنسان من صوارف وصواد عن العبادات السهلة الميسرة عقوبة من الله جل وعلا.
حديث أم حبيبة (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِي له بهن بيت في الجنة) وفي رواية (تطوعاً) وعند الترمذي زيادة وهي (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر) وللخمسة عنها (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار): بيان الاثنتي عشرة ركعة جاء في رواية الترمذي.
رواية الخمسة (من حافظ) تدل على أنه يحصل على الجزاء المذكور إذا حافظ عليها في عمره كله.
وفي الرواية نفسها (أربع قبل الظهر وأربع بعدها): الأربع القبلية هي الراتبة واثنتين من الأربع البعدية راتبة وزيادة ركعتين, فإذا زاد ركعتين على الاثنتين البعدية بعد الظهر حصل له ثوابٌ آخر, لكنها ليست راتبة.(13/6)
حديث ابن عمر في الأربع قبل العصر: الحديث فيه كلام لأهل العلم لكن أقل أحواله الحُسن, وقد صححه بعضهم لكنه لا يصل إلى درجة الصحيح, وفي إسناده محمد بن مسلم بن مهران فيه مقال خفيف لأهل العلم وثقه ابن حبان وغيره لكنه لا يسلم من التضعيف اليسير, فالحديث حسن.
الحث على صلاة أربع ركعات قبل العصر يتطلب التبكير لصلاة العصر.
صلاة العصر لها شأن عظيم: (من صلى البردين دخل الجنة) (من ترك العصر فقد حبط عمله) (من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله) فينبغي أن يكون لها مقدمات تساعد على فراغ البال وإقبال القلب بهذه الركعات الأربع, وإن لم تكن هذه الأربع من الرواتب لكن جاء الترغيب فيها.
حديثا عبد الله بن مغفل المزني وأنس في الصلاة قبل المغرب: (صلوا قبل المغرب) الأصل في الأمر الوجوب, لكن بين عليه الصلاة والسلام أن ذلك ليس بالأمر اللازم حيث قال في الثالثة (لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة, يعني كراهية أن يتخذها الناس راتبة بحيث لا يفرطون فيها ويشبهونها بالرواتب, وإنما هي نفل مطلق بعد أن انتهى المنع من الصلاة, يصلي المرء ما دامت الفريضة لم تحضر, ويؤيد ذلك الحديث (بين كل أذانين صلاة).
قوله (لمن شاء) يفيد أن الأصل في الأمر الوجوب, ولو لم يكن للوجوب لما قال (لمن شاء).
هاتان الركعتان قبل المغرب جاء الحث عليهما بقوله عليه الصلاة والسلام (صلوا قبل المغرب). وجاءت مشروعيتهما بفعله, فكان يصلي قبل المغرب ركعتين كما في رواية ابن حبان. وجاءت أيضاً بإقراره عليه الصلاة والسلام كما في رواية مسلم عن أنس, فتضافرت أنواع السنن الفعلية والقولية والتقريرة على مشروعية هاتين الركعتين, فأمر بهما وفعلهما وأقر من فعلهما. لكن هاتان الركعتان ليستا من الرواتب.
يضاف إلى الرواتب ركعات ليست منها: ركعتان بعد الظهر بعد الراتبة, وأربع قبل العصر, وركعتان قبل المغرب. فيصير المجموع مع الرواتب عشرون ركعة.(13/7)
المرتبة الثالثة مرتبة النوافل المطلقة.
الرواتب على الإنسان أن يحافظ عليها ويتعاهدها في الحضر, وأما في السفر فأهل العلم يقولون إن الرواتب لا تفعل في السفر باستثناء ركعتي الصبح, وأما النوافل المطلقة فإنها تفعل في السفر مع أنه إذا كان يحافظ عليها في الحضر فإنها تكتب له في السفر والمرض لحديث (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) وجاء في الخبر (لو كنت مسبحاً لأتممت), وعلى هذا فما دام يحافظ على النوافل المطلقة في الحضر فإنه ينبغي أن يكون شأنها شأن الرواتب, والتخفيف من صلاة الفرض إنما كان ملاحظةً للمشقة اللاحقة بالمسافر التي تقتضي ذلك, لكن أهل العلم ينصون على الرواتب لأنها هي التي يحافظ عليها بخلاف النوافل المطلقة وما نص عليه من النوافل من غير الرواتب كالأربع قبل العصر.
حديث عائشة في تخفيف الركعتين قبل صلاة الفجر: الفريضة تُطَوَّلُ فيها القراءة, كما جاء في حديث عائشة (وإلا الصبح فإنها تُطَوَّلُ فيها القراءة), وأما النافلة فتخفف فيها القراءة.
قولها (حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟!!): يعني مبالغة في تخفيف هاتين الركعتين, حتى قال بعضهم إنه لا يشرع قراءة قدر زائد على الفاتحة, وشذ بعضهم وقال (ولا تقرأ ولا الفاتحة) لكنه قول شاذ لا يعول عليه, والتشكيك في قراءة الفاتحة لا يمنع من كونه قرأها, فالمراد أنه يبالغ في التخفيف.
حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد)): تشرع قراءتهما في افتتاح الصلاة في النهار, ويقرأ بهما في ركعتي المغرب, وفي ركعتي الطواف, وفي الوتر.(13/8)
جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في ركعتي الصبح في الركعة الأولى بآية البقرة (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) وفي الركعة الثانية قرأ بالآية التي في آل عمران (قل يا أهل الكتاب) عوضاً عن سورتي الإخلاص, فدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بعد الفاتحة إما سورة قصيرة كسورتي الإخلاص أو آية واحدة.
تجوز الصلاة بآية, وبعضهم يقول إنه لا بد أن تكون هذه الآية بمقدار أقصر السور, وعلى كل حال إذا كانت ينطبق عليها ما تيسر فإنها تسمى قراءة, فلو قال (ولا الضالين آمين ثم نظر) ثم ركع وفي الركعة الثانية قال (مدهامتان) أو العكس وركع,هل يحصل له قراءة ما تيسر بعد الفاتحة مع أنه قرأ آية؟ إذا كانت الآية بقدر السورة فلا شك أنها مشتملة على الإعجاز ويقع بها التحدي, وأما مطلق الآية لم يقع بها التحدي, فقد جاء التحدي بالقرآن كاملاً, وجاء التحدي بعشر سور, وجاء التحدي بسورة, لكن لم يأت التحدي بآية, لكن إذا كانت هذه الآية بقدر سورة فإنه يحصل بها التحدي, لكن مطلق الآية أي الإطلاق الذي يشمل كلمة واحدة (مدهامتان) أو (ثم نظر) لا يحصل به التحدي, وكونه عليه الصلاة والسلام قرأ في ركعتي الصبح بآية في كل ركعة يدل على أن الأجر يثبت بآية, لكن هذه الآية التي قرأها هي مما يحصل به التحدي مما يكون بقدر أقصر السور.(13/9)
حديث عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن): هذا ثابت من فعله عليه الصلاة والسلام, وهذه الضجعة بعد ركعتي الفجر اختلف أهل العلم في حكمها: فبالغ ابن حزم فقال بالوجوب, بل قال إن صلاة الصبح لا تصح لمن لم يضطجع بعد ركعتي الصبح, فيُبطِل الصلاة إذا لم يضطجع قبلها, لكن هل هذا الفعل له ارتباط بالصلاة ليكون له أثر في حكم الصلاة؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم الليل قياماً طويلاً فيحتاج إلى الراحة, ولهذا قال بعضهم إن هذه الضجعة لا تشرع إلا لمن أطال القيام, فهي تفعل إن احتاج إليها لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفعلها لحاجته إليها, ولذا كان ابن عمر يحصب - يرمي بالحصى - من اضطجع, لكن هذا كان في المسجد لأنه لا يمكن أن يحصب الناس وهم في بيوتهم, والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يضطجع في بيته ولم يكن يضطجع في المسجد, وعلى هذا فالاضطجاع سنة لمن صلى الركعتين في بيته اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام, ولا يُربَط ذلك بالحاجة, وإنما يُربَط بفعل ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام, وفعل ابن عمر يحمل على من اضطجع في المسجد لا في البيت.
عند ابن حزم لا بد أن يكون الاضطجاع على الجنب الأيمن, فلو لم يستطع الاضطجاع على جنبه الأيمن فإنه لا يضطجع على جنبه الأيسر, بل يومئ إيماءً إلى الاضطجاع ولا يضطجع, وهذه حرفية.
حديث أبي هريرة (إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن): الحديث في المسند والسنن وصححه بعضهم, لكن شيخ الإسلام يقول (الأمر بالاضطجاع ليس بصحيح, تفرد به عبد الواحد بن زياد ولا يحتَمل تفرده) كما نقله ابن القيم عنه.(13/10)
لو ثبت الأمر فالأصل فيه الوجوب, لكن يبقى أنه أمر خارج عن الصلاة, فهو أمر توجيه وإرشاد وإرفاق, فأقل أحواله الاستحباب, وعرفنا أنه مروي من طريق عبد الواحد بن زياد وفيه مقال ولا يحتمل تفرده, ولذا حكم شيخ الإسلام على الحديث بأنه ليس بصحيح.
حديث ابن عمر (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) وللخمسة وصححه ابن حبان (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وقال النسائي (هذا خطأ): المعنى أن كل تسليمة فيها ركعتان, ولا تجوز الزيادة عليهما, فلا يصلي أربع ركعات مثلاً بسلامٍ واحد, وعلى هذا فإنه إذا قام إلى ثالثةٍ في صلاة التراويح فإنه يلزمه الرجوع, ولذا يقول أهل العلم إنه كثالثةٍ في فجر, لأن بعض الناس يلتبس عليه الأمر فيما إذا ترك التشهد في الركعة الثانية وقام إلى ثالثة وهو في التراويح فإنه يظن إنه إن شرع في القراءة حرم عليه الرجوع وأنه إذا استتم قائماً كره الرجوع, وليس الأمر كذلك بل يلزمه الرجوع إن قام إلى ثالثة حتى لو شرع في القراءة وحتى لو ركع, فهو كما لو قام إلى ثالثةٍ في الفجر.
المقصود بذلك ما عدا الوتر, فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أوتر بثلاث وبخمس وبسبع وبتسع بسلامٍ واحد.
إطلاق الحديث يدل على أن صلاة الليل لا تتقيد بعددٍ معين, ويؤيده حديث (أعني على فسك بكثرة السجود) فلا عدد محدد لصلاة الليل.(13/11)
الحديث يدل على أنه إذا طلع الصبح فلا صلاة إلا ركعتي الصبح, وبعضهم يقول بأن الوتر يستمر بعد طلوع الصبح إلى إقامة صلاة الصبح, وبعض السلف قضى الوتر بعد طلوع الصبح, لكن مقتضى هذا الحديث أنه لا يُقضى الوتر بعد طلوع الصبح حيث قال (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى), فدل على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الصبح ولا يستمر إلى ما بعد الطلوع, وعلى هذا إذا خاف أن يباغته الصبح فإنه يصلي ركعة واحدة, لكن إذا تيقن طلوع الصبح فإنه يقف, لأن وقت الوتر انتهى وفات وقته ودخل وقت النهي.
يقضى الوتر وقيام الليل بعد ارتفاع الشمس وقبل الزوال, على أن يكون شفعاً, لأن النهار ليس بمحلٍّ للوتر, فإذا كانت عادته أن يوتر بثلاث فإنه يصلي من الضحى أربع ركعات, وإذا كانت عادته أن يوتر بخمس فإنه يصلي من الضحى ست ركعات, وإذا كانت عادته أن يوتر بسبع فإنه يصلي من الضحى ثماني ركعات وهكذا.
وللخمسة وصححه ابن حبان (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى): قال النسائي في لفظة (والنهار) إنها خطأ, وجمعٌ من الحفاظ يقولون إن هذه اللفظة ليست محفوظة, لكن صححها بعض أهل العلم ومنهم البخاري, والتردد الحاصل بسبب إجمال بعض الأحاديث كالأربع قبل الظهر والأربع قبل العصر هل تصلى بسلام أو بسلامين؟ الاحتياط ألا يزيد الإنسان في نوافله على ركعتين, ويستوي في ذلك الليل والنهار, وإن لم تثبت هذه اللفظة فالأمر فيه سعة.
فائدة: من أسند فقد أحال ومن أحال فقد برئ.
أهل العلم يقررون أنه إذا خرج الوقت فالنوافل سنن فات وقتها, وعلى هذا لا تقضى النوافل, وقضاء الرواتب في غير وقتها من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد قضى راتبة الظهر بعد صلاة العصر, لكن من فاتته راتبة الظهر حتى خرج وقت الظهر فإنه حينئذ يكون وقتها قد انتهى.(13/12)
القول بأن العبادات المتعدية أفضل من اللازمة ليس على إطلاقه, لأن الصلاة وهي لازمة أفضل من الزكاة وهي متعدية. نعم إذا تساوى الأجر في هذا وهذا فلا شك أن ما يتعدى نفعه أفضل مما يلزم الشخص, لكن إكثار الإنسان من النوافل اللازمة الخاصة سبب لإعانته على الأمور المتعدية لا سيما إذا فعلها بإخلاص وبعد عن رؤية الناس, وحينما يقال إن العلم أفضل من نوافل العبادات لا يعني أن النوافل الأخرى تهمل, وكونه يقال إن الجهاد أفضل من نوافل الصيام والصلاة لا يعني أن هذه العبادات تهمل, وإنما هو من باب الحث على هذا النوع مع العناية بغيره.
الأفضل أن يصلي راتبة الفجر في بيته ويضطجع بعدها, فإذا حضر إلى المسجد قبل إقامة الصلاة فإنه يصلي تحية المسجد, لأن النهي مخفف والوقت موسع.
التصدق على من فاتته الجماعة بالصلاة معه في وقت نهي لا بأس به, لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من يتصدق على هذا) وكان هذا في صلاة الصبح فقام شخص فصلى معه, فهذه الصلاة في الوقت الموسع لها سبب وهو الصدقة, وهو وقتٌ موسع.
فعله عليه الصلاة والسلام واقتصاره على إحدى عشرة ركعة وعدم زيادته على ذلك لا في رمضان ولا في غيره لا يدل على التحديد, ومن اقتصر على العدد مع الإخلال بكيفية صلاة النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الإحدى عشرة ركعة لا يقال إنه أكمل من غيره ممن زاد في العدد, ومن اقتصر على العدد مع الإتيان بالكيفية بلا إخلال فإنه يرجى له أن يحصل على أجر أعظم من أجر من زاد في العدد.
من لم يتمكن من صلاة الراتبة قبل صلاة الفجر فهو بالخيار: إما أن يصليها بعد الفريضة قبل ارتفاع الشمس, وإما أن يصليها بعد ارتفاع الشمس, والنبي عليه الصلاة والسلام أقر من صلى راتبة الصبح بعدها.(13/13)
إن قُدِّرَ أن صاحب البطاقة مدفوعة الثمن لم يستعملها حتى انتهى الوقت المحدد فهو المفرِّط, لأن الثمن معلوم والمُثمَن دقائق معلومة, وإن لم يستعملها حتى انتهى وقت استعمالها فهو المفرِّط, كما لو استأجر بيتاً لمدة سنة ولم يستعمله فإنه لا يحق له استرجاع قيمة الأجرة, وكما لو اشترى لتر لبن وانتهت مدته ولم يستعمله فإنه يذهب عليه.
الوتر إما ركعة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة, وقيام الليل مطلق مثنى مثنى.
قضاء قيام الليل في الضحى يكون بنية قضاء قيام الليل لا بنية صلاة الضحى.
في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تخطئ.
الرؤيا وإن كانت حق لا يرتب عليها أمور شرعية, لأن الشرع كامل بدون الرؤى, نعم إذا كانت تسر الإنسان فهي مبشرة, وقد يؤخذ منها بعض القرائن, لكن لا يؤخذ منها دلائل يثبت بها أحكام, ولا يؤاخذ بها أحد بمجردها, فالآثار المترتبة على الرؤيا المتعدية لا يعمل بها, ولا يلزم أن يكون كل ما يرى له واقع وحقيقة.
إذا عقد الإنسان على المرأة بوجود الولي والشهود وحصل الإيجاب والقبول فهي زوجته وله أن يفعل معها ما شاء.
ما حكم بيع التورق الحاصل في بعض البنوك ومنه البنك السعودي الأمريكي, وصورة ذلك أنه يبيع لك معدناً بقيمة مؤجلة ثم يترك لك حرية بيعه, إما أن تبيعه لمن تحب وإما أن توكل مكتباً معتمداً عند البنك ليبيعه لك؟ إن كان البنك يملك هذا المعدن ملكاً تاماً مستقراً قبل بيعه وقبل إبرام أي عقد مع الطرف الآخر, وقبض الطرف الآخر المعدن قبضاً شرعياً معتبراً ثم باعه على من شاء فإنه حينئذٍ لا بأس به, على أن التعامل مع البنوك التي تتعامل بالربا من التعاون على الإثم والعدوان إذا لم يوجد من يقضي الحاجة غيرهم.(13/14)
شخص يقول أنا أجعل قدوتي الله سبحانه وتعالى بالأقوال والأفعال, هل كلامه صحيح؟ ليس بصحيح, بل القدوة هو النبي عليه الصلاة والسلام, والله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء, فهل لمن زعم ذلك أن يقسم بما شاء؟!!
اختارني عملي لدورة دراسية مدتها سنة ونصف في إحدى الدول الكافرة, فهل أذهب لهذه الدورة علماً أني أب لأربعة أبناء وأن هذه الدورة قد تنفعني في عملي وترقياتي؟ لا تذهب واحرص على دينك, وأمور الدنيا مدركة, وهذه البلاد ولله الحمد فيها من الفرص والخير الكثير ما يغنيك عن معاشرة الكفار ورؤية منكراتهم, وما عند الله لا ينال بسخطه, وهذه أمور اجتهادية فقد يوجد من لا يرى بأساً في السفر لأجل ذلك.
معنى حديث (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة): إذا لم يكن في الأعمال العامة الأكفاء فانتظر الساعة.
مجرد سلوك طريق طلب العلم وبذل الأسباب يسهل طريق الوصول إلى الجنة, لأنه في الحديث (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ولم يقل (من صار عالماً).
إذا فرغت من قراءة الفاتحة في الثالثة والرابعة والإمام لم يركع فلك أن تقرأ ما تيسر بعد الفاتحة.
حديث أبي هريرة (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل): صلاة الليل تشمل قيام الليل وتشمل الوتر, وكون صلاة الليل أفضل من صلاة النهار تطوعاً لأنه أقرب إلى الخشوع وأسكن للقلب وأبعد عن رؤية الناس, وفي ثلث الليل الأخير وقت النزول الإلاهي.
لم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قام ليلةً بكاملها, اللهم إلا ما ذكر عنه في العشر الأخيرة من رمضان, وفيما عذا ذلك فإنه ينام ويقوم.(13/15)
حديث أبي أيوب الأنصاري (الوتر حق على كل مسلم, من أحب أن يوتر بخمس فليفعل, ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل, ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل): قوله (حق) يعني متأكد, كما تقول لفلان من الناس (لك علي حق) يعني متأكد, ولا يلزم من هذا أن يكون واجباً, فهو من آكد النوافل وإن لم يكن واجباً, ولهذا فجمهور أهل العلم على أن الوتر ليس بواجب والأدلة على ذلك كثيرة, ومنها أنه لما ذكر الصلوات الخمس قال (هل علي غيرها) قال (لا إلا أن تطَّوع), فدل على أن الوتر ليس بواجب, وأوجبه أبو حنيفة استدلالاً بمثل هذا الحديث وحمل الحق على الواجب الذي يجب أداؤه, لكن عامة أهل العلم على أن الحق هو المتأكد وإن لم يكن واجباً.
قوله (من أحب أن يوتر بخمس فليفعل): ظاهره أنها بسلامٍ واحد, وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أوتر بخمس بسلامٍ واحد ولا يجلس بينها.
كون الإنسان يحال إلى مشيئته ومحبته وإرادته يدل على أن هذا الأمر ليس بواجب.
أدنى الكمال في الوتر ثلاث وأكثره إحدى عشرة.
صلى النبي عليه الصلاة والسلام إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة, وأوتر بتسع يجلس في الثامنة ويتشهد ثم يقوم ويسلم بعد التاسعة, وأوتر بسبع بسلامٍ واحد, وأوتر بخمس, وأوتر بثلاث, وجاء النهي عن تشبيه الوتر بالثلاث بالمغرب, بل يسرد هذه الثلاث سرداً أو يفصل بينها بسلام.
لم يثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه أوتر بواحدة, وثبت ذلك من فعل معاوية رضي الله عنه وصوبه ابن عباس, ودل عليه هذا الحديث إن صح رفعه, وإلا فقد رجح النسائي وقفه على أبي أيوب, ومن أهل العلم من يصححه مرفوعاً.
منهم من يقول إنه وإن لم يثبت رفعه فإن له حكم الرفع, لأن أعداد الصلوات توقيفية, لا يمكن أن يقولها الصحابي من تلقاء نفسه ومن اجتهاده, لأن الأعداد مردها إلى الشارع, وحينئذٍ يكون الوتر بواحدة مشروع.(13/16)
حديث علي (ليس الوتر بحتمٍ كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم): هذا من أدلة الجمهور على أن الوتر ليس بواجب, وإن كان الحديث فيه مقال, لأن فيه عاصم بن ضَمُرة, تكلم فيه غير واحد من أهل العلم, وحسنه الترمذي وصححه الحاكم, لكنه لا يسلم من مقال.
حديث جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في شهر رمضان ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج وقال: إني خشيت أن يُكتب عليكم الوتر): الحديث ضعيف, لكن ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم في رمضان, صلى فاجتمع له الناس وصلوا بصلاته, ثم في الليلة الثانية اجتمع أكثر منهم, ثم انتظروه في الثالثة فلم يخرج إليهم, وقال (إني خشيت أن تُكتب عليكم) يعني صلاة الليل, لأنهم إذا كتبت عليهم قد يعجزون عنها, فترك الصلاة بهم في ليالي رمضان جماعةً لا نسخاً لها ولا عدولاً عنها وإنما خشية أن تفرض عليهم.
قد يقول قائل إن الصلاة فرضت خمساً في العدد وخمسين في الأجر في كتاب لا يُبدَّل, فكيف يخشى أن تفرض؟ من الأجوبة أن الخشية إنما هي من فرض الجماعة في التطوع بحيث لا يصح التطوع إلا جماعة, لا خشية أن هذه الصلاة تفرض عليهم فتزيد على الخمس المعروفة.
تركه عليه الصلاة والسلام للصلاة جماعة في رمضان لا عدولاً عنها ولا نسخاً لها, ولذا لما أمنت خشية الفرضية بوفاته عليه الصلاة والسلام جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على إمامٍ واحد, حيث خرج وهم يصلون أوزاعاً, كلٌّ يصلي لنفسه فجمعهم على إمام واحد, ثم خرج في ليلةٍ وكأنه أعجبه صنيعهم فقال كما في البخاري (نعمت البدعة هذه).(13/17)
الشارح الصنعاني تكلم بكلام لا يليق بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه, ولا شك أن هذا من تأثير البيئة التي عاش فيها, وقال بعضهم إنه لم يسلم من شوب التشيع, وله أكثر من موضع يسيء فيه مثل هذه الإساءة, يقول (والبدعة مرفوضة ولو كانت من عمر وليس في البدع ما يمدح وكل بدعة ضلالة)!!!! لا شك أن كل بدعة ضلالة لكن هل مثل هذا الكلام يقال في حق الخليفة الراشد الذي أمرنا بالاقتداء به؟!!!! إذا قال مثل هذا في عمر في هذا العمل الذي سبقت شرعيته من فعل النبي عليه الصلاة والسلام فماذا يقول عن عثمان رضي الله عنه في أمره بالأذان الأول يوم الجمعة ؟!!!! لا شك أن هذا سوء أدب مع الخليفة الراشد رضي الله عنه, ولا شك أن هذا من تأثير البيئة, فقد عاش الصنعاني - ومثله الشوكاني - في بيئةٍ يغلب عليها التشيع, وإلا فمثل هذا الكلام لا يصدر من عالمٍ يقدر الصحابة قدرهم, وحصل منه – الصنعاني - بعض الشيء مع معاوية رضي الله عنه وأرضاه, وكذلك مع عثمان حين أمر بالأذان الأول يوم الجمعة, وكذلك من الشوكاني حصل بعض الأشياء.
البدعة في الأصل ما عُمِلَ على غير مثال سابق, وفي الشرع ما أُحدِث في الدين مما لم يسبق له شرعية في الكتاب والسنة, وإذا لم تكن صلاة التراويح بدعة لا لغوية ولا شرعية, فما معنى قول عمر رضي الله عنه (نعمت البدعة هذه)؟
وشيخ الإسلام رحمه الله - ويقلده كثير من أهل العلم – يقول إنها بدعة لغوية, لكن البدعة في اللغة ما عُمِلَ على غير مثال سابق, وصلاة التراويح جماعةً في ليالي رمضان عُمِلَت على مثال سابق, حيث صلاها النبي عليه الصلاة والسلام ليلتين جماعة, فليست بدعة لغوية.
كونه تركها لعلة لا يعني أنه تركها رغبةً عنها ولا نسخاً لها, لأنها لو نسخت لم يجز لأحدٍ أن يعمل بمنسوخ, إلا من جهل أنه منسوخ.
ليست ببدعة شرعية, لأنها سبقت شرعيتها من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(13/18)
ليس ذلك من قبيل المجاز, لأن المجاز لا يعرف في لغة العرب بالمعنى الذي يفسره به من يقول به وهو (استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له).
الصواب أن تعبير عمر رضي الله عنه بذلك كان من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير, لما خرج عليهم ورأى هذا المنظر الذي أعجبه وقد استند فيه إلى فعل النبي عليه الصلاة والسلام ولم يبتدع خشي أن يقال (ابتدعت يا عمر) أوكأنه قيل له (ابتدعت يا عمر) فقال (نعمت البدعة هذه) على سبيل المشاكلة والمجانسة في التعبير, وإلا فهي ليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية وليس ذلك من قبيل المجاز.
باب المشاكلة والمجانسة معروف في علم البديع وله أمثلة كثيرة, منها قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها), فإن الجناية سيئةٌ بلا شك ومعاقبة الجاني حسنة, لكن سميت معاقبة الجاني في الآية سيئة من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير, ومنها البيت المشهور: قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقميصا
صلاة الليل مشروعة جماعة ولها أصل حتى في غير رمضان, حيث صلاها النبي عليه الصلاة والسلام وصلاها معه ابن عباس جماعة, وصلاها معه ابن مسعود جماعة, وقيام رمضان مشروع وجاء الحث عليه بقوله عليه الصلاة والسلام (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه), وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان جماعة, وكونه ترك فإنه لم يكن نسخاً ولا عدولاً عنها وإنما خشية أن تفرض, فتشريعها باقٍ مع أمن ما خشيه النبي عليه الصلاة والسلام من كونها تفرض.
استدل بقول عمر من يقسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة, بل قسم بعضهم البدع إلى خمسة أقسام تبعاً للأحكام التكليفية الخمسة, والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (كل بدعة ضلالة) فكيف يكون من البدع ما يمدح؟!! وكيف يكون منها ما هو واجب وما هو مستحب؟!!.(13/19)
حديث خارجة بن حذافة (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم, قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر): خارجة بن حذافة العدوي ولي القضاء بمصر لعمرو بن العاص ولما اتفق الخوارج الثلاثة على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم, أناب عمرو بن العاص خارجة بالصلاة عنه, فقُتِل خارجة, وفي هذا يقول القائل والضمير يعود على المنية: وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ فدت علياً بمن شاءت من البشرِ
قوله (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم): يعني زادكم على ما افترض عليكم.
الفرق بين الفعل الثلاثي (مد) والفعل الرباعي (أمد): (مد) يأتي في الشر كما في قوله تعالى (ونمد له من العذاب مداً), و (أمد) يأتي في الخير كما هنا وكما في قوله تعالى (وأمددناكم بأموال وبنين).
حمر النعم هي الإبل الحمر التي هي أنفس أموال العرب.
الوتر من آكد الصلوات, ولذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحافظ عليه سفراً وحضراً.
قوله (ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر): هذا وقت الوتر, فلا يصح الوتر قبل صلاة العشاء, وإذا طلع الفجر انتهى وقته.
الوتر مربوط بصلاة العشاء لقوله (ما بين صلاة العشاء), فلو جمعت العشاء إلى المغرب جمع تقديم فله أن يصلي الوتر ولو قبل وقت العشاء, ويأتي الوتر بعد الفريضة والراتبة, ويستمر وقته إلى طلوع الفجر, فإذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر.(13/20)
الكلام على سلسلة (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده): الخلاف إنما هو في مرجع الضمير في (جده), هل يعود إلى عمرو أو إلى شعيب؟ ومن هو الجد؟ هل هو محمد أو عبد الله بن عمرو بن العاص؟ هذا محتمل, فإذا قلنا إن الجد هو جد عمرو, فالمراد به محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص, وهو تابعي, وعلى هذا تكون الأخبار المروية بهذه السلسلة على هذا الاعتبار مرسلة, وإذا قلنا إن الجد هو جد شعيب وهو أقرب مذكور, فالمراد بالجد عبد الله بن عمرو بن العاص, وحينئذٍ ينتفي الإرسال, لكن في سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو خلاف, وقد جاء التصريح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو كما في بعض الأسانيد عند أحمد والنسائي وغيرهما (عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو).
جمع من أهل العلم يرون أن هذه السلسلة ضعيفة للخلاف المذكور, وبعضهم يرى أنها صحيحة لأن الجد معروف وشعيب سمع من جده, لكن التوسط في هذا أن يقال هي من قبيل الحسن.
حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه (الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا): أخرجه أبو داود بسند لين, يعني فيه ضعف, وإن صححه الحاكم, لأن في إسناده عبيد الله بن عبد الله العتكي, وهو مضعف عند أهل العلم. وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة عند أحمد, فالأصل لين والشاهد ضعيف, والحاكم صححه على عادته في تساهله في ترقية مثل هذا الحديث بالشاهد المذكور, ويصححه مثل ابن حبان وقبله الترمذي بالشاهد, فالسند اللين ضعفه غير شديد ويمكن أن ينجبر, إذا وجد شاهد يقويه ولو كان هذا الشاهد ضعيفاً ولم يكن ضعفه شديداً فإنه حينئذٍ ينجبر, ولو قيل بأن الحديث من حيث الإسناد حسن لغيره لما بَعُدْ, لأن ضعف الأصل ليس بشديد ووُجِدَ الجابر فعلى القاعدة يمكن أن يرتقي.(13/21)
لكن متنه فيه ما فيه, فقوله (الوتر حق) مقبول وليس بباطل, لكن النكارة في قوله (فمن لم يوتر فليس منا) والأدلة تدل على أن الوتر ليس بواجب, فلا يمكن أن يقال مثل ذلك والوتر ليس بواجب, إلا إذا تجوزنا في العبارة وقلنا إن معنى (فليس منا) أي ليس على طريقتنا وهدينا وسنتنا في الوتر, يعني ترك سنتنا وهدينا وطريقتنا في الوتر, وهذا محمول على الرجل الذي يترك الوتر بالكلية, ولذا يقول الإمام أحمد (من ترك الوتر فهو رجل سوء ينبغي ألا تقبل له شهادة) وهو محمول على من تركه واستمر على تركه, وليس محمولاً على من يوتر لكن تركه مرة أو مرتين, فهذا لا يؤثر, لأن الوتر سنة عند الجمهور.
يقال للراوي لين إذا لم يكن له من الحديث إلا القليل ولم يثبت في حقه ما يترك حديثه من أجله فإن توبع فمقبول وإلا فلين.
إذا أتى حديث بلفظه أو بمعناه من طريق صحابي آخر فإن اتحد الصحابي فهو المتابع وإن اختلف الصحابي فهو الشاهد.
ينبغي أن يقول الحافظ (ضعيف جداً) ولا يكفي أن يقول (وله شاهد ضعيف) لأن في رواته من هو منكر الحديث وهو الخليل بن مرة.
حديث عائشة (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة): ثبت أنه صلى ثلاث عشرة ركعة, وثبت في حديث أبي هريرة وغيره أنه زاد على الإحدى عشرة ركعة, لكن هذا على حسب علمها.
كما أخبرت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يصوم من عشر ذي الحجة وثبت من طريق غيرها أنه كان يصوم, فكونه يترك ويفعل ما لم تطلع عليه لا يعني عدم الوجود, على أن عدم الزيادة في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة هو غالب فعله عليه الصلاة والسلام, وهذا ديدنه لا يزيد على ذلك.
قولها (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن): هذه الأربع يحتمل أن تكون بسلام واحد, ويحتمل أن تكون بسلامين, إلا أن حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) ينفي الاحتمال الأول.(13/22)
قولها (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن): لأن ذلك مشهور من فعله فلا يُسأل عنه, أو لأنني لا أستطيع أن أصف هذا الحسن وهذا الطول, لا أستطيع ذلك حقيقةً أو لأنك ومثلك لا يحتمل مثل هذا الوصف ولا يستوعبه, لأن بعض الناس ينظر إلى الناس ويقيس فعلهم على فعله.
ثبت في الصحيح أنه قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران في ركعة واحدة وقراءته كانت مداً.
نُقل عن بعض علماء المغرب أن الخلاف في كفر تارك الصلاة خلاف نظري لا حقيقة له في الواقع, لأنه لم يتصور أن من ينتسب إلى الإسلام يترك الصلاة, فعنده أن العلماء افترضوا هذه المسألة وإلا لا وجود لها, فهو يتحدث بقدر ما عنده, وكلامه مستغرب الآن لكثرة تاركي الصلاة ومؤخريها عن أوقاتها في هذه الأزمان والله المستعان.
(ثم يصلي ثلاثاً): صار المجموع إحدى عشرة ركعة, فمن أراد أن يقتدي به عليه الصلاة والسلام بالكيفية والكمية فهو المتَّبِع, لكن من يقتدي به في الكمية ويصلي إحدى عشرة ركعة في دقائق معدودة, ويقول إن الزيادة على الإحدى عشرة بدعة لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يزيد على الإحدى عشرة ركعة, نقول له: الذي لم يزد - وعرفنا صفة صلاته عليه الصلاة والسلام - هو الذي قال (صلاة الليل مثنى مثنى) ولم يحدد, وإنما قال (فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بواحدة) فإطلاق هذا الحديث يدل على أنه لا عدد محدد.(13/23)
ولذا من يقول إن الزيادة بدعة قوله مردود, لأن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق ولم يحدد, وكون عائشة ذكرت أنه لم يزد على ذلك فإنما هو على حد علمها, لأنه ثبت أنه زاد, وقد يصلي ولا تراه, ولها ليلة من تسع ليال, فيمكن أنه لم يزد عندها, مع أنها نقلت أنه صلى ثلاث عشرة ركعة. وجاء في المسند أنه صلى خمس عشرة ركعة, وأوتر بثلاث, وأوتر بخمس, وأوتر بسبع, وأوتر بتسع, والمقصود أن العدد ليس بمراد ولا محدد, ومن أراد الاقتداء به عليه الصلاة والسلام فليقتدي به في الكيفية كما يقتدي به في الكمية, ولا يتم الاقتداء مع الإخلال في الكيفية.
قولها (فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي): هذا هو الغالب من حاله عليه الصلاة والسلام, تنام عليناه وينفخ في نومه وله غطيط ومع ذلكم قلبه يقظ.
قد يقول قائل: النبي عليه الصلاة والسلام تنام عيناه ولا ينام قلبه, فكيف نام عن صلاة الصبح حتى أيقظه حر الشمس؟ أين قلبه عليه الصلاة والسلام عن الفريضة؟ نقول: في هذه اللحظة نام قلبه - وإلا لو كان القلب يقظاً ما ترك الفريضة - من أجل مصلحة التشريع, كما أنه سها للتشريع, وهذا فيه أيضاً تسلية لأهل الحرص, وليس فيه مستمسك للمفرطين الذين عادتهم وديدنهم النوم عن صلاة الصبح وعن غيرها من الصلوات.
إذا صلى الأربع ثم الأربع واضطجع قبل أن يوتر وسُمِعَ له الغطيط ثم أوتر بعد ذلك فإنه لا ينتقض وضوءه لأن قلبه يقظ, وذكروا من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن نومه لا ينقض الوضوء.
وفي رواية (كان يصلي من الليل عشر ركعات, ويوتر بسجدة, ويركع ركعتي الفجر, فتلك ثلاث عشرة): المراد بالسجدة هنا الركعة.
قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة, يوتر من ذلك بخمس, لا يجلس في شيء إلا في آخرها): عزو هذا الحديث إلى البخاري وهم, بل هو من أفراد مسلم.(13/24)
يصلي ثمان ركعات على الصفة المشروحة في حديث عائشة (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يوتر بخمس) ثم يوتر بخمس, وفي حديث عائشة أوتر بثلاث بعد الثمان.
ثبت في هذا الحديث أنه زاد على الإحدى عشرة ركعة, وكونه صلى ثلاث عشرة ركعة لا يعني أن الإنسان لا يزيد عليها, فالعدد غير مراد, وكونه يغلب عليه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي إحدى عشرة ركعة لا يعني أن العدد ملزم.
حديث عائشة (من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر): يعني أوتر من أوله, وأوتر من أثنائه, وانتهى وتره إلى السحر, وهو آخر الليل الذي هو وقت الاستغفار.
فيه دليل على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الصبح, وإن قال بعض أهل العلم أنه يُقضَى بعد طلوع الفجر وفعله بعض السلف, لكن هذا الحديث وما في معناه يدل على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر.
حديث عبد الله بن عمرو (يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل): يدل على أهمية قيام الليل وفضله, ويدل على فضل المداومة على العمل الصالح, والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا عمل عملاً أثبته, لكن لا يمنع أن يعمل الإنسان العمل في وقت نشاط ثم يفتر عنه ثم يعود إليه, ولا يمنع أن يتركه إلى ما هو أفضل منه.
قيام الليل دأب الصالحين, وقد قال عليه الصلاة والسلام (نعم الرجل عبد الله - يعني ابن عمر - لو كان يقوم من الليل) فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.
(لا تكن مثل فلان): (فلان) لم يسمى, وفي الغالب أن ما يأتي بمثل هذا السياق لا يسمى ولا يحرص على تسميته ستراً عليه, وكتب المبهمات تعنى ببيان مثل هذا, فإذا مر شخص مبهم يسمونه ويبحثون عنه ويحرصون على جمع الطرق من أجل أن يظهر هذا المبهم, ومعرفة المبهمات لها فوائد, لكن مثل هذا الذي ورد في مثل هذا السياق يستر عليه لأن السياق سياق ذم.(13/25)
إذا لم يضمن القيام في آخر الليل وأوتر في أوله ثم تيسر له القيام في آخره فله أن يصلي مثنى مثنى, والأمر بجعل آخر صلاة الليل وتراً أمر إرشاد, لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بعد الوتر.
الوتر غير الصلاة المطلقة فالصلاة المطلقة مثنى مثنى.
يصلي أربعاً بسلامين من غير فاصل, فيسلم من الاثنتين الأوليين ثم يشرع في الأخريين ثم يفصل بعد الأخريين بدليل العطف بـ(ثم), فهذا دليل على أنه كان يرتاح بعد كل أربع ركعات, ومن هذا أخذ أهل العلم اسم صلاة التراويح, لأنهم كانوا يتروحون بعد كل تسليمتين.
حديث علي (أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر): هذا أمر والأصل في الأمر الوجوب, وهذا الحديث من أدلة من يقول بوجوب الوتر وهم الحنفية, لكن الجمهور عندهم من الصوارف ما يجعل هذا الأمر أمر استحباب.
قوله (يا أهل القرآن): المراد بهم في مثل هذا النص المسلمون لأن الأصل أن المسلمين كلهم أهل عنايةٍ بالقرآن, فالأمر متجه في هذا الحديث إلى المسلمين.
لكن في النصوص الأخرى يراد بأهل القرآن أهل العناية به, أي الذين يقرأونه ويديمون النظر فيه على الوجه المأمور به ويعلِّمونه ويتعلمونه, وابن القيم في زاد المعاد يقول إن أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته هم أهل العناية به ولو لم يحفظوه, فيدخل فيهم من عجز عن حفظه, ولا شك أن حفظه من العناية به.(13/26)
قوله (فإن الله وتر) الوتر هو الواحد الأحد الفرد, والصلاة بركعة واحدة وتر, وكذا الصلاة بثلاث وبخمس, وهذا من الأمور المشتركة, فالواحد من الناس يقال له وتر ويقال له واحد ويقال له أحد. ولذا قالوا في إن جمع الأحد آحاد, وأنكر ذلك ثعلب وهو من أئمة اللغة المحققين فقال (حاشا أن يكون للأحد جمع), لأنه نظر إليه باعتباره اسماً من أسماء الله جل وعلا, لكن خفي عليه أن اليوم الذي يلي السبت يقال له الأحد, وفي الشهر أربعة آحاد, ومعلوم أن من الأسماء الحسنى ما هو مشترك, فالله وتر والواحد من الناس يقال له وتر ويقال له فرد ويقال له واحد ويقال له أحد.
قوله (فإن الله وتر يحب الوتر): من باب محبة المجانس والمشاكل في التسمية, وإلا فالله عز وجل ليس كمثله شيء.
بعضهم يقول إن معنى (يحب) يثيب, وهذا من باب التفسير باللازم, فإن كان من فسر باللازم ممن يثبت الصفة قُبِلَ منه وإلا فلا.
حديث ابن عمر (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا): آخر عمل الإنسان في الليل يكون بالوتر, لأن الله يحب الوتر, فيُختم العمل بما يحبه الله جل وعلا.
مقتضى الأمر في الحديث الوجوب, لكن جاء من الأدلة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الوتر, ولذا من أوتر في أول الليل ثم تيسر له أن يقوم في آخر الليل لا يُمنَع من الصلاة بحجة أنه أوتر وانتهى, بل يقال له صل ما شئت لكن مثنى مثنى.
وبعضهم يقول إنه يشفع وتره السابق, بمعنى أنه يستفتح صلاته بركعة واحدة تشفع له الوتر السابق ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر بعد ذلك, وعلى هذا يكون قد جعل آخر صلاته بالليل وتراً, لكن يأتي حديث (لا وتران في ليلة) ومن باب أولى لا أكثر من ذلك, لأنه إذا شفع وتره بركعة ثم أوتر في آخر صلاته فإنه يكون قد أوتر ثلاث مرات, وجاء النفي في الحديث ويراد به النهي عن صلاة الوتر أكثر من مرة.(13/27)
من غلب على ظنه أنه يقوم في آخر الليل فالمستحب بالنسبة له أن يجعل آخر صلاته بالليل وتراً للأمر الوارد في الحديث, لكن إذا غلب على ظنه أنه لا يستطيع القيام من آخر الليل فإنه يوتر في أوله لئلا يفوته ما يحبه الله جل وعلا, وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام.
المقصود أن الأمر هنا أمر إرشاد أن تختم صلاة الليل بالوتر.
حديث طلق بن علي (لا وتران في ليلة): يأتي النفي ويراد به النهي, وإذا جاء النهي بلفظ النفي صار أبلغ, لأن الأصل في النفي أنه يتجه إلى حقيقة الشيء وذاته, فإذا نُفِيَت الحقيقة فلأن تُنفَى الصحة من باب أولى, فنفي الحقيقة مبالغة في نفي الصحة, لأنه قد تنفى الصحة وتبقى الحقيقة, لكن إذا نفيت الحقيقة صار أبلغ في نفي الصحة, وأيضاً ما يعمل على غير هدي وعلى غير مراد الله وجوده مثل عدمه, والنفي هنا متجه إلى الحقيقة الشرعية لا العرفية.
في هذا الحديث رد على من يقول بنقض الوتر وأنه يصلي ركعة تشفع وتره الأول ثم يصلي ما شاء ثم يوتر في آخر الليل ليمتثل الأمر الوارد في الحديث السابق (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).
لكن ماذا لو أوتر مع الإمام في صلاة التراويح في أول الليل ثم سلم الإمام فجاء بركعة تشفع له وتره هل يدخل في النفي في هذا الحديث؟ لا يدخل, لأنه لم يوتر أصلاً في أول الليل وإنما صلى شفعاً, وحينئذ من أراد أن يوتر في آخر الليل فإنه يشفع بعد وتر الإمام ويأتي بركعة.
وهل يدخل في حديث (من صلى مع الإمام حتى ينصرف)؟ نعم يدخل لأنه صلى مع الإمام حتى انصرف, بل هو داخل في الحديث من باب أولى.(13/28)
لكن ماذا لو أوتر الإمام بثلاث بسلامٍ واحد هل يزيد ركعة فيشفع وتره؟ إن قيل بأنه يشفع ويزيد ركعة فإنه يكون حينئذٍ صلى أربع ركعات بسلامٍ واحد فيخالف حديث (صلاة الليل مثنى مثنى) وسبق أنه إذا قام إلى ثالثة في التراويح فكأنما قام إلى ثالثة في الفجر, وإن قيل بأنه يصلي ركعتين ثم يسلم قبل الإمام فإنه يكون حينئذٍ قد انصرف قبل الإمام فلا يكتب له قيام ليلة, فهل يقال إنه حينئذٍ لا يشفع الوتر, بل يوتر مع الإمام وإذا قام من آخر الليل فإنه يصلي مثنى مثنى؟ أو يقال إنه يشفع وتكون صلاته مما زاد على الركعتين غير مقصودة فلا يكون حينئذ قد خالف النص (صلاة الليل مثنى مثنى)؟ لكن يبقى أنها مخالفة سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة.
حديث أبي بن كعب فيما يقرأ في صلاة الوتر: إذا أوتر بثلاث فإنه يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد.
عند النسائي زيادة (ولا يسلم إلا في آخرهن): له أن تكون الثلاث بسلامين وأن تكون بسلام واحد, لكن المنهي عنه تشبيه الوتر بالمغرب.
حديث عائشة في زيادة قراءة المعوذتين في الأخيرة بعد قل هو الله أحد: عند أبي داود والترمذي, لكن لفظ المعوذتين ضعيف غير محفوظ, فيه خصيف الجزري وهو مضعف, بل نص بعضهم على أن زيادة المعوذتين منكرة, فالثابت ما ذُكِر من السور الثلاث.
حديث أبي سعيد الخدري (أوتروا قبل أن تصبحوا): هذا يبين آخر وقت الوتر وهو طلوع الصبح, وإذا خشي أن يطلع الصبح فليصل ركعة, وهذا إذا خشي وليس إذا أصبح.
عند ابن حبان (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له): لأن وقته انتهى.(13/29)
حديث أبي سعيد الخدري (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر): مقتضى قوله (إذا أصبح) أنه بمجرد دخوله في الصبح يصلي الوتر, لأن قوله (إذا أصبح) معناه إذا دخل في الصبح, وهذا فيه معارضة لما سبق من الأحاديث, وقد عمل بهذا جمع من السلف ورأوا أن الذي يخرج بالصبح الوقت الاختياري للوتر, وأما وقته الاضطراري فيبقى إلى إقامة صلاة الصبح, وحفظ عنه إنهم أوتروا بعد طلوع الفجر, ومن عمل بهذا الحديث مقتدياً بمن سلف فلا ينكر عليه.
مقتضى هذا الحديث أنه إن غلبته عينه ولم ينتبه إلا مع أذان الصبح فإنه يوتر ولو بعد الأذان.
لكن النصوص السابقة كلها تدل على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر, وهي أكثر وأصرح وأرجح من حيث الصحة, فمجموعها أرجح من هذا الحديث.
حديث الباب يمكن تأويله, فالصبح لا ينتهي بصلاة الصبح وإنما يستمر, فبعد طلوع الشمس وارتفاعها يقال له صبح, وهو مصبح ما لم يمسي, فيحمل قوله (إذا أصبح) على أول النهار بعد ارتفاع الشمس وبعد خروج وقت النهي.
قوله (أو ذكر): ليس على إطلاقه, فلو لم يذكر الوتر إلا بعد صلاة الظهر فإنه لا يقضيه لأنه سنة فات محلها.
حديث جابر (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله, ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل, فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل): إذا غلب على ظنه أنه لا يقوم من آخر الليل فإنه يوتر أول الليل, وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام, ولعله لما عرف عنه من ثقلٍ في نومه وأنه يغلب على الظن أنه لا يقوم.
صلاة آخر الليل مشهودة تحضرها الملائكة, ولا شك أن ما تحضره الملائكة وتؤمِّن عليه لا أحرى بالقبول.(13/30)
في الحديث (أفضل القيام قيام داود ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه): حساب نصف الليل يبدأ من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر, فينام نصف هذه المدة ويقوم الثلث ويرتاح السدس, وإذا حسب بهذه الطريقة يكون قيامه في الثلث الأخير, وبهذا تلتئم النصوص ولا تتعارض, وأما إذا قلنا يحسب من غروب الشمس فإنه أولاً لن يتمكن من نوم نصف الليل لأنه لا بد أن ينتظر العشاء وإذا قام من نصف الليل فإن أكثر قيامه يكون قبل الثلث الأخير من الليل, وشيخ الإسلام يحرر هذا ويقول (في مثل هذا الحديث يحسب الليل من صلاة العشاء, والحث على قيام الثلث الأخير يحسب من غروب الشمس) وهذا ظاهر, لأنا لو حسبنا قيام ونوم داود عليه السلام من غروب الشمس فإنه ليس للمسلم أن ينام من غروب الشمس لأن أمامه فريضتان فلن يتحقق له نوم نصف الليل, لكن إذا حسبنا الوقت من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقسمناه على اثنين ونام هذه المدة ثم انتبه فإن قيامه يكون في الثلث الأخير بخلاف ما لو حسبناه من غروب الشمس.
حديث ابن عمر (إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر, فأوتروا قبل طلوع الفجر): رفع هذا الحديث ضعيف, وإن كان محفوظاً عن ابن عمر رضي الله عنهما, ومثل هذا القول يدرك بالرأي وللاجتهاد فيه مسرح, فيمكن أن يفهم ابن عمر من النصوص أن وقت صلاة الوتر ينتهي بطلوع الفجر كما فهم غيره ويعبر عن ذلك, ثم يأتي بعض الرواة ويخطئ في رفعه, فلا يقال إن هذا مما لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع.
حديث عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله): جاء الترغيب في صلاة الضحى كما في حديث أبي هريرة (أوصاني خليلي بثلاث) وذكر منها الوصية بركعتي الضحى, وكذلك أوصى بها غير أبي هريرة كأبي ذر وجمعٍ من الصحابة, وجاء في الحديث (يصبح على كل سلامى أحدكم صدقة) وذكر أن ركعتي الضحى تغنيان عن ذلك كله.(13/31)
وجاء فعلها من قِبَلِهِ عليه الصلاة والسلام, فقد جاء أنه صلى يوم الفتح ثماني ركعات, على خلاف بين أهل العلم هل هي صلاة الفتح أو هي صلاة الضحى.
قولها (يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله): الضحى تصلي ركعتين كما في النصوص السابقة, وتصلى أربع ركعات كما هنا, وتصلى ست ركعات, وتصلى ثماني ركعات كما في يوم الفتح, ولذا يقرر جمع من أهل العلم أن أكثر صلاة الضحى ثمان ركعات, والصواب أنه لا حد لأكثرها, وكونه صلى ثماني ركعات لا يعني أن الزيادة على ذلك غير مطلوبة, بل الزيادة على ذلك تدخل في حديث (أعني على نفسك بكثرة السجود) والإكثار من التعبد ليس ببدعة لأنه قد جاء الحث عليه.
(ويزيد ما شاء الله) لا يزيد ركعة أو ثلاث وإنما يزيد شفعاً.
اختلف أهل العلم في حكم صلاة الضحى, فذكر ابن القيم رحمه الله أنها مختلف فيها على ستة أقوال: منهم يقول إنها سنة مطلقاً, ومنهم من يقول إنه لا يُدَاوَمُ عليها, ومنهم من يقول لا تُفعل صلاة الضحى, ومنهم من يقول تُفعل عند الحاجة, لكن الصواب أنها من السنن الثابتة لمجيء الترغيب فيها ولثبوتها من فعله النبي عليه الصلاة والسلام.(13/32)
جاء في الحديث (من صلى الصبح في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين كان له أجر عمرة وفي رواية حجة تامة): هذا الحديث محل كلام لأهل العلم, لكن إذا جلس في مصلاه يذكر الله حتى تنتشر الشمس فقد اقتدى بفعل النبي عليه الصلاة والسلام لأنه ثابت من فعله في الصحيح, وإذا صلى ركعتين بنية الضحى ثبت له أجر ركعتي الضحى, وكون الحديث المذكور ضعيف لا يعني أن هذا الفعل لا يفعل, وذلك عملاً بأحاديث أخرى, لأن بعض الناس يقرن العمل وجوداً وعدماً بثبوت الخبر لذاته, وقد لا يثبت الخبر بذاته لكن يثبت ما يغني عنه, ولذا يقال فيمن جلس حتى ترتفع الشمس وصلى ركعتين: إن ثبت الخبر الذي فيه الأجر المنصوص عليه وهو أجر عمرة أوحجة تامة فبها ونعمت, وإن لم يثبت فالنبي عليه الصلاة والسلام جلس حتى تنتشر الشمس وحث على ركعتي الضحى وأوصى بهما, فلا يلام من يفعل هذا, وإن قال بعض الناس كيف تعمل بحديث ضعيف؟!! نقول: إن لم يثبت هذا الحديث الضعيف فقد عملنا بأحاديث صحيحة.
حديث عائشة (هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه) وقالت (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها): يستدل من لا يرى مشروعية صلاة الضحى بمثل هذا, ونفيها هذا إنما هو على حسب علمها, وقد أثبته غيرها, كما أنها أيضاً أثبتته في الحديث السابق (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله) و (كان) تدل على الاستمرار, فلعلها مع طول المدة نسيت لأنها عُمِّرت بعده عليه الصلاة والسلام, أو في وقت من الأوقات نسيت وفي وقت ذكرت, وعلى كل حال المثبِت مقدم على النافي, وصلاة الضحى ثبتت من فعله عليه الصلاة والسلام وثبت الحث عليها.
كونه عليه الصلاة والسلام لا يصلي سبحة الضحى وأنه ترك صلاة – مع أنه ثبت أنه صلاها وثبت أنه حث عليها - لا يعني أنها غير مشروعة, لأنه حث عليها.(13/33)
عائشة رضي الله عنها نفت أنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم عشر ذي الحجة, لكنه ثبت من طريق غيرها, وحتى لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ترك صيام عشر ذي الحجة فإن هذا لا يعني أن صيامها غير مشروع, لأنه حث على ذلك, فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله من هذه الأيام العشر) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أن الصيام من أفضل الأعمال فهو داخل في عموم الحديث, وكونه ترك هذا العمل – مع أنه ثبت عنه أنه فعلها من طريق غيرها - وكونه فعل أحياناً وترك أحياناً لا يعني أن هذا العمل غير مشروع, فقد يفعل لبيان المشروعية, وقد يترك لبيان جواز الترك, وأيضاً من كان في صفته عليه الصلاة والسلام في تحمل أمور المسلمين العامة قد يترجح في حقه الترك, فالنبي عليه الصلاة والسلام على سبيل المثال قال (أفضل الصيام صيام داود يصوم يوماً ويفطر يوماً) ولم يثبت عنه أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, فلا نقول بأن صيام داود غير مشروع, وعلى هذا فنحن مطالبون بما وجهنا إليه عليه الصلاة والسلام, وكونه يفعل أو يترك لظرف من الظروف لا يعني أنه غير مشروع, لأن بعض الناس قد تعوقه بعض الأعمال عن أمور متعدية أهم من هذه العبادات.
بعضهم عد صيام عشر ذي الحجة من أخطاء الناس في عشر ذي الحجة!!! مع أن العمل الصالح والصيام منها في هذه الأيام أحب إلى الله من فعلها في غيرها من الأيام, ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً), فيفرط في هذه الوعود العظيمة الثابتة من أجل أن عائشة نقلت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم, مع أنه نُقل عنه أنه صام وحث على الصيام وبين فضل العمل الصالح.(13/34)
فكيف يقال إن صلاة الضحى غير مشروعة اعتماداً على نفيها؟!! مع أنه وأوصى بها أبا هريرة وأبا ذر وجمع من الصحابة وبيَّن لنا أنها كفارة عن ثلاثئمائة وستين صدقة!!! ويأتي بعض من ينتسب إلى العلم يجلس إلى أن تنتشر الشمس ثم يقول (لا صلاة الآن) وليس هناك شيء اسمه صلاة الإشراق, وينكر على من يصلي!!! يقال: صلِّ, فإن ثبت الحديث الذي فيه الفضل والثواب العظيم فبها ونعمت, وإن لم تثبت فانوها صلاة ضحى.
قولها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط): إذا أثبتها غيرها فالمثبِت مقدم على النافي, مع أنها أثبتتها هي رضي الله عنها.
قولها (وإني لأسبحها): فهي رضي الله عنها لا تستدل بقولها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط) على عدم المشروعية, بدليل أنها كانت تصليها, ولو كانت غير مشروعة ما صلتها, لكن هي استروحت إلى حكاية واقع في وقت من الأوقات في ظرف من الظروف, ولعلها بصدد الرد على من يوجب صلاة الضحى مثلاً, فهي تقول في مثل هذا الظرف (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..) لتثني هذا المدعي على سبيل المثال, أو لترد على شخص يتشدد في أمر هذه الصلاة, لأن المتشدد يؤتى له بنصوص الوعد والمتوسط في أمره يؤتى له بنصوص الوعد والوعيد والمفرط يؤتى له بنصوص التشديد والوعيد, فمثل هذه النصوص تعمل في مواضعها اللائقة بها, فيحمل إثبات عائشة لهذه الصلاة على حال ويحمل نفيها على حال أخرى.
حديث زيد بن أرقم (صلاة الأوابين حين ترمَضُ الفصال): الأواب هو الرجاع إلى الله جل وعلا والمقبل على طاعة ربه.(13/35)
الفصال جمع فصيل, فعيل بمعنى مفعول, فهو مفصول عن أمه, والفصيل هو ولد الناقة إذا فُطِم وفُصِل عن أمه, فحر الشمس الرمضاء يؤثر عليه ويقلقه, ففي هذا الظرف الذي يؤثر على الفصيل دون الكبار هو وقت صلاة الأوابين, وهو المناسب لصلاة الضحى, وهي صلاة الأوابين, والمراد بها صلاة الضحى لأنها تقع في هذا الوقت ويشملها الضحى.
الأولى أن تؤخر صلاة الضحى حتى ترمض الفصال, ووقتها يمتد من ارتفاع الشمس إلى زوالها.
قوله (حين ترمض الفصال): أي حين يؤلمها حر الرمضاء, ومنه سمي رمضان لأنه يؤلم الصائم, لا سيما وأن وقت تسمية الأشهر كان رمضان في وقت شدة الحر الذي تحرق فيه الرمضاء من يطأ عليها.
عزو هذا الحديث للترمذي كما قال المؤلف وهم, وهو في صحيح مسلم ولا يوجد عند الترمذي.
حديث أنس (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة): الحديث ضعيف, وضعفه شديد, وله ما يشهد له من حديث ابن عمر أنه قال لأبي ذر (أوصني) وفيه (وإن صليت ثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتاً في الجنة) لكنه أضعف من حديث الباب فلا يرتقي, وعلى كل حال عندنا ما يدل على صلاة الضحى من الحث عليها مما يغني عن هذا النص, وبعضهم يستروح إلى قبول مثل هذا الخبر لا سيما وأنه يسنده أحاديث أخرى, لكن الوعد في الحديث (بنى الله قصراً في الجنة) ضعيف, وإلا فصلاة الضحى ثابتة بنصوص أخرى.
حديث عائشة (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات): هذا فيه انقطاع فهو ضعيف, وقد أثبتت كما في صحيح مسلم أنه صلى أربع ركعات, وثبت عنها أنها نفت أنه صلى الضحى مطلقاً وأنه لا يصليها إلا إذا جاء من مغيبه, والمقصود أن مثل تلك الأحاديث تغني عن مثل هذا, وثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى يوم الفتح ثماني ركعات, أما هذا الحديث فهو ضعيف.
صلاة الإشراق هي صلاة الضحى.
الواجبات الشرعية مستثناة شرعاً وليس لأحد أن يعارض فيها ومن عارض فلا طاعة له.(13/36)
ثلث الليل الآخر يحسب من غروب الشمس.
تحية المسجد لا تراد لذاتها فتدخل في أي صلاة, ولا يجمع بين سنة الوضوء وصلاة الضحى لأن صلاة الضحى مقصودة لذاتها فلا تدخل.
إن أراد أن يصلي إحدى عشرة ركعة وصلى في أول الليل عدداً من الركعات وأكمل الباقي في آخر الليل فعمله هذا صحيح.
الأصل أن الأذكار تقال كما رويت, لكن إذا قدم وأخر فلا شيء عليه, كما لو قدم وأخر في الدعاء الذي بين السجدتين.
الأولى ألا يداوم على دعاء القنوت.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك صبيحة يوم الإثنين الخامس من شهر ربيعٍ الثاني عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الخميس السادس عشر من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن) بألمانيا.(13/37)
مهمات شرح باب صلاة الاستسقاء من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
في سنن ابن ماجه بسندٍ حسن من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم ينقص قومٌ المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء.
حديث ابن عباس (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذِّلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد, لم يخطب خطبتكم هذه): خرج مظهراً الحاجة لله جل وعلا, لابساً ثياباً بِذْلة تاركاً ثياب الزينة وحسن الهيئة, لأن الثياب الغالية النفيسة لا تناسب مثل هذا الوقت.
الخشوع يكون في البدن وفي الطرْف وفي الكلام, ومثله الخضوع, وإن خص بعضهم الخشوع في الصوت والخضوع في البدن, لكن قول الله جل وعلا (فلا تخضعن بالقول) يشمل الخضوع بالقول والفعل, والخشوع أيضاً كما يكون في القلب فإن آثاره تظهر على الأطراف.
التضرع هو التذلل والمبالغة في السؤال والرغبة.
قوله (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذِّلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين): على هذا أول ما يبدأ به الصلاة, فيقدم الصلاة على الخطبة.
قوله (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد): أي على صفة صلاة العيد, وعلى هذا يشرع في صلاة الاستسقاء ما يشرع في صلاة العيد من التكبير سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية.
قوله (لم يخطب خطبتكم هذه): النفي هنا متجه إلى الخطبة المشابهة لخطبهم لا إلى أصل الخطبة, بدليل أنه يُخطَب في صلاة الاستسقاء ويكون فيها الدعاء والتضرع.
في هذا الحديث مشروعية صلاة الاستسقاء, وأنها ركعتان كصلاة العيد.(14/1)
الحنفية لا يرون الصلاة, فقد قال أبو حنيفة إنه لا يصلى للاستسقاء وإنما هو التضرع والدعاء, وحمل ما ورد من لفظ الصلاة في النصوص على الصلاة اللغوية, والصلاة في الأصل الدعاء, ولا صلاة شرعية للاستسقاء بركوع وسجود لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت بالدعاء دون صلاة, وأحجار الزيت موضع بالمدينة قريب من المسجد, فهذا دليل الحنفية على عدم الصلاة للاستسقاء.
الجمهور يقولون إن صلاة الاستسقاء مشروعة, لأنه جاء التصريح بها في هذا الحديث وفي غيره. وأما كونه استسقى بالدعاء فهذا نوع من أنواع استسقائه عليه الصلاة والسلام, فهو عليه الصلاة والسلام قد استسقى بالصلاة ثم الدعاء, واستسقى بالدعاء المجرد دون صلاة, واستسقى في خطبة الجمعة, واستسقى في خطبةٍ مفردة على المنبر من غير صلاة كما فعل في بعض أحواله, واستسقى وهو جالس بالمسجد, رفع يديه ثم دعا, واستسقى عند أحجار الزيت, واستسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء, وأغيث عليه الصلاة والسلام في جميع استسقاءاته.
جاء في حديث عباد بن تميم عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين, فاستدل به من يقول إن صلاة الاستسقاء ركعتان لا صفة لهما زائدة, لكن حديث الباب فيه أنه صلى ركعتين وفيه زيادة وهي قوله (كما يصلي في العيد), فهذه الزيادة مقبولة, وهي زيادة غير مخالفة, فحديث عباد بن تميم مقيد بحديث الباب.(14/2)
حديث عائشة (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبرٍ فوُضِع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه, فخرج حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال (إنكم شكوتم جدب دياركم - واستئخار نزول المطر عن إبان زمانه عنكم - وقد أمركم الله أن تدعوه, ووعدكم أن يستجيب لكم) ثم قال (الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, لا إله إلا الله يفعل ما يريد, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث, واجعل ما أنزلت قوةً وبلاغاً إلى حين) ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه, ثم حوَّل إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافعٌ يديه, ثم أقبل على الناس ونزل وصلى ركعتين, فأنشأ الله سحابةً فرعدت وبرقت ثم أمطرت): جملة (واستئخار نزول المطر عن إبان زمانه عنكم) موجودة في نسخة الشيخ.
قولها (ووعد الناس يوماً يخرجون فيه): يضرب الإمام موعداًً للاستسقاء يحدده للناس. وعلى هذا يكون الترتيب لصلاة الاستسقاء من قِبَل الإمام.
قولها (فخرج حين بدا حاجب الشمس): كونه خرج إلى الصلاة مع بزوغ الشمس لا يعني أنه صلى قبل ارتفاعها.
الأمر بالدعاء كما في قوله تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) أمرٌ بفعل أسبابه وأمرٌ باجتناب موانعه وإلاَّ صار عبثاً ولغواً.
أكثر الأدعية القرآنية تُصَدَّر بـ(يا رب), حتى قال جمع من أهل العلم إذا كررت (يا رب) خمس مرات أجيب للإنسان, واستُدِل على ذلك بما جاء في آخر سورة آل عمران, جاء فيها ذكر (ربنا) خمس مرات وفي النهاية (فاستجاب لهم ربهم).
قوله (ملك يوم الدين): هكذا في سنن أبي داود.
قوله (لا إله إلا الله يفعل ما يريد): في بعض الروايات (يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد).
قوله (وبلاغاً إلى حين): أي إلى حين وفاتنا وانتقالنا من هذه الدار.(14/3)
في هذا الحديث الصلاة بعد الخطبة, وفي الحديث السابق خرج فصلى, والتعقيب بالفاء يدل على أنه أول ما بدأ بعد خروجه بالصلاة, وعلى كل حال جاء ما يدل على أن الخطبة قبل الصلاة وجاء ما يدل على أن الخطبة بعد الصلاة, لكن للتوفيق بين هذه النصوص قال أهل العلم إنه بدأ بدعاء خفيف ثم صلى صلاة الاستسقاء ثم بعد ذلك خطب ودعا.
قوله (وقصة التحويل - يعني تحويل الرداء - في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه - هو ابن عاصم راوي حديث الوضوء وليس المراد عبد الله بن زيد بن عبد ربه راوي حديث الأذان وإن وهِم في هذا بعض الحفاظ, وهذا الحديث في البخاري - وفيه: فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة): التحويل سنة عند الأكثر, والحنفية يقولون إنه لا يشرع, وما دام ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام فلا كلام لأحد.
كيفية تحويل الرداء: كما جاء عند البخاري عن سفيان (جعل اليمين على الشمال) وزاد ابن خزيمة (والشمال على اليمين), ويقوم مقام الرداء البشت والفروة والشماغ وكل ما يمكن انفصاله.
النساء شقائق الرجال, فإذا حضرن صلاة الاستسقاء وأُمِنَ انكشافهن أمام الرجال وكُنَّ في محلٍّ مستقل بحيث لا يراهن الرجال ألبتة فإن الاقتداء به عليه الصلاة والسلام في هذا يشملهن, وأما إذا كُنَّ يصلين مع الرجال كما في المصليات المكشوفة في الصحاري فإن هذه السنة تترك درءاً للمفسدة.
قوله (وللدار قطني من مرسل أبي جعفر الباقر رضي الله عنه: وحول رداءه ليتحول القحط): جعفر هو الصادق, وأبوه الباقر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قوله (ليتحول القحط): هذا من باب التفاؤل, ليتحول الحال من القحط إلى الخصب, والخبر وإن كان مرسلاً فهو أولى ما يعلل به هذا التحويل. وقد رواه الحاكم موصولاً عن جابر رضي الله عنه.(14/4)
يقول ابن العربي إن هذا التحويل أمارة بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين ربه عز وجل. كأنه قيل له حوِّل ردائك ليتحول حالك. وعلى هذا لا يشرع التحويل في حق الأمة, لكن هذا يحتاج إلى نقل.
قوله (وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وفيه: فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة): صلاة الاستسقاء جهرية, ونقل ابن بطال الإجماع على أن صلاة الاستسقاء جهرية, وتقدم أن الحنفية لا يرون مشروعية صلاة الاستسقاء.
حديث أنس (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال: يا رسول الله, هلكت الأموال وانقطعت السبل, فادع الله يغيثنا. فرفع يديه ثم قال: اللهم أغثنا, اللهم أغثنا) وفي الحديث الدعاء بإمساكها: في هذا الحديث نوع من أنواع استسقاءه صلى الله عليه وسلم.
هذا الداخل لا يُعرَف اسمه كما قال الحافظ ابن حجر, لم يقف في شيء من الطرق على اسمه.
قوله (وانقطعت السبل): لأن الدواب التي تسلك هذه السبل هلكت, أو لأنه لا يوجد في هذه السبل شيء تأكله الدواب فيُخشَى عليها من التلف فلا يُسَافَر عليها ولا يُنتَقَل عليها من مكان إلى مكان, أو لأنه لا يوجد من البضائع ما تنقله الدواب بسبب الشدة في هذه السنة.
جاء في رواية (فادع الله يغثنا), فقوله (يغثنا) مجزوم لأنه جواب الطلب, وقوله في هذه الرواية (يغيثنا) إما أن يقال فيه إنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير (هو يغيثنا) أو يقال إن الياء للإشباع كما في قراءة (إنه من يتقي ويصبر). وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى على لسان زكريا (فهب لي من لدنك ولياً يرثُني ويرث من آل يعقوب) بالرفع كما في (يغيثنا) ولو كان جواباً للطلب لقيل (يرثْني).
رفع اليدين في الدعاء ثابت, وفيه أكثر من مئة حديث, وهناك مصنفات أُلِّفَت في أحاديث رفع اليدين في الدعاء.(14/5)
تمام الحديث كما في مسلم قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة, وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار, فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس, فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت, فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً - يعني أسبوعاً كاملاً لأنهم يعبرون باليوم عن الأسبوع - ثم دخل رجل من ذلك الباب - لأنه لا يدري هل هو ذلك الرجل أو رجلٌ آخر, وقد قال شريك: سألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري - في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله, هلكت الأموال وانقطعت السبل, فادع الله يمسكها عنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الآكام والضِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر. قال: فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.
إذا تأخر المطر شُرِع الاستسقاء, وإذا زاد شُرِع طلب كشفه لما يترتب عليه من ضرر كما في هذا الحديث.
إذا وجَّه ولي الأمر بالاستسقاء وضرب يوماً يخرجون فيه, وبعض البلدان كان قد نزل عليه مطر كثير, وبعضها بحاجة إلى مطر, هل يشرع الاستسقاء للجميع؟ أو الذين أغيثوا لا يحتاجون إلى استسقاء؟ الجواب: لا شك أن القطر أو الإقليم كالبلد الواحد, وولي الأمر إذا أكد على الجميع الخروج إلى الاستسقاء فإن الجميع يخرجون ويطلبون السقيا لإخوانهم, والذي لا يشعر بحاجة إخوانه ولا يهتم بأمور المسلمين على خطر, وقد يكون بلده بحاجة إلى المطر وهو لا يشعر, وجاء في الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
حديث أنس (أن عمر رضي الله عنه كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيُسقَون): كان هذا في خلافة عمر رضي الله عنه.(14/6)
قوله (استسقى بالعباس بن عبد المطلب): ليس معناه أنه توسل بذاته, بل توسل بدعاءه, والدعاء عملٌ صالح يُتَوسل به, كما توسل الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار بأعمالهم الصالحة. وتوسل بدعاء العباس لقربه من النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته, وعم الرجل صنو أبيه.
مما ذُكِر من دعاء العباس في مثل هذا الاستسقاء أنه كان يقول (اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ من السماء إلا بذنب, ولم ينكشف إلا بتوبة, وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك, وهذه أيدينا إليك بالذنوب - يعني أيدينا مرفوعة إليك وقد تلطخت بالذنوب - ونواصينا إليك بالتوبة - يعني اتجهت نواصينا إليك بالتوبة - فأسقنا الغيث) وجاء في الخبر (فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض).
في خطبة الاستسقاء يُقَدَّم أورع الناس وأتقاهم وأخشاهم للطلب لأنه مظنة الإجابة.
هذا الخبر يدل على جواز التوسل بدعاء الصالحين والتماس الدعاء منهم, وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بطلب الدعاء من أويس, فالتمسه عمر وبحث عنه في أمداد اليمن حتى وجده ثم طلب منه أن يستغفر له. فإذا رأيت رجلاً صالحاً تظنه مجاب الدعوة فلا مانع من أن تسأله أن يدعو لك.
في الخبر الاعتراف بحق ذوي القربى من النبي صلى الله عليه وسلم, وهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم, ولا شك أن لهم حقاً على الأمة, وقد قال الله تعالى على لسان نبيه (لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى), فلهم حق على الأمة بالدعاء لهم والترضي عنهم والترحم عليهم والاعتراف بفضلهم والإشادة بمناقبهم.
فيه تواضع عمر رضي الله عنه وأرضاه.
حديث أنس (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر, فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر, وقال: إنه حديث عهد بربه): حسره عن جسده وذلك يكون برفع الثوب عن الساق وبكشف الرأس وإظهار اليد والساعد, ليصيب المطر الأطراف, وهذه سنة, والسبب في ذلك قوله (إنه حديث عهد بربه).(14/7)
قوله (إنه حديث عهد بربه): لأنه نزل من جهة العلو من آخر المخلوقات وأقربها من الله جل وعلا ففيه بركة.
إخضاع النصوص للنظريات يعرِّض النصوص للإنكار لأن النظريات قد يتبين خطؤها فيما بعد.
حديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيِّباً نافعاً): يعني اجعله نافعاً.
قوله (صيِّباً): من صاب المطر إذا وقع, والتصويب هو النزول, وجاء في وصف ركوعه عليه الصلاة والسلام (وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوِّبه), ومنه الصيِّب لأنه ينزل إلى الأرض.
حديث سعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: اللهم جلِّلنا سحاباً كثيفاً قصيفاً دلوقاً ضحوكاً, تمطرنا منه رُذَاذاً قِطْقِطاً سجْلاً يا ذا الجلال والإكرام): الحديث وإن كان مخرَّجاً في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم إلا أنه ضعيف جداً, يقول الحافظ ابن حجر في التلخيص (فيه ألفاظ غريبة كثيرة, أخرجه أبو عوانة بسندٍ واهي) يعني شديد الضعف.
صحيح أبي عوانة هو المستخرج على صحيح مسلم, لكنهم يتجوزون باعتباره مستخرجاً على الصحيح فيقولون (صحيح أبي عوانة), وقد يقولون (مسند أبي عوانة) لأنه يروى بأسانيد.
الاستخراج هو أن يعمد عالم من علماء الحديث إلى كتاب أصلي من كتب السنة تروى فيه الأحاديث بالأسانيد فيخرِّج أحاديثه من طريقه هو وبأسانيده هو من غير طريق صاحب الكتاب.
قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء): يعني في خطبة الاستسقاء.(14/8)
قوله (اللهم جلِّلنا) يعني عمِّم الأرض بالمطر. وقوله (قصيفاً) يعني يصحبه رعدٌ شديد. وقوله (دلوقاً) يعني مندفعاً اندفاعاً قوياً, كما جاء في وصف بعض الأمطار بأنه كأفواه القِرَب. وقوله (ضحوكاً) يعني يصحبه برق. وقوله (رُذَاذاً) يعني دون الطش, لكن هذا يعارض قوله (دلوقاً), لأن الرذاذ يكون برفق, والدلوق يكون باندفاع شديد. وقوله (قِطْقِطاً) يعني أقل من الرذاذ. فاجتمع طلب الرذاذ والدلوق والقِطقِط. وقوله (سجْلاً) يعني ينصب منه الماء صباً.
على كل حال هذه ألفاظ غريبة اشتمل عليها هذا الخبر, وهو ضعيف جداً.
حديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرج سليمان عليه السلام يستسقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعةً قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلقٌ من خلقك ليس بنا غنىً عن سقياك. فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم): هذا الحديث ضعيف, وله طرق حسنه بعضهم بسببها, لكن المرجح أنه ضعيف.
قول الحافظ (رواه أحمد): الحديث لا يوجد في المسند, فلعله في غيره من كتبه.
لا شك أن شؤم معاصي بني آدم يلحق من لا ذنب له, فالعاصي المذنب لا يقتصر شره على نفسه, بل يتعدى ضرره إلى غيره بالتسبب, فكيف بمن يباشر الضرر بالآخرين؟!!.
هذه النملة - على فرض ثبوت الخبر - التي لا ذنب لها تستقي, فهي أحرى بالإجابة من كثير من بني آدم.
هذه المخلوقات ليس لها عقول, وإنما لها مَلَكَات مُدْرِكَة, تدرك بها ما ينفعها وما يضرها.
حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء): تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في دعاء الاستسقاء, ويبالغ في الرفع, حتى يرى بياض إبطيه.(14/9)
قوله (فأشار بظهر كفيه إلى السماء): الكيفية مختلف فيها, قيل إنه مباشرة يجعل ظهر الكف إلى السماء وبطنها إلى الأرض, وقد رأينا من الشيوخ من أهل العلم من يفعل هذا, وقيل إنه يبالغ في الدعاء حتى يصل إلى أن يكون ظهر الكف إلى السماء, وقد رأينا من الشيوخ أيضاً من يفعل هذا, واللفظ محتمل.
جاء في المسند بإسناد حسن - وإن كان مرسلاً - من حديث خلاَّد بن السائب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل بطن كفيه إلى السماء, وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها.
فسَّر بعضهم قوله تعالى (ويدعوننا رغباً ورهباً) فقال إن الرَّغَب يكون بالبطون والرَّهَب يكون بالظهور.
إذا واعد الإمام الرعية يوماً يخرجون فيه للاستسقاء فإن الخروج يتأكد عليهم ولو لم يكونوا بحاجة, لكن الأصل أن الاستسقاء هو طلب السقيا, وهذا إنما يكون عند تأخر نزول المطر.
يحسن بالطالب بالنسبة لشروح الحديث أن يبدأ بشرح النووي على مسلم وبشرح الكرماني على البخاري لأنهما شرحان سهلان ماتعان وفيهما نُكَات وطرائف وفوائد يحتاجها طالب العلم, على أن يكون على حذرٍ شديد من المخالفات العقدية, فكل من النووي والكرماني على مذهب الأشعري في الاعتقاد.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم الجمعة الثالث عشر من رجب عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده قبل غروب شمس يوم الثلاثاء السابع عشر من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(14/10)
مهمات شرح باب صلاة الجمعة من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
كان عليه الصلاة والسلام يخطب مستنداً إلى جذع, فلما كثر الناس اقتُرِح عليه اتخاذ المنبر ليراه الناس, فاتخذ المنبر من أعواد من خشب, وهو مكون من ثلاث درجات, فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام ليصعد المنبر الجديد وتخطى الجذع حن إليه الجذع وسُمِعَ صوته, فنزل النبي عليه الصلاة والسلام من منبره واحتضنه حتى سكت, وهذه من معجزاته ومن دلائل نبوته.
حديث عبد الله ابن عمر وأبي هريرة (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات, أو ليختمن الله على قلوبهم, ثم ليكونن من الغافلين): اللام في قوله (لينتهين) في جواب قسم محذوف تقديره (والله لينتهين) والفعل المضارع هنا مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد, وجاء في آخر الحديث (ثم ليكونُنَّ) ولم يقل (ثم ليكونَنَّ) لأن النون لم تباشر الفعل لوجود الفاصل الذي هو الواو, وليس في الفعل (لينتهين) واو لأن الفاعل موجود وهو (أقوام), والفاعل في (ليكونُنَّ) الواو التي هي كناية عن الأقوام.
الأقوام جمع قوم, والقوم الجماعة, وخصه بعضهم بالرجال كما في قوله تعالى (لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء), وقد يأتي التعبير بالقوم ويدخل فيهم النساء, لكن هنا لا يدخل فيهم النساء لأنهن غير مطالبات بالحضور إلى الجمعة.
قوله (ودعهم): أي تركهم, والمصدر من هذه المادة مستعمل كما هنا, واستُعمِل أيضاً المضارع كما في قوله (من لم يَدَع), واستُعمِل الأمر كما في قوله (دع ما يريبك), لكن أهل العلم يقولون إن الماضي من هذه المادة أميت, فلا يقولون (وَدَعَ) بمعنى (ترك), وإن قرئ في الشواذ (ما وَدَعَكَ ربك).(15/1)
الجُمُعة بضم الجيم والميم على المشهور, وسكَّن الأعمش الميم في قراءته (جُمْعة), وضُبِطَت الميم بالفتح (جُمَعة) كهُمَزَة ولُمَزَة, وفي لُغَيَّةٍ كُسِرت الميم (جُمِعة), لكن الأشهر وبها قرأ الأكثر (الجُمُعة).
جاء في الحديث الصحيح (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما), وجاء في حديث آخر أنهما كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام.
جاء في الحديث (من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه), لأن التكرار ثلاثاً مطرد في الشرع أنه يجعل الشيء عادة وديدناً.
الختم هو الطبع على القلب والاستيثاق منه بحيث لا ينفذ إليه خير ولا يَرُدُّ شراً, وكثير من المسلمين بهذه المثابة وهو لا يشعر, وهذا من مسخ القلوب نسأل الله العافية والسلامية, وهو فيما يقرر أهل العلم أعظم من مسخ الأبدان, وسببه التفريط في أمر الله جل وعلا والاستخفاف بمحارمه, ومسخ القلوب ومسخ الأبدان جاء في النصوص أنه يحصل كثيراً في آخر الزمان في هذه الأمة, وقرر ابن القيم أنه يكون في طائفتين من الناس, في الحكام الظلمة وفي العلماء الذين يبدلون شرع الله بالتحريف.
(ثم ليكونن من الغافلين): أي يُعاقَبون بالغفلة عما ينفع في الدنيا والآخرة.
يقول الشارح (وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى): يقول الله جل وعلا (فسنيسره للعسرى), فعدم إتيان الجمعة أمر خطير جداً.
صلاة الجمعة فرض على الأعيان المستطيعين, وهذا الحديث نص صحيح صريح في وجوبها على كل مكلف مستطيع, ويستثنى من ذلك المعذور.
حديث سلمة بن الأكوع (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به) وفي لفظ لمسلم (كنا نُجَمِّع معه إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء): الصيغة (كنا) تدل على الاستمرار.(15/2)
قوله (وليس للحيطان ظل نستظل به): هل هذا نفي لمطلق الظل بمعنى أن الشمس لم تزل بعد؟ يعني هل هذا دليل على أنه قبل الزوال؟ أو أن المراد أن للحيطان ظل لكنه لا يصل إلى حد بحيث يُستَظل به, فيكون فعلها بعد الزوال؟ في قوله تعالى (بغير عمد ترونها) هل فيه نفي لأن يكون للسماء عمد ألبتة؟ أو أن فيه إثبات للعمد لكن فيه نفي رؤية العمد؟ اللفظ محتمل كاللفظ الذي معنا, فقوله (ليس للحيطان ظل) في مقابل (بغير عمد) و قوله (نستظل به) في مقابل (ترونها), إما أن يكون فيه نفي للظل بالكلية ويكون من أدلة الحنابلة على جواز فعل الجمعة قبل الزوال, أو أنها ليس لها ظل يستظل به, يعني ظل ظليل مديد بحيث يمشي الناس وكلهم يستظل بهذا الظل دفعة واحدة, فيكون فعلها بعد الزوال مباشرة قبل أن ينتشر الظل الظليل المديد, ويكون هذا ليس فيه مستمسك للحنابلة وأن وقتها إنما هو بعد الزوال كما يقول الجمهور, وهذا اللفظ محتمل, وإن قال بعضهم إنه يبعده أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في صلاة الجمعة بسور طويلة كسورتي الجمعة والمنافقون مثلاً, فلو كانت بعد الزوال لصار هناك ظل مع طول القراءة والترتيل.
هذا الحديث من أدلة الحنابلة الذين يرون أن الجمعة يجوز فعلها قبل الزوال, وأن أول وقتها وقت صلاة العيد وآخر وقتها وقت صلاة الظهر, والجمهور على أن وقتها وقت صلاة الظهر, فتبدأ من بعد الزوال وتنتهي بمصير ظل كل شيء مثله.
وفي لفظ لمسلم (كنا نُجَمِّع معه إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء): فيه دليل على المبادرة لأنه يقول (إذا زالت الشمس), وهذا الحديث يفسر الحديث الذي قبله, والفيء بعد الزوال قليل لا يستوعب الناس إذا خرجوا من المسجد.
على كل حال الاحتمال في الرواية الأولى قائم, وأما الرواية الثانية فهي مفسرة, وقوله (إذا زالت الشمس) نص في تأييد قول الجمهور, وقوله (ثم نرجع نتتبع الفيء) أي لقلته, وهذا فيه دليل على المبادرة بصلاة الجمعة.(15/3)
حديث سهل بن سعد (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) وفي رواية (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم): (نقيل) من القيلولة وهي الراحة في منتصف النهار, وهي من أنفع أوقات النوم في النهار بخلاف النوم في طرفي النهار فإنه غير محمود, وسواء صاحب القيلولة نوم أو لم يصاحبها نوم فالقيلولة أعم من أن تكون نوماً بل هي راحة.
قوله (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة): (نتغدى) أي نتناول طعام الغداء, لأنهم يبادرون بصلاة الجمعة ويبادرون إلى صلاة الجمعة.
وفي رواية (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم): مع أن قول الصحابي (كنا نفعل) أو (ما كنا نفعل) سواء أضافه إلى عصر النبي عليه الصلاة والسلام أو لم يضفه فالمراد به في عصر النبي عليه الصلاة والسلام, ولا يُظَن بالصحابي أنه ينسب حكماً شرعياً إلى غير عصر التشريع, هذا لا يمكن أن ينسبه الصحابي إلا إلى وقت التشريع لأنه بصدد تقرير مسألة شرعية, ولذا أهل العلم عندهم مثل هذه الصيغة مرفوعة ولو لم يضفه إلى عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
جاء ذكر أحد الساعات الثلاث التي لا بد فيها من الاستئذان في قوله جل وعلا (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) وهذا في الجمعة وغير الجمعة, قد يقول قائل إن هذا ديدنهم أن قيلولتهم إنما هي بعد الظهر فلا يكون في الحديث دليل على المراد, ويكون قوله (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) إنما هو جرياً على عادتهم وأنهم باستمرار يفعلون هذا بعد الجمعة وبعد صلاة الظهر ولا فرق, والآية فيها تقرير العادة.(15/4)
يجاب عن هذا بأن يقال إن الظهيرة هي وقت ظهور الشمس وارتفاعها وشدة حرها ولو لم يكن بعد صلاة الظهر, بل إذا ارتفعت الشمس وزاد حرها واحتاج الناس إلى القيلولة فهذا هو وقت الظهيرة, وجاء في الحديث (وحين يقوم قائم الظهيرة) يعني وقت الزوال, والسبب في تسمية وقت الزوال بقائم الظهيرة هو أن الإبل على شدة تحملها للحر تقف في هذا الوقت ولا تطيق حر الأرض, وقائم الظهيرة وشدة الحر كل ذلك يكون قبل الزوال, فهو أعم من أن يكون من صلاة الظهر, وعلى كل حال هذه الأحاديث كلها تدل على المبادرة بصلاة الجمعة.
الحنابلة يرون صحة صلاة الجمعة قبل الزوال, والجمهور على أن وقتها وقت صلاة الظهر, وذكر ابن رجب وغيره من أهل العلم قاعدة مفادها أنه إذا كان للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب لا يجوز فعلها قبل السبب اتفاقاً, ويجوز فعلها بعد دخول الوقت اتفاقاً, والخلاف فيما بينهما, وسبب الوجوب هنا طلوع الشمس من يوم الجمعة, ووقت الوجوب الزوال, فلا تجوز قبل ارتفاع الشمس اتفاقاً, وتجوز بعد الزوال اتفاقاً, والخلاف فيما بينهما.
كفارة اليمين سببها انعقاد اليمين, ووقتها الحنث, فلا يجوز أن تكفِّر قبل أن تعقد اليمين, ويجوز اتفاقاً أن تكفِّر بعد الحنث, لكن بينهما هو محل الخلاف, بناءً على هذه القاعدة. ودم المتعة والقران سببه الإحرام بالعمرة للمتمتع والإحرام بهما للقارن, ووقته يوم العيد, والخلاف بين السبب والوقت, يعني هل له أن يذبح الهدي قبل يوم العيد أو ليس له ذلك؟ محل خلاف بين أهل العلم. وهذه القاعدة لها فروع كثيرة جداً.
لا شك أن الاحتياط ألا تصلى إلا بعد الزوال ولو بُدِئ بالخطبة قبل ذلك, والأدلة محتملة, فمن صلاها قبل الزوال قريباً منه لا يؤمر بالإعادة.(15/5)
حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً): القيام في خطبة الجمعة واجب عند أهل العلم, ولم يخطب النبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس ألبتة, ولا خلفاؤه من بعده, لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي, ويقال إن أول من خطب جالساً كان معاوية رضي الله عنه لما ثقل جداً, ثم خطب بعض بني أمية بعده جالساً, وأنكر عليهم من قِبَل الصحابة كأبي سعيد وغيره, فالخطبة من جلوس لا تجوز, بل لا بد لها من قيام.
العير هي الإبل المحملة بالبضائع.
هؤلاء الذين انفتلوا كلهم صحابة, وهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر, وقد يكون الوقت وقت شدة وضيق فإذا سمعوا بشيء من مثل هذا لا شك أنه يؤثر على النفوس, وحضور الخطبة أصلاً ليس بواجب عند عامة أهل العلم, لكن من حضر يلزمه الإنصات, ولا شك أن هذا لن يكون من الصحابة رضي الله عنهم إلا في حال حرج شديد, ولا يبعد أن يكون فيهم شديد الجوع.
من أهل العلم من يرى أن هذه الخطبة كانت بعد صلاة الجمعة, وظنوا أن الانصراف عنها كالانصراف عن خطبة العيد, وجاء الترخيص في الانصراف عن خطبة العيد بقوله (إنا نخطب فمن شاء أن يجلس فليجلس), فحكم الاستماع لها عندهم كحكم الاستماع لخطبة العيد, إذا صلى الصلاة يجوز له أن يجلس ويجوز له أن ينصرف, لكن هذا يحتاج إلى نقل, ومعلوم أنهم عوتبوا على انصرافهم, ولو كان مما يجوز لهم فعله ما عوتبوا عليه.
من أهل العلم من يقول إن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً لهذا الحديث.
هؤلاء الذين انصرفوا وعادوا وأدركوا الصلاة صلاتهم صحيحة وإن كانوا قد فعلوا ما يستحقون عليه العتاب, والمظنون بالصحابة رضي الله عنهم أن الحاجة شديدة وماسة إلى مثل هذا الخروج.(15/6)
حديث ابن عمر (من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته): هذا مخرج في السنن, والذي في الصحيحين (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة) و (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح, ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر), وأما إدراك الجمعة بركعة فهو في السنن.
قوله (فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته): جاء نظيره في من أدرك من الصبح ركعة فليضف إليها أخرى, ومن أدرك ركعة من العصر ثلاثاً فليضف إليها ثلاثاً.
قوله (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح, ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) صريح في أن الوقت يدرك بإدراك ركعة, ومثل هذا في سائر الصلوات, يضيف إليها ما بقي وتكون صلاته أداء, ومن أهل العلم من يرى أن ما أدركه في الوقت أداء وما أدركه بعده قضاء, لكن النص جاء فيه (فقد أدرك الصلاة).
إدراك الجماعة: الجمهور على أن من أدرك مع الإمام أدنى جزء من الصلاة فإنه يدرك الجماعة, حتى قالوا (من كبر قبل سلام إمامه التسليمة الأولى أدرك الجماعة ولو لم يجلس), وجمع من أهل التحقيق يقولون إن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة, لأنها أقل ما يطلق عليه اسم الصلاة.
إدراك تكبيرة الإحرام: يدرك الركن الذي هو تكبيرة الإحرام إلى أن يشرع الإمام في ركن ثانٍ بعده وهو القراءة, فإذا شرع الإمام في القراءة فاتته تكبيرة الإحرام, ومنهم من يقول إنه ما دام يقرأ الفاتحة إلى أن يقول آمين فإنه يدرك تكبيرة الإحرام, ويستدلون بقول بلال للنبي عليه الصلاة والسلام (لا تسبقني بآمين) وهو مؤذن.
إدراك الجمعة: الجمهور على أنه يكون بإدراك ركعة, وعند الحنفية يدرِك الجمعة بإدراك أي جزء منها كغيرها من الصلوات.(15/7)
من دخل مع الإمام وقد رفع من الركوع وهو لا يدري هل هو في الركعة الأولى أو الثانية, هل ينوي ظهراً أو ينوي جمعة؟ أو ينوي نية معلقة, فإن كانت الركعة الأولى التي فاتته فإنه يدرك الثانية, وإن كانت الركعة الثانية فإنه لا يدرك شيئاً فيتمها ظهراً؟ ينوي فرض الوقت, فإن أدرك ركعة فجمعة وإلا فظهر.
هذا الحديث يدل على أن حضور الخطبة ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة.
قول الحافظ (وإسناده صحيح): هو كما قال, وقوله (لكن أبا حاتم قوى إرساله), ويكون حينئذ فيه تَعَارُض الوصل والإرسال, وأبو حاتم كثيراً ما يرجح الإرسال, وغيره قد يرجح الوصل وقد يرجح الإرسال, لكن من أهل العلم من ميله إلى الوصل, ومنهم من ميله إلى الإرسال كأبي حاتم, ومنهم من لا يحكم بحكم مطرد, وهذا هو الأصل في أحكام المتقدمين, ليس فيها حكم عام مطرد بل ما ترجحه القرائن هو الراجح, وهنا رجح أبو حاتم إرساله وأكثر الأئمة على أنه موصول, وعلى كل حال الحديث مصحح من قبل جمع من أهل العلم, وإسناده صحيح لا إشكال فيه, والإشكال في تعارض الوصل مع الإرسال, ولا يمنع أن يكون الراجح قول الأكثر.(15/8)
حديث جابر بن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس, ثم يقوم فيخطب قائماً, فمن أنبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب): يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان يجلس بينهما, وعلى هذا لو فصل بين الخطبتين وهو قائم هل نقول إنهما خطبتان أو خطبة واحدة؟ هل يلزم أن يكون بين الخطبتين جلوس؟ أو يتم الفصل بينهما بأي فاصل؟ لو احتاج إلى الخروج من المسجد فخرج ثم رجع ولم يجلس وشرع في الثانية, فهل هذا يكفي عن الجلوس؟ القيام في الخطبة والجلوس بين الخطبتين كلاهما ثابت عنه عليه الصلاة والسلام, وبوجوبهما قال جمع من أهل العلم, وبسنيتهما قال جمع من أهل العلم, وفرق بينهما بعض أهل العلم بأن القيام واجب لا بد منه وأما الجلوس فهو للحاجة إن احتيج إليه وإلا فلا, لأن الحاجة يُرَدُّ تقريرها إلى المحتاج نفسه, والأصل الاقتداء به عليه الصلاة والسلام فهو الأسوة والقدوة وهذا ديدنه.
قوله (ثم يقوم فيخطب قائماً فمن أنبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب): في مسلم عن جابر بن سمرة (فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة وكان يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم) وهذا يحمل على جميع الصلوات, الجمعة وغيرها, يعني أنه ملازم ومواظب على الصلاة خلف النبي عليه الصلاة والسلام في الجمعة وغيرها.
قوله (فمن أنبأك ... فقد كذب) دليل على أنه جازم بما يقول ومتأكد منه غير متردد ولا مرتاب ولا شاك.
النص يدل على أن طلاق الغضبان لا يقع, لكن شريطة أن يكون قد بلغ من صاحبه مبلغاً يحول بينه وبين عقله, وأما إذا كان يعقل ماذا يقول, فمناط التكليف ثابت, ولتقرير قوة الغضب من ضعفه لا بد من حضور الطرفين ليُنظر في الأسباب والباعث على هذا الغضب هل هو بالفعل يدفع إلى غضب شديد يعذر معه الإنسان أو لا.(15/9)
حكم عورة المرأة عند النساء هو حكم عورتها عند محارمها لأن السياق واحد في آية النور وفي آية الأحزاب, لأن النساء عُطِفن على المحارم في هذه الآيات, فعورة المرأة عند المرأة كعورتها عند أبيها وأخيها, فإذا كانت تظهر القدر المباح عند أبيها وأخيها فلا بأس أن تحضر به الأعراس, على أنها كلما اتصفت بالحشمة والاحتياط لنفسها فهو أولى لا سيما في هذه الأزمان مع انتشار التصوير. وينبغي للإنسان أن يحرص على نجاة نفسه ولو ضحى بحقوق الآخرين من البر والصلة والآداب والتعامل مع الأقارب والجيران والأصحاب, فيحتاط لنفسه أكثر من أن يحتاط لغيره.
إذا كان الحائل الذي يحول بين المصلي وبين مباشرة المصلي متصلاً بالمصلي فإنه يكره عند أهل العلم إلا لحاجة, لأن الكراهة تزول بأدنى حاجة, كما لو كان على الأرض شوك أو حر شديد.
حديث جابر بن عبد الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته - الحديث - ): هذا الأسلوب الخطابي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام ليقع كلامه موقعاً قوياً في التأثير في السامعين.
هكذا ينبغي أن يكون الخطيب, لا سيما إذا كانت خطبته في إنكار منكر منتشر أو في ترك مأمور مهجور مقرر في الشرع.
قوله (احمرت عيناه): أي من شدة الغضب لما رأى من التقصير أو التعدي لبعض حدود الله.
قوله (وعلا صوته): ينبغي للخطيب أن يرفع صوته, لكن لا يزيد على قدر الحاجة, وينبغي أن يُعلَم أنهم ليس عندهم ما يبلغ الصوت من المكبرات الصوتية, فإذا كان الجمع لا يبلغه الصوت العادي فإن الصوت يُرفَع حتى يبلغ السامع, لأن القصد من الخطبة أن تُسمَع ويُستَفاد منها.
إيذاء المصلين برفع الصوت باستخدام المكبر والمؤثرات التي تردد الصوت خلاف السنة, لأن قوله (علا صوته) المراد به حيث لا آلة, لأن المقصود تبليغ الحاضرين.(15/10)
قوله (ويقول: أما بعد): هذه من سنن الخطبة ومن سنن الرسائل, فقد ثبتت عنه عليه الصلاة والسلام في خطبه وفي مراسلاته وفي كتاباته, وثبتت عن أكثر من ثلاثين صحابياً في الخطب والرسائل, ولا يقوم غيرها مقامها, ويؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر, وهي في الموضع الأول لا تحتاج إلى (ثم), بل إذا أردت الانتقال إلى أسلوب ثالث قل (ثم).
(أما) حرف شرط, و(بعد) قائم مقام الشرط, وجوابها ما بعد الفاء, و(بعد) مبني على الضم لأنه مقطوع عن الإضافة مع نية المضاف إليه, ومثله (قبل) كما في قوله تعالى (ولله الأمر من قبل ومن بعد), لكن لو أضيفت أعربت, ولو قطعت مع عدم نية المضاف إليه أعربت مع التنوين.
قوله (فإن خير الحديث كتاب الله): الحديث إذا أطلق في مقابل القرآن يراد به ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام, لكن إذا أطلق الحديث على عمومه وهو ما يُتحدث به دخل فيه القرآن ودخل فيه كلام النبي عليه الصلاة والسلام ودخل فيه كلام من دونه, فهنا خير الحديث عموم ما يتحدث به كتاب الله, خير ذلك كتاب الله جل وعلا وهو القرآن.
قوله (وخير الهَدْي): الهَدي كذا ضُبِطَ بفتح الهاء, وضُبِطَ بضمها (الهُدَى). والمراد بذلك طريقته عليه الصلاة والسلام وسنته وعادته وديدنه, خير الهدي عموماً خير الطرق التي تسلك والسنن التي تتبع سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
قوله (وخير الهدي هدي محمد): صرَّح عليه الصلاة والسلام باسمه العلم, ونحن مأمورون بالصلاة والسلام عليه فنقول (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).
واشترط بعضهم الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام لصحة الخطبة.
لكن بالنسبة له لا أحفظ نصاً صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه, وإن أمر بذلك وحث عليه.(15/11)
قوله (وشر الأمور - الأمور كلها من الأقوال والأفعال – محدثاتها): لكن المحدثات بالنسبة لأمور العادات وأمور الدنيا فالمسلم يأخذ بما ينفعه منها ويترك ما يضره منها, على ألاَّ يكون ما يأخذه من النافع من باب التشبه بالأعداء.
البدعة في اللغة في الأصل ما عمل على غير مثال سابق, وفي الشرع ما عمل من دون أن يسبق له شرعية من الكتاب والسنة, وهذا في أمور الدين في المقاصد والغايات, وأما الوسائل فهي متفاوتة, منها ما يقرب من الغايات, ومنها ما يبعد عنها.
ما بَعُد من الوسائل عن الغايات قابل للاجتهاد والتجديد, فمثلاً المركوب من وسائل الدعوة, ولا أحد يقول إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يركب في دعوته إلا الحمار والبعير فلا نركب إلا مثله بحجة أن هذه وسيلة إلى عبادة لا يدخلها الاجتهاد, لأن هذه الوسيلة بعيدة عن الغاية, فلبعدها تخضع للاجتهاد.
لكن هناك وسائل تقرب من الغايات, حتى إن منهم من ينازع في كونها وسائل ويعدها غايات, فالوضوء وسيلة إلى الصلاة, لكن منهم من يقول إنه غاية بذاته, بدليل أنه يشرع للمسلم أن يبقى على طهارة ولو لم يرد بذلك العبادة مما لا يتعبد به إلا بالوضوء.
مكبرات للصوت تعتبر من الوسائل, وهي خاضعة للاجتهاد وحادثة وتستعمل في عبادة, لكنها ليست من الغايات, فدخلت في حيز الاجتهاد, وهذه الأمور تتفاوت فيها وجهات النظر, فمنهم من يضيق تضييقاً شديداً, ومنهم من يتوسع توسعاً غير مرضي, وخير الأمور الوسط.
من أهل العلم المعروفين من رفض استعمال هذه المكبرات الصوتية بحجة أنها أمور حادثة تستعمل في عبادة من أعظم العبادات وهي الصلاة, ومن الشيوخ من مات وهو لا يستعملها لا في صلاته ولا في خطبته, ومن أهل العلم من رأى أن مصلحتها راجحة, والمفسدة لا تكاد تذكر في جانب المصلحة العظيمة, فرأى أن استعمال مثل هذه الآلات يحقق مصلحة ولا يترتب عليه مفسدة ولو استعمل في عبادة. والمقصود أن مثل هذه الأمور تُقَدَّر بقدرها.(15/12)
هناك ضابط وضعه بعض أهل العلم وهو أنه كل ما كانت الحاجة داعية إليه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله فإنه بدعة, والحاجة كانت داعية بلا شك إلى تبليغ الصوت إلى البعيد, بدليل أن آخر الصفوف لا يسمعون القراءة, لكن مثل هذه الآلات لم تكن موجودة في عصره عليه الصلاة والسلام, وفي عهد السلف يستعملون المستملي الذي يبلغ عن المتكلم في الجموع الكثيرة, وهذه الآلة تقوم مقام المستملي.
الخطوط في فرش المسجد ينطبق عليها الحد الذي حُدِّد في تعريف البدعة, فالحاجة داعية إلى مثل هذا في عهده عليه الصلاة والسلام ولم يفعله, لكن الحاجة في عهده عليه الصلاة والسلام ليست بمستوى الحاجة بعده عليه الصلاة والسلام, لأن النبي عليه الصلاة والسلام بإمكانه أن يخط برجله في الرمل ويستوون على هذا الخط, وصفه عليه الصلاة والسلام يمكن تسويته لقلة من في الصف, لكن في الجوامع الكبرى والحرمين لا يمكن تنظيم الناس بمجرد الكلام, وكثير من الناس يتساهل في تطبيق السنن ومنهم من يجهل, ويلاحظ أن الصفوف في الحرمين رغم وجود الخطوط والسجاد تحتاج إلى تعديل, وكانت مصليات الأعياد قبل أن تفرش بالفرش تكون الصفوف فيها كالأقواس لا يمكن تعديلها, وعلى كل حال هذه الخطوط مما تتجاذبه وجهات النظر, لكن يبقى أنه إذا زادت المصلحة وغمرت المفسدة في سبيل تحقيق هذه المصلحة ينبغي ألا يلتفت إلى المفسدة.
الخط المحاذي للحجر الأسود رأى أهل العلم أنه يحقق مصلحة والمفسدة مغمورة, لكن زادت المفسدة هذه الأيام لأنهم صاروا يقصدون الخط ويصلون عليه ويضيقون على الطائفين, فلا بد من إيجاد بديل لهذا الخط, ولا شك أن المصالح والمفاسد تزيد وتنقص من وقت لآخر.(15/13)
قوله (كل بدعة ضلالة): عام في كل ما يبتدع في أمور الدين, لكن هل هو عام باقٍ على عمومه أو عام مخصوص كما يقول بعض أهل العلم؟ من أهل العلم من يرى أنه من العام المخصوص, والصحيح أنه باقٍ على عمومه وأن كل ما أحدث في الدين من غاياته ومقاصده ووسائله القريبة من الغايات كل ذلك ضلالة.
من أهل العلم من يقسم البدع إلى بدع واجبة وبدع مستحبة بدع مباحة, وكيف يكون ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (وكل بدعة ضلالة)؟!! منهم من يقول هناك بدع محمودة ومستحسنة وبدع مذمومة, ويستدل بقول عمر في صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه), وإذا نظرنا إلى صلاة التراويح التي جمع عمر رضي الله عنه الناس عليها وأردنا أن نطبق التعريف اللغوي عليها نجد أنها عملت على مثال سابق فليست ببدعة لغوية لأن البدعة اللغوية ما عملت على غير مثال سابق. وإذا أردنا أن نطبق التعريف الشرعي عليها نجد أنها قد سبق لها شرعية من فعله عليه الصلاة والسلام, النبي عليه الصلاة والسلام حيث صلى بأصحابه ليلتين أو ثلاث جماعةً في ليالي رمضان ثم تركها لا رغبةً عنها ولا نسخاًَ لها ولا رفعاً لحكمها وإنما خشية أن تفرض, فليست ببدعةٍ شرعية. الشاطبي يقول هي بدعةٌ مجازاً, وشيخ الإسلام في الاقتضاء يقول إنها بدعة لغوية, وتبعه على هذا كثير من أهل العلم, لكن الصواب أن هذا من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير, وهذا أسلوب مطروق في لغة العرب وفي النصوص أيضاً كما في قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها).(15/14)
الشاطبي رحمه الله تعالى رد تقسيم البدع وقوض دعائمه وقال إنه قول مخترع مبتدع, والذين يقولون بالتقسيم يقولون هناك بدع واجبة كالرد على الزنادقة والملاحدة, لكن القرآن يرد على المخالفين, والسنة فيها نصوص ترد على المخالفين, والسلف ردوا على المخالفين, فليست ببدعة أصلاً, ومن البدع المستحبة عندهم بناء المدارس والأربطة, لكن من المقرر في الشرع أن الوسائل لها أحكام الغايات, وامتثال الأمر لا يتم إلا بفعل المأمور وما يتم به فعل المأمور, فأنت مأمور بالعلم والتعليم والتعلم, ولا يتم تحصيل العلم والتعليم إلا ببناء يضم المتعلمين, والأربطة وغيرها من الأمور المتعدية النفع ليست ببدع.
وفي رواية لمسلم (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه): قالوا من شرط صحة الخطبة أن يتقدمها الحمد والثناء مع الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وقراءة شيء من القرآن, وينطبق عليها مسمى الخطبة, وأما من قرأ في الخطبة سورة ق فقط ولم ينطق بغيرها فإنه قرأ ولم يخطب, ولو أنشد قصيدةً ولو ابتدأت بالحمدلة والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وأما بعد وضُمِّنت شيئاً من القرآن لا يقال إنه خطب.
من أهل العلم من يرى أن الخطبة تبطل بتضمينها الشعر, لأنه لم يؤثر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال بيتاً في خطبه كلها, لكن إذا كان الشعر شيئاً مغموراً بحيث لا يخرج الخطبة عن مسماها واحتيج إليه لعدم ما يقوم مقامه في معناه فلا بأس إن شاء الله تعالى.
قوله (يحمد الله ويثني عليه): بهذا نعرف أن الحمد غير الثناء, وإن فسر الجمهور الحمد بأنه الثناء, وجاء في حديث أبي هريرة في مسلم (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) وفيه التفريق بين الحمد والثناء, فهو دليل على أن الثناء غير الحمد, وابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب فرَّق بين الحمد والثناء, وحَدَّ كل واحد منهما بحد خاص.(15/15)
قوله (ثم يقول على إثر ذلك): إِثْر وأَثَر, لا فرق بينهما وقد ضُبِطَت بهذا وهذا.
وللنسائي (وكل ضلالة في النار): يعني كل صاحب ضلالة في النار, وليس المراد الضلالة نفسها, كما في حديث الإسبال (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والمقصود صاحب الثوب لا الثوب.
حديث عمار بن ياسر (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبه مئنة من فقهه): المراد بطول الصلاة هنا الطول الذي لا يفتن المصلين عن صلاتهم, أي الطول الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الإتيان بجميع ما شرع في الصلاة وأداءها على الوجه المأمور به وعلى الصفة الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام دليل على فقه المصلي ومعرفته فقه الصلاة.
المراد طول الصلاة النسبي, فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الإطالة التي تفتن بعض المصلين وتصرفهم عن صلاتهم, لكنه مع ذلك قرأ بطوال المفصل وقرأ بالأعراف في المغرب.
قدم أكثر العلماء الأفقه على الأقرأ مع أن النص جاء صريحاً (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). يقولون: لأن الإمام قد يعرض له في صلاته ما يحتاج معه إلى فقه, وأما القراءة فيكفي منها القدر الواجب, فقد يكون الإنسان حافظاً للقرآن لكن يخفى عليه كثير من فقه الصلاة. فجعلوا الأفقه هو الأولى.
عند الحنابلة ومن يقول بقولهم من فقهاء أهل الحديث أن الأقرأ هو الأولى مطلقاً للنص عليه, والجمهور يجيبون عن الحديث بأنه جاء على الغالب من حال الصحابة وهو أن الأفقه هو الأقرأ فجاء لبيان الواقع, وليس الأمر كذلك, إذ لو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) وأحكام الصلاة جلها في السنة وليس في القرآن منها إلا الأمر بها.(15/16)
المقصود أن هذا الذي هو بالفعل أقرأ هو الأولى بالإمامة, لكن في الحديث حث للقراء على أن يعنوا بفقه الصلاة, مادام أتيحت لهم هذه الفرصة وفُضِّلوا على غيرهم فإنه لا يليق بهم أن يؤموا الناس وهم لا يفقهون أحكام الصلاة, فتقديم الأقرأ متضمن للحث على فقه الصلاة.
الطول والقصر نسبي, فإذا خطب الخطبة المجزئة المشتملة على أركان الخطبة وواجباتها وحققت الهدف الشرعي من شرعيتها بأخصر عبارة وأوضح بيان بحيث لا يحتاج معه إلى استفسار في الوقت المناسب فهذه خطبة قصيرة, بحيث لا يزيد على ما تحتاجه المعاني من الألفاظ, ولا شك أن التعبير عن المعاني بأخصر عبارة وأقصر أسلوب مفهوم واضح علامة على فقه الرجل وبلاغته وفصاحته, وأما طول الصلاة فلا شك أنه نسبي, وقد جاء التحذير من التطويل الممل.
بعض الناس يتصور أن الحكم عليه إنما يتم بجودة أسلوبه وفصاحته واستعماله الغريب من الألفاظ, لكن نقول: هذه مسألة شرعية, شُرِعَت لتحقق هدفاً وهو هداية الناس وإرشادهم ودلالتهم وبيان ما يخفى عليهم, فتنبغي مخاطبتهم على قدر عقولهم.
مراعاة أحوال الناس في وقت الخطبة أمر لا بد منه, ولذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتخولهم بالموعظة, فلا يكثر عليهم ولا يثقل عليهم, وجاء في الحديث (فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان لسحراً), والبيان هو تمام الإيضاح مع جزالة الأسلوب وخلوه عن القدر الزائد على المطلوب بدون إطناب ولا إيجاز مخل, والتعبير عن المراد بقدر الحاجة بيان, وهو ضرب من ضروب السحر لأنه يؤثر في السامع كتأثير السحر, وهذه الجملة فيها مدح إذا استعمل هذا البيان في بيان الحق ودحض الباطل, وفيها ذم إذا تضمن هذا البيان تحريف النصوص وتأويلها والخروج من التكاليف بالتأويلات الباطلة.(15/17)
النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي بسورتي الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة, وهذا تطويل نسبي, لأن سورتي الجمعة والمنافقون أطول من سبح والغاشية اللتين كان عليه الصلاة والسلام يصلي بهما في الجمعة والعيدين, فهو طول نسبي ولا يزال في دائرة التخفيف المأمور به, لأنه في مقابل سورة البقرة التي قرأ بها معاذ.
حديث أم هشام بنت حارثة (ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس): المعنى ما أخذت السورة كاملة, وليس المراد بها ما ذُكِر فقط, وإنما هذا كناية عن السورة بكاملها, وجاء في أول الحديث (كان تنورنا وتنوره صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين أو سنة وبعض السنة وما أخذت ق والقرآن - الحديث - ).
الخطبة بسورة (ق) فقط ليست خطبة, لأنها إنما أخذت ق والقرآن المجيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس, يعني تكون في ضمن الخطبة ولا تكون هي الخطبة.
النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من قراءة هذه السورة إذا خطب الناس في الجمعة لما اشتملت عليه من المعاني العظيمة التي لو تأملها المسلم لأفاد منها, ولذا جاء في آخرها (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد), فالتذكير ينبغي أن يكون بالقرآن, وكفى بالقرآن واعظاً.
على الخطباء أن يعنوا بهذه السورة, وأن يكثروا قراءتها على الناس.(15/18)
حديث ابن عباس (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً, والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) وحديث أبي هريرة (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت): يقول الحافظ عن حديث ابن عباس (بإسناد لا بأس به), لكن الإسناد ضعيف, لأن فيه مجالد بن سعيد, وقد ضعفه الأئمة, فالخبر ضعيف, لكن له شاهد مرسل, فقد ورد من مرسل حماد, وقد رواه جمع, فهل يعتضد الضعيف بالمرسل؟ أو بعبارة أخرى هل يعتضد المرسل بالضعيف؟ مجالد وإن ضعفه الجمهور فقد قواه بعضهم, فيكون ضعفه قابل للانجبار, فهل ينجبر بمرسل؟ نص الحافظ ابن حجر وغيره على أن المرسل ينجبر ويُجبَر به, والشافعي رحمه الله تعالى فيما يتقوى به المرسل يقول: يتقوى بالمرفوع, يتقوى بمرسل آخر رجاله غير من أرسل الخبر الأول. فلعل الحافظ لحظ هذا وقال (بإسناد لا بأس به), ولو أسقط قوله (بإسناد) لكان أولى لأن الإسناد ضعيف, فلو قال (رواه أحمد, وهو حديث لا بأس به) باعتبار المجموع لا باعتبار المفرد لكانت العبارة أدق, وأما ما رواه أحمد عن ابن عباس من طريق مجالد فهو ضعيف, فإن كان الحافظ لحظ ما يتقوى به من المرسل فحكمه صحيح لكنه ليس بدقيق, وأما إسناده بمفرده ففيه بأس لأن فيه مجالد وهو ضعيف. وعلى كل حال الحديث يشهد له حديث أبي هريرة الذي يليه وهو في الصحيحين.
قوله (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً): وجه الشبه بينهما هو عدم الانتفاع, فهذا لا ينتفع بحضور الجمعة وذاك لا ينتفع بما على ظهره من الأسفار, كقول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.(15/19)
قوله تعالى (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً) معنى لم يحملوها لم يعملوا بها, وإلا فهم حملوها بالنظر فيها لكن لم يعملوا بما فيها, بدليل أن الحمار يحمل, ولا يتم التشبيه إلا إذا كانوا حملوها ثم لم يعملوا بها, لأن الحمل المراد منه العمل.
كل من لم يعمل بعلمه فهو جاهل لأنه عاص بدليل قوله تعالى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) فكل من عصى الله فهو جاهل.
هذا الذي تكلم والإمام يخطب لم يستفد الأثر المرتب على الجمعة, وإلا فجمعته صحيحة ومسقطة للطلب, بمعنى أنه لا يؤمر بإعادتها, لكن الثواب المرتب على الجمعة لا يحصل له.
قوله (والذي يقول له أنصت ليست له جمعة): الذي تكلم كمثل الحمار يحمل أسفاراً, والذي قال له أنصت ليست له جمعة, وفي حديث أبي هريرة (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) فأيهما أشد؟ أما بالنسبة للأول فلا وجه لكلامه, والثاني على ما ارتكبه من محظور إلا أنه ينتابه أمران مأمور ومحظور, لأن الأول عصى وارتكب محظوراً بالكلام حال الخطبة, وقد جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا منكر, فكونه قال له أنصت وأمره بالمعروف وهو الإنصات فقد امتثل الأمر, لكنه مع ذلك كله فقد لغا وليس له جمعة, فكيف بمن تكلم بغير فائدة ولا مصلحة ابتداءً؟!! إذا كان من ينكر المنكر ويأمر بالمعروف هذا وضعه, فكيف بمن يتكلم ابتداء بكلام لا حاجة إليه؟!!.
قوله (والإمام يخطب) مفاده عدم جواز الكلام حال خطبة الإمام, ومعنى هذا أنه قبل أن يبدأ بالخطبة أو إذا جلس بين الخطبتين أو إذا فرغت الخطبة قبل الصلاة يجوز له أن يتكلم.(15/20)
هل لزوم الإنصات لمن كان داخل المسجد أو لكل من سمع الخطبة؟ بمعنى أنك لو جاء شخص والإمام يخطب ووجد شخصاً يبيع عند باب المسجد ثم قال له (إن البيع والشراء بعد أذان الجمعة الثاني حرام والبيع باطل) هل يجوز له ذلك؟ أو أن هذا خاص بمن يستمع الخطبة؟ هذا له توابع, لأنا لو قلنا بهذا لقلنا بمنع من في البيوت من المعذورين من الكلام لأنهم يسمعون الخطبة, لكن هذا خاص بمن دخل وقصد الجمعة وجاء لاستماعها, لأنه قبل أن يدخل المسجد لم تثبت في حقه الأحكام, بدليل أنه بإمكانه أن يصل إلى هذا المسجد الذي يسمع خطبة إمامه ثم يتحول إلى مسجد آخر يتأخر في الدخول ليدرك خطبته كاملة, فهو بالخيار قبل أن يدخل المسجد, لكن إذا دخل لا يجوز له أن يخرج, وإذا كان خارج المسجد فإنه إلى الآن لم يباشر الصلاة وأسبابها.
إذا مررت بمسجد وأنت تمشي إلى مسجد آخر وتسمع القرآن من المسجد الذي مررت به وباقٍ عليك شيء من أذكارك هل يجب عليك استماع هذا القرآن أو لك أن تكمل أذكارك؟ الجواب: إذا دخلت المسجد ووصلت إلى المصلين لزمتك الأحكام ولزمك الإنصات, وإذا وصلت إلى المصلين فقد دخلت المسجد حكماً, وما دمت وصلت إلى موضع الصلاة فأنت تابع للإمام, ومطالب بما يطالب به المستمع.
قوله (فقد لغوت): جاء في بعض الأخبار (من لغا فلا جمعة له) وجاء في حديث ابن عمر عند أبي داود وابن خزيمة (من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) يعني هي مجزئة ومسقطة للطلب لا يؤمر بإعادتها, لكن الأجر الزائد على صلاة الظهر لا يثبت له.
الكلام والإمام يخطب حرام في القول الراجح عند أهل العلم, وإن قال بعضهم بكراهته, لكن هذه النصوص تدل على أنه حرام.(15/21)
حديث جابر (دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب – الحديث وفيه: قم فصل ركعتين): في الحديثين السابقين منع الكلام والإمام يخطب, وهذا الحديث دليل على أن الكلام من الخطيب ومع الخطيب مستثنى من الكلام الممنوع, فلا بأس في الكلام من الخطيب لأحد المستمعين أو العكس, والذي دخل والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب وشكا له الجدب فاستسقى النبي عليه الصلاة والسلام ما لامه ولا ثرَّب عليه, فدل على أن محادثة الخطيب لا شيء فيها إذا كانت فيما ينفع, أما إذا كانت في كلام لاغ لا قيمة له أو كلام يثير إشكالات أو فيه ضرر على أحد فهو ممنوع من الأصل وفي الخطبة من باب أولى.
في الحديث أدب التوجيه والإرشاد وهو الاستفهام قبل الأمر لأنه احتمال كونه صلى في فناء المسجد داخل السور.
قوله للرجل (صليت؟): المراد تحية المسجد, وقوله (قم فصل ركعتين) من الأوامر الدالة على تأكد تحية المسجد, ومنها (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين), وهي سنة مؤكدة عند جماهير أهل العلم, وأوجبها بعضهم لثبوت الأمر في قوله (قم فصل ركعتين) وقوله (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين), لكن هناك صوارف صرفت الأمر إلى الاستحباب.
قد يقول قائل إن هذا الحديث من أدلة وجوب تحية المسجد لأنه مأمور بالاستماع والإنصات, وهذا الأمر لا يخل به إلا للقيام بأمر واجب, لأن الواجب لا يعارض إلا بواجب, لكن يبقى أن عامة أهل العلم على الاستحباب, والصوارف كثيرة.(15/22)
ومنهم من يرى أنه إذا دخل والإمام يخطب أنه لا يصلي ركعتين, وهذا منقول عن مالك والليث والثوري وأبي حنيفة وغيرهم, لأنه منشغل بواجب, فكيف يقطع الانشغال بواجب بمستحب؟!! لكن ما دام ثبت الأمر بهما فلا كلام لأحد, ويجيب بعضهم بأنه إنما أُمِر بصلاة الركعتين لكي ينتبه له الناس ويتفطنوا له لأنه بحاجة إلى مساعدة وإلى صدقة, لكن هذا الكلام ليس بشيء, لأنه لا يمنع أن يقول له قف أو تقدم قليلاً ليراه الناس بمجرد المخاطبة ولا يحتاج إلى أن يصلي ركعتين لو كان الركعتان لا تشرعان لمعارضتهما الواجب.
حديث (اجلس فقد آذيت) يحتمل أنه رأى هذا الرجل الذي يتخطى رقاب الناس قد صلى قبل ذلك, ويحتمل أن المراد به الكف عن تخطي الرقاب ولا يلزم منه حقيقة الجلوس, فالأمر بالجلوس لا يعارض الأمر بالركعتين.
إذا دخل والإمام يخطب في المسجد الحرام مثلاً وهو قاصد لصلاة الجمعة مع الإمام هل له أن يطوف ويصلي ركعتي الطواف؟ أو هو مأمور بالاستماع والمستثنى من ذلك تحية المسجد فقط؟ تحية البيت الطواف وتحية المسجد الركعتان, هل يطوف ويستصحب حديث (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار)؟ أو يقال: ما استثني إلا تحية المسجد الورادة بالنص الخاص؟ هل يعارَض عموم قوله (أية ساعة شاء من ليل أو نهار) بخصوص الأمر بالإنصات؟ وهل يعارض قوله (من مس الحصى فقد لغا) بالطواف والإمام يخطب؟ الجواب: يلزمه أن يصلي ركعتين ويجلس, وإن أراد الطواف فبعد ذلك.(15/23)
شخص مسافر دخل المسجد والإمام يخطب, فجلس ينتظر ليصلي معه بنية الظهر ثم يصلي العصر بعدها مباشرة, ولم ينصت إلى الخطبة محتجاً بأن الجمعة لا تلزمه, وبأنه سيجمع الظهر والعصر, ولو صلى الجمعة لم يكن له أن يجمع معها العصر, هل له ذلك؟ ومثل ذلك شخص دخل المسجد الحرام وهو مسافر, ويريد أن يطوف والإمام يخطب, ويصلي الظهر والعصر ويرجع, هل له ذلك؟ الجواب: ليس له ذلك, لأنه إذا حضرها لزمته, ومن دخل في سور المسجد له حكم المصلين.
الإمام إذا دخل لا يصلي ركعتين, لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل لم يصل ركعتين, بل بدأ بالخطبة.
لا تسقط ركعتي التحية إلا عن الخطيب, فالمدرس الذي عنده درس بعد إحدى الصلوات وقد أدركته الصلاة في الطريق فصلاها ثم جاء إلى المسجد ليس له أن يجلس على الكرسي مباشرة من غير صلاة ركعتين.
حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين) وحديث النعمان بن بشير (كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية): (كان) تدل على الاستمرار.
سورة المنافقون أطول من سورة الجمعة بشيء يسير, وعلى هذا ما جاء في تطويل الركعة الأولى أطول من الثانية يكون هو الأصل, ويستثنى ما جاء في مثل هذا الموضع لأنه ثابت بالنص عن النبي عليه الصلاة والسلام, فلا يقرأ في الركعة الأولى الانفطار وفي الثانية المطففين, لأن القاعدة في الصلاة أن الركعة الأولى أطول من الثانية, وما عدا ذلك يقتصر فيه على الوارد.
جاء في العيد أنه عليه الصلاة والسلام يقرأ بـ(ق) واقتربت: أحياناً يقرأ بسبح والغاشية وأحياناً بـ(ق) واقتربت, وأحياناً يقرأ في الجمعة بالجمعة والمنافقون وأحياناً بسبح والغاشية, وهذا يدل على أن (كان) ليست للاستمرار المطلق, وإنما تدل على التكرار.(15/24)
حديث زيد بن أرقم (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة - الحديث - ): صلى العيد في يوم جمعة ثم رخص في الجمعة, قال للمصلين (من شاء أن يصلي الجمعة معنا فليصل), وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد صلى الجمعة, فالإمام ومن تقوم بهم الجمعة يلزمهم أن يصلوا الجمعة, وأما غيرهم فحضور الجمعة رخصة في حقهم, لأن النبي عليه الصلاة والسلام رخص في ذلك, والرخصة ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح, فالأصل أن المسلم مطالب بحضور الجمعة, والترخيص في عدم حضورها لمن حضر العيد خلاف هذا الأصل فهو رخصة, وجاء أيضاً التصريح بكونه رخصة في قوله (ثم رخص في الجمعة).
إذا قلنا إن الأصل الجمعة والظهر بدل منها, فإذا عفي عن الأصل عفي عن البدل, وإذا قلنا إن الأصل الظهر والجمعة بدل منها فقد يعفى عن البدل ولا يعفى عن الأصل.
من صلى العيد ولم يصل الجمعة أخذاً بالرخصة فإنه تلزمه صلاة الظهر في قول جماهير أهل العلم, ويذكر عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه صلى العيد ولم يصل بعدها إلا العصر, لكن عامة أهل العلم على خلافه, فإذا عفي عن الجمعة باعتبار أن حضورها والاستعداد لها أشق من صلاة الظهر فإن الرخصة تظهر في العدول من الأشق إلى الأخف, وليس معنى الترخيص في هذا الحديث الترخيص إلى غير بدل.
قوله (صلى العيد ثم رخص في الجمعة): لأن المقصود وهو وعظ الناس وتوجيههم وإرشادهم بخطبة الجمعة حصل بخطبة العيد.(15/25)
ترك صلاة الجمعة في يوم العيد رخصة, وفعل صلاة الجمعة في يوم العيد عزيمة لأنه هو الأصل, وأيهما أفضل العزيمة أو الرخصة؟ النبي عليه الصلاة والسلام صلى الجمعة مع كونه صلى العيد, فهل نقول هذا هو الأفضل بالنسبة للإمام ومن يقيم الجمعة والعيد؟ أو هو الأفضل لعموم الناس لأنه ما كان الله جل وعلا يختار لنبيه إلا الأكمل؟ أو نقول هذا كسائر الرخص, فالمسلم الأفضل في حقه أن يفعل الأرفق به ويقبل رخصة الله؟ الجواب: الأرفق بالمسلم هو الأفضل في حقه.
هذا الحديث رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن المديني, والحديث صحيح له شواهد ترقيه إلى درجة الصحيح لغيره.
جاء في الحديث (من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) لكنه ضعيف.
حديث أبي هريرة (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً): ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته, فمن أهل العلم من يقول إنه يصلي بعد الجمعة ست ركعات, وابن القيم نقل عن شيخ الإسلام أنه إن صلى في المسجد صلى أربعاً وإن صلى في بيته صلى ركعتين للتوفيق بين النصوص, فتحمل هذه على حال وهذه على حال, وهذا فعل ابن عمر, كان إذا صلى في المسجد صلى أربعاً وإذا صلى في بيته صلى ركعتين, وبهذا تتحد النصوص وتتفق.(15/26)
هل الأفضل أن يجمع بين كون صلاة البيت أفضل من صلاة المسجد إلا المكتوبة وبين قوله (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) فيصلي بعد الجمعة أربعاً في بيته؟ أو الأفضل ألا يزيد في البيت على ركعتين لفعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ الجواب: إن نوى بالزيادة على الركعتين في البيت النفل المطلق الوارد في قوله (أعني على نفسك بكثرة السجود) فلا يوجد ما يمنع منه, لكن على ألاَّ يعتقد أنه يفعل ما هو أفضل من فعل النبي عليه الصلاة والسلام, ما كان الله ليختار لنبيه إلا الأفضل, فافعل ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام ثم زد عليه ما شئت من باب التنفل المطلق.
حديث السائب بن يزيد وقول معاوية رضي الله عنه له (إذا صليت الجمعة فلا تصِلْها بصلاة - الحديث - ): الحديث وإن كان سياقه سياق الخاص بالجمعة إلا أنه ليس خاصاً بها, لأن معاوية رضي الله عنه لحظ على السائب أنه سلم من صلاة الجمعة ثم قام فصلى بعدها صلاة أخرى نافلة فأنكر عليه فعله مستدلاً بالحديث العام (فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج).
لا بد من فاصل بين الفريضة وغيرها بالأذكار أو بالانتقال من مكانه إلى مكانٍ آخر خارج المسجد أو في ناحية المسجد.(15/27)
مسألة التحول من مكان إلى آخر, إذا صلى الفريضة في مكان هل يشرع له أن ينتقل ويتحول إلى مكان ثانٍ أو يصلي النافلة في مكانه؟ أهل العلم يستحبون التحول للنافلة من مكان الفريضة لتكثر المواضع التي يؤدي فيها العبادات وتشهد له يوم القيامة لقوله تعالى (ونكتب آثارهم) الآثار هي مواضع السجود في الأرض, وذكر البخاري في صحيحه عن أبي هريرة بصيغة التمريض فقال (يُذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه: لا يتطوع الإمام في مكانه, ولم يصح) فهذا حديث ضعيف, نص البخاري على عدم صحته, فلم يرد شيء مرفوع يدل على التحول, لكنه مع ذلك إذا نظر إلى أنه بانتقاله إلى مكان آخر فإنه يُكثِر الأماكن التي عبد الله جل وعلا فيها, وعلى كلام أهل العلم تشهد له يوم القيامة وهي آثار عبادته وآثار طاعته, فلا بأس إن شاء الله تعالى.
الحديث ليس نصاً في التحول حيث قال (حتى نتكلم أو مخرج) المهم أن لا يصل صلاة بصلاة, لا لذات البقعة, بدليل التكلم, لأنه لو تكلم وصلى في مكانه فقد أدى ما عليه.
في سنن أبي داود عن أبي هريرة (أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني السبحة) ولم يضعفه أبو داود, وقال الحلاق محقق سبل السلام (حديث صحيح), وهو يدل على الانتقال من البقعة.
القاعدة أن أبا داود إذا سكت عن حديث ولم يتعقبه فهو حسن, هذا الذي قرره ابن الصلاح وغيره, وهو يقول (وما سكتُّ عنه فهو صالح), والصلاحية هنا أعم من أن تكون للاحتجاج أو للاستشهاد, فيدخل فيها الصحيح والحسن الذي هو صالح للاحتجاج, ويدخل فيها أيضاً الضعيف المنجبر الذي يصلح للاستشهاد والاعتضاد.
حديث أبي هريرة (من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت - الحديث - ): غسل يوم الجمعة من السنن المؤكدة, وقال بعضهم بوجوبه.
جاء الحث على الإتيان إلى الجمعة ماشياً والرجوع منها ماشياً.(15/28)
اللفظ (فصلى ما قُدِّرَ له) يفهم منه الحث على الصلاة, لأن الصلاة من المؤثرات في المغفرة التي ذُكِرت في الحديث, والإكثار منها أفضل من الإقلال. لكن ليس في الحديث حد في عدد الركعات التي تصلى في هذا الوقت.
قوله (ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته) دليل على أنه لا مانع من الكلام بين الخطبة والصلاة.
قوله (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام): جاء في الحديث الصحيح (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) وجاء أيضاً (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) وجاء (ما لم تغش كبيرة) وفي رواية (ما اجتنبت الكبائر), فالغفران هنا إنما هو للصغائر, والكبائر لا تكفرها هذه الأعمال بل لا بد لها من توبة.
قال تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم), قد يقول قائل إنه إذا لم يغش كبيرة فليس بحاجة إلى هذه الأعمال؟ أو يقال: كلها مكفرات؟ ولا يمكن أن يوصف بأنه اجتنب الكبائر حتى يؤدي هذه الأعمال, لأنه إذا لم يؤد هذه الأعمال المكفرات فإنه لا يوصف بأنه اجتنب الكبائر, لأن ترك الصلوات الخمس أو ترك الجمعة أو ترك صيام رمضان من الكبائر, لكن بم يحصل التكفير؟ إذا كان يصوم رمضان ويعتمر ويصلي الجمعة ويصلي الصلوات الخمس ويجتنب الكبائر ما الذي يكفر سيئاته الصغيرة؟ قوله (ما لم تغش كبيرة) هل معناه أنه إذا ارتكب كبيرة وصغائر فهذه الأعمال الجليلة تكفر الصغائر وتبقى الكبائر؟ أو أن تكفير هذه الأعمال الصالحة للصغائر مشروط باجتناب الكبائر؟ لا شك أن الوعد في حديث الباب (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) يحث المسلم, ولا يعني هذا أنه يسترسل في ارتكاب الصغائر لأنه يعمل هذه الأعمال, بل عليه أن يعمل الأعمال الصالحة ويجتنب السيئات بقدر الإمكان, وإذا وقعت منه كُفِّرَت, والكبائر عند الجمهور لا تكفرها إلا التوبة.(15/29)
حديث أبي هريرة (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم - الحديث - ): ساعة أي مقدار من الزمان لا تتحدد بالساعة الفلكية المعروفة التي هي جزء من أربعة وعشرين جزءاً من اليوم, ومثل ذلك في قوله (من راح في الساعة الأولى - الحديث - ), فالساعة في النصوص ليس المراد بها الساعة ذات الستين دقيقة المعروفة الآن.
قوله (وهو قائم يصلي): من باب إطلاق الجزء على الكل, فالمراد (وهو يصلي) على أي حال من أحوال صلاته, وإجابة الدعاء في هذه الساعة لا شك أنه من تلمس الأسباب, وعدم إجابة الدعاء قد يكون لمانعٍ عند الداعي. وكونه سبب لا يعني أنه يترتب عليه أثره, فقد يتخلف الأثر لأمرٍ قد يكون أعظم من إجابة الدعاء, ومن أعظم موانع إجابة الدعاء التخليط في المطعم والمشرب.
قوله (وأشار بيده يقللها) وفي رواية لمسلم (وهي ساعة خفيفة): ليس المراد بالساعة الساعة المعروفة الآن, فهي تقبل الزيادة والنقص لأنها مجرد مقدار من الزمان يزيد وينقص.
وعن أبي بردة عن أبيه: أبوه هو أبو موسى الأشعري.
قوله (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة): في مسلم عن أبي بردة عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو مرفوع عند مسلم, ورجح الدار قطني أنه من قول أبي بردة, لكن الصواب مع مسلم رحمه الله تعالى, ولذا رجح كثير من أهل العلم هذا الوقت لساعة الاستجابة, حتى قال القرطبي أنه نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره, وقال النووي هو الصحيح بل الصواب, لأنه ثابت في مسلم ومرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن جاء في حديث عبد الله بن سلاَم عند ابن ماجه وهو صحيح وفي حديث جابر عند أبي داود والنسائي وهو أيضاً صحيح معتضد بما قبله أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس, لكن لا يعارَض هذا بما جاء في صحيح مسلم ولو كان مما اختُلِف فيه لأن صحيح مسلم تلقته الأمة بالقبول.(15/30)
هذا الاختلاف يؤيد قول من يقول إنها متنقلة مثل ليلة القدر, فأحياناً تكون من بين دخول الإمام وصعوده على المنبر إلى أن تقضى الصلاة, وأحياناً تكون من صلاة العصر إلى غروب الشمس, ولا شك أن عصر الجمعة له مزية فينبغي أن يغتنم بالدعاء, لأن الحديث صحيح لا إشكال فيه.
يقول ابن حجر: وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً. والأقوال في تحديد ليلة القدر قريبة من خمسين قولاً. وعلى كل حال أقواها ما ذُكِر, إما من صعود الإمام على المنبر إلى الفراغ من الصلاة, أو من صلاة العصر إلى غروب الشمس.
قول الحافظ (أمليتها في شرح البخاري): معروف أن الحافظ أملى كتابه إملاءً, وكان يستفيد من بعض طلابه النابهين, يحضِّرون له بعض المسائل فينظر فيها نظراً دقيقاً ويراجع أصولها ويسبكها ويصوغها بعبارته ثم يمليها.
كيف نوفق بين أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس وبين القول بأن ساعة الإجابة تكون بين صلاة العصر وبين المغرب مع قوله (وهو قائم يصلي)؟ أجاب عن هذا الإشكال بعض الصحابة ممن اختار هذا الوقت لساعة الإجابة, والجواب هو أن من ينتظر صلاة المغرب فهو في صلاة ما دامت الصلاة تحسبه.
من أخر الصلاة عن وقتها عمداً فالجمهور على أنه يجب عليه قضاءها, ونُقِلَ الإجماع على ذلك, وإن نقل ابن حزم الإجماع على خلافه, فهذه من المسائل التي نقل فيها الاتفاق على القولين المتضادين, وعلى كل حال عامة أهل العلم على أنه يلزمه القضاء, وأما وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب بقوله (إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار, وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل) فمعروف أن نفي القبول يرد ويراد به نفي الصحة كما في الحديث (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) و (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) كما أنه يرد ويراد به نفي الثواب المرتب على العبادة كما في قوله جل وعلا (إنما يتقبل الله من المتقين).(15/31)
المعيَّن من المسلمين لا يجوز لعنه ولو جاء النص بلعن جنسه (لعن الله السارق), لأنه لعن جنس من يشرب الخمر ثم جيء بشارب الخمر فقال بعضهم (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به) فقال عليه الصلاة والسلام (لا تكن عوناً للشيطان على أخيك). وجاء في المتبرجات (فالعنوهن) يعني جنس المتبرجات, ويُلحَق بالجنس - وإن كانت المسألة تحتاج إلى نظر – إذا كانت فئة معينة اتصفت بهذا الوصف, كما لو قيل: انتشر التبرج في العرس الفلاني, فهذا ينتابه الجنس والتعيين, فالمرأة الواحدة المتبرجة معينة, وعموم المتبرجات جاء جواز لعنهن (العنوهن فإنهن ملعونات), لكن يبقى أنه لو تبرج مجموعة في عرس مثلاً فهن من حيث التعيين والانحصار في هذا الجمع معينات, لكنه لا يقصد بذلك واحدة بعينها وإنما يقصد الجنس. وعموماً ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا بالفاحش البذيء, وقال عبد الله بن أحمد لأبيه كما في الأحكام السلطانية: ما تقول في يزيد الذي استباح المدينة وأهان الصحابة وقتل بعضهم, فتكلم فيه بكلام شديد, قال له عبد الله: لماذا لا تلعنه؟ قال: وهل رأيت أباك لعاناً؟!! وهذا بالنسبة لمن في دائرة الإسلام, وتبقى مسألة الكافر المعين: جاء في قنوته عليه الصلاة والسلام (اللهم العن فلاناً وفلاناً) ثم نزل قوله جل وعلا (ليس لك من الأمر شيء), ولعن الكافر المعين مسألة خلافية بين أهل العلم, لا سيما من اعتدى وظلم المسلمين عند جمع من أهل العلم من أهل التحقيق المتجه جوازه.(15/32)
المحبة أمر قلبي, لا يجوز أن يميل القلب ويحب الكفار ولو واحداً منهم مهما كان أثره على المسلم, لكن المكافأة مطلوبة, والتأليف أيضاً باب معروف في الشرع, فيصرف للكافر من الزكاة التي هي ركن الإسلام لتأليف قلبه, ومسألة التأليف غير الميل القلبي والحب والمودة, قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة), وأيضاً حسن التعامل مطلوب كما في قوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن), والمداراة عند الحاجة إليها جائزة في حال الضعف مثلاً في حال تسلط عدو مثلاً, والمداراة غير المداهنة والتنازل عن شيء من الدين.
الدعاء (اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك) جاء منعه في أثر عن عمر رضي الله عنه, لكن مستقر الرحمة هو الجنة, قال تعالى (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) يعني الجنة, والله جل وعلا موصوف بصفة الرحمة على ما يليق بجلاله وعظمته ولا يجوز تأويل هذه الصفة, لكن هناك آيات لفظها لفظ الصفة وهي في الحقيقة ليست من آيات الصفات.
العصاة متسببون في الإخلال بالأمن لأنهم لم يشكروا هذه النعمة.
حديث جابر (مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة): قال الحافظ (رواه الدار قطني بإسناد ضعيف) ولا يكفي أن يقال ضعيف بل هو ضعيف جداً, وحكم بعضهم بوضعه, لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي, قال أحمد (اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة), وقال النسائي (ليس بثقة), إلى غير ذلك من أقوال أهل العلم التي تدل على لا يعتد به ولا بما يرويه, فالخبر ضعيف.(15/33)
مسألة العدد في صلاة الجمعة خلافية بين أهل العلم, وصلت الأقوال فيها إلى أربعة عشر قولاً, والمذهب عند الحنابلة والشافعية ما جاء في هذا الحديث, وإن كان عمدة هذا القول هذا الحديث التالف فلا يعتد به ولا يعول عليه, ومنهم من قال لا بد من إمام ومؤذن ثم من يتجه إليه الخطاب بقوله (فاسعوا), والخطاب هنا ليس متجهاً إلى الإمام والمؤذن لأن قوله (فاسعوا) معطوف على الأذان, فالمطالب بالسعي غير المؤذن, والمؤذن لا يؤذن حتى يدخل الإمام. والخلاف في أقل الجمع معروف, أقل ما قيل فيه اثنان, كما في قوله تعالى (فإن كان له إخوة), المراد به اثنين لأن أقل الجمع اثنان, وقيل أقل الجمع ثلاثة, وهو قول معتبر عند أهل العلم, لأن التثنية تقابل الجمع, فالجمع غير التثنية, وهذا هو الأصل, لكن يُحتاج إلى القول بأن أقل الجمع اثنين في مثل آيات المواريث.
ذهب بعضهم إلى أن الثلاثة تقوم بهم الجمعة لأنه قد يخاطب ويؤمر الواحد بلفظ الجمع (فاسعوا), لكن لو قال قائل إن الجمعة تتم بالإمام والمؤذن لاحتمال عدم استجابة أحدٍ للنداء؟ هل ينزل الإمام من المنبر ويصلونها ظهراً أو يكملونها جمعة؟ المسألة فيها خلاف كثير, ومنهم من يقول الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة, القصد منها إغاظة الأعداء باجتماع المسلمين, فإذا اكتمل العدد الذين تحصل بهم الإغاظة تشرع الصلاة, وهذا القول لا يضبطه ضابط, فحتى الأربعين لا تحصل بهم الإغاظة, المقصود أنه ليس هناك حد, فيرجع في ذلك إلى العرف, فإذا وجد جمع يستحقون أن يخطب بهم وتبين لهم الأخطاء ويحثون على طاعة الله أقيمت صلاة الجمعة وإلا فلا.(15/34)
حديث سمرة بن جندب (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة): هذا الحديث ضعيف جداً, بل متروك. زاد في رواية الطبراني (والمسلمين والمسلمات). قال الحافظ (رواه البزار بإسناد لين) لكن لا يكفي أن يقال لين, لأنه من رواية يوسف بن خالد السمتي, عن أبيه, والأب متروك, ويترك الراوي إذا كان ضعفه شديداً, كما لو اتهم بوضع مثلاً أو بالكذب, أو فَحُشَ غلطه, والمقصود أن الحديث ضعيف جداً.
الدعاء واستغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات وللإسلام والمسلمين لا شك أنه من أهداف الخطبة, لأنها موطن دعاء, كما جاء في خطبة العيد (يشهدن الخير ودعوة المسلمين), فدل على أن الخطبة تتضمن الدعاء, ومنها هذا, لكن ليس اعتماداً على هذا الحديث.
حديث جابر بن سمرة (كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن ويذكِّر الناس): قال الحافظ (رواه أبو داود وأصله في مسلم) والشارح يرى أن أصله حديث أم هشام بنت حارثة السابق, فهو من حيث الجملة مؤيد لحديث الباب لأن ق من القرآن. لكن لو اختلف الصحابي فإنه لا يقال فيه أنه أصله, بل هو حديث آخر, فحديث أم هشام بنت حارثة يشهد له وليس أصلاً له, الأصل يكون فيما إذا كان في غير الصحيحين مثلاً بسط للحديث وتفصيل ثم يكون في الصحيحين قطعة من هذا الحديث عن نفس الصحابي, وعلى كل حال في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة (كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خطبته قصداً وصلاته قصداً وكان يقرأ شيئاً من القرآن), فهذا أصله من طريق نفس الصحابي.
اشترط أهل العلم أن تشتمل الخطبة على آية في أقل الأحوال, ومن أعظم ما يذكَّر به القرآن (فذكر بالقرآن).
أهداف الخطبة: الحمد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإتيان بـ(أما بعد) والاشتمال على القرآن والتذكير.(15/35)
حديث طارق بن شهاب (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة - الحديث - ): طارق بن شهاب رأى النبي عليه الصلاة والسلام, وأدرك الجاهلية قبل البعثة, ولم يثبت له سماع عن النبي عليه الصلاة والسلام, فإذا ثبتت رؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام فهو صحابي إذا رآه مؤمناً به ولو لم يثبت له سماع لأنه حينئذ يكون مرسل صحابي وحكمه الوصل, وأما إذا رآه قبل أن يؤمن به ثم آمن بعده فيكون من كبار التابعين, لأنه لا بد أن تكون رؤيته حال كونه مؤمناً به لتثبت له الصحبة.
نقل الاتفاق على قبول مراسيل الصحابة, وفيه خلاف عن بعض أهل العلم لكنه شاذ, وإلا فكم من حديث ترويه عائشة رضي الله عنها سمعته بواسطة بعض الصحابة, وكم من حديث يرويه ابن عباس وهو من المكثرين من الرواية دون واسطة, وقد صرح جمع من أهل العلم أنه لم يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من أربعين, بل بالغ بعضهم فقال إنه لم يسمع إلا أربعة, لكن هذا ليس بصحيح, وابن حجر يقول: تتبعت مرويات ابن عباس فوجدت ما صرح فيه بالسماع من النبي عليه الصلاة والسلام مما صح أو حَسُنَ نحواً من أربعين. وبقية أحاديثه التي لم يسمعها من النبي عليه الصلاة والسلام إنما سمعها بواسطة, وحينئذ تكون من مراسيل الصحابة, ومراسيل الصحابة لا إشكال في قبولها.
البيهقي يقول هذا مرسل جيد, وطارق من خيار التابعين, وممن رأى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمع منه, ولحديثه هذا شواهد, والمقصود أن الحديث تقوم به الحجة, يعني أنه في أقل أحواله بشواهده صحيح, أي صحيح لغيره.
قوله (الجمعة حق واجب): صلاة الجمعة فرض عين على كل من لم يستثن مما ذكر في هذا الحديث, ومجموع من استثني ممن لا تجب عليه ستة.(15/36)
قوله (مملوك): لأنه مشغول بحقوق سيده, ولا شك أن انشغاله بالجمعة يفوِّت على سيده بعض حوائجه, فالمملوك مستثنى بهذا, وداود الظاهري يقول بوجوب صلاة الجمعة على المملوك لأنه داخل في عموم قوله (فاسعوا), لكن ولو دخل في هذا العموم يكون الحديث مخصصاً للآية, وهذا من حيث اللزوم, لكن لو حضرها المملوك بعد أن أذن له سيده فلا شك أنها تجزئه.
الذي يعتد بقول داود لا يحكي الإجماع, لكن الذي لا يعتد بقول داود يقول: المملوك مجمع عليه لأنه لم يخالف فيه إلا داود, والنووي في شرح مسلم يقول: ولا يعتد بقول داود لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد. لكن إذا كانت المسألة عمدتها القياس لا يعتد بقوله, وإذا كان عمدتها نصوص فإنه يعتد بقوله لأنه إمام من أئمة المسلمين من أهل النظر.
قوله (وامرأة): المرأة مجمع على عدم وجوب الجمعة عليها, والشافعي يقول يستحب للعجوز حضور الجمعة بإذن الزوج, ونُقِل عنه القول بالوجوب, لكن أصحابه لا يعرفون إلا القول بالاستحباب, ومسألة الجمعة وحضور النساء للخطبة وإفادتهن أمر مطلوب لكن ليس بواجب, على أن لا يرتكبن محظوراً أثناء خروجهن, وإذا كان هذا بالنسبة للجمعة فأمر العيد آكد, فقد جاء في حديث أم عطية (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض وذوات الخدور إلى صلاة العيد يشهدن الخير ودعوة المسلمين), فهذا أمر, حتى قال بعضهم بوجوب خروج المرأة إلى صلاة العيد, لكن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قوله (وصبي): الصبي الصغير الذي لم يكلف متفق على أنه لا جمعة عليه, لكن يؤمر بحضورها ويؤمر بالصلاة وبالصيام إذا أطاقه تمريناً له على الطاعة, ولذا جاء في الحديث الصحيح (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) ليُمرَّن, وأما من حيث الوجوب وكونه يأثم إذا لم يحضر فلا.(15/37)
قوله (ومريض): المريض لا يجب عليه حضور الجمعة إذا كان يتضرر وتلحقه مشقة شديدة أو يتأخر برؤه أو يزيد مرضه, ولا ينبغي التساهل بالشعائر, وقد قال الله جل وعلا (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب), ولا شك أن من تعظيم شعائر الله التحامل على النفس والحضور مع شيء من المشقة التي لا يتأذى بها الإنسان.
قوله (وأخرجه الحاكم من رواية طارق عن أبي موسى): بهذا بانت لنا الواسطة, وأن طارقاً رواه عن صحابي, فإن قلنا إن طارقاً صحابي فلا إشكال ولو لم نعرف الواسطة, وإن قلنا إنه تابعي وعرفنا الواسطة ارتفع الإشكال, على أن كبار التابعين مراسيلهم تختلف عن مراسيل غيرهم, فهي أولى بالقبول من غيرها من المراسيل من أوساط التابعين فضلاً عن صغارهم, والشافعي رحمه الله يحتج بمراسيل كبار التابعين, ولكن بشروط اشترطها.
حديث ابن عمر (ليس على مسافر جمعة): هذا الحديث صحيح بشواهده, رواه الطبراني في الأوسط, وقال الحافظ (بإسناد ضعيف) لأن في إسناده عبد الله بن نافع وهو ضعيف, لكن له شواهد يصل بها إلى درجة القبول, فيضاف المسافر إلى الأربعة الذين ذكروا في حديث طارق بن شهاب.
النبي عليه الصلاة والسلام في جميع أسفاره لم يثبت أنه صلى الجمعة فيها, ويوم عرفة هو يوم جمعة بالنسبة له عليه الصلاة والسلام وما صلى فيه جمعة, بل صلى الظهر والعصر بنمرة جمع تقديم.
يجتمع من النصوص المرأة والمملوك والصبي والمريض والمسافر, وأضاف أهل العلم صنفاً سادساً وهم أهل البادية, ولذا يشترط كثير من أهل العلم لوجوب الجمعة أن يكونوا مستوطنين, أي أهل استيطان واستقرار في مكان تمر عليهم فيه الفصول الأربعة, وليسوا من الرحَّل.
حديث عبد الله ابن مسعود (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا): يعني الجميع يستقبل الخطيب بوجهه سواء كان في وسط الصفوف أو في أطرافها.(15/38)
قال الحافظ (رواه الترمذي بإسناد ضعيف): بل هو ضعيف جداً, لأن فيه محمد بن الفضل بن عطية, شديد الضعف, بل كذَّبه بعضهم. وقوله (وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة): هو أيضاً عند البيهقي, فهو بشاهده إذا قيل إنه ضعيف فلا بأس, وإن كان الأصل أنه ضعيف جداً لا يعتبر به ولا يعول عليه, لكن حديث البراء صححه ابن خزيمة وأخرجه البيهقي.
وهذه المسألة قال فيها الترمذي (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, يستحبون استقبال الإمام إذا خطب, وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق) عملاً بحديث الباب على ضعفه ولما يشهد له من حديث البراء وعمل الصحابة, وعلى كل حال من عمل به لأنه عمل هؤلاء المتقدمين فلا بأس, ومن تركه باعتبار أن الخبر لا تقوم به حجة فلا بأس, لأن ضعفه شديد لا يقبل الانجبار.
حديث الحكم بن حزن (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متكئاً على عصا أو قوس): الحكم بن حزن مخزومي من مسلمة الفتح, وهذا الحديث لا بأس بإسناده, إسناده حسن.
اعتماداً على مثل هذا نص الفقهاء على أنه يستحب للخطيب أن يعتمد على عصا أو قوس أو سيف, بعضهم قال يعتمد على السيف, ويعللون هذا بالإشارة إل أن الإسلام انتشر بالسيف. وجاء في بعض الأخبار أنه كان يعتمد على عنزة, لكن لم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف, يقول ابن القيم: وكان أحياناً يتوكأ على قوس, ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف, وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف وهذا جهل قبيح. الدين انتشر بالدعوة, ومما انتشر به الدين الفتوح التي كانت بالجهاد, لكن لا يتعين الجهاد لنشر الإسلام, فالجهاد باب من أبواب النشر, وفعله النبي عليه الصلاة والسلام وفعله أصحابه, ولم يكن السيف هو الوسيلة الوحيدة لإخضاع الناس للدين.(15/39)
من أهل العلم من يرى أن الاعتماد على القوس أو على العصا يكون إذا خطب على الأرض فقط, وأما إذا خطب على المنبر فلا, ولذا يقول الألباني رحمه الله تعالى ضمن كلام طويل: الظاهر من تلك الأحاديث أن الاعتماد على القوس والعصا إذا خطب على الأرض. لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب على الأرض, فلما كثر الجمع قيل له (لو اتخذت منبراً) فكان يستند إلى الجذع.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك قبيل غروب شمس يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده قبيل غروب شمس يوم الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من العام نفسه, وكان قد تخلل ذلك رحلةٌ إلى نجد في أيام معدودة, وكان تقييد هذه الفوائد قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(15/40)
مهمات شرح باب صلاة الخوف من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
باب صلاة الخوف: من باب إضافة المسبَّب إلى سببه, أي الصلاة التي سببها الخوف.
صلاة الخوف ثبتت بالكتاب والسنة, وجماهير أهل العلم على أنها ثابتة بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة, وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة يرى أنها لا تفعل إلا مع النبي عليه الصلاة والسلام, لأن غير النبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده من الميزة في الإمامة بحيث يفرِّط ببعض أفعال الصلاة, فبدلاً من أن تصلى على شيء من النقص تصلى كاملة تامة بأكثر من إمام وينتهي الإشكال, ويستدل بقوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) فالخطاب موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وكونه فيهم في الآية يوحي بأنه شرط, لكن خطاب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب له ولأمته, بدليل قوله جل وعلا (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فليس معناه أن غيره ممن يقوم مقامه من الأئمة لا يجبون الزكاة, وأيضاً فعلها الصحابة بعده عليه الصلاة والسلام.
شرعية صلاة الخوف من أعظم الأدلة على وجوب صلاة الجماعة, لأن صلاة الخوف إنما شرعت من أجل الحفاظ على الجماعة, فإذا كانت الجماعة واجبة في مثل هذا الظرف ومع التنازل عن بعض الواجبات في الصلاة واشتمال صلاة الخوف على ما يبطلها لو كانت في حالة الأمن لا شك أنه يدل على اهتمام شديد من الشارع بأمر صلاة الجماعة, ففي حال الأمن من باب أولى.
حديث صالح بن خوات في قصة ذات الرقاع: هو ابن جبير بن النعمان الأنصاري, تابعي سمع أباه خوات بن جبير, وسمع سهل بن أبي حثمة, وسمع من جمع من الصحابة.(16/1)
قوله (عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف): الذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي, وهو في هذا النص مبهم, وجهالة الصحابي لا تضر, فالحديث صحيح. وجاء تعيين هذا المبهم في صحيح مسلم (عن صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة), فصرح بمن حدثه في رواية مسلم, وجاء في المعرفة لابن منده (عن صالح بن خوات عن أبيه), ولا يبعد أن يروي صالح بن خوات الخبر عن الاثنين, مرةً عن أبيه ومرةً عن سهل بن أبي حثمة, ومرةً يبهم, والخبر تقوم به الحجة على أي حالٍ كان مادام المبهم صحابياً. وابن حجر رجح أن يكون المبهم أبوه.
يوم ذات الرقاع: غزوة وقعت في مكان من نجد بأرض غطفان. وسميت بذلك لأن أقدامهم نقبت من الحفاء فلُفَّت عليها الرقاع وهي الخرق, أو لأن راياتهم مرقعة, أو لأن الأرض هناك ذات ألوان كأنها خرق, أو لجبل هناك فيه أكثر من لون. وأصح ما ذُكِر من الأسباب السبب الأول.
هذه الغزوة كانت في قول جمهور أهل السير في السنة الرابعة من الهجرة, فهي قبل الخندق, وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام في الخندق حُبِس عن الصلوات, وأدى الصلوات بعد خروج وقتها, فلو كانت صلاة الخوف مشروعة ما أخر الصلوات عن وقتها, حيث صلى أربع صلوات بعد غروب الشمس, وهذا ما جعل الإمام البخاري وابن القيم يجزمان بأن غزوة ذات الرقاع كانت بعد الخندق, لأن صلاة الخوف لو كانت مشروعة قبل الخندق لما أخر الصلوات عن وقتها.(16/2)
من أهل العلم من يرى أن صلاة الخوف لا تفعل إلا في السفر, لأنه في غزوة الخندق كان في الحضر, والمانع من صلاته في الخندق على كيفية صلاة الخوف هو كونه في الحضر, لكن أيضاً في الحضر لا مبرر لتأخير الصلوات عن وقتها, كونهم يصلون فرادى أو جماعات كثيرة كل صلاة في وقتها أيسر من تأخير الصلوات عن وقتها, لكن قد يكون الأمر أعظم من أن يصلي كل إنسان بمفرده والخوف أشد بحيث لا يمكن أن تصلى الصلوات في وقتها.
قوله (وطائفة وجاه العدو): أي في مواجهة العدو للحراسة.
قَسَّم الجيش إلى طائفتين, والطائفة القطعة من الجيش, وأقل ما تطلق عليه الطائفة الواحد, فتصح صلاة الخوف بإمام ومأموم وحارس.
قوله (ووقع في المعرفة لابن منده): أي في كتاب معرفة الصحابة, ومنده بالهاء في الوقف والدَّرَج كابن داسه وابن ماجه.
الصورة التي جاءت في هذا الحديث تسلك إذا كان العدو في غير جهة القبلة بحيث يحتاجون إلى حراسة.
صلاة الخوف ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام من أوجه ستة أو سبعة كما قال الإمام أحمد, وأوصلها بعضهم إلى أربعة عشر وجهاً.
كل الصور الست أو السبع الذي ذكرها الإمام أحمد صحيحة, وعلى الإمام أن يفعل من الصور الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة.
لعل الإمام أحمد لم يثبت عنده إلا هذا العدد.
الخوف لا أثر له في القصر, بل القصر معلق بالسفر, فالخوف كان سبباً في القصر وارتفع السبب كما قال تعالى (فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا), ارتفع الخوف وثبت الحكم فصار القصر صدقة تصدق الله بها على عباده.
إذا كانت الصلاة ثلاثية فإنه يثبت الإمام ويطيل التشهد الأول ثم تنصرف الطائفة الأولى, لأن الركعة لا يمكن قسمتها إلى قسمين بحيث تصلي كل طائفة مع الإمام نصف الثلاثية, وأما في الرباعية فإنه يثبت في التشهد الأول كالثلاثية.(16/3)
حديث ابن عمر (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد - الحديث - ): قوله (فوازينا العدو) أي قابلناهم, وقوله (فصاففناهم) أي صفوا صفاً واحداً وجاه العدو للقتال.
الصورة المذكورة في حديث ابن عمر توافق الصورة السابقة من وجه وتخالفها من وجه, توافق الصورة السابقة في كونه قسم الجيش إلى قسمين وفي كونه صلى بالطائفة الأولى ركعة كاملة, وتخالفها في كون الطائفة الأولى لم تتم لنفسها بل انصرفوا يحرسون, صلوا ركعة مع النبي عليه الصلاة والسلام ثم انصرفوا يحرسون وهم في صلاة, وصلاتهم لم تتم.
قوله (فقام كل واحد منهم): الأصل أن كل واحد من الطائفتين لم تتم صلاته, كل واحد من الطائفتين بقي له ركعة, وهذا يوحي بأن الطائفتين جاؤوا بالركعة الثانية في وقت واحد, لأن اللفظ محتمل.
الاحتمال الثاني: فقام كل واحد من الطائفة الثانية, لأن الطائفة الثانية هي أقرب مذكور, فبعد أن أتم كل واحد من الطائفة الثانية لنفسه ذهبوا للحراسة, ثم بعد ذلك أتم كل واحد من الطائفة الأولى لنفسه. فالذي يظهر من الحديث - ويؤيده أن الضمير يكون لأقرب مذكور - أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها, جاءت بالركعة الثانية بعد سلامه عليه الصلاة والسلام, وأما الطائفة الأولى فلم تصل الركعة الثانية حتى استلمت الطائفة الثانية الحراسة.
من أهل العلم من يرى أن هذه الصورة يمكن أن تؤدى بأن تصلي طائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام ركعة ثم ينصرفون للحراسة, ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم ركعة, ثم ينصرفون للحراسة وهم في صلاتهم كالطائفة الأولى, ثم تأتي الطائفة الأولى لتتم الصلاة, فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها تعود الطائفة الثانية لتصلي, على الولاء والتعاقب, لكن ظاهر الحديث يدل على أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم ذهبت للحراسة, وهذا فيه حفاظ على أصل الصلاة.(16/4)
كونهم يصلون كلهم الركعة الثانية في آنٍ واحد فهو وإن احتمله اللفظ فهو احتمال مرجوح, ويلزم عليه تضييع الحراسة, وصلاة الخوف إنما شرعت من أجل الحراسة والاحتياط.
حديث جابر (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين - الحديث - ): هذه الصورة تكون فيما إذا كان العدو بين المسلمين والقبلة, والحراسة حينئذٍ تكون ممكنة أثناء الصلاة, فلا يحتاجون في هذه الصورة إلى من يحرس ولا يدخل في الصلاة, بل يحتاجون إلى من يحرس وهو داخل الصلاة لأن العدو في جهة القبلة, ففي هذا الحديث كلهم دخلوا في الصلاة لأن الحراسة ممكنة وهم في داخلها.
قوله (فركع وركعنا جميعاً): الحراسة ممكنة في حال الركوع.
لما هوى الرسول صلى الله عليه وسلم للسجود والصف الذي يليه لم يسجد الصف المؤخر بل استمروا قائمين في نحر العدو للحراسة, ثم سجد الصف المؤخر بعد قيام النبي عليه الصلاة والسلام والصف الذي يليه من السجود.
قوله (ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني): ليفعلوا في الركعة الثانية مثل ما فعلوا في الركعة الأولى, والداعي للتقدم والتأخر هو تمام العدل, ليتم العدل بين الصف الأول والصف الثاني, لأنهم لو فعلوا في الركعة الثانية مثل ما فعلوا في الركعة الأولى صار الصف الثاني مظلوماً وصلاة الصف الأول تامة, فكونهم يتقدمون إلى الصف الأول ويحوزون فضيلة الصف الأول بعد أن كانوا في الصف الثاني لا شك أن هذا من تمام عدله عليه الصلاة والسلام.
قوله (ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً): لأنهم في حال القيام وفي حال الركوع وفي حال الجلوس لا يحتاجون إلى حراسة لأن العدو في جهة القبلة, وأما في حال السجود - وهي الحال التي حصل فيها الاختلاف مع صلاة الأمن - يحتاجون إلى الحراسة.
هذه الصورة تفعل إذا كان العدو في جهة القبلة, وأما إذا كان في غير جهة القبلة فالصورتان السابقتان وغيرهما من الصور.(16/5)
كانت هذه الصلاة التي شهدها جابر بعسفان, وهو موضع على مرحلتين من مكة.
حديث جابر عند النسائي (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين, ثم سلم, ثم صلى بآخرين أيضاً ركعتين, ثم سلم): هذه قصة أخرى لأنها تختلف عن الصورة السابقة, والخبر صحيح, فلا مانع من أن يصلي الإمام بطائفة صلاة, ويصلي بطائفة أخرى صلاة أخرى.
صلاته بالطائفة الأولى هي فريضته عليه الصلاة والسلام, وصلاته بالطائفة الثانية كان فيها متنفلاً, وفي هذه الصورة محافظة على جميع أجزاء الصلاة.
الذي لا يرى صحة صلاة المفترض خلف المتنفل تشكل عليه مثل هذه الصورة.
إذا كانت الصلاة ثلاثية فإنه يصلي بطائفة ثلاث وبطائفة أخرى ثلاث, وكذلك إذا كانت رباعية, هذا إذا كان الإمام أو من ينيبه الإمام أو كان شخصاً له مزية على غيره بحيث يكون الاجتماع إليه وصلاة الجميع خلفه أهيب عند العدو. وأما إذا وُجِد أناس لا مزية لبعضهم على بعض ففي هذه الحال تصلى كل جماعة بإمامٍ مفترض.
مثل ذلك يقال في حق المسافر الذي يأتي بلداً من البلدان ولا مزية له على غيره فإنه لا ينبغي له أن يؤم المقيمين إذا أراد أن يقصر الصلاة, وأما إذا كان له مزية على غيره بأن كان عالماً جليلاً فلا مانع أن يؤمهم, لأن الصلاة خلفه لها فضل.
حديث حذيفة (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا): الحديث صحيح, وهذه الصورة يؤتى بها إذا كان العدو في غير جهة القبلة, يقسم الجيش إلى قسمين, فيصلي بهؤلاء ركعة وينصرفون من غير قضاء, يعني نظير ما في حديث ابن عمر إلا أنهم لا يقضون شيئاً, وفي حديث عمر أكملت كل طائفة صلاتها.
هذه الصورة فعلها حذيفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام بطبرستان, وقد أخذ بها جمعٌ من أهل العلم.
إذا كان السفر مع الأمن يسقط شطر الصلاة, فإذا اجتمع السفر والخوف كان الإسقاط أكثر والتخفيف أعظم.(16/6)
إذا زاد الخوف عن الحد الذي لا يتمكنون فيه من أداء ركعة فإنهم يصلون ولو بالإيماء.
في سنن أبي داود عن ابن عباس قال: فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وبعض العلماء يزيد في التخفيف في صلاة الخوف فيصححها بالإيماء, ويصححها بمجرد الذكر ولو بتكبيرة, لكن لا شك أن الأدلة دلت على أن الأصل وجوب إقامة الصلاة, وهو المطلوب (إذا اطمأننتم) يعني إذا أمنتم, وأما في حال الخوف فيتجاوز عن بعض الواجبات والأركان لكن بحدود الوارد, فلا نزيد على ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الصور التي تقدمت في الصحيحين وغيرهما أثبت من هذه الصورة وإن كانت ثابتة, فإذا كانت الحاجة داعية إلى مثل هذه الصورة فلا بأس.
حديث ابن عمر (صلاة الخوف ركعة على أي وجهٍ كان): يشهد له حديث حذيفة.
قوله (على أي وجهٍ كان): يعني إلى جهة القبلة, وإلى غير جهة القبلة, وهو ثابت, وهو ماشٍ, وهو راكب. لكن هذا الحديث ضعيف كما قال الحافظ, بل منكر, في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف جداً عند أهل العلم, وأخرج النسائي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى هذه الصلاة بذي قَرَد, صلاها بذي قَرَد بهذه الكيفية ركعة على أي وجهٍ كان, وذو قَرَد موضع قرب المدينة.(16/7)
قال الحافظ في الفتح: قد روي في صلاة الخوف كيفيات كثيرة, ورجح ابن عبد البر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر - الذي في الصحيحين - لقوة الإسناد وموافقة الأصول في أن المؤتم لا تتم صلاته قبل الإمام. ولذا إذا نوى المأموم الانفراد ثم سلم قبل الإمام لم تصح صلاته على كلام ابن عبد البر بل لا بد أن ينتظر, فإذا افترضنا شخصاً يصلي المغرب خلف آخر يصلي العشاء ولما قام الإمام إلى الرابعة في العشاء ونوى المأموم الانفراد - لأنه لا يجوز له أن يتابعه - ثم جلس للتشهد فإنه ينتظر حتى يسلم الإمام على كلام ابن عبد البر, وغيره يقول إنه ما دام نوى الانفراد فحكمه حكم المنفرد فيسلم متى شاء.
في حديث صالح بن خوات الطائفة الأولى تتم صلاتها قبل الإمام, وفي حديث ابن عمر لا يسلمون قبل الإمام لا الطائفة الأولى ولا الثانية.
قال الحافظ في الفتح: وقال ابن حزم صح منها أربعة عشر وجهاً, وقال ابن العربي فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة, وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها. قال الحافظ: وقد بينها شيخنا الحافظ أبو الفضل - يعني العراقي – في شرح الترمذي وزاد وجهاً فصارت سبعة عشر وجهاً, ولكن يمكن أن تتداخل - أي هذه الأوجه - .
شرح الحافظ العراقي على جامع الترمذي هو تكملة لشرح ابن سيِّد الناس, وهو من أعظم شروح الترمذي, وهو محقق الآن, ولو طُبِع وتداوله الناس لأمكن أن يغنيهم عن جميع شروح الترمذي.
قال الحافظ: وقال في الهدي النبوي - يعني ابن القيم في زاد المعاد – صلاها النبي عليه الصلاة والسلام عشر مرات, وقال ابن العربي صلاها أربعاً وعشرين مرة, وقال الخطابي صلاها النبي عليه الصلاة والسلام في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورتها متفقة المعنى.(16/8)
لا بد من تحري الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة, فيُخَتار من الصور الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الخوف بما يُتَحقق به الأمران.
بعض أهل العلم إذا اختلف الرواة في سياق خبر جعل الخبر متعدداً والقصة متعددة ولو كان مرد هذا الاختلاف إلى اختلاف الرواة أنفسهم في الخبر الواحد.
حديث ابن عمر (ليس في صلاة الخوف سهو): في سنن الدار قطني من حديث ابن عمر, تفرد به عبد الحميد بن السَّرِي وهو ضعيف, وهو في الطبراني من حديث ابن مسعود وهو ضعيف أيضاً.
قوله (ليس في صلاة الخوف سهو): أي ليس في صلاة الخوف حكم السهو الذي يترتب عليه السجود, والخوف مظنة للسهو والغفلة والانصراف عن الصلاة, لكن الخبر ضعيف.
ذكر الشارح بعض الشروط التي اشترطها بعض أهل العلم, من هذه الشروط السفر لقوله تعالى (إذا ضربتم في الأرض) فلا تُفعَل صلاة الخوف في الحضر, ولذا لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق لأنها في الحضر, وإن كانت على قول جمهور أهل المغازي والسير بعد غزوة ذات الرقاع, والجمهور على أنه لا يشترط السفر, بل إذا وُجِد الخوف صحت, وكونه عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ صلاة الخوف في الخندق لأنها لم تكن شرعت على ما سبق تقريره عن الإمام البخاري وابن القيم.
اشترط بعضهم أن يكون فعل صلاة الخوف في آخر الوقت بحيث يجزم أو يغلب على ظنه أنه لن يصلي صلاة أمن, لكن ليس له دليل, وهذا نظير ما قالوا في التيمم, قالوا لا يصلي بالتيمم حتى يضيق عليه الوقت ويجزم أنه لن يجد الماء في الوقت.
اشترط بعضهم حمل السلاح حال الصلاة, وهذا اشترطه داود, فلا تصح صلاة الخوف إلا لمن حمل السلاح. نعم حمل السلاح واجب, لكن لا أثر له في الصلاة, لأن مخالفة هذا الواجب وارتكاب المحظور بوضع السلاح من غير حاجة أمر خارج عن الصلاة فلا أثر له فيها.(16/9)
اشترط بعضهم ألاَّ يكون القتال محرماً, وذلك لأن التجاوز عما يُتَجاوز عنه من صورة الصلاة في صلاة الخوف إنما هو للحاجة, فهو على خلاف الأصل, ويكون حينئذ في عرف أهل العلم رخصة, والعاصي لا يترخص, لأنه لا يُعَان على معصيته, وهذا شرط لا بد منه, وهذا نظير المنع من الترخص في سفر المعصية.
من الشروط أن يكون المصلي مطلوباً للعدو لا طالباً له, لأن الطالب آمن ويمكنه أن يأتي بالصلاة كاملة, والمطلوب هو الخائف.
من الشروط أن يكون خاشياً لكر العدو عليه.
قال الشارح: وهذه الشرائط مستوفاة في الفروع مأخوذة من أحوال شرعيتها, وليست بظاهرة في الشرطية. لا شك أن بعض هذه الشروط ظاهر, وبعضها ليس بظاهر, لأن صلاة الخوف جاءت على خلاف الأصل فهي رخصة, ولا يعان من لا يشرع له القتال في مثل هذه الصور على ما هو بصدده.
قال الشارح: واعلم أن شرعية هذه الصلاة من أعظم الأدلة على عظم شأن الجماعة. لأن صلاة الخوف يتنازل فيها عن بعض الأركان من أجل الحفاظ على الجماعة, ففي حال الأمن من باب أولى.
العلماء أفتوا بأنه لا يجوز الجمع بين صلاتي الجمعة والعصر لعدم الدليل, ومعلوم أن الجمعة فرض مستقل كالصبح.
الترمذي يعد من أصحاب السنن على جهة التغليب, وإلا فكتابه جامع, نظير البخاري ومسلم, لأنه يجمع غالب أبواب الدين.
من عرف أنه ليس على الحق لا يجوز له أن يقاتل, فإذا اشتبه عليه الأمر وغلب على ظنه أن الحق معه وأنه ينصر الحق فلا بأس أن يصلي صلاة الخوف.
الترتيل مأمور به مطلقاً في الصلاة وخارج الصلاة, عند قراءة القرآن وعند قراءته في الخطب والدروس وغيرها, هو مأمور بترتيله لا سيما إذا كان تأثيره في السامع أبلغ.
الإشارة بالأمر بالسكوت أثناء الخطبة أباحه بعض أهل العلم, على ألا يقول لصاحبه أنصت, وأما مناولة شيء أثناء الخطبة كالمصحف فهو مثل مس الحصى.
لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جمع الجمعة مع العصر, والعبادات توقيفية.(16/10)
لو دعت الحاجة إلى التطويل النسبي للخطبة فلا بأس, ومن الحاجة قراءة سورة ق في الخطبة, على ألا يصل في التطويل إلى حد الإملال.
الأفضل أن يصلي المسلم صلاة الجمعة إذا وافق يوم الجمعة يوم العيد لأنه فعل النبي عليه الصلاة والسلام, حيث صلى الصلاتين كلتيهما.
الفضائل إن رتب عليها أجر فإنها تدخل في حيز السنة, والسنة حكم من الأحكام, فالذي يرجحه أهل التحقيق أن الضعيف لا يعمل به مطلقاً, والجمهور الذين يجيزون العمل به في الفضائل يشترطون لذلك شروطاً أوصلها بعضهم إلى عشرة شروط, وكثير منها لا يمكن تطبيقه.
التهنئة والمعانقة وتبادل الجمل والعبارات المعتادة بين الناس في العيد لا يثبت لها دليل, والإمام أحمد رحمه الله تعالى كان يتساهل في هذا فلا ينكر, لكنه لا يبدأ أحداً, وأما إذا هنأه أحداً رد عليه من باب (وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها).
رجل سها في صلاته فسجد سجدةً واحدة للسهو فما حكم تلك الركعة؟ إذا لم يطل الفصل فإنه يأتي بالثانية, وإذا طال الفصل وكان السجود واجباً فمن أهل العلم يرى أنه إن نسي السجود وطال الفصل فإن السجود يسقط عنه, ومنهم من يقول السجود لما يبطل عمده واجب فهو كغيره من واجبات الصلاة فإذا طال الفصل أعاد الصلاة من أجله, لكن السهو مبني على الترخيص والتسهيل وهو إنما شرع لجبر الخلل الذي في الصلاة فكيف تعاد الصلاة من أجله؟!!.
من فاته شيء من الصلاة فإنه يتورك في تشهد الأخير لا في تشهد الإمام الأخير.(16/11)
في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيعجز أحدكم – قال عن عبد الوارث – أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله – زاد في حديث حماد – في الصلاة يعني في السبحة): قال عنه الألباني (صحيح), وإسناد الحديث (قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد وعبد الوارث عن ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة) لا شك أنه جيد, والحديث نص, لا سيما مع القدرة على التقدم والتأخر, لأنه ربطه بالعجز, وفي مواطن الزحام الشديد يعجز عن التقدم والتأخر, فإذا لم يعجز عن التقدم أو التأخر استُحِب له ذلك.
وقت السنة البعدية يبدأ من بعد الصلاة ويمتد إلى نهاية الوقت.
الخروج من المسجد بعد الأذان معصية ولا يجوز إلا لحاجة, وجاء عن بعض كبار التابعين أنه لا يخرج من المسجد بعد الأذان إلا منافق.
أفضل طبعة لمقدمة ابن خلدون طبعة بولاق الأولى, والكتاب طُبِع في بولاق ثلاث مرات مستقلة, وطُبِع بعد ذلك مراراً, لكن طبعات بولاق أفضل.
من أفضل طبعات "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" القديمة طبعة السعادة, وأما الطبعات الجديدة فطبعة صبحي حلاَّق لا بأس بها.
ما جاء من أن الجارية تأخذ بيده عليه الصلاة والسلام ليس على حقيقته, وإنما هو لبيان تواضعه عليه الصلاة والسلام وأنه ينقاد لكل أحدٍ يريد حاجة.
ليس المراد بغض البصر تغميض العينين, ولذا قال (يغضوا من أبصارهم), وإنما المراد صرف البصر عن الرؤية والتشاغل عنها.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم الاثنين الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده عشية يوم الخميس السابع والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(16/12)
مهمات شرح باب صلاة العيدين من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
حديث عائشة (الفطر يوم يفطر الناس, والأضحى يوم يضحِّي الناس): هذا الحديث عند الترمذي عن عائشة, وعند ابن ماجه عن أبي هريرة, وهو بمجموع الطريقين يثبت ويصل إلى درجة القبول, بل صححه بعضهم.
قال الترمذي بعد سياق حديث عائشة: هذا حديث حسن غريب. وفي بعض النسخ: صحيح من هذا الوجه. لأن نسخ الترمذي تتفاوت في الأحكام على الأحاديث, ولذا يعنى أهل العلم بضبط نسخ الترمذي أكثر من غيره لكثرة الاختلاف في أحكامه بين النساخ والرواة عن الترمذي, وهذا الاختلاف قديم ولم يأتِ بسبب المطابع والنساخ المتأخرين, بل الذين ينقلون أحكام الترمذي من المتقدمين ينقلون شيئاً من التفاوت في الأحكام, فعلى طالب العلم أن يعنى بنسخة صحيحة موثقة من جامع الترمذي يعتمد عليها.
قوله (الفطر يوم يفطر الناس): مقتضاه أنه إذا أفطر الناس بشهادة شاهِدَيْن أو أتموا رمضان ثلاثين أنه يلزم الفطر, ولو لم يره الإنسان, ولو شك في شهادة الشاهِدَيْن, بعد أن أثبته ولي الأمر وأمر بذلك. ولا مجال للتشكيك لأن عندنا وسائل شرعية وقواعد شرعية نثبت بها دخول الشهر وخروجه, وكون الإنسان عنده شيء من التحري والاحتياط فهذا الأمر ليس إليه, بل يحتاط في عباداته الخاصة, وأما في العبادات العامة التي شرعت له ولغيره ولعموم الأمة فهو واحد من هذه الأمة.(17/1)
مقتضى هذا الحديث أنه لو رأى الهلال وردت شهادته سواء كان في الدخول أو في الخروج فإنه يكون مع الناس في الصيام والفطر, وبعض أهل العلم يقول إنه إن كان متيقناً رؤية الهلال فإنه يصوم سراً في الدخول لأنه شهد الشهر أو يفطر سراً في الخروج لأنه إن صام صام يوم العيد المنهي عن صيامه, لكن مقتضى هذا الحديث أنه لا يصوم ولا يفطر برؤيته, وكذلك ما يرد في يوم الأضحى, ولهذا ينص أهل العلم على أنهم لو وقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر خطأً والأمة اتفقت على ذلك فحجهم صحيح إذا عملوا بالمقدمات الشرعية في إثبات دخول الشهر. والشهود الذين يثبت بهم دخول الشهر وخروجه هم الشهود العدول الذين تثبت بهم الحقوق, فكما يتصور أن الشهود يخطئون في الشهادة في الحقوق يتصور أن يخطئوا في الشهادة على دخول الشهر أو خروجه, لكن بانضمام الثقة إلى الآخر يضعف هذا الاحتمال, حتى يكون في عرف الشرع لا أثر له.
مسألة: رأى رجل الهلال في بلده ورآه الناس وصاموا, ثم انتقل هذا الرجل إلى بلدٍ آخر صاموا بعد بلده بيوم, وأتم هذا الرجل صيام ثلاثين يوماً بناءً على أنه صام قبل الناس بيوم, وهم أتموا الثلاثين لأنهم لم يروا الهلال, فإن صام معهم صام واحداً وثلاثين يوماً. هذا الرجل بإتمامه صيام ثلاثين يوماً قد تم الشهر في حقه, لكن مقتضى الحديث أنه لا يفطر إلا مع الناس ولو اقتضى الأمر أن يصوم واحداً وثلاثين يوماً.(17/2)
في صحيح مسلم أن كريب قال لابن عباس إن معاوية وأهل الشام صاموا برؤية الهلال ليلة الجمعة بالشام, وقدم كريب المدينة آخر الشهر وأخبر ابن عباس بذلك, فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت, فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فهل يفطر كريب باعتباره أكمل الثلاثين إذا لم ير أهل المدينة الهلال ليلة الثلاثين؟ أو لا يفطر إلا مع الناس وإن ترتب على ذلك أن يصوم واحداً وثلاثين يوماً؟. قال كريب لابن عباس: أولا تكتفي برؤية معاوية والناس؟ قال ابن عباس: لا, هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من يقول باتحاد المطالع قال إن ابن عباس لم يقتنع بشهادة كريب, ومن يقول باختلاف المطالع لا إشكال عنده لأن المطلع في الشام غير المطلع في المدينة, والمرجح أن لكل بلدٍ أو إقليم مطلعه.
قوله جل وعلا (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقوله عليه الصلاة والسلام (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ليس خطاباً للأفراد بأعيانهم, بمعنى أن كل فرد يلزمه أن يصوم أو لا يصوم إلا برؤيته بنفسه, بل الخطاب للمجموع, لكن هل هو لمجموع الأمة بكاملها بحيث تتحد رؤية المشرق مع المغرب والشمال مع الجنوب؟ أو هو خطاب لكل من تتأتى منه الرؤية في بلده أو في إقليمه؟ هو خطاب لكل من تتأتى منه الرؤية في بلده أو في إقليمه على القول باختلاف المطالع, والنص محتمل وكذا الحديث, إما أن يكون الخطاب للجماعة بكاملها, وإما أن يكون للمجموعات كل مجموعة على حدة. لو قلنا إنه خطاب للأمة بمجموعها لقلنا إنه يلزم الصيام برؤية من تثبت الرؤية به ولو كان في أقصى المشرق أو في أقصى المغرب.
قوله (الفطر يوم يفطر الناس): هل المراد بالناس كل المسلمين في جميع بقاع الأرض؟ أو المراد بالناس كل من اتحد في المطلع دون غيرهم؟ المسألة خلافية بين أهل العلم, وسيأتي استيفاؤها إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام.(17/3)
قوله (والأضحى يوم يضحي الناس): لو جاء من يشهد بأنه رأى هلال ذي الحجة في ليلة كذا, أو لم تأت شهادة ولم يُرَ الهلال لغيمٍ أو شبهه وأُكمِل شهر ذي القعدة ثلاثين وكان الهلال قد طلع قبل ذلك, ووقف الناس في اليوم العاشر, وضحوا في اليوم الحادي عشر, فإن وقوفهم صحيح, وأضاحيهم يوم يضحي الناس صحيحة, بناءً على هذا الحديث.
حديث أبي عمير بن أنس (أن ركباً جاؤوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم): هو ابن أنس بن مالك الصحابي الجليل, وليس هو المخاطب بقوله عليه الصلاة والسلام (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) بل المخاطب بهذا الحديث هو أخو أنس بن مالك وقد مات صغيراً, وأما أبا عمير بن أنس فقد عُمِّر بعد أبيه زمناً طويلاً, مع أن أباه عاش إلى سنة ثلاث وتسعين من الهجرة. وهو تابعي من صغار التابعين.
الركب جمع راكب, كـ(صحب) جمع صاحب, فالركب أكثر من واحد.
هؤلاء الركب جاؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد الزوال وبعد خروج وقت صلاة العيد, وقبل شهادتهم فأمر الناس أن يفطروا, ويكون هذا اليوم هو يوم العيد.
الحديث صحيح.
إذا لم يُرَ الهلال إلا بعد الزوال أو لم يبلغ خبره إلا بعد الزوال لزم الفطر لأن صيام يوم العيد حرام, ثم تقضى صلاة العيد من الغد.
هل يوم العيد هو اليوم الذي رؤي فيه الهلال أو هو اليوم الذي حصلت فيه الصلاة؟ هل يجوز صيام اليوم الذي صليت فيه صلاة العيد؟ إذا حصل مثل هذا في عيد الأضحى فهل أيام التشريق بعد اليوم الذي صليت فيه صلاة العيد يومان أو ثلاثة؟ إذا قلنا إن يوم العيد هو اليوم الذي رؤي فيه الهلال فاليوم الثاني ليس بعيد ويجوز صيامه, وإذا قلنا إن يوم العيد هو اليوم الذي صليت فيه صلاة العيد فإنه لا يجوز صيامه, ويبقى أن الاحتياط ألا يُصَام اليوم الثاني.(17/4)
هذا الحديث دليل على أن صلاة العيد تصلي في اليوم الثاني إذا فات وقتها, وعلى القول بأن العيد يكون في اليوم الذي رؤي فيه الهلال فإن الصلاة تكون حينئذ قضاء, وعلى القول بأن العيد يكون في اليوم الذي تصلى فيه الصلاة فإنها تكون حينئذ أداء.
ذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة العيد لا تقضى مطلقاً لأن وقتها قد ذهب, لا سيما عند من يقول إنها سنة, لأن السنة إذا فات محلها لا تقضى, لا بالنسبة للمجموع إذا لم يعلموا به إلا بعد الزوال, ولا بالنسبة للأفراد لمن فاتته صلاة العيد. وأما على القول بوجوبها فلا إشكال في كونها تقضى.
من أهل العلم من يرى أن صلاة العيد واجبة على الأعيان, فكل من تجب عليه الجمعة تجب عليه صلاة العيد, وهذا قول الحنفية, ويرجحه شيخ الإسلام, لمداومة النبي عليه الصلاة والسلام عليها, ولمداومة خلفاءه من بعده عليها, ولأمره الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور بالخروج إليها, فالرجال من باب أولى. ويستدلون بقوله تعالى (فصل لربك وانحر) على أن المراد بالصلاة صلاة العيد, وهي واجبة عندهم وليست بفرض, لأن الدلالة عليها ليست قطعية.
من أهل العلم من يرى أنها فرض كفاية, وليست بواجبة على الأعيان, لأنها شعيرة من شعائر الإسلام, وشعار يسقط بقيام البعض به كالجهاد.
القول الثالث أنها سنة مؤكدة, ويستدلون عليه بالعمومات, ومنها (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة), وهذا عند من يقول إنه لا يجب من الصلوات غير الخمس. وأما من يوجب صلوات أخرى فإنه يخصص هذا العموم بمثل هذه الأحاديث, أو يقول إن الحصر بخمس إنما هو في اليوم والليلة, لا في العام ولا في الشهر ولا في الأسبوع, بالنسبة لليوم والليلة فلا يجب إلا خمس صلوات.
القول بوجوبها متجه, فالنبي عليه الصلاة والسلام داوم عليها, ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه تخلف عنها, وأمر بها النساء. وقيل بوجوبها حتى على النساء, وهذا دليل على تأكدها.(17/5)
حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات): قوله (كان) يدل على المداومة, والمعنى كان لا يغدو يوم عيد الفطر إلى صلاة العيد حتى يأكل تمرات.
في رواية معلقة في البخاري موصولة عند أحمد (ويأكلهن أفراداً): إسنادها حسن, وهي تنص على أنه يأكل هذه التمرات وتراً, ويرجح السبع حديث (من تصبح بسبع تمرات) لكن الواحدة وتر وكذلك الثلاث وهكذا.
الحكمة في الأكل قبل صلاة العيد أن العيد تعقب الصيام, فيأكل قبل الصلاة لئلا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد.
يقول ابن حجر في فتح الباري: الحكمة في استحباب التمر ما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم - ولذا كانت السنة الإفطار على التمر - أو لأن الحلو مما يوافق الإيمان ويُعبَّر به في المنام ويرقق القلب ومن ثَمَّ استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقاً - لكن كأن التمر له خصائص لا توجد في غيره فلا يقوم غيره مقامه, لكن إذا عدم التمر قام مقامه الماء, وأما القول بأن التنصيص على التمر لأنه حلو فإنه مجرد استنباط من واقعه لا يدل عليه النص, ولا شك أن التمر هو الثابت بالنص فالإفطار عليه هو المتأكد فلا يعدل عنه إلى غيره مع وجوده, إلا إذا كان الإنسان يضره الإفطار على التمر فإنه يسوغ له أن يفطر على غيره -.
جاء في الخبر أن الله وتر يحب الوتر, والوتر في الجملة محبوب في الشرع.
حديث ابن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم, ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي): هذا الحديث يشهد لما قبله.
قوله (لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم): أي حتى يطعم التمرات, لأن أولى الأطعمة ما نُصَّ عليه للاهتمام بشأنه والعناية به, لكن إذا لم يجد ما نُصَّ عليه فإن أي طعام يدخل في العموم.
قوله (ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي): لكي يبادر بذبح أضحيته والأكل منها, ولذا شُرِع تعجيل صلاة عيد الأضحى.(17/6)
في الباب أحاديث برواية البيهقي: يقول (وكان إذا رجع - يعني من صلاة العيد - أكل من كبد أضحيته).
قد يقول قائل: وفي الأضحى أيضاً العيد قد تعقب أيام صيام وهي تسع ذي الحجة أو عرفة فلم لا يشرع الأكل قبل الصلاة مثل عيد الفطر؟ الجواب: هذا الصيام سنة وليس بواجب.
حديث أم عطية (أُمِرْنا أن نخرج العواتق والحُيَّض في العيدين, يشهدن الخير ودعوة المسلمين, ويعتزل الحُيَّض المصلى): أم عطية هي نُسَيبة - أو نَسِيبة - بنت الحارث أو بنت كعب, روت أحاديث صارت مرجعاً للصحابة والتابعين في بعضها, لا سيما حديث تغسيل الميت, فإنها غسَّلت ابنة النبي عليه الصلاة والسلام, فصار الصحابة والتابعون يسألونها عن كيفية تغسيل الميت.
حُذِف الآمر في قولها (أُمِرْنا) للعلم به, وهو النبي عليه الصلاة والسلام, وفي رواية للبخاري (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق).
قول الصحابي (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) مساوٍ لقوله عليه الصلاة والسلام (افعلوا), فكأنه قال هنا (أخرجوا العواتق والحُيَّض), فلا فرق بين صيغة الأمر وبين التعبير بالأمر, ولا التفات لقول من يقول إنه لا حجة فيه حتى ينقل اللفظ النبوي, لأن الصحابة أعرف بمدلولات الألفاظ الشرعية.
العواتق هن البنات الأبكار البالغات, والحُيَّض هن من تلبسن بالحيض, وذوات الخدور هن اللواتي لا يبرزن للأسواق. وذوات الخدور والمخدَّرات وصف معروف بين المسلمين, ويوجد في بعض الجهات إلى الآن من النساء من لا تخرج أبداً, وخروج النساء على خلاف الأصل, والمرأة التي تخرج تسمى (بَرْزَة).
قولها (يشهدن الخير): أي من مجموع ما يحصل من الصلاة والانتفاع بالخطبة والتأمين على دعاءها, ولذا قالت (ودعوة المسلمين), لعله يوجد في هذا الجمع من هو مستجاب الدعوة من رجل صالح أو امرأة صالحة.
قالت (يشهدن الخير) ولم تقل (يشهدن الصلاة) لأن منهن من لا تصلي, فيشهدن الخير من مجموع ما يحصل.(17/7)
في الحديث ما يدل على أن الخطب ينبغي أن تشتمل على الدعاء الذي يُؤمَّن عليه من قِبَل هؤلاء الأخيار.
قولها (ويعتزل الحُيَّض المصلى): يكون للحُيَّض وذوات الأعذار أماكن مخصصة لسماع الخير والدعوة ولحضور الدروس ومجالس الذكر, لكن خارج المسجد, لأن الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد, لأنه إذا كان مصلى العيد - الذي لا تثبت له جميع أحكام المسجد - يعتزله الحُيَّض فمن باب أولى المسجد, وإن قال بعضهم إن المراد بالمصلى موضع الصلاة الذي يصلي فيه الناس لئلا تضيق عليهم, ليست مطالبة بالصلاة فكونها تجلس في مصلى الناس فإنها تضيِّق عليهم, لكن هذا فيه بُعْد.
الأصل في الأمر الوجوب, ففيه دليل على وجوب إخراج النساء إلى صلاة العيد, وإذا أُمِر بإخراج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض فلا شك أن أمر الكبار العجائز من باب أولى, وهذا القول الذي هو وجوب إخراجهن منسوب إلى الخلفاء الثلاثة, وقال به جمع من السلف, وهو ظاهر النص.
ومنهم من يقول إن إخراج النساء إلى صلاة العيد سنة مؤكدة, وهذا الأمر مصروف من الوجوب إلى الاستحباب, والصارف هو العلة, فالعلة في إخراج النساء إلى صلاة العيد (يشهدن الخير ودعوة المسلمين), وشهود الخير ليس بواجب, وحضور الدعوة والتأمين عليها ليس بواجب, فكونه علِّلَ بأمر ليس بواجب يدل على أن أصل الأمر ليس بواجب, وهذا قال به جماعات من أهل العلم. إذا قال قائل (اذهب إلى السوق لتربح) فإن الذهاب إلى السوق مرده إلى من وجِّه إليه هذا الأمر لأنه قد لا يكون بحاجة إلى الربح, لكن لو قال (اذهب) من غير تعليل أو علل بأمر واجب فإن الأمر يحمل على الوجوب واللزوم.(17/8)
بعضهم يرى أن الأمر في هذا الحديث منسوخ, قالوا إن الأمر بإخراجهن في أول أمر الإسلام لما كان في المسلمين قلة فأمرن بالخروج لتكثير السواد وإرهاب العدو, لكن يُرَدُّ على هؤلاء بأن المرأة ليس فيها إرهاب للعدو, لأنها ليست بصدد قتال ولا جهاد ولا تكثير سواد, ولو قيل بأن المرأة تطمع العدو ما بَعُد, فالقول بأن الأمر منسوخ لا وجه له, والتعليل بهذه العلة عليل جداً, وقد أفتت أم عطية بهذا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام.
خروج المرأة إلى المسجد جاء فيه الأمر في مثل هذا الحديث, وجاء فيه قوله (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله), وجاء فيه قول عائشة رضي الله عنها (لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن عن المساجد), ويستدل بقول عائشة من يقول بأن المرأة إذا كانت مثار فتنة فإنها لا تحضر, لكن يستدل به الطرف الآخر الذي يقول إن الخبر نص على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمنع النساء ولم يَخْفَ على الله جل وعلا أن النساء سوف يُحْدِثْن, وعلى كل حال من أحدثت تُمنَع للمفسدة المترتبة على حدثها, وأما من لزمت السنة والهدي فإنها تؤمر بالخروج وتؤجر عليه.
حديث ابن عمر (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة): هذا ظاهر في أن تقديم الصلاة على الخطبة واجب, لأنه هو القاعدة والجادة المتبعة من النبي عليه الصلاة والسلام, ولم يحصل ولا مرة واحدة أنه خطب قبل الصلاة, كما أن الواجب في صلاة الجمعة تقديم الخطبة.(17/9)
قد يقول قائل: خطبة الجمعة واجبة, وخطبة العيد ليست بواجبة, بدليل أنه يُخَيَّر الإنسان بين حضورها وبين الانصراف, كما جاء في قوله (إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب) وهذا الحديث لا بأس به, مخرج في السنن عند أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به, وأما خطبة الجمعة فلا يجوز الكلام في أثناءها ولا مس الحصى ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر, وهذا يدل على أن شأن خطبة الجمعة أعظم.
على كل حال هذه هي السنة, فمن قدم الخطبة على صلاة العيد فقد خالف السنة, وحصل تقديم الخطبة على صلاة العيد, واختُلِف في أول من قدم الخطبة قبل الصلاة, فجاء في صحيح مسلم أنه مروان, وأنكر عليه أبو سعيد وهو على المنبر, فإذا أمنت الفتنة ولم يترتب على مثل هذا الإنكار مفسدة أعظم فلا بأس به, فعله الصحابي الجليل أبو سعيد, وله مواقف من هذا النوع, لكن إذا خشي الإنسان على نفسه أو خشي أن يترتب على فعله منكر أعظم فإنه يسعه السكوت, ويبين وينصح في غير هذا الموضع.(17/10)
جاء في مراسيل الحسن - ومراسيله ضعيفة - أن أول من خطب قبل الصلاة عثمان, لكن مادام أن الحسن أدرك القصة فإن هذا لا يعتبر مرسلاً, فهو مما يروى عن الحسن, بل صرح بعضهم بأن سنده جيد إلى الحسن, فإن ثبت هذا عن عثمان فإنه قد تأول, والتمسوا له أن الجموع قد كثرت في المدينة وكثر من تفوته الصلاة أو يفوته شيء منها فأراد أن يدرك الناس الصلاة فقدم الخطبة, وهو خليفة راشد مشهود له بالجنة أمرنا بالاقتداء به, فلا يدخل مثل هذا في حيز البدعة ولا يقال إنه بدعة لأن النبي عليه الصلاة والسلام سماه سنة بقوله (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي). ويبقى أنه إذا تعارضت سنة الخلفاء الراشدين مع السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن المرفوع مقدم. وهذا يقال فيه أنه مرجوح وهو سنة, لكنها خالفت فعل النبي عليه الصلاة والسلام, ولذا لم يعمل بها من بعده ولم يقل بها أحد من أهل العلم لمخالفتها لما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام, بخلاف الأذان الأول يوم الجمعة لعدم المخالفة وقد قال به أهل العلم. بخلاف من جاء بعده من بني أمية الذين قدموا الخطبة على الصلاة, لأن الناس كانوا ينصرفون عن استماع خطبهم, لأن فيها شيء من الكلام على بعض الناس مما لا يطيقه كثير من الناس سواء كان بحق أو بغير حق, لكن مثل هذا الكلام لا سيما في الأخيار لا يطاق بلا شك, فكون الجيل الأول لا يستمعون إلى مثل هذه الخطب لا شك أنه عين الحكمة, فاضطروا إلى أن يلزموا الناس بسماع خطبهم فقدموها على الصلاة, لأن الناس لا يمكن أن ينصرفوا قبل الصلاة. وعلى كل حال هذا ليس بمبرِّر.(17/11)
حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها): صلاة العيد ركعتان بالإجماع, والخلاف في قضاء صلاة العيد: هل تقضى على صفتها؟ وهذا قول الأكثر, وهل تقضى أربعاً كالجمعة إذا فاتت؟ قيل بهذا. وروى الطبراني عن ابن مسعود أنه قال (من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً) ورجاله ثقات, قياساً على الجمعة, لكن الأصل في القضاء أنه يحكي الأداء.
قوله (لم يصل قبلها ولا بعدها): هذا دليل على أن صلاة العيد لا راتبة لها, لا قبلية ولا بعدية, لكن إذا دخل مصلى العيد قبل الإمام بعد ارتفاع الشمس وأراد أن يصلي نفلاً مطلقاً أو تحية للمصلى فهل له ذلك؟ عند الحنابلة أنه لا صلاة قبل العيد ولا بعدها حتى في المسجد, لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى العيد ولم يصل قبلها ولا بعدها, لكن هل هذا وصف لأمر حصل من النبي عليه الصلاة والسلام أو لبيان التشريع؟ لأنه لقائل أن يقول إن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الجمعة ركعتين لم يصل في المسجد قبلهما ولا بعدهما وإنما صلى ركعتين في بيته. فهل هذا وصف للواقع؟ وهل هذا يشمل الجميع أو هو خاص بمن كان وصفه كالنبي عليه الصلاة والسلام كالإمام؟ النبي عليه الصلاة والسلام وُصِفَت حاله هنا باعتباره إماماً, دخل المسجد فصلى العيد وانشغل بصلاة العيد ولم يصل قبلها, كما أنه دخل إلى الجمعة وانشغل بالخطبة ولم يصل قبلها, ولذا لا يشرع للإمام أن يصلي قبل العيد ولا قبل الجمعة, لكن هل يشرع للمأموم أن يصلي قبل الجمعة؟ الجواب: نعم, بل يؤمر بذلك كما جاء في الحديث (هل صليت ركعتين؟ قال: لا, قال: قم فصل ركعتين), فهل العيد في حكمها, وأن هذا الحديث مجرد وصف لحال النبي عليه الصلاة والسلام باعتباره إماماً, وتبقى النصوص الأخرى في مواطنها كقوله (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).(17/12)
أما إذا كانت صلاة العيد في المسجد فلا إشكال في أن الأمر بالتحية متجه, ولا يقاوم الأمر بالتحية مثل هذا النص الذي فيه مجرد الوصف, نعم الأصل الاقتداء, لكن النبي عليه الصلاة والسلام له أحوال, حال ينظر إليه باعتباره إماماً في الصلاة, وحال ينظر إليه باعتباره إماماً للمسلمين, فيقتدي به أئمة الصلاة في الحال الأولى, وأئمة الإسلام وولاة الأمور في الحال الثانية, وحال باعتباره أسوة وقدوة لجميع الناس.
مسألة مصلى العيد خلافية, والحنابلة يرون أنه مسجد وتثبت له أحكام المسجد بخلاف مصلى الجنائز المسمى الجَبَّانة.
منهم من يطلق أنه لا صلاة لا قبل العيد ولا بعدها, لا في المسجد ولا في المصلى ولا في البيت, ومنهم من يفرق بين المسجد والمصلى, ومنهم من يفرق بين المسجد والبيت, ومقتضى عموم النفي في قوله (ولا بعدها) أنه لا يصلي بعد العيد لا في المسجد ولا في المصلى ولا في البيت, لكن لا يلزم منه أنه لا يصلي في بيته, بل جاء ما يدل على أنه كان يصلي في بيته, جاء في حديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العيد ركعتين في بيته, وصححه الحاكم, فيحمل قوله (لم يصل قبلها ولا بعدها) على المصلى, فيبقى المسجد خارج عن مفاد هذا الحديث للأمر بتحيته, والأمر بتحية المسجد ثابت لا يعارض بمثل هذا, وأما بالنسبة للمصلى فالأولى ألا يصلي الإنسان لأنه ليس له جميع أحكام المسجد وإن أُمِر الحُيَّض باعتزاله, فالمسجد معروف بحدوده وموقوف للصلاة لا يجوز بيعه.
الأوقات المضيقة الثلاثة لا يصلى فيها ولو ذوات الأسباب, وعمر رضي الله عنه لم يصل ركعتي الطواف مع أنها ذات سبب إلا بذي طوى بعد خروج وقت النهي.(17/13)
حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة): الحديث صحيح, وهو دليل على عدم شرعية الأذان والإقامة لصلاة العيد, فالتأذين لصلاة العيد بدعة, وكذلك الإقامة, بل بمجرد ما يدخل الإمام يشرع في الصلاة ويأمر بتسوية الصفوف ثم يكبر تكبيرة الإحرام, ولم يثبت أنه أُذِّن في عهده عليه الصلاة والسلام لصلاة العيد.
عند ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب أن أول من أحدث الأذان لصلاة العيد معاوية رضي الله عنه, ومثله رواه الشافعي عن الثقة, وأحياناً يقول (حدثني من لا أتهم), وأحياناً يقول (حدثني الصدوق في حديثه المتهم في دينه), يريد إبراهيم بن أبي يحيى, وهو ضعيف عند الجمهور. وعلى كل حال إسناد ابن أبي شيبة لا بأس به عن سعيد بن المسيب, وكأن معاوية لما توسعت البلدان وتفرق الناس رأى أن الحاجة داعية لذلك, وعلى كل حال هذا اجتهاد مرجوح, وهو إن صح عنه فعل صحابي خلاف السنة, وليس من الأدب أن نقول إنه ابتدع وهو صحابي, إنما نقول إنه خلاف السنة, وقد أخذ به بعده الحجاج, وروى ابن المنذر أن أول من أحدثه زياد بالبصرة, وقيل إن أول من أحدثه مروان.
روى الشافعي عن الثقة عن الزهري مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن في العيد أن يقول (الصلاة جامعة), مثل الكسوف, لكن فيه ابراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف جداً عند الجمهور, وهو أيضاً مرسل, فلا تقوم به حجة, ويبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام يصلي العيد بلا أذان ولا إقامة, ولم يثبت أنه أمر بذلك, فلا يجوز التأذين لصلاة العيد ولا الإقامة لها.
منهم من قال إنه لا مانع من أن يقال (الصلاة جامعة), لهذا الخبر وإن كان ضعيفاً قياساً على صلاة الكسوف, لكن يصرح الأئمة أن العبادات لا يدخلها القياس.
حديث أبي سعيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد شيئاً, فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين): إسناده لا بأس به, يقول الحافظ: رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن.(17/14)
ليس لصلاة العيد راتبة, كما أن الإمام لا يشرع له الحضور والتعجيل لا لصلاة الجمعة ولا لصلاة العيد, لأن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة يدخل المصلى فيشرع في صلاة العيد ويدخل المسجد يوم الجمعة فيرقى المنبر مباشرة.
منهم من يرى أن الإمام كغيره مطالب بالتبكير لصلاة الجمعة وأنه إن جاء لصلاة الجمعة في الساعة الأولى كان كمن أهدى بدنة وهكذا, فإذا جاء وقت الخطبة خرج ثم دخل, لكن الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لا يدخل قبل وقت الخطبة.
قوله (فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين): هاتان الركعتان قد يقال إنهما مرتبطتان بالصلاة كما كان يفعل إذا رجع من صلاة الجمعة, وقد يقال إنهما ركعتا الضحى مثلاً, والأمر فيه سعة, وعلى كل حال الصلاة مشروعة بعد العيد في البيت لا في المصلى, لأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن يصلي قبلها ولا بعدها, يعني في موضعها.
حديث أبي سعيد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى, وأول شيء يبدأ به الصلاة, ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس, والناس على صفوفهم, فيعظهم ويأمرهم): فيه دليل على شرعية الخروج إلى المصلى, فالصلاة في المصلى هي السنة, والصلاة في المساجد تعطيل لهذه السنة, لكن عند الحاجة من مطر أو برد شديد يسوغ أن تصلى الأعياد في المساجد.
قوله (وأول شيء يبدأ به الصلاة): لا الخطبة, فالبداءة بالصلاة هي السنة, والبداءة بالخطبة خلاف السنة.
ينبغي أن تشتمل خطبة العيد على الموعظة والتذكير والتحذير من المخالفات, وبعد أن يفرغ من الرجال يأتي إلى النساء فيذكرهن ويخوِّفهن ويعظهن ويأمرهن بالصدقة, والخطبة في النساء من خصائص الرجال, لأنه لو لم يكن كذلك لوكَّل واحدةً منهن لتخطب بهن, لكن الخطابة للرجال وليست للنساء.(17/15)
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة, والقراءة بعدهما كلتيهما): عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص, ولا إشكال في أن مرجع الضمير في (أبيه) إلى عمرو, والإشكال في عود الضمير في (جده), إن كان يعود إلى جد عمرو (محمد) وهو تابعي فالخبر مرسل, وإن كان يعود إلى أقرب مذكور وهو (أبيه) أي شعيب, فجد شعيب (عبد الله) وهو صحابي, ثم يرد الخلاف في سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. ولوجود الخلاف في مرجع الضمير ولوجود الخلاف في سماع شعيب من جده عبد الله اختلف أهل العلم في الاحتجاج بهذه السلسلة, وقد روي بها أحاديث, وبعضهم ضعفها للاختلاف في الجد, وجاء ما يدل على التنصيص عليه, جاء في بعض الأحاديث (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو), فهنا يضعف الخلاف في مسألة عود الضمير, ويبقى النظر في مسألة سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو, وهي مسألة خلافية بين أهل العلم, وكثير من أهل التحقيق يثبتها.
الخلاصة في هذه السلسلة: منهم من ضعفها مطلقاً, ومنهم من صححها, والقول الوسط أنه إذا صح السند إلى عمرو بن شعيب فما يروى بهذه السلسلة حسن.
نظير هذه السلسلة (بهز بن حكيم عن أبيه عن جده): هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة, ولا خلاف في مرجع الضمير, فبهز يروي عن أبيه حكيم عن جده معاوية, لكن يبقى النظر في بهز, فيه كلام طويل لأهل العلم, والقول الوسط في الاحتجاج به أنه مثل (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) فهو حسن.(17/16)
اختلفوا في المفاضلة بين السلسلتين: منهم من رجح (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) على (بهز بن حكيم عن أبيه عن جده), وهذا يُلجأ إليه عند التعارض, لأن البخاري صحح حديث الباب الذي معنا, كما قال الحافظ (ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه), وعلق لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولم يعلق لعمرو بن شعيب, لكنه أيضاً لم يصحح لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وإنما علق له تعليقاً, فمن قال إن تصحيح البخاري أقوى من تعليقه قال إن عمرو بن شعيب أقوى, ومن قال إن إيداعه مرويه في صحيحه الذي تلقته الأمة بالقبول أقوى من تصحيحه خارج الصحيح رجح بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
قوله (ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه): الترمذي لم يخرِّج الحديث, ولذا شكك الشارح في كون الترمذي نقل عن البخاري التصحيح, لأن الترمذي لم يخرِّج الحديث أصلاً فأين نقل عنه ذلك؟!!! نقول: نقل عنه ذلك في العلل الكبير (الجزء الأول – ص 288) أنه سأله عن حديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي فقال (هو حديث صحيح), يريد هذا الحديث الذي معنا.
قوله (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة): ومثله الأضحى.
الحنابلة فرَّقوا فقالوا إن السبع في الركعة الأولى تدخل فيها تكبيرة الإحرام فتكون ست تكبيرات غير تكبيرة الإحرام, والخمس في الركعة الثانية لا تدخل فيها تكبيرة الانتقال فتكون خمس غير تكبيرة الانتقال, والسبب في التفريق أن تكبيرة الإحرام من الركعة الأولى فتدخل في العدد, وأما تكبيرة الانتقال فليست من الركعة الثانية, فلا تدخل في العدد.(17/17)
قيل بأن السبع في الركعة الأولى لا تدخل فيها تكبيرة الإحرام فيكون المجموع ثماني تكبيرات, والخمس في الركعة الثانية لا تدخل فيها تكبيرة القيام فيكون المجموع ست تكبيرات. وقيل بأن السبع في الركعة الأولى تدخل فيها تكبيرة الإحرام فتكون ست تكبيرات غير تكبيرة الإحرام, والخمس في الركعة الثانية تدخل فيها تكبيرة الانتقال فتكون أربع تكبيرات غير تكبيرة الانتقال. والحنابلة فرقوا كما تقدم.
قوله (والقراءة بعدهما كلتيهما): الاستفتاح يكون بين التكبير والقراءة لحديث أبي هريرة (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ - الحديث - ) لكن متى يكون الاستفتاح في صلاة العيد؟ هل الاستفتاح للصلاة بمعنى أنه مرتبط بتكبيرة الإحرام؟ أو هو مرتبط بالقراءة؟ النص محتمل, يحتمل أن يكون بين تكبيرة الإحرام وبقية التكبيرات, ويحتمل أن يكون بعد الفراغ من التكبيرات, والأصل أن يكون بين التكبير والقراءة كما أفاده حديث أبي هريرة فيكون في صلاة العيد بعد نهاية التكبيرات.
جاء عن ابن مسعود وغيره أنه يقول بين كل تكبيرتين (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً).
عمل الجمهور بالحديث فقالوا بالعدد المذكور فيه, وعند الحنفية التكبير ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية, لحديثٍ يروونه في ذلك, وهو لا تقوم به حجة في مقابل هذا النص الذي صححه البخاري.
عند الحنفية القراءة في الركعة الأولى بعد التكبير, وفي الثانية قبل التكبير, ليوالي بين القراءتين, وقولهم مرجوح مخالف لما في هذا الحديث.(17/18)
لم يرد في هذه التكبيرات ما يدل على الرفع ولا على عدمه, لكنه مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما, وقال به الجمهور, لأن ابن عمر صحابي مقتدي متحري للاتِّباع ولا يُظن به أنه يبتدع. وجاء أيضاً من رواية وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله. وهو نظير رفع اليدين في تكبيرات الجنازة, فمن أثبته قال لأنه ثابت عن ابن عمر ومروي عن النبي عليه الصلاة والسلام, والمرفوع ضعيف.
حديث أبي واقد الليثي (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأضحى والفطر بـ(ق) واقتربت): أبو واقد اسمه الحارث بن عوف.
جاء أنه يقرأ في الجمعة والعيدين بـ(سبح) والغاشية, والذي يغلب على الظن أنه كان يقرأ هذا تارة وهذا تارة, وتارةً يقرأ غيرهما, لكن الأكثر في قراءته عليه الصلاة والسلام قراءة هذه السور.
حديث جابر بن عبد الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق): يعني ذهب من طريق ورجع من طريقٍ آخر, وقال بهذا جمع من أهل العلم واستحبوه لا سيما للإمام, وهو المذهب عند الحنابلة والشافعية, يستحبون ذلك للجميع, وبعضهم خصه بالإمام لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الإمام, لأن الناس كلهم بحاجة إلى الإمام وقد لا يستطيعون الوصول إليه إلا بهذه الطريقة.
هل يقال مثل هذا في الجمعة باعتبارها تشارك العيد وهي عيد الأسبوع؟ أو يقال إن هذا خاص بالعيد؟ المسألة محتملة, فإذا نظرنا إلى أصل العلة قلنا إنها سنة لأن الحاجة مستمرة إلى الإمام لا سيما مثله عليه الصلاة والسلام الذي يحصل بمروره الخير البركة, ولأهل العلم وأهل الفضل الاقتداء في مثل هذا.
قوله (ولأبي داود عن ابن عمر نحوه): حديث ابن عمر صحيح لغيره.(17/19)
العلماء يختلفون في السبب والحكمة التي من أجلها كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك, فمنهم من يقول إنه كان يسلم على هؤلاء ويسلم على هؤلاء, وقيل لينال بركته الفريقان, ومنهم من قال ليظهر شعائر الإسلام, ومنهم من قال ليقضي حوائج الناس, إلى غير ذلك, المقصود أن هذه سنة بالنسبة للعيد, وأما بالنسبة للجمعة فمحل نظر.
حديث أنس (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما, فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما, يوم الأضحى ويوم الفطر): سألهم (ما هذان اليومان) فذكروا أنهم كانوا في الجاهلية يتخذون هذين اليومين أيام سعة وفرح.
أيام العيد أيام فرح وسرور, وقد نظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى من يلهو في هذا اليوم ويلعب وقال (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة), فهما يوما فرح وسرور, لكن هما أيضاً يوما شكر لأنهما وقعا بعد عبادتين وركنين من أركان الإسلام, فالشكر لا بد منه, فليس معنى كونهما يوماف فرح وسرور أن الإنسان يتحرر من القيود الشرعية والتكاليف ويتنصل عنها بترك الواجبات ويتجاوز بفعل المحرمات.
الحديث فيه دليل على أن إظهار السرور والفرح بالعيد وإدخال السرور على الآخرين أمر مطلوب, وبمفهومه يدل على أنه لا يجوز بحال الفرح بأعياد الكفار, ولا المشاركة في فرحهم, فهذا أمر خطير جداً. أبو حفص البُسْتي - من شيوخ الحنفية - قال: من أهدى في أعياد المشركين بيضة إلى مشرك تعظيماً ليوم عيده كفر. لكن هذه الكلمة شديدة, ويبقى أن المسألة خطر.
حديث علي (من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً): هذا له حكم الرفع.(17/20)
قوله (رواه الترمذي وحسنه): لكنه من رواية الحارث الأعور عن علي, وهو ضعيف جداً, فالخبر ضعيف. والترمذي حسنه في جامعه, لما يشهد له أخبار أخرى مرسلة عن الزهري وغيره, وأيضاً جاء النص الصحيح بالنسبة لصلاة الجمعة (يخرج إليها ماشياً ويرجع منها ماشياً), والعيد في حكم الجمعة إذا أمكن ذلك وتيسر, لكن إذا كان المصلى بعيداً ويشق عليه المشي فلا شك أن الركوب لا بأس به.
الإمام البخاري رحمه الله تعالى بوب في الصحيح فقال (باب المشي والركوب إلى العيد) فسوى بينهما وأن كلاً منهما جائز, لكن مسألة كون المشي أفضل لا شك أن العيد كالجمعة, والجمعة فيها نص صحيح صريح في أن المشي إليها أفضل وأن كل خطوة يرفع بها درجة ويحطب عنه بها سيئة ويكتب له بها حسنة, والعيد في حكمها, وكذلك المشي إلى الصلوات, فالعيد من باب أولى, لكن هذا الحديث لا يثبت.
حديث أبي هريرة (أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد): قال الحافظ (رواه أبو داود بإسناد لين) ولا يكفي أن يقال فيه لين بل هو ضعيف, لأن في إسناده عيسى بن عبد الأعلى وهو مجهول, وشيخه أبو يحيى كذلك مجهول.
في غير وقت الحاجة لا شك أن الخروج إلى المصلى أفضل, وهو ديدنه عليه الصلاة والسلام, لكن إذا دعت الحاجة من مطر أو برد شديد فلا شك أن مثل هذا مبرر لأن تقام صلاة العيد في المسجد.
صلاة العيد في المصلى خارج البلد أفضل إلا في المسجد الحرام.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده قبيل مغرب يوم الجمعة السادس من رجب من العام نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(17/21)
مهمات شرح باب صلاة الكسوف من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
قبل الشروع في الشرح هذه فوائد أُخِذت من أجوبة الشيخ على بعض الأسئلة قبل الدرس:
أهل العلم يجيزون إلقاء النطفة قبل الأربعين بدواء مباح على أن يتفق على ذلك الأب والأم, ولا بد أن يكون هذا لحاجة شديدة, وإما مجرد إلقاءها لأنهم لا يريدون الحمل فهذا ليس بمبرر. وعلى كل حال الإجهاض اعتداء واعتراض على القدر, فلا ينبغي إلا لحاجة.
قول (فداك أبي وأمي) إذا لم يفهم منه الأبوان التقصير في حقهما وتفضيل غيرهما عليهما وشجَّع هذا القول الشخص المفدَّى وحثه على الاستمرار فيما هو فيه من خير فمن النصوص الكثيرة ما يشهد لجوازه.
لم ينقل شيء مرفوع ثابت في الذكر بين كل تكبيرتين من تكبيرات صلاة العيد, ولا يقال إنه يسكت بين كل تكبيرتين, بل يكبر فإذا انقطع نَفَسُه شرع في التكبيرة الثانية وهكذا, وإذا لم يُحفَظ شيء يقال بينهما فإنه يتابع بينهما.
السنة إذا فات محلها لا تقضى, وكون النبي عليه الصلاة والسلام قضى راتبة الظهر بعد صلاة العصر فلأنه إذا عمل عملاً أثبته, وهذا خاص به عليه الصلاة والسلام, وكونه أقر من قضى راتبة الصبح بعد صلاة الصبح فهذا للاعتناء بشأن هذه الراتبة والاهتمام بها, ومثلها الوتر فإنه يقضى بعد ارتفاع الشمس, ولذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يدع ركعتي الصبح ولا الوتر حضراً ولا سفراً.
إذا نام عن صلاة العيد فهل يقضيها؟ على قول الحنفية وشيخ الإسلام لا بد من قضاءها لأنها واجبة.
من حضر بعد دخول الخطيب لا يكتب له الأجر المرتب على التقدم والتعجل لصلاة الجمعة, وأما أجر الجمعة فإنه يكتب له.
أمر النساء بالخروج لصلاة العيد متأكد يقرب من الوجوب, والجمهور على أنه سنة مؤكدة, لكن ينبغي الحرص عليها.(18/1)
على القول المرجح من أن ما يدركه المسبوق مع إمامه هو أول صلاته فإنه إذا فاتته ركعة من صلاة العيد فإنه يقضيها على أنها ثانية بخمس تكبيرات.
ثبت عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه في تكبيرات صلاة العيد وفي تكبيرات الجنازة, وفي المسألتين خبر مرفوع ضعيف, والأكثر على أنها ترفع في تكبيرات صلاة العيد وفي تكبيرات الجنازة استناداً على ما ثبت عن ابن عمر وهو من أهل التحري.
حديث (رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً) مختلف فيه, لكن الذي يغلب على الظن أنه حسن إن شاء الله تعالى.
لم يأت التصريح بكون خطبة العيد يُجلَس بين طرفيها لتكون اثنتين, فالذي يُفهَم من الخبر أنها واحدة, لكن لكون الخبر محتملاً وخطبة الجمعة فيها التصريح بأنهما خطبتان فعامة أهل العلم على أن العيد كالجمعة لها خطبتان.
طريقة أبي داود أنه يخرِّج الضعيف إذا لم يوجد في الباب غيره, وأما الاحتجاج به في العقائد والأحكام فلا, وإن وُجِدَ في كتب الفقه لكنهم لا يبنون عليه حكماً شرعياً, وأما في الفضائل فالجمهور على أنه يُستَدل بالضعيف فيها.
لا شك أن الفضل الكامل للجماعة الأولى, ومسألة إعادة الجماعة مسألة خلافية بين أهل العلم, فمن أهل العلم من يمنع إقامة جماعة ثانية ويرى أن الجماعة الأولى إذا فاتت فإن المصلي يصلي وحده, وهذا قول معتبر عند أهل العلم, لكن حديث (من يتصدق على هذا) بعد انتهاء الجماعة من الصلاة يدل على أن الجماعة تُعَاد, وأن فضل الجماعة ثابت للجماعة الأولى والثانية, لكن ليس للإنسان أن يتأخر حتى تفوته الجماعة الأولى لاحتمال أن لا يجد جماعة أخرى, والخروج من الخلاف الذي ذكرنها مطلوب.
بداية الشرح:(18/2)
حديث المغيرة بن شعبة (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم, فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته, فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف) وفي رواية للبخاري (حتى تنجلي): الكسوف مصدر كَسَفَ يَكْسِفُ كسوفاً, ويقال (كَسَفَت الشمس) بفتح الكاف, وتُضَم (كُسِفَت) وهو نادر, كما يقال (انكسفت) و (خَسَفَت) و (انخفست), وبالنسبة للشمس يُطلَق فيها اللفظان الكسوف والخسوف, وأما بالنسبة للقمر فثبت نسبة الخسوف له في القرآن, وأما نسبة الكسوف إلى القمر فصرحوا أنه لم يرد في هذا نص, إلا أنه إذا عُطِف على الشمس جاز إطلاق الكسوف عليه كما في هذا الحديث, فتقول (انكسفت الشمس) ولا تقول (انكسف القمر), وتقول (خسفت الشمس وخسف القمر) للاثنين معاً.
الأصل في الكسوف في اللغة التغير إلى السواد, والخسوف النقصان. فالكسوف تَغَيُّرٌ في الشمس أو القمر بذهاب نورهما أو بعضه, وعلماء الهيئة يقررون من القِدَم إمكانية معرفة وقت الكسوف بدقة وإمكانية إدراكه بالحساب ويجزمون بهذا, ومنهم من يقول إنه يمكن إدراكه على سبيل غلبة الظن لا جزماً, ومنهم من ينكر الإدراك بالكلية ويقول إنه من باب ادعاء معرفة ما في الغيب ويرمون من يخبر عن ذلك قبل وقوعه بأنه يدعي معرفة الغيب. وعلى كل حال ثبت أنه يمكن إدراكه بالحساب, وليس في إدراكه بالحساب ما يخل بكونه آية من آيات الله يخوِّف بها عباده ولذا شُرِعت هذه الصلاة, لكن إخبار عموم الناس بوقته قبل حدوثه وتكرر ذلك مراراً يجعل هذا الأمر طبيعياً عند عامة الناس ولا يؤثر فيهم الأثر الذي أثر في النبي عليه الصلاة والسلام وفي صحابته الكرام, فالنبي عليه الصلاة والسلام لما انكسفت الشمس خرج مسرعاً يجر رداءه يظنها الساعة.(18/3)
الفائدة من حدوث مثل هذا تخويف العباد, وقد قال الله جل وعلا (وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً), لكي يخاف الناس ويرجعون إلى ربهم ويفزعون إلى الصلاة ويشغلون وقتهم بالصلاة والدعاء بما يرضي الله جل وعلا عنهم لتعود هذه الآية إلى عادتها.
يقرر علماء الهيئة أيضاً أنه قد يصحب هذا التغير في هاتين الآتين خلل يتضرر به بعض الناس, ويقررون أيضاً أن سبب الكسوف حيلولة الأرض بين الشمس والقمر, يقررون أن القمر إنما يستمد نوره من الشمس, فإذا حالت الأرض بين الشمس والقمر ذهب نور القمر. ووُجِد على هذا أنهم جزموا بأن الأرض أصغر بكثير من الشمس فكيف يتم حجب الكبير بالصغير؟ يتم ذلك بسبب القرب والبعد, فينحجب البعيد إذا حال دونه القريب ولو كان أصغر منه, بدليل أن اليد على صغرها تحجب الباب على كبره لبعده وقربها, فلا إشكال من هذه الحيثية, لكن يبقى أن مسألة التخويف بهاتين الآيتين يزول مع الإخبار بوقت الكسوف ووقت انجلاءه, فلا ينبغي الاعتناء بتقرير ذلك قبل وقته, وإذا عُرِف لا ينبغي أن يُلقَى على العامة لكي تبقى الفائدة من حصوله قائمة ويبقى الارتباط بالله جل وعلا, ونحن نرى أثر الإخبار بذلك واضحاً في حياة الناس.
قوله (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم): يعني مرة واحدة, يوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم, وكان هذا في السنة العاشرة في اليوم العاشر أو الرابع - قولان - من ربيع الأول, ومعلوم أنه كالمتفق عليه بين أهل الهيئة أن الشمس لا تنكسف إلا في آخر الشهر, كما أن القمر لا ينخسف إلا في منتصف الشهر. فهنا انكسفت في اليوم العاشر أو الرابع على غير عادتها.
خطب بهم بعد أن صلى بهم صلاة الكسوف, وقد صُرِّح بالخطبة وفي كثير من الروايات لم يُصَرَّح بها, فقال (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) وفي بعض الروايات (يخوف بهما عباده).(18/4)
قوله (لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته): قوله (ولا لحياته) مبالغة في النفي لأنه لم يقل أحد إنهما ينكسفان لحياة عظيم أو شرِّير أو ظالم, وبعضهم يقول إنه يتصور أن يقول أحد إنه يمرض عظيم مرضاً شديداً يقرب من الهلاك فإذا شفي وعوفي قيل إنه حيي.
قد يكون ذكر الحياة مبالغة في النفي, كما قال الراوي في حديث نفي البسملة (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها) ومعلوم أنه ليس في آخر القراءة بسملة, لكن يستعمل مثل هذا الأسلوب للمبالغة في النفي.
جاء الأمر بصلاة الكسوف بقوله في الحديث (وصلوا), وعامة أهل العلم على أن صلاة الكسوف سنة, ونقل النووي الإجماع على أنها سنة, وقد ترجم أبو عوانة في صحيحه (باب وجوب صلاة الكسوف) وأخرج الحديث الذي فيه الأمر الصريح بها, والأصل في الأمر الوجوب, والجماهير قالوا بعدم الوجوب لعموم حديث (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة). وكلام أبي عوانة يقدح في الإجماع الذي نقله النووي.
قوله (فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا): التعقيب بالفاء يدل على أن المسلم إذا رأى ذلك فإنه يفزع إلى الصلاة في أي وقت كان, وبهذا يستدل من يقول إن صلاة الكسوف تُفعَل في أوقات النهي لأن الصلاة عُلِّقت بمجرد الرؤية وقد يحصل ذلك في وقت النهي.
خسوف القمر يمكن أن يحصل بعد صلاة الفجر, أي في وقت النهي, وقد حصل قبل سنوات في هذا الوقت, وبعض الناس لم يعلم به إلا قبيل بزوغ الشمس أي في وقت النهي المغلَّظ, فالذي يقول بوجوب صلاة الكسوف لا إشكال عنده, وأما على قول الأكثر أنها سنة فالذي يقول إنها ذات سبب ويرى جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي كالشافعية لا إشكال عندهم, والذي يرى عدم جواز فعل ذوات الأسباب وغيرها في أوقات النهي فإنه يمنع من هذه الصلاة, فعند الحنابلة والحنفية والمالكية لا تُفعَل صلاة الكسوف في أوقات النهي لأنها سنة وإن كانت ذات سبب إلا أن النهي مقدم على الفعل.(18/5)
قوله (حتى تنكشف): إذا غابت الشمس وهي كاسفة أو طلعت الشمس والقمر خاسف ما ذا يصنعون؟ في الزاد وغيره (وإن غابت الشمس كاسفة أو طلعت والقمر خاسف لم يصلوا), ويعللون هذا بذهاب وقت الانتفاع بهما, لكن الغاية التي تنتهي بها الصلاة هي الانكشاف, وإذا غابت الشمس في حال كسوف الشمس أو طلعت في حال خسوف القمر تكون الغاية التي تنتهي بها الصلاة مجهولة, وكلامهم له وجه.
ما ذا لو فرغ من الصلاة قبل أن تنكشف؟ الجواب: لا يعيد الصلاة, وإنما يلزم الذكر ويكثر من الاستغفار ويلجأ إلى الله جل وعلا بالدعاء ويستمر في ذلك حتى تنكشف.
ماذا لو انكشفت وهو في الصلاة؟ الجواب: يتمها خفيفة.
في البخاري من حديث أبي بكرة قال (فصلوا وادعوا حتى يُكشَف ما بكم) وفي حديث المغيرة قال (فادعوا الله وصلوا): ليكون الدعاء قبل الصلاة وبعدها, فيدعى قبل الصلاة بالانكشاف, ويدعى بعدها إذا سلم من الصلاة قبل الانكشاف.
حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات): هذا نص في أن صلاة الكسوف جهرية, وقد قال بهذا جمع من أهل العلم, سواء كانت في الليل أو في النهار, لأن النبي صلى الله عليه وسلم جهر فيها, والذي حصل في وقته كسوف الشمس بالنهار, فإذا جهر في كسوف الشمس فمن باب أولى أن يجهر في خسوف القمر, والحديث صريح في هذا.
منهم من يرى الإسرار مطلقاً, لحديث ابن عباس (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) ولو جهر بها النبي عليه الصلاة والسلام ما قال ابن عباس (نحواً), فتقديره القراءة بقوله (نحواً) دليل على أنه لم يسمع وإنما لطول القيام قدَّره بسورة. ويجيب أصحاب القول الأول - ومعهم التصريح بأنه جهر فيها عليه الصلاة والسلام - بأنه يحتمل أن ابن عباس كان بعيداً عن النبي عليه الصلاة والسلام فلم يسمع جهره بالقراءة.(18/6)
منهم من يقول إنه مخير بين الجهر والإسرار عملاً بالحديثين, لكن مثل هذا التخيير إنما يكون لو تعددت القصة ويكون النبي عليه الصلاة والسلام مرةً جهر بها ومرةً أسر بها, ولما كانت القصة الواحدة فهو إما أن يكون قد جهر وإما أن يكون قد أسر, والمشروع موافقة فعله عليه الصلاة والسلام.
القول الرابع أن كل صلاة من صلاتي الكسوف الليلية والنهارية - كسوف الشمس وخسوف القمر - تعامل معاملة الصلاة المفروضة, فإذا كسفت الشمس بالنهار فإن الصلاة تكون سرية كصلاتي الظهر والعصر, وإذا خسف القمر بالليل فإن الصلاة تكون جهرية كصلاتي المغرب والعشاء, وهؤلاء يستدلون بحديث ابن عباس على الإسرار في حال كسوف الشمس, وأما خسوف القمر بالليل فلكونه لم يحصل في عهده عليه الصلاة والسلام فإنه يقاس على صلاة الليل في الجهر.
لكن الجهر مطلقاً هو الذي صُرِّح به في الأحاديث الصحيحة, وما عدا ذلك وإن كان صحيحاً إلا أنه ليس بصريح, بل هو محتمل, كحديث ابن عباس.
وفي رواية لمسلم (فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة): يجوز الرفع (الصلاةُ جامعةٌ) مبتدأ وخبر, ويجوز النصب (الصلاةَ جامعةً) فيكون منصوباً على الإغراء, أو يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره (احضروا الصلاة) ويكون قوله (جامعةً) منصوباً على أنه حال, أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة.
في هذه الرواية دليل على أن النداء لصلاة الكسوف بهذه الصيغة مشروع. وإذا احتاج إلى تكرار ذلك كرَّر وإلا فلا.(18/7)
حديث ابن عباس (انخسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة, ثم ركع ركوعاً طويلاً, ثم رفع فقام قياماً طويلاً, وهو دون القيام الأول, ثم ركع ركوعاً طويلاً, وهو دون الركوع الأول, ثم سجد, ثم قام قياماً طويلاً, وهو دون القيام الأول, ثم ركع ركوعاً طويلاً, وهو دون الركوع الأول, ثم رفع فقام قياماً طويلاً, وهو دون القيام الأول, ثم ركع ركوعاً طويلاً, وهو دون الركوع الأول, ثم سجد, ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس): مذهب الحنفية أن صلاة الكسوف ركعتان لا صفة لهما زائدة, بل يصلي ركعتين كما يصلي صلاة الفجر, ويذكرون في هذا حديثاً (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا كأقرب صلاة صليتموها من المكتوبة), وأقرب صلاة من المكتوبة بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام صلاة الصبح, وهذا الحديث الذي ذكروه في ثبوته نظر, وكيف تُتْرَك مثل هذه النصوص الصحيحة الصريحة المفسَّرة المفصَّلة لخبرٍ مجمل لا يرقى لمعارضتها؟!! فقول الحنفية مرجوح.
جاء في صفة السجود في صلاة الكسوف أنه طويل جداً.
ما المراد بالأول في جميع ألفاظ الحديث؟ هل المراد به الأولية المطلقة بمعنى أنه يتميز القيام الأول الذي قرأ فيه نحواً من قراءة سورة البقرة؟ وقل مثل هذا في الركوع والسجود, أو المراد به الأولية النسبية بمعنى أن كل قيام وكل ركوع وكل سجود أول بالنسبة للذي يليه؟ اللفظ محتمل.(18/8)
إذا قيل إن الأولية مطلقة فإنه يتميز بالطول القيام الأول فقط وهو الذي قرأ فيه نحواً من قراءة سورة البقرة, وتكون الثلاثة قيامات التالية كلها دون الأول الذي قرأ فيه نحواً من سورة البقرة وتكون هذه القيامات الثلاثة متقاربة في الطول, وإذا قيل إن الأولية أولية نسبية فكل واحد من القيامات أول بالنسبة لما يليه, فيكون الأطول هو الأول ثم الثاني دونه ثم الثالث دون الثاني ثم الرابع دون الثالث, وقل مثل هذا في الركوع والسجود.
المعروف من صلاته عليه الصلاة والسلام أنه يطيل في الأولى ثم الثانية أقصر منها ثم الثالثة أقصر من الثانية وهكذا, لأن الناس يدخلون الصلاة بهمة وعزيمة ونشاط ثم يدب فيهم التعب, فالمرجح هو الاحتمال الثاني.
لما وصل إلى القيام الرابع رأى الشمس لم تنجلي فزاد في طول هذا القيام وجعله أطول من القيام الثالث: هذا خلاف السنة المذكورة في هذا الحديث, حتى لو اجتهد وقال إنه يريد أن يستمر في الصلاة حتى تنجلي, ففعله هذا خلاف السنة.
قوله (ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس): في رواية (حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله - الحديث - ).
في قوله (فخطب الناس) دليل على أن صلاة الكسوف تشرع لها الخطبة, وبهذا قال الشافعية, ومن أهل العلم من يرى أنه لا خطبة لصلاة الكسوف وإنما هذه موعظة وليست بخطبة, فليست لها مراسم الخطبة بحيث يرقى المنبر ويحمد الله ويثني عليه ويأتي بأركان الخطبة وشروطها, وإنما هي كلمة توجيهية بعد الصلاة للتنبيه على خطأ وقعوا فيه, فإذا كان الناس بحاجة إلى التنبيه على شيءٍ بعينه فإنه يتكلم بعد الصلاة ويرشدهم, وإذا لم يكونوا بحاجة فليس هناك خطبة.
لكن قوله (فخطب الناس) صريح, اللهم إلا أن يكون هذا من فهم الراوي, بحيث يكون فهم أن هذا التوجيه كان خطبة, ولغيره أن يفهم أن هذا كان تنبيهاً على خطأ وقعوا فيه.(18/9)
أكثر أهل العلم على أنها للحاجة الداعية إلى ذلك, وليست هناك خطبة.
حديث عائشة وحديث ابن عباس في الصحيحين, المتفق عليه أنها ركعتان, وفي كل ركعة ركوعان.
وفي رواية لمسلم (صلى حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات): أي أربعة ركوعات في الركعة الأولى وأربعة ركوعات في الركعة الثانية.
ولمسلم عن جابر (صلى ست ركعات بأربع سجدات): أي ثلاثة ركوعات في الركعة الأولى وثلاثة ركوعات في الركعة الثانية.
ولأبي داود عن أبي بن كعب (صلى فركع خمس ركعات وسجد سجدتين, وفعل في الثانية مثل ذلك): أي خمسة ركوعات في الركعة الأولى وخمسة ركوعات في الركعة الثانية, والمجموع عشرة ركوعات.
أما ما جاء في سنن أبي داود فهو خبرٌ منكر, لأن في إسناده أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان وهو ضعيف, وهو أيضاً مخالف لما في الصحيحين, لكن ماذا نقول عما جاء في صحيح مسلم؟ هل نقول إن جميع الصور جائزة, وهي حكاية حال وقعت من النبي عليه الصلاة والسلام؟ أو نقول إن القصة تعددت كما قال بعضهم؟ أهل السير يقررون أن القصة لم تتعدد, لم تحصل إلا مرة واحدة, وشيخ الإسلام يقرر ذلك وأنها لم تحصل إلا مرة واحدة وأن إبراهيم لم يمت إلا مرة واحدة, لأنها كلها فيها أن الشمس كسفت لما مات إبراهيم.
أهل العلم لهم في مثل هذا مسلكان: المسلك الأول هو الجزم, وهو أنه يُحكَم للرواية الراجحة بأنها هي المحفوظة, وهي هنا المتفق عليها, وعلى هذا يكون ما عداها شاذاً, ولذا حكموا على رواية مسلم بأنها شاذة لمخالفتها الرواية المتفق عليها في الصحيحين, والمسلك الثاني يسلكه من يحرص على صيانة الصحيحين من أن يوجد فيهما الشاذ - الذي هو من قبيل الضعيف – فيحكم بتعدد القصة, ويوهِّم أهل المغازي والسير, ويرى أن القصة حصلت أكثر من مرة لأنه ورد في الصحيح ما يدل على ذلك, فتخطئة أهل المغازي والسير أهون من التطاول على صحيح مسلم مثلاً.(18/10)
من أهل العلم من يجزم ويقول: لا مانع أن يثبت الخبر إلى الصحابي على الشرط الذي اشترطه صاحب الكتاب, وحينئذ لا يكون خرج عن شرطه, ولا يمنع أن الصحابي أخطأ.
مثل حديث ابن عباس في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب ميمونة وهو محرم, وفي الصحيح أيضاً من حديث ميمونة نفسها ومن حديث أبي بكرة السفير بينهما أنه كان حلالاً, فالسند إلى ابن عباس لا إشكال فيه فهو على شرط الصحيح, لكن يبقى أن ابن عباس وَهِم, ومن يسلم من الوهم والخطأ؟!!. فيُحكَم على ما في الصحيح بأنه غير محفوظ لمخالفته ما هو أرجح منه.
بعض الناس يتوسع فيقول بتعدد القصة لتعدد السياق ولو كان الاختلاف فيه بين الروايات من اختلاف الرواة لا في أصل القصة, ومنهم من يتوسط فلا يحكم بتعدد القصة إلا إذا تغيرت القصة تغيراً جذرياً بحيث لا يمكن التوفيق بينها وبين غيرها.
جمهور أهل العلم أخذوا بالصورة الأولى المتفق عليها التي ذكرها ابن عباس, وبعض أهل العلم أخذ بالصورة الثانية, وكل واحد من الصحابة أخذ بنوعٍ من أنواعها.
يقول ابن القيم رحمه الله: كبار الأئمة لا يصححون التعدد - كالإمام أحمد والبخاري والشافعي - ويرونه غلطاً. وهذه قاعدة في كل ما اختلف فيه السياق بحيث لا يمكن التوفيق بين هذا الاختلاف من سياقٍ لآخر. يكون الاختلاف في المعنى لا في اللفظ, لأن الاختلاف في اللفظ أمره سهل لتجويزهم الرواية بالمعنى.
حديث ابن عباس (ما هبت ريحٌ قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: اللهم اجعلها رحمةً ولا تجعلها عذاباً): هذا الحديث ضعيف, لأن الشافعي يرويه من طريق من لا يتهم, وهو إبراهيم بن أبي يحيى, وهو ضعيف جداً, وعامة أهل العلم على تضعيفه. ويرويه الطبراني من طريق حسين بن قيس الملقب بـ(حنش), وهو متروك.
على الإنسان إذا هبت الريح أن يهتم لها, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم, فكان يتغير لونه ويخرج ويدخل, يخشى أن تكون عذاباً.(18/11)
صلاة الكسوف من ذوات الأسباب.
حديث ابن عباس (أنه صلى في زلزلةٍ ست ركعات وأربع سجدات وقال: هكذا صلاة الآيات): إسناده ضعيف.
صلاة الآيات لم يرد فيها شيءٌ مرفوع, وإنما ورد عن بعض الصحابة أنهم صلوا, ولذا وقع الخلاف في هذه الصلاة.
الصلاة عند حصول الآيات مثل الزلازل والبراكين وغيرها من الأمور التي ضررها عام: منهم من يقول إن الصلاة فيها من باب أولى لأن ضررها المحسوس أعظم من ضرر كسوف الشمس, وهذا مروي عن بعض الصحابة ومن بعدهم من الأئمة, ومنهم من يقول إن الصلاة توقيفية, فلا نصلي إلا إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى, وعلى هذا لا نصلي إلا في الكسوف, وإذا شرعنا صلاة لم يثبت فيها شيء عن الله وعن رسوله نكون قد دخلنا في حيز البدعة, وما روي عن الصحابة فيه ضعف.
أخرج البيهقي من طريق عبد الله بن الحارث في خبر ابن عباس أنه كان في زلزلة في البصرة فصلى صلاة الزلزلة.
وعلى كل حال العبادات توقيفية, وليس في الباب ما تقوم به حجة, فليُقتَصر في هذا على صلاة الكسوف, وأما في غيرها من أوقات الشدائد يُلجَأ إلى الله جل وعلا بالدعاء والتضرع.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك عشية يوم الاثنين التاسع من رجب عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده بُعَيْدَ غروب شمس يوم الخميس الثاني عشر من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(18/12)
مهمات شرح باب صلاة المسافر والمريض من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
ذكر الشيخ أنه لا يجيز لأحدٍ أن يلتقط له صورة لأن المترجح عنده تحريم التصوير لذوات الأرواح بجميع صوره وأشكاله وآلاته.
حديث عائشة (أول ما فرضت الصلاة ركعتين – الحديث - ): الفرض يأتي بمعنى التقدير ومنه الفرائض المقدرة في كتاب الله عز وجل, ويأتي بمعنى الإيجاب والإلزام, وعلى هذا فإن دلالة الحديث محتملة.
على القول بأن معنى الفرض في الحديث التقدير فالمعنى (أول ما قُدِّرت الصلاة) وهو قول الجمهور, فليس هذا عندهم على سبيل الإيجاب. وأما الحنفية فإنهم يرون أن معنى الفرض في الحديث الإيجاب والإلزام فالمعنى (أوجبت), ليستمر هذا الوجوب بعد أن أقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر.
بناءً على هذا: القصر في السفر رخصة عند الجمهور ويقول بعضهم إنه عزيمة لكن لا على سبيل الوجوب, وعند الحنفية القصر في السفر واجب لأن قولها (فُرِضَت) معناه (أُوجِبَت) واستمر هذا الإيجاب ولم ينسخ ولم يُغَيَّر, وإنما الذي غُيِّر حكم صلاة الحضر.
أدلة الجمهور كثيرة ومنها قوله تعالى (فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) ورفع الجناح يقتضي رفع الإثم ولا يقتضي وجوب القصر.
قد يقول قائل إن القصر في الآية مع كونه رُفِعَ فيه الجناح وهو الإثم فهو مشروط بالخوف للقيد الذي في الآية (إن خفتم) وهذا شرط, وعلى هذا فالسفر وحده لا يستقل بالقصر بل لا بد معه من خوف.
لكن الذي استقر عليه عمل الأمة جواز القصر في السفر ولو بدون خوف, وهي صدقة تصدق الله بها كما قال عمر رضي الله عنه وقصر النبي عليه الصلاة والسلام وقصر أصحابه من بعده من غير خوف, وهذا من الأحكام التي شرعت لسبب وارتفع السبب وبقي الحكم كالرمل في الطواف.(19/1)
آية السعي (فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما): الجمهور على أن السعي ركن خلافاً للحنفية القائلين بأن رفع الجناح في الآية لا يقتضي الوجوب في آية السعي. فالجمهور لا يقولون في آية السعي بمثل ما يقولون به في آية القصر, والحنفية لا يقولون في آية القصر بمثل ما يقولون به في آية السعي.
إذاً المعول في الحكمين – حكم القصر وحكم السعي - على النصوص المفسرة للآيتين.
الجمهور عندهم ما يدل على ركنية السعي مما يجعل الآية تفيد وجوبه بل ركنيته, والمناظرة بين عائشة وعروة في آية السعي معروفة, ومعروف أن سبب نزول الآية أنهم كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأن العرب قبل الإسلام يسعون بينهما بين صنمين فتحرجوا من شرعية السعي فرفع هذا الحرج والجناح بالآية.
أفاد قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) أن المتعجل لا إثم عليه والمتأخر لا إثم عليه, لكن هل الحاج جاء لمجرد رفع الإثم لبقائه أو استعجاله؟ أو جاء طلباً للمغفرة كما في حديث (من حج فلم يرفث – الحديث - )؟ الجواب: المعنى المعتمد في الآية أنها مطابقة للحديث ويستوي في ذلك من تأخر ومن تعجل, شريطة أن يتقي الله جل وعلا في حجه, فإذا اتقى الله في حجه فإنه يرتفع عنه الإثم ويرجع مغفوراً له سواء تعجل أو تأخر شريطة أن يتقي الله جل وعلا في حجه, ولا يقال إن التقوى شرط للتأخر دون التعجل. فمعنى قوله (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) أنه يرتفع عنه الإثم الذي ارتكبه قبل حجه شريطة أن يتقي الله جل وعلا في حجه سواء تعجل أو تأخر, ويكون مفاد الآية هو مفاد الحديث, لأن رفع الجناح ورفع الإثم الأصل فيه أن يرجع لا له ولا عليه, لكن المراد تقريره في الآية والحديث بيان فضل الحج.
الحنفية يستدلون بهذا الحديث على وجوب القصر والجمهور يستدلون بهذا الحديث على عدم وجوب القصر, والحديث محتمل للمعنيين.(19/2)
القصر عند الحنفية واجب وليس بفرض, مع أن الحديث جاء بلفظ الفرض, والسبب أن لهم اصطلاحاً خاصاً للتفريق بين الفرض والواجب, وهو أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي والواجب ما ثبت بدليل ظني, فالآية المقررة لمشروعية القصر قطعية الثبوت لكن دلالتها على الإلزام ظنية عندهم, والحديث من الأصل ظني الثبوت والدلالة. وزكاة الفطر عندهم واجبة وليست بفرض مع أن الصحابي قال في الحديث (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الاصطلاحات العلمية ينبغي أن تكون موافقة للألفاظ الشرعية: يقول النبي عليه الصلاة والسلام (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ويقول جماهير العلماء إنه ليس بواجب, هل هذه محادة للنص من هؤلاء الأئمة؟ الجواب: هذا اختلاف في الحقائق, اختلاف بين حقيقة شرعية وحقيقة عرفية - أي عرف خاص عند أهل العلم – فليس في ذلك محادة للنص, لأن حقيقة الواجب في لسان الشارع تختلف عن حقيقة الواجب في الاصطلاح.
مثالٌ آخر: لو قال شخص (أنا لم أرَ في حياتي جملاً أصفر) مع أن الله تعالى قال (كأنها جِمَالتٌ صفر) فهل في هذا معاندة ومصادمة للنص؟ الجواب: هذا القائل نظر إلى الإبل من ناحية الحقيقة العرفية, فليس هناك جمل باللون الأصفر المعروف, ولو أتيت إلى أعرابي وقلت (جملك هذا لونه بيج) لحكم عليك بالسفه لأن الحقيقة العرفية عنده تختلف عن الحقيقة العرفية عندك.
مثالٌ آخر: تعريف العزيز عند أهل العلم ما يتفرد بروايته اثنان ولو في طبقة من طبقات الإسناد, والله جل وعلا يقول (فعززنا بثالث) فلم لا يكون العزيز مروي ثلاثة؟..
نظراً لاختلاف هذه الحقائق يسهل الأمر ولا يكون هناك مصادمة ومعاندة, لأنه مع انفكاك الجهة يهون الأمر, لأن كل شخص ينظر إلى الشيء من زاوية معينة, بخلاف ما إذا اتحدت الجهة, فإنه حينئذٍ لا مندوحة من لزوم الألفاظ الشرعية.(19/3)
كلما قربت الاصطلاحات العلمية من الألفاظ الشرعية فهو الأولى, لكن إذا نظرنا في اصطلاحات أهل العلم وجدنا شيئاً من هذه الفوارق, ومردها اختلاف الحقائق العرفية مع الحقائق الشرعية, وبينا أنه قد يأتي في الشرع للفظ الواحد أكثر من حقيقة شرعية.
قولها (أقرت صلاة السفر): أي أقرت صلاة السفر على الفرض الأول على أنها ركعتين, والمراد بذلك ما عدا المغرب.
قولها (وأتمت صلاة الحضر): أي أتمت صلاة الحضر أربع ركعات, ما عدا الصبح.
زاد أحمد – يعني في حديث عائشة – (إلا المغرب فإنها وتر النهار وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة): المغرب تؤدى بعد غروب الشمس فهي ليلية, فكيف تكون وتر النهار؟!! وتر صلاة الليل يقع في الليل ووتر صلاة النهار يقع في الليل؟!! الجواب: لوقوعها بعد صلوات النهار كأنها ختمت بها صلاة النهار.
نظير ذلك القول بأن رمي جمرة العقبة تحية منى, وجمرة العقبة فيها خلاف هل هي داخل منى أو خارج منى, والذي يقول إنها خارج منى يقول إن رميها تحية منى ولو كانت خارج منى, كالطواف تحية البيت الذي هو الكعبة مع أنه خارج البيت.
قولها (وإلا الصبح فإنها تطول فيها القراءة): ولذا عُبِّرَ عنها بالقرآن كما في قوله جل وعلا (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) والمقصود بذلك صلاة الصبح, لأن القراءة أطول أجزاء الصلاة, فعُبِّرَ بالجزء الأعظم عن الكل, وشأن صلاة الصبح وكونها مشهودة أمرٌ لا يخفى جاءت به النصوص, وجاء التشديد فيها وأن من صلاها في جماعة كان في ذمة الله حتى يمسي وأنها أثقل الصلوات على المنافقين, ومن أراد بيان هذا الأمر فليرجع إلى طريق الهجرتين لابن القيم, فإنه لما شرح حال المقربين ذكر أنهم يتقدمون إلى صلاة الصبح ويحرصون على أن يكونوا قرب الإمام ليقبلوا على صلاتهم ويسمعوا قراءة إمامهم, وبَيَّن أن لها شأناً عظيماً.(19/4)
صلاة الصبح لم تزد عن ركعتين لأنها تُطَوَّلُ فيها القراءة, فطول القراءة فيها عِوَضٌ عن جعلها أربع ركعات.
حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويصوم ويفطر) قال فيه الحافظ (رواه الدارقطني ورواته ثقات إلا أنه معلول): إذا كان الحديث رواته ثقات لا يلزم من ذلك أن يكون متنه صحيحاً, وإذا كان الرواة غير ثقات لا يلزم من ذلك أن يكون المتن ضعيفاً, فلا تلازم بين صحة السند وصحة المتن, ولا شك أن الأسانيد للمتون كالقوائم, وحديث لا إسناد له لا قيمة له, لكن قد يوجد الحديث بإسناد صحيح والرواة ثقات إلا أن المتن غير صحيح, فقد يهم الراوي الثقة, وقد يخطئ فيخالف من هو أوثق منه. كما أنه قد يروى الخبر بسندٍ فيه كلام ويصح المتن لوروده من طرقٍ أخرى فلا تلازم حينئذ بين صحة المتن وصحة السند.
قوله (والمحفوظ عن عائشة من فعلها وقالت: إنه لا يشق علي): المحفوظ يقابله الشاذ والمعروف يقابله المنكر, الطريق الأول رواته ثقات إلا أنه شاذ, والمحفوظ الذي يقابل الشاذ مروي عن عائشة من فعلها.
نقل ابن القيم في زاد المعاد أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال في الرواية الأولى (كَذِبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقرر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتم في السفر ولم يصم في السفر.
قولها (إنه لا يشق علي): كأنها تقول إنه إنما خفف عن المسافر لأجل المشقة وأن الأصل هو الإتمام ومادام أن الإتمام لا يشق عليها وهو الأصل فإنها تتم, كما فهم ابن عمرو أن نهيه عن قراءة القرآن في أقل من سبع إنما هو من أجل الإشفاق عليه ومادام لا يشق عليه والثواب يكون أكثر إذا قرأ في أقل من سبع فإنه يطلب الزيادة من الأجر.
ثبت عن عائشة أنها أتمت وثبت عن عثمان أنه أتم, وعائشة تأولت كما تأول عثمان, رضي الله عن الجميع, لكن يبقى أن الأفضل هو القصر, لأنه لم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتم في السفر.(19/5)
ابن القيم يقول في الرواية الأولى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقصر في السفر وتتم – يعني عائشة – ويصوم وتفطر – يعني عائشة - .
بعضهم يربأ بأم المؤمنين رضي الله عنها أن تخالف النبي عليه الصلاة والسلام وهي معه, والرواية التي ذكرها ابن القيم يؤتى بها لتتفق مع ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يتم ألبتة, وأما الصيام فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صام في السفر وثبت عنه أنه أفطر في السفر.
حديث عبد الله بن عمر (إن الله يحب أن تؤتى رخصه – الحديث - ): في هذا الحديث إثبات أن الله جل وعلا يحب ويكره على ما يليق بجلاله وعظمته من غير مشابهةٍ للمخلوق.
إذا كان المخلوق يسره أن تُقبَل هبته وهديته فكيف بالخالق الكريم المتفضل؟ فهو سبحانه يحب أن تؤتى رخصه.
الرخصة عند أهل العلم ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح, فالقصر رخصة والفطر في السفر رخصة والمسح ثلاثة أيام بلياليها رخصة وأكل الميتة للمضطر رخصة, هذا كله ثبت على خلاف الأصل, أي على خلاف الدليل الشرعي, فالأصل الإتمام والأصل المسح يوماً وليلة لأن الغالب حال الإقامة فتكون هي الأصل, والسفر أمر طارئ على خلاف الأصل, وهذه الرخصة جاءت على خلاف الأصل المقرر لمعارض راجح وهو الأدلة الثابتة في حقها. والعزيمة ما ثبت على وفق الدليل الشرعي مع عدم المعارض.
منهم من يقول إن الرخصة ما دام أنها ثبتت بدليل مستقل فلا يقال إنها على خلاف الدليل الشرعي, بل هي على وفق الدليل الشرعي, فهي وإن خالفت دليلاً إلا أنها وافقت دليلاً آخر, فالكل موافق للدليل الشرعي, إذاً كيف نفرق بين الرخص والعزيمة؟ الجواب: الرخصة ما فيه سهولة وتسهيل وتيسير بخلاف العزيمة, فالعزيمة جاءت على الأصل في التكاليف وأنها إلزام ما فيه كلفة والرخصة تقليل لهذه التكاليف وتسهيل وتيسير على المكلف.(19/6)
هل كون العزيمة جاءت قبل فإن محبة العزيمة هي الأصل المشبَّه به في قوله (كما يحب أن تؤتى عزائمه) ومحبة الرخصة فرع مقيس عليه مشبَّه, والأصل أن المشبَّه أقل من المشبَّه به, فالرخص شبهت في محبة الله جل وعلا لها وإتيانها بالعزائم في محبة الله جل وعلا لها وإتيانها, والأصل أن يكون تشبيه الرخصة بالعزيمة أن تكون العزيمة أفضل من الرخصة لأن المشبَّه به أقوى من المشبَّه في باب التشبيه, فإذا قلت (زيد كالأسد) فالأصل أن يكون المشبَّه وهو زيد أقل من المشبَّه به وهو الأسد, وعلى هذا هل في الحديث ما يدل على تفضيل الرخصة على العزيمة أو العكس؟
الأصل العزائم, والعزائم إذا لم يوجد مبيح لتركها فليست المسألة مسألة محبة فقط بل المسألة مسألة ترتيب عقاب على تركها, وبعضهم يفهم من مثل هذا السياق ترجيح الرخص على العزائم عند قيام سببها فيرجحون القصر على الإتمام ويرجحون الفطر على الصيام, لكن الرخص ليست على مستوىً واحد إذا نظرنا إليها مجردة, فلو افترضنا أن شخصاً في آخر رمق وما بقي إلا الموت من الجوع ووجد ميتة هل يقال الأفضل أن يأكل أو الأفضل أن يترك؟ جمع من أهل العلم يقولون يجب عليه أن يأكل حفظاً للنفس, لكن إذا قرر الأطباء أن زيداً من الناس إن لم يعالج مات فهل يجب عليه العلاج؟ بالنسبة للأكل من الميتة حفظ النفس متحقق وأما بالنسبة للعلاج فهو مظنون ولذا يقول شيخ الإسلام (لا أعلم سالفاً – يعني من السلف – أوجب العلاج).(19/7)
على كل حال مسألة الأفضل في القصر والإتمام والصيام والفطر مسألة خلافية بين أهل العلم, والذي يميل إليه جمع من المحققين تقديم إتيان الرخص على العزائم, وأن العزائم تبقى في موضعها والرخص تبقى في موضعها, وأن الإنسان يتصرف مع النصوص كيفما دارت, وما دام النبي عليه الصلاة والسلام لم يحفظ عنه أنه أتم في السفر فالقصر أفضل, وأما بالنسبة للصيام فالنصوص مجتمعة تدل على أنه إذا كان الصيام لا يشق فهو من أفضل الأعمال, وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام في السفر, وإذا كان يشق فثبت عنه أنه قال في الصائمين في السفر (أولائك العصاة) وقال (ليس من البر الصيام في السفر) وقال (ذهب المفطرون بالأجر) وهذا مع المشقة.
حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين): الميل يعادل كيلومترين إلا ثلث, وثلاثة الأميال تعادل خمسة كيلومترات, والفرسخ الواحد يعادل ثلاثة أميال, وثلاثة الفراسخ تعادل خمسة عشر كيلومتراً.
(أو) في الحديث للشك والتصريح في الصحيح أن الشك من شعبة.
الحديث يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال قصر الصلاة, وقد صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين, وذو الحليفة قريبة جداً من المدينة, المسافة بينها وبين المدينة أقل من فرسخ, وعلى هذا يحمل حديث الباب على مفهوم الحديث الثاني, فحديث الباب يفيد أنه يترخص بمجرد ما يخرج من عامر البلد ويتلبس بالوصف الذي عُلِّقَ به الترخص, وهذا الوصف هو السفر.
ليس في حديث الباب ما يدل على تحديد مسافة السفر وأنه إذا كانت هذه المسافة هي منتهى السفر يعتبر مسافراً وله أن يترخص, بل فيه دليل على أنه بمجرد ما يفارق البلد ولم تكن غاية السفر إلى هذه المسافة فإنه يباشر الرخص, لأن النبي عليه الصلاة والسلام قصر في أقل من فرسخ في ذي الحليفة, لكن ليس هذا منتهى السفر.(19/8)
الوصف الذي عُلِّقَ به الترخص هو السفر, فلا بد من التلبس بهذا الوصف ليتم الترخص, وعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يسافر ولم يخرج من البلد وكان عازماً على السفر فليس له أن يقصر قبل أن يتلبس بالسبب المبيح, وجاء في حديث أنس أنه لما أراد أن يسافر وقبل أن يخرج أفطر ورفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وفي هذا تنزيل للعزم منزلة الفعل, ولو ثبت هذا الحديث الذي صححه بعض المتأخرين لكان حجة, لكن الحديث فيه مقال, فيبقى أن السبب المبيح للقصر وللفطر هو السفر, ولا يجوز أن يترخص الإنسان حتى يباشر السبب الذي عُلِّقَ عليه الترخص.
إذا كان البلد له مطار, وهناك فاصل بين البلد وبين المطار, فإذا فارق البنيان وكان في المطار هل له أن يترخص؟ الجواب: ليس له أن يترخص, لأنه ما دام في مطار البلد فهو لم يفارق البلد, والمساحة التي بين المطار وبين البلد بمثابة الفجوات التي توجد داخل المدن, ولذلك إذا وصل إلى مطار الرياض مثلاً قيل (وصلنا إلى الرياض) بمجرد وصول المطار, فالمطار من البلد, والذي في المطار لم يباشر السبب مادام باقياً في المطار, ولا يقال إنه مسافر حتى يفارق هذا العامر.
قد يوجد من يفتي بأنه إذا كان في المطار فإنه قد خرج من البلد وترك البلد وراء ظهره وينظرون في هذا إلى مصلحة تحصيل الوقت أو تحصل الإتيان بالصلاة على وجهها, لأنه قد يتواجد في المطار في وقت صلاة الظهر مثلاً والسفر طويل وإن لم يجمع إليها العصر وأخرها إلى أن يصل إلى المطار الثاني يكون الوقت قد خرج, وإن صلى على حسب حاله في الطائرة فإنه يأتي بالصلاة على وجهٍ فيه شيء من الخلل يقتضيه ظرف الركوب وظرف المكان, فهم تحصيلاً لمصلحة الإتيان بالصلاة على وجهها يفتون بجواز جمع التقديم في هذه الحال باعتبار أن المطار خارج البلد, لكن يبقى أن المسألة مسألة شرعية معلقة بوصف, فالأمر عظيم, وما دام في المطار فإنه لم يفارق البلد فليس له أن يترخص حال كونه في المطار.(19/9)
مسافة القصر مسألة خلافية بين أهل العلم, والجمهور على تحديد المسافة والأكثر على مسيرة يومين أربعة برد ثمانين كيلومتراً, فإذا وجدت هذه المسافة جاز الترخص.
يجوز الترخص إذا كان الباعث على السفر مباحاً أو مستحباً أو واجباً, وأما إذا كان السفر سفر معصية فالجمهور على أنه لا يترخص لأنه ينبغي ألا يُعَان على تحصيل معصيته, والرخص لا شك أنها إعانة للمسافر, وعند الحنفية يجوز له أن يترخص لأن الحكم عُلِّقَ بسبب ووُجِدَ السبب بغض النظر عن الأهداف والمقاصد.
لكن إذا قلنا للمسافر في سفر معصية (بدلاً من أن تصلي أربع ركعات صل ركعتين) فكأننا نقول له (اغتنم الوقت لتحصيل هذه المعصية), ولذا جاء في الأكل من الميتة للمضطر التقييد بكونه غير باغٍ ولا عادٍ فدل على أنه لو كان باغياً أو عادياً فإنه لا يجوز له أن يأكل من الميتة, ويقاس عليها بقية الرخص, فلا يجوز له أن يقصر ولا يجوز له أن يجمع ولا يجوز له أن يمسح أكثر من يوم وليلة ولا يجوز له أن يأكل من لحم الميتة فليس له أن يترخص ما دام عاصياً في سفره.
منهم من يقول بأن المسافة مسيرة يوم للنهي عن سفر المرأة بغير محرم مسيرة يوم, وكأن هذا هو المرجح عند الإمام البخاري, ومسيرة اليوم تقدر بأربعين كيلومتراً.
حينما تربط المسافة بالوقت وتقدر هذه المدة المقررة بالكيلومترات يصير المرجع المسافة لا الوقت والمدة, والجمهور قدروا المسافة حتى قالوا (ولو قطعها في ساعة).(19/10)
جاء أيضاً النهي عن أن تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم وجاء أيضاً النهي عن ذلك من غير تقييد فدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر ولا يجوز لها أن تباشر السفر ولا يجوز لها أن تخرج من البلد إلا بمحرم والمدة غير مرادة بدليل تفاوت هذه الأزمنة, فلا يجوز للمرأة بحال أن تخرج من البلد بغير محرم, فمفهوم المدة غير مراد لأنها جاءت متفاوتة, والذين استدلوا بهذه الأحاديث على تقدير مسافة القصر اعتمدوا المسافة فصارت المسافة هي المرجع لا الوقت, والأكثر على اعتماد مسيرة يومين مرحلتين ثمانين كيلومتراً كالمسافة من مكة إلى الطائف أو من مكة إلى جدة أو من مكة إلى عسفان كما يقول الصحابة, وما دون ذلك فليس بمسافة قصر.
من أهل العلم من يرى أنه لا تحدد المسافة بمقدار معين لأنها جاءت مطلقة في النصوص, وكيف نحدد ونقيد ما أطلقه الله جل وعلا في كتابه؟!! وهذا ما يراه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. يقول رحمه الله (جاء السفر غير مقيد - لا مدة ولا مسافة - فكيف نقيد ما أطلقه الله جل وعلا).
التقييد بأربعة بُرُد - ثمانين كيلومتر - ثابت عن الصحابة, ورأي شيخ الإسلام وجيه, والأدلة التي يعتمد عليها الجمهور قد لا تكون في صراحتها في الدلالة على المطلوب بقوة ما يقوله شيخ الإسلام, لكن إذا نظرنا إلى الآثار المترتبة على إطلاق السفر في مسافته وفي مدة الإقامة وجدنا أن التحديد وسلوك مذهب الجمهور أضبط وأحوط للعبادة. وكان الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى يفتي بقول شيخ الإسلام ثم رجع عنه إلى قول الجمهور لأنه أضبط للعبادة.
المشقة غير منظور إليها في تحديد مسمى السفر, وإن كان الأصل في السفر أنه شاق, والرخص إنما جاءت لإزالة هذه المشقة, لكن ومع ذلك فإن من سافر بدون مشقة إطلاقاً لا يمنع من الترخص.(19/11)
السفر في لغة العرب من البروز فإذا قيل (سافر فلان) فالمعنى (برز عن بلده), وقيل سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ويبرزها, ومنه قيل للمرأة التي تبرز محاسنها سافرة.
السلف بما في ذلك بعض الصحابة فهموا أن السفر لا بد من ضبطه, والشيخ ابن باز كان يفتي بالإطلاق بقول شيخ الإسلام ثم رأى أن المصلحة في ضبط الأمر ولا ينضبط الناس إلا بتقدير معين في المسافة والمدة التي هي أربعة أيام.
لا يقال إن أثر السفر هو الضابط اعتماداً على ما جاء في حديث جبريل (ولا يرى عليه أثر السفر) لأنه يوجد في هذه الأزمان من يسافر ألوف الأميال ومع ذلك لا يرى عليه أثر السفر, فلا يُمنَع من الترخص, وقد يحصل للمقيم من الأثر أكثر مما يحصل للمسافر في هذه الأزمان.
ما يستدل به الجمهور قد لا يقوى على الدعوى, لكن الإطلاق الذي يميل إليه شيخ الإسلام ومن يقول بقوله لا يمكن ضبطه, والصحابة الذين هم سادة الأمة أولى بالتقليد من غيرهم.
حديث أنس (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة): معلوم أن مدة السفر في الذهاب عشرة أيام, فهم خرجوا من المدينة لخمس بقين من القعدة ودخلوا مكة لخمس مضين من ذي الحجة, ومكثوا اليوم الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر, وهذه تسعة أيام, ثم عادوا إلى المدينة وقل إن الإياب مثل الذهاب عشرة أيام, والمجموع تسعة وعشرون يوماً, فمنذ أن خرج من المدينة إلى أن رجع إليها وهو يصلي ركعتين, وإن كان الاحتمال قائم في خروجهم هذا هل هو في عام الفتح و في عام حجة الوداع, والمسألة محتملة. فهل يقال إن هذه المدة هي الحد في الترخص؟ أو يقال إن للمسافر أن يترخص ولو زادت المدة على هذه؟.(19/12)
حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر – يعني يوماً – يقصر الصلاة) وفي لفظ (بمكة تسعة عشر يوماً) وفي رواية لأبي داود (سبع عشرة): يمكن التوفيق بين الروايتين بأن يقال إن يومي الدخول والخروج داخلان في الرواية الأولى (تسعة عشر) وغير داخلين في الرواية الثانية (سبع عشرة).
قوله (وفي أخرى (خمس عشرة)): هذه الرواية منكرة.
قوله (وله عن عمران بن حصين (ثماني عشرة)): هذه الرواية ضعيفة, لأنها من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف عند الجمهور.
المعتمد رواية البخاري (تسعة عشر).
قوله (يقصر الصلاة): بل يقصر أكثر من ذلك ما دام مسافراً.
قوله (وله - يعني لأبي داود عن جابر - أن النبي عليه الصلاة والسلام أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة): هذا الحديث وإن كان رواته ثقات إلا أنه اختلف في وصله وإرساله.
جاء عن بعض الصحابة أنه أقام ستة أشهر يقصر الصلاة, والحنفية المدة عندهم خمسة عشر يوماً, وعند الشافعية والمالكية والحنابلة أربعة أيام بمعنى أنه إذا أقام وعزم على الإقامة في مكان ما أكثر من أربعة أيام فإنه لا يجوز له أن يقصر, واستدل الجمهور على تحديد المدة بأربعة أيام بكون النبي عليه الصلاة والسلام قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة ومكث فيها الخامس والسادس والسابع وفي الثامن خرج إلى منى, فأقام بمكة أربعة أيام فقط, وأيضاً أذن للمهاجر أن يقيم ويمكث ثلاثة أيام وهو منهي عن الإقامة في البلد الذي هاجر منه, فدل على أن الثلاثة أيام المأذون بها ليست بإقامة, وما فوق الثلاثة وهي الأربعة إقامة.(19/13)
أدلة الجمهور لا تنهض على تقرير مثل هذه المسألة الكبرى, لكن يبقى أن عدم التحديد فيه تضييع لهذه العبادة التي هي أعظم شعائر الإسلام, ولذا المعتمد عند الجمهور التحديد, وهو المفتى به عند شيوخنا وهو المعتمد محافظةً على هذه العبادة العظيمة, ولكي يخرج الإنسان من عهدة هذه العبادة بيقين, لأنه إذا قصر الصلاة أو جمع مع وجود هذا الخلاف الكبير عرَّض صلاته للبطلان عند قوم, لكن إذا أتم فصلاته صحيحة على جميع الأقوال حتى عند من يقول بوجوب القصر ولا يقول أحد ببطلان الصلاة إذا أتمها المسافر ولا يقول أحد ببطلان الصلاة إذا لم يجمع بين الصلاتين, فعلى هذا الاحتياط لهذه العبادة العظيمة لا شك أنه أولى.
من عزم على الإقامة أكثر من عشرين فرضاً فهو مقيم, لكن إذا كان متردداً لا يدري كم سيمكث فإنه يقصر ويجمع ولو مكث سنة.
على كل حال لا حجر على الاجتهاد, ولا تُلغَى الأقوال الأخرى.
الإقامة الجبرية لا تُعَدُّ إقامةً حقيقية, فلو أن شخصاً سافر بنية المكوث يوماً في البلد الذي قدم عليه فصار له حادث وسجن لمدة شهر فإنه لا يعد مقيماً لأن هذه إقامة جبرية وليست إقامةً حقيقية.
ابن عمر ثبت عنه أنه أقام في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة, لكن هذا محمول على أنه لا يدري متى يسافر, وهو عازم على عدم الإقامة, والثلج هو الذي حال دونه ودون السفر, فهذه ليست بإقامة حقيقة وإنما هي إقامة حبرية ليست باختياره.
لا تعارض بين حديث (إلا المغرب فإنها وتر النهار) وحديث (لا وتران في ليلة) لأن المقصود بالوتر في الحديث الثاني الوتر الذي يقع بين صلاة العشاء وطلوع الفجر.
لو أوتر بين العشاءين فإنه لا يشمله حديث (لا وتران في ليلة) بل يقال إنه قد صلى صلاة مبتدعة لم يأت بها الشرع.(19/14)
لو نوى الإفطار في أي جزء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقد أفطر, وهذا في الفريضة لا في النافلة, لأنه لا يشترط لصوم النافلة تبييت للنية, فيختلف حكمها عن حكم الفريضة, فلو نوى في صيام النافلة أن يأكل فلا أثر لهذه النية ما دام أنه لم يأكل, لكن لو نوى الإفطار في أي جزء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في الفريضة فإن أهل العلم يقولون (من نوى الإفطار أفطر).
من نوى نقض الوضوء بعد الفراغ من الوضوء فإن وضوءه لا ينتقض بمجرد نية النقض لأن النية لا أثر لها بعد الفراغ من العبادة, ولذا إذا أذن المغرب وغربت الشمس ونوى الإفطار فإن نقض النية هنا لا أثر له لأن النية لا أثر لها بعد الفراغ من العبادة, والتنظير أن يقال شخص يتوضأ ولما غسل وجهه ويديه نوى نقض الوضوء فإن وضوءه ينتقض ولذا يشترطون استصحاب حكم النية وحكم النية هو ألا ينوي نقضها حتى تتم الطهارة, وهنا لا ينوي نقض الصيام حتى يتم الصيام, فإذا نوى نقض الطهارة بعد فراغه من الطهارة أو نوى نقض الصيام بعد فراغه من الصيام فلا أثر لهذه النية.(19/15)
القصر في المشاعر والجمع في عرفة وفي مزدلفة: من أهل العلم من يقول إنه من أجل النسك, وعلى هذا يجمع ويقصر كل حاج, سواء كان بينه وبين مسكنه مسافة قصر أو دون ذلك, ولا يُنظَر إلى المسافة, حتى أهل مكة يجمعون ويقصرون, لأن الجمع والقصر من أجل النسك ليستعان بهما على تطويل وقت الوقوف وتطويل وقت الراحة في مزدلفة لمباشرة أعمال يوم النحر بقوة ونشاط, وهذا قول معتبر عند أهل العلم, ومنهم من يقول إن الجمع والقصر للسفر لا للنسك, وعلى هذا لا يجمع ولا يقصر في عرفة وفي مزدلفة إلا من كان بينه وبين مسكنه مسافة قصر, وهذا هو مقتضى قول الجمهور, لكن لم يُحفَظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نبه أهل مكة أن يتموا الصلاة في عرفة ولا في مزدلفة ولا في منى وإنما نبههم في مكة لما صلى بهم في المسجد قال (أتموا فإنا قوم سفر), لكن مقتضى قول الجمهور أن أهل مكة ومن كان دونه ودون هذه المشاعر أقل من مسافة القصر لا يجوز لهم أن يقصروا الصلاة ولا يجوز لهم أن يجمعوا.
المرأة لا يلزمها المصافة لأنه جاء في حديث أنس أن أم سليم كانت خلفهم, فانفراد المرأة خلف الصف لا يقتضي البطلان, وتكون حينئذ خارجة من عموم (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
لا يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم ولو كانت مع جمع من النساء لأن السفر له مخاطر. وينبغي أن نفرق بين الخلوة وبين السفر فالسفر بلا محرم لا يجوز ولو انتفت الخلوة, وأما داخل المدن فإن المحذور ينتفي بانتفاء الخلوة ولا يشترط وجود المحرم لانتفاء السفر.(19/16)
حديث (فإذا صلى لوحده فليطول كيف شاء) يدل على جواز تطويل الصلاة بحيث يقع آخرها بعد انتهاء الوقت, لكن الأولى إيقاع جميع الصلاة في الوقت, لأن من أهل العلم من يقول إن ما يؤديه المصلي في الوقت أداء وما يقضيه بعد خروج الوقت قضاء ولو افتتحت الصلاة في الوقت, والجمهور يرون أنها كلها أداء ولو وقع بعضها خارج الوقت لحديث (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) يعني أدرك صلاة الصبح, وإذا كان مدركاً لها فهي في وقتها وحينئذ تكون أداء.
الرخصة هي ما جاءت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح, فالله جل وعلا يقول (حرمت عليكم الميتة) هذا هو الأصل, والأكل منها على خلاف هذا الأصل لمعارض راجح وهو دليل آخر يخص هذه الحالة, وتبقى الآية الأولى التي هي الأصل باقية في عموم الأحوال عدا هذه الحالة وهي حالة الاضطرار, فالمعارض راجح لأنه خاص.
حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما – الحديث - ): إذا توقف في سفره ثم ارتحل قبل أن تزول الشمس فإنه يؤخر الظهر إلى وقت العصر, وحينئذ لا يصلي كل صلاة في وقتها للمشقة.
قوله (أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما): جمع تأخير, وقوله (أخر الظهر إلى وقت العصر) يعني إلى دخول وقت العصر, وليس معناه إلى قرب وقت العصر, وإنما ظاهر اللفظ أنه يؤخر الظهر إلى دخول وقت العصر فيجمع بين الظهرين جمع تأخير.
قوله (فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب): صلى الظهر وحدها, فهذا الحديث فيه دلالة على جواز جمع التأخير, وليس فيه ما يدل على جمع التقديم.
الجمع بين الصلاتين في السفر علته السفر, التلبس بهذا الوصف المؤثر مبيح للجمع, وهو جائز عند جمهور العلماء, وحديث الباب فيه دلالة صريحة على جواز جمع التأخير.(19/17)
أبو حنيفة رحمه الله تعالى ينازع في جواز الجمع ويستدل بأحاديث التوقيت على أنه لا يجوز أن تؤخر الظهر إلى أن يدخل وقت العصر ولا يجوز أن تقدم صلاة العصر فتصلى قبل دخول وقتها في وقت الظهر استدلالاً بعموم أحاديث التوقيت, ويحمل ما جاء في هذا الحديث وما في معناه على الجمع الصوري, والجمع الصوري هو أن يؤخر الصلاة الأولى إلى آخر وقتها ويقدم الصلاة الثانية إلى أول وقتها فيصلي كل صلاةٍ في وقتها, لكن الواقع أنه بتأخير الأولى وتقديم الثانية وإن وقعت كل واحدة منهما في وقتها كأنه جمع لأنه لا فاصل بين الصلاتين إلا الإقامة.
لكن الجمع وعموم الرخص إنما شرعت للتيسير على المكلفين ومراعاة لحال السفر وما فيه من مشقة, وأيهما أسهل على المسافر: أن يصلي كل صلاة في وقتها؟ أو يجلس يرقب الأوقات بدقة؟ لأن الفارق يسير جداً, ولم يكن هناك ساعات وأمور تضبط الأوقات, بل كانوا يقيسون ظل الشواخص, فمراقبة أواخر الأوقات وأوائل الأوقات على وقتهم فيه مشقة, فقول الحنفية لا يسلم من حرج وإن كان فيه ملاحظة لأدلة التوقيت, وإذا تصورنا الجمع الصوري في جمع التأخير فإنه لا يمكن تصوره بحال في جمع التقديم.
هذه الرواية تدل على جمع التأخير فقط, وأما جمع التقديم فلا تدل عليه, والقول بجواز الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً هو قول الجماهير, والأوزاعي يعمل بهذه الرواية فقط ويقول بجواز جمع التأخير دون جمع التقديم.(19/18)
قوله (وفي رواية الحاكم في الأربعين بإسناد الصحيح: صلى الظهر والعصر ثم ركب): والذي في الصحيحين (فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب) ورواية الحاكم التي في الأربعين بإسناد الصحيح هي في الحديث نفسه, ولو كان الحديث آخر فلا إشكال, بحيث يحمل حديث أنس على حال وعلى ظرف من الظروف وتحمل الرواية الأخرى على ظرف آخر, لكنها في الحديث نفسه, وهي تفيد مشروعية جمع التقديم. وهذه الرواية حكم عليها الحاكم نفسه بأنها لا تصح بل حكم بوضعها لأنها مخالفة لما في الصحيح وإن قال الحافظ إنها بإسناد الصحيح.
قوله (ولأبي نعيم في المستخرج على صحيح مسلم: كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل): رواية أبي نعيم في المستخرج سياقها يدل على أنها في حديث آخر وقصة أخرى, ولذا يقول أهل العلم إن رواية المستخرج لا مقال فيها, وهي تفيد مشروعية جمع التقديم.
الاستخراج هو أن يعمد عالم إلى كتاب من الكتب الأصلية فيخرِّج أحاديث هذا الكتاب بأسانيده هو من غير طريق مؤلف الكتاب الأصلي. ويستفاد من المستخرجات مثل هذه الزيادة, ولا يقال إنه إذا كان المستخرِج على صحيح البخاري أو على صحيح مسلم يخرِّج أحاديث الكتاب الأصلي فلسنا بحاجة إلى المستخرج, بل هذه المستخرجات تُخرَّج بأسانيد ولا تُخرَّج مروراً بأصحاب الكتب الأصلية, وعلى هذا تشتمل هذه المستخرجات على زيادات, وهذه الزيادات من فوائدها.
في رواية أبي نعيم دلالة على جواز جمع التقديم وهي مستند الجمهور في جواز صلاة الظهرين والعشاءين في وقت الأولى منهما, خلافاً للأوزاعي, وخلافاً لأبي حنيفة الذي يمنع الجمع تقديماً وتأخيراً.(19/19)
في حديث ابن عباس المخرج في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ثمانياً وسبعاً من غير خوف ولا مطر, وفي رواية من غير خوف ولا سفر, وظاهر قوله (من غير خوف ولا مطر) أنه من غير عذر, لكن ابن عباس لما سئل قال (أراد ألا يحرج أمته) فدل على أن في ترك الجمع في هذا الظرف حرج, والله تعالى يقول (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
يمكن أن يستعمل مثل هذا الجمع في أحوال الضرورات, فلو قُدِّرَ أنك بين السيارات ولا تستطيع أن تنزل أو تنتقل وقد تكون على غير طهارة, فإن انتظرت إلى أن ينحل الإشكال وتنزل من سيارتك يكون وقت الأولى قد خرج, وحينئذ يكون أداء كل صلاة في وقتها فيه حرج, فمثل هذه الصورة تدخل في حديث ابن عباس.
على أن الترمذي نص في علله على أنه لم يخرِّج حديثاً أجمع العلماء على ترك العمل به إلا هذا الحديث وحديث قتل مدمن الخمر - حديث معاوية (من شرب الخمر في الأولى اجلدوه وفي الثانية اجلدوه وفي الثالثة اجلدوه وفي الرابعة اقتلوه) - والعادة عند أهل العلم أنه إذا أُجمِعَ على ترك العمل بحديث فإن هذا الإجماع يدل على وجود ناسخ لهذا الحديث ولو لم نطلع عليه, فلا يعكر مثل هذا الحديث على ما نحن فيه, وهو أن الرخص مربوطة بأسباب لا بد من تحققها, وليس فيه مستمسك لمن يتساهل ويؤخر الصلوات عن أوقاتها.(19/20)
مسألة يختارها بعض المتأخرين ممن لا سلف له: المسافر يتيمم ولو كان الماء بجواره. ولا سلف لهذا القائل, وهو منقول عن بعض المعاصرين, ويستدل بآية الوضوء في سورة المائدة (أو كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً) ويقول إن قوله (فلم تجدوا ماءً) خاص بالجملة الأخيرة دون الجمل التي قبلها, لكن هذا القائل لا سلف له, ولم يقل بهذا أحد من أهل العلم ممن تقدم, بل نُقل الإجماع على أن واجد الماء القادر على استعماله لا بد أن يمسه بشرته, ولا بد أن يتوضأ مقيماً كان أو مسافراً, صحيحاً كان أو سقيماً.
في قوله تعالى (فإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً) هل يقول أحد إن من جاءه من الغائط وعنده الماء لا يتوضأ؟!!!
الاستثناء في قوله جل وعلا في القذف (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) يرجع إلى الجملة الأخيرة بالاتفاق ولا يرجع إلى الجملة الأولى بالاتفاق, فمن قذف وتاب تجب إقامة الحد عليه إلا إذا عفا صاحب الشأن لأن الأمر لا يعدوه قبل أن يرفع إلى الإمام, وعود الاستثناء إلى الجملة الثانية محل خلاف, والمرجح أن القرائن هي التي ترجح عوده إلى جميع الجمل أو إلى بعضها دون بعض, والذي في آية التيمم عائد إلى جميع الجمل بالإجماع.(19/21)
إذا كان عادماً للماء حقيقة أو حكماً فإنه يتيمم, لأنه قد يكون الماء في بئر وليس عنده من الأسباب ما يستطيع به استنباط الماء من هذا البئر, وقد يكون الماء قريباً لكنه في سفر ويخشى على نفسه من السباع فمثل هذا يعذر إذا كان الأمر غلبة ظن, لكن إذا كان مجرد وهم فإن الأكثر على إلزامه بالوضوء ما لم يكن المخوف غلبة ظن, لأن بعض الناس يخاف من الظلام ولو لم يكن هناك سباع, ويخاف خوفاً شديداً لكنه خوف وهمي, ومن أهل العلم من يستروح إلى أنه في مثل هذه الحالة يسوغ له أن يتيمم, وكم من وهمٍ عند بعض الناس أشد من غلبة الظن عند آخرين, مجرد صوت الريح عند بعض الناس أشد من زئير الأسد بالنسبة لآخرين.
حديث معاذ (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً): هذا دليل على الجمع بين الصلاتين في السفر, وتقدم أن النبي عليه الصلاة والسلام منذ خرج من المدينة إلى أن رجع وهو يقصر الصلاة, وهنا في غزوة تبوك يجمع بين الصلاتين في السفر.
صلاة الصبح لا تجمع مع غيرها, وصلاة الجمعة أيضاً لا تجمع مع غيرها لأنها فرض مستقل ولم يرد فيها ما يدل على جواز الجمع بينها وبين العصر.
أيهما أفضل القصر أو الإتمام؟ القصر رخصة, والله جل وعلا يحب أن تؤتى رخصه, وقد أوجبه بعض أهل العلم, فالقصر أفضل من الإتمام عند وجود السبب.
أيهما أفضل الجمع أو التوقيت؟ إن كان قد جد به السير فالجمع أفضل لأنه ثابت ثبوتاً لا مرية فيه عن النبي عليه الصلاة والسلام, وهو أرفق بالمسافر, وإن كان نازلاً فالأفضل أن يصلي كل صلاة في وقتها, والنبي عليه الصلاة والسلام في منى كان يصلي كل صلاة في وقتها, حتى ذكر ابن القيم أنه لم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جمع بين صلاتين وهو نازل إلا في عرفة و مزدلفة من أجل أن يتسع الوقت للوقوف.(19/22)
حديث ابن عباس (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان): ومن مكة إلى جدة, ومن مكة إلى الطائف, وهي مسافات متقاربة تعادل ثمانين كيلومتراً.
قوله (رواه الدار قطني بإسناد ضعيف): بل ضعيف جداً, كونه مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضعيف جداً, في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك, وحديث المتروك شديد الضعف لا يقبل الانجبار وجوده مثل عدمه.
قوله (والصحيح أنه موقوف, كذا أخرجه ابن خزيمة): موقوف على ابن عباس, وإسناده إلى ابن عباس صحيح, وهذا من اجتهاد الصحابي, وتقدم أن تحديد المسافة لا يصح فيه شيء مرفوع, وفيه من أقوال الصحابة ومن جاء بعدهم الشيء الكثير, ولذا اعتمد الجمهور على التحديد.
حديث جابر (خير أمتي – أمة الإجابة – الذين إذا أساؤوا استغفروا وإذا أحسنوا استبشروا وإذا سافروا قصروا وأفطروا): الشاهد من الحديث قوله (وإذا سافروا قصروا وأفطروا), فالقصر والإفطار أفضل, والقصر تقدم أنه لم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه أتم, وأما بالنسبة للإفطار فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام في السفر وسافر أصحابه معه منهم الصائم ومنهم المفطر. ومعنى جمل الحديث صحيح.
قوله (أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف): لأنه من رواية ابن لهيعة, والمرجح فيه أنه ضعيف.
قوله (وهو في مرسل سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصر): المرسل رواه الشافعي في مسنده والبيهقي في المعرفة, والمرسل من قسم الضعيف.
حديث عمران (كانت بي بواسير): البواسير جروح وقروح تكون بالمقعدة, وكأنه يشق عليه مع هذا المرض أن يصلي من قيام.
قوله (فسألت النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة؟ فقال: صل قائماً – الحديث - ): القيام هو الأصل, وهو ركن من أركان الصلاة المفروضة, لكن إذا لم يستطع المسلم أن يصلي قائماً فإنه يصلي قاعداً, فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً فإنه يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة.(19/23)
هذا الحديث مع حديث (صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم) مثالٌ لما يكون فيه العمل بخصوص السبب لا بعموم اللفظ, وأهل العلم يطلقون أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, لكن هذا الحديث مع حديث (صلاة القاعد) دليل على أنه قد يُلجأ إلى السبب ويٌقصر الخبر على سببه لوجود المعارض, فحديث عمران محمول على الفريضة, وأما في النافلة فله أن يصلي قاعداً ولو كان ممن يستطيع القيام استدلالاً بحديث (صلاة القاعد) لكن ليس له من الأجر إلا النصف, والدليل على هذا التفريق هو سبب ورود حديث (صلاة القاعد) وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد والمدينة محمة فوجدهم يصلون من قعود فقال (صلاة القاعد – الحديث - ) فتجشم الناس الصلاة قياماً, فسبب الورود دل على أنها نافلة لأنهم لا يمكن أن يصلوا الفريضة قبل حضوره عليه الصلاة والسلام, ودل على أنهم يستطيعون القيام لأنهم لما سمعوا هذا الكلام تجشموا القيام فقاموا, فهو محمول على من يستطيع القيام, وأما الذي لا يستطيع القيام في النافلة ويصلي من قعود فأجره كامل, لأنه إذا كان أجره كاملاً في الفريضة فمن باب أولى النافلة.
جاء في بعض الروايات (فإن لم تستطع فأوم إيماءً) وبعض أهل العلم ممن لا يثبت هذه الزيادة يقول إن الذي لا يستطيع أن يصلي على جنب تسقط عنه الصلاة, وقول الأكثر أنه ما دام مناط التكليف وهو العقل باقياً فالمسلم مطالب بالتكاليف, فيصلي على حسب حاله ويومئ إيماءً.
حديث جابر (عاد النبي عليه الصلاة والسلام مريضاً فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: صل على الأرض إن استطعت – الحديث - ): الصلاة على الأرض هي الأصل, لكن مع الاستطاعة.(19/24)
قوله (وإلا فأوم إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك): إذا صلى من لا يستطيع القيام فإنه يصلي وهو جالس, وإذا جاء ركن الركوع خفض رأسه وإذا جاء ركن السجود خفضه أكثر من ذلك, فإن كان يستطيع مباشرة الأرض حال السجود فهو المطلوب لقوله (صل على الأرض إن استطعت).
إذا لم يستطع مباشرة الأرض حال السجود فإنه لا يحتاج إلى أن يرفع شيئاً ليسجد عليه, ولا يحتاج لأن يسجد على يده, لأن النبي عليه الصلاة والسلام رمى بهذه الوسادة.
الحديث مختلف في رفعه ووقفه, يقول الحافظ (رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه) فالحديث موجود عند البيهقي في سننه الكبرى وفي معرفة السنن والآثار, لكن أبا حاتم صحح وقفه, والغالب أن أبا حاتم إذا اختُلف في الخبر من حيث الرفع والوقف أو من حيث الوصل والإرسال أنه يميل إلى المتيقن وهو الوقف والإرسال. وغيره صحح رفعه, فهو مصحح عند جمع من أهل العلم, لأنهم يقولون الرفع زيادة ثقة, والزيادة من الثقة مقبولة.
إذا كان الإنسان يقرأ القرآن في مكتبه في العمل ثم مرت به آية سجدة هل له أن يسجد على الطاولة أو يقال إن هذه الطاولة بمثابة الوسادة في الحديث فلا يسجد عليها؟ مقتضى الحديث (صل على الأرض إن استطعت) أن يسجد على الأرض لأنه مستطيع لذلك.(19/25)
بعض الناس يقرأ في السيارة فتمر به آية سجدة ويسجد على الطبلون مع أمن الخطر, وبعض الناس يقرأ وهو يمشي في الشارع ثم تمر به آية سجدة, فهل يترك السجود أو ينحني قليلاً إشارةً إلى أنه يسجد حسب استطاعته كالمعذور أفضل من أن يترك هذه السنة؟ أو نقول إن هذه السنة عبادة إن لم تؤدى على وجهها فلتترك؟ وقل مثل هذا إذا كان يقرأ القرآن في المطاف هل يسجد أو نقول له لا تقطع الطواف؟ الحديث أصل في أنه لا يسجد إلا على الأرض مع الاستطاعة, أما مع عدم الاستطاعة هل يقال له أوم إيماءً؟ السنة مبناها على التخفيف, ومن يصلي على الراحلة لا يتمكن من السجود والركوع على الوجه المطلوب, والحديث فيه إشارة (صل على الأرض إن استطعت), فنقول حصِّل هذه السنة على وجه مشروع ولو على وجه أقل من الوجه الأصلي.
حديث عائشة (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً): قال الحافظ (رواه النسائي وصححه الحاكم) مع أنه مخرج عند ابن خزيمة, وفي باب صفة الصلاة أشار الحافظ إلى أنه صححه ابن خزيمة فلعله وهم هنا.
الحديث فيه كيفية الجلوس لمن لا يستطيع القيام أو لمن أراد أن يصلي النافلة من قعود, وقولها (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) أي في ركن القيام, لا أنه يتربع في التشهد وفي الجلسة بين السجدتين مع استطاعته لافتراش, بل في حال القيام يصلي متربعاً لتكون هذه الحالة دالة على أنه في غير تشهد وفي غير جلوس, فالتربع يقوم مقام القيام عند العجز عن القيام.(19/26)
البدر التمام شرح بلوغ المرام هو أصل سبل السلام, وهو شرح جيد لكن فيه استطرادات لا يحتاجها طالب العلم, وجله منقول من فتح الباري وشرح النووي والتلخيص, فهذه الكتب الثلاثة هي مصادره الأصلية, وفيه استطرادات يستغني عنها طالب العلم حذفها الصنعاني في السبل وأضاف إليه فوائد لا توجد في البدر التمام, والكتاب طبع منه جزءين فقط, أي ربع الكتاب, والكتاب نصفه محقق وجاهز للطبع, لكن الطلب عليه ليس بكبير باعتبار أنه ليس من الكتب التي ينبغي لطالب العلم أن يوليها الاهتمام الزائد, ليس مثل الشروح المعتمدة عند أهل العلم مثل فتح الباري أو شرح النووي على مسلم أو سبل السلام أو نيل الأوطار, فدرجته أقل لكن لا يخلو من فائدة.
الخلاف في الحامل قوي والمرجح أنها لا تحيض, وأما المرضع فالصحيح من أقوال أهل العلم أنها تحيض.
إذا كانت الكدرة في وقت العادة فإنها حيض, وأما إذا كانت في غير وقت العادة المعتاد فإنها ليست بشيء.
إذا كان الدم الخارج يوافق وقت الدورة أو يوافق لون الدم أو رائحته إن كانت مميِّزة فإنه دم حيض وإلا فهو دم فساد ونزيف لأن الأصل أن الحيض مرتفع عنها, فتصوم وتصلي.
اللعن أمره شديد: جاء في الحديث الصحيح أن أكثر أهل النار النساء وسبب ذلك أنهن يكثرن اللعن, وجاء في الحديث الصحيح (لعن المؤمن كقتله), وليس المؤمن بالطعان ولا باللعان.
يكثر السؤال عن بعض القنوات التي فيها خير كثير مثل قناة المجد فنقول: السلامة لا يعدلها شيء, لكن المبتلى يقال له المجد خير الموجود, وإذا كان لا يستطيع أن يضبط أولاده عن مشاهدة القنوات الفاسدة خارج البيت يقال له ارتكاب أخف الضررين لا بأس به, وإن قلنا إنها إسلامية وإن قلنا إن خيرها كثير لكنها لا تسلم, لو لم يكن فيها إلا مشاهدة النساء للرجال الأجانب, لأن الأصل أن المرأة يجب عليها أن تغض بصرها.(19/27)
إذا دخل المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني فإنه يجيب المؤذن لأن الأجر المرتب على إجابة المؤذن يفوت إذا شرع في التحية ولأن الخطبة مدركة بلا شك, وإن قال بعضهم إنه يؤدي التحية ويتفرغ لسماع الخطبة لأن الخطبة شرط لصحة الصلاة.
من صلى جالساً فإنه في موضع القيام يضع يديه على صدره.
الأصل أن العلم غير حكر على أحد ولا يملكه أحد إلا من تعب عليه حتى يأخذ مقابل أتعابه من جهدٍ ووقتٍ مال, فإذا أخذ ما يقابل الأتعاب فليس له أن يحتكره, لأن العلم مشاع بين الناس كلهم لا يملكه أحد, إلا من تعب عليه فيكون له شبه اختصاص في هذا الأمر. الناس شركاء في الكلأ وفي الماء وفي النار, لكن من تعب في احتشاش الكلأ وجمعه أو تعب في استنباط الماء ونقله لا يحل لأحدٍ أن يستولي على ما تعب عليه بغير إذنه, وإن كان الأصل أن الناس شركاء في هذه الأمور في أماكنها.
الانترنت والإفادة منه ينبغي أن تكون على أضيق نطاق وبقدر الحاجة, لأن فيه أبواباً من الشرور استرسل فيها كثير من الإخوان فضاعوا, ووقعوا في أمور صارت سبباً في ضياعهم وإهدار أوقاتهم وتساهلهم في فعل الواجبات وتساهلهم أيضاً في ارتكاب بعض المحرمات, فينبغي أن تكون الإفادة من الانترنت بقدر الضرورة كاستماع درس أو ما أشبه ذلك وما عدا ذلك فإنه يترك.
العطور التي فيها نسبة من الكحول إذا كانت مسكرة فحكمها حكم الخمر من حيث النجاسة, فتكون نجسة على قول الجمهور وطاهرة على قول آخرين. والأولى اتقاء مباشرتها من باب اتقاء الشبهة, لكن إذا أصابت بدنه أو ثوبه أو بقعته التي يصلي عليها ثم صلى فإنه لا يؤمر بالإعادة.
أدلة الجمهور على نجاسة الخمر لا تنهض للجزم بنجاستها لكن الأولى اتقاء مباشرتها اتقاءً للشبهة.
الساعة الأولى يوم الجمعة تبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها.
سورتي الإخلاص تقرأ في راتبة المغرب وفي راتبة الصبح وفي ركعتي الطواف.(19/28)
الخطيب يدعو من غير رفع لليدين إلا إذا كان الدعاء دعاء استسقاء وكذلك المأموم من باب أولى, فإن لم يكن الدعاء دعاء استسقاء فإنه يدعو ويشير بأصبعه, يرفعها ويدعو بها.
إذا كانت إمامة النساء في الصلاة الجهرية بحضرة الرجال ويخشى من الفتنة فإنها لا تجهر بالقراءة, كما أنها لا ترفع صوتها بالتلبية, وأما إذا كان المكان ليس فيه إلا نساء فلا مانع من الجهر.
ما حكم من صلى عن يسار الإمام إذا كان المكان مزدحماً؟ الجواب: إذا كان الإمام في المحراب وليس هناك فرصة للوقوف عن يمينه فإن وقفوا عن يساره والمسجد مزدحم وليس فيه إلا هذا المكان فإن صلاتهم لا تصح, لكن لو كان عن يمينه أحد وصلى عن يساره فلا بأس لأن ابن مسعود توسط اثنين وصلى بينهما.
إذا لم يخرج وقت الصلاة التي لها راتبة فإن راتبتها الأولى تقضى ما دام وقت الصلاة لم يخرج, فإذا فاتت الراتبة القبلية لصلاة الظهر فإنه يقضيها بعد أن يؤدي الصلاة والراتبة البعدية, فيصلي الفريضة ثم يأتي بالراتبة التي هي بعد صلاة الظهر لأنه وقتها والراتبة القبلية مقضية مقضية فتكون بعد الراتبة البعدية, لكن إذا خرج وقت الظهر فإن أهل العلم يقولون إنها سنة فات محلها, والنبي عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملاً أثبته وقد فاتته راتبة الظهر فقضاها بعد العصر, وهذا خاص به عليه الصلاة والسلام.
هل هناك حديث صحيح يدل على مشروعية تحريك الإصبع في التشهد؟ حديث إدامة التحريك ضعيف, وكون الإصبع ترفع ويقرن هذا الرفع بلفظ الشهادة فهذا ثابت, ولذا لما رفع الأصبعين قال النبي عليه الصلاة والسلام (أحد أحِّد), وأيضاً من الثابت رفع الإصبع عند الدعاء, ومنهم من يقول إنها تُحرك باستمرار, وجاء ما يدل على ذلك لكن لا يسلم من مقال.
الجمهور على أن إمامة الفاسق صحيحة وكل من صحت صلاته صحت إمامته, وجاء الأمر بالصلاة خلف أئمة الجور وهم فساق, فإمامتهم صحيحة إن شاء الله تعالى.(19/29)
إذا دخلت المسجد والإمام ساجد في صلاة الجمعة وأنا لا أعلم في أي ركعة هو فهل أدخل بنية الظهر أم بنية الجمعة؟ الجواب: تدخل بنية مترددة, فإن كنت أدركت ركعة فهي الجمعة, وإن لم تدرك ركعة فإنك تضيف إليها الركعات الأخريات, ومثل هذا التردد لا يضر لأنك دخلت بنية فريضة إما الجمعة وإما الظهر ولا يلزم التعيين مع عدم القدرة عليه, والذي لا يُستَطاع لا يَلزَم, فأنت دخلت والإمام ساجد ولا تدري هل هو في الركعة الأولى وبقيت له ركعة أو في الثانية وتكون الصلاة حينئذ قد انتهت, ومثل هذا التردد لا يضر إن شاء الله تعالى, وقد يقول قائل لماذا لا ينتظر حتى يتبين إما أن يجلس الإمام للتشهد أو يقوم للثانية ويدخل في الصلاة بيقين؟ لكن قوله عليه الصلاة والسلام (فما أدركتم فصلوا) يرد هذا الاحتمال.
جاء ما يدل على المداومة على قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة, وأنها تُقرأ ديمة أي يُدَاوم عليها, لكنها لا تُشبَّه بالواجبات, فيكثر من قراءتها في يوم الجمعة, لكنه يخل بذلك أحياناً لئلا تشبَّه بالواجب اللازم.
ما حكم تغميض العينين أثناء الصلاة في المكان المظلم؟ الجواب: تغميض العينين من أهل العلم من يطلق فيه الكراهة لما فيه من مشابهة اليهود, وابن القيم يقول إذا كان يحقق مصلحة راجحة كالخشوع مثلاً فإنه يستحب.(19/30)
لماذا يتم تحديد مدة القصر بأربعة أيام مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة؟ الجواب: الأدلة التي يستدل بها الجمهور على التحديد لا تنهض على الإلزام, لكن القول بالتحديد إنما هو من باب المحافظة على الصلاة التي هي من أعظم شعائر الدين الظاهرة ومن باب الخروج من عهدة الواجب بيقين, والنبي عليه الصلاة والسلام أذن للمهاجرين أن يمكثوا بمكة ثلاثة أيام فدل على أن هناك فرقاً بين الثلاثة والأربعة, وهو أيضاً لم يقم بمكان واحد أكثر من أربعة أيام إلا على نية التردد لا يدري متى يرجع وإذا كان الأمر كذلك فمن الصحابة من مكث ستة أشهر, والشيخ ابن باز رحمه الله كان يفتي بقول شيخ الإسلام وهو أنه مادام السفر الذي هو مناط الترخص موجوداً فحكم هذه الرخص سارٍ لكنه رجع عن هذا القول لما ترتب عليه من تضييع بعض المسافرين لفرائض الدين.
إذا كنت مسافراً في مدة أقل من أربعة أيام وسكنت بجوار مسجد فهل يجب علي صلاة الجماعة أو يجوز أن أصلي منفرداً مكان إقامتي؟ الجواب: إذا كنت تسمع النداء فلا بد من الإجابة.
ما حكم من يهتز عند قراءة القرآن ليس لقصد تقليد اليهود ولكن لأنه أنشط له؟ الجواب: هذا ليس من صنيع سلف هذه الأمة وخيارها, فإذا لم يكن في البال تقليد اليهود الذين قيل عنهم إنهم أثناء قراءتهم يهزون هذه الهزة ويتحركون فالأمر أخف, لكن الأصل أن كل عمل فيه مشابهة ممنوع.
مادامت صلاة صاحب سلس البول صحيحة فإمامته صحيحة, وإن كان بعضهم يرى أن الأكمل أن يؤم الناس من كملت طهارته فسلم من هذا الداء وطهارته كاملة, فلا يؤم المتيمم بالمتوضيء ولا من به سلس البول أو سلس الريح بالمعافى, وإن كانت القاعدة والأصل أن من صحت صلاته صحت إمامته, وهذا يشمل المتيمم ومن به نوع من المرض الذي يجعل طهارته ناقصة فهؤلاء صلاتهم صحيحة وإمامتهم صحيحة.(19/31)
رجل يريد تزويج ابنته من رجل لا ترغب فيه فرفضت, فقال لها (أنا لست راضٍ عنك) ودعا عليها, فهل توافق خوفاً من أن دعوة الوالد مستجابة مع أنها لا تريد هذا الرجل أبداً؟ الجواب: إذا كانت ترفض لأمرٍ مقبول, لا ترضى دينه ولا أمانته, فليس لأبيها أن يكرهها وليس عليها أن تقبل مشورة أبيها في هذه الحالة ولا يلزمها طاعته في هذه الصورة لأن الطاعة بالمعروف, وأما إذا كان ممن تُرضَى ديانته وأمانته فعليها أن تقبل مشورة أبيها الذي هو أعرف بمصلحتها غالباً, لكن لو رفضت فليس عليها شيء لأن الأمر لا يعدوها, والأب ليس له أن يُكرِه موليته بكراً كانت أو ثيباً إذا كانت مكلفة.
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الخميس الخامس عشر من شهر جمادى الأولى عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده عشية يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (درسدن).(19/32)
مهمات شرح كتاب الجنائز من بلوغ المرام
للشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضير نفعنا الله به
كتبه العبد الفقير أبو هاجر النجدي
الجنائز جمع جَنازة وجِنازة, بفتح الجيم وكسرها, واللفظان للميت, أو للسرير وعليه الميت, ومنهم من يجعل الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل, جَنازة للميت وجِنازة للسرير, ويطردون هذا في بعض الألفاظ, فيقولون مثلاً دَجاجة بالفتح للذكر ودِجاجة بالكسر للأنثى, ويقولون الماتح بالتاء المثناة من فوق للذي يكون في أعلى البئر والمايح بالياء للذي يكون في أسفل البئر عند استقاء الماء من البئر. ولا يوجد في كتب المتقدمين تعريف مثل هذه الألفاظ المعروفة, وإنما احتاج إليها المتأخرون لاحتمال أن يوجد من لا يعرف المراد بهذه الألفاظ, لكثرة الاختلاط بين من يعرف هذه الاصطلاحات مع غيرهم. والترتيب العلمي في اصطلاح العلماء أن يُعرَّف الشيء ثم بعد ذلك تُذكَر الأحكام المتعلقة به, فهم يرون أن الأحكام المترتبة على اللفظ لا تكون إلا بعد تصوره.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ} رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.(1/1)
وصححه الحاكم وابن السكن وجمع من أهل العلم, وله طرق وشواهد تجعل لتصحيحهم وجهاً. وجاء في بعض الألفاظ (هادم) بالدال المهملة, وجاء في بعضها (هازم), والفرق بين هذه الألفاظ أن الهاذم هو القاطع, والهادم هو المزيل كالذي يهدم البناء, والهازم هو الغالب, وإذا نظرنا إلى الموت وجدنا فيه هذه المعاني كلها. فهو يقطع اللذات المحسوسة من متع هذه الحياة الدنيا ويحول بين المرء وبينها, وهذا بالنسبة لمستوى الناس كلهم الذي يشتركون فيه في متع هذه الحياة الدنيا, لكن من الناس من ينتقل إلى ما هو أشد متعةً ولذةً مما في الحياة الدنيا, ومنهم من ينتقل حالٍ سيئة نسأل الله السلامة والعافية. وهو أيضاً هادم ومزيل للنعم, مزيلٌ لها بحقيقته أو بذكره عند من أحيا الله قلبه. وهو أيضاً غالبٌ لهذه اللذات. ولذا ينكر كثيرٌ من الناس على من يذكر الموت في أوقات الانبساط وفي الأعياد والأعراس, لكن أولى ما يُذكَر فيه الموت هذه المواطن, مع أنه ينبغي أن يكون على لسان المسلم امتثالاً لهذا الحديث, وللمصلحة المترتبة على ذكره لأنه لا يُذكَر في كثيرٍ إلا قلله ولا في قليلٍ إلا كثَّره, ولئلا يسترسل في اتباع شهواته وملذاته وينسى ما أمامه من أهوال, فإذا استحضر ذكر الموت ارتاح ضميره وعمل لما بعد الموت. وجاء في بعض ألفاظ هذا الحديث بعد الأمر بذكر الموت أن من أكثر ذكره أحيا الله قلبه, ومعناه صحيح, لأنك إذا تصورت ما أمامك عملت, وإذا نسيت ما أمامك أهملت وغفلت.
وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/2)
على المسلم أن يكثر من ذكر الموت ليحدوه ذلك إلى العمل, لكن لا يتعجل الموت لما يقاسيه من آلام ومشاق, فكل ما طال عمر المسلم وحَسُن عمله كان خيراً له, والذي يتصور الهدف الحقيقي من وجوده في هذه الحياة ويتمنى أن تكون عاقبته حسنة لا يتمنى انقطاع وقت الزرع, ليزداد من حياته لموته, لأن الموت يقطع الزاد الموصل إلى مرضاة الله وإلى جناته إلا ما استثني. وقوله (لضر نزل به) أي لا يتمنى الموت لهذا السبب, وهو حصول الضر في أمور الدنيا في بدنه أو في ولده أو في ماله, وأما تمني الموت بسبب أمر من أمور الآخرة - بأن رأى أسباب الفتن قد انعقدت وغلب على ظنه أنه لا يثبت أمام هذه الفتن - فإنه لا بأس حينئذ في تمني الموت خشية أن يفتن في دينه. فالمؤمن يتمنى طول الحياة لا لذات الحياة وإنما ليغرس فيها ويعمل لآخرته, لكن إذا كان يغلب على ظنه أن يتضرر من هذه الحياة فلا مانع من أن يتمنى الموت. ومريم بنت عمران عليها السلام تمنت الموت, لأنها خشيت أن تفتن في دينها بتسلط الناس عليها حين يرون أنها أتت بولد من غير زوج. فإذا وجد مبرر شرعي ديني وخشي الإنسان على دينه لا على دنياه فإنه له أن يتمنى الموت. ومن ذلك تمني الشهادة, والشهادة موت, والنبي عليه الصلاة والسلام قال: والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. وقوله (فإن كان لا بد متمنياً) يعني لم يحتمل المصيبة التي يعيشها (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي) لأنه لا يعلم الغيب, فيكل الأمر إلى الله جل وعلا ويجعل الخيرة له سبحانه وتعالى يختار له ما يصلح له في دينه ودنياه.(1/3)
يجوز أن يكون الإنسان سبباً في قتله إذا كانت المصلحة راجحة, مثل أن يقتحم صفاً, أو ينزل في بكرة من حصن على الكفار ويغلب على الظن أنه يقتل, أو يدل العدو على كيفية قتله كما في قصة الغلام التي هي في شرع من قبلنا لكنها سيقت مساق المدح في شرعنا. وأما أن يباشر قتل نفسه فلا أعلم في النصوص ما يدل على جوازه مهما كان المبرر, وفرقٌ بين التسبب والمباشرة, وعلى كل حال هناك من يفتى في هذه المسائل بأن الإنسان له أن يقتل نفسه إذا ترجحت المصلحة لا سيما المصلحة العامة, فلو خشي إفشاء الأسرار للكفار اتجه القول بجواز أن يباشر قتل نفسه عند بعض أهل العلم. ومثل ذلك العمليات التي يختلفون فيها, فمن أهل العلم من أجازها لأنه رأى أن فيها نكاية بالعدو وأنه لا وسيلة لتحصيل الحقوق إلا بها, وأما أنا فلا أعرف نصاً يبيح ذلك, والمسألة اجتهادية, لأنه وُجِد في النصوص ما يبيح التسبب مما يقرب من المباشرة كما في قصة الغلام, فإنه كان يقول لهم (خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني) وكانت المصلحة راجحة, ولم يباشر قتل نفسه, لكنه تسبب تسبباً قريباً من المباشرة.
جاء في الحديث الدعاء بقوله (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) وهذا من الخوف على الدين, وجاء أيضاً قول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وهذا فيه طلب الوفاة لكن لا مطلقاً, وإنما طلب الوفاة على الإسلام, ولا يلزم من ذلك أن تكون الوفاة الآن أو قريباً من الآن, بل يطلب أن يكون مسلماً حال وفاته, فلا تعارض, وكلٌ يدعو ربه ويتمنى أن يموت على الإسلام ولو بعد حين.(1/4)
ذم طول الأمل هل فيه مخالفة مع النهي عن تمني الموت؟ دعاء الإنسان لنفسه بطول العمر يقابل تمني الموت, فهل مفهوم النهي عن تمني الموت أن يدعو الإنسان بطول العمر؟ أو يترك الأمر لله جل وعلا ويعمل ما أُمِر به؟ ولذا جاء ذم طول الأمل, كما في قوله (يشب ابن آدم ويشب منه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل) بل جاء ما يدل على تقصير الأمل, وفرق بين أن يسعى في تقصير عمره وبين أن يعمل على مقتضى قصر عمره, فإن ما يقتضيه قصر العمر اغتنام الوقت, وما يقتضيه طول الأمل التفريط في الأوقات, فنظراً لما يقتضيه الأمران استُحِب هذا وذُمَّ هذا, ولذا جاء في الحديث الصحيح (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) لأن تصور الإنسان أنه غريب يحدوه إلى مضاعفة جهده في كسب الحسنات والابتعاد عن السيئات.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: {اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ} رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
لم يخرِّج أبو داود هذا الحديث, وإنما خرَّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه, وهذا يرد على اصطلاحه في الثلاثة. وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود وغيره, وهو قابل للتصحيح بشاهده.(1/5)
وقوله عليه الصلاة والسلام (المؤمن يموت بعرق الجبين) عبارةٌ عما يكابده المؤمن عند نزع روحه, وذلك لما له من عِظَم الأجر عند الله تعالى. قال ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك توعك وعكاً شديداً, فقال عليه الصلاة والسلام: أجل, إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم, قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين, قال: أجل. فكل ما زادت منزلة المرء عن الله جل وعلا زادت المشقة عليه أثناء النزع ليعظم أجره, والموت له سكرات. ومنهم من يرى أن تفسير الحديث أن المؤمن ينصب ويتعب في هذه الدنيا في طلب الحلال مع تعبه لدينه, وأمر الدنيا إذا اقترنت به النية الصالحة أُجِر عليه الإنسان وصار من أمر الآخرة. فالمؤمن يعرق جبينه في أمور دنياه وآخرته, وإذا جاءه النزع ضوعفت عليه الشدة ليزداد أجره بذلك. وكأن في الحديث الحث على متابعة السعي وعدم الكسل وأن يكون المسلم نافعاً لنفسه ولولده ولمن تحت يده ولأمته. قال الله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي ليستمر عملك ونصبك وتعبك وعرقك إلى أن تموت وأنت على هذه الحال.
فائدة: يفهم من قوله تعالى (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أن الأصل في المسلم أن يكون عمله محضاً للآخرة, ولذا وُجِّه إلى ألا ينسى الدنيا, ليستعين بها على تحقيق الهدف وهو العبودية.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -{لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ.(1/6)
هذا من أجل أن يكون آخر ما ينطق به المسلم (لا إله إلا الله) وقد جاء في الحديث الصحيح (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فتلقين الشهادة مستحب. وقوله (موتاكم) يعني من قربت وفاته من المسلمين, والموتى جمع ميِّت وهو من سيموت, لا أنه يلقن الشهادة بعد وفاته, لأنه قال (من كان آخر كلامه من الدنيا) وقد انتقل من هذه الدنيا فلا تنفعه, والميت لا يقبل التلقين ولا يسمع ولا يرد الجواب, والمراد تلقين من يقبل التلقين ليقول (لا إله إلا الله) ويختم بها حياته.
المغمى عليه يلقن إذا ظهرت عليه علامات الموت, لأنه ما دامت روحه في جسده فهو في حكم من يسمع, ولعموم الحديث, ولأنه قد يسمع التلقين فيقولها حسب استطاعته, ولو بالطريقة التي يعلمها الله جل وعلا وإن لم يعلمها البشر. ويلقن أيضاً من قرر الأطباء أنه مات دماغياً, وكلام الأطباء يغلب على الظن ثبوته والواقع يشهد بذلك لكنه ليس بقطعي, بدليل قصة واقعة, وهي أن شخصاً قرر ثلاثة أطباء أنه مات دماغياً, وأُحضِر إخوته الأربعة من أجل أن يتبرعوا بأعضائه, فوافق ثلاثة وامتنع الرابع بحجة أن أخاه لم يوصِ وأنهم لا يملكون التصرف في أعضائه, ثم أفاق أخوهم بعد ذلك, فصارت العداوة بينه وبين إخوته الثلاثة, وصار أخوه الرابع أحب إليه حتى من نفسه وولده, وذكر أنه يسمع كل ما دار بينهم. فمثل هذا إذا وصل إلى هذا الحد فإنه يدخل في عموم الحديث ويلقن.
تنبيه: المتجه المنع من التبرع بالأعضاء, لا من الشخص نفسه ولا من غيره, لأنه لا يملك ذلك.
عيادة المريض سنة, ولو كان لا يحس بمن حوله, وقد ترجم البخاري رحمه الله بقوله (باب زيارة المغمى عليه) وزار النبي عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله وهو مغمىً عليه, فللمسلم كامل الحقوق ما دامت روحه في جسده, ولا يجوز التعدي عليه بحال ما لم تفارق روحه بدنه.(1/7)
لا يجوز رفع الأجهزة عن المريض الذي إذا رفعت عنه مات بحجة أنه يحجز السرير والأجهزة لمدة طويلة, لأنه مسلم له كامل الحقوق ما دامت روحه في بدنه. لكن قد ينظر في ذلك فيما لو حضر مريضٌ آخر بحاجة إلى هذه الأجهزة, وهو أرجى منه في الحياة, بحيث لو تُرِك مات ونسبة حياته ستين إلى خمسين بالمائة والآخر نسبة حياته واحد إلى عشرة بالمائة, فهذا محل نظر بين أن نرفع عنه الأجهزة أو نقول إنه سبق فهو أحق, لكن رفع الأجهزة دون حاجة لا يجوز. ومثل هؤلاء المرضى داخلون في عموم الحديث, فيلقنون.
والمخاطب بهذا الحديث المسلمون, وإن كان يتناول من بُعْد الميت القريب من المسلم وإن كان غير مسلم, والنبي عليه الصلاة والسلام عرض الشهادة على عمه أبي طالب, وعرضها على اليهودي الذي زاره, فلتُعرَض حتى على غير المسلم لعل الله ينفعه بها, لا سيما من ظهر نفعه في المسلمين, فلا مانع, بل الدليل يدل على أنه تعرض عليه الشهادة, وإن كان قوله (موتاكم) خاص بالمسلمين لأنه يخاطب المسلمين, والكافر ليس بميت للمسلم بل هو بعيد عنه والصلة منقطعة عنه تاماً.(1/8)
ينبغي أن يكون التلقين برفق, ولا يكرر عليه إلا بقدر الحاجة بالأسلوب المناسب, لأن الإنسان في هذا الظرف يضيق خلقه فيُخشَى أن ينطق بكلمة تضاد الشهادة. ومما ذكره أهل العلم في هذا الباب أنه ينبغي أن تُذكَر أعماله الصالحة التي عُرِف بها ليحسن الظن بالله جل وعلا وينشرح صدره وتمنى لقاء الله, لأنه جاء في الحديث الصحيح (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وقال الله جل وعلا في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وهذا بخلاف ما لو ذكرت عنده أعماله السيئة, اللهم إلا إذا كانت هناك فسحة في الأمر ليُذكَّر بها فيتوب عنها, وأما إذا ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التوبة وتخشى العواقب والآثار السيئة فإنه لا يُذكَّر بأعماله السيئة, وإنما يُذكَّر بسعة رحمة الله وجل وعلا وبأعماله الصالحة. وعلى الإنسان أن يعمل في حياته من الأعمال الصالحة ما يجعله يحسن الظن بالله جل وعلا وما يكون سبباً في حسن العاقبة والخاتمة, ومن عاش على شيءٍ مات عليه, ومن مات على شيءٍ بُعِث عليه, ومن لزم الأعمال الصالحة ذكرها عند موته وكررها وقت اختلاطه وهرمه وشَغِف بها وأحبها, وأهل العلم يقولون (الفواتح عنوان الخواتم). قد يكون في نفس الإنسان هواجس وخواطر يرددها وأماني تغلب على تفكيره فإذا أصابه إغماء أو خرف أو تخليط صار يرددها عند الناس, ذكر ذلك ابن القيم في عِدَة الصابرين.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:{اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
هذا الحديث مضعَّف عند أهل العلم, رواه أبو داود, ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة. والمراد بالموتى من سيموت, وذكروا من فائدة قراءة سورة يس أنها تخفف وتهون وتسهِّل خروج الروح, لكن الحديث ضعيف, قال الدار قطني: مضطرب الإسناد مجهول لا يصح.(1/9)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ, ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اَلرُّوحَ إِذَا قُبِضَ اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ" فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ, فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنَّ اَلْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثُمَّ قَالَ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ, وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي اَلْمَهْدِيِّينَ, وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ, وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ, وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله (وقد شق بصره) أي شخص وارتفع, لأن الروح إذا خرجت تبعها البصر وارتفع لينظر أين تذهب, فأغمضه النبي عليه الصلاة والسلام, ولذا يستحب تغميض عيني الميت, لأن منظره مخيف إذا كان بصره شاخصاً, ولا شك أن إغماض عينيه أكمل, لأن قيمة البصر في الإبصار وقد انتهى الإبصار فانتهت قيمة البصر فيُغمَض. ولأنه يُخشَى أن يدخل في عينيه شيء, أو تتأثر عيناه مما في الجو وتتعفن. وقوله (شق بصره) بفتح الشين, و (بصره) فاعل, وضبطه بعضهم بالنصب, يعني شق المرء بصرَه.(1/10)
وهل التبعية في قوله (تبعه البصر) تبعية حسية, بمعنى أن الروح تمكن رؤيتها أو لا تمكن؟ هل هي جسم أو عرض؟ يتكلم العلماء في هذا كثيراً, لكن الجواب الإلهي جاء في قوله تعالى (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) والبرهان على ذلك ما في الآية نفسها, فالروح بين جنبي الإنسان مائة سنة ولا يدري ما هي, فيغالط نفسه ويكذب على نفسه من يريد أن يطلع على كل شيء ويعرف كل شيء, فضلاً عمن يزعم أنه يعرف كل شيء. فهذه التبعية الله أعلم بها, تبعاً للمتبوع, وأما اتباع البصر في حال الحياة للأمور مُدرَك, فهو يتبع المرئيات يميناً وشمالاً, لكن المتبوع هنا وهو الروح غير مُدرَك, فهذه التبعية تبعاً لهذا المتبوع غير مدركة.(1/11)
قوله (فضج ناس من أهله) لأنهم فهموا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل قد مات, وكان قبل ذلك يرجى أن تعود إليه الروح والحياة. وقوله (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) لأن الغالب أن الإنسان في هذه الحال مع شدة الفزع يدعو على نفسه بالهلاك أو بالبوار أو بأي شيء. جاء في بعض الألفاظ (واخلفه في عقبه في الغابرين, واغفر لنا وله يا رب العالمين, وافسح له في قبره ونوِّر له فيه). وتعرض العلماء والشرَّاح والمفسرون لبيان حقيقة الروح, لكن الأولى ألا يُتَعرَّض لها, وكل من تكلم فيها كلامه ضربٌ من الظن والتخمين, لأن الله عز وجل قطع الطريق على من أراد أن يتكلم فيها, ولم يجب سبحانه من سأل عنها. وجاء الأمر بالكف عن الأسئلة التي يترتب بعضها على بعض, والشيطان يلقي على لسان الإنسان أسئلة تكون فيها شبهات, فإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد عليه بالتسليم, وهناك شبه لا يمكن الجواب عنها, ولذا يخطئ في حق عوام المسلمين من يطلب المناظرة أمامهم في مسائل كبرى, فقد يوجد شبه لا يستطيع المدافع أن يجيب عنها, فما موقف طلاب العلم فضلاً عن العوام في مثل هذه الشبه؟ لأن الشبه إذا علقت بالأذهان يصعب اجتثاثها, ولا يمكن أن يوجد من تتوافر فيه الأهلية لأن يجيب على جميع الشبه, لأن العقل البشري لا يدرك كل شيء, فهناك أمور لا بد أن يقف عندها المسلم, كما قال أهل العلم (قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم).
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: {أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
التسجية هي التغطية, والبرد الحِبَرة هو المخطط وفيه أعلام, وقد غطي عليه الصلاة والسلام بذلك بعد أن مات وقبل تغسيله وتكفينه. وهذه التسجية مطلوبة لئلا ينكشف الميت فيبدو منه شيء, لأن الميت إذا مات وفارقت روحه بدنه تتغير صورته فيفزع رائيه.(1/12)
وَعَنْهَا {أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قَبَّلَ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
تقبيل الميت ولا سيما بالنسبة لذويه ومحبيه سنة, وقد قبَّل النبي عليه الصلاة والسلام عثمان بن مظعون وهو ميت والنبي عليه الصلاة والسلام عيناه تذرفان رحمةً وشفقةً ومودة لهذا الصحابي. وهذا كالتوديع له.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ, حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ} رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
الميت لا يزال مشغولاً يهمه أمر الدين, لأنه سوف يطالب به ويحاسب عليه, فإذا قضي عنه دينه بردت جلدته. وقد ورد التشديد في أمر الدين, حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة على المدين حتى ضُمِن دينه, وجاء أن الشهيد يغفر له عند أول دفعةٍ من دمه إلا الدين. والدين في الحياة ذلٌّ في النهار وهمٌّ في الليل, وقال بعضهم إنه ما دخل الدين في قلبٍ امرئٍ إلا ذهب من عقله بقدره ما لا يعود إليه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي اَلَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: {اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/13)
كان هذا الرجل واقفاً بعرفة, وقد سقط عن راحلته فوقصته فمات. وقد جاء في رواية (ولا تحنطوه) وجاء في رواية (وكفنوه في ثوبيه) يعني في الإزار والرداء. وقوله (اغسلوه بماءٍ وسدر) هل معناه أن يُخلَط السدر مع الماء أو يكون السدر مستقلاً ويصب عليه الماء أو يكون السدر في غسلة من الغسلات ويتابع عليه الماء بدون سدر؟ لأن أهل العلم يختلفون في مسألة (ما يخالط الماء من الطاهرات هل يسلبه الطهورية أم لا) وقد تقدمت في كتاب الطهارة, لكن يُغسَل بالماء والسدر ثم بعد ذلك يُتبَع بالماء, ويُجعَل السدر في الماء ويُغسَل به لمزيد النظافة. وغسل الميت تعبدي, لا لنجاسته ولا لأن الموت حدث موجب للغسل. وفي الحديث أمر بالغسل, ولذا عامة أهل العلم على أن غسل الميت فرض كفاية, فلو تُرِك الميت المسلم دون غسل أثم من علم بحاله, وإن رجح بعضهم من المالكية أنه سنة, لكن الأمر صريح في ذلك, وجاء الأمر في حديث أم عطية في قوله (اغسلنها). والماء هو الأصل في الغسل, والسدر للتنظيف, ويكفن في ثوبيه ولا يخمَّر رأسه ولا وجهه ولا يُحنَّط ولا يُطيَّب لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً, وعلى هذا لا يُكمَّل عنه الحج. وفي قوله (وكفنوه) ما يدل على وجوب التكفين, وأنه لا يشترط أن يكون وتراً, والنبي عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب, وهنا قال (كفنوه في ثوبيه) لأنه ثوب زاول فيه هذه العبادة وسوف يستمر في هذين الثوبين حتى يفرغ من هذه العبادة ولم يفرغ منها حتى يبعث يوم القيامة يلبي في حكم الحاج, فيكفن في ثوبيه اللذين مات فيهما. وقوله (يبعث يوم القيامة ملبياً) لم يذكره المؤلف رحمه الله تعالى لأنه لا يدخل في هذا الباب, وهو يدل على أن من شرع في عمل طاعة ثم اخترمته المنية دون إتمامه أنه يحصل له ما يؤمله ويرجوه من الله جل وعلا كاملاً قياساً على هذا الذي يبعث يلبي وأن الله يكتب له أجر ذلك العمل.(1/14)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: وَاَللَّهُ مَا نَدْرِي, نُجَرِّدُ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا, أَمْ لَا؟} اَلْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ.
هذا الحديث مخرَّج في المسند وسنن أبي داود وهو حديث حسن. ودل قولهم (كما نجرد موتانا) على أن الأموات يجردون من ثيابهم عند الغَسل, على أن تستر العورات ولا تباشر باليد عند الغسل. وتمام الحديث عند أبي داود (فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي عليه الصلاة والسلام وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه) وتولى الغسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وعائشة رضي الله عنها قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. وعلى كل حال الرجل يغسِّله الرجال, وللزوجة أن تغسِّل زوجها, والمرأة يغسِّلها النساء, وللزوج أن يغسِّل زوجته, على خلافٍ في ذلك.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {دَخَلَ عَلَيْنَا اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا, أَوْ خَمْسًا, أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ, بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا, أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ, فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ.فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ"} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: {ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ اَلْوُضُوءِ مِنْهَا}. وَفِي لَفْظٍ ِللْبُخَارِيِّ: {فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ, فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا}.(1/15)
أم عطية اسمها نُسَيبة أو نَسيبة, بالضم أو بالفتح, والأكثر على الضم, بنت كعب أو بنت الحارث الأنصارية, وهي من المراجع للصحابة والتابعين في غسل الميت, لأنها حضرت غسل بنت النبي عليه الصلاة والسلام, على الخلاف في حضورها غسل واحدة أو اثنتين.
ودخوله عليه الصلاة والسلام على هؤلاء النسوة اللاتي يغسِّلن البنت إما أن يكون مع علمهن بذلك وفعل ما يجب فعله تجاه الرجال, وهذا على القول أنه يُحتَجب عنه عليه الصلاة والسلام, أو على القول المرجح عند جمع من أهل العلم كابن حجر وغيره أنه لا يجب الاحتجاب من النبي عليه الصلاة والسلام.
والبنت هذه هي زينب, هذا هو المشهور, وهو الذي جاء في بعض روايات الصحيح, وهي زوج أبي العاص بن الربيع, وهي أم أمامة التي حملها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي. وكانت وفاتها في أول سنة ثمان من الهجرة. ووقع في رواية عند ابن ماجه وغيره أنها أم كلثوم, وفي البخاري عن ابن سيرين: لا أعلم أي بناته. وعلى كل حال تعيين المبهم هنا بكونها زينب أكثر وأشهر, وإن جاء ما يدل على أنها أم كلثوم, ولا مانع من أن تكون أم عطية شهدت غسل البنتين, فمن نقل أنها زينب فباعتبار, ومن نقل أنها أم كلثوم فبالاعتبار الثاني.
قوله عليه الصلاة والسلام (اغسلنها ثلاثاً) من الأدلة على وجوب تغسيل الميت, وأنه فرض كفاية, وعند المالكية وجه أنه سنة وليس بواجب, والمعتمد عند عامة أهل العلم أنه على الوجوب الكفائي. وهل العدد واجب أو ليس بواجب؟ بمعنى هل المأمور به الغسل والعدد قدر زائد على الواجب كما في غسل الحي؟ منهم من يرى أن تعميمه بالماء كافٍ كغسل الحي, ومنهم من قال إن أول عدد بدئ به الثلاث فهو أقل المجزئ, فالأمر بالغسل ثلاثاً.
قوله (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك) على التخيير الذي مرده الحاجة, وليس مرده التشهي, فإن كفت الثلاث فبها ونعمت, وإن لم تكف زدن على ذلك.(1/16)
قوله (أو أكثر من ذلك) منهم من قال إن السبع لا يزاد عليها, بدليل أنه قال في بعض الروايات (أو سبعاً). ومنهم من قال يزاد على السبع ما دامت الحاجة قائمة, مع أن ابن عبد البر يقول: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع. على أنه جاء في بعض الروايات (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) وهذه الرواية في سنن أبي داود, وهي دليل على مشروعية الزيادة على السبع إن دعت إلى ذلك الحاجة. وقوله (إن رأيتن ذلك) يعني إن رأيتن الحاجة داعية إلى ذلك, فمرد هذه الرؤية الحاجة وليس مردها التشهي.
والسدر له خصوصيات, فهو ينظِّف ويليِّن جسد الميت, ويقوم مقامه ما توجد فيه هذه الخصوصيات.
قوله (واجعلن في الآخرة) أي في الغسلة الأخيرة (كافوراً) لأنه طيب الرائحة, ويساعد في طرد الهوام وفي بقاء الجثة دون تغير. وقوله (أو شيئاً من كافور) شك من الراوي, وهو يدل على التقليل, ولا ينافي الرواية الأخرى (واجعلن في الآخرة كافوراً) لأن قوله (كافوراً) نكرة في سياق الإثبات فلا تعم, فتنصرف إلى أدنى شيء.
قولها (فلما فرغنا آذناه) أي أعلمناه (فألقى إلينا حَقوَه) بفتح الحاء وقد تكسر, وهو الإزار, والأصل في الحقو أنه معقِد الإزار, وأطلق على الإزار من باب إطلاق المحل وإرادة الحال.
قولها (فقال: أشعرنها إياه) يعني اجعلنه شعاراً لها, والشعار هو اللباس الذي يلي جسد الميت ويلامس شعره من غير فاصل, بخلاف الدثار الذي يُلبَس فوقه, ولذا جاء في الحديث المذكور في مناقب الأنصار بعد غنائم حنين (الأنصار شعار والناس دثار) فهم بمنزلة الشعار الذي يُلبَس مما يلي الجسد, فهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/17)
قوله (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) يعني ابدأن بالجهة اليمنى منها, ومقتضى قوله (ابدأن بميامنها) أن تغسل الرجل اليمنى قبل اليد اليسرى, لأن الرجل اليمنى من الميامن, واليد اليسرى من المياسر, والميامن تغسل قبل المياسر. والجملة الثانية تدل على العكس, أن اليد اليسرى تغسل قبل الرجل اليمنى, لأنها كذلك في الوضوء. فيقال: الغسلة التي فيها الوضوء يُقدَّم فيها مواضع الوضوء, وما عداها من الغسلات يُقدَّم غسل الشق الأيمن. وقد جاء في غسل الحي أنه يتوضأ وضوءه للصلاة, وعلى هذا يغسل اليد اليسرى قبل الرجل اليمنى, ثم بعد الوضوء يفيض الماء على رأسه ثلاثاً, ثم يغسل شقه الأيمن بما فيه رجله اليمنى, ثم شقه الأيسر بما فيه اليد اليسرى, وعلى هذا ليس هناك تنافٍ, فيُبدَأ بالميامن في الغسلة التي لا وضوء فيها, ويبدأ بمواضع الوضوء في الغسلة التي فيها الوضوء.
قولها (فضفرنا شعرها ثلاثة قرون) تعني جعلناه ثلاث ضفائر بعد نقضه وغسله, وتلقى هذه الضفائر خلف المرأة لقولها (فألقيناه خلفها) هذا ما يدل عليه الحديث, وبه قال الجمهور. وقال الحنفية إنه يلقى الشعر مرسلاً من غير ضفر خلفها وعلى وجهها, وحديث الباب دليل على ما ذهب إليه الجمهور, وهو حديث متفق عليه. والحنفية لم يأخذوا بهذا الحديث, وكأنهم رأوا أن هذا من تصرف أم عطية ومن معها دون أمره عليه الصلاة والسلام, لأنها قالت (فضفرنا شعرها) وليس فيه ما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر النسوة أن يضفرن شعرها. لكن جاء في بعض الروايات (اجعلن لها ثلاثة قرون) فهذا نص قاطع للنزاع, مع أن تصرف هؤلاء النسوة في مثل هذا الموضع لا يكون إلا عن علمه عليه الصلاة والسلام وتوجيهه.(1/18)
والوضوء والغسل تعبدي بالنسبة للميت, لأن المؤمن طاهر حياً وميْتاً, لكن تتجدد سِمَتُه بالنسبة للوضوء في ظهور أثر الغرة والتحجيل, وأما بالنسبة للغسل فإنه للتنظيف وهو تعبدي, يعني لو قُدِّر أنه اغتسل غسلاً مبالغاً في تنظيفه قبيل وفاته فإنه لا يكفي, لأن غسل الميت تعبدي.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {كُفِّنَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ, لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/19)
كُفِّن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب لا سبعة كما جاء في بعض الروايات الضعيفة, وجمع بعضهم بأن قال إن هذا ما اطلعت عليه عائشة, لكن الصواب أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب. وحديث المحرم (وكفنوه في ثوبيه) يدل على أن الثوبين يكفيان, والثلاثة أكمل, والواحد الذي يغطي جميع البدن هو أقل القدر المجزئ, والنبي عليه الصلاة والسلام إنما فُعِل به الأكمل. وجاء بيان هذه الأثواب الثلاثة في طبقات ابن سعد عن الشعبي أنها إزار ورداء ولِفافة. وهذه الأثواب بيض, فيستحب أن يكون الكفن أبيضاً, وجاء في الحديث (البسوا من ثيابكم البياض, فإنها أطيب وأطهر, وكفنوا فيها موتاكم) والأمر فيه أمر استحباب, لأن النبي عليه الصلاة والسلام لبس الحلة الحمراء, ومن أهل العلم من يعتني بلبس البياض, فيلبس الغترة البيضاء والبشت الأبيض, وما دام ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام لبس الألوان الأخرى فلا ضيق في المسألة, فإذا لبس الثوب الأبيض ولبس معه غيره من لونٍ آخر صدق عليه أنه لبس البياض, مع أن العناية بالأبيض ينبغي أن تكون أوفر وأكثر. والحنفية يستحبون المخطط, لأن النبي عليه الصلاة والسلام سُجِّي ببردٍ حبرة, والبرد الحبرة هو المخطط, وسبق بيان معنى التسجية وأنها التغطية, غطي النبي عليه الصلاة والسلام بهذا البرد الحبرة بعد وفاته وقبل غسله, ولو غُطِّي به بعد تكفينه ليُنزَع عنه بعد ذلك فلا بأس, كما يوضع البشت على كفن الرجل والمرأة, لكن الأكفان الأفضل فيها أن تكون بيضاء.
وسُحُول قرية في اليمن ترد منها هذه الأثواب, ومنهم من يقول هي مأخوذة من السَّحْل وهو الغسل, لكن المرجح أنها قرية في اليمن, لأنه إذا قيل إنها مأخوذةٌ من السحل وهو الغسل فإن سُحُول جمع سَحْل, والنسبة إلى الجمع شاذة.(1/20)
قولها (من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة) الكرسف هو القطن, وهو بارد على الجسد, واستحب بعض العلماء التكفين في القميص, والنبي عليه الصلاة والسلام كفِّن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص, وما كان الله ليختار لنبيه إلا الأفضل, فكيف يقال باستحباب القميص؟ والنبي عليه الصلاة والسلام كفن عبد الله بن أُبَي في قميصه, فكيف يفعل خلاف الأفضل؟ الجواب أن يقال إن تكفينه عبد الله بن أُبَي في قميصه كان مكافأةً لولده المسلم المؤمن الصادق وجبراً لخاطره, ومكافأةً للأب الذي كسى العباس قميصاً, فهذه مكافأةً لئلا تبقى له منة على النبي عليه الصلاة والسلام. ومن أجوبتهم عن حديث الباب قولهم إن المراد بقولها (ليس فيها) يعني ليس في الثلاثة, والمعنى أن الثلاثة إزار ورداء ولفافة وأيضاً قميص, فيكون القميص ليس في الثلاثة, بل هو قدر زائد على الثلاثة, لكن ليس هذا هو الظاهر من النص, بل الظاهر من النص الاقتصار على الثلاثة دون غيرها, لأنها قالت (كُفِّن في ثلاثة أثواب) يعني فقط, فلا يستحب التكفين بالقميص ولا العمامة, اللهم إذا كان لا يوجد إلا هذا القميص فإنه يكفن فيه, والمسألة مسألة استحباب. والواجب من الكفن ما يستر البدن, ولو كان قطعة واحدة, فإن لم يوجد ما يستر جميع البدن سُتِرت العورة, فإن زاد على ذلك فليُجعَل في أعالي البدن, ويُجعَل على الرجلين شيء من الحشيش, كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في عمه حمزة ومصعب بن عمير, الذين ماتوا قبل أن تُبسَط الدنيا وتتوسع.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: {لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَاءٍ اِبْنُهُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ, فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/21)
عبد الله بن أُبَي هو رأس المنافقين, الذي نُهِي النبي عليه الصلاة والسلام عليه, وأخباره كثيرة شهيرة في مضادته ومحادته للدعوة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام, ومات على نفاقه, نسأل الله السلامة والعافية.
قوله (أعطني قميصك أكفنه فيه) هذه محبة جبلية من الابن تجاه أبيه, وإلا فالمنافق عدو لا تجوز مودته ولا محبته, لكن هذه جبلة, ولو عارضت المحبة الجبلية المحبة الشرعية والحكم الشرعي صارت محرمة, ولو قدم هذه المحبة الجبلية على أوامر الشرع لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ولو كان هذا مما نهي عنه لم يجرؤ الابن على طلبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والابن مجبولٌ على حب أبيه والبحث عن شيء لعلَّه ينفعه.(1/22)
وسبق أن إعطاءه القميص كان مكافأة, فإن العباس لما أُسِر ببدر كساه عبد الله بن أُبَي قميصاً, فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه. وقد جاء ما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دُفِن ابن أُبَي كساه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه ونفث فيه من ريقه, فهل المراد أنه لما دُفِن نبش النبي عليه الصلاة والسلام قبره وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه؟ أو أنهم لما أرادوا دفنه ودَلَّوه في قبره كساه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه؟ الفعل الماضي يطلق ويراد به حقيقته, وهو حصول الفعل والفراغ منه, ويطلق ويراد به الشروع فيه, ويطلق ويراد به إرادته, والرواية التي فيها أنه لما دُفِن ألبسه قميصه صحيحة, في البخاري وغيره, لكن الرواية المتفق عليها أنه أعطاه القميص قبل أن يُكَفَّن, وعلى الرواية التي فيها أنه لما دُفِن ألبسه قميصه يحتمل أنه نبشه بعد دفنه ويحتمل أنه بعد أن دُلِّي في القبر وقبل أن يُدفَن ألبسه القميص. والروايتان بمجموعهما تدلان على أنهما قميصان, لأن هذا طلبه الابن فأعطاه إياه ليكفنه, ولما جاء يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام القميص ليكفنه لم يكن أباه قد كُفِّن, فكفنه في هذا القميص, والنبي عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه بعد دفنه وأخرجه من قبره ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه يدل على أنه قميص آخر. ومنهم من يقول إن ما جاء في حديث ابن عمر هو مجرد عِدَة, يعني وعده أن يعطيه القميص, فلما حصل ما حصل ذهب إليه وألبسه إياه في قبره, ومنهم من يقول هما قميصان, لكن مجموع النصوص يدل على أنه قميص واحد.
ومثل هذا التصرف من النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أنه يترتب عليه مصالح, لأن هذا الميت كان كبير قومه, ومثل هذه التصرفات تؤثر في قومه, وله ابن مصاب به, فتخفيف المصيبة على الابن بهذا التصرف لا شك أنه لائق بخلقه عليه الصلاة والسلام.(1/23)
وهذا الحديث دليل لمن يستحب التكفين بالقميص, لأن هذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام, وذاك ما فُعِل به, على أنه يمكن التوفيق بينهما بأن تكون الثلاثة غير القميص والعمامة, لكن الظاهر من النص أن القميص لا يوجد في أكفانه عليه الصلاة والسلام, وإنما أكفانه ثلاثة فقط.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ, فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ, وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ} رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.
قوله (فإنها من خير ثيابكم) أي أطيب وأطهر, لأن القذر يظهر فيها أكثر من غيرها, فيُسارَع إلى تنظيفها وتطهيرها, والألوان الأخرى قد يقع عليها شيء من النجاسة فلا يُشعَر به. وإذا كان الغالب عليه البياض فلا يضره أن يلبس معه غيره, والنبي عليه الصلاة والسلام لبس غير البياض لبيان أن هذا الأمر أمر استحباب, والذي يعتني بهذا الأمر ولا يلبس إلا البياض لا شك أنه أسعد بمثل هذا النص, لكن من لبس ثوباً أبيض وجعل ما زاد على ذلك بلونٍ آخر فإنه لا يُثرَّب عليه. واشتهر بين الناس قبل ثلاثين سنة أن الغترة البيضاء لا يلبسها إلا الناس الأقل في الاستقامة والالتزام, وأما أهل الفضل والخير والصلاح فإنهم يلبسون الشماغ الأحمر, حتى كان جواب بعض أهل العلم بهذا, لما سئل وقيل له لم لا تلبس الغترة البيضاء والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (البسوا من ثيابكم البياض)؟ فكان جوابه: لما لبستها أنت وأمثالك تركناها. لكن يبقى أن من يُعنَى بالبياض أسعد بمثل هذا النص.
قوله (وكفنوا فيها موتاكم) تقدم أن النبي عليه الصلاة والسلام كُفِّن في ثلاثة أثوابٍ بيض, والأصل في الأمر الوجوب, لكن لبس النبي عليه الصلاة والسلام غير الأبيض.(1/24)
وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قوله (فليحسن كفنه) أي ليكن نوعه حسناً ولونه حسناً, ولتكن الكمية كافية ضافية, والمقصود إحسان الكفن من كل وجه. وسيأتي حديث علي وهو ضعيف (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ولا تغالوا في الكفن, فإنه يسلب سلباً سريعاً) لأن مآله إلى الذهاب والبلى, لكن إحسان الكفن مطلوب لحديث جابر الصحيح, والمغالاة ممنوعة سواء كانت في الكفن أو في غيره, فالنهي عن المغالاة لا يعارض الأمر بإحسان الكفن, فيكون إحسانه بدون مغالاة وبدون إسراف.
وَعَنْهُ قَالَ: {كَانَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?", فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ, وَلَمْ يُغَسَّلُوا, وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد) يتطرقه احتمالان: الاحتمال الأول أن الرجلين يُدرَجان في كفنٍ واحد, بمعنى أنهما يلفان لفاً واحداً, والاحتمال الثاني أن الرجلين يُقسَم بينهما الثوب الواحد, فإن كفى جميع البدن, وإلا غطيت العورة والرأس وما يليه, وهذا أفضل من أن يدرَج الاثنان إدراجاً واحداً, بحيث تمس بشرة أحدهما بشرة الآخر, وهذا الاحتمال يرى بعضهم أنه هو المتعين. والاحتمال الأول يكون عند الضرورة, إذا لم يوجد إلا كفن واحد لمجموع الاثنين بحيث يدرجان فيه إدراجاً واحداً, لأنه قد لا تكفي القطعة الصغيرة التي تكفي للفِّهما مرة واحدة معاً لو قُطِعت بينهما, كما هو الاحتمال الثاني, فهذا للضرورة, وهو الاحتمال الأول.(1/25)
قوله (يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد) لأن القتل كَثُر في غزوة أحد, ولا شك أن مثل هذا يوجِد حاجة وضرورة إلى كثرة الثياب وإلى كثرة القبور.
قوله (أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد) بمعنى أنه يُجعَل في القبر الواحد أكثر من واحد, لكن الذي يظهر أنهم يجعلون بين كل اثنين شيئاً من التراب. ولا شك أن هذا فرع من فروع ما يُكسِبه القرآن صاحبه من الرفعة والتقديم والإجلال في الدنيا والآخرة. وظاهر النص أن الأكثر حفظاً للقرآن يُقدَّم في الدنيا, والله يتولاه في الآخرة إن كان مخالفاً للقرآن, وهذا من باب قوله عليه الصلاة والسلام (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين). وهذا وصف فاصل, والأوصاف الأخرى قد تخفى, فالمفاضلة التقوى تحتاج إلى شيء من الدقة, لأنه قد يخفى أمر كثير من الناس إذا أردت المفاضلة بينهم, لأن عند هذا ما ليس عند هذا, وعند هذا ما ليس عند الآخر.
قوله (ولم يُغسَّلوا, ولم يُصلَّ عليهم) الشهداء لا يُغسَّلون, والشهيد لا يحتاج إلى من يشفع له, بل هو يشفع لغيره, والصلاة على الميت شفاعة للميت ودعاء له بمغفرة الذنوب, والشهادة تجب هذه الذنوب من غير طلب, فقد جاء أن الشهيد يغفر له كل شيء عند أول قطرة من دمه إلا الدين. وبعض السلف كسعيد بن المسيب والحسن يقولون إنه يجب غسله كغيره, لكن حديث الباب الصحيح نص في المسألة أنه لا يُغسَّل. وجاء أنه يدفن بدمه ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب بدماً اللون لون الدم والريح ريح المسك, فإذا غسَّلناه أذهبنا هذا الأثر, فالمعتمد أنه لا يُغسَّل, وبهذا قال الجمهور.(1/26)
والجمهور على أن الشهيد لا يصلى عليه, لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد, وذهب الحنفية وإسحاق إلى أنه يصلى عليه كغيره, لعموم أدلة الصلاة على الميت, ولأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع لهم, ولم يصل عليهم في أول الأمر كما في حديث الباب, وعندهم الصلاة على القبر لهم فيها شروط, ولا يدخل فيها طول المدة. لكن كيف يجيب الجمهور عن صلاته على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع لهم؟ قال جمع من أهل العلم إن المراد بالصلاة - في قصة صلاته عليهم بعد ثمان سنين - الصلاة اللغوية وهي الدعاء, ومنهم من قال إنه مر عليهم وصلى عليهم صلاة الجنازة وهذا من خصوصياتهم, ولذا لم يُذكَر أنه طلب من الصحابة أن يخرجوا معه للصلاة عليهم كما فعل بالنجاشي. ولا يمنع مانع من حمل الصلاة على الصلاة اللغوية, لأن الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء, فالمعنى أنه خرج إليهم في قبورهم ودعا لهم. ويُسلَك مثل هذا للتوفيق بين النصوص, فقد جاءت الأخبار المتواترة التي منها حديث الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على شهداء أحد, وكونه صلى عليه بعد ثمان سنين كالمودع لهم لا يمنع أن تكون الصلاة لغوية وهي الدعاء, بدليل أنه لم يجمع الصحابة كما هي عادته في الصلاة على الجنازة, فلم يقل (اخرجوا لنصل على شهداء أحد) كما نعى النجاشي للصحابة وخرج بهم إلى المصلى وصلى عليه, فالمرجح أن الشهيد لا يصلى عليه.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: {سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا تُغَالُوا فِي اَلْكَفَنِ, فَإِنَّهُ يُسْلُبُ سَرِيعًا"} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.(1/27)
إسناده ضعيف, لأنه من رواية الشعبي عن علي رضي الله عنه, فهو منقطع, لأن الدار قطني وغيره نصوا على أنه لم يسمع من علي إلا حديثاً واحداً ليس هذا. وفيه علة أخرى, وهي عمرو بن هشام الجنبي, وهو ضعيف. وعلى كل حال المنع من المغالاة دلت عليه النصوص الأخرى المستفيضة التي تنهى عن الإسراف والتبذير, فالمغالاة نوع وضرب من الإسراف والتبذير, فلا يغالى لا في كفن ولا في غيره.
قوله (فإنه يسلب سلباً سريعاً) لأنه يبلى ويذهب وتأكله الأرض, فلا داعي للمغالاة فيه, ولذا لما أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن يُغسَل ثوبه الذي عليه ويكفَّن فيه قيل له (إن هذا خَلِق) فقال رضي الله عنه (الحي أولى بالجديد من الميت). والكفن إنما هو للمَهْلَة والصديد والقيح والهوام والحشرات, وأما بالنسبة للحي فإنه يعبد الله فيه ويستقبل فيه إخوانه ويحضر به الجمع والجماعات, فهو أولى به. وعلى كل حال الحديث ضعيف, ومعناه صحيح, فالمغالاة ممنوعة, لا بالنسبة للحي ولا بالنسبة للميت.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: {لَوْ مُتِّ قَبْلِي لغَسَّلْتُكِ} اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ مَاجَهْ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.(1/28)
سبق قول عائشة (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه) ففي هذا ما يدل على أنه للزوج أن يغسِّل زوجته والعكس, وفاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسِّلها علي, فما زالت الرابطة والعلاقة موجودة بين الزوجين, بدليل أنها تستمر حتى في الجنة. فالزوج أولى الناس بالاطلاع على زوجته, وهي أولى الناس بالاطلاع عليه. ومن أهل العلم من يقول إن الرابطة انقطعت بالموت, فالمرأة لا تغسِّل زوجها, والزوج لا يغسِّل زوجته. ومنهم من يفرِّق فيقول إن الزوجة تغسِّل والزوج لا يغسِّل, لأن المرأة تعتد, والزوج لا يعتد, لأنه لو ماتت المرأة انتهت جميع العلائق بها, لكن لو مات الزوج بقيت حبيسة من أجله حتى تخرج من العدة. والصواب ما يدل عليه الحديث, أنه للزوج أن يغسِّل زوجته, وللزوجة أن تغسِّل زوجها. وأما بالنسبة للرجل بين النساء والمرأة بين الرجال غير الأزواج فقد جاء في المراسيل لأبي داود عن مكحول أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس فيهم امرأة, والرجل مع النساء ليس فيهن رجل, فإنهما ييممان ويدفنان) لأن الرجال لا يجوز أن يطلعوا على النساء, والنساء لا يجوز أن يطَّلعن على الرجال, وهذا في حال الموت, ففي حال الحياة من باب أولى. وقال بهذا جمع من أهل العلم, أن التغسيل يسقط, فلا يغسَّل الرجل إذا لم يوجد رجل يغسِّله, ولا تغسَّل المرأة إذا لم توجد امرأة تغسِّلها. ومنهم من يرى إرسال الماء على الرجل أو على المرأة من بُعْد, فيسقط به الواجب وتنتفي به المفسدة.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: {أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا اَلسَّلَامُ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ} رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ.(1/29)
الدار قطني روى هذا الحديث بإسنادٍ لا بأس به ومقبول في الجملة, ويشهد له الحديث السابق. وأسماء بنت عميس كانت تحت جعفر الطيار, وبعده تحت أبي بكر, وبعده تحت علي, فلها علاقة بالموضوع, لأنها تزوجت علي بعد فاطمة, فاطلعت على مثل هذا. وهذا الحديث يدل على أن الرجل يغسِّل زوجته. وتقدم قول عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوصى أبو بكر امرأته أسماء أن تغسِّله, والمقصود أن مثل هذا جائز بين الزوجين, بل لو قيل إن المرأة أولى الناس بتغسيل زوجها لاطلاعها على ما لم يطَّلع عليه غيرها والزوج أولى الناس بتغسيل زوجته لاطلاعه على ما لم يطَّلع عليه غيره لكان له وجه. على أن النبي عليه الصلاة والسلام غسَّله علي رضي الله عنه واستعان ببعض الصحابة, فدل على أن الرجل يغسِّله الرجال, والمرأة يغسِّلها النساء. وعند الفقهاء بالنسبة للجنسين يفرقون بين من بلغ السبع وبين من لم يبلغ السبع, فالذي بلغ السبع له عورة محترمة مؤثرة في الناظر, فلا يغسِّله إلا جنسه, وأما من كان دون السبع فللمرأة أن تغسِّله وللرجل أن يغسِّله.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - -فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ اَلَّتِي أَمَرَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهَا فِي اَلزِّنَا- قَالَ: {ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
جاء نسبتها إلى جهينة, والقصتان في الصحيح, قصة الغامدية وقصة الجهنية, فهل هما اثنتان أو واحدة؟ سياق القصتين متقارب جداً, حتى جعل بعض أهل العلم يقول إن القصة واحدة وغامد بطن من جهينة. ويمكن أن يكون هناك فخذ من جهينة يقال لهم غامد, وهم غير القبيلة المعروفة. والذين قالوا إن غامد هنا بطن من جهينة فحول وشرَّاح كبار, فلم يقولوا ذلك تخرصاً, والاحتمال قائم.(1/30)
هذه الغامدية التي حصل منها ما حصل ورُجِمت تابت توبةً لو قُسِمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم, وفي رواية (لو تابها صاحب مَكْس) وأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمها لأنها زنت وهي محصنة.
قوله (ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودُفِنت) دل على أن الميت بحد يصلى عليه, لأنه مسلم. وأمر عليه الصلاة والسلام برجمها فرُجِمت, ولم يباشر الرجم, وأمر بها فصُلِّي عليها, ولم يباشر الصلاة عليها, فدل على أن الإمام لا يباشر مثل هذه الأمور, لا سيما الصلاة على من كان سبب وفاته فيه شيء, لئلا يقال إن فعله صحيح ولا شيء فيه وأنه لو لم يكن فعله صحيح ما صلى عليه, فمن مات بحد - الذي أصله ارتكاب مخالفة - لا يصلي عليه الإمام. والعلماء بينهم خلاف في الصلاة على الفساق وعلى من قُتِل بحد وعلى المحارب وعلى ولد الزنا, وعلى كل حال هم في دائرة الإسلام ويصلى عليهم, لكن يبقى أن علية القوم وأشراف الناس والإمام على وجه الخصوص يتورعون عن الصلاة عليهم.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {أُتِيَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ, فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المشاقص جمع مِشقَص وهو النصل العريض, وهذا الذي باشر قتله ترك النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة عليه عقوبة له وردعاً وزجراً لمن أراد أن يفعل مثل فعله, ومباشرة قتل النفس جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب. فمباشرة قتل النفس لا تجوز بحال, ولا يوجد في النصوص ما يدل عليها, وإن جاء في النصوص ما يدل على التسبب لكن المباشرة لم يأت في النصوص ما يدل عليها. ومثل هؤلاء لا يصلى عليهم من قبل الإمام, وإلا فهم في دائرة الإسلام, والمسلمون مطالبون بالصلاة عليهم.(1/31)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - - فِي قِصَّةِ اَلْمَرْأَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ اَلْمَسْجِدَ - قَالَ: {فَسَأَلَ عَنْهَا اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: مَاتَتْ, فَقَالَ: "أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي"? فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا, فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا", فَدَلُّوهُ, فَصَلَّى عَلَيْهَا} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ, ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ هَذِهِ اَلْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا, وَإِنَّ اَللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ}.
الخلاف في كون الذي مات رجل أو امرأة موجود في الروايات الصحيحة, وبعضهم شك هل هو رجل أو امرأة, وبعضهم جزم, وعلى كل حال الحكم المستنبط من القصة لا يتوقف على كونه ذكراً أو أنثى. وقوله (التي كانت تقم المسجد) يعني تخرج القمامة وهي الكُنَاسة, يعني تنظف المسجد, والأمر ببناء المساجد وتنظيفها وتطييبها معروف, لأنها معدة لإقامة شعائر الله كالصلاة والذكر وقراءة القرآن وتعليم العلم. ولا مانع من خدمة النساء للمساجد إذا أُمِنَت الفتنة, لكن مع وجود الفتنة لا يجوز بحال أن تدخل أماكن الرجال, لها أن تنظف أماكن النساء ومصلياتهن, وأما أماكن الرجال فلا, كما أنه لا يجوز للرجل أن يدخل ويغشى أماكن النساء.
كان العمل يصدر منهم ابتغاء وجه الله جل وعلا دون مقابل, فلا يتصور أنها كانت تقم المسجد بمقابل, لكن إذا صُرِف من بيت المال لمثل هؤلاء فهذا من خير المصارف بلا شك, لكن كون الإنسان يتبرع بمثل هذه الأعمال الصالحة فثوابه عظيم إن شاء الله تعالى.(1/32)
قوله (فدلُّوه) من الدلالة, وقولنا (فدلَّوه) من التدلية, ومثله قول الإمام (تراصُّوا) أمر بالتراص, وقوله (تراصَّوا) فعل ماض. وفي الحديث دلالة على الصلاة على القبر, وهذا مستثنى من النهي عن الصلاة إلى القبور, في حديث أبي مرثد (لا تصلوا إلى القبور, ولا تجلسوا عليها) فدل على أن المنهي عنه الصلاة المعروفة المعتادة ذات الركوع والسجود, وأما صلاة الجنازة على القبر فإنها مستثناة لثبوتها من فعله عليه الصلاة والسلام, كما في هذا الحديث, فلا يدخل هذا في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. وهذا الحديث مخصص لعموم النهي, ويبقى أنه لا يُقاس على هذا الخاص غيره, ويبقى أن الأصل النهي عن الصلاة إلى القبور وعن الصلاة في المقبرة وعن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر. وثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على البراء بن معرور بعد شهر من وفاته, فحد بعضهم الصلاة على القبر إلى شهر, ويختلفون في المدة التي تفوت فيها الصلاة على القبر, والمقصود أن صلاة الجنازة على القبر مشروعة ولا إشكال فيها لثبوتها من فعله عليه الصلاة والسلام, ويبقى ما عداها من صلاة ومن قراءة ومن ذكرٍ في حيز المنع, فالنهي عن اتخاذ القبور مساجد يتناول جميع العبادات التي تُزاوَل في المسجد. وقراءة القرآن في المقبرة بدعة, وجاء لعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, فدل على أن العبادات لا تزاول في المقبرة, ويُخَص من ذلك ما جاء الدليل بتخصيصه, وما عدا ذلك يبقى على المنع.
زيادة مسلم (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها, وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) لم يخرِّجها البخاري, بل هي من أفراد مسلم, ويحتج بها من يرى أن الصلاة على القبر خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم, والمالكية والحنفية لا يرون الصلاة على القبر, لعموم النهي, والحنابلة والشافعية يرون جواز ذلك, لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث وغيره.(1/33)
المدة التي تشرع فيها الصلاة على القبر منهم من قال إنها إلى شهر, لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على البراء بن معرور بعد مضي شهر, ومنهم من يقول إنها إلى أن يبلى الميت, فإذا بلي وفني لا يصلى عليه, لكن تعليق الحكم بشيءٍ لا يُطَّلع عليه ولا على مدته تعليق على مشكوكٍ فيه, وكونه صلى ووقعت منه المدة اتفاقاً لا يقتضي التحديد, وأما دعوى الخصوصية بالنبي عليه الصلاة والسلام فالخصوصية تحتاج إلى دليل يخصه عليه الصلاة والسلام, وإلا فالأصل أنه القدوة والأسوة, فإذا فعل شيئاً طُلِب من الأمة أن تفعله اقتداءً به. وقد يؤخذ التخصيص من التعليل بقوله (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها, وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) لكن الأصل الاقتداء, وهذه صلاة جنازة جاء الترغيب فيها, فلا يفوِّت المسلم أجره المرتب عليها.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - {أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهَى عَنِ اَلنَّعْيِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - {أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ, وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ, وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/34)
حديث حذيفة رضي الله عنه حسن. ولا شك أن النعي الذي فعله عليه الصلاة والسلام غير الذي نهى عنه, والنعي هو الإخبار بالموت, وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بموت النجاشي, فمجرد الإخبار من أجل أن يجهَّز الميت ويصلى عليه ويبادَر بقضاء ديونه واستيفاء حقوقه لا بأس به, فالنبي عليه الصلاة والسلام نعى لهم النجاشي في اليوم الذي مات فيه وأخبرهم ليجتمعوا فيصلوا عليه, فهذا مجرد إخبار. لكن النعي الذي جاء النهي عنه هو ما كانت الجاهلية تفعله من رفع الصوت في أفواه السكك والطرقات, وبعث البعوث إلى القبائل, وقولهم (ألا إن فلان بن فلان قد مات) وما يحصل مع ذلك من بيان محاسنه والنياحة عليه, فالمقصود أن النعي الذي لا يترتب عليه هدف شرعي هو الداخل في الذم, وأما إذا كان الإخبار والنعي لمجرد الاجتماع للصلاة عليه واستيفاء حقوقه وقضاء ديونه وتعزية أهله فإنه لا بأس به. ويُعلَن في الصحف أحياناً ويُصدَّر بما يدل على التزكية (يا أيتها النفس المطمئنة) وهذه تزكيةٌ لا تجوز. والأمور بمقاصدها, فإن كان للميت علاقات طويلة وأعمال مبعثرة, ولا يمكن تفريغ من له صلة إلا بالإعلان في الصحف, وكان هذا هو الهدف, فإنه يجوز منه ما يحقق هذا الهدف, وأما حجز الصفحات الأولى من الجرائد أو الصفحات الكاملة بالألوف المؤلفة فلا شك أن هذا تبذير, لكن إذا وُضِع خبر صغير بإعلان وفاته وأن من له عليه حق فليتقدم لتحصيل حقه فإن هذا هدف صحيح, وأما أن تحجَز الصفحات الكاملة للإعلان عن وفاته وللتعزية من أجل المباهاة فهذا هو المنهي عنه. فالإخبار حكمه يتبع ما يحققه, فإن كان يحقق للمخبِر المباهاة وليقال إنه صلى عليه الجموع الغفيرة وإنه تناقل الناس خبر وفاته فمثل هذا لا شك أنه يُنهَى عنه, وأما إذا كان لاجتماع أهله وذويه ومعارفه وأحبابه وأهل الخير والفضل والصلاح للصلاة عليه فهذا لا بأس به, بل هو مطلوب, لأن النبي عليه الصلاة والسلام نعى النجاشي في اليوم(1/35)
الذي مات فيه, ومنهم من يقول إنه لا يجوز النعي إلا في اليوم الذي يموت فيه, وعلى كل حال الأمور بمقاصدها, وكلٌّ يجد من نفسه ما يجد, لكن الملاحظ في كثير من التصرفات أن المباهاة لها دور كبير في النعي الموجود الآن. وتجد بعض الأخيار إذا سمع بوفاة شخص أو بجنازة ولو لم يعرف صاحبها يرسل رسائل بالجوال من أجل أن يحضر الناس للصلاة عليه, ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله, فهذا لا بأس به, لأنه لا يقصد به المباهاة ولا المكاثرة, وإنما يقصد به أن يحصل المبلَّغ على أجر الصلاة على هذا الميت, ومثل هذا قول إمام المسجد لجماعته إنه سيصلى على فلان في الوقت الفلاني في المسجد الفلاني, فهذا ليس فيه فخر ولا مباهاة, وإنما ليحصِّل الناس أجر الصلاة على الجنازة.(1/36)
وفي الحديث علم من أعلام النبوة, لأن نقل الخبر من الحبشة إلى المدينة يحتاج إلى وقت طويل, ومع ذلك نعاه في اليوم الذي مات فيه. قوله (وخرج بهم إلى المصلى, فصف بهم, وكبر عليه أربعاً) يستدل بهذا من يمنع الصلاة على الميت في المسجد, وأنه لا بد أن يُخرَج بها, وسيأتي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على ابني بيضاء في المسجد, فالصلاة على الميت في المسجد يمنعها بعض أهل العلم خشية تلويث المسجد, ولأن النبي عليه الصلاة والسلام خرج للصلاة على النجاشي ولم يصل عليه في المسجد, لكن الصلاة على الغائب ليس فيها تلويث, والنبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج بهم إلى المصلى ليكثر الجمع, ولذا تجدون الجنائز الكبيرة التي لا تستوعبها المساجد يصلى عليها في مصليات العيد, مع أنه يصلى على غيرها في المساجد. وهذا الحديث هو دليل الصلاة على الغائب, وقال الشافعية والحنابلة بشرعية الصلاة على الغائب مطلقاً, ونقل ابن حزم عن السلف أنه لم يأت عن أحد منهم خلاف هذا القول, وعند الحنفية والمالكية لا يصلى على الغائب, لكثرة من مات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بغير حضرته فلم يصل عليهم, لكن فعله في الصلاة على النجاشي وهو غائب دليل على الجواز, ولذا منهم من يقول إذا كان الغائب لم يصل عليه فيه بلده فإنه تصلى عليه صلاة الغائب, وأما إذا عُرِف أنه صلي عليه في بلده فإنه لا تصلى عليه صلاة الغائب, وإلى هذا ميل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى, لكن نحتاج إلى دليل يثبت أن النجاشي لم يصل عليه في بلده. نعم لا يصلى على كل أحد, إنما يصلى على من له أثر في الإسلام كالنجاشي, فإنه كان ردءاً نافعاً للمسلمين, فلو وُجِد من له نفع عام في الأمة أو نفع خاص لبعض الناس فإنه يصلى عليه وفاءً له. منهم من يقيد الصلاة على الغائب باليوم الذي مات فيه جموداً على ما جاء في الخبر, ومنهم من قال إنه يصلى عليه إذا كان الميت في جهة القبلة, والنجاشي في جهة(1/37)
القبلة بالنسبة للمدينة, لأن مكة تقع بين المدينة والحبشة, وهذا أيضاً جمود على النص, ويقول به ابن حبان, وعلى كل حال المرجح صحة وجواز الصلاة على الغائب, لا سيما إذا كان له أثر في الإسلام أو أثر فيمن يصلي عليه على وجه الخصوص, كما لو توفي والد والابن لا يستطيع الحضور للصلاة عليه فإنه لا يُمنَع من الصلاة عليه لأنه له أثر في حياته وفضل عليه, ومثله لو توفي شيخ له فإنه يصلي عليه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا: سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: {مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ, فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا, لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا, إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/38)
مفهوم الحديث غير معتبر, لا في الميت ولا في المصلين عليه, لما ثبت في النصوص القطعية أن النساء شقائق الرجال, وحكم الرجال حكم النساء, إلا ما وردت الأدلة بتخصيص الرجل أو العكس. والمرأة ممنوعة من اتباع الجنازة ومن زيارة القبور, لكنها غير ممنوعة من الصلاة على الميت, وهي مخاطبة بالنصوص التي تدل على أن من صلى على جنازة فله قيراط, وعلى هذا لو مات رجل بين نساء فإنهن يصلين عليه, ولو صلى عليه أربعون امرأة فلا شك أنه يدخل في مثل هذا, لأن الوصف دلت الأدلة على عدم تأثيره, لأن هذا مما يشترك فيه الرجال والنساء. قوله (لا يشركون بالله شيئاً) ليُحرَص على أهل تحقيق التوحيد أكثر من غيرهم, هؤلاء هم الذين يُدعَون إلى الصلاة على الميت, ولا يُمنَع غيرهم من الصلاة عليه ولو كان من طوائف المبتدعة, لكن الحرص يكون على من لا يشرك بالله شيئاً, ليحصل الوعد المذكور في الحديث, ولأن هذه دعوة فيُدعَى للصلاة من ترجَى إجابة دعوته. والمبتدعة كغلاة الصوفية ومعظمي البشر والمعتزلة الذين جاء وصفهم بأنهم مجوس هذه الأمة وغيرهم لا يُدعَون للصلاة على الميت, لكن لو وُجِد منهم أحد كما في الحرمين فإنه لا يُخرَج منهم أحد, لأنه لم يثبت على مر التاريخ أن مثل هؤلاء يُمنَعون, لا من الصلاة العامة ولا من الصلاة الخاصة. لكن إذا دُعِي شخصٌ من أهل السنة للصلاة على مثل هؤلاء فإنه لا يجيب, لأن الصلاة شفاعة, والشفاعة لا تنال المشرك. وإذا كان الرجل في دائرة الإسلام فالدعاء له مشروع.
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: {صَلَّيْتُ وَرَاءَ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا, فَقَامَ وَسْطَهَا} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/39)
قوله (ماتت في نفاسها) يعني بعد الولادة, أو أثناء الولادة. قوله (فقام وسطها) لعل من الحكم الظاهرة في هذا أن يستر هذا الوسط عن رؤية المصلين. وأما القيام بالنسبة للرجل فعند رأسه, ومن أهل العلم من يقول عند صدره, والنبي عليه الصلاة والسلام قام عند رأسه, لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على مرأة فقام عند عجيزتها, يعني وسطها كما في هذا الحديث, فهذه هي السنة.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى اِبْنَيْ بَيْضَاءَ فِي اَلْمَسْجِدِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قالت عائشة رضي الله عنها ذلك رداً على من أنكر عليها الصلاة على الميت في المسجد. وابنا بيضاء هما سهل وسهيل, والبيضاء أمهما, وأبوهما وهب بن ربيعة. وعمر رضي الله عنه صلى على أبي بكر في المسجد, وصهيب صلى على عمر في المسجد, وما زالت صلاة الجنازة تؤدى في المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام وبعده, ففي هذا رد على من يرى عدم إدخال الميت المسجد لشبهة التلويث أو لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي في المصلى. فالصلاة على الميت في المسجد جائزة من غير كراهة, وبهذا يقول الجمهور, وذهب بعضهم إلى أنها لا تجوز, وبعضهم يطلق الكراهة, وبعضهم يتجاوز فيطلق عدم الصحة, لكن الراجح جواز الصلاة على الميت في المسجد, والاحتجاج عليهم بما ذُكِر.(1/40)
وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: {كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا, وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا, فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُهَا} رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - {أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا, وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ} رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ, وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ. وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ فِي اَلتَّكْبِيرَةِ اَلْأُولَى} رَوَاهُ اَلشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: {صَلَّيْتُ خَلَفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ, فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكْتِابِ فَقَالَ: "لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ"} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.(1/41)
عبد الرحمن بن أبي ليلى من خيار التابعين وثقاتهم, وحديثه في الصحيحين وغيرهما, وابنه محمد الإمام الفقيه المشهور الذي يدور اسمه كثيراً في كتب الفقه, لكنه بالنسبة للرواية ضعيف سيء الحفظ, والأب من ثقات التابعين. قوله (كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً) هذا هو الغالب في التكبير على الجنازة, والتكبير على الجنازة جاء عدده متفاوتاً في الروايات الصحيحة من ثلاث إلى تسع, لكن الاتفاق في النهاية كما قال ابن عبد البر وغيره وقع على الأربع, وكانت التكبيرات تزاد في حق من زاد فضله وبان أثره, فمنهم من يقول إن هذا الاتفاق يمنع من الزيادة فيما بعد, ومنهم من يقول إن الزيادة ما زالت, ولذا يُذكَر عن بعض أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقتنا هذا من قد يزيد, لكن ينبغي أن يكون على قلة, وهذا إذا سُوِّغَت الزيادة, لكن يبقى أن الاتفاق له هيبة, وإن كان الأصل الجواز. النبي عليه الصلاة والسلام كبر على النجاشي أربعاً, وهذا الحديث يدل على الخمس, فذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم الأئمة الأربعة وكثير من أتباعهم إلى أن الأمر استقر على الأربع, فلا يزاد عليها, ومنهم من يرى أنه ما دامت الزيادة قد ثبتت من فعله عليه الصلاة والسلام فإنه لا مانع من الزيادة على الأربع حسب قوة الأثر لهذا الشخص في الدين, ولذا علي رضي الله عنه لما صلى على سهل بن حنيف كبر عليه ستاً وقال إنه بدري, وهذا رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري, وفي البخاري أن علياً رضي الله عنه كبر على سهل بن حنيف – من دون ذكر الست - وقال إنه شهد بدراً. والتعليل بشهوده بدراً يدل على أن هناك زيادة في العدد, والبرقاني في مستخرجه ذكر هذه الزيادة, يعني من الطريق التي روى بها البخاري الحديث, فهذا يدل على استمرار الزيادة لمن كان له أثر. وعند البيهقي من حديث أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً -(1/42)
وابن عبد البر أخبر بما هو من الثلاث إلى التسع - فجمع عمر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم فأخبر كلٌّ بما رأى, فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وهذه حجة من لا يرى الزيادة, يقول لأنه أفتى به عمر وجمع الناس عليه ولم يخالفه أحد, لكن صنيع علي رضي الله عنه لما كبر على سهل بن حنيف ستاً - وإن كان العدد ليس في الصحيح - وتعليله بكونه شهد بدراً يشعر بأن هناك زيادة في العدد, فهذا يستدل به بعضهم على أنه لم يحصل إجماع, والحجة في الاتفاق.
وحديث جابر رضي الله عنه قال المصنف فيه: رواه الشافعي بإسناد ضعيف. بل هو ضعيف جداً, لأنه من طريق شيخه إبراهيم بن أبي يحيى, وهو متروك, والحفاظ على تضعيفه, بل ضعفه شديد, والإمام الشافعي رحمه الله تعالى يحس الظن به من حيث الصدق لا من حيث الديانة, فيقول: حدثنا المتهم في دينه الثقة في روايته. وكثيراً ما يقول: حدثني الثقة, ويريد بذلك إبراهيم بن أبي يحيى.(1/43)
والتكبير على الجنائز أربعاً تقدم ما يشهد له, وأما القراءة بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى فيدل لها ما رواه البخاري من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف أنه قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب, وقال: لتعلموا أنها سنة. وقول الصحابي (سنة) أو (من السنة) له حكم الرفع, لأنه لا يريد بذلك إلا سنة النبي عليه الصلاة والسلام, ولذا جاء في كتاب الحج في البخاري قول ابن عمر للحَجاج (إن كنت تريد السنة فهجِّر) قال سالم: وهل يريدون بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فبعد التكبيرة الأولى يقرأ بفاتحة الكتاب, بدلالة هذا الحديث, ولعموم حديث عبادة (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وصلاة الجنازة صلاة فيشملها هذا الحديث, فلا بد من قراءة الفاتحة, والمسألة خلافية, لكن هذا الذي يدل عليه الدليل. فقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليست بسنة, بل واجبة, وبعضهم يقول بركنيتها كالصلاة لعموم حديث عبادة, وأما قول الصحابي (لتعلموا أنها سنة) فمراده أنها عمل مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام, والسنة هنا أعم من أن تكون سنة اصطلاحية.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: {صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ, وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ, وَاعْفُ عَنْهُ, وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ, وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ, وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ, وَنَقِّهِ مِنْ اَلْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ اَلثَّوْبَ اَلْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ, وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ, وَأَدْخِلْهُ اَلْجَنَّةَ, وَقِهِ فِتْنَةَ اَلْقَبْرِ وَعَذَابَ اَلنَّارِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/44)
الأصل في مشروعية الصلاة على الجنازة الدعاء للميت, ومن أجله شُرِعَت, لأنها شفاعة. قوله (فحفظت من دعائه) دل على أن الدعاء أطول من هذا, ويحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام جهر بهذا الدعاء جهراً خفيفاً حتى سُمِع وحُفِظ, وهذا لا يؤثِّر, ويكون عوف حينئذ قريبٌ منه, ولذا لم يحفظه كله, ويحتمل أنه سأله بعد أن سلم فحفظ عنه, كما سأل أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام عما يقوله في سكوته بين التكبير والقراءة فأخبره بدعاء الاستفتاح. وبعضهم أخذ من هذا مشروعية الجهر بالدعاء, لكن لو شُرِع الجهر به لحُفِظ التأمين عليه, فدل على أنه مما يسر به الإمام ويسر به الإمام, ولا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ببعض الدعاء فحفظ عنه, كما كان يجهر بالآية أحياناً في الصلاة السرية.
في دعاء الاستفتاح جاءت التنقية قبل الغسل, وهنا جاء الغسل قبل التنقية, وقد يقول قائل إن الواو في هذا الحديث لا تقتضي الترتيب, وسواء غُسِل قبل أو نُقِّي قبل فالمسألة معنوية, لكن ترتيب الكلام في المحسوسات ما جاء في دعاء الاستفتاح أظهر مما جاء هنا, لأن المسألة هنا معنوية. قال عوف بعد سياق الدعاء: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك الميت.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا, وَمَيِّتِنَا, وَشَاهِدِنَا, وَغَائِبِنَا, وَصَغِيرِنَا, وَكَبِيرِنَا, وَذَكَرِنَا, وَأُنْثَانَا, اَللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى اَلْإِسْلَامِ, وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى اَلْإِيمَانِ, اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ, وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ.(1/45)
هذا الحديث لا يوجد في مسلم, وإنما هو موجود في السنن, وأعله بعضهم, لكن العلة التي ذُكِرَت لا تقدح, فأقل أحوال الحديث الحُسْن, وهو مقبول في الجملة. قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول) يعني من ضمن ما يقول من الأدعية بعد التكبيرة الثالثة هذا الدعاء. الصغير لم يقترف ذنباً يعاقب عليه, لأنه غير مكلف, لكن يدعى له لأنه موجود, وتكون الدعوة موقوفة حتى يكلف ويرتكب الذنب. الحي يشمل الشاهد والغائب والصغير والكبير والذكر والأنثى, وكذلك الميت يشمل ذلك كله, لكن هذا تفصيل لما قد يعزب عن الذهن أثناء الدعاء فيُستَحضَر. قوله (من أحييته منا فأحيه على الإسلام) أي على الأعمال الظاهرة المتطلبة للباطنة, وقوله (ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) أي على الكمال, لأن الإيمان أكمل من الإسلام, فيُطلَب الكمال عند الخاتمة. وهذا نوع من أنواع أدعيته عليه الصلاة والسلام إضافةً إلى ما تقدم. وجاء في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما (اللهم أنت ربها, وأنت خلقتها, وأنت هديتها إلى الإسلام, وأنت أعلم بسرها وعلانيتها, وأنت قبضت روحها, جئناك شفعاء فاغفر له, اللهم إنه في ذمتك وحبل جوارك فقه فتنة القبر وعذاب النار, وأنت أهل الوفاء والحمد, اللهم فاغفر له وارحمه, إنك أنت الغفور الرحيم). والمقصود أنه حُفِظ أدعية عن النبي عليه الصلاة والسلام, فإن أمكن أن تقال جميعها, وإلا يُقتَصر على بعضها.
وَعَنْهُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى اَلْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ اَلدُّعَاءَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.(1/46)
هذا حديثٌ حسن. قوله (فأخلصوا له الدعاء) لأن الصلاة على الميت شفاعة, والإنسان يدعو من أجل أن يُستَجاب له, فإذا لم يخلص في دعائه ولا في شفاعته فحريٌّ ألا يُستَجاب الدعاء ولا تُقبَل الشفاعة, وصلاته حينئذ تكون عبثاً, ولا يترتب عليها الأثر المنوط بها لا بالنسبة للمصلي ولا بالنسبة للمصلى عليه. فإذا أخلص المصلي وأحضر قلبه نفع أخاه بدعائه الذي أخلص فيه, وانتفع هو بهذه الصلاة وترتب عليها أثرها من الأجر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى. للمظلوم أن يدعو على الظالم في حياته بقدر مظلمته لقوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظُلِم) وإن ترك الدعاء استوفى حقه كاملاً يوم القيامة, وإن أباحه وحلله ضوعف له في الأجر لقوله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وفي الحديث (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ, فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ, وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/47)
الأمر في قوله (أسرعوا بالجنازة) يراد منه المبادرة وتقليل الوقت بين خروج الروح وإدخاله القبر, فيُبادَر بتجهيزه والصلاة عليه, ويُسرَع في المشي أيضاً إلى المقبرة. منهم من يفهم أن الإسراع هو مجرد الطريق من المسجد بعد الصلاة عليها إلى دفنها, لكن العلة تتناول جميع ما يحتاجه الميت من خروج روحه إلى إدخاله في قبره. يقول أهل العلم: يسن الإسراع بها دون الخَبَب, يعني دون ما يؤثر على الحامل وعلى المشيع, ولا يعرِّض الميت للسقوط. ولا يقتضي الحديث أن نسرع بالصلاة, لأن إطالة الصلاة من مصلحة الميت ومن مصلحة المصلي. قوله (فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه) لأنها تُقدَّم إلى روضة من رياض الجنة, ولذا جاء في الخبر أنه يقول (قدموني قدموني). وقوله (وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) لأن التخلص من الأشرار مطلوب أحياءً وأمواتاً, والميت منهم يبادر بدفنه ويستراح منه. وجاء في الخبر أنها تقول (أخروني أخروني) لأنها تقدم على جزاء عملها السيء. قوله (تضعونه عن رقابكم) أي عنكم, وذكر الرقاب لا يقتضي حقيقة الرقبة, لأن بعضهم يستدل بهذا على أن المراد به الإسراع في أثناء حملها, لكنها تُحمَل على المناكب لا على الرقاب, اللهم إلا إذا وُجِد من الحملة الأربعة شخص قصير يريد أن يضعها على رأسه فإنه ممكن. لكن الأصل أنها تُوضَع على المناكب, فالرقبة ليست مقصودة بذاتها, فلا يقال إن المراد بهذا الإسراع بها أثناء حملها, بدليل أنهم يقولون (فلان تحمل في رقبته ديناً) فليس المراد الرقبة على وجه التخصيص, وإنما لأن الأصل أن يوضع القيد في رقبة المدين أو المطلوب عموماً ويُسلَّم لدائنه أو لطالبه فتعدى هذا إلى بقية التصرفات, ولا يراد حقيقة الرقبة. والأمر بالإسراع نقل جمع من أهل العلم الاتفاق على أنه للندب لا للوجوب, وأوجبه ابن حزم. وإذا كانت الوفاة فجأة وأريد التأكد من ذلك لوجود احتمال فلا شك أن التأخير واجب, ويُذكَر قصص في بعض(1/48)
المستشفيات أنه يُحكَم على الشخص بالموت ويُكتَب تقرير وفاته ويُدخَل الثلاجة ثم بعد ذلك يوجد وهو جالس وقد مات من البرد, فمثل هذا لا يُستَعجل فيه ولا يُكتب التقرير حتى يُجزَم أنه مات. فإذا وُجِد هذا الاحتمال لا تجوز المبادرة والإسراع إلا بعد التأكد, فيجب التثبت في مثل هذا.
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {"مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ, وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ". قِيلَ: وَمَا اَلْقِيرَاطَانِ? قَالَ: "مِثْلُ اَلْجَبَلَيْنِ اَلْعَظِيمَيْنِ"} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: {حَتَّى تُوضَعَ فِي اَللَّحْدِ}. وَلِلْبُخَارِيِّ: {مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ, كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ}.
قوله (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط) أي من حضر الجنازة, والمقصود بذلك الصلاة على الجنازة, لأن ما قبل الصلاة وسائل, يعني كون الإنسان يتبعها حتى يصلى عليها هذه وسيلة للصلاة عليها, بدليل أنه جاء في بعض النصوص ترتيب القيراط على الصلاة. ومن حضر الجنازة لكن لم يصل عليها فليس له قيراط, للتصريح بصلاته عليها في النصوص الأخرى, وليس المراد مجرد الشهود, وهذا كما جاء في الحديث الآخر (ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة) فلا يكفي مجرد الشهود, وإنما المقصود فعل الصلاة.(1/49)
قوله (ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) يعني من حضرها حتى تدفن, بأن يتبعها ويشيعها من المصلى إلى المقبرة, لأن الاتباع والتشييع له أثر وذُكِر في النصوص الأخرى. فمن صلى عليها ثم تبعها إلى المقبرة ثم شهد الدفن وشارك فيه فله قيراطان. لكن إذا تبعها من المسجد وحال دونه ودونها ما هو خارج عن إرادته فإنه يعد تابعاً لها, لأن هذا الأمر ليس في يده. ولو قال أنا أجلس في المسجد أقرأ جزءاً من القرآن وأصلي الراتبة حتى تنفك الزحمة وأصل معهم, فإنه لم يتبع الجنازة. والقيراطان للصلاة وللدفن, وإن كان بعضهم فهم من اللفظ أنه إذا صلى فله قيراط, وإذا شهد الدفن فله ثلاثة قراريط. قوله (حتى توضع في اللحد) وقبله قال (حتى تدفن) أي حتى توارى بالتراب, وجاء في رواية (حتى يفرغ من دفنها) فعندنا مجرد وضعها في اللحد ولو لم تدفن, كما دلت عليه رواية مسلم, وعندنا أيضاً (حتى تدفن) يعني حتى يُشرَع في دفنها وتوراى بالتراب ولو لم يتم الدفن, وعندنا الرواية الثالثة (حتى يفرغ من دفنها) فالرواية الأولى تقتضي أن القيراط مرتب على مجرد وضعها, والثانية تقتضي أن القيراط مرتب على مواراتها بالتراب ولو لم يفرغ منها, والثالثة تقتضي أن القيراط مرتب على الفراغ من دفنها, ولا شك أن الذي ينتظر حتى يفرغ من دفنها ينال القيراط بيقين, وأما إذا انصرف قبل ذلك فقد دلت بعض الروايات أن له قيراط, لكن الرواية الأخرى تدل على أنه ليس له القيراط, فضلاً عن كونه ينصرف بمجرد وضعها ولا يشارك في دفنها. قوله (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً) يعني إيماناً بالله جل وعلا وتصديقاً وإذعاناً, واحتساباً بالإخلاص في طلب الثواب من الله جل وعلا وبالإحسان على أخيه بالدعاء له وأداء حقه, لا مكافأةً له, لأن كثيراً من الناس يتكلف الحضور إلى الجنازة, ولكن يُحرَم الأجر بسبب قصده, بحيث يكون قصده من الحضور مكافأة أهل الميت على حضورهم جنازة ميتٍ له. قوله (وكان معه حتى(1/50)
يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين) هذا نص مفسر لما تقدم, فيرجع بقيراطين, قيراط للصلاة وقيراط للاتباع والدفن. قوله (كل قيراط مثل أحد) بعض الناس لا يطلب هذا القيراط, بل يسعى في نقص أجره في كل يوم قيراط, فمن اقتنى كلباً إلا ما استثني - ككلب الصيد والزرع والغنم - فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط, وفي رواية لمسلم قيراطان, فإن كان القيراط المذكور في اقتناء الكلب هو القيراط المذكور في الصلاة على الجنازة واتباعها فالأمر عظيم. القيراط في عرف الناس جزء من أربعة وعشرين جزءاً, ولذا قال بعضهم إن المراد بالقيراط جزء من أربعة وعشرين جزءاً من عمل المصلى عليه, وهذا غريب, ولما أراد تنزيل القيراط على القيراط العرفي احتاج إلى شيء ينسبه إليه, أي هو جزء من أربعة وعشرين جزءاً, لكن من أي شي؟ فما وجد إلا أن يقول (من عمل المصلى عليه) وبناءً على ذلك حث على الحرص على الصلاة على الأخيار, لأن الأخيار هم أصحاب الأعمال الصالحة الذين تكثر أجورهم. لكن هذا في مقابل ما عندنا من نص صريح لا يُعوَّل عليه, فقد جاء تفسير القيراط في الحديث الصحيح بكونه مثل جبل أحد, وفي رواية أصغرهما مثل جبل أحد. وقد تقدم الحث على الإسراع بالجنازة, في تجهيزها وفي الصلاة عليها وفي المشي بها وفي دفنها, وجاء الحث على حمل الجنازة, واستبق إلى ذلك الصحابة ومن بعدهم من خيار الأمة وحملوا الجنائز, ولذا ينص أهل العلم على أنه يسن التربيع في حملها, بأن يحملها أربعة ويتناوبون الأماكن أو يتناوبون مع غيرهم, ومنهم من حملها بين العمودين, وكل هذا على حسب ما تقتضيه الحاجة, فبعض الأموات ثقيل فيحتاج إلى أربعة, وبعضهم خفيف فيُحمَل بين العمودين من قِبَل اثنين, وعثمان بن عفان رضي الله عنه حمل جنازة أمه بين العمودين, وثبت أيضاً عن غيره من الصحابة, والتربيع أيضاً ثبت.(1/51)
وَعَنْ سَالِمٍ, عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - {أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ, يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ} رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ.
ممن أعله بالإرسال الإمام أحمد رحمه الله, وقال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح. ومنهم من حكم بوصله, والحديث على كل حال مصحح عند جمع من أهل العلم. وهو دليل على أن المشاة يكونون أمام الجنازة, وجاء ما يدل على أن الركبان خلفها, والقول بأن المشاة يمشون أمامها هو قول الأكثر, والحنفية يرون المشي خلفها مطلقاً للمشاة والركبان, ومنهم من قال يتفرقون خلفها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها, ليكون أيسر لهم وأسهل, وعلى كل حال الحديث يستدل به من يرى أن المشاة يكونون أمام الجنازة, وهو قول أكثر العلماء, لكن إن كان لا يستطيع اللحوق بهم ومشى خلفها وتبعها فهذا هو مقتضى الاتباع, فمقتضى الاتباع أن يكون خلف الجنازة, لأن التابع يكون خلف المتبوع, والحديث يُنزَّل على من يستطيع السرعة ويمشي أمام الجنازة ليصل قبلها ويهيئ لها ما يُحتَاج إليه, وهذا أفضل, والذي لا يستطيع أن يمشي أمامها وتبعها حصل له الأجر الموعود إن شاء الله تعالى, وهو مقتضى الاتباع.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ, وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا} مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ.(1/52)
هذه الصيغة لها حكم الرفع عند الجمهور, لأنه لا يُتَصور أن يقول الصحابي (أُمِرنا) و (نُهِينا) في مسألة شرعية وهو لا يريد بذلك من له الأمر والنهي, وهو النبي عليه الصلاة والسلام, وأبو بكر الإسماعيلي وبعض أهل العلم وهم قلة يرون أن الصحابي لا بد أن يصرح بالآمر, وإلا فهو يحتمل أن يكون غير النبي عليه الصلاة والسلام, ولذا لا يُحكَم له بالرفع. فقولها (نُهِينا) مرفوع على القول الصحيح, وصرحت بالناهي في بعض الروايات, فقالت كما في البخاري (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا مرفوع قطعاً, والجمهور على أنه لا فرق بين قولها (نهانا) وقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا تتبعوا الجنائز) فلا فرق بين أن ينقل الصحابي اللفظ النبوي أو يعبر عنه, وهما في دلالتهما على التحريم سيان. ويُنقَل عن داود الظاهري وبعض المتكلمين أن قول الصحابي (أمرنا) أو (نهانا) لا يدل على الأمر أو على النهي, لاحتمال أن يسمع كلاماً يظنه أمراً أو نهياً وهو في الحقيقة ليس بأمرٍ ولا نهي, لكن هذا كلام باطل, لأننا بهذا نشكك في نقل الشرع إلينا, لأن الصحابة عايشوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا موارده ومصادره مقاصده وهم العرب الأقحاح الذين فهمهم سالم من الشوائب, وإذا لم يعرفوا مدلولات الألفاظ فهل يعرفها من اختلطت ثقافته بثقافات الأمم الأخرى؟!! وهل يعرفها من لم يهتم بالدين كاهتمام الصحابة؟!! كيف نفهم النصوص إذا لم يفهمها الصحابة؟!!.
الأصل في النهي التحريم, وقولها (ولم يُعزَم علينا) صارف للنهي من التحريم إلى الكراهة, وبهذا قال جمع من أهل العلم. لكن الاتباع غير الزيارة, فالزيارة ثبت فيها اللعن, والصلاة على الجنازة مطلوبة من النساء كالرجال, ولها من الأجر مثل ما رُتِّب للرجال, لكنهن منهيات عن الاتباع, وليس فيه أجر, بل هو مكروه عند الجمهور, وأما الزيارة فإنها محرمة.(1/53)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا, فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ.
قوله (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) يعني إذا مرت بكم, كما جاء في بعض النصوص, والأمر بالقيام للجنازة إذا مرت ثابت, وتشمل جنازة المسلم والكافر, لأن القيام من أجل الموت, والموت له رهبة, ويستوي فيه المسلم والكافر, ومن أجل الذي قبض روح هذا الميت, كما جاء تعليله في بعض النصوص. وجاء أن النبي عليه الصلاة والسلام مرت به جنازة فلم يقم, فمن أهل العلم من يرى أن الترك للقيام ناسخ, فيكون القيام للجنازة منسوخاً, ومنهم من يرى أن القعود وعدم القيام صارف للأمر من الوجوب إلى الاستحباب. ويبقى أن المسلم إذا مرت به جنازة قام, وإذا رأى الجنازة قام ولو لم تمر به, لأن النص بالمرور يحكي حالة, والذي معنا (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) وفي كثير من المساجد يُهيأ مكان للصلاة على الجنازة في المسجد ويكون دونها باب مغلق أثناء صلاة الفريضة ثم يُفتَح هذا الباب وهي باقية في مكانها, وحديث الباب يدل على أن من رآها يقوم ولو لم تمر به, لكن ننظر أيضاً إلى عدم القيام ومجرد الترك في آخر الأمر هل هو ناسخ أو صارف؟ وهو محتمل, وكثير من أهل العلم يرى أن القيام منسوخ, ومنهم من يرى أنه صارف, فمن لم يقم لم يأثم, وكأن شيخ الإسلام يرى أنه صارف غير ناسخ. قوله (ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع) يحتمل أن يكون الوضع هنا على الأرض, ويحتمل أن يكون الوضع في اللحد, وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جلس وجلس أصحابه من حوله انتظاراً للدفن, وكان ينكت في عود وحدثهم وهو جالس, فالمرجح أن المراد حتى توضع على الأرض لا في اللحد, وتُنتَظر من جلوس أثناء الدفن. مروان جلس قبل أن توضع ومعه أبو هريرة رضي الله عنه, فجاء أبو سعيد فأخذ بيديه, وهذا إنكار بالفعل,(1/54)
وقال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس حتى توضع) وأبو هريرة رضي الله عنه أخذ بالرخصة, وأن هذا هو الأولى, وأنه لا يأثم من جلس قبل ذلك, لكن مخالفة النهي في قوله (فلا يجلس) ليست بالهينة, وأبو سعيد رضي الله عنه عُرِف بمواقفه في الإنكار, وأنكر على مروان وهو على المنبر, ولما أراد أن يخطب قبل الصلاة أنكر عليه, وأبو هريرة رضي الله عنه ترخص ورأى أن هذا في مثل هذا الموضع يمكن أن يُتجَاوز عنه. في معاملة الكبار هل يُسكَت عن مثل هذا ويجامَل فيه ويدارى فيه تحصيلاً لمصالح أعظم؟ أو تتبع النصوص ويدار معها من غير نظر إلى غيرها؟ لا شك أن الإسلام جاء بتحصيل المصالح ودرء المفاسد, والأصل (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه) لكن إذا ترتب على مثل هذا الإنكار منكر أعظم منه فلا شك أن الإنكار حينئذ يكون مرجوحاً, وأهل العلم ينصون على هذا.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ - رضي الله عنه - {أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرَ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.(1/55)
أبو إسحاق هو السَّبيعي, وعبد الله بن يزيد هو الخطمي, صحابي شهد الحديبية. قوله (من قِبَل رجلي القبر) أي الموضع من القبر الذي توضع فيه الرجلان, وهو من إطلاق الحال وإرادة المحل, والموضع الذي يوضع فيه الرأس من القبر هو رأس القبر. وقول الصحابي (من السنة) له حكم الرفع, والحديث يدل على أن أول ما يُنزَل في القبر الرجلان وما يليهما, وهذا الوضع مناسب جداً, لأن تدلية الرجل من قِبَل رأسه ليس هو الوضع الطبيعي, والإنسان في حياته أول ما يضع رجليه قبل رأسه, ثم يضع رأسه, وحرمة المؤمن بعد موته كحرمته حال حياته, فيُصنَع به كما يصنع في الحياة. هذا ما يدل عليه هذا الحديث, وبه قال الشافعية والحنابلة, ومنهم من قال إن الرأس أفضل فيوضع في القبر قبل, وروى الشافعي عن الثقة مرفوعاً – والثقة عنده إبراهيم بن أبي يحيى كما نص على ذلك أهل العلم وجماهير العلماء على ضعفه – من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم سلَّ ميْتاً من قِبَل رأسه. وهو أحد قولي الشافعي, والقول الأول هو الذي يؤيده حديث الباب, وهناك قول ثالث وهو لأبي حنيفة وهو أنه يُسَلُّ من قِبَل القبلة معترضاً, بحيث يوضع رأسه ورجلاه في آنٍ واحد, والذي يدل عليه حديث الباب أن الذي الرجلان توضعان في اللحد قبل الرأس, وهذه هي السنة كما قال عبد الله بن يزيد, لكن إذا لم يتيسر ذلك, وخشي مثلاً من ثقل الميت وأنه لو دُلِّيَت الجهة التي فيها الرجلان قبل جهة الرأس أو العكس أنه يسقط من حامليه لثقله فإنه يُسَل سلاًّ ويُفعَل الأرفق به وبحامله.
مسألة ستر القبر عند إدخال الميت فيه: جاء من حديث ابن عباس عند البيهقي وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام جلل القبر في جنازة سعد, لكنه ضعيف, والصحابة يرون أن يُبسَط رداء إن كان الميت امرأة, بل نزع بعضهم الرداء لما وُضِع على جنازة رجل ورأى أن هذا خاص بالنساء اللاتي هن بحاجة إلى ستر.(1/56)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ, فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ, وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -} أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْفِ.
هذا الحديث صححه جمع من أهل العلم, وأعله النسائي والدار قطني بالوقف. ورفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيه ما فيه, لكن له شواهد, وإن كانت مفرداتها لا تثبت, فبمجموعها تدل على أن له أصلاً. وجاء أيضاً قوله بعد وضعه في قبره (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى) وهذا الحديث خرَّجه البيهقي مرفوعاً, لكنه ضعيف. فيستحب أن يقال (بسم الله وعلى ملة رسول الله) والذي يعمل بالضعيف في مثل هذا الموطن - وهم الجمهور - وهو في الترغيب يقول بعد ذلك (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى) والذي لا يعمل بالضعيف مطلقاً لا يعمل بمثل هذا.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم. وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: {فِي الْإِثْمِ}.(1/57)
الاعتداء على الميت كالاعتداء على الحي, فالمسلم محترم حياً وميتاً. الذي يكسر العظم في حال الحياة يضمن ويقتص منه وتؤخذ قيمة جنايته, ومقتضى الرواية الأولى أن من كسر رجل الميت مثلاً فإنه تكسر رجله أو تؤخذ ديتها إن لم يمكن الاقتصاص, لكن رواية ابن ماجه تدل على أن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم لا في الاقتصاص كما في الدنيا, فيختلف الحي عن الميت في أن الحي الجناية عليه توجب الاقتصاص أو الدية, وأما الجناية على الميت فمقتضى الرواية الأولى أنه كالحي, ومقتضى الرواية الثانية أنه لا يقتض منه. لكن إذا عُرِف شخص باعتدائه على الأموات لأن في نفسه شيء على هذا بعينه أو على قبيلة بعينها أو على بلد بعينه فمثله يعزر تعزيراً بليغاً يردعه عن فعله, لأن المسلم محترم. إذا احتيج إلى الكسر لأن القبر صغير والمساحة ضيقة بحيث لا يمكن توسيع القبر أو لأن القبر صلب لا يمكن الزيادة فيه - والمسألة مفترضة في عدم وجود غير هذا القبر الصغير - فإن الميت يثنى ولا يكسر.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: {أَلْحَدُوا لِي لَحْدًا, وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا, كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -} رَوَاهُ مُسْلِم. وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ, وَزَادَ: {وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ} وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.(1/58)
اللحد والإلحاد هو الميل, واللحد في القبر الميل به إلى جهة القبلة, بأن يُحفَر في داخل القبر إلى جهة القبلة, فيوضع فيه الميت. وأما الشق فهو مجرد الحفر في الأرض دون ميل إلى جهةٍ بعينها. وكان في المدينة رجل يلحد القبور ورجل لا يلحد, فطُلِب أحدهما فجاء الذي يلحد فحفر للنبي عليه الصلاة والسلام لحداً, هكذا جاء عند أحمد وابن ماجه بإسناد لا بأس به, فدل على جواز الأمرين, وإن كان اللحد أفضل, لأن الله جل وعلا ما كان ليختار لنبيه إلا الأفضل, وجاء في الحديث (اللحد لنا والشق لغيرنا) وعلى كل حال إذا لم يمكن اللحد فالشق لا بأس به, كما لو كانت الأرض رخوة بحيث لو تُعُرِّض لها من أي جهةٍ منها انهارت, لكن إن أمكن اللحد فهو أفضل من الشق. قوله (وانصبوا علي اللبن نصباً) بأن تجعل واقفة مائلة إلى جهة اللحد. قوله (كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه هي السنة. قوله (ورُفِع قبره عن الأرض قدر شبر) صححه ابن حبان, لكنه معلول, وقد جاء النهي عن كون القبور مشرفة يعني مرتفعة, وأوصى النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب ألا يرى قبراً مشرفاً إلا سواه, لكن يرفع القبر قدر شبر بحيث يتميز ويعرف أنه قبر, وأما أكثر من ذلك فهو إشراف لهذا القبر, وتجب تسويته. فيرفع القبر بقدر ما يعرف أنه قبر, وذلك يتم بكونه قدر شبر, ويكون أيضاً مسنَّماً أي محدَّباً, لأنه إذا كان مسطحاً استقرت عليه المياه وأثرت عليه, وكونه مسنَّماً لا يجعل الماء يستقر عليه.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: {نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ, وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ, وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ}.(1/59)
تجصيص القبور والبناء بالإسمنت مثلاً أو بالرخام كما يفعل في بعض البلدان أو رفعها وتشييد الأبنية عليها كل هذا من البدع المنهي عنها, وهي من وسائل الغلو في الأشخاص والشرك, وما وقع الشرك الأكبر في الأمة إلا بهذه الوسيلة, نسأل الله السلامة والعافية, وتتابع المسلمون في أقطار الأرض على هذا, وبنوا على القبور ثم شيدوا وبالغوا ورفعوا الأضرحة فوقع الشرك الأكبر في هذه الأمة. وقد سمع الشيخ في موسم الحج أحدهم يقول وهو يطوف بالكعبة (يا فلان - سماه باسمه - جئنا بيتك وقصدنا حرمك نرجوا مغفرتك) نسأل الله السلامة والعافية. وقد سد النبي عليه الصلاة والسلام جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك وحمى جناب التوحيد, ولهذا نهى أن يبنى على القبر وأن يجصص. قوله (وأن يُقعَد عليه) لأن القعود عليه إهانة, وفي حديث أبي مرثد الغنوي عند مسلم (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) فالجلوس على القبر حرام. الإمام مالك رحمه الله تعالى يجوِّز الجلوس على القبر فيما يُذكَر عنه, ويحمل ما جاء في ذلك على الجلوس والقعود لقضاء الحاجة, ويُذكَر عن بعض الصحابة أنه كان يتوسد القبر ويضطجع عليه, لكن لم يبلغهم مثل هذا النص قطعاً, وجاء في الحديث (لأن يقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده خير من أن يقعد على قبر).
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - رضي الله عنه - {أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ, وَأَتَى الْقَبْرَ, فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ, وَهُوَ قَائِمٌ} رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيّ ُ.
هذا الحديث ضعيف جداً. والمشاركة في الدفن مطلوبة ورُتِّب عليها الثواب العظيم, لكن الحديث بهذه الصيغة ضعيف لا يثبت, وذكر بعضهم حديث أبي هريرة (من حثا على مسلم احتساباً كُتِب له بكل ثراةٍ حسنة) لكنه أيضاً ضعيف جداً. ودفن الميت فرض كفاية, والمشاركة فيه فيها ثواب عظيم.(1/60)
وَعَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ, فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم.
هذا الحديث مصحح عند أهل العلم, ولا بأس به. قوله (وسلوا له التثبيت) لأنه إذا وضع في قبره وتم دفنه وانصرفوا وسمع قرع نعالهم يأتيه ملكان فيسألانه أسئلة, فيُسأل للمسلم التثبيت وذلك بالإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة. قوله (فإنه الآن يُسأل) من قِبَل الملكين, وجاءت تسميتهما عند ابن حبان والترمذي بأنهما منكر ونكير, والكلام في التسمية معروف عند أهل العلم, لكن هما ملكان جاء وصفهما بالغلظة والشدة. والميت إذا دفن تعاد إليه روحه وإذا أكلته السباع أو حُرِّق وذُرِّي في الهواء فإن الله جل وعلا قادر على إعادته على الكيفية التي يشاءها. والنعيم والعذاب في الدنيا يكون على البدن, وفي البرزخ على الروح, فالروح في البرزخ هي التي تجيب والنعيم والعذاب يقع عليها, وفي الآخرة يكون النعيم والعذاب على الروح والبدن.
وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: {كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ, وَانْصَرَفَ اَلنَّاسُ عَنْهُ, أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. ثَلَاثُ مَرَّاتٍ, يَا فُلَانُ! قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ, وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ, وَنَبِيِّ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -} رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا. وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً.(1/61)
التابعي إذا قال (كانوا) فإنه يعني الصحابة. والخبر يدل على أن الميت يلقن في قبره, لكنه خبرٌ ضعيف, لا يشك أهل المعرفة بالحديث أنه لا أصل له, فلا يُعمَل به. وعرفنا أن التلقين الذي جاء في قوله (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) يكون لمن حضرته الوفاة, ليكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {كنت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا} رَوَاهُ مُسْلِم. زَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ: {فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ}. زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا}.(1/62)
جاء النهي رافع للإباحة الأصلية, ثم رُفِع هذا الرافع, فالنهي عن زيارة القبور منسوخ, والدليل على النسخ يؤخذ من لفظ الحديث. قوله (فزوروها) أمر, وحكمه عند عامة أهل العلم الاستحباب, لوجود العلة والأثر المترتب على الزيارة, وهو قوله (فإنها تذكِّر الآخرة) وفي اللفظ الآخر (وتزهِّد في الدنيا) فالعلة تدل على الاستحباب, وإن كان الأصل في الأمر الوجوب, وقال بعضهم بوجوبها اتباعاً للأمر, لكن العلة تدل على السنية. قد يقول قائل إن هذا أمر بعد حظر, وبعضهم يطلق في الأمر بعد الحظر الإباحة كما في قوله تعالى (إذا حللتم فاصطادوا) وقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) لكن المحقق أن الأمر يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر, وهنا الأمر لا شك أنه للاستحباب, والعلة تدل على هذا. قال تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) يعني شغلكم التكاثر في الأموال والأولاد وفي أمور الدنيا حتى حصلت لكم هذه الزيارة حال كونكم أحياء أو حال كونكم أمواتاً, لأن الميت إذا دفن في قبره فهو زائر, ولذا لما سمع الأعرابي قوله تعالى (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) قال: بُعِث القوم ورب الكعبة. فأخذ من هذه الآية دليلاً على البعث, لأن الزائر لا بد أن يعود, ولا يمكث في مكانه. ولا شك أن في زيارة القبور الأثر النافع سواء للزائر نفسه بالاعتبار أو للمزور. بعض الناس يزور القبور لكن لا يحصل له الأثر, لما غشى القلوب من الران وغطى عليها من الشبهات والشهوات. وكان الناس إذا مُرَّ بالجنازة في الشارع يتأثرون أسبوعاً, وليس السبب الخوف من الموت, وإنما السبب الخوف مما بعد الموت, والخوف النافع هو الذي يبعث على العمل. ومن أراد أن يستفيد في هذا الباب فليقرأ تفسير القرطبي في سورة (ألهاكم التكاثر) وقد قال إن كثيراً من الناس يزور المقابر لكن بعد مدة يجد الأمر عادياً, فهذا عليه بمشاهدة المحتضرين, لأن مشاهدة المحتضر يبقى لها أثر حتى مع طول المدة, لأنها(1/63)
ليست على لون واحد بل على ألوان, وكل إنسان من المحتضرين له ما يخصه من هذه الألوان, فلا بد أن يجد ما يؤثر فيه. قوله (فزوروها) خطاب للرجال, والنساء يدخلن في عموم خطاب الرجال, وجاء في مريم عليها السلام أنها كانت من القانتين, لكن جاء ما يخص المرأة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - {أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ} أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان.
هذا الحديث صحيح بشواهده, وهو يدل على منع النساء من زيارة القبور وإخراجهن من النص العام, وذلك لما جُبِل عليه النساء من التأثر وعدم التحمل. جاء في لفظ (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور) بصيغة المبالغة, وهذا اللفظ جعل بعض العلماء يحمله على المكثرات من الزيارة, لكن إذا كان العمل بمفرده مباحاً فكيف يُلعَن من كرره؟ وهنا (زائرات) يعني ولو مرة واحدة يصدق عليها أنها زائرة, فمن تزور مرة واحدة يشملها الحديث, ومن تكرر الزيارة يشملها الحديث أيضاً. واللعن دليل على أن الزيارة بالنسبة للمرأة كبيرة من كبائر الذنوب. جاء أن عائشة رضي الله عنها زارت أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر, وهذا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام, وقالت فيما أخرجه مسلم: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ قال: قولي (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فأخبرها ما تقول, ولم يقل لها إن الزيارة حرام, وهذا يمكن تخريجه على أنه كان قبل اللعن, وأما ما حصل منها بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام من زيارة أخيها عبد الرحمن فهو اجتهاد منها لا يعارَض به المرفوع, ولها اجتهادات لم توافَق عليها.(1/64)
لو مر إنسان بمقبرة خارج السور فإنه يسلم, ويحمل قول عائشة (كيف أقول إذا زرت القبور) على أنه مجرد مرور, وبعضهم يمنع من السلام بحجة أنه لم يزر ولم يدخل فكيف يسلم قبل الدخول؟!! لكن نقول: السلام قبل الدخول بالنسبة للأحياء مشروع, وكذا السلام على الأموات قبل دخول المقبرة لا مانع منه, ثم إنه لو قلنا إنه لا يسلم إلا بعد الدخول والمار لا يسلم لقلنا انقطع التسليم على النبي عليه الصلاة والسلام, لأنه لا يمكن الدخول عليه, وكان ابن عمر يمر بقبره عليه الصلاة والسلام وقبري صاحبيه من وراء الحجرة ويسلم, وعلى هذا إذا مر بجوار مقبرة قال (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) كما يفعل إذا مر بقبره عليه الصلاة والسلام من وراء ثلاثة جدران ويقول (السلام عليك يا رسول الله, السلام عليك يا أبا بكر, السلام عليك يا عمر). فيلزم من قولنا إنه لا يسلم من خارج المقبرة أنه لا يسلم على النبي عليه الصلاة والسلام, والحاصل الآن ليست الزيارة للقبر وإنما الزيارة للروضة, والقبر دونه ثلاثة جدران لا تمكن زيارته, ووقوف المرأة خارج السور لا يأخذ حكم الزيارة التي تباشر القبور, وعلى كل حال الأمر فيه سعة إن شاء الله تعالى. قوله عليه الصلاة والسلام (بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) خطاب يخاطب به الرجال والنساء, وقد يقول قائل: ما الذي يخص هذه الروضة من العبادات؟ ومنهم من يقول إن قوله (روضة من رياض الجنة) كما يقال (النيل والفرات من أنهار الجنة) ولا يستحب للناس أن يسبحوا في النيل والفرات, وعلى هذا لا يصلى في الروضة ولا يقرأ في الروضة أكثر مما في غيرها, لكن نقول: هذه البقعة يشملها عموم قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) وتفسير رياض الجنة بحلق الذكر تفسير ببعض الأفراد ولا يقتضي التخصيص, كتفسير الظلم بالشرك وتفسير القوة بالرمي(1/65)
وما أشبه ذلك.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : {لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اَلنَّائِحَةَ , وَالْمُسْتَمِعَةَ} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: {أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا نَنُوحَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
قوله (والمستمعة) لأنها شريكة للنائحة, لكن الحديث ضعيف, ويغني عنه حديث أم عطية, ولا شك أن اللعن أشد من أخذ البيعة على شيء, وإن كانت هذه البيعة مقابل رأس المال وهو الإسلام. والنياحة هي رفع الصوت بذكر محاسن الميت وإظهار الجزع عليه, وحديث أم عطية دل على أنها حرام, وجاءت البراءة من النائحة, وفي الحديث المتفق عليه (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) وفيه (أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق) أي من الحالقة والصالقة والشاقة التي تشق الثوب, والمقصود أن مثل هذا حرام, بل من كبائر الذنوب, لكن لا مانع من أن يبكي الإنسان من غير رفع صوت, فالعين تدمع والقلب يحزن, وقد فعله النبي عليه الصلاة والسلام, وهذا رحمة. وإذا صحب البكاء صوت فهو ممنوع.
وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة.(1/66)
الشارح مشى على أن راوي الحديث ابن عمر, وهو ثابت من حديث عمر ومن حديث ابن عمر, وعائشة رضي الله عنها استدركت على عمر وعلى ابنه. قوله (يُعذَّب في قبره بما نيح عليه) يعني يُعذَّب ببكاء أهله عليه, ومفاده أنه يؤاخذ بعمل غيره, فيكون معارضاً بقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى). هذا وزر من ناح ومن بكى فكيف يؤاخذ به الميت الذي لم ينح ولم يبك؟!! ولذا عائشة أنكرت هذا الحديث على عمر, وكذلك أنكره أبو هريرة. وأهل العلم لهم أجوبة عن هذا, منهم من يقول إن هذا محمول على ما لو عرف الميت أن من عادة أهله البكاء والنياحة ولم ينههم عن هذا, فيكون عذابه ضريبة سكوته على هذا المنكر, ولا شك أن سكوته عن قول الحق حينما يجب الإنكار له وزره وعليه إثمه, ومنهم من قال إن الحديث فيمن أوصى بأن يبكى عليه ويناح عليه, والوصية بذلك معروفة عند العرب, يقول قائلهم:
إذا مِتُّ فابكيني بما أنا أهلُهُ ... وشُقِّي عليَّ الجيب يا ابنة معبدِ
فإذا وُجِد من يوصي فلا شك أنه آثم بوصيته, ومنهم من حمل الحديث على الكفار, وأن المؤمن لا يُعذَّب بذنب غيره, لكن نقول: من عدل الله جل وعلا ألا يعذب أحداً بذنب غيره, لا مسلم ولا كافر. ومنهم من يقول إن معنى التعذيب هنا توبيخ الملائكة, فإذا ذُكِر هذا الميت بحسنة من حسناته أو بفعل من أفعاله قيل له: وهل أنت كذلك؟ لكن العذاب يدل على أن له أثر في المعذَّب, ومنهم من قال إن المراد أنه يتألم في قبره مما يسوءه, فبكاؤهم ونياحتهم لا شك أنها تؤثر فيهم, فهو يتألم من أجل هذا الأثر فيهم, والألم عذاب. والجمهور حملوه على ما إذا أوصى, فيكون إثمه ووزره على فعله, وعلى هذا يتحد الحديث مع الآية.(1/67)
وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: {شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُدْفَنُ, وَرَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عِنْدَ اَلْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.
جاء في بعض الروايات أن البنت هي أم كلثوم, وقال بعضهم إنها رقية, لكن رده البخاري بأن رقية ماتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر, فلم يشهد دفنها. فالمتجه أنها أم كلثوم, وتسميتها لا يتعلق بها حكم, وإنما الحكم متعلق ببكاءه عليه الصلاة والسلام بمجرد دمع العين وحزن القلب, ولا يقال في مثل هذا الظرف إلا ما يرضي الله جل وعلا, كما قال عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه إبراهيم (إن القلب ليحزن, وإن العين لتدمع, ولا نقول إلا ما يرضي ربنا, وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) ولا شك أن الإنسان يؤثر فيه موت قريبه أو عزيز عليه, لكن لله ما أخذ وله ما أعطى, ومثل هذا الموقف من المضايق, فالإنسان يصعب عليه أن يتصرف التصرف الشرعي مثل تصرفه عليه الصلاة والسلام, بأن يحزن القلب وتدمع العين ولا يكون في القلب أدنى اعتراض على قدر الله جل وعلا, لأن حزن القلب ينشأ عنه الاعتراض, سواء كان ملفوظاً به أو غير ملفوظ به, وهذا نظير ما لو باشر الإنسان السبب ولم يلتفت إلى السبب ألبتة, ولذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث السبعين الألف (لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) مع أن هذه أسباب, والمسبِّب هو الله جل وعلا, لكن لا يمكن أن تباشر هذه الأسباب ولا تخدش هذه المباشرة بتوكلك, وليس الكلام مع من يعتمد كلياً على السبب, بل الكلام مع شخص يرى أن المسبِّب هو الله, لكن ألا يقر في قلبه الالتفات إلى السبب لا سيما إذا وجد النفع المباشر من العلاج مثلاً؟ النبي عليه الصلاة والسلام باشر الأسباب, لكن لا يتصور بحال أنه التفت إلى شيء من هذه الأسباب, بل علاقته مع المسبِّب. وهنا لا يتصور(1/68)
أنه عليه الصلاة والسلام اعترض على القدر بحال, وبعض الناس يقول إن الرضا بالقدر هو أن يكون رضاك بما قدر الله جل وعلا أفضل من رضاك بعدمه, يعني إذا مات لك ولد يكون في قلبك ارتياح لموت هذا الولد أكثر من بقاءه, وهذا صعب بالنظر إلى حال كثير من الناس, ولذا الحريص على الرضا بالقدر لما صَعُب عليه الأمر وضاق في نظره التوفيق لما مات ولده ضحك, ليحقق تمام الرضا بالقدر, لأنه يقول: لا يمكن أن يحزن القلب وتدمع العين ولا أعترض على القدر. لكن هذا خلاف السنة. والمصائب مكفرة للذنوب, ويشترط جل أهل العلم لتكفيرها أن يصبر ويحتسب, ومنهم من يقول إن الأجر المرتب على المصيبة إنما هو على المصيبة ولو لم يصبر, وأجر الصبر قدر زائد على أجر المصيبة, وفضل الله واسع.
وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه. وَأَصْلُهُ فِي "مُسْلِمٍ", لَكِنْ قَالَ: زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ اَلرَّجُلُ بِاللَّيْلِ, حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ.(1/69)
الحديث الذي أخرجه ابن ماجه صحيح إن شاء الله تعالى. قوله (لا تدفنوا موتاكم بالليل) لأن الدفن في الليل سبب للتقصير في حق الميت, كما دلت على ذلك النصوص الأخرى, لأن الصلاة عليه بالليل تحول دون الصلاة عليه من قِبَل كثير من الناس, فيقل من يصلي عليه ويقل من يشيعه, وقد لا يكفن في كفن مناسب, ولذا زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه, فالزجر سببه عدم الصلاة عليه لا قبره بالليل, لقوله (حتى يصلي عليه) لأنه قد يُذكَر النهي عن الشيء في حالٍ معينة أو يُطلَب الشيء في حالٍ معينة فلا يسري على بقية الأحوال, فقول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً) المراد به طلب الوفاة على الإسلام وليس المراد به طلب الوفاة, وهنا زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه, أي إلى هذه الغاية, فإذا صلي عليه جاز الدفن بالليل, وجوازه يدل عليه أدلة كثيرة, فأبو بكر رضي الله عنه دفن ليلاً, وعلي رضي الله عنه دفن فاطمة ليلاً, وفعل الصحابة يدل على هذا. وفي الترمذي من حديث ابن عباس (أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل قبراً ليلاً فأُسرِج له سراج فأخذه من قِبَل القبلة) الحديث. فالدفن بالليل لا بأس به, وإن كان الدفن بالنهار أفضل, والزجر إنما هو في حق من دُفِن بالليل مع التقصير في حقه. والليل كان إلى وقت قريب عائق عن تحصيل كثير من الأمور. جاء في حديث عقبة بن عامر (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع, وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس, وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب) فهذه الأوقات المضيقة لا يصلى فيها, لا على جنازة ولا على غيرها, ولا يُدفَن فيها الميت, بل يُنتَظر حتى يخرج وقت النهي, ولو أعاد المؤلف هذا الحديث أو أشار إليه هنا لكان أولى, ليذكِّر به.(1/70)
فائدة: رجح الشيخ ابن باز رحمه الله ضبط (حتى يصلي عليه) بكسر اللام, وذكر أن هذا ضبط ابن حجر, واستدل بحديث عند النسائي (لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به, فإن صلاتي عليه له رحمة). فالضمير في قوله (حتى يصلي عليه) يعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قال الشيخ عبد الكريم حفظه الله: هذا متجه.
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ - حِينَ قُتِلَ- قَالَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - "اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا, فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ"} أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ, إِلَّا النَّسَائِيّ.(1/71)
هذا الحديث حديث حسن, بل قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قوله (لما جاء نعي جعفر) حينما قُتِل بمؤتة مع صاحبيه, ولما شُغِل أهله بخبر وفاته وذُهِلوا به لم يكن عندهم من الفراغ ما يمكِّنهم من صنع الطعام, ولذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع الطعام لهم, فصنع الطعام لأهل الميت سنة, وهذا أقل أحواله, لكن يُصنَع لهم بقدر الحاجة, وإذا كان أكثر من قدر الحاجة فقد جاء أن الاجتماع وصنع الطعام كان يعد من النياحة. ومعلوم أن الناس قد تعارفوا بينهم – سواء في الضيافات أو في غيرها – أن الطعام لا بد أن يُزَاد فيه ويُحسَب للنوائب حسابها, فلا يحسن بمن أراد أن يصنع لهم طعاماً أن يسألهم عن عددهم لكي يصنع لهم طعاماً بعددهم, بل يقدِّر ويصنع طعاماً يكفيهم ويكفي أقاربهم وضيوفهم, وهذا لا بأس به. ويكره أهل العلم كثرة الكلام في أمور الدنيا والضحك وتبادل النكت والطرائف أثناء حزن بعض الناس, كما أنه يستحب أن يُرَى أن في الدين فسحة في أيام الأعياد والأعراس وما أشبهها, لكن بالتوسط في هذا وفي هذا, ولا بد من مراعاة الآداب الشرعية في البابين. والمنع بالكلية من صنع الطعام مخالف لهذا الحديث, والتوسع الغير مرضي في الظروف العادية أولى بالمنع في هذا الظرف.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى اَلمَقَابِرِ: {اَلسَّلَامُ عَلَى أَهْلِ اَلدِّيَارِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ, أَسْأَلُ اَللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ} رَوَاهُ مُسْلِم.(1/72)
السلام على الميت جاء بالتعريف, وأما بالنسبة للسلام على الحي فأنت مخير, إن شئت فعرِّف وإن شئت فنكِّر, ولذا يقول أهل العلم: ويخيَّر في تعريفه وتنكيره في سلامٍ على الحي. مفاده أن السلام على الميت يعرَّف ولا ينكَّر, لأن النصوص كلها جاءت بالتعريف, وأما بالنسبة للسلام على الحي فقد جاءت النصوص بهذا وهذا. قوله (السلام على أهل الديار) المقبرة دار مسكونة معمورة بأهلها. والمشيئة في الحديث لا تفيد شكاً في اللحاق بالأموات, وإنما هي للتبرك. ومن فوائد زيارة القبور أن ينتفع الميت بالسلام والدعاء له.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {مَرَّ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ اَلْمَدِينَةِ, فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ اَلْقُبُورِ, يَغْفِرُ اَللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ, أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ"} رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: حَسَن.
هذا الحديث فيه ضعف, لكن لعل الترمذي حسنه بشواهده. والميت ينتفع بالدعاء إجماعاً, وينتفع بالصدقة بلا خلاف, وينتفع بالحج والعمرة, فقد جاء في الحديث (حج عن أبيك واعتمر) فهذه أمور تقبل النيابة, والخلاف في مسألة إهداء الثواب للأموات وللأحياء مسألة معروفة عند العلماء, فمهم من يرى الاقتصار على ما ورد من هذه الأمور المذكورة, ويجعل ما عداها على خلاف الأصل, ومنهم من يقول أي قربة فعلها ثم أهدى ثوابها لحي أو ميت وصله, ويدخل في ذلك الصلاة والصيام وقراءة القرآن. قال الشيخ عبد الكريم حفظه الله: الاقتصار على الوارد هو الأصل, فليقتصر عليه وعلى ما في معناه.(1/73)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - {لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ, فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا} رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ. وَرَوَى اَلتِّرْمِذِيُّ عَنِ اَلمُغِيرَةِ نَحْوَهُ, لَكِنْ قَالَ: {فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ}.
السب يكون بالشتم وإظهار المساوئ وكشف الإسرار. قوله (لا تسبوا الأموات) الأموات جنس, عند بعض أهل العلم يشمل المسلمين والكفار. فلا يُسَب الميت لأنه قد أفضى إلى ما قدم, وسوف يواجه حكماً عدلاً لا يظلمه فيجازيه على حسناته ويعاقبه على سيئاته, فالسب لا نتيجة له ولا فائدة منه, لكن إذا ترتب عليه مصلحة ولم يُقصَد السب وإنما قُصِد النصيحة فلا بأس به, وهذا يظهر جلياً في جرح الرواة, فقولنا (فلان كذاب) يعد سباً له, لكن يترتب على هذا التصحيح والتضعيف, وصيانة الدين مقدمة على حرمات الأشخاص, فكوننا ننهى عن سب الأموات لا يعني أننا لا نحذِّر من هذا الكذاب أو الضعيف أو المبتدع الذي يُخشَى من ضرر بدعته. فالنهي عن سب الأموات مثل النهي عن سب الأحياء, ولا تجوز بحال غيبة الأحياء, إلا إذا ترتب عليها مصلحة أعظم مصلحة منها. والله جل وعلا حكى ما حكى عن الأمم السابقة وذكر كفرهم وجرائمهم وتكذيبهم للأنبياء وقتلهم لهم, وهم أفضوا إلى ما قدموا, لكن ذكر الله ذلك لما يترتب عليه من المصلحة الراجحة, لأنه كما قال عمر وغيره (مضى القوم ولم يُرَد به سوانا) وقال تعالى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وجاء ذكر الجنازة التي مرت بهم فأثنوا عليها شراً فلم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم, بل أقرهم على ذلك وقال (وجبت) يعني النار, وجاء في ذكره أنه كان فظاً غليظاً, فإما أن يقال إن هذا كان قبل النهي, أو يقال إن مثل هذا شره ظاهر ولا يستتر به ولا يخفيه, وما كان مما يظهره الإنسان ويخشى من تعديه إلى غيره ويقتدى به فيه يُحذَّر منه. قوله(1/74)
(فتؤذوا الأحياء) يعني هذا الميت الذي ارتكب ما ارتكب مما يبرر سبه يتأذى بهذا السب, كما أن قريبه الحي يتأذى بذلك أيضاً, ولا شك أن الإنسان لا يرضى أن يذكَر قريبه بما يسوؤه فيتأذى بذلك, وأذية المؤمنين أحياء وأمواتاً محرمة, فمثل هذا المؤذي يُمنَع في حق الحي والميت لا سيما المسلم, وأما الكافر فمحل خلاف, ولا أعظم من وصفه بالكفر, لا سيما إذا كان ممن يستريح منه المسلمون. من الأذية للميت القعود على قبره والمشي عليه, وجاء في الحديث الصحيح (لأن يقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) وجاء في حديث أبي مرثد (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) فالجلوس على القبور محرم, وجاء عن علي رضي الله عنه أنه كان يضطجع على القبر ويجلس عليه, ومثله جاء عن ابن عمر, ولعل النهي لم يبلغهما, ولذا قال مالك إن القعود على القبر بالنسبة للجلوس العادي لا شيء فيه, وحمل ما جاء من النهي عنه على القعود لقضاء الحاجة, لكنه تأويل مستكره بعيد جداً, لأنه من الامتهان أن يوطأ القبر, وقد نهي عن المشي في النعال بين القبور لا على القبور, فكيف بالقعود؟!! وهذا لا يقدح في الإمام مالك, فهو إمام دار الهجرة ونجم السنن.
فوائد مأخوذةٌ من الأسئلة:
قصر الأمل المطلوب إنما هو في أمور الدنيا, والمذموم منه ما يبعث على ترك العمل والتواني فيه والتراخي. وكونه ينوي نية الخير ولو طال أملها ليس بمذموم.
قبل خروج الروح يموت المؤمن بعرق الجبين لكن إذا وصل إلى مرحلة خروج الروح تخرج روحه كما تخرج القطرة من في السقاء بخلاف روح الكافر.
حديث (من غسَّل ميتاً فليغتسل, ومن حمله فليتوضأ) ضعيف.
سؤال: هل العقل في القلب أم في الدماغ؟(1/75)
لا شك أن العقل هو مناط التكليف, وفيه حديث (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم (والمجنون حتى يفيق), وخطابات الشرع كلها موجهة إلى القلب, والصلاح والفساد معلق بالقلب, فدل على أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين القلب والعقل, فجل أهل العلم يقولون إن العقل محله القلب, وعند الأطباء العقل محله الدماغ, ويستدلون على ذلك بأمور حسية, وأنه يمكن أن يغير القلب المحسوس الذي هو المضغة في الجسد ولا يتغير شيء من حال الشخص, وإذا تأثر دماغه تأثر عقله, وقول الإمام أحمد فيه جمع بين هذه الأقوال ونظر إلى ما جاء في النصوص وإلى ما يشهد به الواقع, فيقول إن العقل محله القلب وله اتصال بالدماغ.
سؤال: إذا مات الشخص وعليه دين, ثم قام أحد أبنائه وقال (من كان له دين فهو في ذمتي حتى أقضي عنه) فهل تبرأ ذمة الميت؟
نعم تبرأ ذمة الميت, لكنها براءة مؤقتة إلى أن يقضى هذا الدين, ولذا استمر النبي عليه الصلاة والسلام يسأل (ما فعل الديناران) ولما قضيت قيل (الآن بردت جلدته).
أهل العلم ينصون على أن زكاة الفطر تتبع البدن, فيخرجها الإنسان عن نفسه في مكان إقامته الذي فيه بدنه, وجمع من أهل التحقيق لا يرون مانعاً أن يخرجها الأب عن ولده المسافر, لكن إن أخرجها الولد المسافر عن نفسه فهو أحوط.
السائمة التي لم تعد للتجارة زكاتها زكاة بهيمة الأنعام, وكونه ينوي أنه إن جاءه فيها سعر مغري باعها وإلا لم يبعها فهذه النية لا تكفي لأن تكون من عروض التجارة.
لا يجوز كشف وجه الميت عند إنزاله في القبر إلا إذا كان محرِماً.(1/76)
لفظة (الموت) في حديث (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت) الذي يظهر أنها من الحديث, لأن الهاذم للذات والقاطع لها أعم من أن يكون الموت أو غيره, فلا يختص هاذم اللذات بالموت, بل المرض يقطع اللذات, والهم يقطع اللذات, فجاء الحديث لتعيين القاطع الحقيقي, وليست دلالة (هاذم اللذات) على الموت لغوية بحيث يعرفها الصحابة فيكتفى بقوله (أكثروا ذكر هاذم اللذات).
سؤال: ما رأيكم فيمن يقول إن التلقين يكون بعد الموت أي في القبر, والدليل أن الميت يسمع قرع النعال؟
كون الميت يسمع قرع النعال لا دلالة فيه على أنه يسمع غيره.
سؤال: ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى أن ابن عمر أوصى بأن يقرأ عليه عند دفنه فواتح سورة البقرة وخواتيمها, وكذلك أُثِر عن بعض الصحابة, فهل يُنكَر على من يوصي بذلك أو يقرأ فواتح سورة البقرة وخواتيمها عند دفن الموتى, والإمام أحمد يرى الأخذ بفعل الصحابي ما لم يخالَف؟
لم يثبت ذلك في المرفوع, إلا ما يفهم من قوله (اقرؤوا على موتاكم) و (لقنوا موتاكم) مع أنه يمكن تخريج ذلك على وجه يصح دون معارضة للنصوص, ولم يفعله من هو أفضل من ابن عمر, فينكر على من فعل ذلك, وإلا لقيل لمن يرى ذلك (لك أن تدخل الماء في عينيك حتى يكف بصرك اقتداءً بابن عمر, وهو صحابي مؤتسي من خيار الأمة) لكن في الأمة من هو خير منه, رضي الله عن الجميع.
لا يجوز للابن أن يغسِّل أمه إذا ماتت, ولا يجوز للأب أن يغسِّل ابنته إذا كان لها أكثر من سبع, وليس للأم أن تغسِّل ابنها, فالتفاوت بين الجنسين إنما هو بين الزوجين.
سؤال: إذا أسلم الكافر فهل نلزمه بدفع الزكاة, أم أنه يطالب بها إذا حال الحول من إسلامه؟
إذا كان الإمام قد تمكن من قتله وإذا طلبت منه الزكاة فوراً لا يكون عنده تردد في الإسلام ولا يؤثر ذلك عليه فالأصل أنها وجبت عليه من قبل وحال عليها الحول, فتُطلَب فوراً, لكن إن كان في تأجيلها ترغيب له في الإسلام فالأمر فيه سعة إن شاء الله تعالى.(1/77)
سؤال: ما حكم تعليق الفضة على الجدران كمنظر تراثي, وهل عليه زكاة؟
هذا يدخل في باب الإسراف والتبذير, وعليه الزكاة إذا بلغ النصاب.
لا يحتاج إلى تقديم الثناء على الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم بين يدي الدعاء في السجود.
قصة ماعز الأسلمي غير قصة الغامدية.
اعتراف طرف بالزنا لا يلزم منه إقامة الحد على الطرف الآخر. ولذلك لما اعترف ماعز ما سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن المزني بها, فاعتراف طرف لا يؤثر على الآخر.
سؤال: هل يجوز الاتفاق مع العمال بتأجيرهم ورشة مثلاً وهم تحت كفالته؟
إذا أمنت لهم ما تطلبه الورشة ثم أجرتها عليهم فالأجرة جائزة, وهم من أهلها, لكن إذا كانت الأنظمة لا تجيز ذلك وكان في هذا تحايل على الاكتساب من غير جهد فهذا قد يُمنَع إذا كان مجرد حيلة, يعني بدلاً من أن تأتي بالعمال وتسرِّحهم في الأسواق وتأخذ عليهم الأموال بدون مقابل تؤجر عليهم محلاً بأجرة المقصود منها الحيلة للوصول إلى المال, كأن تستأجر محلاً بعشرة آلاف مثلاً وتقول بدلاً من أن تدفعوا لي كل شهر ألف أؤجركم المحل بعشرين ألف, وهذه حيلة ظاهرة.
ترك إمامة المسجد بحجة الخوف من العجب بالنفس بسبب حسن الصوت وإتقان التجويد ليس بعلاج, بل على المرء أن يعالج مرض القلب, والترك ليس بعلاج, وإلا هذا التخوف يعرِض لجميع العبادات.
سؤال: يوجد لدينا في العمل مصلى, وأحياناً نرابط يوم الجمعة فهل نصليها جمعة أم نصليها ظهراً؟
إذا كان المسجد مسجد جمعة ورُخِّص له في ذلك وجاءت الفتوى بإقامة الجمعة فيه صلوا فيه الجمعة وإلا فلا.
التصوير حرام, واقتناء جوال الكاميرا يعين على ارتكاب المحرم ويسهله, فالأولى تركه, لكن مجرد الاقتناء لا للتصوير أو لتصوير أشياء ليست من ذوات الأرواح, إذا كان يضمن أن هذا الجوال لا يقع في يد غيره فالأمر فيه سهل إن شاء الله تعالى.
سؤال: هل يجوز إتمام الأذكار في المقبرة؟(1/78)
إن كان يتصور أن للذكر في هذه البقعة فضل لوجود الأخيار والصالحين والأولياء فهذا لا يجوز بحال, وإن كان لا يتصور هذا وأراد إتمامه لئلا يفوت وقته فالأمر إن شاء الله أخف, لكن عندي أن الأعمال التي هي من خصائص المسجد من العبادات لا تفعل في المقبرة تشبيهاً لها بالمسجد.
الأولى ألا تسلك مسالك التمثيل والمسرحيات في باب الدعوة, لأن هناك وسائل شرعية للدعوة جاءت في نصوص الكتاب والسنة وفعلها سلف هذه الأمة وخيارها, والتمثيل والمسرحيات أمور حادثة وطارئة, نعم هي وسائل, لكن يبقى أنها تزاول في عبادة, فتتقى بقدر الإمكان. من أهل العلم من أجازها وأباحها, وإن كان فيها شوب الكذب, لكن المصلحة راجحة عندهم, والذي عندي أنها لا تفعل, بل تسلك الوسائل الشرعية.
ليس هناك أفضل من نخبة الفكر مع شروحها المقروءة والمسموعة بالنسبة للمبتدئين في دراسة علم مصطلح الحديث, وللمتوسطين اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير, مع ما كُتِب عليه, وللمتقدمين ألفية العراقي مع شروحها, ثم العمل, لأن هذا العلم عملي أكثر منه نظري.
سنن أبي داود له شروح كثيرة, منها شرح ابن رسلان ولم يُطبَع إلى الآن, ومنها شرح العيني والموجود منه مطبوع, ومنها شرح للخطابي (معالم السنن) وهو أقدم هذه الشروح, وهو شرحٌ على اختصاره الشديد نفيس لا يستغني عنه طالب علم, فإذا قرئ هذا الشرح مع تهذيب ابن القيم استفاد الطالب فائدة كبيرة, وعون المعبود أيضاً كتاب طيب ويدور مع الدليل,وبذل المجهود أيضاً فيه فائدة, لكنه على طريقة الحنفية.
الصلاة الأولى على الميت في المسجد أفضل من الصلاة عليه في المقبرة.
إذا اجتمع رجل وامرأة فإنا نجعل رأس الرجل بحذاء وسط المرأة.
الأصل أن التقبيل يكون قبل التكفين, وأما بعد التكفين فلا يتعرض له بشيء, وإن قبله من وراء الكفن فلا بأس.
الشخص الواحد يصلي على الميت مرة واحدة لا مرتين, لكن تعدد الصلوات لأشخاص لم يصلوا عليه لا بأس به.(1/79)
الأصل أن أقارب الميت يدفنون ميتهم ثم ينصرفون, وجعل مجلسٍ في المقبرة مخصص لتقبل التعازي من قِبَل أقارب الميت أمرٌ حادث.
أفضل تحقيق للألفية كان في الطبعة الهندية بتحقيق علي حسين علي.
ليس كل شخص يقدر على إنزال الميت في القبر, فإن كان الابن يقدر على إنزال أبيه في القبر فهو أولى الناس به, وبعض الناس لا يستطيع ذلك, فلا يكلف ما لا يستطيع.
سؤال: قوله عليه الصلاة والسلام (وأهلاً خيراً من أهله) ألا يدل على أن المؤمن لا يجتمع مع زوجته المؤمنة في الجنة؟
ثبت أن المرأة تتبع زوجها في الجنة, إذا كانت من أهلها, لكن يبدل خيراً منها من الحور العين معها.
يرى بعض الصحابة أنه تقرأ سورة بعد الفاتحة في صلاة الجنازة, والأكثر على قراءة الفاتحة فقط.
الذين يجيزون الصلاة على الغائب وهم الأكثر لم يشترطوا أن يكون الميت في جهة القبلة, ولا أعرف هذا الشرط إلا عن ابن حبان.
النبي عليه الصلاة والسلام صلى على البراء بن معرور بعد دفنه بشهر, وبعضهم رأى أنه لا يوجد ضابط إلا هذا, منعاً للاسترسال, بحيث كلما دخل الإنسان بلداً ذهب إلى المقبرة وصلى على الأموات, وهذا لم يُفعَل أبداً. وليس هناك ما يدل على المدة إلا هذا الحديث, مع أن مجرد الفعل لا يدل على التحديد. والمقصود أنه إذا كان له عليه حق أو له في الإسلام أثر فهو كالصلاة على الغائب, فإذا حضر إلى البلد فإنه يصلي عليه متى بلغه الأمر, كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بالمرأة التي كانت تقم المسجد.
أفضل طبعات صحيح مسلم الطبعة العامرة التركية ذات الثمانية أجزاء, وطبعة محمد فؤاد عبد الباقي جيدة, مخدومة ومرقمة وصحيحة في الجملة, وهي مأخوذة من العامرة.
يشترط لصحة الخطبة أن يتقدمها خطبتان, فإذا سها الإمام يوم الجمعة فلم يخطب إلا خطبة واحدة ولم يذكِّره أحد فإنهم يعيدون الصلاة, وإذا خرج الوقت أعادوها ظهراً.
إذا دعا الإمام في الخطبة فإن المأموم يؤمِّن سراً بينه وبين نفسه.(1/80)
يجوز كون سجود السهو قبل السلام أو بعده, والخلاف إنما هو في الأفضل.
الصلاة على المقتول في حد ترجع إلى اجتهاد الإمام, فإذا رأى الإمام أن هذا قد تاب توبة محت أثر الذنب فلا مانع من أن يصلي عليه, لكن إذا رأى أن الصلاة عليه قد تكون مبرراً ومسهلاً عند بعض الناس لما ارتكبه من ذنب فإنه لا يصلي عليه, فالمسألة مسألة مصلحة شرعية.
الشهيد حي في قبره, ومقتضى ذلك أنه لا تأكله الأرض.
إذا رأى أهل الميت أن يصلى عليه في مسجد أبعد من مسجدهم لكي يكثر الجمع فلا بأس, لأن هذا مقصد شرعي. واتخاذ مسجد من أجل أن يقصده الناس بهذه النية لا بأس به, لكن على ألا يحرم الناس في بقية المساجد من هذا الفضل العظيم.
سؤال: يستخدم في هذه المنطقة بدل اللبن لوح من البلك؟
هذا يحتاج إلى اطلاع عليه, وإذا كان اللبن لا يثبت لرخاوة الأرض فإنه يوضع مكانه ما يثبت.
سؤال: في مصر بعض الأراضي طينية والماء فيها قريب جداً فتبنى القبور من الأحجار والإسمنت مرتفعة يوضع فيها الموتى فما حكم هذا العمل؟
البناء لا يجوز, واستخدم الآجر والإسمنت لا يجوز, وعلى كل حال إذا كانت الأرض طينية والماء قريب فإنه يوضع على سطح الأرض ويوضع عليه من التراب ما يعادل قبر, ولو ارتفع هذا التراب, بحيث إذا دفن بجانبه آخر وسُوِّي ما بينهما مما يحتاج إليه القبر يكون الارتفاع بمقدار شبر, يعني بقدر الحاجة.
الصلاة على القبر لا تتقيد بزمان, لكن إذا طالت المدة صار كغيره.
إذا استسقى الخطيب يوم الجمعة ولم يرفع يديه فإن المأموم يتابعه ولا يرفع يديه
الميت لا يرى من يغسِّله ومن يشيعه لأن روحه فارقت جسده.(1/81)
إذا وقع طواف الإفاضة بعد دخول وقته أي بعد مضي أكثر الليل من ليلة النحر - عند الجمهور - وقبل الذهاب إلى مزدلفة للمبيت فيها فإن الطواف صحيح, ويكون المبيت بمزدلفة قد فات بتفريطه, ويلزمه بسبب ذلك دم, والرجوع إلى مزدلفة للمبيت فيها لا يجزئ, لأنه تمكن من الوقوف فلم يقف. وإن وقع الطواف قبل دخول وقته فليس بصحيح.
القول بلزوم الدم لمن تجاوز الميقات دون إحرام هو قول عامة أهل العلم, وهو قول وسط بين قولي سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير, فابن المسيب يقول لا شيء عليه, وابن جبير يقول لا حج له.
لا يقُطَع تتابع الطواف من أجل الأذان, لكن قطع التتابع من أجل الإقامة وصلى مع الناس ثم أكمل من حيث وقف فإنه يكفيه إن شاء الله تعالى, وإن استأنف من بداية الشوط فهو أحوط, والسعي مثل الطواف.
إذا ولغ الكلب في غير الإناء فحكمه حكم الإناء في الغسل.
أثناء بروز حروف القرآن على شاشة الجوال فلا شك أنه قرآن لا يجوز الدخول به إلى دورات المياه, لكن لو لم يكن القرآن على الشاشة فلا بأس. وهذا إذا كان في الشاشة قرآن متتابع برسم القرآن, وإذا كان برسم آخر ولا يمس الشاشة بل من الطرف أو من أسفل الجوال فلا شيء فيه إن شاء الله تعالى.
يستشكل بعض الناس وجود القرآن كاملاً على هيئته وصورته في المصحف لكن معه تفسير, فإذا كان قرآن وبهامشه تفسير فله حكم القرآن, وهذا إذا كان القرآن أكثر من التفسير, وأما إذا كان تفسير ومعه قرآن كما لو طبع تفسير ابن سعدي أو تفسير ابن كثير ومعه القرآن فالحكم للتفسير, لأن التفسير أكثر من القرآن فيه.
إذا كان الأذان المستخدم في نغمة الجوال ليس الأذان الشرعي الكامل فالأمر فيه سعة, وأما وضع الأذان الكامل فلا.
لا يجوز لبس النعال في المقبرة, اللهم إلا إذا كان هناك ضرورة من حر شديد أو شوك أو ما أشبه ذلك بحيث لا يتمكن من المشي إلا بها.(1/82)
إذا استتر وأمن الرشاش جاز له أن يبول قائماً, وقد ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام عند السبعة من حديث حذيفة, وهو أنه انتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً.
النبي عليه الصلاة والسلام لما سقط عن فرسه وجُحِش شقه أي جُرِح صلى جالساً, فقاموا خلفه فأومأ إليهم أن اجلسوا, وذكر العلة وهي قوله (كدتم تشبهوا فارس والروم) وفي الحديث (وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين) أو (أجمعون) وهذا يستدل به الحنابلة على أن إمام الحي إذا ابتدأ الصلاة جالساً لعلة يرجى برؤها فالمأموم يلزمه الجلوس. وفي آخر صلاةٍ صلاها في مرض موته جاء إليهم وهم يصلون وإمامهم أبو بكر فجلس عن يساره, أبو بكر يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام وهم يقتدون بأبي بكر, فصلى جالساً وهم صلوا من قيام, ولا ترد مثل هذه الصورة على الحنابلة, لأن الصلاة افتتحت من قيام, والعلة لا يرجى برؤها, لكن لا مانع من ترجيح القول بأن الحديث الأول منسوخ بفعله عليه الصلاة والسلام في آخر الأمر, كما يقول الحنفية والشافعية, وقول الحنابلة له قوة, لأن العلة التي ذكرت في الحديث - وهي منصوصة - لا زالت قائمة, وهي مشابهة فارس والروم, وإذا قيل بالقيود التي ذكرها الحنابلة صار لقولهم وجه, وإذا قيل بالنسخ فالنسخ باب معروف من أبواب الدين وهو رفع للحكم, وتبقى المسألة مع عدم المعارضة لحديث عمران بن حصين (صل قائماً, فإن لم تستطع فجالساً) فقيد الحكم بعدم الاستطاعة, فقول الحنفية والشافعية أيضاً له وجه, وقول المالكية هو أن إمامة القاعد لا تصح مطلقاً, ويستدلون بحديث (لا يؤمن أحد بعدي جالساً) لكنه ضعيف جداً, فلا يُعتَمد عليه. ولا شك أن القيام ركن من أركان الصلاة, والمحافظة عليه أولى من المحافظة على بقاء العلة. وقول الحنابلة وقول الحنفية والشافعية كلاهما عندي له وجه قوي جداً, لكن ميلي إلى قول الحنفية والشافعية.(1/83)
سؤال: ما الجمع بين قول ابن عباس في التعوذ من مضلات الفتن (فإن من الفتن ما ينفع) وحديث (تعوذوا من الفتن ما ظهر منها وما بطن)؟
من الفتن ما ينفع, قال تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) ولا يتصور أن يستعيذ الإنسان من ماله وولده, إنما يستعيذ من شر ماله ومن شر ولده, وإلا الفتن أصلها يطلق على ما يشغل, والأموال والأولاد والزوجات كل ذلك يشغل فهو فتنة, فإذا دعونا بإطلاق شمل هذا, لكن قد يطلق اللفظ العام ويراد به الخصوص, فأنت تستعيذ بالله من الفتن وتريد ما يضرك منها في دينك.
الدعاء على عموم الكفار حتى على غير الظالمين منهم بالهلاك يخالف السنة الكونية, لكن المسلم مأمور بأن يدور مع السنن الشرعية ومع الإرادة الشرعية لا مع الإرادة الكونية, ولا بد أن يبقى من الكفار من يبقى, وكوننا ندعو عليهم بالهلاك مخالف لهذا, لكن أنت مأمور بقتالهم, قال تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) والدعاء عليهم أسهل من قتالهم, وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قبائل, ومن هذه القبائل من أسلم, وأنت مأمور بأن تدعو لنفسك وتدعو لولدك وتدعو لعموم المسلمين, مع أن من عموم المسلمين من سيدخل النار, فلا معارضة بين هذا وهذا, وجاء في الموطأ من قول أحد التابعين (أدركنا الناس – يعني الصحابة – وهم يدعون على عموم اليهود والنصارى). وقد جاء من النصوص ما يدل على أن هذا الأمر سيقع كوناً, مع أنك مأمور بالأدلة الصحيحة الصريحة بمخالفة هذا الأمر, ففي آخر الزمان يفشو ويكثر الجهل ويكثر الهرج وهو القتل, وهذه إرادة كونية, لكن أنت مأمور شرعاً بأن تحول دون وقوع هذه الأشياء. وجاء في الحديث أنه سيأتي يوم الظعينة فيه تسير من عدن إلى صنعاء بمفردها لا تخشى إلا الله, فلا يقال إن هذه إرادة كونية فللمرأة أن تسافر بدون محرم, بل نحن مأمورون أن ندور مع الإرادة الشرعية لا مع الإرادة الكونية.(1/84)
تم الشروع في تقييد فوائد هذا الشرح المبارك ليلة الأربعاء العشرين من شوال عام ثمانيةٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة, وتم الفراغ من تقييد فوائده ليلة الجمعة السابع من ذي القعدة من العام نفسه, وكان ذلك قرب برلين في مدينة من مدن الكفار الحقيرة يقال لها (دريسدن).(1/85)